منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   القسم الإسلامي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=21)
-   -   العقد الفريد - أبو عمر أحمد بن محمد بن حبيب ابن عبد ربه (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=11116)

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:06 AM

تذكير الملوك بذمام متقدم
قال ثمامة بن أشرس للمأمون لما صارت إليه الخلافة‏:‏ إنه كان لي أملان‏:‏ أمل لك وأمل بك فأما أملي لك فقد بلغته وأما أملي بك فلا أدري ما يكون منك فيه قال‏:‏ يكون أفضل ما رجوت وأملت فجعله من سماره وخاصته‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ لما مات يزيد بن عبد الملك وصارت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك خر أصحابه سجوداً إلا الأبرش الكلبي فقال له‏:‏ يا أبرش ما منعك أن تسجد كما سجدوا قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لأنك ذهبت عنا وتركتنا قال‏:‏ فإن ذهبت بك معي قال‏:‏ أو تفعل يا أمير المؤمنين قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فالآن طاب السجود ثم سجد‏.‏
ولما صارت الخلافة إلى أبي جعفر كتب إليه رجل من إخوانه‏:‏ إنا بطانتك الألى كنا نكابد ما نكابد ونرى فنعرف بالعدا وة والبعاد لمن نباعد ونبيت من شفق علي ك ربيئة والليل هاجد هذا أوان وفاء ما سبقت به منك المواعد وقال حبيب الشاعر في هذا المعنى‏:‏ وإن أولى الموالي أن تواسيه عند السرور لمن واساك في الحزن إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن حسن التخلص من السلطان أبو الحسن المدائني قال‏:‏ كان العباس بن سهل والي المدينة لعبد الله بن الزبير فلما بايع الناس عبد الملك بن مروان ولى عثمان بن حيان المري وأمره بالغلظة على أهل الظنة فعرض يوماً بذكر الفتنة وأهلها فقال له قائل‏:‏ هذا العباس بن سهل على ما فيه كان مع ابن الزبير وعمل له فقال عثمان بن حيان‏:‏ ويلي عليه والله لأقتلنه قال العباس‏:‏ فبلغني ذلك فتغيبت حتى أضر بي التغيب فأتيت ناساً من جلسائه فقلت لهم‏:‏ ما لي أخاف وقد أمنني عبد الملك بن مروان فقالوا‏:‏ والله ما يذكرك إلا تغيظ عليك وقلما كلم على طعامه في ذنب إلا انبسط فلو تنكرت وحضرت عشاءه وكلمته‏.‏
قال‏:‏ ففعلت وقلت على طعامه وقد أتي بجفنة ضخمة ذات ثريد ولحم‏:‏ والله لكأني أنظر إلى جفنة حيان بن معبد والناس يتكاوسون عليها وهو يطوف في حاشيته يتفقد مصالحها يسحب أردية الخز حتى إن الحسك ليتعلق به فما يميطه ثم يؤتى بجفنة تهادى بين أربعة ما يستقلون بها إلا بمشقة وعناء وهذا بعد ما يفرغ الناس من الطعام ويتنحون عنه فيأتي الحاضر من أهله بالدنو والطارئ من أشراف قومه وما بأكثرهم من حاجة إلى الطعام وما هو إلا الفخر بالدنو من مائدته والمشاركة ليده قال‏:‏ هيه أنت رأيت ذلك قلت‏:‏ أجل والله قال لي‏:‏ ومن أنت قلت‏:‏ وأنا آمن قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ العباس بن سهل بن سعد الأنصاري قال‏:‏ مرحباً وأهلاً أهل الشرف والحق‏.‏
قال‏:‏ فلقد رأيتني بعد ذلك وما بالمدينة رجل أوجه مني عنده‏.‏
فقيل له بعد ذلك‏:‏ أنت رأيت ونزلنا ذلك الماء وغشينا وعليه عباءة ذكوانية فلقد جعلنا نذوده عن رحلنا مخافة أن يسرقه‏.‏
أبو حاتم قال‏:‏ حدثنا أبو عبيدة قال‏:‏ أخذ سراقة بن مرداس البارقي أسيراً يوم جبانة السبيع فقدم في الأسرى إلى المختار فقال سراقة‏:‏ امنن علي اليوم يا خير معد وخير من لبى وصلى وسجد فعفا عنه المختار وخلى سبيله‏.‏
ثم خرج مع إسحاق بن الأشعث فأتي به المختار أسيراً فقال له‏:‏ ألم أعف عنك وأمنن عليك أما والله لأقتلنك قال‏:‏ لا والله لا تفعل إن شاء الله قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأن أبي أخبرني أنك تفتح الشام حتى تهدم مدينة دمشق حجراً حجراً وأنا معك ثم أنشده‏:‏ خرجنا لا نرى الضعفاء شيئاً وكان خروجنا بطراً وحينا تراهم في مصفهم قليلاً وهم مثل الدبى لما التقينا فأسجح إذا قدرت فلو قدرنا لجرنا في الحكومة واعتدينا تقبل توبة مني فإني سأشكر إن جعلت النقد دينا قال‏:‏ فخلى سبيله‏.‏
ثم خرج إسحاق بن الأشعث ومعه سراقة فأخذ أسيراً وأتي به المختار فقال‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك يا عدو الله هذه ثالثة فقال سراقة‏:‏ أما والله ما هؤلاء الذين أخذوني فأين هم لا أراهم إنا لما التقينا رأينا قوماً عليهم ثياب بيض وتحتهم خيل بلق تطيق بين السماء والأرض فقال المختار‏:‏ خلوا سبيله ليخبر الناس‏.‏
ثم دعا لقتاله فقال‏:‏ ألا أبلغ أبا إسحاق أني رأيت البلق دهماً مصمتات أري عيني ما لم ترأياه كلانا عالم بالترهات كفرت بوحيكم وجعلت نذراً علي قتالكم حتى الممات كان معن بن زائدة قد أمر بقتل جماعة من الأسرى فلما سقوا قال‏:‏ يا معن أتقتل ضيفانك فأمر معن بإطلاقهم‏.‏
لما أتي عمر بن الخطاب بالهرمزان أسيراً دعاه إلى الإسلام فأبى عليه فأمر بقتله فلما عرض عليه السيف قال‏:‏ لو أمرت يا أمير المؤمنين بشربة من ماء فهو خير من قتلي على الظمأ فأمر له بها فلما صار الإناء بيده قال‏:‏ أنا آمن حتى أشرب قال‏:‏ نعم‏.‏
فألقى الإناء من يده وقال‏:‏ الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج قال‏:‏ لك التوقف حتى أنظر في أمرك ارفعا عنه السيف فلما رفع عنه قال‏:‏ الآن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فقال له عمر‏:‏ ويحك‏!‏ أسلمت خير إسلام فما أخبرك قال‏:‏ خشيت يا أمير المؤمنين أن يقال أن إسلامي إنما كان جزعاً من الموت فقال عمر‏:‏ إن لفارس حلوماً بها استحقت ما كانت فيه من الملك‏.‏
ثم كان عمر يشاوره بعد ذلك في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه‏.‏
لما أتي الحجاج بالأسرى الذين خرجوا مع ابن الأشعث أمر بقتلهم فقال رجل‏:‏ أصلح الله الأمير إن لي حرمة قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ ذكرت في عسكر ابن الأشعث فشتمت في أبويك فعرضت دونهما فقلت‏:‏ لا والله ما في نسبه مطعن فقولوا فيه ودعوا نسبه قال‏:‏ ومن يعلم ما ذكرت فالتفت إلى أقرب الأسرى إلي فقلت‏:‏ هذا يعمله قال له الحجاج‏:‏ ما تقول فيما يقول قال‏:‏ صدق أصلح الله الأمير وبر‏.‏
قال‏:‏ خلياً عن هذا لنصرته وعن هذا لحفظ شهادته‏.‏
عمرو بن بحر الجاحظ قال‏:‏ أتي روح بن حاتم برجل كان متلصصاً في طريق الرقاق فأمر بقتله فقال‏:‏ أصلح الله الأمير لي عندك يد بيضاء قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ إنك جئت يوماً إلى مجمع موالينا بني نهشل والمجلس محتفل فلم يتحفز لك أحد فقمت من مكاني حتى جلست فيه ولولا محض كرمك وشرف قدرك ونباهة أوليتك ما ذكرتك هذه عند مثل هذا قال ابن حاتم‏:‏ صدق وأمر بإطلاقه وولاه تلك الناحية وضمنه إياها‏.‏
ولما ظفر المأمون بأبي دلف وكان يقطع في الجبال أمر بضرب عنقه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين دعني أركع ركعتين قال‏:‏ افعل‏.‏
فركع وحبر أبياتاً ثم وقف بين يديه فقال‏:‏ بع بي الناس فإني خلف ممن تبيع واتخذني لك درعاً قلصت عنه الدروع وارم بي كل عدو فأنا السهم السريع فأطلقه وولاه تلك الناحية فأصلحها‏.‏
أتي معاوية يوم صفين بأسير من أهل العراق فقال‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك قال‏:‏ لا تقل يا معاوية فإنها مصيبة قال‏:‏ وأي نعمة أعظم من أن أمكنني الله عز وجل من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة اضرب عنقه يا غلام فقال الأسير‏:‏ اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك وأنك لا ترضى بقتلي وإنما يقتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا فإن فعل فافعل به ما هو أهله وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله قال له‏:‏ ويحك‏!‏ لقد سببت فأبلغت وأمر مصعب بن الزبير برجل من أصحاب المختار أن يضرب عنقه فقال‏:‏ أيها الأمير ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك هذا الذي يستضاء به فأتعلق بأطرافك وأقول‏:‏ أي رب سل هذا فيم قتلني قال‏:‏ أطلقوه فإني جاعل ما وهبت له من حياته في خفض أعطوه مائة ألف قال الأسير‏:‏ بأبي أنت وأمي‏.‏
أشهد أن لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفاً قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لقوله‏:‏ إنما مصعب شهاب من الل ه تجلت عن وجهه الظلماء ملكه ملك عزة ليس فيه جبروت منه ولا كبرياء‏.‏
يتقي الله في الأمور وقد أف لح من كان همه الاتقاء أمر عبد الملك بقتل رجل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك أعز ما تكون أحوج ما تكون إلى الله فعفا عنه‏.‏
أتي الحجاج بأسرى من الخوارج فأمر بضرب أعناقهم فقدم فيهم شاب فقال‏:‏ والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو فقال‏:‏ أف لهذه الجيف ما كان فيهم من يقول مثل هذا‏!‏ وأمسك عن القتل‏.‏
وأتي الحجاج بأسرى فأمر بقتلهم فقال له رجل منهم‏:‏ لا جزاك الله يا حجاج عن السنة خيراً فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء ‏"‏‏.‏
فهذا قول الله في كتابه‏.‏
وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق‏:‏ وما نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل القلائد فقال الحجاج‏:‏ ويحكم‏!‏ أعجزتم أن تخبروني بما أخبرني هذا المنافق‏!‏ وأمسك عمن بقي‏.‏
الهيثم بن عدي قال‏:‏ أتي الحجاج بحرورية فقال لأصحابه‏:‏ ما تقولون في هذه قالوا‏:‏ اقتلها أصلح الله الأمير ونكل بها غيرها‏.‏
فتبسمت الحرورية فقال لها‏:‏ لم تبسمت فقالت‏:‏ لقد كان وزراء أخيك فرعون خيراً من وزرائك يا حجاج استشارهم في قتل موسى فقالوا‏:‏ أرجه وأخاه وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي فضحك الحجاج وأمر بإطلاقها‏.‏
وقال معاوية ليونس الثقفي‏:‏ اتق الله لأطيرنك طيرة بطيئاً وقوعها قال‏:‏ أليس بي وبك المرجع إلى الله قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فاستغفر الله‏.‏
ودخل رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان وكان زبيرياً فقال له عبد الملك‏:‏ أليس الله قد ردك على عقبيك قال‏:‏ ومن رد إليك يا أمير المؤمنين فقد رد على عقبيه فسكت عبد الملك وعلم أنها خطأ‏.‏
دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك فقال له سليمان‏:‏ على امرئ أمرك وجرأك وسلطك على الأمة لعنة الله أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم أم هو يهوي فيها قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك فضعه من النار حيث شئت‏.‏
وقال عبيد الله بن زياد لقيس بن عباد‏:‏ ما تقول في وفي الحسين قال‏:‏ أعفني عافاك الله قال‏:‏ لا بد أن تقول قال‏:‏ يجيء أبوه يوم القيامة فيشفع له ويجيء أبوك فيشفع لك قال‏:‏ قد علمت غشك وخبثك لئن فارقتني يوماً لأضعن أكثرك شعراً بالأرض‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ بعث الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال له‏:‏ أنت الذي تقول‏:‏ إن الحسين بن علي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن رسول الله لتأتيني بالمخرج مما قلت أو لأضربن عنقك فقال له ابن يعمر‏:‏ وإن جئت بالمخرج فأنا آمن قال‏:‏ نعم قال‏:‏ اقرأ‏:‏ ‏"‏ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ وعيسى ‏"‏‏.‏
فمن أقرب‏:‏ عيسى من إبراهيم وما هو ابن بنته أو الحسين من محمد صلى الله عليه وسلم فقال له الحجاج‏:‏ والله لكأني ما قرأت هذه الآية قط وولاه قضاء بلده فلم يزل بها قاضياً حتى مات‏.‏
أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده قال‏:‏ دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج فقال لجلسائه‏:‏ إن أردتم أن تنظروا إلى رجل يسب أمير المؤمنين عثمان ابن عفان فهذا عندكم يعني عبد الرحمن فقال عبد الرحمن‏:‏ معاذ الله أيها الأمير أن أكون أسب أمير المؤمنين إنه ليحجزني عن ذلك آيات في كتاب الله قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ‏"‏‏.‏
فكان عثمان منهم‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏‏.‏
فكان أبي منهم‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ‏"‏‏.‏
فكنت أنا منهم‏.‏
فقال‏:‏ صدقت‏.‏ أبو عوانة عن عاصم بن أبي وائل قال‏:‏ بعث إلي الحجاج فقال لي‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ ما أرسل إلي الأمير حتى عرف اسمي قال‏:‏ متى هبطت هذا البلد قلت‏:‏ حين هبط أهله قال‏:‏ ما تقرأ من القرآن قلت‏:‏ أقرأ منه ما لو تبعته كفاني قال‏:‏ إني أريد أن أستعين بك في عملي قلت‏:‏ إن تستعن بي تستعن بكبير أخرق ضعيف يخاف أعوان السوء وإن تدعني فهو أحب إلي وإن تقحمني أتقحم قال‏:‏ إن لم أجد غيرك أقحمتك وإن وجدت غيرك لم أقحمك قلت‏:‏ وأخرى أكرم الله الأمير إني ما علمت الناس هابوا أميراً قط هيبتهم لك والله إني لأتعار من الليل فيما يأتيني النوم من ذكرك حتى أصبح هذا ولست لك على عمل قال‏:‏ هيه كيف قلت فأعدت عليه فقال‏:‏ إني والله لا أعلم على وجه الأرض خلقاً هو أجراً على دم مني قال‏:‏ فقمت فعدلت عن الطريق كأني لا أبصر فقال‏:‏ أرشدوا الشيخ‏.‏
لما أتي الحجاج بأسرى الجماجم أتي فيهم بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله الشخمير وسعيد بن جبير وكان الشعبي ومطرف يريان التقية وكان سعيد بن جبير لا يراها وكان قد تقدم كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف فمن أقر منهم بالكفر في خروجهم علينا فيخلي سبيله ومن زعم أنه مؤمن فيضرب عنقه فقال الحجاج للشعبي‏:‏ وأنت ممن ألب علينا مع ابن الأشعث اشهد على نفسك بالكفر فقال‏:‏ أصلح الله الأمير نبا بنا المنزل وأحزن بنا الجناب واستحلسنا الخوف واكتحلنا السهر وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء قال‏:‏ لله أبوك لقد صدقت ما بررتم بخروجكم علينا ولا قويتم خلوا سبيل الشيخ‏.‏
ثم قال لمطرف‏:‏ أتقر على نفسك بالكفر قال‏:‏ أصلح الله الأمير إن من شق العصا وسفك الدماء ونكث البيعة وفارق الجماعة وأخاف المسلمين لجدير بالكفر فخلى سبيله‏.‏
ثم قال لسعيد بن جبير‏:‏ أتقر على نفسك بالكفر قال‏:‏ ما كفرت منذ آمنت بالله فضرب عنقه ثم استعرض الأسرى فمن أقر بالكفر خلى سبيله ومن أبى قتله حتى أتي بشيخ وشاب فقال للشاب‏:‏ أكافر أنت قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ لكن الشيخ لا يرضى بالكفر فقال له الشيخ‏:‏ أعن نفسي تخادعني يا حجاج والله لو علمت أعظم من الكفر لقلته فضحك الحجاج وخلى سبيله‏.‏
فلما مات الحجاج وقام سليمان قال الفرزدق‏:‏ لئن نفر الحجاج آل معتب لقوا دولة كان العدو يدالها لقد أصبح الأحياء منهم أذلة وموتاهم في النار كلحا سبالها وكانوا يرون الدائرات بغيرهم فصار عليهم بالعذاب انفتالها ألكني إلى من كان بالصين أورمت به الهند ألواح عليها جلالها هلم إلى الإسلام والعدل عندنا فقد مات عن أهل العراق خبالها لما ولي سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالأردن‏:‏ اجمع يدي عدي ابن الرقاع إلى عنقه وابعث به إلي على قتب بلا وطاء ووكل به من ينخس به ففعل ذلك فلما انتهى إلى سليمان بن عبد الملك ألقي بين يديه وهو لقى لا حراك فيه ولا روح فتركه حتى ارتد إليه روحه ثم قال له‏:‏ أنت أهل لما نزل بك ألست القائل في الوليد‏:‏ وقال‏:‏ لا والله يا أمير المؤمنين ما هكذا قلت وإنما قلت‏:‏ معاذ ربي أن نبقى ونفقدهم وأن نكون لراع بعدهم تبعا فنظر إليه سليمان واستضحك ثم أمر له بصلة وخلى سبيله‏.‏
العتبي قال‏:‏ كان بين شريك القاضي والربيع حاجب المهدي معارضة فكان الربيع يحمل عليه المهدي فلا يلتفت إليه حتى رأى المهدي في منامه شريكاً القاضي مصروفاً وجهه عنه فلما استيقظ من نومه دعا الربيع وقص عليه رؤياه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن شريكاً مخالف لك وإنه فاطمي محض قال المهدي‏:‏ علي به فلما دخل عليه قال له‏:‏ يا شريك بلغني أنك فاطمي قال له شريك‏:‏ أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون غير فاطمي إلا أن تعني فاطمة بنت كسرى قال‏:‏ ولكني أعني فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال‏:‏ أفتلعنها يا أمير المؤمنين قال‏:‏ معاذ الله فماذا تقول فيما يلعنها قال‏:‏ عليه لعنة الله قال‏:‏ فالعن هذا - يعني الربيع - فإنه يلعنها فعليه لعنة الله قال الربيع‏:‏ لا والله يا أمير المؤمنين ما ألعنها قال له شريك‏:‏ يا ماجن فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيد المرسلين في مجالس الرجال قال المهدي‏:‏ دعني من هذا فإني رأيتك في منامي كأن وجهك مصروف عني وقفاك إلي وما ذلك إلا بخلافك علي ورأيت في منامي كأن أقتل زنديقاً قال شريك‏:‏ إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا يوسف الصديق صلوات الله على محمد وعليه وإن الدماء لا تستحل بالأحلام وإن علامة الزندقة بينة قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ شرب المر والرشا في الحكم ومهر البغي قال‏:‏ صدقت والله أبا عبد الله أنت والله خير من الذي حملني عليك‏.‏
ودخل شريك القاضي على المهدي فقال له الربيع‏:‏ خنت مال الله ومال أمير المؤمنين قال‏:‏ لو كان ذلك لأتاك سهمك‏.‏
العتبي قال‏:‏ دخل جامع المحاربي على الحجاج - وكان جامع شيخاً صالحاً خطيباً لبيباً جريئاً على السلطان وهو الذي قال للحجاج إذ بنى مدينة واسط‏:‏ بنيتها في غير بلدك وتورثها غير ولدك - لجعل الحجاج يشكو سوء طاعة أهل العراق وقبح مذهبهم‏.‏
فقال له جامع‏:‏ أما إنه لو أحبوك لأطاعوك على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك وليكن إيقاعك بعد وعيدك ووعيدك بعد وعدك‏.‏
قال الحجاج‏:‏ ما أرى أن أراد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف قال‏:‏ أيها الأمير إن السيف إذ لاقى السيف ذهب الخيار قال الحجاج‏:‏ الخيار يومئذ لله قال‏:‏ أجل ولكنك لا تدري لمن يجعله الله فغضب وقال‏:‏ يا هناه إنك من محارب فقال جامع‏:‏ فقال الحجاج‏:‏ والله لقد هممت بأن أخلع لسانك فأضرب به وجهك قال جامع‏:‏ إن صدقناك أغضبناك وإن غششناك أغضبنا الله فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله قال‏:‏ أجل وسكن‏.‏
وشغل الحجاج ببعض الأمر فانسل جامع فمر بين الصفوف من أهل الشام حتى جاوزها إلى صفوف العراق فأبصر كبكبة فيها جماعة من بكر العراق وقيس العراق وتميم العراق وأزد العراق فلما رأوه أشرأبوا إليه وقالوا له‏:‏ ما عندك دفع الله عنك قال‏:‏ ويحكم عموه بالخلع كما يعمكم بالعداوة ودعوا التعادي ما عاداكم فإذا ظفرتم تراجعتم وتعاديتم أيها التميمي هو أعدى لك من الأزدي وأيها القيسي هو أعدى لك من التغلبي وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم‏.‏
وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام واستجار بزفر بن الحارث فأجاره‏.‏
العتبي قال‏:‏ كان هارون الرشيد يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم وكان مسلم ابن الوليد صريع الغواني قد رمي عنده بالتشيع فأمر بطلبه فهرب منه ثم أمر بكلب أنس بن أبي شيخ كاتب البرامكة فهرب منه ثم وجد هو ومسلم بن الوليد عند قينة ببغداد فلما أتي بهما قيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين قد أتي بالرجلين قال‏:‏ أي الرجلين قيل‏:‏ أنس بن أبي شيخ ومسلم ابن الوليد فقال‏:‏ الحمد لله الذي أظفرني بهما يا غلام أحضرهما‏.‏
فلما دخلا عليه نظر إلى مسلم وقد أنس الهوى ببني علي في الحشا وأراه يطمح عن بني العباس قال‏:‏ بل أنا الذي أقول يا أمير المؤمنين‏:‏ أنس الهوى ببني العمومة في الحشا مستوحشاً من سائر الإيناس وإذا تكاملت الفضائل كنتم أولى بذلك يا بني العباس قال‏:‏ فعجب هارون من سرعة بديهته وقال له بعض جلسائه‏:‏ استبقه يا أمير المؤمنين فإنه من أشعر الناس وامتحنه فسترى منه عجباً فقال له‏:‏ قل شيئاً في أنس فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أفرخ روعي أفرخ الله روعك يوم الحاجة إلى ذلك فإني لم أدخل على خليفة قط ثم أنشأ يقول‏:‏ تلمظ السيف من شوق إلى أنس فالموت يلحظ والأقدار تنتظر فليس يبلغ منه ما يؤمله حتى يؤامر فيه رأيك القدر أمضى من الموت عند قدرته وليس للموت عفو حين يقتدر قال‏:‏ فأجلسه هارون وراء ظهره لئلا يرى ما هم به حتى إذا فرغ من قتل أنس قال له‏:‏ أنشدني أشعر شعر لك فكلما فرغ من قصيدة قال له‏:‏ التي تقول فيها الوحل فإني رويتها وأنا صغير فأنشده شعره الذي أوله‏:‏ أديرا علي الراح لا تشربا قبلي ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي إذا ما علت منا ذؤابة شارب تمشت به مشي المقيد في الوحل فضحك هارون وقال‏:‏ ويحك يا مسلم‏!‏ أما رضيت أن قيدته حتى جعلته يمشي في الوحل ثم أمر له بجائزة وخلي سبيله‏.‏
قال كسرى ليوشت المغني‏:‏ وقد قتل الفهليذ تلميذه كنت أستريح منك إليه ومنه إليك فأذهب حسدك ونغل صدرك شكر تمتعي وأمر أن يطرح تحت أرجل الفيلة‏.‏
فقال‏:‏ أيها الملك إذا كنت أنا قد أهبت شطر تمتعك وأذهبت أنت الشطر الآخر‏:‏ أليس جنايتك على نفسك مثل جنايتي عليك قال كسرى‏:‏ دعوه فما دله على هذا الكلام إلا ما جعل من طول المدة‏.‏
يعقوب بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس قال‏:‏ دخلت يوماً على الرشيد أمير المؤمنين وهو متغيظ متربد فندمت على دخولي عليه وقد كنت أفهم غضبه في وجهه فسلمت فلم يرد فقلت‏:‏ داهية نآد ثم أومأ إلي فجلست‏.‏
فالتفت إلي وقال‏:‏ لله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فلقد نطق بالحكمة حيث يقول‏:‏ يا أيها الزاجري عن شيمتي سفهاً عمداً عصيت مقال الزاجر الناهي أقصر فإنك من قوم أرومتهم في اللؤم فافخر بهم ما شئت أو باهي يزين الشعر أفواهاً إذا نطقت بالشعر يوماً وقد يزري بأفواه لقد عجبت لقوم لا أصول لهم أثروا وليسوا وإن أثروا بأشباهي ما نالني من غنى يوماً ولا عدم إلا وقولي عليه الحمد لله فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ومن ذا الذي بلغت به المقدرة أن يسامي مثلك أو يدانيه قال‏:‏ لعله من بني أبيك وأمك‏.‏
كان الكميت بن زيد يمدح بني هاشم ويعرض ببني أمية فطلبه هشام فهرب منه عشرين سنة لا يستقر به القرار من خوف هشام وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام يوماً إلى بعض صيوده أتى الناس يسلمون عليه وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتى فقال‏:‏ السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته أما بعد‏:‏ قف بالديار وقوف زائر وتأن إنك غير صاغر حتى انتهى إلى قوله‏:‏ يا مسلم بن أبي الولي د لميت إن شئت ناشر غلقت حبالي من حبا لك ذمة الجار المجاور فالآن صرت إلى أمي ة والأمور إلى المصاير والآن كنت به المصي ب كمهتد بالأمس حائر فقال مسلمة‏:‏ سبحان الله من هذا الهندكي الجلحاب الذي أقبل من أخريات الناس فبدأ بالسلام ثم أما بعد ثم الشعر قيل له‏:‏ هذا الكميت بن زيد‏.‏
فأعجب لفصاحته وبلاغته فسأله مسلمة عن خبره وما كان فيه طول غيبته فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه فضمن له مسلمة أمانه وتوجه به حتى أدخله على هشام وهشام لا يعرفه‏.‏
فقال الكميت‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله بركاته - الحمد لله - قال هشام‏:‏ نعم الحمد لله يا هذا - قال الكميت‏:‏ مبتدئ الحمد ومبتدعه والذي خص بالحمد نفسه وأمر به ملائكته وجعله فاتحة كتابه ومنتهى شكره وكلام أهل جنته أحمده حمد من علم يقيناً وأبصر مستبيناً وأشهد له بما شهد به لنفسه قائماً بالقسط وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده العربي ورسوله الأمي أرسله والناس في هبوات حيرة ومدلهمات ظلمة عند استمرار أبهة الضلال فبلغ عن الله ما أمر به ونصح لأمته وجاهد في سبيله وعبد ربه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وسلم‏.‏
ثم إني يا أمير المؤمنين تهت في حيرة وحرت في سكرة إدلأم بي خطرها وأهاب بي داعيها وأجابني غاويها فاقطوطيت إلى الضلالة وتسكعت في الظلمة والجهالة حائداً عن الحق قائلاً بغير صدق فهذا مقام العائذ ومنطق التائب ومبصر الهدى بعد طول العمي‏.‏
ثم يا أمير المؤمنين كم من عاثر أقلتم عثرته ومجترم عفوتم عن جرمه‏.‏
فقال له هشام وأيقن أنه الكميت‏:‏ ويحك‏!‏ من سن لك الغواية وأهاب بك في العماية قال‏:‏ الذي أخرج أبي آدم من الجنة فنسي ولم يجد له عزماً وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحاباً متفرقاً فلفقت بعضه إلى بعض حتى التحم فاستحكم وهدر رعده وتلألأ برقه فنزل الأرض فرويت واخضلت واخضرت وأسقيت فروي ظمآنها وامتلأ عطشانها فكذلك نعدك أنت يا أمير المؤمنين أضاء الله بك الظلمة الداجية بعد العموس فيها وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب إذا حمرت الحدث وعضت المغافر بالهام عز بأسك واستربط جأشك مسعار هتاف وكاف بصير بالأعداء مغزي الخيل بالنكراء مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب برأي أريب وحلم مصيب فأطال الله لأمير المؤمنين البقاء وتمم عليه النعماء ودفع به الأعداء‏.‏
فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة‏.‏
العتبي قال‏:‏ لما أتي بابن هبيرة إلى خالد بن عبد الله القسري وهو والي العراق أتي به مغلولاً مقيداً في مدرعة فلما صار بين يدي خالد ألقته الرجال إلى الأرض فقال‏:‏ أيها الأمير إن القوم الذين أنعموا عليك بهذه النعمة قد أنعموا بها علي من قبلك فأنشدك الله أن تستن في بسنة يستن بها فيك من بعدك‏.‏
فأمر به إلى الحبس فأمر ابن هبيرة غلمانه فحفروا له تحت الأرض سرداباً حتى خرج الحفر تحت سريره ثم خرج منه ليلاً وقد أعدت له أفراس يداولها حتى أتى مسلمة بن عبد الملك فاستجار به فأجاره واستوهبه مسلمة من هشام ابن عبد الملك فوهبه إياه‏.‏
فلما قدم خالد بن عبد الله القسري على هشام وجد عنده ابن هبيرة فقال له‏:‏ إباق العبد أبقت قال له‏:‏ حين نمت نومة الأمة‏.‏
فقال الفرزدق في ذلك‏:‏ لما رأيت الأرض قد سد ظهرها فلم يبق إلا بطنها لك مخرجا دعوت الذي ناداه يونس بعد ما ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة وما سار سار مثلها حين أدلجا خرجت ولم تمنن عليك شفاعة سوى حثك التقريب من آل أعوجا ودخل الناس على ابن هبيرة بعدما أمنه هشام بن عبد الملك يهنئونه ويحمدون له رأيه فقال متمثلاً‏:‏ من يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما ثم قال لهم‏:‏ ما كان وقلكم لو عرض لي أو أدركت في طريقي ومثل هذا قول القطامي‏:‏ والناس من يلق خيراً قائلون له ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل عبد الله بن سوار قال‏:‏ قال لي ربيع الحاجب‏:‏ أتحب أن تسمع حديث ابن هبيرة مع مسلمة قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ فأرسل لخصي كان لمسلمة يقوم على وضوئه فجاءه فقال‏:‏ حدثنا حديث ابن هبيرة مع مسلمة قال‏:‏ كان مسلمة بن عبد الملك يقوم من الليل فيتوضأ ويتنفل حتى يصبح فيدخل على أمير المؤمنين فإني لأصب الماء على يديه م آخر الليل وهو يتوضأ إذ صاح صائح من وراء الرواق‏:‏ أنا بالله وبالأمير فقال مسلمة‏:‏ صوت ابن هبيرة اخرج إليه‏.‏
فخرجت إليه ورجعت فأخبرته فقال‏:‏ أدخله فدخل فإذا رجل يميد نعاساً فقال‏:‏ أنا بالله وبالأمير قال‏:‏ أنا بالله وأنت بالله ثم قال‏:‏ أنا بالله وبالأمير قال‏:‏ أنا بالله وأنت بالله حتى قالها ثلاثاً ثم قال‏:‏ أنا بالله فسكت عنه ثم قال لي‏:‏ انطلق به فوضئه ولصصل ثم اعرض عليه أحب الطعام إليه فأته به وافرش له في تلك الصفة - بصفة بين يدي بيوت النساء - ولا توقظه حتى يقوم متى قام‏.‏
فانطلقت به فتوضأ وصلى وعرضت عليه الطعام فقال‏:‏ شربة سويق فشرب وفرشت له فنام وجئت إلى مسلمة فأعلمته فغدا إلى هشام فجلس عنده حتى إذا حان قيامه قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لي حاجة قال‏:‏ قضيت إلا أن تكون في ابن هبيرة قال‏:‏ رضيت يا أمير المؤمنين ثم قام منصرفاً حتى إذا كان أن يخرج من الإيوان رجع فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين عودتني أن تستثني في حاجة من حوائجي وإني أكره أن يتحدث الناس أنك أحدثت على الاستثناء قال‏:‏ لا بلغ هشام بن عبد الملك عن رجل كلام غليظ فأحضره‏.‏
فلما وقف بين يديه جعل يتكلم فقال له هشام‏:‏ وتتكلم أيضاً فقال الرجل‏:‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ‏"‏ فنجادل الله تعالى جدالاً ولا نكلمك كلاماً فقال هشام بن عبد الملك‏:‏ ويحك‏!‏ تكلم بحاجتك‏.‏



فضيلة العفو والترغيب فيه
كان للمأمون خادم وهو صاحب وضوئه فبينما هو يصب الماء على يديه إذ سقط الإناء من يده فاغتاظ المأمون عليه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله يقول‏:‏ ‏"‏ والكاظمين الغيظ ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ قد كظمت غيظي عنك‏.‏
قال‏:‏ ‏"‏ والعافين عن الناس ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ قد عفوت عنك‏.‏
قال‏:‏ ‏"‏ والله يحب المحسنين ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ اذهب فأنت حر‏.‏
أمر عمر عبد العزيز بعقوبة رجل فقال له رجاء بن حيوة‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله قد فعل ما تحب من الظفر فافعل ما يحبه من العفو‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ عزم عبد الله بن علي على قتل بني أمية بالحجاز فقال له عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم‏:‏ إذا أسرعت بالقتل في أكفائك فمن تباهي بسلطانك فاعف يعف الله عنك‏.‏
دخل ابن خريم على المهدي وقد عتب على بعض أهل الشام وأراد أن يغزيهم جيشاً فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين عليك بالعفو عن الذنب والتجاوز عن المسيء فلأن تطيعك العرب طاعة محبة خير لك من أن تطيعك طاعة خوف‏.‏
أمر المهدي بضرب عنق رجل فقام إليه ابن السماك فقال‏:‏ إن هذا الرجل لا يجب عليه ضرب العنق قال‏:‏ فما يجب عليه قال‏:‏ تعفو عنه فإن كان من أجر كان لك دوني وإن كان وزر كان علي دونك‏.‏
فخلى سبيله‏.‏
كلم الشعبي ابن هبيرة في قوم حبسهم فقال‏:‏ إن كنت حبستهم بباطل فالحق يطلقهم وإن كنت حبستهم بحق فالعفو يسعهم‏.‏
العتبي قال‏:‏ وقعت دماء بين حيين من قريش فأقبل أبو سفيان فما بقي أحد واضع رأسه غلا رفعه فقال‏:‏ ما معشر قريش هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق قالوا‏:‏ وهل شيء أفضل من الحق قال‏:‏ نعم العفو فتهادن القوم واصطلحوا‏.‏
وقال هزيم بن أبي طحمة ليزيد بن عاتكة بعد ظفره بيزيد بن المهلب‏:‏ ما ظلم أحد ظلمك ولا نصر نصرك فهل لك في الثالثة نقلها قال‏:‏ وما هي قال ولا عفا عفوك‏.‏
وقال المبارك بن فضالة‏:‏ كنت عند أبي جعفر جالساً في السماط إذ أمر برجل أن يقتل فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله‏:‏ ألا من كانت له عند الله يد فليتقدم فلا يتقدم إلا من عفا عن مذنب‏.‏
فأمر بإطلاقه‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب ‏"‏ وتقول العرب في أمثالها‏:‏ ملكت فأسجح وارحم ترحم وكما تدين تدان ومن بر يوماً بر به‏.‏
بعد الهمة وشرف النفس دخل نافع بن جبيرة بن مطعم على الوليد وعليه كساء غليظ وخفان جاسيان فسلم وجلس فلم يعرفه الوليد فقال لخادم بين يديه‏:‏ سل هذا الشيخ من هو‏.‏
فسأله فقال له‏:‏ اعزب فعاد إلى الوليد فأخبره فقال‏:‏ عد إليه واسأله فعاد إليه فقال له مثل ذلك‏.‏
فضحك الوليد وقال له‏:‏ من أنت قال‏:‏ نافع بن جبير بن مطعم‏.‏
وقال زياد بن ظبيان لابنه عبيد الله ألا أوصي بك الأمير زياداً قال‏:‏ يا أبت إذا لم يكن للحي إلا وصية فالحي هو الميت‏.‏
وقال معاوية لعمرو بن سعيد‏:‏ إلى من أوصى بك أبوك قال‏:‏ إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي قال وبما أوصى إليك قال‏:‏ أن لا يفقد إخوانه منه إلا وجهه‏.‏
وقال مالك بن مسمع لعبيد الله بن زياد بن ظبيان‏:‏ ما في كنانتي سهم أنا به أوثق مني بك قال‏:‏ وإني لفي كنانتك‏!‏ أما والله لئن كنت فيها قائماً لأطولنها ولئن كنت فيها قاعداً لأخرقنها‏.‏
وقال يزيد بن المهلب‏:‏ ما رأيت أشرف نفساً من الفرزدق هجاني ملكاً ومدحني سوقة‏.‏
وقدم عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عتاب بن ورقاء الرياحي - وهو والي خراسان - فأعطاه عشرين ألفاً فقال له‏:‏ والله ما أحسنت فأحمدك ولا أسأت فألومك وإنك لأقرب البعداء وأحب البغضاء‏.‏
وعبيد الله بن زياد بن ظبيان هذا هو القائل‏:‏ والله ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيته برأس مصعب بن الزبير فخر لله ساجداً أن لا أكون قد ضربت عنقه فأكون قد قتلت ملكين من ملوك العرب في يوم واحد‏.‏
ومن أشرف الناس همة عقيل بن علفة المري‏.‏
وكان أعرابياً يسكن البادية وكان تصهر إليه الخلفاء وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده فقال له‏:‏ جنبني هجناء ولدك‏.‏
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل من بني أمية كان له أخوال في بني مرة‏:‏ قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة‏.‏
فبلغ ذلك عقيل بن علفة فأقبل إليه فقال له قبل أن يبتدئه بالسلام‏:‏ بلغني يا أمير المؤمنين أنك غضبت على رجل من بني عمك له أخوال في بني مرة فقلت‏:‏ قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة وأنا أقول قبح الله ألأم الطرفين ثم انصرف‏.‏
فقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ من رأى أعجب من هذا الشيخ الذي أقبل من البادية ليست له حاجة إلا شتمنا ثم انصرف فقال له رجل من بني مرة‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما شتمك وما شتم إلا نفسه وقومه نحن والله ألأم الطرفين‏.‏
أبو حاتم السجستاني عن محمد بن عبد الله العتبي قال‏:‏ سمعت أبي يحدث عن أبي عمرو المري قال‏:‏ كان بنو عقيل بن علفة بن مرة بن غطفان يتناقلون وينتجعون الغيث فسمع عقيل بن علفة بنتاً له ضحكت فشهقت في آخر ضحكها فاخترط السيف وحمل عليها وهو يقول‏:‏ فرقت إني رجل فروق بضحكة آخرها شهيق وقال عقيل‏:‏ إني وإن سيق إلي المهر ألف وعبدان وذود عشر أحب أصهاري إلي القبر وقال الأصمعي‏:‏ كان عقيل بن علفة المري رجلاً غيوراً وكان يصهر إليه الخلفاء وإذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء معه‏.‏
قال‏:‏ فنزلوا ديراً من ديرة الشام يقال لها دير سعد فلما ارتحلوا قال عقيل‏:‏ قضت وطراً من دير سعد وطالماً على عرض ناطحنه بالجماجم ثم قال لابنه‏:‏ يا عملس أجز فقال‏:‏ ثم قال لابنته‏:‏ يا جرباء أجيزي فقالت‏:‏ كأن الكرى سقاهم صرخدية عقاراً تمشى في المطا والقوائم قال‏:‏ وما يدريك أنت ما نعت الخمر‏!‏ فأخذ السيف وهوى نحوها فاستعانت بأخيها عملس فحال بينه وبينها‏.‏
قال‏:‏ فأراد أن يضربه‏.‏
قال‏:‏ فرماه بسهم فاختل فخذيه فبرك ومضوا وتركوه حتى إذا بلغو أدنى ماء للأعراب قالوا لهم‏:‏ إنا أسقطنا جزروا فأدركوها وخذوا معكم الماء فإذا عقيل بارك وهو يقول‏:‏ إن بني زملوني بالدم شنشنة أعرفها من أخزم من يلق أبطال الرجال يكلم والشنشنة‏:‏ الطبيعة وأخزم‏:‏ فحل معروف وهذا مثل للعرب ومن أعز الناس نفساً وأشرفهم همماً الأنصار وهم الأوس والخزرج ابنا قيلة لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته ويتوعدهم إن لم يفعلوا أن يغزوهم‏.‏
فكتبوا إليه‏:‏ العبد تبع كم يروم قتالنا ومكانه بالمنزل المتذلل إنا أناس لا ينام بأرضنا عض الرسول ببظر أم المرسل فغزاهم تبع أبو كرب فكانوا يقاتلونه نهاراً ويخرجون إليه القرى ليلاً فتذمم من قتالهم ورحل عنهم‏.‏
ودخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك فقال له‏:‏ من أنت وتجهم له كأنه لا يعرفه‏:‏ فقال له الفرزدق‏:‏ وما تعرفني يا أمير المؤمنين قال‏:‏ لا قال‏:‏ أنا من قوم منهم أوفى العرب أسود العرب وأجود العرب وأحلم العرب وأفرس العرب وأشعر العرب‏:‏ قال‏:‏ والله لتبينن ما قلت أو لأوجعن ظهرك ولأهدمن دارك قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة الذي رهن قوسه عن جميع العرب فوفى بها‏:‏ وأما أسود العرب فقيس بن عاصم الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسط له رداءه وقال‏:‏ هذا سيد الوبر وأما أحلم العرب فعتاب بن ورقاء الرياحي وأما أفرس العرب فالحريش بن هلال السعدي أما أشعر العرب فأنذا بين يديك يا أمير المؤمنين فاغتم سليمان مما سمع من فخره ولم ينكره وقال‏:‏ ارجع على عقبيك فما لك عندنا شيء من خير‏.‏
فرجع الفرزدق وقال‏:‏ أتيناك لا من حاجة عرضت لنا إليك ولا من قلة في مجاشع وقال الفرزدق في الفخر‏:‏ بنو دارم قومي ترى حجزاتهم عتاقاً حواشيها رقاقاً نعالها وقال الأحوص في الفخر وهو أفخر بيت قالته العرب‏:‏ ما من مصيبة نكبة أرمى بها ألا تشرفني وترفع شاني وإذا سألت عن الكرام وجدتني كالشمس لا تخفى بكل مكان وقال أبو عبيدة‏:‏ اجتمعت وفود العرب عند النعمان بن المنذر فأخرج إليهم بردي محرق وقال‏:‏ ليقم أعز العرب قبيلة فليلبسهما فقام عامر بن أحيمر السعدي فاتزر بأحدهما وارتدى بالآخر فقال له النعمان‏:‏ بم أنت أعز العرب قال‏:‏ العز والعدد من العرب في معد ثم في نزار ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدلة فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني فسكت الناس‏.‏
ثم قال النعمان‏:‏ هذه حالك في قومك فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك قال‏:‏ أنا أبو عشرة وخال عشرة وعم عشرة وأما أنا في نفسي فهذا شاهدي ثم وضع قدمه في الأرض ثم قال‏:‏ من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل‏.‏
فلم يقم إليه أحد فذهب بالبردين‏.‏
ففيه يقول الفرزدق‏:‏ فما ثم في سعد ولا آل مالك غلام إذا ما سيل لم يتبهدل لهم وهب النعمان بردي محرق بمجد معد والعديد المحصل وفي أهل هذا البيت من سعد بن زيد مناة كانت الإفاضة في الجاهلية‏.‏
ومنهم بنو صفوان الذين ولا يريمون في التعريف موقفهم حتى يقال أجيزوا آل صفوانا ما تطلع الشمس إلا عند أولنا ولا تغيب إلا عند أخرانا وقال الفرزدق في مثل هذا المعنى‏:‏ ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا وكانت هنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق تقول‏:‏ من جاءت من نساء العرب بأربعة كأربعتي يحل لها أن تضع خمارها عندهم فصرمتى لها‏:‏ أبي صعصعة وأخي غالب وخالي الأقرع بن حابس وزوجي الزبرقان بن بدر فسميت ذات الخمار‏.‏
وممن شرفت نفسه وبعدت همته‏:‏ طاهر بن الحسين الخراساني وذلك أنه لما قتل محمد بن زبيدة وخاف المأمون أن يغدر به امتنع عليه بخراسان ولم يظهره خلعه‏.‏
وقال دعبل بن علي الخزاعي يفتخر بقتل طاهر بن الحسين محمداً لأنه كان مولى خزاعة ويقال إنه خزاعي‏:‏ أيسومني المأمون خطة عاجز أوما رأى بالأمس رأس محمد توفي على روس الخلائق مثل ما توفي الجبال على رؤوس القردد إني من القوم الذين هم هم قتلوا أخاك وشرفوك بمقعد وقال طاهر بن الحسين‏:‏ غضبت على الدنيا فأنهبت ما حوت وأعتبتها مني بإحدى المتالف قتلت أمير المؤمنين وإنما بقيت عناء بعده للخلائف وأصبحت في دار مقيما كما ترى كأني فيها من ملوك الطوائف وقد بقيت في أم رأس فتكة فإما لرشد أو لرأي مخالف فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة‏:‏ عتبت على الدنيا فلا كنت راضيا فلا أعتبت إلا بإحدى المتالف فمن أنت أو ما أنت يا فقع قرقر إذا أنت منا لم تعلق بكانف فنحن بأيدينا هرقنا دماءنا كثول تهادى الموت عند التزاحف ستعلم ما تجني عليك وما جنت يداك فلا تفخر بقتل الخلائف وقد بقيت في أم رأسك فتكة سنخرجها منه بأسمر راعف وقال عبد الله بن طاهر‏:‏ مدمن الإغضاء موصول ومديم العتب مملول أقصري عما لهجت به ففراغي عنك مشغول سائلي عمن تسائلني قد يرد الخير مسئول أنا من تعرف نسبته سلفي الغر بالبهاليل سل بهم تنبيك نجدتهم مشرفيات مصاقيل كل عضب مشرب علقا وغرار الحد مفلول مصعب جدي نقيب بني هاشم والأمر مجبول وحسين رأس دعوتهم بعده الحق مقبول وأبي من لا كفاء له من يسامي مجده قولوا صاحب الرأي الذي حصلت رأيه القوم المحاصيل حل منهم بالذرى شرفاً دونه عز وتبجيل نفصح الأنباء عنه إذا أسكت الأنباء مجهول سل به الجبار يوم غدا حوله الجرد الأبابيل وهبوا لله أنفسهم لا معازيل ولا ميل ملك تجتاح صولته ونداه الدهر مبذول نزعت منه تمائمه وهو مرهوب ومأمول وتره يسعى إليه به ودم يجنيه مطلول فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة وكان من أصحابه وآثرهم عنده ثم اعتذر إليه وزعم أنه لم يدعه إلى إجابته إلا قوله‏:‏ من يسامي مجده قولوا فأمر له بمائة ألف وزاده أثرة ومنزلة‏:‏ لا يرعك القال والقيل كل ما بلغت تضليل ما هوى لي كنت أعرفه بهوى غيرك موصول أيخون العهد ذو ثقة لا يخون العهد متبول حملتني كل لائمة كل ما حملت محمول واحكمي ما شئت واحتكمي فحرامي لك تحليل وبدت يوم الوداع لنا غادة كالشمس عطبول تتعاطى شد مئزرها ونطاق الخصر محلول شملنا إذ ذاك مجتمع وجناح البين مشكول ثم ولت كي تودعنا كحلها بالدمع مغسول أيها البادي بطيته ما لأغلاطك تحصيل قد تأولت على جهة ولنا ويحك تأويل إن دليلاك يوم غدا بك في الحين لضليل قاتل المخلوع مقتول ودم القاتل مطلول قد يخون الرمح عامله وسنان الرمح مصقول وينال الوتر طالبه بعد ما تسلو المثاكيل بأخي المخلوع طلت يداً لم يكن في باعها طول وبنعماه التي كفرت جالت الخيل الأبابيل إن خير القول أصدقه حين تصطك الأقاويل مراسلات الملوك العتبي عن أبيه قال‏:‏ أهدى ملك اليمن عشر جزائر إلى مكة وأمر أن ينحرها أعز قريشي‏.‏
فقدمت وأبو سفيان عروس بهند بنت عتبة فقال له‏:‏ أيها الرجل لا يشغلنك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك فقال لها‏:‏ يا هذه دعي زوجك وما يختاره لنفسه والله ما نحرها غيري إلا نحرته‏.‏
فكانت في عقلها حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع فنحرها‏.‏
زهير عن أبي الجويرية الجرمي قال‏:‏ كتب قيصر إلى معاوية‏:‏ أخبرني عما لا قبلة له وعمن لا أب له وعمن لا عشيرة له وعمن سار به قبره وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم وعن شيء ونصف شيء ولا شيء وابعث إلي في هذه القارورة ببزر كل شيء فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس‏.‏
فقال ابن عباس‏:‏ أما مالا قبلة قبله له فالكعبة وأما من لا أب له فعيسى وأما من لا عشيرة له فآدم وأما من سار به قبره فيونس وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم‏:‏ فكبش إبراهيم وناقة ثمود وحية موسى وأما شيء فالرجل له عقل يعمل بعقله وأما نصف شيء فالرجل ليس له عقل ويعمل برأي ذوي العقول وأما لا شيء فالذي ليس له عقل يعمل به ولا يستعين بعقل غيره وملأ القارورة ماء وقال‏:‏ هذا بزر كل شيء‏:‏ فبعث به إلى معاوية فبعث به معاوية إلى قيصر‏.‏
فلما وصل إليه الكتاب والقارورة قال‏:‏ ما خرج هذا إلا من أهل بيت النبوة‏.‏
نعيم بن حماد قال‏:‏ بعث ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً فيه‏:‏ من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك والذي تحته ابنه ألف ملك والذي مربطه ألف فيل والذي له نهران ينبتان العود والألوة والجوز والكافور والذي يوجد ريحه على مسيرة اثني عشر ميلاً إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئاً أما بعد فإني قد بعثت إليك بهدية وما بهدية ولكنها تحية وأحببت أن تبعث إلي رجلاً يعلمني ويفهمني الإسلام والسلام يعني الهدية الكتاب‏.‏
الرياشي قال‏:‏ لما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم‏:‏ إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها فإن كان صواباً فقد أخطأ أبوك وإن كان خطأ فما عذرك فكتب إليه‏:‏ ‏"‏ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً ‏"‏‏.‏
وكتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان‏:‏ أكلت لحم الجمل الذي هرب عليه أبوك من المدينة لأغزينك جنوداً مائة ألف ومائة ألف‏.‏
فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يبعث إلى عبد الله بن الحسن ويتوعده ويكتب إليه بما يقول ففعل فقال عبد الله بن الحسن‏:‏ إن الله عزل وجل لوحاً محفوظاً يلحظه كل يوم ثلثمائة لحظة ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء وإني لأرجو أن يكفينيك منها بلحظة واحدة‏.‏
فكتب به الحجاج إلى عبد الملك بن مروان وكتب به عبد الملك إلى ملك الروم فلما قرأه قال‏:‏ ما خرج هذا إلا من كلام النبوة‏.‏
بعث ملك الهند إلى هارون الرشيد بسيوف قلعية وكلاب سيورية وثياب من ثياب الهند فلما أتته الرسل بالهدية أمر الأتراك فصفوا صفين ولبسوا الجديد حتى لا يرى منهم إلا الحدق وأذن للرسل فدخلوا عليه فقال لهم‏:‏ ما جئتم به قالوا‏:‏ هذه أشرف كسوة بلدنا فأمر هارون القطاع بأن يقطع منها جلالاً وبراقع كثيرة لخيله فصلب الرسل على وجوههم وتذمموا من ذلك ونكسوا رؤوسهم ثم قال لهم الحاجب‏:‏ ما عندكم غير هذا قالوا له‏:‏ هذه سيوف قلعية لا نظير لها‏.‏
فدعا هارون بالصمصامة سيف عمرو بن معد يكرب فقطعت به السيوف بين يديه سيفاً سيفاً كما يقط الفجل من غير أن تنثني له شفرة ثم عرض عليهم حد السيف فإذا لا فل فيه فصلب القوم على وجوههم ثم قيل لهم‏:‏ ما عندكم غير هذا قالوا‏:‏ هذه كلاب سيورية لا يلقاها سبع إلا عقرته فقال لهم هارون‏:‏ فإن عند سبعا فإن عقرته فهي كما ذكرتم ثم أمر بالأسد فأخرج إليهم‏:‏ فلما نظروا إليه هالهم وقالوا‏:‏ فنرسلها عليه وكانت الأكلب ثلاثة فأرسلت عليه فمزقته فأعجب بها هارون وقال لهم‏:‏ تمنوا في هذه الكلاب ما شئتم من طرائف بلدنا قالوا‏:‏ ما نتمنى إلا السيف الذي قطعت به سيوفنا قال لهم‏:‏ ما كنا لنبخل عليكم ولكنه لا يجوز في ديننا أن نهاديكم بالسلاح ولكن تمنوا غير ذلك ما شئتم قالوا‏:‏ ما نتمنى إلا السيف قال‏:‏ لا سبيل إليه ثم أمر لهم بتحف كثيرة وأحسن جائزتهم‏.‏
أبو جعفر البغدادي قال‏:‏ لما انقبض طاهر بن الحسين بخراسان عن المأمون وأخذ حذره أدب له المأمون وصيفاً بأحسن الآداب وعلمه فنون العلم ثم أهداه إليه مع ألطاف كثيرة من طرائف العراق وقد واطأه على أن يسمه وأعطاه سم ساعة ووعده على ذلك بأموال كثيرة‏.‏
فلما انتهى إلى خراسان وأوصل إلى طاهر الهدية قبل الهدية وأمر بإنزال الوصيف في دار وأجرى عليه ما يحتاج إليه من التوسعة في النزالة وتركه أشهراً‏.‏
فلما برم الوصيف بمكانه كتب إليه‏:‏ يا سيدي إن كنت تقبلني فاقبلني وإلا فردني إلى أمير المؤمنين فأرسل إليه وأوصله إلى نفسه‏.‏
فلما انتهى إلى باب المجلس الذي كان فيه أمره بالوقوف عند باب المجلس وقد جلس على لبد أبيض وقرع رأسه وبين يديه مصحف منشور وسيف مسلول فقال‏:‏ قد قبلنا ما بعث به أمير المؤمنين غيرك فإنا لا نقبلك وقد صرفناك إلى أمير المؤمنين ولي عندي جواب أكتبه إلا ما ترى من حالي فأبلغ أمير المؤمنين السلام وأعلمه بالحال التي رأيتني فيها‏.‏
فلما قدم الوصيف على المأمون وكلمه بما كان من أميره ووصف له الحال التي رآه فيها شاور وزراءه في ذلك وسألهم عن معناه فلم يعلمه واحد منهم فقال المأمون‏:‏ لكني قد فهمت معناه‏:‏ أما تقريعه رأسه وجلوس على اللبد الأبيض فهو يخبرنا أنه عبد ذليل وأما المصحف المنشور فإنه يذكرنا بالعهود التي له علينا وأما السيف المسلول فإنه يقول‏:‏ إن نكثت تلك العهود فهذا يحكم بيني وبينك أغلقوا عنا باب ذكره ولا تهيجوه في شيء مما هو فيه‏.‏
فلم يهجه المأمون حتى مات طاهر بن الحسين وقام عبد الله بن طار بن الحسين مكانه فكان أخف الناس على المأمون‏.‏
وكتب طاهر بن الحسين إلى المأمون في إطلاق بن السندي من حبسه وكان عامله على مصر فعزله عنها وحبسه فأطلقه له وكتب إليه‏:‏ أخي أنت ومولاي فما ترضاه أرضاه وما تهوى من الأمر فإني أنا أهواه لك الله على ذاك لك الله لك الله قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عَبد ربِّه‏:‏ قد مضى قولًنا في مُخاطبة الملوك ومقاماتهم وما تفنَّنوا فيه من بديع حِكَمهم والتزلّف إليهم بحسن التوصل ولطيف المعاني وبارع مَنطقهم واختلاف مذاهبهم ونحن قائلون بحمد الله وتوفيقه في العلم والأدب فإنهما القُطبان اللذان عليها مَدار الدين والدنيا وفَرْقُ ما بين الإنسان وسائر الحيوان وما بين الطَّبيعة المَلَكية والطبيعة البهيمية‏.‏
وهما مادَّة العقل وسراج البدن ونُور القَلب وعماد الرُّوح وقد جَعل الله بلطيف قُدْرته وعظيم سُلطانه بعضَ الأشياء عَمَداً لبعض ومُتولِّدًا من بعض فإجالة الوَهم فيما تُدْركه الحواسّ تَبعث خواطر الذِّكر وخواطر الذكر تنبه رؤية الفِكْر وروية الفِكْر تثير مكامِن الإرادة والإرادة تُحْكم أسباب العمل فكلُّ شيء يقوم في العقل وُيمثل في الوهم يكون ذِكْرِا ثم فِكْرا ثم إرادة ثم عملا‏.‏
والعقل متقبل للعِلْم لا يعمل في غير ذلك شيئاَ‏.‏
والعلم علمان‏:‏ علم حُمِل وعلم استُعمل فما حُمل منه ضرّ وما استُعمل نَفع‏.‏
والدليل على أن العقل إنما يعمل في تقبل العُلوم كالبصر في تقبل الألوان والسمع في تقبل الأصوات أن العاقل إذا لم يُعلَّم شيئا كان كمن لا عقل له والطِّفل الصغير لو لم تعرِّفه أدبا وتُلقنه كتابا كان كأبله البهائم وأضلِّ الدواب فإن زَعم زاعمِ فقال‏:‏ إنا نجد عاقلا قليلَ العِلم‏:‏ فهو يَستعمل عقله في قلّة علمه فيكون أشدَ رأياَ وأنبه فِطنةً وأحسنَ مواردَ ومَصادِرَ من الكثير العِلم مع قَلّة العَقْل فإنَّ حُجَّتنا عليه ما قد ذكرناه من حَمْل العِلْم واستعماله فقليل العِلْم يستعمله العَقل خَيرٌ من كثيره يحفظه القلب‏.‏
قيل للمُهلِّب‏:‏ بِمَ أدركتَ ما أدركتَ قال‏:‏ بالعِلم قيل له‏:‏ فإن غيرك قد عَلم أكثر مما عَلِمتَ ولم يُدرك ما أدركت قال‏:‏ ذلك عِلم حُمِل وهذا علم استُعْمل‏.‏
وقد قالت الحكماء‏:‏ العِلمُ قائد والعَقل سائق والنَّفس ذَوْد فإذا كان قائد بلا سائق هلكت ‏"‏ الماشية ‏"‏ وإن كان سائق بلا قائد أخذتْ يميناً وشمالا وإذا اجتمعا أنابت طَوْعاً أو كَرْهاً‏.‏
فنون العلم قال سهل بن هارون يوماً وهو عند المأمون‏:‏ مِن أصناف العلم مالا ينبغي للمُسلمين أن يَرْغبوا فيه وقد يُرغب عن بعض العِلم كما يُرغب عن بَعض الحلال فقال المأمون‏:‏ قد يُسمِّي بعضُ الناسِ الشيءَ عِلماً وليس بعلمِ فإن كان هذا أردتَ فوَجْهُه الذي ذَكرتُ ولو قلتَ أيضاَ‏:‏ إِنّ العلم لا يُدْرَك غوْرُه ولا يُسْبر قَعْره ولا تُبلغ غايتهُ ولا تُستقىَ أُصوله ولا تَنْضَبط أجزاؤُه صدقتَ فإن كان الأمر كذلك فابدأ بالأهمِّ فالأهمّ والأوكد فالأوكد وبالفَرْض قبل النَّفل يكن ذلك عَدْلا قصداً ومذْهباً جَمِيلاَ‏.‏
وقد قال بعضُ الحُكماء‏:‏ لستً أَطلب العلْم طمعاً في غايته والوقوف على نِهايته ولكن التماسَ مالا يسع جَهلُه فهذا وَجهٌ لما ذكرت‏.‏
وقال آخرون‏:‏ عِلْم المُلوك والنَّسب والخَبَر وعِلمُ أصحاب الحُروب درْس كُتبِ الأيَّام والسِّير وعِلم التجَّار الكِتاب والحساب فأما أن يُسمَّى الشيء عِلماً وًينهى عنه من غير أن يُسأل عما هو أنفع منه فلا‏.‏
وقال محمد بن إدريس رضي الله عنه‏:‏ العِلم علمان‏:‏ عِلم الأبدان وعِلم الأديان‏.‏
وقال عبد الله بن مُسلم بن قُتيبة‏:‏ من أراد أن يكون عالماً فليطلب فنًا واحداً ومن أراد أن يكون أديباً فَلْيتسع في العلوم‏.‏
وقال أبو يوسُف القاضي‏:‏ ثلاثة لا يَسلمون من ثلاثة‏:‏ مَن طلب الدِّين بالفلسفة لمِ يَسلم من الزَّنْدَقَة ومَن طلب ‏"‏ المالَ ‏"‏ بالكِيمياء لم يَسلم من الفَقْر ومن طلب غرائبَ الحديث لم يَسلم من الكذب‏.‏
وقال ابن سِيرين رحمه اللهّ تعالى‏:‏ العِلْم أكثرُ من أن يُحاط به فخُذوا من كلِّ شيء أحسنه‏.‏
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما‏:‏ كَفَاك من عِلم الدِّين أن تَعرف مالا يسع جهلُه وكفاك من عِلم الأدب أن تَرْوِي الشاهد والمَثل قال الشاعر‏:‏ وما من كاتب إلا ستبقى كِتابتهُ وإن فنيت يدَاه فلا تكتب بكفِّك غير شيء يَسرّك في القِيامة أن تَراه وقالوا‏:‏ مَن أكثر من النَّحْو حَمّقه ومن أكثر من الشعر بذَّله ومن أكثر من الفِقه شرَفه‏.‏
وقال أبو نُواس الحسن بن هانئ‏:‏ كم من حَديث مُعْجِب عندي لكا لو قد نبذتَ به إليك لسركا ممَّا تَخَيَّره الرواة مُهذّب كالدُّرِّ مُنتظماً بِنحْرٍ فَلَّكَا أَتتبع العُلماءَ أكتبُ عنهمُ كيما أُحدِّثَ من لقيتُ فَيَضْحكا الحض على طلب العلم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يزال الرجلُ عالماً ما طَلب العِلم فإذا ظَنَّ أنه قد عَلِم فقد جَهل‏.‏
وقال عليه الصلاةُ والسلام‏:‏ الناسُ عالمٌ ومُتعلِّم وسائرهم هَمَج‏.‏
وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ الملائكة لتَضَع أجنحتَها لطالب العِلم رِضاً بما يَطلب وَلمِدَاد جَرت به أقلامُ العُلماء خيرٌ من دماء الشّهداء في سبيل اللّه‏.‏
وقال داود لابنه سُليمان عليهما السلام‏:‏ لفَّ العِلْم حولَ عُنقك واكتُبه في ألواح قَلبك‏.‏
وقال أيضاً‏:‏ اجعل العِلْم مالَكَ والأدب حِلْيتك‏.‏
وقيل لأبي عمرو بن العَلاء‏:‏ هل يَحْسُن بالشَيخ أن يتعلًم قال‏:‏ إن كان يَحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم‏.‏
وقال عُرْوة بن الزُّبير رحمه اللهّ تعالى ‏"‏ لبنيه ‏"‏‏:‏ يا بنيَّ اطلبوا العِلم فإن تكونوا صِغار ‏"‏ قوم ‏"‏ لا يُحتاج إليكم فعسى أن تكونوا كبارَ قوم آخرين لا يستغني عنكم‏.‏
وقال ملك الْهِند لولده وكان له أربعون ولداً‏:‏ يا بني أكثِروا من النظر في الكتب وازدادوا في كل يوم حرفاً فإن ثلاثةً لا يَستوْحشون في غُربة‏:‏ الفقِيه العالم والبَطَل الشجاع والحُلوُ اللسان الكثير مخارج الرأي‏.‏
وقال المُهَلّب لبَنِيه‏:‏ إياكم أن تجلسوا في الأسواق إلا عند زَرَّاد أو وَرَّاق أراد الزرَّاد للحرب والورَّاق للعلم‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ نِعْمَ الأنيسُ إذا خلوْتَ كِتَابُ تَلْهو به إن خانَكَ الأحبابُ لا مُفْشِياً سرّا إذا استودعتَه وتُفاد منهُ حكمةٌ وصَوَابُ وقال ‏"‏ آخر ‏"‏‏:‏ ولكلِّ طالب لذّة مُتنزَه وألذُّ نُزهة عالمٍ في كُتْبهِ ومَرَّ رجل بعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وهو جالس في المَقْبرة وبيده كتاب فقال له‏:‏ ما أَجلسك هاهنا قال‏:‏ إنه لا أوْعظَ ‏"‏ مِن ‏"‏ قبر ولا أَمتع من كتاب‏.‏
وقال رُؤْبة بن العجَّاج‏:‏ قال لي النسِّابة البَكْري‏:‏ يا رُؤبة لعلك من قوم إن سَكَتُّ عنهم لم يَسأَلوني وإن حَدَّثتُهم لم يَفْهموني قلتُ‏:‏ إني أرجو أن لا أكون كذلك‏.‏
قال‏:‏ فما آفة العلم ونَكَده وهُجْنته قلت‏:‏ تُخبرني قال‏:‏ آفتُه النسيان ونَكَده الكذب وهُجْنته نشره عند غير أهله‏.‏
وقال عبد اللهّ بن عبَّاس رضوان الله عليهما‏:‏ مَنْهومان لا يَشبعان‏:‏ طالِب علم وطالب دنيا‏.‏
وقال‏:‏ ذَلَلتُ طالباً فعَزَزْتُ مطلوباً‏.‏
وقال رجل لأبي هُريرة‏:‏ أُريد أن أطلب العِلْم وأخاف أن أضيِّعه قال‏:‏ كفاك بترك طَلَب العِلم إضاعةً له‏.‏
وقال عبد اللهّ بن مسعود‏:‏ إن الرجل لا يُولد عالماً وإنما العِلم بالتعلّم‏.‏
وأخذه الشاعر فقال‏:‏ تَعَلم فليسَ المرء يُولد عالماً وليس أخو عِلم كمن هو جاهلُ ولآخر‏:‏ ولآخر‏:‏ ولم أر فرعاً طال إلا بأصْلهِ ولم أرَ بَدْءَ العِلم إِلا تَعَلّما وقال آخر‏.‏
العِلْم يُحْي قُلوبَ الميِّتِين كما تَحْيا البلادُ إذا ما مَسَّها المَطَرُ والعِلم يَجْلو العَمَى عن قَلْب صاحِبه كما يُجَلِّي سوادَ الظُّلْمة القمَر وقال بعضً الحكماء‏:‏ اقصِد من أصناف العِلم إلى ما هو أشهى لنفسك وأخفُّ على قَلبك فإنّ نفاذَك فيه على حَسب شَهوَتك له وسُهولتِه عليك‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:11 AM

تذكير الملوك بذمام متقدم
قال ثمامة بن أشرس للمأمون لما صارت إليه الخلافة‏:‏ إنه كان لي أملان‏:‏ أمل لك وأمل بك فأما أملي لك فقد بلغته وأما أملي بك فلا أدري ما يكون منك فيه قال‏:‏ يكون أفضل ما رجوت وأملت فجعله من سماره وخاصته‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ لما مات يزيد بن عبد الملك وصارت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك خر أصحابه سجوداً إلا الأبرش الكلبي فقال له‏:‏ يا أبرش ما منعك أن تسجد كما سجدوا قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لأنك ذهبت عنا وتركتنا قال‏:‏ فإن ذهبت بك معي قال‏:‏ أو تفعل يا أمير المؤمنين قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فالآن طاب السجود ثم سجد‏.‏
ولما صارت الخلافة إلى أبي جعفر كتب إليه رجل من إخوانه‏:‏ إنا بطانتك الألى كنا نكابد ما نكابد ونرى فنعرف بالعدا وة والبعاد لمن نباعد ونبيت من شفق علي ك ربيئة والليل هاجد هذا أوان وفاء ما سبقت به منك المواعد وقال حبيب الشاعر في هذا المعنى‏:‏ وإن أولى الموالي أن تواسيه عند السرور لمن واساك في الحزن إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن حسن التخلص من السلطان أبو الحسن المدائني قال‏:‏ كان العباس بن سهل والي المدينة لعبد الله بن الزبير فلما بايع الناس عبد الملك بن مروان ولى عثمان بن حيان المري وأمره بالغلظة على أهل الظنة فعرض يوماً بذكر الفتنة وأهلها فقال له قائل‏:‏ هذا العباس بن سهل على ما فيه كان مع ابن الزبير وعمل له فقال عثمان بن حيان‏:‏ ويلي عليه والله لأقتلنه قال العباس‏:‏ فبلغني ذلك فتغيبت حتى أضر بي التغيب فأتيت ناساً من جلسائه فقلت لهم‏:‏ ما لي أخاف وقد أمنني عبد الملك بن مروان فقالوا‏:‏ والله ما يذكرك إلا تغيظ عليك وقلما كلم على طعامه في ذنب إلا انبسط فلو تنكرت وحضرت عشاءه وكلمته‏.‏
قال‏:‏ ففعلت وقلت على طعامه وقد أتي بجفنة ضخمة ذات ثريد ولحم‏:‏ والله لكأني أنظر إلى جفنة حيان بن معبد والناس يتكاوسون عليها وهو يطوف في حاشيته يتفقد مصالحها يسحب أردية الخز حتى إن الحسك ليتعلق به فما يميطه ثم يؤتى بجفنة تهادى بين أربعة ما يستقلون بها إلا بمشقة وعناء وهذا بعد ما يفرغ الناس من الطعام ويتنحون عنه فيأتي الحاضر من أهله بالدنو والطارئ من أشراف قومه وما بأكثرهم من حاجة إلى الطعام وما هو إلا الفخر بالدنو من مائدته والمشاركة ليده قال‏:‏ هيه أنت رأيت ذلك قلت‏:‏ أجل والله قال لي‏:‏ ومن أنت قلت‏:‏ وأنا آمن قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ العباس بن سهل بن سعد الأنصاري قال‏:‏ مرحباً وأهلاً أهل الشرف والحق‏.‏
قال‏:‏ فلقد رأيتني بعد ذلك وما بالمدينة رجل أوجه مني عنده‏.‏
فقيل له بعد ذلك‏:‏ أنت رأيت ونزلنا ذلك الماء وغشينا وعليه عباءة ذكوانية فلقد جعلنا نذوده عن رحلنا مخافة أن يسرقه‏.‏
أبو حاتم قال‏:‏ حدثنا أبو عبيدة قال‏:‏ أخذ سراقة بن مرداس البارقي أسيراً يوم جبانة السبيع فقدم في الأسرى إلى المختار فقال سراقة‏:‏ امنن علي اليوم يا خير معد وخير من لبى وصلى وسجد فعفا عنه المختار وخلى سبيله‏.‏
ثم خرج مع إسحاق بن الأشعث فأتي به المختار أسيراً فقال له‏:‏ ألم أعف عنك وأمنن عليك أما والله لأقتلنك قال‏:‏ لا والله لا تفعل إن شاء الله قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأن أبي أخبرني أنك تفتح الشام حتى تهدم مدينة دمشق حجراً حجراً وأنا معك ثم أنشده‏:‏ خرجنا لا نرى الضعفاء شيئاً وكان خروجنا بطراً وحينا تراهم في مصفهم قليلاً وهم مثل الدبى لما التقينا فأسجح إذا قدرت فلو قدرنا لجرنا في الحكومة واعتدينا تقبل توبة مني فإني سأشكر إن جعلت النقد دينا قال‏:‏ فخلى سبيله‏.‏
ثم خرج إسحاق بن الأشعث ومعه سراقة فأخذ أسيراً وأتي به المختار فقال‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك يا عدو الله هذه ثالثة فقال سراقة‏:‏ أما والله ما هؤلاء الذين أخذوني فأين هم لا أراهم إنا لما التقينا رأينا قوماً عليهم ثياب بيض وتحتهم خيل بلق تطيق بين السماء والأرض فقال المختار‏:‏ خلوا سبيله ليخبر الناس‏.‏
ثم دعا لقتاله فقال‏:‏ ألا أبلغ أبا إسحاق أني رأيت البلق دهماً مصمتات أري عيني ما لم ترأياه كلانا عالم بالترهات كفرت بوحيكم وجعلت نذراً علي قتالكم حتى الممات كان معن بن زائدة قد أمر بقتل جماعة من الأسرى فلما سقوا قال‏:‏ يا معن أتقتل ضيفانك فأمر معن بإطلاقهم‏.‏
لما أتي عمر بن الخطاب بالهرمزان أسيراً دعاه إلى الإسلام فأبى عليه فأمر بقتله فلما عرض عليه السيف قال‏:‏ لو أمرت يا أمير المؤمنين بشربة من ماء فهو خير من قتلي على الظمأ فأمر له بها فلما صار الإناء بيده قال‏:‏ أنا آمن حتى أشرب قال‏:‏ نعم‏.‏
فألقى الإناء من يده وقال‏:‏ الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج قال‏:‏ لك التوقف حتى أنظر في أمرك ارفعا عنه السيف فلما رفع عنه قال‏:‏ الآن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فقال له عمر‏:‏ ويحك‏!‏ أسلمت خير إسلام فما أخبرك قال‏:‏ خشيت يا أمير المؤمنين أن يقال أن إسلامي إنما كان جزعاً من الموت فقال عمر‏:‏ إن لفارس حلوماً بها استحقت ما كانت فيه من الملك‏.‏
ثم كان عمر يشاوره بعد ذلك في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه‏.‏
لما أتي الحجاج بالأسرى الذين خرجوا مع ابن الأشعث أمر بقتلهم فقال رجل‏:‏ أصلح الله الأمير إن لي حرمة قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ ذكرت في عسكر ابن الأشعث فشتمت في أبويك فعرضت دونهما فقلت‏:‏ لا والله ما في نسبه مطعن فقولوا فيه ودعوا نسبه قال‏:‏ ومن يعلم ما ذكرت فالتفت إلى أقرب الأسرى إلي فقلت‏:‏ هذا يعمله قال له الحجاج‏:‏ ما تقول فيما يقول قال‏:‏ صدق أصلح الله الأمير وبر‏.‏
قال‏:‏ خلياً عن هذا لنصرته وعن هذا لحفظ شهادته‏.‏
عمرو بن بحر الجاحظ قال‏:‏ أتي روح بن حاتم برجل كان متلصصاً في طريق الرقاق فأمر بقتله فقال‏:‏ أصلح الله الأمير لي عندك يد بيضاء قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ إنك جئت يوماً إلى مجمع موالينا بني نهشل والمجلس محتفل فلم يتحفز لك أحد فقمت من مكاني حتى جلست فيه ولولا محض كرمك وشرف قدرك ونباهة أوليتك ما ذكرتك هذه عند مثل هذا قال ابن حاتم‏:‏ صدق وأمر بإطلاقه وولاه تلك الناحية وضمنه إياها‏.‏
ولما ظفر المأمون بأبي دلف وكان يقطع في الجبال أمر بضرب عنقه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين دعني أركع ركعتين قال‏:‏ افعل‏.‏
فركع وحبر أبياتاً ثم وقف بين يديه فقال‏:‏ بع بي الناس فإني خلف ممن تبيع واتخذني لك درعاً قلصت عنه الدروع وارم بي كل عدو فأنا السهم السريع فأطلقه وولاه تلك الناحية فأصلحها‏.‏
أتي معاوية يوم صفين بأسير من أهل العراق فقال‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك قال‏:‏ لا تقل يا معاوية فإنها مصيبة قال‏:‏ وأي نعمة أعظم من أن أمكنني الله عز وجل من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة اضرب عنقه يا غلام فقال الأسير‏:‏ اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك وأنك لا ترضى بقتلي وإنما يقتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا فإن فعل فافعل به ما هو أهله وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله قال له‏:‏ ويحك‏!‏ لقد سببت فأبلغت وأمر مصعب بن الزبير برجل من أصحاب المختار أن يضرب عنقه فقال‏:‏ أيها الأمير ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك هذا الذي يستضاء به فأتعلق بأطرافك وأقول‏:‏ أي رب سل هذا فيم قتلني قال‏:‏ أطلقوه فإني جاعل ما وهبت له من حياته في خفض أعطوه مائة ألف قال الأسير‏:‏ بأبي أنت وأمي‏.‏
أشهد أن لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفاً قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لقوله‏:‏ إنما مصعب شهاب من الل ه تجلت عن وجهه الظلماء ملكه ملك عزة ليس فيه جبروت منه ولا كبرياء‏.‏
يتقي الله في الأمور وقد أف لح من كان همه الاتقاء أمر عبد الملك بقتل رجل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك أعز ما تكون أحوج ما تكون إلى الله فعفا عنه‏.‏
أتي الحجاج بأسرى من الخوارج فأمر بضرب أعناقهم فقدم فيهم شاب فقال‏:‏ والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو فقال‏:‏ أف لهذه الجيف ما كان فيهم من يقول مثل هذا‏!‏ وأمسك عن القتل‏.‏
وأتي الحجاج بأسرى فأمر بقتلهم فقال له رجل منهم‏:‏ لا جزاك الله يا حجاج عن السنة خيراً فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء ‏"‏‏.‏
فهذا قول الله في كتابه‏.‏
وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق‏:‏ وما نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل القلائد فقال الحجاج‏:‏ ويحكم‏!‏ أعجزتم أن تخبروني بما أخبرني هذا المنافق‏!‏ وأمسك عمن بقي‏.‏
الهيثم بن عدي قال‏:‏ أتي الحجاج بحرورية فقال لأصحابه‏:‏ ما تقولون في هذه قالوا‏:‏ اقتلها أصلح الله الأمير ونكل بها غيرها‏.‏
فتبسمت الحرورية فقال لها‏:‏ لم تبسمت فقالت‏:‏ لقد كان وزراء أخيك فرعون خيراً من وزرائك يا حجاج استشارهم في قتل موسى فقالوا‏:‏ أرجه وأخاه وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي فضحك الحجاج وأمر بإطلاقها‏.‏
وقال معاوية ليونس الثقفي‏:‏ اتق الله لأطيرنك طيرة بطيئاً وقوعها قال‏:‏ أليس بي وبك المرجع إلى الله قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فاستغفر الله‏.‏
ودخل رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان وكان زبيرياً فقال له عبد الملك‏:‏ أليس الله قد ردك على عقبيك قال‏:‏ ومن رد إليك يا أمير المؤمنين فقد رد على عقبيه فسكت عبد الملك وعلم أنها خطأ‏.‏
دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك فقال له سليمان‏:‏ على امرئ أمرك وجرأك وسلطك على الأمة لعنة الله أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم أم هو يهوي فيها قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك فضعه من النار حيث شئت‏.‏
وقال عبيد الله بن زياد لقيس بن عباد‏:‏ ما تقول في وفي الحسين قال‏:‏ أعفني عافاك الله قال‏:‏ لا بد أن تقول قال‏:‏ يجيء أبوه يوم القيامة فيشفع له ويجيء أبوك فيشفع لك قال‏:‏ قد علمت غشك وخبثك لئن فارقتني يوماً لأضعن أكثرك شعراً بالأرض‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ بعث الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال له‏:‏ أنت الذي تقول‏:‏ إن الحسين بن علي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن رسول الله لتأتيني بالمخرج مما قلت أو لأضربن عنقك فقال له ابن يعمر‏:‏ وإن جئت بالمخرج فأنا آمن قال‏:‏ نعم قال‏:‏ اقرأ‏:‏ ‏"‏ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ وعيسى ‏"‏‏.‏
فمن أقرب‏:‏ عيسى من إبراهيم وما هو ابن بنته أو الحسين من محمد صلى الله عليه وسلم فقال له الحجاج‏:‏ والله لكأني ما قرأت هذه الآية قط وولاه قضاء بلده فلم يزل بها قاضياً حتى مات‏.‏
أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده قال‏:‏ دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج فقال لجلسائه‏:‏ إن أردتم أن تنظروا إلى رجل يسب أمير المؤمنين عثمان ابن عفان فهذا عندكم يعني عبد الرحمن فقال عبد الرحمن‏:‏ معاذ الله أيها الأمير أن أكون أسب أمير المؤمنين إنه ليحجزني عن ذلك آيات في كتاب الله قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ‏"‏‏.‏
فكان عثمان منهم‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏‏.‏
فكان أبي منهم‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ‏"‏‏.‏
فكنت أنا منهم‏.‏
فقال‏:‏ صدقت‏.‏ أبو عوانة عن عاصم بن أبي وائل قال‏:‏ بعث إلي الحجاج فقال لي‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ ما أرسل إلي الأمير حتى عرف اسمي قال‏:‏ متى هبطت هذا البلد قلت‏:‏ حين هبط أهله قال‏:‏ ما تقرأ من القرآن قلت‏:‏ أقرأ منه ما لو تبعته كفاني قال‏:‏ إني أريد أن أستعين بك في عملي قلت‏:‏ إن تستعن بي تستعن بكبير أخرق ضعيف يخاف أعوان السوء وإن تدعني فهو أحب إلي وإن تقحمني أتقحم قال‏:‏ إن لم أجد غيرك أقحمتك وإن وجدت غيرك لم أقحمك قلت‏:‏ وأخرى أكرم الله الأمير إني ما علمت الناس هابوا أميراً قط هيبتهم لك والله إني لأتعار من الليل فيما يأتيني النوم من ذكرك حتى أصبح هذا ولست لك على عمل قال‏:‏ هيه كيف قلت فأعدت عليه فقال‏:‏ إني والله لا أعلم على وجه الأرض خلقاً هو أجراً على دم مني قال‏:‏ فقمت فعدلت عن الطريق كأني لا أبصر فقال‏:‏ أرشدوا الشيخ‏.‏
لما أتي الحجاج بأسرى الجماجم أتي فيهم بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله الشخمير وسعيد بن جبير وكان الشعبي ومطرف يريان التقية وكان سعيد بن جبير لا يراها وكان قد تقدم كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف فمن أقر منهم بالكفر في خروجهم علينا فيخلي سبيله ومن زعم أنه مؤمن فيضرب عنقه فقال الحجاج للشعبي‏:‏ وأنت ممن ألب علينا مع ابن الأشعث اشهد على نفسك بالكفر فقال‏:‏ أصلح الله الأمير نبا بنا المنزل وأحزن بنا الجناب واستحلسنا الخوف واكتحلنا السهر وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء قال‏:‏ لله أبوك لقد صدقت ما بررتم بخروجكم علينا ولا قويتم خلوا سبيل الشيخ‏.‏
ثم قال لمطرف‏:‏ أتقر على نفسك بالكفر قال‏:‏ أصلح الله الأمير إن من شق العصا وسفك الدماء ونكث البيعة وفارق الجماعة وأخاف المسلمين لجدير بالكفر فخلى سبيله‏.‏
ثم قال لسعيد بن جبير‏:‏ أتقر على نفسك بالكفر قال‏:‏ ما كفرت منذ آمنت بالله فضرب عنقه ثم استعرض الأسرى فمن أقر بالكفر خلى سبيله ومن أبى قتله حتى أتي بشيخ وشاب فقال للشاب‏:‏ أكافر أنت قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ لكن الشيخ لا يرضى بالكفر فقال له الشيخ‏:‏ أعن نفسي تخادعني يا حجاج والله لو علمت أعظم من الكفر لقلته فضحك الحجاج وخلى سبيله‏.‏
فلما مات الحجاج وقام سليمان قال الفرزدق‏:‏ لئن نفر الحجاج آل معتب لقوا دولة كان العدو يدالها لقد أصبح الأحياء منهم أذلة وموتاهم في النار كلحا سبالها وكانوا يرون الدائرات بغيرهم فصار عليهم بالعذاب انفتالها ألكني إلى من كان بالصين أورمت به الهند ألواح عليها جلالها هلم إلى الإسلام والعدل عندنا فقد مات عن أهل العراق خبالها لما ولي سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالأردن‏:‏ اجمع يدي عدي ابن الرقاع إلى عنقه وابعث به إلي على قتب بلا وطاء ووكل به من ينخس به ففعل ذلك فلما انتهى إلى سليمان بن عبد الملك ألقي بين يديه وهو لقى لا حراك فيه ولا روح فتركه حتى ارتد إليه روحه ثم قال له‏:‏ أنت أهل لما نزل بك ألست القائل في الوليد‏:‏ وقال‏:‏ لا والله يا أمير المؤمنين ما هكذا قلت وإنما قلت‏:‏ معاذ ربي أن نبقى ونفقدهم وأن نكون لراع بعدهم تبعا فنظر إليه سليمان واستضحك ثم أمر له بصلة وخلى سبيله‏.‏
العتبي قال‏:‏ كان بين شريك القاضي والربيع حاجب المهدي معارضة فكان الربيع يحمل عليه المهدي فلا يلتفت إليه حتى رأى المهدي في منامه شريكاً القاضي مصروفاً وجهه عنه فلما استيقظ من نومه دعا الربيع وقص عليه رؤياه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن شريكاً مخالف لك وإنه فاطمي محض قال المهدي‏:‏ علي به فلما دخل عليه قال له‏:‏ يا شريك بلغني أنك فاطمي قال له شريك‏:‏ أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون غير فاطمي إلا أن تعني فاطمة بنت كسرى قال‏:‏ ولكني أعني فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال‏:‏ أفتلعنها يا أمير المؤمنين قال‏:‏ معاذ الله فماذا تقول فيما يلعنها قال‏:‏ عليه لعنة الله قال‏:‏ فالعن هذا - يعني الربيع - فإنه يلعنها فعليه لعنة الله قال الربيع‏:‏ لا والله يا أمير المؤمنين ما ألعنها قال له شريك‏:‏ يا ماجن فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيد المرسلين في مجالس الرجال قال المهدي‏:‏ دعني من هذا فإني رأيتك في منامي كأن وجهك مصروف عني وقفاك إلي وما ذلك إلا بخلافك علي ورأيت في منامي كأن أقتل زنديقاً قال شريك‏:‏ إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا يوسف الصديق صلوات الله على محمد وعليه وإن الدماء لا تستحل بالأحلام وإن علامة الزندقة بينة قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ شرب المر والرشا في الحكم ومهر البغي قال‏:‏ صدقت والله أبا عبد الله أنت والله خير من الذي حملني عليك‏.‏
ودخل شريك القاضي على المهدي فقال له الربيع‏:‏ خنت مال الله ومال أمير المؤمنين قال‏:‏ لو كان ذلك لأتاك سهمك‏.‏
العتبي قال‏:‏ دخل جامع المحاربي على الحجاج - وكان جامع شيخاً صالحاً خطيباً لبيباً جريئاً على السلطان وهو الذي قال للحجاج إذ بنى مدينة واسط‏:‏ بنيتها في غير بلدك وتورثها غير ولدك - لجعل الحجاج يشكو سوء طاعة أهل العراق وقبح مذهبهم‏.‏
فقال له جامع‏:‏ أما إنه لو أحبوك لأطاعوك على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك وليكن إيقاعك بعد وعيدك ووعيدك بعد وعدك‏.‏
قال الحجاج‏:‏ ما أرى أن أراد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف قال‏:‏ أيها الأمير إن السيف إذ لاقى السيف ذهب الخيار قال الحجاج‏:‏ الخيار يومئذ لله قال‏:‏ أجل ولكنك لا تدري لمن يجعله الله فغضب وقال‏:‏ يا هناه إنك من محارب فقال جامع‏:‏ فقال الحجاج‏:‏ والله لقد هممت بأن أخلع لسانك فأضرب به وجهك قال جامع‏:‏ إن صدقناك أغضبناك وإن غششناك أغضبنا الله فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله قال‏:‏ أجل وسكن‏.‏
وشغل الحجاج ببعض الأمر فانسل جامع فمر بين الصفوف من أهل الشام حتى جاوزها إلى صفوف العراق فأبصر كبكبة فيها جماعة من بكر العراق وقيس العراق وتميم العراق وأزد العراق فلما رأوه أشرأبوا إليه وقالوا له‏:‏ ما عندك دفع الله عنك قال‏:‏ ويحكم عموه بالخلع كما يعمكم بالعداوة ودعوا التعادي ما عاداكم فإذا ظفرتم تراجعتم وتعاديتم أيها التميمي هو أعدى لك من الأزدي وأيها القيسي هو أعدى لك من التغلبي وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم‏.‏
وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام واستجار بزفر بن الحارث فأجاره‏.‏
العتبي قال‏:‏ كان هارون الرشيد يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم وكان مسلم ابن الوليد صريع الغواني قد رمي عنده بالتشيع فأمر بطلبه فهرب منه ثم أمر بكلب أنس بن أبي شيخ كاتب البرامكة فهرب منه ثم وجد هو ومسلم بن الوليد عند قينة ببغداد فلما أتي بهما قيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين قد أتي بالرجلين قال‏:‏ أي الرجلين قيل‏:‏ أنس بن أبي شيخ ومسلم ابن الوليد فقال‏:‏ الحمد لله الذي أظفرني بهما يا غلام أحضرهما‏.‏
فلما دخلا عليه نظر إلى مسلم وقد أنس الهوى ببني علي في الحشا وأراه يطمح عن بني العباس قال‏:‏ بل أنا الذي أقول يا أمير المؤمنين‏:‏ أنس الهوى ببني العمومة في الحشا مستوحشاً من سائر الإيناس وإذا تكاملت الفضائل كنتم أولى بذلك يا بني العباس قال‏:‏ فعجب هارون من سرعة بديهته وقال له بعض جلسائه‏:‏ استبقه يا أمير المؤمنين فإنه من أشعر الناس وامتحنه فسترى منه عجباً فقال له‏:‏ قل شيئاً في أنس فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أفرخ روعي أفرخ الله روعك يوم الحاجة إلى ذلك فإني لم أدخل على خليفة قط ثم أنشأ يقول‏:‏ تلمظ السيف من شوق إلى أنس فالموت يلحظ والأقدار تنتظر فليس يبلغ منه ما يؤمله حتى يؤامر فيه رأيك القدر أمضى من الموت عند قدرته وليس للموت عفو حين يقتدر قال‏:‏ فأجلسه هارون وراء ظهره لئلا يرى ما هم به حتى إذا فرغ من قتل أنس قال له‏:‏ أنشدني أشعر شعر لك فكلما فرغ من قصيدة قال له‏:‏ التي تقول فيها الوحل فإني رويتها وأنا صغير فأنشده شعره الذي أوله‏:‏ أديرا علي الراح لا تشربا قبلي ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي إذا ما علت منا ذؤابة شارب تمشت به مشي المقيد في الوحل فضحك هارون وقال‏:‏ ويحك يا مسلم‏!‏ أما رضيت أن قيدته حتى جعلته يمشي في الوحل ثم أمر له بجائزة وخلي سبيله‏.‏
قال كسرى ليوشت المغني‏:‏ وقد قتل الفهليذ تلميذه كنت أستريح منك إليه ومنه إليك فأذهب حسدك ونغل صدرك شكر تمتعي وأمر أن يطرح تحت أرجل الفيلة‏.‏
فقال‏:‏ أيها الملك إذا كنت أنا قد أهبت شطر تمتعك وأذهبت أنت الشطر الآخر‏:‏ أليس جنايتك على نفسك مثل جنايتي عليك قال كسرى‏:‏ دعوه فما دله على هذا الكلام إلا ما جعل من طول المدة‏.‏
يعقوب بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس قال‏:‏ دخلت يوماً على الرشيد أمير المؤمنين وهو متغيظ متربد فندمت على دخولي عليه وقد كنت أفهم غضبه في وجهه فسلمت فلم يرد فقلت‏:‏ داهية نآد ثم أومأ إلي فجلست‏.‏
فالتفت إلي وقال‏:‏ لله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فلقد نطق بالحكمة حيث يقول‏:‏ يا أيها الزاجري عن شيمتي سفهاً عمداً عصيت مقال الزاجر الناهي أقصر فإنك من قوم أرومتهم في اللؤم فافخر بهم ما شئت أو باهي يزين الشعر أفواهاً إذا نطقت بالشعر يوماً وقد يزري بأفواه لقد عجبت لقوم لا أصول لهم أثروا وليسوا وإن أثروا بأشباهي ما نالني من غنى يوماً ولا عدم إلا وقولي عليه الحمد لله فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ومن ذا الذي بلغت به المقدرة أن يسامي مثلك أو يدانيه قال‏:‏ لعله من بني أبيك وأمك‏.‏
كان الكميت بن زيد يمدح بني هاشم ويعرض ببني أمية فطلبه هشام فهرب منه عشرين سنة لا يستقر به القرار من خوف هشام وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام يوماً إلى بعض صيوده أتى الناس يسلمون عليه وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتى فقال‏:‏ السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته أما بعد‏:‏ قف بالديار وقوف زائر وتأن إنك غير صاغر حتى انتهى إلى قوله‏:‏ يا مسلم بن أبي الولي د لميت إن شئت ناشر غلقت حبالي من حبا لك ذمة الجار المجاور فالآن صرت إلى أمي ة والأمور إلى المصاير والآن كنت به المصي ب كمهتد بالأمس حائر فقال مسلمة‏:‏ سبحان الله من هذا الهندكي الجلحاب الذي أقبل من أخريات الناس فبدأ بالسلام ثم أما بعد ثم الشعر قيل له‏:‏ هذا الكميت بن زيد‏.‏
فأعجب لفصاحته وبلاغته فسأله مسلمة عن خبره وما كان فيه طول غيبته فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه فضمن له مسلمة أمانه وتوجه به حتى أدخله على هشام وهشام لا يعرفه‏.‏
فقال الكميت‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله بركاته - الحمد لله - قال هشام‏:‏ نعم الحمد لله يا هذا - قال الكميت‏:‏ مبتدئ الحمد ومبتدعه والذي خص بالحمد نفسه وأمر به ملائكته وجعله فاتحة كتابه ومنتهى شكره وكلام أهل جنته أحمده حمد من علم يقيناً وأبصر مستبيناً وأشهد له بما شهد به لنفسه قائماً بالقسط وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده العربي ورسوله الأمي أرسله والناس في هبوات حيرة ومدلهمات ظلمة عند استمرار أبهة الضلال فبلغ عن الله ما أمر به ونصح لأمته وجاهد في سبيله وعبد ربه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وسلم‏.‏
ثم إني يا أمير المؤمنين تهت في حيرة وحرت في سكرة إدلأم بي خطرها وأهاب بي داعيها وأجابني غاويها فاقطوطيت إلى الضلالة وتسكعت في الظلمة والجهالة حائداً عن الحق قائلاً بغير صدق فهذا مقام العائذ ومنطق التائب ومبصر الهدى بعد طول العمي‏.‏
ثم يا أمير المؤمنين كم من عاثر أقلتم عثرته ومجترم عفوتم عن جرمه‏.‏
فقال له هشام وأيقن أنه الكميت‏:‏ ويحك‏!‏ من سن لك الغواية وأهاب بك في العماية قال‏:‏ الذي أخرج أبي آدم من الجنة فنسي ولم يجد له عزماً وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحاباً متفرقاً فلفقت بعضه إلى بعض حتى التحم فاستحكم وهدر رعده وتلألأ برقه فنزل الأرض فرويت واخضلت واخضرت وأسقيت فروي ظمآنها وامتلأ عطشانها فكذلك نعدك أنت يا أمير المؤمنين أضاء الله بك الظلمة الداجية بعد العموس فيها وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب إذا حمرت الحدث وعضت المغافر بالهام عز بأسك واستربط جأشك مسعار هتاف وكاف بصير بالأعداء مغزي الخيل بالنكراء مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب برأي أريب وحلم مصيب فأطال الله لأمير المؤمنين البقاء وتمم عليه النعماء ودفع به الأعداء‏.‏
فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة‏.‏
العتبي قال‏:‏ لما أتي بابن هبيرة إلى خالد بن عبد الله القسري وهو والي العراق أتي به مغلولاً مقيداً في مدرعة فلما صار بين يدي خالد ألقته الرجال إلى الأرض فقال‏:‏ أيها الأمير إن القوم الذين أنعموا عليك بهذه النعمة قد أنعموا بها علي من قبلك فأنشدك الله أن تستن في بسنة يستن بها فيك من بعدك‏.‏
فأمر به إلى الحبس فأمر ابن هبيرة غلمانه فحفروا له تحت الأرض سرداباً حتى خرج الحفر تحت سريره ثم خرج منه ليلاً وقد أعدت له أفراس يداولها حتى أتى مسلمة بن عبد الملك فاستجار به فأجاره واستوهبه مسلمة من هشام ابن عبد الملك فوهبه إياه‏.‏
فلما قدم خالد بن عبد الله القسري على هشام وجد عنده ابن هبيرة فقال له‏:‏ إباق العبد أبقت قال له‏:‏ حين نمت نومة الأمة‏.‏
فقال الفرزدق في ذلك‏:‏ لما رأيت الأرض قد سد ظهرها فلم يبق إلا بطنها لك مخرجا دعوت الذي ناداه يونس بعد ما ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة وما سار سار مثلها حين أدلجا خرجت ولم تمنن عليك شفاعة سوى حثك التقريب من آل أعوجا ودخل الناس على ابن هبيرة بعدما أمنه هشام بن عبد الملك يهنئونه ويحمدون له رأيه فقال متمثلاً‏:‏ من يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما ثم قال لهم‏:‏ ما كان وقلكم لو عرض لي أو أدركت في طريقي ومثل هذا قول القطامي‏:‏ والناس من يلق خيراً قائلون له ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل عبد الله بن سوار قال‏:‏ قال لي ربيع الحاجب‏:‏ أتحب أن تسمع حديث ابن هبيرة مع مسلمة قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ فأرسل لخصي كان لمسلمة يقوم على وضوئه فجاءه فقال‏:‏ حدثنا حديث ابن هبيرة مع مسلمة قال‏:‏ كان مسلمة بن عبد الملك يقوم من الليل فيتوضأ ويتنفل حتى يصبح فيدخل على أمير المؤمنين فإني لأصب الماء على يديه م آخر الليل وهو يتوضأ إذ صاح صائح من وراء الرواق‏:‏ أنا بالله وبالأمير فقال مسلمة‏:‏ صوت ابن هبيرة اخرج إليه‏.‏
فخرجت إليه ورجعت فأخبرته فقال‏:‏ أدخله فدخل فإذا رجل يميد نعاساً فقال‏:‏ أنا بالله وبالأمير قال‏:‏ أنا بالله وأنت بالله ثم قال‏:‏ أنا بالله وبالأمير قال‏:‏ أنا بالله وأنت بالله حتى قالها ثلاثاً ثم قال‏:‏ أنا بالله فسكت عنه ثم قال لي‏:‏ انطلق به فوضئه ولصصل ثم اعرض عليه أحب الطعام إليه فأته به وافرش له في تلك الصفة - بصفة بين يدي بيوت النساء - ولا توقظه حتى يقوم متى قام‏.‏
فانطلقت به فتوضأ وصلى وعرضت عليه الطعام فقال‏:‏ شربة سويق فشرب وفرشت له فنام وجئت إلى مسلمة فأعلمته فغدا إلى هشام فجلس عنده حتى إذا حان قيامه قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لي حاجة قال‏:‏ قضيت إلا أن تكون في ابن هبيرة قال‏:‏ رضيت يا أمير المؤمنين ثم قام منصرفاً حتى إذا كان أن يخرج من الإيوان رجع فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين عودتني أن تستثني في حاجة من حوائجي وإني أكره أن يتحدث الناس أنك أحدثت على الاستثناء قال‏:‏ لا بلغ هشام بن عبد الملك عن رجل كلام غليظ فأحضره‏.‏
فلما وقف بين يديه جعل يتكلم فقال له هشام‏:‏ وتتكلم أيضاً فقال الرجل‏:‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ‏"‏ فنجادل الله تعالى جدالاً ولا نكلمك كلاماً فقال هشام بن عبد الملك‏:‏ ويحك‏!‏ تكلم بحاجتك‏.‏



فضيلة العفو والترغيب فيه
كان للمأمون خادم وهو صاحب وضوئه فبينما هو يصب الماء على يديه إذ سقط الإناء من يده فاغتاظ المأمون عليه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله يقول‏:‏ ‏"‏ والكاظمين الغيظ ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ قد كظمت غيظي عنك‏.‏
قال‏:‏ ‏"‏ والعافين عن الناس ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ قد عفوت عنك‏.‏
قال‏:‏ ‏"‏ والله يحب المحسنين ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ اذهب فأنت حر‏.‏
أمر عمر عبد العزيز بعقوبة رجل فقال له رجاء بن حيوة‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله قد فعل ما تحب من الظفر فافعل ما يحبه من العفو‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ عزم عبد الله بن علي على قتل بني أمية بالحجاز فقال له عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم‏:‏ إذا أسرعت بالقتل في أكفائك فمن تباهي بسلطانك فاعف يعف الله عنك‏.‏
دخل ابن خريم على المهدي وقد عتب على بعض أهل الشام وأراد أن يغزيهم جيشاً فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين عليك بالعفو عن الذنب والتجاوز عن المسيء فلأن تطيعك العرب طاعة محبة خير لك من أن تطيعك طاعة خوف‏.‏
أمر المهدي بضرب عنق رجل فقام إليه ابن السماك فقال‏:‏ إن هذا الرجل لا يجب عليه ضرب العنق قال‏:‏ فما يجب عليه قال‏:‏ تعفو عنه فإن كان من أجر كان لك دوني وإن كان وزر كان علي دونك‏.‏
فخلى سبيله‏.‏
كلم الشعبي ابن هبيرة في قوم حبسهم فقال‏:‏ إن كنت حبستهم بباطل فالحق يطلقهم وإن كنت حبستهم بحق فالعفو يسعهم‏.‏
العتبي قال‏:‏ وقعت دماء بين حيين من قريش فأقبل أبو سفيان فما بقي أحد واضع رأسه غلا رفعه فقال‏:‏ ما معشر قريش هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق قالوا‏:‏ وهل شيء أفضل من الحق قال‏:‏ نعم العفو فتهادن القوم واصطلحوا‏.‏
وقال هزيم بن أبي طحمة ليزيد بن عاتكة بعد ظفره بيزيد بن المهلب‏:‏ ما ظلم أحد ظلمك ولا نصر نصرك فهل لك في الثالثة نقلها قال‏:‏ وما هي قال ولا عفا عفوك‏.‏
وقال المبارك بن فضالة‏:‏ كنت عند أبي جعفر جالساً في السماط إذ أمر برجل أن يقتل فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله‏:‏ ألا من كانت له عند الله يد فليتقدم فلا يتقدم إلا من عفا عن مذنب‏.‏
فأمر بإطلاقه‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب ‏"‏ وتقول العرب في أمثالها‏:‏ ملكت فأسجح وارحم ترحم وكما تدين تدان ومن بر يوماً بر به‏.‏
بعد الهمة وشرف النفس دخل نافع بن جبيرة بن مطعم على الوليد وعليه كساء غليظ وخفان جاسيان فسلم وجلس فلم يعرفه الوليد فقال لخادم بين يديه‏:‏ سل هذا الشيخ من هو‏.‏
فسأله فقال له‏:‏ اعزب فعاد إلى الوليد فأخبره فقال‏:‏ عد إليه واسأله فعاد إليه فقال له مثل ذلك‏.‏
فضحك الوليد وقال له‏:‏ من أنت قال‏:‏ نافع بن جبير بن مطعم‏.‏
وقال زياد بن ظبيان لابنه عبيد الله ألا أوصي بك الأمير زياداً قال‏:‏ يا أبت إذا لم يكن للحي إلا وصية فالحي هو الميت‏.‏
وقال معاوية لعمرو بن سعيد‏:‏ إلى من أوصى بك أبوك قال‏:‏ إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي قال وبما أوصى إليك قال‏:‏ أن لا يفقد إخوانه منه إلا وجهه‏.‏
وقال مالك بن مسمع لعبيد الله بن زياد بن ظبيان‏:‏ ما في كنانتي سهم أنا به أوثق مني بك قال‏:‏ وإني لفي كنانتك‏!‏ أما والله لئن كنت فيها قائماً لأطولنها ولئن كنت فيها قاعداً لأخرقنها‏.‏
وقال يزيد بن المهلب‏:‏ ما رأيت أشرف نفساً من الفرزدق هجاني ملكاً ومدحني سوقة‏.‏
وقدم عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عتاب بن ورقاء الرياحي - وهو والي خراسان - فأعطاه عشرين ألفاً فقال له‏:‏ والله ما أحسنت فأحمدك ولا أسأت فألومك وإنك لأقرب البعداء وأحب البغضاء‏.‏
وعبيد الله بن زياد بن ظبيان هذا هو القائل‏:‏ والله ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيته برأس مصعب بن الزبير فخر لله ساجداً أن لا أكون قد ضربت عنقه فأكون قد قتلت ملكين من ملوك العرب في يوم واحد‏.‏
ومن أشرف الناس همة عقيل بن علفة المري‏.‏
وكان أعرابياً يسكن البادية وكان تصهر إليه الخلفاء وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده فقال له‏:‏ جنبني هجناء ولدك‏.‏
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل من بني أمية كان له أخوال في بني مرة‏:‏ قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة‏.‏
فبلغ ذلك عقيل بن علفة فأقبل إليه فقال له قبل أن يبتدئه بالسلام‏:‏ بلغني يا أمير المؤمنين أنك غضبت على رجل من بني عمك له أخوال في بني مرة فقلت‏:‏ قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة وأنا أقول قبح الله ألأم الطرفين ثم انصرف‏.‏
فقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ من رأى أعجب من هذا الشيخ الذي أقبل من البادية ليست له حاجة إلا شتمنا ثم انصرف فقال له رجل من بني مرة‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما شتمك وما شتم إلا نفسه وقومه نحن والله ألأم الطرفين‏.‏
أبو حاتم السجستاني عن محمد بن عبد الله العتبي قال‏:‏ سمعت أبي يحدث عن أبي عمرو المري قال‏:‏ كان بنو عقيل بن علفة بن مرة بن غطفان يتناقلون وينتجعون الغيث فسمع عقيل بن علفة بنتاً له ضحكت فشهقت في آخر ضحكها فاخترط السيف وحمل عليها وهو يقول‏:‏ فرقت إني رجل فروق بضحكة آخرها شهيق وقال عقيل‏:‏ إني وإن سيق إلي المهر ألف وعبدان وذود عشر أحب أصهاري إلي القبر وقال الأصمعي‏:‏ كان عقيل بن علفة المري رجلاً غيوراً وكان يصهر إليه الخلفاء وإذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء معه‏.‏
قال‏:‏ فنزلوا ديراً من ديرة الشام يقال لها دير سعد فلما ارتحلوا قال عقيل‏:‏ قضت وطراً من دير سعد وطالماً على عرض ناطحنه بالجماجم ثم قال لابنه‏:‏ يا عملس أجز فقال‏:‏ ثم قال لابنته‏:‏ يا جرباء أجيزي فقالت‏:‏ كأن الكرى سقاهم صرخدية عقاراً تمشى في المطا والقوائم قال‏:‏ وما يدريك أنت ما نعت الخمر‏!‏ فأخذ السيف وهوى نحوها فاستعانت بأخيها عملس فحال بينه وبينها‏.‏
قال‏:‏ فأراد أن يضربه‏.‏
قال‏:‏ فرماه بسهم فاختل فخذيه فبرك ومضوا وتركوه حتى إذا بلغو أدنى ماء للأعراب قالوا لهم‏:‏ إنا أسقطنا جزروا فأدركوها وخذوا معكم الماء فإذا عقيل بارك وهو يقول‏:‏ إن بني زملوني بالدم شنشنة أعرفها من أخزم من يلق أبطال الرجال يكلم والشنشنة‏:‏ الطبيعة وأخزم‏:‏ فحل معروف وهذا مثل للعرب ومن أعز الناس نفساً وأشرفهم همماً الأنصار وهم الأوس والخزرج ابنا قيلة لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته ويتوعدهم إن لم يفعلوا أن يغزوهم‏.‏
فكتبوا إليه‏:‏ العبد تبع كم يروم قتالنا ومكانه بالمنزل المتذلل إنا أناس لا ينام بأرضنا عض الرسول ببظر أم المرسل فغزاهم تبع أبو كرب فكانوا يقاتلونه نهاراً ويخرجون إليه القرى ليلاً فتذمم من قتالهم ورحل عنهم‏.‏
ودخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك فقال له‏:‏ من أنت وتجهم له كأنه لا يعرفه‏:‏ فقال له الفرزدق‏:‏ وما تعرفني يا أمير المؤمنين قال‏:‏ لا قال‏:‏ أنا من قوم منهم أوفى العرب أسود العرب وأجود العرب وأحلم العرب وأفرس العرب وأشعر العرب‏:‏ قال‏:‏ والله لتبينن ما قلت أو لأوجعن ظهرك ولأهدمن دارك قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة الذي رهن قوسه عن جميع العرب فوفى بها‏:‏ وأما أسود العرب فقيس بن عاصم الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسط له رداءه وقال‏:‏ هذا سيد الوبر وأما أحلم العرب فعتاب بن ورقاء الرياحي وأما أفرس العرب فالحريش بن هلال السعدي أما أشعر العرب فأنذا بين يديك يا أمير المؤمنين فاغتم سليمان مما سمع من فخره ولم ينكره وقال‏:‏ ارجع على عقبيك فما لك عندنا شيء من خير‏.‏
فرجع الفرزدق وقال‏:‏ أتيناك لا من حاجة عرضت لنا إليك ولا من قلة في مجاشع وقال الفرزدق في الفخر‏:‏ بنو دارم قومي ترى حجزاتهم عتاقاً حواشيها رقاقاً نعالها وقال الأحوص في الفخر وهو أفخر بيت قالته العرب‏:‏ ما من مصيبة نكبة أرمى بها ألا تشرفني وترفع شاني وإذا سألت عن الكرام وجدتني كالشمس لا تخفى بكل مكان وقال أبو عبيدة‏:‏ اجتمعت وفود العرب عند النعمان بن المنذر فأخرج إليهم بردي محرق وقال‏:‏ ليقم أعز العرب قبيلة فليلبسهما فقام عامر بن أحيمر السعدي فاتزر بأحدهما وارتدى بالآخر فقال له النعمان‏:‏ بم أنت أعز العرب قال‏:‏ العز والعدد من العرب في معد ثم في نزار ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدلة فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني فسكت الناس‏.‏
ثم قال النعمان‏:‏ هذه حالك في قومك فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك قال‏:‏ أنا أبو عشرة وخال عشرة وعم عشرة وأما أنا في نفسي فهذا شاهدي ثم وضع قدمه في الأرض ثم قال‏:‏ من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل‏.‏
فلم يقم إليه أحد فذهب بالبردين‏.‏
ففيه يقول الفرزدق‏:‏ فما ثم في سعد ولا آل مالك غلام إذا ما سيل لم يتبهدل لهم وهب النعمان بردي محرق بمجد معد والعديد المحصل وفي أهل هذا البيت من سعد بن زيد مناة كانت الإفاضة في الجاهلية‏.‏
ومنهم بنو صفوان الذين ولا يريمون في التعريف موقفهم حتى يقال أجيزوا آل صفوانا ما تطلع الشمس إلا عند أولنا ولا تغيب إلا عند أخرانا وقال الفرزدق في مثل هذا المعنى‏:‏ ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا وكانت هنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق تقول‏:‏ من جاءت من نساء العرب بأربعة كأربعتي يحل لها أن تضع خمارها عندهم فصرمتى لها‏:‏ أبي صعصعة وأخي غالب وخالي الأقرع بن حابس وزوجي الزبرقان بن بدر فسميت ذات الخمار‏.‏
وممن شرفت نفسه وبعدت همته‏:‏ طاهر بن الحسين الخراساني وذلك أنه لما قتل محمد بن زبيدة وخاف المأمون أن يغدر به امتنع عليه بخراسان ولم يظهره خلعه‏.‏
وقال دعبل بن علي الخزاعي يفتخر بقتل طاهر بن الحسين محمداً لأنه كان مولى خزاعة ويقال إنه خزاعي‏:‏ أيسومني المأمون خطة عاجز أوما رأى بالأمس رأس محمد توفي على روس الخلائق مثل ما توفي الجبال على رؤوس القردد إني من القوم الذين هم هم قتلوا أخاك وشرفوك بمقعد وقال طاهر بن الحسين‏:‏ غضبت على الدنيا فأنهبت ما حوت وأعتبتها مني بإحدى المتالف قتلت أمير المؤمنين وإنما بقيت عناء بعده للخلائف وأصبحت في دار مقيما كما ترى كأني فيها من ملوك الطوائف وقد بقيت في أم رأس فتكة فإما لرشد أو لرأي مخالف فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة‏:‏ عتبت على الدنيا فلا كنت راضيا فلا أعتبت إلا بإحدى المتالف فمن أنت أو ما أنت يا فقع قرقر إذا أنت منا لم تعلق بكانف فنحن بأيدينا هرقنا دماءنا كثول تهادى الموت عند التزاحف ستعلم ما تجني عليك وما جنت يداك فلا تفخر بقتل الخلائف وقد بقيت في أم رأسك فتكة سنخرجها منه بأسمر راعف وقال عبد الله بن طاهر‏:‏ مدمن الإغضاء موصول ومديم العتب مملول أقصري عما لهجت به ففراغي عنك مشغول سائلي عمن تسائلني قد يرد الخير مسئول أنا من تعرف نسبته سلفي الغر بالبهاليل سل بهم تنبيك نجدتهم مشرفيات مصاقيل كل عضب مشرب علقا وغرار الحد مفلول مصعب جدي نقيب بني هاشم والأمر مجبول وحسين رأس دعوتهم بعده الحق مقبول وأبي من لا كفاء له من يسامي مجده قولوا صاحب الرأي الذي حصلت رأيه القوم المحاصيل حل منهم بالذرى شرفاً دونه عز وتبجيل نفصح الأنباء عنه إذا أسكت الأنباء مجهول سل به الجبار يوم غدا حوله الجرد الأبابيل وهبوا لله أنفسهم لا معازيل ولا ميل ملك تجتاح صولته ونداه الدهر مبذول نزعت منه تمائمه وهو مرهوب ومأمول وتره يسعى إليه به ودم يجنيه مطلول فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة وكان من أصحابه وآثرهم عنده ثم اعتذر إليه وزعم أنه لم يدعه إلى إجابته إلا قوله‏:‏ من يسامي مجده قولوا فأمر له بمائة ألف وزاده أثرة ومنزلة‏:‏ لا يرعك القال والقيل كل ما بلغت تضليل ما هوى لي كنت أعرفه بهوى غيرك موصول أيخون العهد ذو ثقة لا يخون العهد متبول حملتني كل لائمة كل ما حملت محمول واحكمي ما شئت واحتكمي فحرامي لك تحليل وبدت يوم الوداع لنا غادة كالشمس عطبول تتعاطى شد مئزرها ونطاق الخصر محلول شملنا إذ ذاك مجتمع وجناح البين مشكول ثم ولت كي تودعنا كحلها بالدمع مغسول أيها البادي بطيته ما لأغلاطك تحصيل قد تأولت على جهة ولنا ويحك تأويل إن دليلاك يوم غدا بك في الحين لضليل قاتل المخلوع مقتول ودم القاتل مطلول قد يخون الرمح عامله وسنان الرمح مصقول وينال الوتر طالبه بعد ما تسلو المثاكيل بأخي المخلوع طلت يداً لم يكن في باعها طول وبنعماه التي كفرت جالت الخيل الأبابيل إن خير القول أصدقه حين تصطك الأقاويل مراسلات الملوك العتبي عن أبيه قال‏:‏ أهدى ملك اليمن عشر جزائر إلى مكة وأمر أن ينحرها أعز قريشي‏.‏
فقدمت وأبو سفيان عروس بهند بنت عتبة فقال له‏:‏ أيها الرجل لا يشغلنك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك فقال لها‏:‏ يا هذه دعي زوجك وما يختاره لنفسه والله ما نحرها غيري إلا نحرته‏.‏
فكانت في عقلها حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع فنحرها‏.‏
زهير عن أبي الجويرية الجرمي قال‏:‏ كتب قيصر إلى معاوية‏:‏ أخبرني عما لا قبلة له وعمن لا أب له وعمن لا عشيرة له وعمن سار به قبره وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم وعن شيء ونصف شيء ولا شيء وابعث إلي في هذه القارورة ببزر كل شيء فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس‏.‏
فقال ابن عباس‏:‏ أما مالا قبلة قبله له فالكعبة وأما من لا أب له فعيسى وأما من لا عشيرة له فآدم وأما من سار به قبره فيونس وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم‏:‏ فكبش إبراهيم وناقة ثمود وحية موسى وأما شيء فالرجل له عقل يعمل بعقله وأما نصف شيء فالرجل ليس له عقل ويعمل برأي ذوي العقول وأما لا شيء فالذي ليس له عقل يعمل به ولا يستعين بعقل غيره وملأ القارورة ماء وقال‏:‏ هذا بزر كل شيء‏:‏ فبعث به إلى معاوية فبعث به معاوية إلى قيصر‏.‏
فلما وصل إليه الكتاب والقارورة قال‏:‏ ما خرج هذا إلا من أهل بيت النبوة‏.‏
نعيم بن حماد قال‏:‏ بعث ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً فيه‏:‏ من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك والذي تحته ابنه ألف ملك والذي مربطه ألف فيل والذي له نهران ينبتان العود والألوة والجوز والكافور والذي يوجد ريحه على مسيرة اثني عشر ميلاً إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئاً أما بعد فإني قد بعثت إليك بهدية وما بهدية ولكنها تحية وأحببت أن تبعث إلي رجلاً يعلمني ويفهمني الإسلام والسلام يعني الهدية الكتاب‏.‏
الرياشي قال‏:‏ لما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم‏:‏ إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها فإن كان صواباً فقد أخطأ أبوك وإن كان خطأ فما عذرك فكتب إليه‏:‏ ‏"‏ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً ‏"‏‏.‏
وكتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان‏:‏ أكلت لحم الجمل الذي هرب عليه أبوك من المدينة لأغزينك جنوداً مائة ألف ومائة ألف‏.‏
فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يبعث إلى عبد الله بن الحسن ويتوعده ويكتب إليه بما يقول ففعل فقال عبد الله بن الحسن‏:‏ إن الله عزل وجل لوحاً محفوظاً يلحظه كل يوم ثلثمائة لحظة ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء وإني لأرجو أن يكفينيك منها بلحظة واحدة‏.‏
فكتب به الحجاج إلى عبد الملك بن مروان وكتب به عبد الملك إلى ملك الروم فلما قرأه قال‏:‏ ما خرج هذا إلا من كلام النبوة‏.‏
بعث ملك الهند إلى هارون الرشيد بسيوف قلعية وكلاب سيورية وثياب من ثياب الهند فلما أتته الرسل بالهدية أمر الأتراك فصفوا صفين ولبسوا الجديد حتى لا يرى منهم إلا الحدق وأذن للرسل فدخلوا عليه فقال لهم‏:‏ ما جئتم به قالوا‏:‏ هذه أشرف كسوة بلدنا فأمر هارون القطاع بأن يقطع منها جلالاً وبراقع كثيرة لخيله فصلب الرسل على وجوههم وتذمموا من ذلك ونكسوا رؤوسهم ثم قال لهم الحاجب‏:‏ ما عندكم غير هذا قالوا له‏:‏ هذه سيوف قلعية لا نظير لها‏.‏
فدعا هارون بالصمصامة سيف عمرو بن معد يكرب فقطعت به السيوف بين يديه سيفاً سيفاً كما يقط الفجل من غير أن تنثني له شفرة ثم عرض عليهم حد السيف فإذا لا فل فيه فصلب القوم على وجوههم ثم قيل لهم‏:‏ ما عندكم غير هذا قالوا‏:‏ هذه كلاب سيورية لا يلقاها سبع إلا عقرته فقال لهم هارون‏:‏ فإن عند سبعا فإن عقرته فهي كما ذكرتم ثم أمر بالأسد فأخرج إليهم‏:‏ فلما نظروا إليه هالهم وقالوا‏:‏ فنرسلها عليه وكانت الأكلب ثلاثة فأرسلت عليه فمزقته فأعجب بها هارون وقال لهم‏:‏ تمنوا في هذه الكلاب ما شئتم من طرائف بلدنا قالوا‏:‏ ما نتمنى إلا السيف الذي قطعت به سيوفنا قال لهم‏:‏ ما كنا لنبخل عليكم ولكنه لا يجوز في ديننا أن نهاديكم بالسلاح ولكن تمنوا غير ذلك ما شئتم قالوا‏:‏ ما نتمنى إلا السيف قال‏:‏ لا سبيل إليه ثم أمر لهم بتحف كثيرة وأحسن جائزتهم‏.‏
أبو جعفر البغدادي قال‏:‏ لما انقبض طاهر بن الحسين بخراسان عن المأمون وأخذ حذره أدب له المأمون وصيفاً بأحسن الآداب وعلمه فنون العلم ثم أهداه إليه مع ألطاف كثيرة من طرائف العراق وقد واطأه على أن يسمه وأعطاه سم ساعة ووعده على ذلك بأموال كثيرة‏.‏
فلما انتهى إلى خراسان وأوصل إلى طاهر الهدية قبل الهدية وأمر بإنزال الوصيف في دار وأجرى عليه ما يحتاج إليه من التوسعة في النزالة وتركه أشهراً‏.‏
فلما برم الوصيف بمكانه كتب إليه‏:‏ يا سيدي إن كنت تقبلني فاقبلني وإلا فردني إلى أمير المؤمنين فأرسل إليه وأوصله إلى نفسه‏.‏
فلما انتهى إلى باب المجلس الذي كان فيه أمره بالوقوف عند باب المجلس وقد جلس على لبد أبيض وقرع رأسه وبين يديه مصحف منشور وسيف مسلول فقال‏:‏ قد قبلنا ما بعث به أمير المؤمنين غيرك فإنا لا نقبلك وقد صرفناك إلى أمير المؤمنين ولي عندي جواب أكتبه إلا ما ترى من حالي فأبلغ أمير المؤمنين السلام وأعلمه بالحال التي رأيتني فيها‏.‏
فلما قدم الوصيف على المأمون وكلمه بما كان من أميره ووصف له الحال التي رآه فيها شاور وزراءه في ذلك وسألهم عن معناه فلم يعلمه واحد منهم فقال المأمون‏:‏ لكني قد فهمت معناه‏:‏ أما تقريعه رأسه وجلوس على اللبد الأبيض فهو يخبرنا أنه عبد ذليل وأما المصحف المنشور فإنه يذكرنا بالعهود التي له علينا وأما السيف المسلول فإنه يقول‏:‏ إن نكثت تلك العهود فهذا يحكم بيني وبينك أغلقوا عنا باب ذكره ولا تهيجوه في شيء مما هو فيه‏.‏
فلم يهجه المأمون حتى مات طاهر بن الحسين وقام عبد الله بن طار بن الحسين مكانه فكان أخف الناس على المأمون‏.‏
وكتب طاهر بن الحسين إلى المأمون في إطلاق بن السندي من حبسه وكان عامله على مصر فعزله عنها وحبسه فأطلقه له وكتب إليه‏:‏ أخي أنت ومولاي فما ترضاه أرضاه وما تهوى من الأمر فإني أنا أهواه لك الله على ذاك لك الله لك الله قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عَبد ربِّه‏:‏ قد مضى قولًنا في مُخاطبة الملوك ومقاماتهم وما تفنَّنوا فيه من بديع حِكَمهم والتزلّف إليهم بحسن التوصل ولطيف المعاني وبارع مَنطقهم واختلاف مذاهبهم ونحن قائلون بحمد الله وتوفيقه في العلم والأدب فإنهما القُطبان اللذان عليها مَدار الدين والدنيا وفَرْقُ ما بين الإنسان وسائر الحيوان وما بين الطَّبيعة المَلَكية والطبيعة البهيمية‏.‏
وهما مادَّة العقل وسراج البدن ونُور القَلب وعماد الرُّوح وقد جَعل الله بلطيف قُدْرته وعظيم سُلطانه بعضَ الأشياء عَمَداً لبعض ومُتولِّدًا من بعض فإجالة الوَهم فيما تُدْركه الحواسّ تَبعث خواطر الذِّكر وخواطر الذكر تنبه رؤية الفِكْر وروية الفِكْر تثير مكامِن الإرادة والإرادة تُحْكم أسباب العمل فكلُّ شيء يقوم في العقل وُيمثل في الوهم يكون ذِكْرِا ثم فِكْرا ثم إرادة ثم عملا‏.‏
والعقل متقبل للعِلْم لا يعمل في غير ذلك شيئاَ‏.‏
والعلم علمان‏:‏ علم حُمِل وعلم استُعمل فما حُمل منه ضرّ وما استُعمل نَفع‏.‏
والدليل على أن العقل إنما يعمل في تقبل العُلوم كالبصر في تقبل الألوان والسمع في تقبل الأصوات أن العاقل إذا لم يُعلَّم شيئا كان كمن لا عقل له والطِّفل الصغير لو لم تعرِّفه أدبا وتُلقنه كتابا كان كأبله البهائم وأضلِّ الدواب فإن زَعم زاعمِ فقال‏:‏ إنا نجد عاقلا قليلَ العِلم‏:‏ فهو يَستعمل عقله في قلّة علمه فيكون أشدَ رأياَ وأنبه فِطنةً وأحسنَ مواردَ ومَصادِرَ من الكثير العِلم مع قَلّة العَقْل فإنَّ حُجَّتنا عليه ما قد ذكرناه من حَمْل العِلْم واستعماله فقليل العِلْم يستعمله العَقل خَيرٌ من كثيره يحفظه القلب‏.‏
قيل للمُهلِّب‏:‏ بِمَ أدركتَ ما أدركتَ قال‏:‏ بالعِلم قيل له‏:‏ فإن غيرك قد عَلم أكثر مما عَلِمتَ ولم يُدرك ما أدركت قال‏:‏ ذلك عِلم حُمِل وهذا علم استُعْمل‏.‏
وقد قالت الحكماء‏:‏ العِلمُ قائد والعَقل سائق والنَّفس ذَوْد فإذا كان قائد بلا سائق هلكت ‏"‏ الماشية ‏"‏ وإن كان سائق بلا قائد أخذتْ يميناً وشمالا وإذا اجتمعا أنابت طَوْعاً أو كَرْهاً‏.‏
فنون العلم قال سهل بن هارون يوماً وهو عند المأمون‏:‏ مِن أصناف العلم مالا ينبغي للمُسلمين أن يَرْغبوا فيه وقد يُرغب عن بعض العِلم كما يُرغب عن بَعض الحلال فقال المأمون‏:‏ قد يُسمِّي بعضُ الناسِ الشيءَ عِلماً وليس بعلمِ فإن كان هذا أردتَ فوَجْهُه الذي ذَكرتُ ولو قلتَ أيضاَ‏:‏ إِنّ العلم لا يُدْرَك غوْرُه ولا يُسْبر قَعْره ولا تُبلغ غايتهُ ولا تُستقىَ أُصوله ولا تَنْضَبط أجزاؤُه صدقتَ فإن كان الأمر كذلك فابدأ بالأهمِّ فالأهمّ والأوكد فالأوكد وبالفَرْض قبل النَّفل يكن ذلك عَدْلا قصداً ومذْهباً جَمِيلاَ‏.‏
وقد قال بعضُ الحُكماء‏:‏ لستً أَطلب العلْم طمعاً في غايته والوقوف على نِهايته ولكن التماسَ مالا يسع جَهلُه فهذا وَجهٌ لما ذكرت‏.‏
وقال آخرون‏:‏ عِلْم المُلوك والنَّسب والخَبَر وعِلمُ أصحاب الحُروب درْس كُتبِ الأيَّام والسِّير وعِلم التجَّار الكِتاب والحساب فأما أن يُسمَّى الشيء عِلماً وًينهى عنه من غير أن يُسأل عما هو أنفع منه فلا‏.‏
وقال محمد بن إدريس رضي الله عنه‏:‏ العِلم علمان‏:‏ عِلم الأبدان وعِلم الأديان‏.‏
وقال عبد الله بن مُسلم بن قُتيبة‏:‏ من أراد أن يكون عالماً فليطلب فنًا واحداً ومن أراد أن يكون أديباً فَلْيتسع في العلوم‏.‏
وقال أبو يوسُف القاضي‏:‏ ثلاثة لا يَسلمون من ثلاثة‏:‏ مَن طلب الدِّين بالفلسفة لمِ يَسلم من الزَّنْدَقَة ومَن طلب ‏"‏ المالَ ‏"‏ بالكِيمياء لم يَسلم من الفَقْر ومن طلب غرائبَ الحديث لم يَسلم من الكذب‏.‏
وقال ابن سِيرين رحمه اللهّ تعالى‏:‏ العِلْم أكثرُ من أن يُحاط به فخُذوا من كلِّ شيء أحسنه‏.‏
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما‏:‏ كَفَاك من عِلم الدِّين أن تَعرف مالا يسع جهلُه وكفاك من عِلم الأدب أن تَرْوِي الشاهد والمَثل قال الشاعر‏:‏ وما من كاتب إلا ستبقى كِتابتهُ وإن فنيت يدَاه فلا تكتب بكفِّك غير شيء يَسرّك في القِيامة أن تَراه وقالوا‏:‏ مَن أكثر من النَّحْو حَمّقه ومن أكثر من الشعر بذَّله ومن أكثر من الفِقه شرَفه‏.‏
وقال أبو نُواس الحسن بن هانئ‏:‏ كم من حَديث مُعْجِب عندي لكا لو قد نبذتَ به إليك لسركا ممَّا تَخَيَّره الرواة مُهذّب كالدُّرِّ مُنتظماً بِنحْرٍ فَلَّكَا أَتتبع العُلماءَ أكتبُ عنهمُ كيما أُحدِّثَ من لقيتُ فَيَضْحكا الحض على طلب العلم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يزال الرجلُ عالماً ما طَلب العِلم فإذا ظَنَّ أنه قد عَلِم فقد جَهل‏.‏
وقال عليه الصلاةُ والسلام‏:‏ الناسُ عالمٌ ومُتعلِّم وسائرهم هَمَج‏.‏
وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ الملائكة لتَضَع أجنحتَها لطالب العِلم رِضاً بما يَطلب وَلمِدَاد جَرت به أقلامُ العُلماء خيرٌ من دماء الشّهداء في سبيل اللّه‏.‏
وقال داود لابنه سُليمان عليهما السلام‏:‏ لفَّ العِلْم حولَ عُنقك واكتُبه في ألواح قَلبك‏.‏
وقال أيضاً‏:‏ اجعل العِلْم مالَكَ والأدب حِلْيتك‏.‏
وقيل لأبي عمرو بن العَلاء‏:‏ هل يَحْسُن بالشَيخ أن يتعلًم قال‏:‏ إن كان يَحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم‏.‏
وقال عُرْوة بن الزُّبير رحمه اللهّ تعالى ‏"‏ لبنيه ‏"‏‏:‏ يا بنيَّ اطلبوا العِلم فإن تكونوا صِغار ‏"‏ قوم ‏"‏ لا يُحتاج إليكم فعسى أن تكونوا كبارَ قوم آخرين لا يستغني عنكم‏.‏
وقال ملك الْهِند لولده وكان له أربعون ولداً‏:‏ يا بني أكثِروا من النظر في الكتب وازدادوا في كل يوم حرفاً فإن ثلاثةً لا يَستوْحشون في غُربة‏:‏ الفقِيه العالم والبَطَل الشجاع والحُلوُ اللسان الكثير مخارج الرأي‏.‏
وقال المُهَلّب لبَنِيه‏:‏ إياكم أن تجلسوا في الأسواق إلا عند زَرَّاد أو وَرَّاق أراد الزرَّاد للحرب والورَّاق للعلم‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ نِعْمَ الأنيسُ إذا خلوْتَ كِتَابُ تَلْهو به إن خانَكَ الأحبابُ لا مُفْشِياً سرّا إذا استودعتَه وتُفاد منهُ حكمةٌ وصَوَابُ وقال ‏"‏ آخر ‏"‏‏:‏ ولكلِّ طالب لذّة مُتنزَه وألذُّ نُزهة عالمٍ في كُتْبهِ ومَرَّ رجل بعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وهو جالس في المَقْبرة وبيده كتاب فقال له‏:‏ ما أَجلسك هاهنا قال‏:‏ إنه لا أوْعظَ ‏"‏ مِن ‏"‏ قبر ولا أَمتع من كتاب‏.‏
وقال رُؤْبة بن العجَّاج‏:‏ قال لي النسِّابة البَكْري‏:‏ يا رُؤبة لعلك من قوم إن سَكَتُّ عنهم لم يَسأَلوني وإن حَدَّثتُهم لم يَفْهموني قلتُ‏:‏ إني أرجو أن لا أكون كذلك‏.‏
قال‏:‏ فما آفة العلم ونَكَده وهُجْنته قلت‏:‏ تُخبرني قال‏:‏ آفتُه النسيان ونَكَده الكذب وهُجْنته نشره عند غير أهله‏.‏
وقال عبد اللهّ بن عبَّاس رضوان الله عليهما‏:‏ مَنْهومان لا يَشبعان‏:‏ طالِب علم وطالب دنيا‏.‏
وقال‏:‏ ذَلَلتُ طالباً فعَزَزْتُ مطلوباً‏.‏
وقال رجل لأبي هُريرة‏:‏ أُريد أن أطلب العِلْم وأخاف أن أضيِّعه قال‏:‏ كفاك بترك طَلَب العِلم إضاعةً له‏.‏
وقال عبد اللهّ بن مسعود‏:‏ إن الرجل لا يُولد عالماً وإنما العِلم بالتعلّم‏.‏
وأخذه الشاعر فقال‏:‏ تَعَلم فليسَ المرء يُولد عالماً وليس أخو عِلم كمن هو جاهلُ ولآخر‏:‏ ولآخر‏:‏ ولم أر فرعاً طال إلا بأصْلهِ ولم أرَ بَدْءَ العِلم إِلا تَعَلّما وقال آخر‏.‏
العِلْم يُحْي قُلوبَ الميِّتِين كما تَحْيا البلادُ إذا ما مَسَّها المَطَرُ والعِلم يَجْلو العَمَى عن قَلْب صاحِبه كما يُجَلِّي سوادَ الظُّلْمة القمَر وقال بعضً الحكماء‏:‏ اقصِد من أصناف العِلم إلى ما هو أشهى لنفسك وأخفُّ على قَلبك فإنّ نفاذَك فيه على حَسب شَهوَتك له وسُهولتِه عليك‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:15 AM

البلاغة وصفتها
قيل لعمرو بن عُبيد‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ ما بَلَّغك الجنَّة وعَدَل بِك عن النار قال السائل‏:‏ ليس هذا أُريد قال‏:‏ فما بَصَّرك مواضعَ رُشْدك وعواقبَ غَيِّك قال‏:‏ ليس هذا أريد قال‏:‏ مَن لم يحسن أن يسكت لم يُحسن أن يَسمع ومَن لم يُحسن أن يَسمع لم يحسن أن يسأل ومَن لم يُحسن أن يَسأل لم يُحسن أن يقول‏:‏ قال‏:‏ ليس هذا أُريد قال قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّا معشر ‏"‏ النبيين ‏"‏ بِكَاء - أي قليلو الكلام وهو جمع بكىء - وكانوا يكرهون أن يَزيد مَنْطق الرجل على عَقْله قال السائل‏:‏ ليس هذا أريد قال‏:‏ فكأنك تُريد تَخَيُّر الألفاظ في حُسْن إفهام قال‏:‏ نعم قال‏:‏ إنك إن أردتَ تَقْرير حُجَّة اللهّ في عُقول المُكَلَّفين وتخفيف المَؤونة على المُسْتمعين وتَزيين المعاني في قُلوب المستفهمين بالألفاظ الحَسنة رغبةً في سُرعة استجابتهمِ ونفْي الشواغل عن قلوبهم بالمَوْعظة الناطقة عن الكتَاب والسُّنَّة كُنت قد أُوتيت فَصْلَ الخِطاب‏.‏
وقيل لبعضهم‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ مَعْرفة الوَصْل من الفَصل‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ إيجاز الكلام وحَذْف الفُضُول وتَقْرِيب البعيد‏.‏
وقيل لبعضهم‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ أن لا يُؤتى القائل من سُوء فَهْم السامع ولا يُؤتى السّامع من وقال مُعاوية لصُحارٍ العَبْديّ‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ أن تُجيب فلا تُبطئ وتُصيب فلا تُخْطئ‏.‏
ثمّ قال‏:‏ أَقِلْني يا أمير المؤمنين قال‏:‏ قد أَقَلْتكَ‏.‏
قال‏:‏ لا تُبْطئ ولا تُخطئ‏.‏
قال أبو حاتم‏:‏ استطال الكلامَ الأوّل فاستقَال وتَكلّم بأوجزَ منه‏.‏
وسمع خالدُ بن صَفْوان رجلاً يتكلّم ويُكثْر فقال اعلم رحمك الله أن البلاغة ليست بحِفّة اللسان وكَثْرة الهَذَيان ولكنها بإصابَة المَعْنى والقَصْدِ إلى الحُجَّة‏.‏
فقال له‏:‏ أبا صَفْوان ما من ذَنْب أعظم من اتْفاق الصَّنعة‏.‏
وتكلّم رَبيعة الرَّأي يوماً فأكثر ‏"‏ وأُعجب بالذي كان منه ‏"‏ وإلى جَنْبه أعرابيٌّ فالتفتَ إليه فقال‏:‏ ما تَعُدّون البلاغةَ يا أعرابيّ قال‏:‏ قِلّة الكلام وإيجاز الصواب قال‏:‏ فما تَعُدّون العِيّ قال‏:‏ ما كًنت فيه منذُ اليوم‏.‏
فكأنما أَلْقمه حَجراً‏.‏
ومن أمثالهم في البلاغة قولُهم‏:‏ يُقِلّ الحزّ ويُطبِّق اْلمِفْصل‏.‏
وذلك أنّهم شَبّهوا البَلِيغ المُوجز الذي يُقل الكلام ويُصيب الفُصول والمَعاني بالجزَّار الرَّفيق يًقل حَزّ اللَّحم ويُصيب مَفاصله‏.‏
ومثله قولُهم‏:‏ يَضع الهِناء مواضع النُّقبِ أي لا يتكلّم إلا فيما يجب فيه الكلامُ مِثْل الَطالِي الرَّفيق الذي يضع الْهناء مواضع النُّقب‏.‏
وقولهم‏:‏ قَرْطَس فلان فأصاب الثغرة وأصاب عَيْن القِرْطاس‏.‏
كل هذا مَثل للمُصيب في كلامه الموجز في لَفْظه‏.‏
‏"‏ قيل للعَتّابي‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ إظهار ما غمَض من الحقّ وتَصْوير الباطل في صورة الحق‏.‏
وقيل لأعرابيّ‏:‏ مَن أَبلغ الناس قال‏:‏ أَسْهَلهم لَفظاً وأحسنهم بَدِيهة‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ نشر الكلام بمعانيه إذا قَصُر وحُسْن التأليف له إذا طال‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ قَرْع الحجَّةِ ودُنُوّ الحاجة‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ الإيجاز في غَيْر عَجْز والإطناب في غَيْر خَطَل‏.‏
وقيل لغيره‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ إقلال في إيجاز وصَواب مع سُرعة جواب‏.‏
قيل لليُونانيّ‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ تَصْحيح الأقسام واختيار الكلام‏.‏
وقيل لبعضهم‏:‏ مَن أبلغ الناس قال‏:‏ مَن ترك الفُضُول واقتصر على الإيجاز‏.‏
وكان يقال‏:‏ رسولُ الرجل مكان رَأْيه وكِتَابه مكان عَقله‏.‏
وقال جَعفر بن محمد عليه السلام‏:‏ سُمِّي البليغ بليغاً لأنه يَبلغ حاجتَه بأَهْون سعيه‏.‏
وسُئل بعضُ الحكماء عن البلاغة فقال‏:‏ مَن أخذ مَعاني كثيرة فأدَاها بألفاظ قليلة وأخذ معاني قليلة فولّد منها لفظاً كثيراً فهوِ بَليغ‏.‏
وقالوا‏:‏ البلاغة ما كان من الكلام حَسناً عند استماعه مُوجزاً عند بَدِيهته‏.‏
وقيل‏:‏ البلاغة‏:‏ لَمْحة دالّة على ما في الضَّمير‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ إذا كفاك الإيجاز فالإكثار عِيّ وإنما يَحْسن الإيجاز إذا كان هو البَيان‏:‏ ولبعضهم‏:‏ خَيْر الكلامٍ قَليلُ على كَثير دَلِيلُ والعِيُّ مَعنى قَصِيرُ يَحويه لفظٌ طَويلُ وقال بعضُ الكتَّاب‏:‏ البلاغةُ مَعْرفة الفَصْل من الوَصْل‏.‏
وأَحْسن الكلام القَصْد وإصابة المعنى‏.‏
قال الشاعر‏:‏ وإذا نَطقتَ فلا تكًن أَشِراً وآقصِدْ فخيرُ الناس مَن قصَدَا وقال آخر‏:‏ وما أحدٌ يكون له مَقالٌ فيَسْلَم من مَلامٍ أو أثامِ وقال‏:‏ الدَّهرُ ينقص تارةً ويَطولُ والمَرْءُ يَصْمت مَرَّةً ويَقُول والقولُ مخْتلف إذا حصَّلته بَعْضٌ يرَدّ وبعضُه مَقبول إذا وَضَح الصواب فلا تَدَعْه فإنّك كلّمكا ذُقْت الصَّوابَا وجدتَ له على اللّهوات بَرْداً كبَرْد الماء حين صَفا وطابا وقال آخر‏:‏ ليس شَأْنُ البليغ إرسالَه القو لَ بطُول الإسهاب والإكثار إنما شأنُهُ التَّلطُّف لِلْمَع - نىَ بحُسْنِ الإيراد والإصدْارِ وجوه البلاغة البلاغة تكون على أَرْبعة أَوْجه‏:‏ تكون باللّفظ والخطّ والإشارة والدِّلالة وكلٌّ منها له حظّ من البلاغة والبَيَان ومَوْضع لا يجوز فيه غيرُه ومنه قولُهم‏:‏ لكل مَقام مَقال ولكل كلام جَواب ورُبّ إشارة أبلغً من لفظ‏.‏
فأمّا الخطّ والإشارة فمفْهومان عند الخاصة أو أكثر العامة‏.‏
وأمّا الدِّلالة‏:‏ فكل شيء دلَّك على شيء فقد أخبرك به كما قال الحكيم‏:‏ أشهد أنّ السمواتِ والأرضَ آيات دالاّت وشَواهد قائمات كلٌّ يُؤدّي عنك الحجَّة ويَشهد لك بالرُّبوبية‏.‏
وقال آخر‏:‏ سَل الأرضِ ‏"‏ فقُل ‏"‏‏:‏ مَن شَقَّ أنهارَكِ وغَرَس أشجارَكِ وجَنَى ثمارك فإن لم تُجِبك إخباراَ أجابتك اعتباراً‏.‏
لقد جِئْتُ أبغِي لِنَفْسي مُجيراً فَجِئْت الْجبَالَ وجِئْتُ البُحُورَا فقال ليَ البحرُ إذ جِئْتُه وكيف يُجير ضريرٌ ضَريرا وقال آَخر‏:‏ نَطقتْ عَيْنُه بما في الضَّمير وقال نُصِيب بن رَباح‏:‏ فَعاجُوا فأَثْنَوْا بالذي أنت أهلُه ولو سَكتُوا أثنت عليك الحَقَائِبُ يُرِيد‏:‏ لو سكتوا لأثنت عليك حقائبُ الإبل التي يَحْتقبها الرَّكب من هِباتك‏.‏
وهذا الثَّناء إنما هو بالدَّلالة لا باللفظ‏.‏
وقال حَبِيب‏.‏
الدار ناطَقةٌ وليست تَنْطقُ بدُثورها أنَّ الجديد سَيخْلُقُ وهذا في قديم الشعرِ وحَديثه وطارفِ الكلام وتَليده أكثر من أن يُحيط به وَصْف أو يأتَي من ورائه نعْت‏.‏
وقال رجل للعتّابي‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ كل من بلّغك حاجته وأَفهمك معناه بلا إعادة ولا حُبْسة ولا استعانة فهو بَليغ‏.‏
قالوا‏:‏ قد فَهمنا الإعادة والحُبسة فما معنى الاستعانة قال‏.‏
أن يقول عند مَقاطع كلامه‏:‏ اْسمع منِّي وافهم عنِّي أو يمسح عُثْنونه أو يَفْتِل أصابعه أو يُكْثر التفاته من غير مُوجب أو يتساءل من غير سُعلة أو يَنبهر في كلامه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ مَليْء ببُهر والتفاتٍ وسُعْلة ومَسْحِة عُثْنون وفَتْل الأصابع وهذَا كلُّه من العيّ‏.‏
وقال أبْرويز لكاتبه‏:‏ اعلم أنَّ دعائم المَقالات أربع إن التُمس لها خامسة لم تُوجد وإن نَقصت منها واحدة لم تتمّ وهي‏:‏ سُؤالك الشيء وسُؤالك عن الشيء وأمْركِ بالشيء وإخبارك عن الشيء‏.‏
فإذا طلبت فأسجح وإذا سألتَ فأَوْضح وإِذا أمرت فأحكم وإِذا أَخبرت فحقِّق‏.‏
وأجمع الكَثِير مما تريد في القَليل مما تقول‏.‏
يريد الكلام الذي تَقِل حروفه وتَكثر معانيه‏.‏
وقال ربيعة الرِّأي‏:‏ إني لأسمع الحديثَ عُطْلاً فأًشنِّفه وأُقرّطه فيَحْسُن وما زِدْت فيه شيئاً ولا غيرت له معنى‏.‏
وقالوا‏:‏ خيرُ الكلام ما لم يحْتج بعدَه إلى كلام‏.‏
‏"‏ وقال يحيى‏:‏ الكلامُ ذُو فنون وخيره ما وفق له القائل وانتفع به السامع وللحسن بن جَعفر‏:‏ وفي الصمْتِ سَترٌ للعَيِّ وإِنما صَحِيفة لُبِّ المرء أن يتكلما وصف أعرابي بليغاً فقال‏:‏ كأنّ الألْسن رِيضَتْ فما تَنْعَقِد إِلا على وُده ولا تَنطق إلا ببَيانه‏.‏
وَصف أبو الوَجيه بلاغةَ رجل فقال‏:‏ كان واللّه يَشُول بلسانه شولان البَرُوق ويتخلّل به تخلًل الحيّة ‏"‏‏.‏
وللعرب من مُوجز اللّفظ ولَطِيف المعنى فًصول عَجيبة وبدائع غريبة وسنأتي على صَدْر منها إن شاء الله تعالى‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif فصول من البلاغة
قدم قُتيبة بن مُسلم خُراسانَ والياً عليها فقال‏:‏ مَن كان في يده شيء من مال عبد الله بن خازم فَلْيَنْبِذْه وإن كان في فيه فَليَلْفِظه وإن كان في صَدْره فَلْيَنْفُثْه‏.‏
فَعَجب الناس من حُسن ما فصّل‏.‏
وقيل لأبي السَّمًال الأسديّ أيامَ مُعاوية‏:‏ كيف تركتَ الناس قال‏:‏ تركتُهم بين مظلوم لا يَنْتَصف وظالم لا يَنتهي‏.‏
وقيل لشَبيب بن شَيْبة عند باب الرَّشيد‏:‏ كيف رأيتَ الناس قال‏:‏ رأيت الداخلَ راجياً والخارج راضياً‏.‏
وقال حسّان بن ثابت في عبد الله بن عبّاس‏:‏ إذا قال لم يَتْرك مَقالا لقائلٍ بمْلْتَقطات لا نَرَى بينها فَضْلا كَفي وَشَفي ما في النُّفوس ولم يَدَعْ لذي إِرْبة في القَوْل جِدّاً ولا هَزْلا ولَقي الحُسين بن عليّ رضوان الله عليهما الفرزدقَ في مَسيره إلى العراق فسأله عن الناس فقال‏:‏ القُلوب معك والسُّيوِف عليك والنَّصر في السماء‏.‏
وقيل لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام‏:‏ كم بين المَشرق والمَغرب فقال‏:‏ مَسيرة يوم للشمس قيل له‏:‏ فكم بين السماء والأرض قال‏:‏ مَسيرة ساعة لدَعْوة مُستجابة‏.‏
وقيل لأعْرابي‏:‏ كم بين مَوْضع كذا وموضع كذا قال‏:‏ بَياضُ يوم وسَواد ليلة‏.‏
وشكا قوم إلى المَسيح عليه السلام ذنوبهم فقال‏:‏ اتركوها تُغفَر لكم‏.‏
وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ قِيمة كلِّ إنسان ما يحسن‏.‏
وقيل لخالد بن يَزيد بن مُعاوية‏:‏ ما أقربُ شيء قال‏:‏ الأجل قيل له‏:‏ فما أبعدُ شيء قال‏:‏ الأمل قيل له‏:‏ فما أوْحش شيء قال‏:‏ الميّت قيل له‏:‏ فما آنس شيء قال‏:‏ الصاحب المُواتي‏.‏
مَرّ عمرو بن عُبيد بسارق يُقْطع فقال‏:‏ سارق السَّريرة يَقطع سارق العلانية‏.‏
وقيل للخليل بن أحمد‏:‏ مالك تَرْوي الشِّعر ولا تَقُوله قال‏:‏ لأني كالمِسَنّ أشْحذ ولا أقْطع‏.‏
وقيل لعَقِيل بن عًلَّفةَ‏:‏ ما لَك لا تًطيل الهجاء قال‏:‏ يَكْفيك من القِلادة ما أَحاط بالعُنق‏.‏
ومَرِّ خالد بن صَفْوان برجل صَلَبه الخَلِيفة فقال‏:‏ أَنْبتته الطاعة وحَصَدته المَعْصية‏.‏
ومرَّ أَعرابيّ برجل صَلبه السلطان فقال‏:‏ مَن طَلّق الدنيا فالآخرة صاحبتُه ومن فارق الحق ومن النطق بالدِّلالة ما حدّث به العبَّاس بن الفرج الرِّياشي قال‏:‏ نزل النعمان بن المنذر ومعه عديّ بن زيد العِبَاديّ في ظل شَجرة مُورقة ليلهوَ النعمان هناك فقال له عَدِيّ‏:‏ أبيتَ اللعنَ أتدري ما تقول هذه الشجرة قال‏:‏ ما تقول قال تقول‏:‏ رب شَرْبٍ قد أناخُوا حولَنا يَمْزُجون الخمرَ بالماء الزُّلالْ ثم أضحَوْا عَصَف الدهرُ بهم وكذاك الدهرُ حال بعد حال فتَنغّص على النعمان ما هو فيه‏.‏
‏"‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ قلت للفضل‏:‏ ما الإيجاز عندك قال‏:‏ حذف الفضول وتقريب البعيد ‏"‏‏.‏
وقال رجلٌ لخالد بن صَفْوان‏:‏ إنك لتًكْثر قال‏:‏ أكثر لضَرْبين أحدهما فيما لا تُغني فيه القِلْة والآخر لتمرين اللّسان فإنَّ حَبْسه يُورِث العُقلة‏.‏
وكان خالدُ بن صَفْوان يقول‏:‏ لا تكونُ بليغاً حتى تُكلِّم أمَتك السَّوداء في اللّيلة الظَّلماء في الحاجة المُهِمَة بما تَتكلَّم به في نادي قَومك‏.‏
وإنما اللّسان عُضو إذا مَرّنته مَرَن وإذا تَركته لَكِنَ كاليد تُخَشِّنها بِالمُمَارسة والبَدنِ الذي تُقوِّيه برَفّع الحجر وما أشبهه والرِّجْل إذا عُوِّدت المشي مشت‏.‏
وكان نوفلُ بن مُساحق إذا دخل على امرأته صَمت فإذا خرج عنها تكلّم فقالت له‏:‏ إذا كنتَ وذكر شَبِيبُ بن شيبة خالدَ بن صَفْوان فقال‏:‏ ليس له صَدِيق في السِّر ولا عدوٌّ في العَلاَنية‏.‏
وهذا كلام لا يَعرف قَدْره إلا أهلُ صناعته‏.‏
‏"‏ وَوَصف رجلٌ آخرَ فقال‏:‏ أتَيناه فأخرج لسانَه كأنّه مِخْراق لاعب‏.‏
ودَخل مَعن بن زائدة على المَنْصُور يُقارب خَطْوه فقال المنصور‏:‏ لقد كَبرتْ سنّك قال‏:‏ في طاعتك قال‏:‏ وإنك لَجلْد قال‏:‏ على أعدائك قال‏:‏ أرى فيك بقية قال‏:‏ هي لك‏.‏
وكان عبد الله بن عبَّاس بليغاً فقال فيه مُعاوية‏:‏ إذا قال لم يَتْرك مقالاً ولم يَقِفْ لعِيّ وِلم يَثْنِ اللسانَ على هُجْر يُصَرِّفُ بالقول اللسانَ إذا انتحَى ويَنظُر في أعْطافه نَظَر الصَّقر وتكلّم صَعْصَعَةُ بن صُوحان عند مُعاوية فَعَرِق فقال له مُعاوية‏:‏ بَهرك القولُ قال‏:‏ الجياد نَضَّاحة بالعَرَق‏.‏
وكتب ابن سَيَابة إلى عمرو بن بانة‏:‏ إنَّ الدهر قد كَلَحَ فَجَرح وطَمحَ فجَمح وأفسد ما صَلَح فإن لم تُعِنْ عليه فَضَح‏.‏
ومَدح رجل من طَيئ كلامَ رجل فقال‏:‏ هذا الكلامُ يُكْتَفي بأُولاه ويُشْتَفي بأًخْراه‏.‏
ووَصف أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ إنَّ رِفْدَك لَنجيح وإن خيرك لصَرِيح وإن مَنْعك لمُرِيح‏.‏
ودخل إياسُ بنُ معاويةَ الشامَ وهو غلام فقدِّم خصماً له إلى قاضٍ لعبد الملك ‏"‏ وكان خَصْمه شيخاً كبيراً ‏"‏‏.‏
فقال له القاضي‏:‏ أتقدِّم شيخاً كبيرأً فقَال له إياس‏:‏ الحقُّ أكبرُ منه قال له‏:‏ اسكت قال‏.‏
فمن يَنْطق بحُجَّتي قال‏:‏ ما أظنّك تقُول حقّاً حتى تقُوم قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا اللّه‏.‏
فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأَخبره بالخبر فقال‏:‏ اقض حاجتَه الساعة وأَخْرجه من الشام لا يُفْسِد عليّ الناسَ‏.‏
ومن الأسْجاع قولُ ابن القِرِّيّة وقد دُعي لكلام فاحتبَسٍ القولُ عليه فقال‏:‏ قد طال السَّمر وسَقَط القَمر واشتَدّ المَطر فما أنتظر‏.‏
فأجابه فتى من عبد القيس‏:‏ قد طال الأَرَق وسقَط الشَفق فَلْينطق من نَطَق‏.‏
قال أحمد بنُ يوسف الكاتب‏:‏ دخلتُ على المأمون وبيده كتابٌ لعمرو بن مَسْعدة وهو يُصَعِّد في ذُراه ويقوم مَرَّة ويَقْعد أخرى ففعل ذلك مراراً ثم التفت إليَّ فقال‏:‏ أَحْسَبك مُفكِّراً فيما رأيتَ قلتُ‏:‏ نعمٍ وَقَى الله عزّ وجلّ أميرَ المؤمنين المَكاره فقال‏:‏ ليس بَمكْروه ولكن قرأتُ كلاما نَظِير خَبرٍ خَبّرني به الرشيدُ سمعتُه يقول‏:‏ إنَّ البَلاغة لتَقاربٌ من المَعنى البَعيد وتَباعدٌ من حَشْو الكلام ودَلالة بالقَلِيل على الكثير‏.‏
فلم أتوَهّمٍ أنّ هذا الكلامَ يَسْتَتِبّ على هذه الصِّفة حتى قرأتُ هذا الكتابَ فكان استعطافاً على الجُنْد وهو‏:‏ كتابي إلى أمير المؤمنين أَيَّدَه اللّه ومَن قِبَلي من أجناده وقُوّاده في الطاعة والانقياد على أفضل ما تكون عليه طاعةُ جًنْد تأخّرت أرزاقُهم واختّلت أحوالُهم‏.‏
فأَمر بإعطائهم ثمانيةَ أشهر‏.‏
ووَقع جَعْفر البرمكيّ إلى كُتَّابه‏:‏ إن اْستطعتُم أن تكون كُتًبكم تَوْقيعات فافعلوا‏.‏
وأمره هارون الرشيد أن يَعْزل أخاه الفضلَ عن الخاتَم ويأخذَه إليه عَزْلاً لَطيفاً‏.‏
فكتب إليه‏:‏ قد رَأَى أميرُ المؤمنين أن يَنْقُل خاتَم خِلافته من يمينك إلى شِمالك فكَتب إليه الفضلُ‏:‏ ما انتقلتْ عني نِعمة صارت إليك ولا خَصَّتك دوني‏.‏
ووَقع جعفرٌ في رُقْعة رجل تنَصل إليه من ذَنب‏:‏ تقدمت لك طاعة وظَهرت منك نَصيحة كانت بينهما نَبْوة ولن تَغْلِب سيَئة حسَنَتين‏.‏
قال الفضْل بن يحيى لأبيه‏:‏ ما لنا نُسْدِي إلى الناس المَعروف فلا نرى من السُّرور في وُجوههم عند انصرافهم ببِرنا ما نراه في وُجوههم عند آنصرافِهم ببِرَ غيرنا فقال له يَحيى‏:‏ إن آمال الناس فينا أطولُ منها في غيرنا وإنما يُسَر الإنسانُ بما بَلِّغه أملَه‏.‏
قيل ليحيى‏:‏ ما الكرمُ قال‏:‏ مَلِك في زِيّ مِسكين قيل‏:‏ فما الفَرْعنة قال‏:‏ مِسكين في بَطْش عِفريت قيل‏:‏ فما الجودُ قال‏:‏ عَفْو بعد قُدرة‏.‏
أُتي المأمونُ برجل قد وَجَب عليه الحدُّ فقال وهو يُضرب‏:‏ قَتَلتني يا أميرَ المؤمنين قال‏:‏ الحقَّ قَتَلك قال‏:‏ ارحَمني قال‏:‏ لستُ أرْحمَ بك ممن أوجبَ عليك الحدَ‏.‏
وسأل المأمون عبد الله بن طاهر في شيء فأسرع يفي ذلك فقال له المأمون‏:‏ فإنّ الله عزّ وجلّ قد قَطع عُذْر العَجول بما مكَّنه من التثبُّت وأَوْجب الْحُجَّة على القَلِق بما بَصَّره من فضْل الأناة‏.‏
قال‏:‏ أتأذن لي يا أميرَ المؤمنين أن أكتُبه قال‏:‏ نعم فكَتبه‏.‏
قال إبراهيمُ بن المهديّ قال لي المأمونُ‏:‏ أنت الخليفة الأسْود قلت‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أنت مَنَنت عليّ بالعَفو وقد قال عبدُ بني الْحَسْحاس‏:‏ أشعارُ عَبْد بنيِ الْحَسْحاس قُمْنَ له عند الفَخار مَقامَ الأصل والوَرقِ إن كنتُ عبداَ فنَفْسي حُرِّة كَرَماً أَو أَسْودَ الْجلْد إني أَبْيضُ الخُلُقِ فقال المأمون‏:‏ يا عمُّ خرّجك الهَزْل إلى الجد ثم أنشأ يقول‏:‏ ليس يُزْرِي السواد بالرَّجلِ الشَّهم ولا بَالفتى الأديب الأريبِ إن يكُن للسّواد مِنك نصِيبٌ فبَيَاض الأخلاق منك نَصيبي قال المأمون‏:‏ أسْتحسن من قول الحُكماء‏:‏ الجودُ بَذْل المَوْجود والبُخل بَطَر بالمَعْبود عزّ وجلّ‏.‏
قالت أُمُّ جعفر زُبيدة بنت جعفر للمأمون حين دَخلت عليه بعد قتْل ابنها‏:‏ الحمد لله الذي ادّخرك لي لمَّا أثكَلني وَلَدي ما ثكِلت ولداً كنتَ لي عوضاً منه‏.‏
فلما خرجَت قال المأمون لأحمد بن أبي خالد‏:‏ ما ظننتُ أن نِساءَ جُبلن على مِثل هذا الصَّبر‏"‏‏.‏
وقال أبو جَعفر لعمرو بن عُبيد‏:‏ أعنِّي بأصحابك يا أبا عُثمان قال‏:‏ ارفع عَلَم الحقّ يَتْبعك أهلُه‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif آفات البلاغة
قال محمد بن منصور كاتبُ إبراهيم وكان شاعراً راوياً وطالباً للنحو عَلامة قال سمعتُ أبا دُواد ‏"‏ بن جرير الإيادي ‏"‏ وجَرى شيء من ذِكْر الخُطَب وتَمْييز الكلام فقال‏:‏ تَلْخيصُ المَعاني رِفق والاستعانة بالغَريب عَجْز والتَّشادُق في غير أهل البادية نَقْص والنَّظر في عُيون الناس عِيّ ومَسُ اللِّحية هَلَع والخُروج عما بُني عليه الكلام إسْهاب‏.‏
قال‏:‏ وسمعتهُ يقول‏:‏ رَأْسُ الخَطابة الطبْع وعَمُودها الدربة ‏"‏ وجناحاها رواية الكلام ‏"‏ وحَلْيُها الِإعراب وبَهاؤها تخيّر اللَفظ والمَحبَّة مَقرونة بقلّة الاستكراه‏.‏
وأنشدني بيتاً في خُطباء إياد‏:‏ يَرْمُون بالخُطب الطِّوال وتارةً وَحْي المَلاَحظ خِيفَةَ الرُّقباءِ وقال ابن الأعرابيّ‏:‏ قلتُ للفَضْل‏:‏ ما الايجاز عندك قال‏:‏ حَذْف الفُضول وتَقْريب البَعيد‏.‏
وتكلم ابن السمَّاك يوماً وجارية له تَسمعِ ‏"‏ كلامه ‏"‏ فلما دخل ‏"‏ إليها ‏"‏ قال لها‏:‏ كيف سمعتِ كلامي ‏"‏ قالت‏:‏ ما أَحسنه‏!‏ لولا أنك تُكْثِر ترْدادَه‏!‏ قال‏:‏ أرِدده حتى يَفهمه مَن لم يفهمه ‏"‏ قالت‏:‏ إلى أن تًفَهِّمه من لم يَفْهمه يكون ‏"‏ قد ‏"‏ مَلَّه من فَهمِه‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب الحلم ودفع السيئة بالحسنة
قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ وَلاَ تَسْتَوِى الحسنةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَن فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة كأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيم‏.‏
وَمَا يُلَقَاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوَا وَمَا يُلًقّاهَا إِلا ذو حظٍّ عَظِيم ‏"‏‏.‏
وقال رجل لعمرو بن العاص‏:‏ والله لأتفرَّغنَّ لك قال‏:‏ هنالك وقعت في الشغل قال‏:‏ كأنك تهددني والله لئن قلت لي كلمة لأقولنِّ لك عشراً قال‏:‏ وانت والله لئن قلت لي عشراً لم اقل لك واحدة وقال رجل لأبي بكر رضي الله عنه‏:‏ واللهّ لأَسُبَّنك سبًّا يَدْخل القبرَ معك قال‏:‏ معك يَدْخل لا مَعي‏.‏
وقيل لعمرو بن عُبيد‏:‏ لقد وَقع فيك اليومَ أيّوب السِّخْتِياني حتى رَحِمناك قال‏:‏ إياه فارحموا‏.‏
وشَتم رجلٌ الشَعبَيّ فقال له‏:‏ إن كنتَ صادقاً فغَفر اللهّ لي وإن كنتَ كاذباً فغفر الله لك‏.‏
وشَتم رجلٌ أبا ذَرًّ فقال‏:‏ يا هذا لا تُغْرق في شَتْمنا ودَعْ للصُّلح مَوْضعاً فإنا لا نًكافيء مَن عمى الله فينا بأكثر من أن نُطيع الله فيه‏.‏
ومَرَّ المَسيح بن مَرْيم عليه الصلاةُ والسلام بقوم من اليهود فقالوا له شرًّا فقال خيراَ فقيل له‏:‏ وقال الشاعر‏:‏ ثَالَبني عَمْرٌو وثَالبته فأُثِّم المَثْلوب والثَّالبُ قلتُ له خيراً وقال الخنى كل على صاحبِه كاذِب وقال آخر‏.‏
وذي رَحِمٍ قَلّمْت أَظفار ضغنه بِحِلْميَ عنه حين ليس له حِلْمُ إذا سُمْتهُ وَصْلَ القَرابة سامَني قطيعَتها تلك السّفاهة والِإُثم فداويتُه بالحِلْم والمَرْءُ قادرٌ على سَهْمه ما كان في كَفِّه السًهم ‏"‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما تجرّع عَبد في الدنيا جرْعةً أحب إلى اللهّ من جَرْعة غيظ رَدّها بحِلْم أو جَرْعة مُصيبة ردها بصَبْر ‏"‏ وكتب رجل إلى صديق له وبلَغه أنه وَقع فيه‏:‏ لئن ساءَني أن نِلْتِني بمَساءةٍ لقد سَرَّني أَنِّي خَطّرْتُ ببالك وأنشد طاهرُ بن عبد العزيز‏:‏ إذا ما خَليلي أَسا مَرَّةً وقد كان فيما مضى مُجْمِلاَ ذكرتُ المقدم من فِعْلهِ فلم يفسد الآخرُ الأوّلا قيل للأحنف بن قيس‏:‏ ممنِ تعلَّمت الحِلْم قال‏:‏ من قيس بن عاصم المِنْقريّ رأيتهُ قاعداً بفِناء داره مُحْتبياَ بحمائل سَيْفه يُحَدِّث قَومه حتى أُتي برجُل مكتوف ورجُل مقتول فقيل له‏:‏ هذا ابن أخيك قَتل ابنك فواللّه ما حَل حَبْوته ولا قطَع كلامه ثم التفت إلى ابن أخيه فقال له‏:‏ يا بن أخي أَثِمت برّبك ورَمَيت نفسَك بسَهْمك وقتلتَ ابن عمك‏.‏
ثم قال لابن له آخر‏:‏ قم يا بني فوارِ أخاك وحُلّ كِتاف ابن عمك وسُق إلى أُمِّه مائة ناقة ديةَ ابنها فإنها غَريبة ثم أنشأ يقول‏:‏ إِنِّي امرؤ لا شائنٌ حَسَبي دَنَس يهجنه ولا أفْنُ من مِنْقرٍ في بيت مكْرُمة والغُصن يَنْبُت حولَه الغُصْن خطباء حي يقول قائلُهم بيضُ الوُجوه أعفّه لُسْن لا يفطنون لعَيْب جارهمُ وهمُ لحفْظ جِواره فُطْنُ وقال رجل للأحنف بن قَيْس‏:‏ علِّمني الْحِلم يا أبا بَحْر قال‏:‏ هو الذُّل يا بن أَخي أَفتصبر عليه وقال الأحنف‏:‏ لستُ حليماً ولكنّي أتحالم‏.‏
وقيل ‏"‏ له ‏"‏‏:‏ مَن أَحلمُ‏:‏ أنت أم معاوية قال‏:‏ تا للّه ما رأيتُ أجهلَ منكم إنّ معاويةَ يَقْدِر فيَحْلُم وأنا أَحلُم ولا أقدِر فكيف أُقاس عليه أو أُدانيه‏!‏ قال‏:‏ إن شئتَ أخبرتُك بخَلَّة وإن شئت بخَلَّتين وإن شئت بثلاث قال‏:‏ فما الخَلَّة قال‏:‏ كان أَقوى الناس على نفسه قال‏:‏ فما الخلتان قال‏:‏ كان مُوَقّي الشر مُلَقّي الخَيْر قال‏:‏ فما الثلاث قال‏:‏ كان لا يجهل ولا يبْغي ولا يَبْخل‏.‏
وقيل لقَيْس بن عاصم‏:‏ ما الْحِلم قال‏:‏ أن تَصِل مَن قطَعك وتُعْطي مَن حرَمَك وتعفو عَمَّن ظلَمك‏.‏
وقالوا‏:‏ ما قرن شيء إلى شيء أَزينُ من حِلْم إلى عِلْم ومن عَفْو إلى قُدْرة‏.‏
وقال لُقمانُ الحكيم‏:‏ ثلاثة لا تَعْرفهم إلا في ثلاثة‏:‏ لا تعرف الحليم إلا عند الغضب ولا الشجاع إلا عند الحَرْب ولا تَعْرف أخاك إلا إذا احتجت إليه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ ليْست الأحلامُ في حي الرِّضا إنما الأحلامُ في حين الغَضَبْ وفي الحديث‏.‏
أقرب ما يكون المَرْء من غَضَب الله إذا غَضِب‏.‏
وقال الحسن‏:‏ المؤْمن حَليم لا يَجهل وإن جُهل عليه وتلا قولَ الله عز وجلَّ‏:‏ ‏"‏ وَإذَا خاطَبَهُمْ الجاهلونَ قَالُوا سَلاماً ‏"‏‏.‏
وقال معاوية‏:‏ إني لأستحي من ربيِّ أن يكون ذَنْبٌ أعظمَ من عفوي أو جَهْل أكبرَ من حِلْمي وقال مُؤَرِّق العِجْليّ‏:‏ ما تكلّمت في الغَضب بكلمة ندمتُ عليها في الرِّضا‏.‏
وقال يزيدُ بن أبي حَبيب‏:‏ إنما غَضَبي في نَعْليّ فإذا سمعت ما أكره أخذتُهما ومَضيت‏.‏
وقالوا‏:‏ إذا غَضِب الرجلُ فَلْيَسْتَلق على قفاه وإذا عَيِيَ فَليرَاوح بين رِجْلَيْهِ‏.‏
وقيل للأحنف‏:‏ ما الحِلْم فقال‏:‏ قوْل إن لم يكنِ فعل وصَمْت إن ضَرَّ قوْل‏.‏
وقال ‏"‏ أمير المؤمنين ‏"‏ علِيٌ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ مَن لانَتْ كلمته وجبت مَحبَّتهُ‏.‏
وقال‏:‏ حِلْمك على السًفيه يكثر أنصارك عليه‏.‏
وقال الأحنف‏:‏ مَن لم يصبر على كلمة سَمِع كلمات‏.‏
وقال‏:‏ رب غَيْظ تجرعته مخافةَ ما هو أشدُّ منه وأنشد‏:‏ رَضيتُ بِبَعْض الذُّلِّ خوفَ جميعه كذلك بعضُ الشر أهونُ من بَعْض وأسمع رجلٌ عمر بن عبد العَزيز بعضَ ما يَكْره فقال لا عليك إنّما أردتَ أن يَسْتِفزَّني الشيطانُ بعزة السلطان فأنال منك اليوم ما تنالُه مني غداً انصرفْ إذا شئت‏.‏
وقال الشاعرُ في هذا المعنى‏:‏ لَنْ يًدْرِك المجدَ أقوامٌ وإن كَرُموِا حتى يَذِلُوا وإن عَزُوا لأقوام ويُشْتَموا فترَى الألوانَ كَاسفةَ لا ذلَ عَجْزٍ ولكنْ ذُلِّ أحْلام إذا قِيلت العوراءُ أغضى كأنّه ذَلِيل بلا ذُلِّ ولو شاء لانتصرْ وأحسن بيْت في الحِلْم قولُ كَعْب بنِ زُهير‏:‏ إذا أنت لم تُعْرِض عن الجهل والخَنَى أصبتَ حَليماً أو أصابك جاهلُ وقال الأحنفُ آفةُ الحِلْم الذّلّ‏.‏
وقال لا حِلْم لمَن لا سَفِيه له‏.‏
وقال‏:‏ ما قلَّ سُفهاء قَوْم إلا ذَلْوا‏.‏
وأنشد‏:‏ لابدَّ للسًّودد من رِماح ومِن رِجالٍ مُصَّلَتي السِّلاح يُدَافعون دونه بالرَّاح ومِنْ سَفيهٍ دائم النباح وقال النَابغة الجعديّ‏:‏ ولا خير في حِلْمٍ إذا لم تَكُنْ له بَوادرُ تَحُمِي صَفْوَه أن يُكَدَرَا ‏"‏ ولا خَير في جَهْل إذا لم يَكُن له حَلِيم إذا ما أَوْرد الأمر أصْدرا ‏"‏ ولمّا أنشدَ هذين البيتن للنبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا يَفْضُض اللهّ فاك ‏"‏ قال ‏"‏‏:‏ فعاش مائة وثلاثين سنةً لم تَنْغَضْ له ثَنيَّة‏.‏
وقالوا‏:‏ لا يَظهر الحِلْم إلاِّ مع الانتصار كما لا يَظهر العَفو إلاّ مع الاقْتدار‏.‏
وقال الأصمعيّ‏:‏ سمعتُ أعرابيَّاً يقول‏:‏ كَان سِنانُ بن أبي حارثة أحلمَ من فَرْخ الطائر قلت‏:‏ وما حِلْم فرخ الطائر قال‏:‏ إنّه يخرج من بَيْضة في رأس نِيق ولا يتحوَل حتى يتوفّر ريشه ويَقْوى على الطيران‏.‏
‏"‏ وللأشْنَنْدانيّ‏:‏ وفي اللّين ضَعْفٌ والشَّراسة هَيْبةٌ ومَن لا يُهَب يُحْمَل على مَرْكب وَعْرِ وللفقر خيرٌ من غِنى في دَنَاءَةً ولَلْمَوتُ خيرٌ من حياة على صُغر وما كُلَّ حين يَنْفع الْحِلْمُ أَهْلَه ولا كُلَّ حالٍ يَقْبُح الْجَهلُ بالصَّبر وما بي عَلى مَن لان لي مِنْ فَظَاظَةٍ ولكنّني فَظّ أَبيٌّ على القَسرْ وقَال آخر في مَدح اَلحِلْم‏:‏ إني أرى الحِلْم مَحْمُوداً عواقبُه والجَهْلُ أفنَى من الأقوام أقوامَا ولسَابق‏:‏ ألمِ تَرَ أنّ الحِلْم زَيْنٌ مُسَوِّدٌ لصاحبه والجَهْلَ لِلْمرء شائِنُ فكن دافناً للجهل بالحِلْم تَسْتَرح من الجهل إنّ الحِلم للجَهْل دافِنُ ولغيره‏:‏ فيا ربِّ هَبْ لي منك حَلماً فإنني أرى الحِلْم لم يندم عليه حليم وقال بعضً الحُكماء‏:‏ ما حَلا عِنْدي أفضل من غَيْظ أتجرّعه‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ وفي الحِلم رَدْعٌ للسَّفِيه عن الأذى وفي الخُرْق إغراءٌ فَلا تَكُ أَخْرَقَا فَتَنْدَمَ إذ لا تَنْفَعَنْك ندامةٌ كما ندِم المَغْبُونُ لَمَا تَفَرَّقا وقال علي عليه السلام‏:‏ أوّل عِوَض الحَليم عن حِلْمه أن الناسَ أنصارُه على الجاهل‏.‏
سُئل كِسْرى أنو شرِوان‏:‏ ما قَدْر الحِلْم فقال‏:‏ وكيف تَعْرِفُ قَدْر ما لم يَرَ كَمَالَه أحد‏.‏
وقال مُعاوية لخالد بن المُعَمَّر‏:‏ كيف حُبُّك لعليّ بن أبي طالب عليه السلامُ قال‏:‏ أُحِبّه لثلاثِ خِصال‏:‏ على حِلمه إذا غَضِب وعلى صِدقة إذا قال وعلى وَفائه إذا وَعد‏.‏
وكان يُقال‏:‏ ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه استَكْمل الإيمان‏:‏ من إذا غَضِب لم يُخْرِجْه غَضَبُه عن الحقّ ومَن إذا رَضيَ لَم يُخرِجه رِضاهُ إلى الظلم والباطل ومن إذا قَدَر لم يَتَناول ما ليس له‏.‏
وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ إذا سَمعت الكلمةَ تُؤْذِيك فطَأْطِىء لها حتى تَتخطاك‏.‏
وقال الحسنُ‏:‏ إنما يُعْرف الحِلم عند الغَضَب‏.‏
فإذا لم تَغْضب لم تَكن حِليماً وقال الشاعر‏:‏ وليس يَتِمًّ الحِلْم لِلمَرْء راضِياً إذا هو عند السُّخط لم يَتَحِلَّم وقال بعضُ الحكماء‏:‏ إنّ أفضلَ وادٍ تُرى به الحِلْمُ فإذا لم تكن حَلِيماً فتحلّم فإذا لم تكن عَلِيماً فتعلِّم فقلَّما تشبَّه رجلٌ بقَوْم إلا كان منهم‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ الحِلم عُدَّة على السّفيه لأنك لا تُقابل سفيهاً بالإعراض عنه والاستخفاف بفِعْله إلا أَذْللتَه‏.‏
ويقال‏:‏ ليس الحَلِيم مَن ظُلِم فَحَلُم حتى إذا قَدَر انْتَقم ولكنَّ الحَلِيم من ظُلِم فَحَلُم ثمّ قَدَر فَعَفا‏.‏
وللأحنف أو غيره‏:‏ ولربما ضحِك الحَليمُ من الأذىَ وفؤادهُ من حَرِّه يَتأَوَّهُ ولرًبَّما شَكَلَ الحليمُ لسانَهَ حَذَرَ الجواب وَإنّه لمُفَوَّه وقيل‏:‏ ما استَبَ اثنان إلا غَلب ألأمُهما‏.‏
وقال الأحنف‏:‏ وجدتُ الحلم أنصرَ لي من اِلرِّجال‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ إيّاك وعِزَّةَ الغَضب فإنها تصَيرك إلى ذلّ الاعتذار‏.‏
وقيل‏:‏ مَن حَلُم ساد ومَن تَفهَّم ازداد‏.‏
وقال الأحنف‏:‏ ما نازعني أحد قط إلا أخذتُ أمري بإحدى ثلاث‏:‏ إن كان فوقي عرفتُ قدرَه وإن كان دُوني أكرمتُ نفسي عنه وإن كانَ مثلي تفَضَّلت عليه‏.‏
ولقد أَحْسن الذي أخذ هذا المعنى فَنَظَمه فقال‏:‏ إذا كان دُوني مَنْ بُليت بجَهْله أَبَيْتُ لِنَفْسي أن تُقَارع بالجَهْل وإن كان مثلي ثم جاء بِزَلَّة هَوِيتُ لصَفْحي أن يُضاف إلى العَدْل وان كنت أدنى منه قدراً ومَنْصِباً عَرفت له حَقَّ التقدم والفضل وفي مِثْله قال بعضُ الشعراء‏:‏ سأُلزِم نَفسي الصَفحَ عن كل مُذْنبٍ وإن كَثُرت منه إليَّ الجرائمُ ولا الناسُ إلا واحدٌ من ثلاثةٍ شريفٌ ومشروفٌ ومثلٌ مُقاوم فأمًا الذي فَوقي فأَعْرِف فضلَه وأَتبع فيه الحقَّ والحقُّ قائم وأمّا الذي دوني فإن قال صُنت عن إجابته نَفْسي وإن لامَ لائِم وأمّا الذين مِثْلي فإنْ زلَّ أو هَفَا تفضلت إنّ الفَضل للحُرّ لازم ولأصْرم بن قَيْس ويُقال إنها لعليّ عليه السلامُ‏:‏ أَصَمُّ عن الكَلِم المُحْفِظاتِ وأَحْلُمُ والحِلْمُ بي أَشْبَهُ فلا تَغْتِرر برُواء الرِّجال وما زَخْرَفوا لك أو مَوَّهوا فكم من فَتَى يُعْجِب الناظرين له أَلْسُنٌ وله أَوْجُه ينام إذا حَضَر المَكْرُمَاتِ وعند الدَّناءة يستنبه وللحَسن بن رجاء‏:‏ أُحِبُّ مكارِم الأخلاق جَهْدِي وأَكْره أن أَعيب وأن أُعابَا وأَصْفَح عن سِباب النَّاس حِلْماً وشرُّ الناس مَن يَهْوَى السِّبابا ومَن هَاب الرِّجالَ تَهَيَّبُوه ومَن حَقَر الرِّجالَ فلن يُهَابا ومَن قَضَت الرجالُ له حُقوقاً ولم يَقْض الحُقوِق فما أصابَا وقال محمد بن عليّ رضوان الله عنهما‏:‏ مَن حَلُمَ وَقَى عِرْضه ومَن جادت كفُّه حَسُن ثناؤه ومَن أَصْلح مالَه استَغْنى ومَن احتمل المَكْروه كثرت مَحاسنه ومَن صَبر حُمِد أمرُه ومَن كظَم غيظَه فشا إحسانُه ومَن عَفا عن الذُّنوب كثُرت أياديه ومَن اتَّقى الله كفاه ما أهمَّه‏.‏
وسأل أميرُ المؤمنين عليٌّ عليه السلامُ كبيراً من كُبراء الفُرْس‏:‏ أيُّ شيء لمُلوككمٍ كان أحمدَ عندكم قال‏:‏ كان لأرْدَشير فضل السَّبْق في المملكة غير أنّ أحمدَهم سيرة أنو شروان‏.‏
قال‏:‏ فأيّ أخلاقِه كان أغلبَ عليه قال‏:‏ الحلم والأناة‏.‏
قال‏:‏ هما توأمان يُنتجهما عُلوّ الهمَّة‏.‏
إنّي وَهَبْت لظاِلمي ظُلْمِيِ وغفَرْتُ ذاك له على عِلم ورأيتُه أسدَى إليَّ يداَ لما أبان بجَهْله حِلْمي رَجَعَتْ إساءتُه عليه وإح ساني إليَّ مُضاعَف الغُنْم وغَدْوتُ ذا أَجْرٍ ومَحْمدةٍ وغداَ بكَسْب الظلم والإثمْ وكأنما الإحسانُ كان له وأنا المُسيء إليه في الحُكْم ما زال يَظْلمني وأَرْحَمه حتى رَثيتُ له من الظُّلم ولمحمد بن زياد يَصِف حُلماء‏:‏ نَخالُهمُ في الناس صُمَّاً عن الْخَنَىِ وخُرْساً عن الفَحْشاء عند التَهاجُرِ ومَرضىَ إذا لُوقُوا حياءً وعِفّةَ وعند الحِفَاظ كاللُّيوث الخَوادِر كأن لهم وَصْماَ يخافون عارَه وما ذاك إلاّ لاتّقاء المَعاير وله أيضاً‏:‏ وأَرْفع نفسي عنِ نًفوس وربما تَذلَلتُ في إكرامها لنُفوس وإنْ رامني يوماَ خَسيسٌ بجَهْله أَبى اللهُ أنْ أَرْضى بعِرْضِ خَسيس ولبعضهم‏:‏ وإذا استشارك مَنْ تَوَدّ فُقل له أَطِع الحَلِيم إذا الحلِيمُ نَهَاكَا واعلم بأنَك لن تَسُود ولن ترَى سُبل الرًشادِ إذا أَطعتَ هَواكا وقال آخر‏:‏ وكن مَعْدِناً للحِلم واصفَح عن الأذى فإنك راءِ ما عملتَ وسامِعُ وأَحْبِب إذا أجبتَ حُثا مُقارِباً فإنك لا تَدْري متى أَنْتَ نازع وأَبْغِض إذا أبغضتَ غيرَ مُباين فإنَك لا تَدْري متى أنت راجِع ‏"‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:27 AM

باب السودد
قيل لعَدِي بنِ حاتم‏:‏ ما السودد قال‏:‏ السيد الأحمق في مالِه الذَليل في عِرْضه المُطَّرِح لحِقده‏.‏
وقيل لقَيْس بن عاصم‏:‏ بمَ سَوَدك قومُك قال‏:‏ بكَفِّ الأذى وبَذْل النًدى ونَصْر المَوْلى‏.‏
وقال رجلٌ للأحنف بم سوَدك قومُك وما أنت بأشرفهم بَيتاً ولا أُصْبحهم وَجهاً ولا أحسنهم خُلُقاً قال‏:‏ بخِلاف ما فيك با بنَ أخي قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ بتركي من أَمْرك ما لا يَعْنِيني كما عناك من أَمْري ما لا يَعْنِيك‏.‏
وقال عمرُ بن الخطَاب رضي الله عنه لرجل‏:‏ مَن سيِّد قَوْمك قال‏:‏ أنا قال كذبت لو كنتَ كذلك لم تَقُلْه‏.‏
وقال ابن الكَلْبي‏:‏ قَدِم أوسُ بنُ حارثة بن لأم الطائي وحاتمِ بنُ عبد الله الطّائي على النُّعمان بن المُنذر فقال لإياس بن قَبِيصة الطائيّ‏:‏ أيهما أفْضل قال‏:‏ أبيتَ اللعنَ أيها الملك‏.‏
إنِّي من أحدهما ولكنْ سَلهما عن أَنْفسهما فإنهما يُخبرانك‏.‏
فدخل عليه أوسٌ فقال أنت أفضلُ أم حاتم فقال‏:‏ أبيتَ اللعن إنّ أدنى ولد حاتم أفضلُ مني ولو كنتُ أنا وولدي ومالي لحاتم لأنْهبَنَا في غَداة واحدة‏.‏
ثم دخل عليه حاتم فقال له‏:‏ أنت أفضلُ أم أَوس فقال‏:‏ أبيت اللعن إنّ أدنى وسأل عبدُ الملك بن مَروانَ روح بن زِنْباع عن مالك بن مِسْمع فقال‏:‏ لو غَضِب مالكٌ لغَضِب معه مائةُ ألف سيف لا يسأله واحدٌ منهم‏:‏ لم غضبتَ فقال عبدُ الملك‏:‏ هذا واللّه السودد‏.‏
أبو حاتم عن العُتبي قال‏:‏ أهدى ملكُ اليمن سبعَ جزائر إلى مكة وأوصى أن يَنحرها أعزُ قرشيّ بها فأتت وأبو سفيان عَروس بهند فقالت له هِنْد‏:‏ يا هذا لا تَشغلك النّساء عن هذه الأكرومة التي لعلّك أن تُسْبق إليها فقال لها‏:‏ يا هذه ذرِي زَوْجك وما اختار لنفسه فواللّه لا نحرها أحدٌ إلا نحرتُه‏.‏
فكانت في عُقُلها حتى خرَج إليها بعد السابع فنَحرها‏.‏
ونظر رجلٌ إلى معاوية وهو غلام صغير فقال‏:‏ إني أظنّ أنّ هذا الغلام سيسود قومَه فسمعته أمه هِنْد فقالت‏:‏ ثكِلتُه إذاً إن لم يَسُد غيرَ قومه‏.‏
وقال الهيثم بن عَدِيِّ‏:‏ كانوا يقولون‏:‏ إذا كان الصبيّ سابل الغُرّة طويل الغُرْلة مُلتاث الإزْرَة فذاك الذي لا يُشكّ في سُودده‏.‏
ودخل ضَمْرة بن ضمْرة على النعمان بن المُنْذر وكانت به دَمامة شديدة فالتفت النعمانُ إلى أصحابه وقال‏:‏ تَسمع بالمُعيديّ خير من أن ترإه‏.‏
فقال‏:‏ أيها الملك إِنما المرء بأصغريه قلبِه ولسانه فإن قال قال ببَيان وإن قاتل قاتل بجَنَان قال‏:‏ صدقت وبحَقِّ سوّدك قومُك‏.‏
وقيل لعَرابة الأوسيّ‏:‏ بم سوَّدكَ قومُك قال‏:‏ بأربع خلال‏:‏ أَنْخَدع لهم في مالي وأذِلّ لهم في عِرْضي ولا أحْقِر صغيرَهم ولا أحسُد كبيرَهم‏.‏
وفي عَرابة الأوْسيّ يقول الشَّمَّاخ وهو ‏"‏ ابن ‏"‏ ضرِار‏:‏ رأيتُ عَرابة الأوْسي يَسمو إلى الخيْرَاتِ مُنقطع القَرينِ إذا ما رايةٌ رُفعت لمجْدٍ تلقاها عرَابة باليمين وقالوا‏:‏ يَسود الرجل بأربعة أشياء‏:‏ بالعَقل والأدب والعِلم والمال‏.‏
وكان سلم بنُ نوفل سيِّدَ بني كِنانة فوَثب رجلٌ على ابنه وابن أخيه فجَرَحهما فأُتي به فقال ‏"‏ له ‏"‏‏:‏ ما أمَنك من انتقامي قال‏:‏ فلِم سَوَّدْناك إذاً إلا أن تكْظم الغَيظ وتَحْلُم عن الجاهل وتحتمل المكروه فخلّى سبيلَه فقال فيه الشاعر‏:‏ يُسوَّد أقوام وليسوا بسادةٍ بل السيّد الصِّنديد سَلم بنُ نوفل وقال ابن الكلْبي‏:‏ قال لي خالدٌ العَنْبري‏:‏ ما تعُدُّون السُّودد قلت‏:‏ أمّا في الجاهليَّة فالرِّياسة وأما في الإسلام فالوِلاية وخَيْر من ذا وذاك التقوَى قال‏:‏ صدقت كان أبي يقول‏:‏ لم يُدْرِك الأوِّلُ الشرفَ إلا بالعقل ولم يُدْرِك الآخرُ إلاّ بما أَدْرَك به الأوّل قلتً له‏:‏ صدق أبوك إنما ساد الأحنف بن قيْس بحلْمه ومالك بن مِسْمَع بحُبّ العشيرة له وقتُيبة بن مُسلم بدَهائه وساد المُهَلّب بهذه الْخِلال كلّها‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ قيل لأعرابيّ يقال له مُنْتَجع بن نَبْهان‏:‏ ما السَّميدع قال‏:‏ السيّد المُوَطّأ الأكناف‏.‏
وكان عمر بن الخطاب ‏"‏ رضي الله عنه ‏"‏ يُفْرش له فِراش في بَيْته في وَقْت خلافته فلا يجلس عليه أحد إلا العبَّاس بن عبد المطّلب وأبو سُفيان بن حَرْب‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سُفيان‏:‏ كل الصيد في جَوْف الفَرأ‏.‏
والفرأ‏:‏ الْحِمار الوَحْشي وهو مَهموز وجَمعه فِراء ومعناه‏:‏ أنه في الناس مثل الحمار الوحشي في الوحش‏.‏
ودخل عمرو بنُ العاص مكة فرَأى قوماً مِن قُريش قد تحلّقوا حَلقة فلما رَأوه رَموا بأبصارهم إليه فعَدل إليهم فقال‏:‏ أَحْسبَكم كنتم في شيء من ذِكْرِي قالوا‏:‏ أجل كنا نُمَاثِل بينكَ وبن أخيكَ هِشام أيّكما أفضل‏.‏
فقال عمرو‏:‏ إنّ لهشام عليَّ أربعةً‏:‏ أمه ابنة هِشام بن المُغيرة وأُمي من قد عَرفتم وكان أحبَّ الناس إلى أبيه منِّي وقد عرفتم مَعْرفة الوالد وأَسْلَم قبلي واستُشْهِد وبقيتُ‏.‏
قال قيسُ بنِ عاصم لبَنِيه لما حضرته الوفاة‏:‏ ‏"‏ يا بَنيَّ ‏"‏ احفَظوا عنّي فلا أحدَ أنصح لكم منّي أمَّا إذا أنامِتُّ فسَوِّدوا كِبَارَكم ولا تُسوِّدوا صغارَكم فيَحقر الناسُ كِبارَكم‏.‏
وقال الأحنفُ بن قيس‏:‏ السُّودد مع السَّواد‏.‏
وهذا المعنى يحتمل وجهين من التفسير‏:‏ أحدهما أن يكون أراد بالسواد سوادَ الشعر يقول‏:‏ من لم يَسُد مع الحَداثة لم يَسُد مع الشيخوخة‏.‏
والوجه الآخر أن يكون أَراد بالسَّواد سوادَ الناس ودَهْماءهم يقول‏:‏ من لم يَطِرْ له اسمٌ على ألسنة العامّة بالسُّودد لم يَنْفعه ما طار له في الخاصة‏.‏
وقال أَبانُ بن مَسْلمة‏:‏ ولَسنا كقَوْم مُحُدَثين سِيادةً يُرَى ما لها ولا تُحَسّ فَعالُها مَساعِيهمُ مَقَصورَةٌ في بُيوتهم ومَسْعاتنا ذُبيانُ طُرّاً عِيالُها الهيْثم بن عَدِيّ قال‏:‏ لما اْنفرد سًفيان بن عُيينة ومات نُظراؤه من العُلماء تَكاثر الناسُ عليه فأنشأ يقول‏:‏ خَلَت الدِّيارُ فَسُدت غَيْر َمُسَوَّد ومِنَ الشَّقاء تَفَردي بالسُّوددِ سودد الرجل بنفسه قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَن أسْرع به عَمَلُه لم يُبْطِىء به حَسَبُه ومَن أَبطأ به عملُه لم يسرع به حسبه وقال قس بن ساعدة‏:‏ من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ نفس عصام سودت عصاماً وعلمته الكر والإقداما وقال عبد الله بن معاوية‏:‏ لسنا وإن كرمت أوائلنا يوماً على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا وقال قس بن ساعدة‏:‏ لأقضين بين العرب بقضية لم يقض بها أحدٌ قبلي ولا يردها أحدٌ بعدي أيما رجل رمى رجلاً بملامة دونها كرم فلا لوم عليه وأيما رجلٌ أدعى كرماً دونه لؤم فلا كرم له‏.‏
وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ كل كرم دونه لؤم فاللؤم أولى به وكل لوم دونه كرم فالكرم أولى به‏.‏
تريد أن أولى الأمور بالإنسان خصال نفسه فإن كان كريماً وآباؤه لئام لم يضره ذلك وإن كان لئيماً وآباؤه كرامٌ لم ينفعه ذلك‏.‏
وإني وإن كنت ابن سيد عامرٍ وفارسها المشهور في كل موكب فما سودتني عامرٌ عن وراثةٍ أبى الله أن أسمو بجدٍ ولا أب وتكلم رجل عند عبد الملك بن مروان بكلام ذهب فيه كل مذهب فأعجب عبد الملك ما سمع من كلامه فقل له‏:‏ ابن من أنت قال‏:‏ أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي بها توصلت إليك قال‏:‏ صدقت‏.‏
فأخذ الشاعر هذا المعنى فقال‏:‏ ما لي عقلي وهمتي حسبي ما أنا مولى ولا أنا عربي إذا انتمى منتم إلى أحد فإنني منتمٍ إلى أدبي وقال بعض المحدثين‏:‏ رأيت رجال بني دالقٍ ملوكاً بفضل تجاراتهم وبربرنا عند حيطانهم يخوضون في ذكر أمواتهم وما الناس إلا بأبدانهم وأحسابهم في حر اماتهم المروءة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا دين إلا بمروءة‏.‏
وقال ربيعة الرأي‏:‏ المروءة ست خصال‏:‏ ثلاثة في الحضر وثلاثة في السفر فأما التي في السفر‏:‏ فبذل الزاد وحسن الخلق ومداعبه الرفيق وأما التي في الحضر‏:‏ فتلاوة القرآن ولزوم المساجد وعفاف الفرج‏.‏
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ المروءة مروءتان‏:‏ مروءة ظاهرة ومروءة باطنة فالمروءة الظاهرة الرياش والمروءة الباطنة العفاف‏.‏
وقدم وفد على معاوية فقال لهم‏:‏ ما تعدون المروءة قالوا‏:‏ العفاف وإصلاح المعيشة قال اسمع يا يزيد‏.‏
وقيل لأبي هريرة‏:‏ ما المروءة قال‏:‏ تقوى تالله وتفقد الضيعة‏.‏
وقيل للأحنف‏:‏ ما المروءة قال‏:‏ العفة والحرفة‏.‏
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‏:‏ إنا معشر قريش لا نعد الحلم والجود سودداً ونعمد العفاف وإصلاح المال مروءة‏.‏
قال الأحنف‏:‏ لا مروءة لكذوب ولا سودد لبخيل ولا ورع لسيء الخلق وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ تجاوزوا لذوي المروآت عن عثراتهم فوالذي نفسي بيده إن أحدهم ليعثر وإن يده لبيد الله‏.‏
وقال العتبي عن أبيه‏:‏ لا تتم مروءة الرجل إلا بخمس‏:‏ أن يكون عالماً صادقاً عاقلاً ذا بيان مستغيناً عن الناس‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل وقيل لعبد الملك بن مروان‏:‏ أكان مصعب بن الزبير يشرب الطلاء فقال‏:‏ لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شر به‏.‏
وقالوا‏:‏ من أخذ من الديك ثلاثة أشياء ومن الغراب ثلاثة أشياء تم بها أدبه ومُروءته‏:‏ مَن أخذ من الدِّيك سَخاءه وشَجاعته وغَيْرته ومن الغُراب بُكوره لطَلَب الرِّزق وشدَّة حَذَره وسَتر سِفاده‏.‏
طبقات الرجال قال خالدُ بنُ صَفْوان‏:‏ الناسُ ثلاثُ طبقات‏:‏ طَبقة عُلماء وطَبقة خُطباء وطبقة أدباء ورِجْرِجة بين ذلك يغْلُون الأسعار ويُضَيِّقون الأسواق ويُكَدِّرون المِياه‏.‏
وقال الحسنِ‏:‏ الرِّجال ثلاثة‏:‏ فَرَجل كالغِذاء لا يُسْتغنى عنه ورَجُل كالدَّواء لا يحتاج إِليه إلا حِيناَ بعد حِين ورَجل كالدَّاء لا يحتاج إليه أبداً‏.‏
وقال مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير‏:‏ الناسُ ثَلاثة‏:‏ ناسٌ ونَسْناس وناس غُمِسوا في ماء الناس‏.‏
وقال الخليل بن أحمد‏:‏ الرجالُ أربعة‏:‏ فَرَجل يَدْرِيَ ويَدْري أنه يَدْري فذلك عالم فَسَلُوه ورجُل يَدْري ولا يَدْري أنه يَدْري فذلك النَّاسي فذَكِّروه ورجُل لا يَدْري ويَدْري أنه لا يَدْري فذلك الجاهلُ فعلِّموه ورجُل لا يَدْري ولا يَدري أنه لا يَدري فذلك الأحمقُ فارفضوه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ أَليس من البَلْوى بأنّك جاهل وأنك لا تَدْري بأنك لا تَدْري إذا كنت لا تَدْري ولستَ كمن درَى فكيف إذاً تَدْرِي بأنك لا تَدْري ولآخر‏:‏ وما الدَّاء إلا أن تُعلِّم جاهلاً ويَزْعُم جهلاً أنه منك أَعْلَمُ وقال علّيّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ الناس ثلاثة‏:‏ عالمٌ ربَّاني ومُتعلِّم على سَبِيل نَجَاة ورَعَاع هَمَجٌ يميلون مع كل ريح‏.‏
وقالت الحُكماء‏:‏ الِإخوانُ ثَلاثة‏:‏ فأخٌ يُخْلِص لك ودَّه ويَبْذُلُ لك رِفْدَه ويَستَفْرغ في مُهمِّك جُهْده وأَخٌ ذو نِيّة يَقْتصر بك على حُسن نيَّته دون رِفْده ومَعُونته وأخٌ يتَملق لك بلِسانِه ويَتَشاغَل عنك بشانه ويُوسعكَ مِن كَذِبه وأيمانه‏.‏
وقال الشعبيّ‏.‏
مَرَّ رجُل بعبد الله بن مَسعُود فقال لأصحابه‏:‏ هذا لا يَعْلم ولا يَعْلم أنه لا يَعْلم ولا يَتعلّمِ ممن يَعْلم‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كُنْ عالماَ أو مُتَعلماً ولا تكُن الثالثةَ فتَهْلِك‏.‏
الغوغاء الغوغاء‏:‏ الدَّبا وهي صغار الجَراد وشُبِّه بها سَوَادُ الناس‏.‏
وذُكر الغَوْغاء عند عبد الله بن عباس فقال‏:‏ ما اجتَمعوا قطُّ إلا ضَرُّوا ولا افترقوا إلا نفَعوا وقيل له‏:‏ قد عَلِمْنا ما ضَرَّ اجتماعهم فما نَفع افتراقهم قال‏:‏ يَذْهب الحجَّام إلى دكانه والحداد إلى أكياره وكل صانع إلى صِنَاعته‏.‏
ونظر عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه إلى قَوْم يَتبعون رجلاً أخذ في رِيبَة فقال‏:‏ لا مَرْحباً بهذه الوُجوه التي لا تُرَى إلا في كلِّ شرًّ‏.‏
وقال حبيب بن أوس الطائي‏:‏ إنْ شِئْتَ أن يَسْوَدَّ ظَنُّك كُلُّهُ فأَجِلْهُ في هذا السّوَادِ الأعْظم وقال دِعْبل‏:‏ ما أكثر الناسَ لا بَلْ ما أَقلَّهم الله يَعْلم أَنِّي لم أَقُلْ فَنَدَا إنِّي لأفْتح عَيْني حِينَ أَفْتَحَها على كَثيرٍ ولكنْ لا أرَى أحدا الثقلاء قالت عائشةُ أم المؤمنين رضي الله عنها‏:‏ نزلتْ آيةٌ في الثُّقلاء‏:‏ ‏"‏ فإذا طَعمتُمْ فِانْتَشرًوا ولا مًسْتَأْنِسِين لِحَديث ‏"‏‏.‏
وقال الشعبي‏:‏ مَن فاتَتْه رَكْعتا الفَجْر فَلْيلعن الثقلاء‏.‏
وقيل لجالينوس‏:‏ بِمَ صار الرجلُ الثقيلُ أثقلَ من الْحِمْل الثقيل فقال‏:‏ لأنّ الرجلَ الثقيل إنما ثِقَلُه على القَلْب دون الجَوارح‏.‏
والحِمْل الثَّقيل يَسْتَعِين فيه المرء بالجَوَارح‏.‏
وكان أبو هُرَيرة إِذا استثَقل رجلاً قال‏:‏ اللهم اغْفِر له وأرِحْنا منه‏.‏
وكان الأعمشُ إِذا حَضر مَجلسه ثقيلٌ يقول‏:‏ فما الفِيلُ تَحْمِلُه مَيِّتاً بأثقلَ من بَعْض جُلاسِنَا وقال أبو حَنِيفة للأعمش وأتاه عائِداً في مرضه‏:‏ لَوْلا أن أثْقُل عليك أبا محمَد لعُدْتك واللّهِ في كلّ يوم مَرّتين فقال له الأعمش‏:‏ والله يا بن أخي أنتَ ثَقِيل عليّ وأنتَ في بَيْتك فكيف لو جئتني في كلّ يوم مَرَّتين‏.‏
وذكر رجلٌ ثقيلاً كان يَجْلِس إليه فقال‏:‏ واللّه إِني لُأبْغِضُ شِقِّي الذي يليه إذا جَلس إلِيّ‏.‏
ونقَشَ رجل على خاتَمه‏:‏ أَبْرَمْتَ فَقُم‏.‏
فكان إذا جَلس إليه ثقيلٌ ناوَله إِيَّاه وقال‏:‏ اقرأ ما على هذا الخاتم‏.‏
وكان حَمّاد بن سَلمة إذا رأى من يَستَثقله قال‏:‏ ‏"‏ رَبَّنَا اكشفْ عَنَا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنونَ ‏"‏‏.‏
وقال بشّار العُقَيليّ في ثَقِيل يُكنى أبا عِمْران‏:‏ رُبمَّا يَثْقُل الجَلِيسُ وإنْ كا نَ حنيفاً في كِفّة الميزانِ ولقد قلتُ إذْ أطل عَلَى القَوْ م ثَقِيل يُرْبي عَلَى ثَهْلان كيفَ لا تَحْمِل الأمانَةَ أُرْض حَمَلَتْ فوقَها أبا عُمْران أنتَ يا هذا ثَقِيلُ وثقيل وثقيل أنتَ في المَنْظَر إنْسا ن وفي الميزان فيل وقال الحَسَن بن هانئ في رجل ثَقِيل‏:‏ ثَقِيل يُطَالِعُنا من أمَمْ إذا سره رغم أنفي ألم أقوله له إذا بَدَا لا بَدَا ولا حملته إلينا قدم فَقدتُ خيالَك لا مِن عَمىٍ وصوت كلامك لا من صمم وله فيه‏:‏ وما أظنَ القِلاَصَ مُنْجِيتي منك ولا الفلك أيها الرجل ولو رَكِبْت البرَاق أدْرَكني منك على نَأي دَارِك الثَقَل هل لك فيما ملكته هِبةً تَاخذه جُمْلة وتَرْتَحِل وله فيه‏:‏ يا مَن على الجُلاس كالفَتْق كلامُك التًخْديش في الحَلْق هل لك في مالي وما قد حَوَت يَدَاي من جِلٍّ ومن دق ألا يا جبل المَقْت ال ذي أرسىَ فما يَبْرحْ لقد أكثرتُ تَفكِيري فما أدْرِي لما تَصْلُحْ فما تصلح أنْ تُهْجَىَ ولا تَصلحُ أن تُمْدَح أَهْدى رجلٌ من الثُقلاء إلى رجل من الظُرفاء جَمَلاَ ثم نزَل عليه حتى أبْرمه فقال فيه‏:‏ يا مبرماً أهدى جَمَلْ خُذْ وانصرف ألفيْ جَمَل قالَ وما أوْقارُها قلتُ زَبِيبٌ وعَسَلْ قال ومَن يَقُودها قلتُ له ألْفَا رَجُل قال ومَن يَسُوقها قلتُ له ألْفَا بَطَل قال وما لِباسُهم قلتُ حُلِيً وحُلَل قال وما سِلاحُهم قلتُ سُيوف وأَسَل قال عَبِيد لي إذن قلتُ نَعم ثم خَوَل قال بهذا فاكتُبوا إذن عليكم لي سِجل قال وقد أثقلتكم قلتُ له فوق الثَقل قال فإني راحلٌ قلتُ العَجَلِ ثم العَجَل يا كوكبَ الشُؤم ومَن أرْبَى على نحْس زُحَل يا جبلاً مِن جَبَلٍ في جَبَلٍ فوق جبَل وقال الحَمْدوني في رجل بَغِيض مَقِيت‏:‏ أيابن البَغِيضة وابن البَغِيضِ ومَن هو في البُغض لا يُلْحَق سألتًك بالله إلا صَدَقْت وعِلْمي بأنكَ لا تَصدق أتبغضُ نَفسك مِن بُغضها وإلا فأنتَ إذن أحْمَقُ وله فيه‏:‏ في حمير الناس إن كُنتَ من الناس تُعَدُّ ولقد أُنبئت‏:‏ إبليس إذا راك يَصُد ولحبيب الطائي في مثله أي في رجل مَقِيت‏:‏ يا مَن تَبَرَّمت الدنيا بطَلعته كما تَبَرَّمت الأجفان بالرَّمدِ وللحسن بن هانئ في الفضل الرًقاشيّ‏:‏ رأيتُ الرقاشيِّ في مَوْضِع وكان إليَّ بغيضاً مقيتا فقال اقترِح بعض ما تَشْتَهِي فقلتُ اقترحتُ عليك السُّكوتا وأنشد الشَعبيُّ‏:‏ إنّي بُلِيتُ بمَعشر نَوْكَى أخفهمُ ثقيلْ بُلْهٌ إذَا جالستهُم صَدِئَتْ لقُرْبهمُ العُقول لا يُفْهموني قولهم ويَدِقُّ عنهم ما أقول فَهُمُ كثِيرٌ بي كما أنيِّ بقُرْبهم قليل وقال العُتْبيّ‏:‏ كتب الكِسائيّ إلى الرّقاشي‏:‏ شَكَوْتَ إلينا مَجَانينَكم وأشْكُو إليك مَجَانيننا وأنشأتَ تَذْكر قُذّاركم فأنتِنْ وأَقْذِرْ بمَنْ عِنْدنا فلَوْلا السَّلامة كُنًا كَهُم ولوْلا البَلاء لكانوا كَنَا وقال حبيب الطائي‏:‏ وقال حبيب‏:‏ يا مَن لهُ في وَجْهه إذ بَدَا كنُوز قارُون من البُغْض لو فر شيء قطٌّ مِن شكله فرَّ إذاً بعضك من بَعْض كوْنُك في صُلْبِ أبينا الّذِي أهبطنا جمعاً إلى الأرْض وقال أبو حاتم‏:‏ وأنشدني أبو زَيْد الأنصاريّ النًحوي صاحبُ النَّوادر‏:‏ وَجْهُ يحيى يدْعو إلى البَصْق فيه غير أنِّي أَصون عنه بُصاقي قال أبو حاتم‏:‏ وأنشدني العُتبيّ‏:‏ له وَجْه يَحلّ البَصقُ فيه ويَحْرُم أن يُلقَّى بالتَّحيَّة قال وأنشدني‏:‏ قميصُ أبي أميِّة ما عَلِمتم وأوْسَخُ منه جِلْدُ أبي أُمَيَّه التفاؤل بالأسماء سأَل عُمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً أراد أن يَسْتعين به على عمل عن اسمه واسم أبيه‏.‏
فقال‏:‏ ظالم بن سُراقة فقال‏:‏ تَظْلم أنت ويَسْرِق أبوك ولم يَسْتَعِن به في شيء‏.‏
وأقبل رجلٌ إلى عُمَر بن الخطاب فقال له عمر‏:‏ ما اسمك فقال‏:‏ شِهاب ابن حُرْقة قال‏:‏ ممَّن قال‏:‏ من أهل حَرة النار قال‏:‏ وأين مَسكنك قال‏:‏ بذات لَظى قال‏:‏ اذهب فإن أهلَك قد احترقوا‏.‏
فكان كما قال عمر رضي الله عنه‏.‏
ولقي عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه مَسْروق بن الأجْدع فقال له‏:‏ من أنتَ قال‏:‏ مَسْروق بن الأجدع‏.‏
قال‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ الأجدع شيطان‏.‏
وروى سُفيان عن هشام الدَسْتُوائيّ عن يحيى بن أبي كَثير قال‏:‏ كَتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمرائه‏:‏ لا تُبْردوا بريداً إلا حَسَن الوجه حَسَنَ الاسم‏.‏
ولمَّا فرغ المُهلّب بن أبي صُفْرة من حرب الأزارقة وجه بالفتْح إلى الحجاج رجلاً يقال له مالك بن بَشِير فلما دخل على الحجّاج قال له‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ مالك بن بَشِير محال‏:‏ مُلْك وبِشارة‏.‏
وإذا تكُون كريهةٌ فَرَّجْتها أدعو بأسْلم مَرَّةً ورَباح يُريد التَّطيّر بأسْلم ورَباح للسَّلامة والرِّبح‏.‏
الرّياشي عن الأصمعيّ قال‏:‏ لما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينه على رجل من الأنصار فصاح الرجلً بغُلامَيه‏:‏ يا سالم ويا يسار فقال رسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ سَلِمت لنا الدّار في يُسْر‏.‏
وقال سَعيد بن المسيِّب بن حَزْن بن أبي وَهب المَخْزومي‏:‏ قَدِم جَدِّي حَزْن بن أبي وَهْب على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ كيف اسمُك قال‏:‏ حَزْن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل مَهْل قال‏:‏ ما كنتُ لأدع اسماً سَمّتني به أُمِّي قال‏:‏ سَعِيد‏:‏ فإِنا لَنَجد تلك الحزُونة في أخْلاقنا إلى اليوم‏.‏
وإنما تَطيّرت العرب من الغُراب للغُربة إذ كان اسمُه مُشْتَقًّا منها‏.‏
وقال أبو الشِّيص‏:‏ أشاقَكَ والليلً مُلْقِي الجرَانِ غُرابٌ يَنُوحِ على غُصْن بَانِ وفي نَعَبات الغُراب اغتِراب وفي البَان بينٌ بَعيد التَّدَاني ولآخر في السَّفَرْجل‏:‏ خَوْفَ الفِراق لأنّ شَطْر هِجَائه سَفَر وحَقّ له بأن يَتَطَيًّرَا ولآخر في السَّوْسن‏:‏ ياذا الَّذي أهدئ لنا السَّوْسَنا ما كنتَ في إهدائه مُحْسِنَا شَطْرُ اْسمه سَوء فقد سُؤْتَني يالَيت أنِّي لم أَر َالسَّوسَنا ولآخرَ في الأتْرُج‏:‏ أَهْدَى إليه حبِيبُه أُتْرُجّة فَبَكَى وأشْفَق من عِيافة زَاجرِ خافَ التَّبدّل والتَّلوُّن إنّها لَوْنان باطنُها خلافُ الظّاهر وقال الطائي في الحَمام‏:‏ هُنّ الحَمام فإن كَسَرتَ عِيافةً مِن حائِهنّ فإنهن حِمامُ وكان أشعبُ يَختلف إلى قَيْنة بالمَدينة فلمّا أراد الخُروِج سألها أن تُعْطِيه خاتَم ذَهب في يَدِها ليَذكرها به قالت‏:‏ إن ذَهب وأَخاف أن تذْهب ولكن هذا العُود فلعلّك أن تعود‏.‏



باب الطيرة
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ثلاثة لا يَكاد يَسْلم منهنّ أحد‏:‏ الطِّيرة والظنّ والحَسد قيل‏:‏ فما المَخْرج منهنّ يا رسولَ اللّه قال‏:‏ إذا تَطيَّرت فلا تَرْجع وإذا ظَننت فلا تًحقِّق وإذا حَسَدت فلا تَبْغ‏.‏
وقال أبو حاتم‏:‏ السانح ما وَلاك مَيامِنه والبارِح ما وَلاك ميَاسره والجابه ما استقبلك من تُجاهك والقَعِيد الذي يَأْتيك من خَلْفك‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا عَدْوَى ولا طِيَرة‏.‏
وقال‏:‏ ليس منا مَن تَطيّر‏.‏
وقال‏:‏ إذا رَأَى أحدُكم الطِّيرة فقال‏:‏ اللَهمّ لا طَير إلا طَيْرك ولا خَيْر إلا خيْرك ولا إله غَيْرك لم تَضره‏.‏
وقد كانت العَرب تتطيّر ويَأْتي ذلك في أشعارهم وقال بعضهم‏:‏ وما صَدَقَتك الطير يوم لَقِيتَنا وما كان مَنْ دَلاك فينا بخَابِر وقال حسّان رضي الله تعالى عنه‏:‏ لتَسمعنَّ وَشيكاً في ديارِهُم الله أكْبر يا ثاراتِ عُثْمانا وقال الحَسَن بن هانئ‏:‏ قامَ الأمير بأمر الله في البَشَر واسْتَقْبل المُلْك في مَسْتَقبل الثمر فالطَير تُخْبِرنا والطَّيُر صادقةٌ عن طِيبِ عَيْش وعن طًول من العُمر وقال الشَّيْباني‏:‏ لما قَدِم قُتيبة بن مُسْلم والياً على خُراسان قام خَطِيباً فسَقطت المِخْصَرَة من يَدِه فتطيّر بها أهلً خُراسان فقال‏:‏ أيها الناس ليس كما ظَننتم ولكنه كما قال الشاعر‏:‏ فأَلْقت عَصاها واستَقْرّت بها النَّوى كما قَر عَيْناً بالإيابِ المَسَافُر اتخاذ الإخوان وما يجب لهم رَوَى الأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كَثير أنّ داود قال لابنه سُليمان عليهما السلام‏:‏ يا بُنيّ لا تَستَقلّ عَدوَاً واحداَ ولا تَستَكْثِر أَلف صَديق ولا تَستَبدل بأخٍ قديم أخاً مُستَحدثاً ما استَقام لك‏.‏
وفي الحديث المرفوع‏:‏ المَرْء كَثير بأَخيه‏.‏
وقاد شَبيب بن شَيْبة إخوان الصَّفاء خير مكاسب الدُّنيا هم زِينةٌ في الرِّخَاء وعدَّة في البَلاء ومَعُونة على الأعداء‏.‏
لَعَمْرك ما مالُ الفَتَى بذَخيرة ولكن إخوانَ الصَّفاء الذَّخائرُ وقال الأحْنف بن قَيْس‏:‏ خَيْرُ الإخوان إن استغنيت عنه لم يَزِدك في المَودَّة وإن احتَجْت إليه لم يَنْقُصك منها وإن كُوثِرت عَضدك وإن استرفدت رفَدَك وأنشد‏:‏ أخوكَ الذي إن تَدْعُه لِمُلِمِّة يُجِبْك وإنْ تَغْضب إلى السًيف يَغْضب ولآخر‏:‏ أخَاكَ أَخَاكَ إنّ مَن لا أخاً له كَساعٍ إلى الهَيْجَا بغَيْر سِلاح وإنّ ابن عَمّ المَرْء فاعْلَم جَناحُه وهل يًنْهض البازِي بغَيْر جَنَاح ومما يَجب للصدًيق على الصَّديق النصيحةُ جَهْده‏.‏
فقد قالوا‏:‏ صدِيق الرجل مِرْآته تُريه حَسناتِه وسيّآته‏.‏
وقالوا الصَّدِيق من صَدَقك وُدّه وبَذَل لك رِفْدَه‏.‏
‏"‏ وقالوا‏:‏ أربعة لا تعرَف إلاّ عِنْد أربعة‏:‏ لا يُعرف الشجاع إلا عند الحَرْب ولا الحَلِيم إلا عند الغَضب ولا الأمين إلا عند الأخذ والعَطاء ولا الأخوانُ إلا عَند النَّوائب ‏"‏‏.‏
وقالوا‏:‏ خير الإخوان مَن أقبل عليك إذا أدبر الزمان عنك‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إن الكرِامَ إذا مَا أُسهَلوا ذَكَرُوا مَن كان يأَلَفَهُم في المنزل الخَشِن ولآخر‏:‏ البرُّ من كَرَم الطبيعة والمَنّ مَفْسدة الصنيعة تَرْكُ التعهُّد للصَّدي ق يكون داعيةَ القطيعة أنشد محمدُ بن يزيد المبرِّد لعبد الصَّمد بن المُعذَّل في الحَسْن بن إبراهيم‏.‏
يا من فَدَت نَفْسَه نَفْسي ومن جُعُلت له وِقَاءً لِمَا يخشى وأَخْشاهُ أبْلِغ أخاكَ وان شَط المَزَار به أنِّي وإنْ كُنتُ لا ألقاه ألقاه وأنّ طَرْفيَ مَوْصول برؤيته وإنْ تَباعد عن مَثْواي مَثْواه اللّه يعْلَم أنّي لستُ أذْكُره وكيف يَذكره مَن ليس يَنْساه عًدُّوا فهل حَسَنٌ لم يَحْوِه حَسَن وهَلْ فتَى عَدَلت جَدْواه جَدْوَاه فالدهر يَفْنى ولا تَفْنى مَكارمه والقَطْر يُحْمىَ ولا تُحْصىَ عَطَايَاه وقيل لبعض الوُلاة‏:‏ كم صديقاً لك قال‏:‏ لا أدْري الدُّنيا مُقْبِلة عليَّ والناس كلِّهم أصدقائيِ وإنما أَعرف ذلك إذا أدبرَتْ عنِّي‏.‏
ونُرَى فنُعْرف بالعَدا وَة والبِعاد لمَن تُباعد ونبيت في شَفَق عَلَي - ك رَبيئةً والليلُ هاجِد أصناف الإخوِان قال العَتّابي‏:‏ الإخوانُ ثلاثة أصناف‏:‏ فرْع بائنٌ من أصله وأصل مُتَّصل بفَرْعه وفَرْع ليس له أصل‏.‏
فأمّا الفرع البائن من أصله فإخاءٌ بُني على مودّة ثم انقطعت فحُفِظ على ذمام الصُّحبة وأمّا الأصل المتَّصل بفَرْعه فإخاءٌ أصله الكرم وأغصانه التَقوى وأمّا الفرع الذي لا أصل له فالمموه الظاهر الذي ليس له باطن‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الصاحب رُقْعة في قميصك فانظر بم تُرَقِّعه‏.‏
ويقال‏:‏ من علامة الصَّديق أن يكون لصَديق صديقه صديقاً ولعدوه عدوَّاً‏.‏
وقَدِم دِحْية الكَلْبيّ على أمير المؤمنين عليّ عليه السلامُ فما زال يَذْكر مُعاوية ويطْريه في مجلسه فقال عليٌّ عليه السلام‏:‏ صَديقُ عَدُوِّي داخلٌ في عَدَاوَاتي وإنِّي لمَن وَدَّ الصّديقَ وَدودُ فلا تَقْرَباً منّي وأنت صَديقُه فإنّ الذي بين القُلوب بعيدُ تَودُّ عدوِّي ثم تَزْعُم أنني صديقُك إنّ الرَّأي عنك لعازِبُ وليس أخي مَن دوني رَأْيَ عَيْنه ولكنْ أخي مَن دوني وهو غائبُ وقال آخر‏:‏ ليس الصديقُ الذي إن زَلَّ صاحبُه يوماً رَأَى الذنبَ منه غيرَ مغْفِورِ وإنْ أَضاع له حَقَاً فعاتَبه فيه أتاه بتَزْوِيق المَعاذِير إنّ الصًديق الذي ألقاه يَعذِر لي ما ليس صاحبُه فيه بمَعْذور وقال الآخر‏:‏ كم مِن أخ لم يَلدِهْ أبُوكا وأخ أبوهُ أبوكَ قد يَجْفُوكا صافِ الكِرَامَ إذا أَردتَ إخاءَهم واعْلَم بأنّ أخا الحِفاظ أُخوكا والناسُ ما استغنيتَ كُنتَ أخاهُمُ وإذَا افتقرتَ إليهمُ رَفَضًوكا وقال بعضهم‏:‏ أخوك الذي إن قمتَ بالسًيْف عامِداً لتَضْرِبَه لم يَسْتغشَّك في الوُدِّ وإنْ جئتَ تَبْغي كفّه لتُبينَها لبادَر إشفاقاً عليك من الرَّدّ إنْ كنتَ مُتَّخذاً خَلِيلاً فتَنَقَّ واْنتَقد الخَلِيلاَ مَن لم يكُن لك منصفًا في الوُدّ فابغ به بَدِيلا ولقَلَّما تَلْقى اللَّئيمَ عليك إلا مستطيلا وللعَطوِيّ‏:‏ صُنِ الوًدً إلاِّ عَن الاكرمين ومَن بمُؤَاخاتِه تَشْرُفُ ولا تغتررْ مِن ذَوِي خلَة بما مَوّهوا لكَ أَوْ زَخْرفوا وكم من أخ ظاهر ودًّه ضَمِيرُ مَودّته أَحْيَف إذا أنت عاتبتَه في الإخا ءِ تنكر منه الذي تَعْرِف وكتب العباس بن جَرير إلى الحَسن بن مَخْلد‏:‏ ارعَ الإِخاءَ أبا مُحم د للَّذي يصْفو وصُنْهُ وإذا رأيتَ مُنافِساً في نيل مكرمةٍ فكنه إنَ الصديقَ هو الذي يرعاك حيث تغيب عنه فإذا كشفت إخاءَهُ أحمدتَ ما كشفت منه وقال آخر‏:‏ خَيْرُ إخوانِكَ آْلمشارك في المر وأَين الشرِيكُ في المرّ أَيْنَا الَّذِي إنْ شهدتَ زادَك في البرّ وإن غِبْتَ كان أذْناً وعَيْنا وقال آخر‏:‏ ومِنَ البَلاء أخٌ جنايتُه عَلَق بنا ولغَيْرنا سَلَبُهْ ولآخر‏:‏ إذا رأيتُ انحرافاً من أخِي ثِقةٍ ضاقتْ عليّ برُحب الأرض أوْطانِي فإن صددتُ بوَجْهي كَيْ أكافئَه فالعَين غَضْبَى وقَلْبي غير غضبان وكتب بعضُهم إلى محمد بن بَشّار‏:‏ مَن لم يُرِدْك فلا تردهُ لِتَكُنْ كَمَنْ لم تَسْتَفِدْه باعِدْ أخاكَ لبُعْده وإذا دَنا شِبْراً فزِده كم من أخٍ لك يا بنَ بَشّ ا رٍ وأُمُّك لم تَلِدْه وأخِي مُناسَبة يَسُو ءُك غَيْبُه لم تفتقده مَنْ يَأْنس الإخْوان لم يَبْدَ العِتابَ ولم يُعِدْه عاتِبْ أخاك إذا هَفا واعْطِفْ بِودك واسْتَعِدْه وإذا أتاك بِعَيْبِهِ واشٍ فقُل لم تَعْتمده معاتبة الصديق واستبقاء مودته قالت الحكماء‏:‏ مما يجب للصَّديق على الصديق الإغْضاء عن زلاّته والتَّجاوز عن سيّآته فإن رجع وأعتب وإلاّ عاتبتَه بلا إكثار فإنّ كثرَة العتاب مَدْرجة للقَطِيعة‏.‏
وقال عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنه‏:‏ لا تَقْطع أخاك على ارتياب ولا تهجره دون استِعْتاب‏.‏
وقال أبو الدَّرداء‏:‏ مَن لك بأَخيك كلّه‏.‏
وقالوا أيّ الرجال المُهذَّب‏.‏
وقال بشّار العُقَيْليّ‏:‏ إذا أنتَ لم تَشْرب مِراراً على القَذَى ظَمِئْتَ وأيُ النَّاس تَصْفو مَشارِبُه وقالوا‏:‏ مُعاتبة الأخ خَيرٌ من فَقْدِه‏.‏
إذا ذَهب العِتاب فليْسَ ودٌ ويَبْقَى الوُدُّ ما بَقِي العِتَابُ ولمحمد بن أَبان‏:‏ إذا أنَا لم أَصْبِرْ على الذَّنب مِن أخٍ وكنتُ أُجازيه فأَين التفاضلُ ‏"‏ إذا ما دهاني مِفْصلٌ فقطعتًهَ بَقيتُ وما لي للنُّهوص مَفاصل ‏"‏ ولكنْ أُدَاويه فإنْ صَحَّ سرًّني وإنْ هو أَعْيا كان فيه تحامل وقال الأحنف‏:‏ مِن حَقّ الصَّديق أن يَتَحَمَل ثلاثاً‏:‏ ظُلم الغضب وظُلم الدالّة وظُلم الهَفوة‏.‏
لعبد الله بن مُعاوية‏:‏ ولستُ ببَادي صاحبِي بقَطِيعة ولستُ بمُفْشٍ سِرَّه حين يغْضبُ عَليك بإخوان الثِّقَات فإنهم قليلٌ فَصِلْهم دُون مَن كنت تَصْحَب وما الخِدْن إلا مَن صَفا لك وُدّه ومَن هو ذو نُصْح وأنت مُغَيَّب ما يستجلب الإخاء والمودة ولين الكلمة قال عليُّ بن أبي طالب عليه السلام‏:‏ مَن لانت كَلِمته وَجَبت محبّتُه‏.‏
وأنشد‏:‏ وعَلَى الصديقِ ألا يلقَى صديقه إلا بما يُحب ولا يًؤذِي جليسَه فيما هو عنه بمَعْزِل ولا يأتي ما يَعيب مِثْلَه ولا يَعيب ما يأتي شَكْلَه‏.‏
وقد قال المتوكّل اللّيثي‏:‏ لا تنهَ عَن خُلُقِ وَتأْتِيَ مِثْلَه عارٌ عليك إذا فعلتَ عَظِيمُ وقال عمرً بن الخَطّاب رضي الله عَنه‏:‏ ثلاث تثبت لك الوًدَّ في صَدْرِ أخيك‏:‏ أن تَبدأه بالسَّلام وتُوسع له في المَجْلس وتَدْعوه بأحبّ الأسماء إليه‏.‏
وقال‏:‏ ليس شيءٌ أبلغَ في خَيْر ولا شَرّ من صاحب‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إن كُنتَ تبغي الأَمْرَ أو أصلَه وشاهداً يُخْبر عن غائبِ فاعْتَبِر الأرضَ بأَشْباهها واعْتَبر الصّاحب بالصَّاحب لعَدِيّ بن زَيد‏:‏ عَنِ المَرْء لا تَسَلْ وسَلْ عَن قَرِينه فكُلُّ قَرِين بالمُقارن يَقْتَدِي و لعمرو بن جَمِيل التَغْلَبي‏:‏ سأصبر من صَديقي إنْ جَفَاني على كلّ الأذَى إلا الهَوَانَا فإنّ الحُرَّ يَأنَف في خَلاءِ وإن حَضر الجماعةَ أن يُهانَا وقال رجلٌ لمُطِيع بن إياس‏:‏ جِئّتُك خاطباً مَوَدَّتك قال‏:‏ قد زَوَّجتكها على شرط أن تجعل صَداقها أن لا تَسمع فيَّ مقالَ الناس‏.‏
ويقال في المَثَل‏:‏ مَن لم يَزْدَرِد الرّيق لم يَستكثر من الصديق‏.‏
وما أحسنَ ما قال إبراهيمُ بن العبَّاس‏:‏ يا صديقيِ الذي بَذَلْت له الو دَّ وأنزلتُه على أحشائي إنّ عَيْناَ أقْذَيْتهَا لتراعي ك على ما بها مِن الإقذاءِ ما بها حاجةٌ إليك ولكنْ هي مَعْقودة بحَبْل الوَفاء ولابن أبي حازم‏:‏ ارْضَ من المَرْءِ في مَوَدَّته بما يُؤدي إليكَ ظاهرُه مَن يَكْشِف الناسَ لا يَرى أحداً تَصِحّ منه له سَرائرُه توشِك أن لا تتم وَصْل أخٍ في كلّ زَلاّته تُنافِره إنْ ساءَني صاحِبي احْتملْتُ وإن سرَّ فإني أخوه شاكِرُه أصفح عَنْ ذَنْبه وإِن طَلَب ال عُذْرَ فإنّي عليه عَاذِرُه ولغيره‏:‏ لقد أصبحتْ نَفْسي علي شَفِيقةً ومِثْلي على أهل الوَفاء شَفِيق أسرَّ بما فيه سُرُورك إنَّني جَدِير بمكنون الإخاء حَقِيق عدَوّ لمن عاديتَ سَلْم مُساِلمٌ لكل آمرئ يَهْوى هواكَ صَدِيق ولأبي عبد الله بن عُرْفة‏:‏ هُمًومُ رجالٍ في أمور كَثيرةٍ وهَمِّي من الدِّنيا صديق مُساعِدُ يكون كرُوح بين جِسْمين فُرِّقَا فَجِسْماهما جِسْمان والرُّوح واحِد قال بعض الحكماء‏:‏ الإخاء جَوْهرة رقيقة وهي ما لم تُوَقِّها وتَحْرُسها مُعرَّضة للآفات فَرُض الإخاء بالحدّ له حتى تَصل إلى قُربه وبالكَظْم حتى يَعْتذِر إليك مَن ظَلَمك وبالرِّضى حتى لا تَسْتَكْثر من نَفْسك الفَضْل ولا من أخيك التَّقْصير‏.‏
لمحمود الوَرّاق‏:‏ لا بِرِّ أعظمُ من مُساعدةٍ فاشكُر أخاك علىِ مُساعَدَتِهْ وإذا هَفا فأَقِلْه هَفْوَته حتى يَعودَ أخاَ كعادته فالصفح عن زَلَل الصّديق وإن أَعْياك خيرٌ من مُعاندته مَن لم يُدرِك ولم ترده لم يستفدك ولم تُفِدْه قَرِّبْ صدِيقَك ما نَأى وَزِدِ التقارُب واستزده وإذا وَهَتْ أركان ودٍّ من أَخي ثِقَة فَشِدْهُ فضل الصداقة على القرابة قيل لبُزرجمهر‏:‏ مَن أحب إليك‏:‏ أخوك أم صديقك فقال‏:‏ ما أحِبّ أخي إلا إذا كان لي صديقاً‏.‏
وقال أكثم بن صَيفيّ‏:‏ القرابة تحتاج إلى مودَة والمودَة لا تحتاج إلى قرابة‏.‏
وقال عبد الله بن عبّاس‏:‏ القرابة تقْطع والمعروف يُكْفر وما رأيتً كتقارب القلوب‏.‏
وقالوا‏:‏ إيَّاكم ومَن تكْرهه قلوُبكم فإن القُلوب تُجَارِي القلوب‏.‏
وقال عبد الله بنً طاهر الخُراسانيّ‏:‏ أميل مع الذِّمام على ابن أمِّيِ وأحْمِل للصديق على الشِّقِيقِ وإن ألفيتَني مَلِكاً مُطاعاَ فإنك واجدِي عبدَ الصَّديق أفرِّق بين معروفي ومَنِّي وأجمع بين مالي والحُقوق ولقد سَبَرتُ الناس ثم خَبرتُهمِ ووصفتُ ما وَصفوا من الأسباب فإذا القرابةُ لا تُقَرِّب قاطعاً وإِذا المودَة أقرب الأنساب وللمبرِّد‏:‏ ما القرْبُ إلا لمن صحَت مَوَدَّته ولم يَخُنْك وليس القُرْبً للنسَبِ كم مِن قَريب دَوِيّ الصَّدْر مُضْطَغِن ومن بَعيدٍ سَلِيم غير مقترب وقالت الحًكماء‏:‏ رب أخ لك لم تَلِدْه أمك‏.‏
وقالوا‏:‏ القَرِيب من قَرب نَفْعه‏.‏
وقالوا‏:‏ رُبّ بعيدٍ أقرب من قَريب‏.‏
وقال آخر‏:‏ رُب بعيدَ ناصحُ الجَيْب وابن أبِ مُتهم الْغَيب وقال آخر‏:‏ أخُو ثِقةٍ يُسَر ببعض شانِي وِإنْ لم تُدْنِه مني قَرَابهْ أحَبُّ إليَّ من ألْفْي قَريب لَبيتُ صُدورهم لي مُسْترابه وقال آخر‏:‏ قد يَجمع المالَ غير ُآكله ويأكل المالَ غيرُ من جَمَعه فارْض من الدهر ما أتاك به من قَرَّعَيْنَا بعَيْشِه نَفَعه وقال‏.‏
لكلِّ شيء من الهُموم سَعَهْ والليلُ والصُّبح لا بقَاءَ معهْ لا تَحْقِرَنّ الفقيرَ عَلَّكَ أن تركع يوماً والدَّهُرُ قد رفَعَه وقال ابن هَرْمة‏:‏ للّه درُّك من فَتًى فَجعت به يومَ البَقيع حوادِثُ الأيام هَشّ إذا نزَل الوُفودُ ببابه سَهْل الحِجاب مُؤَدَّب الخُدّام وإِذا رأيت صديقه وشَقيقه لم تَدْرِ أيّهما أخو الأرحام التحبب إلى الناس في الحديث المَرْفوع‏:‏ أحبُّ الناس إلى الله أكثرهم تَحَبُّباً إلى الناس‏.‏
وفيه أيضاً‏:‏ إذا أحبَّ الله عبداً حبَّبه إلى الناس‏.‏
ومن قولنا في هذا المعنى‏.‏
وجْهٌ عليه من الحَيَاء سَكينةٌ ومحبَّة تجري مع الأنفاس وإذا أحبّ الله يوماً عبدَه ألقى عليه محبَّة للنّاس وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقّاص‏:‏ إن الله إذا أحَبَّ عبداً حبَّبه إلى خَلْقه فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس واعْلم أنّ مالك عند الله مثلُ ما للناس عندك‏.‏
وقال أبو دُهْمان لسَعيد بن مُسلم ووقف إلى بابه فحجَبَه حيناً ثم أذن له فمثل بين يديه وقال‏:‏ إنَّ هذا الأمر الّذي صار إليك وفي يديك قد كان في يدَيْ غيرك فأمسى واللّه حديثاً إن خيراَ فخير وإن شراً فشر قتحبَّب إلى عباد الله بحُسن البِشْر وتسهيل الحجاب ولين الجانب فإن حُبَّ عبادِ الله مَوْصولٌ بحُب اللّه وبُغضهم مَوْصول ببغض اللّه لأنهم شُهداء الله على خَلْقه ورُقباؤه على من أعوج عن سبيله‏.‏
وقال الجارود‏:‏ سُوء الخُلق يُفْسِد العَمل كما يُفسد الخَلّ العَسل‏.‏
وقيل لمُعاوية‏:‏ من أحبّ الناس إليك قال‏:‏ مَن كانت له عِنْدي يد صالحة قيل له‏:‏ ثم مَن قال‏:‏ من كانت لي عِنْده يدٌ صالحة‏.‏
وقال محمدُ بن يزيد النَّحوي‏:‏ أتيتُ الخليلَ فوجدته جالساً على طُنْفسة صَغِيرة فوسَّع لي وكَرِهتُ أن أُضيِّق عليه فانقبضتُ فأخذ بِعَضُدي وقَرَّبي إلى نَفْسه وقال‏:‏ إنه لا يَضِيق سَمُّ الخياطَ بمُتحابين ولا تَسَع الدنيا مُتباغضين‏.‏
ومن قَولنا في هذا المَعنى‏.‏
صِل من هَوِيتَ وإن أبدى مُعاتبةً فأَطيبُ العَيْش وَصلٌ بين إلْفين واقْطَعْ حَبائل خِدْنٍ لا تُلائمه فربِّما ضاقتِ الدُّنيا بإثْنين صفة المحبة أبو بكر الورَّاق قال‏:‏ سأل المأمونُ عبد الله بنَ طاهر ذا الرِّياستين عن الحبّ ما هو فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إذا تقادحتْ جواهر النُّفوس المُتقاطعة بوَصْل المُشاكلة انبعثت منها لمْحَة نور تَسْتضيء بها بواطنُ الأعضاء فتحرّك لإشراقها طَبائع الحَياة فيتصوَّر من ذلك خَلْق حاضر للنَّفس مُتَّصِل بخَواطِرها يُسمى الحب‏.‏
وسُئل حمَّاد الراوية عن الحبّ فقال‏:‏ شَجرة أصلُها الفِكْر وعُروقها الذِّكر وأغصانُها السَّهر وأوراقُها الأسقام وثمرتُها المنيّة‏.‏
وقال مُعاذ بن سَهْل‏:‏ الحبُّ أصعبُ ما ركب وأسْكر ما شُرب وأَفْظع ما لُقِي وأحْلَى ما اشتُهي وأَوْجع ما بَطَن وأشهى ما عَلَن وهو كما قال الشاعر‏:‏ وللحُب آياتٌ إذا هي صَرّحت تَبَدَّت علاماتٌ لها غُرَرٌ صفْرُ فباطِنُه سُقْم وظاهِرُه جَوَى وأوَّلُه ذكر وآخره فكر وقالوا‏:‏ لا يكن حُبّك كَلَفا ولا بغْضك سَرَفا‏.‏
وقال بشَّار العُقَيْليِّ‏.‏
هل تَعْلَمِينَ وَراء الحُبّ مَنزلةً تُدْني إليكِ فإنّ الحبَّ أقصَانِي وقال غيرُه‏:‏ أُحِبّكِ حُبا لو تحبينَ مِثْلَه أصابك من وَجْدٍ عليّ جُنُونُ لَطِيفاً مع الأحْشاء أمّا نهارُه فدَمْعٌ وأمّا لَيْلُه فأنِين من حديث ابن أبي شَيْبة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تَقْطع مَن كان يواصلُ أباك تُطفيء بذلك نُورَه فإنّ وُدَّك وُدُّ أبيك‏.‏
وقال عبدُ الله بن مَسعود‏:‏ مِن بِرّ الحيِّ بالميِّت أن يَصِل مَن كان يصلُ أباه‏.‏
وقال أبو بكر‏:‏ الحبُّ والبغضُ يُتوارثَان‏.‏
ومن أمثالهم في هذا المعنى‏:‏ لا تقْتنِ من كلب سَوْء جِرْواً‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ تَرْجُو الوليدَ وقد أعياك والدُه وما رَجاؤُك بعد الوالدِ الوَلدَا واجتمع عندَ مَلِك من ملوك العرب‏.‏
تميمُ بن مُرّ وبكر بن وائل فوقَعت بينهما مُنازعة ومُفاخرة فقالا‏:‏ أيُّها الملك أعطِنا سَيْفين نتجالد بهما بين يَدَيك حتى تَعلم أيُّنا أجْلد‏.‏
فأمر الملكُ فنُحِت لهما سَيفان من عُودين فأعطاهما ‏"‏ إياهما ‏"‏ فجعلاَ يَضْطربان مَليًّا من النهار فقال بكرُ بن وائل‏:‏ لو كانَ سيفانَا حديداً قَطَعا قال تميم بن مُرّ‏:‏ أو نحتا من جَنْدل تَصًدّعا أُساجِلك العَداوَةَ ما بَقِينا فقال له بكر‏:‏ وإنْ مِتْنا نُوَرِّثها البَنِينا فيًقال إن عداوة بكر وتميم من أجل ذلك إلى اليوم‏.‏
أبو زيد‏:‏ قال أبو عُبيدة‏:‏ بُني دُكَان بسجستان بَنَتْه بكر بن وائل فهَدَّمته تميم ثم بنته تميم فهَدَّمته بكر فتواقعوَا في ذلك أربعةً وعشرين وَقعة‏.‏
فقال ابن حِلِّزة اليَشْكُري في ذلك‏:‏ قَرَبي ياخَليُّ وَيحْكِ دِرْعي لَقِحَت حَرْبُنا وحربُ تميم إخْوة قرّشوا الذُّنوب علينا في حديث من دهرِهم وقَدِيم طَلبُوا صُلْحنا ولاتَ أوَانٍ إنَّ ما يَطلبون فوق النُّجُوم الحسد قال علي رضي الله عنه‏:‏ لا راحةَ لِحَسُود ولا إخَاء لمَلُول ولا مُحِبَّ لسَيىِّء الخُلًق‏.‏
وقال الحسن‏:‏ ما رَأيت ظالماً أشبهَ بمظلوم من حاسِد نَفَس دائم وحُزن لازم وغم لايَنْفد‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كاد الحَسد يَغْلِب القَدَر‏.‏
وقال مُعاوية‏:‏ كلُّ الناس أَقْدِر أُرْضِيهم إلا حاسدَ نِعْمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ كلُّ العَداوة قد تُرْجَى إماتتُها إلا عَدَاوَةَ مَن عاداكَ مِن حَسَدِ وقال عبد الله بن مَسعود‏:‏ لا تُعادُوا نِعَم الله قيل له‏:‏ ومن يُعادي نِعَم اللّه قال‏:‏ الذين يحْسُدون الناسَ على ما آتاهم الله من فِضله‏.‏
يقول الله في بعض الكتب‏:‏ الحَسُود عدوُّ نِعْمَتي مُتَسخِّطٌ لقَضَائي غيرُ راض بِقسْمَتي‏.‏
ويقال‏:‏ الحَسَد أوّل ذَنْب عصي الله به في الَسماء وأوّل ذَنْبِ عُصي الله به في الأرض فأمّا في السماء فحَسدُ إبليس لآدمَ وأما في الأرض فَحَسدَ قابيلَ هابيل‏.‏
وقال بعضُ أهل التفسير في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ رَبنَا أَرِنَا الَّلذَيْنِ أَضلانَا مِنَ اْلْجنِّ والإنْس نَجْعَلهما تحتَ أقدامِنا ليَكُونَا من الأسْفَلِين ‏"‏‏.‏
إنه أراد بالذي من الجن إبليس والذي من الإنس قابيل وذلك أن إبليس أولُ من سَنَّ الكفر وقابيل أوّل من سَنَّ القتل وإنما كان أصل ذلك كله الحسد‏.‏
ولأبي العتاهية‏:‏ فيا رَبِّ إنّ الناس لا يُنْصفونني وكيفَ ولَوْ أَنصفتُهم ظَلَمُوني وإنْ كانَ لي شيءٌ تَصدِّوْا لأخْذه وإن جئت أبْغِي سَيْبهم مَنَعُوني وإن نالَهُمِ بَذْلي فلا شُكْرَ عِنْدهم وإن أنا لم أبذل لهم شَتَمُوني وإن طَرَقتْني نِقْمَةٌ فَرِحُوا بها وإن صَحِبَتنِي نِعْمَةٌ حَسَدُوني سَأَمْنَع قلْبِي أن يَحنَّ إليهُم وأحْجُب عنهم ناظِري وجُفُوني أبو عُبيدة مَعمر بن اَلمُثنِّي قال‏:‏ مَرّ قيس بن زُهير ببلاد غَطَفان فرأَى ثَرْوَةً وعدداً فكَرِه ذلك فقيل له‏:‏ أيسوؤك ما يَسرُّ الناس قال‏:‏ إِنك لا تَدْري أنّ مع النِّعمة والثروة التَّحاسدَ والتخاذلَ وأنَّ معِ القلّة التحاسد والتناصُر‏.‏
وكان يقال‏:‏ ما أثْرَى قَوْم قطُّ إلا تَحاسدوا وتخاذلوا‏.‏
وقال بعضُ الحكماء‏:‏ ألزَم الناس للكآبة أربعة‏:‏ رجل حديد ورجل حَسُود وخَلِيط الأدباء عليّ بن بِشْر المَرُّوزيّ قال‏:‏ كتب إليَّ ابن المبارك هذه الأبياتَ‏:‏ كلَّ العَدَاوة قد ترْجَى إماتَتُها إلا عَداوةَ مَنْ عاداك من حَسَدِ فإِنّ في القَلْبِ منها عُقْدَةً عُقِدَتْ وليس يَفْتحها راقٍ إلى الأبدِ إلا الإَله فإن يَرْحم تُحَلّ به وإنْ أباه فلا تَرْجُوه من أحد سُئِلَ بعضُ الحُكماء‏:‏ أيّ أعدائك لا تُحِبّ أن يَعُود لك صديقاً قال ‏"‏‏:‏ الحاسِد الذي لا يَرُدّه إلى ‏"‏ مودتي ‏"‏ إلا زوالُ نِعْمتي‏.‏
وقال سُلَيمان التَّيْمِيّ‏:‏ الحَسد يُضعِف اليَقِين ويُسْهِر العَينْ ويُثِرُ الهمّ‏.‏
الأحنفُ بن قَيْس صَلِّى على حارثة بن قُدَامة السَّعْديّ فقال‏:‏ رَحمك اللهّ كنتَ لا تحْسُد غَنياً ولا تحقر فقيراَ‏.‏
وكان يُقال‏:‏ لا يُوجَد الحُرُّ حَرِيصاً ولا الكَرِيم حَسُداً‏.‏
وقال بعضُ الحُكماء‏:‏ أجهدُ البَلاء أن تَظْهَرَ الخَلَّة وتَطُوِل المُدَّة وتَعْجِز الحِيلة ثم لا تعْدَم صَدِيقاً مُوَلِّيا وابن عمٍّ شامتاً وجاراً حاسِداَ ووليًّا قد تَحَوَّل عدوًّا وزَوْجة مُخْتلِعة وجارية مُسْتَبِيعة وعَبداً يَحْقِرك وولداً يَنتهرك فانظُر أين مَوْضِع جَهْدك في الهرَب‏:‏ لرجل من قُريش‏:‏ وإذا ما الله أَسْدَى نِعْمَةً لم يَضِرْها قولُ أعداءِ النِّعَم وقيل‏:‏ إذا سرك أن تَسْلم من الحاسد فعَمِّ عليه أمْرَك‏.‏
وكانت عائشةُ رضى اللهّ عنها تتمثّل بهذين البيتين‏:‏ إذا ما الدهر جَرَّ على أناس حوادثَه أناخَ بآخرِينَا فقُلْ للشَّامِتين بنا أفِيقُوا سيَلْقى الشامِتون كما لَقِينا ولبعضهم‏:‏ إياك والحسدَ الذي هو آفةٌ فَتَوَقَّه وتَوَقَّ غِيرة مَنْ حَسد إِنَّ الحَسُودَ إذا أرك مَوَدَّةً بالقَوْل فهو لك العَدُوُّ المُجْتَهِدْ الليثً بن سَعْد قال‏:‏ بَلَغني أنَّ إبليس لقي نُوحًا صلى الله عليه وسلم فقال له إبليس‏:‏ اتّق الحَسْد والشح فإني حَسَدتُ آدمَ فخرجتُ من الجنة وشَحَّ آدم على شَجرة واحدة مُنِع منها حتى خَرج من الجنًة‏.‏
وقال الحسنُ‏:‏ أصول الشَّرِّ ‏"‏ ثلاثة ‏"‏ وفُروعه ستَّة فالأصول الثلاثة‏:‏ الحَسَد والحِرْص وحُبًّ الدُّنيا‏.‏
والفُروع الستة‏:‏ ‏"‏ حُبّ النوم وحُبّ الشِّبع وحُبُّ الراحة وحُبُّ الرئاسة وحُبُّ الثناء وحُبُّ الفَخْر‏.‏
وقال الحسن‏:‏ يَحْسُد أحدُهم أخاه حتى يَقَعَ في سَرِيرته وما يَعْرِف علانِيَته ويَلُومه على ما لا يَعْلمه منه وَيتعلم منه في الصّداقة ما يُعَيِّره به إذا كانت العداوة واللّه ما أرى هذا بمُسْلِم‏.‏
ابن أبي الدُّنيا قال‏:‏ بَلغني عن عُمر بن ذَرّ أنه قال‏:‏ اللهم من أرادنا بشّرٍ فاكفِناه بأيِّ حُكمَيْك شِئت إمّا بتَوْبة وإمّا براحة‏.‏
قال ابن عباس‏:‏ ما حسدتُ أحداً على هاتين ‏"‏ الكلمتين ‏"‏‏.‏
وقال ابن عبَّاس‏:‏ لا تَحْقِرَنَ كلمة الحكمة أن تَسْمعها من الفاجر فإنما مَثَلُه كما قال الأول‏:‏ رُبَّ رَمْيَة من غير رام‏.‏
وقال بعضُ الحكماء‏:‏ ما أمحقَ للإيمان ولا أهتكَ للستر من الحسد وذلك أنّ الحاسدَ مًعاند لحكم الله‏.‏
باغٍ على عباده عاتٍ على ربه يَعْتَدّ نِعم اللهّ نِقَما ومَزِيده غِيَرا وعَدْل قضائة حَيْفا للناس حال وله حال ليس يهدأ ولا يَنام جَشَعه ولا ينْفعه عَيْشُه مُحْتقر لِنَعم الله عليه مُتسخِّط ما جرت به أقدارُه لا يَبردُ غَليله ولا تُؤْمَن غوائله إن سالمتَه وَتَرَك وأن وَاصلتَه قَطَعك وإن صَرَمتْه سَبَقك‏.‏
ذُكِر حاسدٌ عند بعض الحكماء فقال‏:‏ يا عَجَبا لرجل أسلكه الشيطانُ مهاوِي الضَّلالة وأورده قُحَم الهَلَكة فصار لنعم الله تعالى بالمرصاد إن أنالها من أحب مِن عِباده أشْعِر قلبُه الأسف على ما لم يُقْدَر له وأغاره الكَلَفُ بما لم يكن لِينالَه‏.‏
اصبر على حَاسَد الحَسو د فإنّ صَبْرَكَ قاتلُه النَّارُ تأكل بعضها إن لم تَجدْ ما تاكله وقال عبدُ الملك بن مَرْوان للحجاح‏:‏ إنه ليس منَ أحدٍ إلا وهو يَعرف عَيب نفسه فصفْ لي عيوبك‏.‏
قال‏:‏ أعفِنى يا أمير المؤمنين قال‏:‏ لستُ أفعل قال‏:‏ أنا لَجُوج لَدُود حَقُود حَسُود قال‏:‏ ما في إبليس شرٌ من هذا‏.‏
وقال المنصور لسُليمان بنِ مُعاوية المُهلَبي‏:‏ ما أسرع الناسَ إلى قومك‏!‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏:‏ إن العَرَانين تَلْقَاها مُحَسِّدةً ولن تَرَى للئام الناس حُسَّادَا وأنشد أبو موسى لنَصرْ بن سيار‏:‏ إِنِّي نشأتُ وحُسَّادي ذَوُو عَدَدٍ يا ذا المَعارج لا تَنْقُص لهم عَدَدَا إنْ يَحْسُدًوني على حُسْنِ البَلاَء بهم فمِثْل حُسْن بَلاَئي جر لي حَسدا وقال آخر‏:‏ إن يَحْسُدُوني فإنّي غيرُ لائمهم قبْلي من الناس أهل الفضل قد حُسِدُوا فَدَام لي ولهم ما بي وما بهم وما أكثرْنا غَيظاً بما يَجِد إنَ الغُراب وكان يَمشي مِشْيَةً فيما مضى من سالف الأحْوَالِ حَسَد القطَاة فَرَام يمشي مَشْيَها فأصابَه ضَرْبٌ من العُقًال ‏"‏ فأضلّ مِشْيته وأخطأ مَشْيها فلذاك كنِّوه أبا مِرْقال ‏"‏ وقال حبيب الطائي‏:‏ وإذا أراد الله نَشرَ فَضيلةٍ طُوِيت أتاح لها لسانَ حَسُودِ لولا اشتعالُ النار فيما جاوَرَت ما كان يُعْرف طِيبُ عَرْف العُودِ وقال محمد بن مُناذر‏:‏ بأيُها العَائبي وما بيَ من عَيْبِ ألا تَرْعَوِي وتَزْدَجِرُ هلْ لك عِندي وِتْرٌ فتَطْلُبَه أم أنتَ مما أتيتَ مُعتَذِرُ إِنْ يَكُ قَسْمُ الإله فَضّلني وأنت صَلْدٌ ما فيك معْتَصر فالحمدُ والشُّكر والثَناء له وَللْحَسود الترَابُ والْحَجَرُ فما الذي يَجتني جَليسُك أوْ يَبْدُو لهُ منك حين يَختبر اقرأ لنا سورة تُذَكرنا فإنّ خيْرَ المواعِظ السُوَرُ أو مِن أعاجيب جاهِليتنا فإنها حِكمةٌ ومُخْتَبر أو آرْوِ عن فارس لنا مثلاً فإن أمثالَها لنا عِبَرُ فإن تكن قد جَهِلت ذاك وذا ففيكَ للناظِرينِ مُعْتَبَر فغَنً صوتاً تُشْجَى النفوس به وبعضُ ما قد أتيت يُغتفر الأصمعيّ قال‏:‏ كان رجلٌ من أهل البصرة بذيئاً شِرِّيراً يؤذي جيرانه ويَشتم أعراضهم فأتاهُ رجلٌ فوَعظه فقال له‏:‏ ما بالُ جيرانك يَشكونك قال‏:‏ إنهم يَحسدُونني قال له‏:‏ على أيّ شيء يَحسدُونك قال‏:‏ على الصَلْب قال‏:‏ وكيف ذاك قال‏:‏ أَقْبِلْ معي‏.‏
فأقبل معه إلى جيرانه فقعد مُتحازِناً فقالوا له‏:‏ ما لَك قال‏:‏ طَرَق الليلة كتاب مُعاوية أنا أصلب أنا ومالك بن المنذر وفلان وفلان - فذكر رجالاً من أشراف أهل البصْرَة - فوَثبوا عليه وقالوا‏:‏ يا عدوّ اللهّ أنت تُصْلب مع هؤلاء ولا كرامةَ لك‏!‏ فالتفت إلى الرجل فقال‏:‏ أما تراهم قد حَسدوني على الصَّلب فكيف لو كان خيراً‏!‏ وقيل لأبي عاصم النبيل‏:‏ إنّ يحيى بن سَعيد يَحْسُدك وربما قَرَّضك فأَنشأَ يقول‏:‏ فلستَ بحيٍّ ولا ميتٍ إذا لم تُعادَ ولم تُحْسَدِ كتب عُمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ‏:‏ مُر ذَوي القَرَابات أن يتزَاورُوا ولا يتجاورُوا‏.‏
وقال أكثم بن صَيْفيّ‏:‏ تباعَدُوا في الدار تقاربُوا في المودَّة‏.‏
وقالوا‏:‏ أَزْهدُ الناس في عالمٍ أهلُه‏.‏
فَرَج بن سلام قال‏:‏ وَقف أميِّة بن الأسكر عِلى ابن عم له فقال‏:‏ نَشَدْتُك بالبَيت الذي طافَ حولَه رجالٌ بَنوه من لؤَيّ بن غالبِ فإنك قد جَرَّبتني فوجدتنيِ أُعينك في الجُلّى وأكفيك جانبي وإن دبَّ من قومي إليك عداوةً عقاربهُم دبَّت إليهم عَقارِبي قال أكذلك أنتَ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فما بالُ مِئبرك لا يزال إليَّ دسيسا قال‏:‏ لا أعود قال‏:‏ قد رضيتُ وعفا الله عما سلف وقال يحيى بن سعيد‏:‏ من أراد أن يَبِين عملُه ويَظهر علمُه فَلْيَجلس في غير مَجْلس رهْطه‏.‏
وقالوا الأقارب هم العقارب‏.‏
وقيل لعطاء بن مصعب‏:‏ كيف غلبتَ على البرامكة وكان عندهم من هو آدبُ منك قال‏:‏ كنتُ بعيدَ الدار منهم غريب الاسم عظيمَ الكِبْر صغير الجرْم كثيرَ الالتوإء فقرّبني إليهم وقال رجلٌ لخالد بنِ صَفْوان‏:‏ إنِّي أحبك قال‏:‏ وما يَمنعك من ذلك ولستُ لك بجار ولا أخٍ ولا ابن عم‏.‏
يريد أن الحسد مُوكل بالأدنى فالأدنى‏.‏
الشِّيباني قال‏:‏ خَرجِ أبو العبَّاس أميرُ المؤمنين متنزِّها بالأنبار فأمعن في نزهتة وانتبذ من أصحابه فوافي خباءً لأعرَابيّ‏.‏
فقال له الأعرابيّ‏:‏ ممن الرجل قال‏:‏ مِن كِنانة قال‏:‏ من أيّ كِنانة قال‏:‏ من أبغض كِنانة إلى كِنانة قال‏:‏ فأنت إذاً من قُريش قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فمن أيّ قريش قال‏:‏ من أبغض قريش إلى قُريش قال‏:‏ فأنت إذاً من ولد عبد المطلب قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فمن أيّ وَلد عبد المطّلب أنت قال‏:‏ من أبغض ولد عبد المطلب إلى ولد عبد المُطلب قال‏:‏ فأنت إذاً أميرُ المؤمنين السلام عليك يا أميرَ المؤمنين ورحمةُ الله وبركاته‏.‏
فاستحسنَ ما رأى منه وأمر له بجائزة‏.‏
وقال ذو الإصبع العَدْوَانيّ‏.‏
ليَ ابن عمٍٍّ على ما كان من خُلُق مُحاسِدٌ ليَ أقليه ويَقْلِيني أزْرَى بنا أنّنا شالتْ نعامتُنا فخالني عُونهَ أو خِلْتُه دوني يا عمرو إلا تَدَعْ شَتْمي ومَنقصتي أضربْك حتى تقول الهامةُ اسقوني ماذا عَلَيّ وإن كنتم ذَوِي رَحَمِي أن لا أُحبَّكُم إن لم تُحبوني وقال آخر‏:‏ مهلاً بني عمِّنا مهلاً مَوالينا لاتَنْبِشًوا بيننا ما كان مَدْفوناً لا تَطمعوا أن تًهينونا ونُكْرمكم وأن نَكُفَّ الأذى عنكم وتُؤذونا الله يعلم أنا لانحبًّكمُ ولا نَلومكُم إن لم تحِبُّونا وقال آخر‏:‏ ولقد سَبرت الناسَ ثم خَبرتهم ووصفت ما وصفوا من الأسبابِ فإذا القرابة لا تقَرّب قاطعا وإذا المودة أقرب الأنساب المشاكلة ومعرفة الرجل لصاحبه قالوا‏:‏ أَقرب القرابة المُشاكلة وقالوا‏:‏ الصاحب المُناسب‏.‏
وقال حبيب‏:‏ وقُلت أخي قالوا أخٌ من قرابة فقلت لهم إنّ الشُكول أقاربُ وقال أيضاً‏:‏ ذو الودّ منِّي وذو القُرْبى بمنزلةٍ وإخْوَتي أُسوةٌ عندي وإخواني وقال أيضاً‏:‏ إنْ نَفْتَرِقْ نَسَبًا يُؤلِّفْ بيننا أدبٌ أَقمناه مُقام الوالد أو نَخْتلف فالوَصْلُ منَّا ماؤه عَذب تَحدَّر من غَمَامٍ واحد وقال آخر‏:‏ إنَّ النفوس لأجْنادٌ مُجَنًدَة بالإذْن من رَبِّنا تَجْري وتَخْتلفُ فما تَعارفَ منها فهو مُؤتلِفٌ وما تَناكر منها فهو مُختلف وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الأنفس أجْناد مُجنَّدة وإنها لتتَشامّ في الهَوَى كما تتَشام الخَيْل فما تعارف منها ائتلف وما تَناكر منها اختلف‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الصاحبُ رُقْعة في الثَّوب فَلينظر الإنسان بم يَرْقع ثوبه‏.‏
وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ امتحنوا الناس بإِخوانهم‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ فاعتبر الأرضَ بأشباهها واعتبر الصاحبَ بالصاحبِ وقيل‏:‏ كلُ إلْف إلى إلْفه يَنزع وقال الشاعر‏:‏ وقال امرؤ القيس‏:‏ أجارتَنا إِنا غَريبان هاهنا وكل غَريب للغريب نَسِيبُ وقال آخر‏:‏ إذا كنت في قَوْم فصاحِبْ خِيارَهم ولا تَصْحب الأرْدى فتردىَ مع الرّدِي عن المرْء لا تَسأل وسَلْ عن قَرينه فكل قَرِين بالمُقارِن يَقْتدي وقال آخر‏:‏ اصحبْ ذَوِي الفَضل وأهْل الدِّين فالمرْءُ مَنسوبٌ إلى القرينِ أيوب بن سُليمان قال‏:‏ حدَّثنا أبان بن عيسى عن أبيه عن ابن القاسم قال‏:‏ بينما سُليمان بن داود عليهما السلام تحمله الريح إذ مَرّ بنَسْر واقع على قَصْر فقال له‏:‏ كم لك مذ وقعتَ هاهنا قال‏:‏ سبعمائة سنة قال‏:‏ فمن بَنى هذا القصر قال‏:‏ لا أدريِ هكذا وجدتُه ثم نظر فإذا فيه كتاب مَنْقور بأبيات من شعر وهي‏:‏ خرجنا من قُرَى اصطَخْرٍ إلى القصر فقلناهَ فمن يسأل عن القصر فمبنيا وَجَدناه فلا تصحب أخا السَّوْء وإِيَّاكَ وإياه يُقاس المرْءُ بالمرْء إذا ما المرْءُ ماشاه وفي الناس منٍ الناس مقاييسٌ وأشباه وفي العيَن غِنى للعَين أن تَنطق أفواه السعاية والبغي قال اللهّ تعالى ذِكْرُه‏:‏ ‏"‏ يَا أيُّهَا الناسُ إِنَمَا بَغْيًكُمْ على أنْفُسِكم ‏"‏‏.‏
وقال عزَ وجل‏:‏ ‏"‏ ثَم بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنًهُ الله ‏"‏‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ فلا تسبق إلى أحدٍ بِبَغْيٍ فإِنَّ البَغْي مَصرعه وخيم وقال العتَّابي‏:‏ بَغَيْت فلم تَقَع إلاّ صَرِيعاً كذاك البَغْي يَصرع كلَّ باغِي وقال المأمون يوماَ لبعض وَلده‏:‏ إياك وأن تُصْغي لاستماعٍ قول السُّعاة فإنه ما سَعى رجلٌ برجل إلا انحطّ من قَدْرِه عندي ما لا يتلافاه أبداً‏.‏
ووقَّع في رُقعة ساعٍ‏:‏ سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين‏.‏
ووقّع في رًقعة رجل سعَى إليه ببعض عُمَّاله‏:‏ قد سَمِعنا ما ذكره الله عزَّ وجلَّ في كتابه فانصرفْ رَحمك اللّه‏.‏
فكان إذا ذُكر عند السُّعاة قال‏:‏ ما ظَنُّكم بقوْمٍ يَلعنهم الله على الصِّدق ثم كشف عن ذلك فإذا هو لغير رِشْدَة فقال‏:‏ أنا أبو عمرو وما كَذبْتُ ولا كُذِبت‏.‏
حدثني أبي عن جدّي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ السًاعي لِغَيْر رِشْدة‏.‏
وسأل رجلٌ عبدَ الملك الخَلْوَة فقال لأصحابه‏:‏ إذا شِئْتم فقُوموا‏.‏
فلما تَهَيَّأَ الرجل للكلام قال له‏:‏ إيّاك أن تَمْدحني فأنا أعلم بنفسي منك أو تَكْذِبني فإنه لا رَأْي لكَذُوب أو تَسْعى إليً بأحد وإن شئتَ أَقلتُك قال‏:‏ أَقِلْني‏.‏
ودخل رجلٌ على الوليد بن عبد الملك وهو والي دِمشق لأبيه فقال‏:‏ للأمير عندي نصيحة فقال‏:‏ إِن كانت لنا فاذكُرْها وإن كانت لِغَيرنا فلا حاجةَ لنا فيها قال‏:‏ جارٌ لي عَصىَ وفَرَّ مِنْ بَعْثه قال‏:‏ أما أنت فتُخبِر أنَّك جارُ سَوْء وإِن شئتَ أرْسلنا معك فإن كنتَ صادقاً أقصَيناك وإِن كنتَ كاذباً عاقبناك وإِن شئتَ تارَكناك قال‏:‏ تَارِكْني‏.‏
وفي سِيَر العجم‏:‏ أنّ رجلاً وَشىَ برجل إلى الإسكندر فقال‏:‏ أتًحِب أن تَقْبل مِنه عليك ومِنك عليه قال‏:‏ لا قال‏:‏ فكُفَّ الشر يُكَفُّ عنك الشرُّ‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إذا الواشي نَعَى يومًا صدِيقا فلا تَدَع الصديق لقَوْلِ واشي وقال ذو الرِّياستين‏:‏ قَبول النَّمِيمة شَرٌ من النميمة لأنّ النميمة دِلالة والقَبُول إجازة وليس مَن ذُكِر السُّعاة عند المأمون فقال لرجل ممن حَضر‏:‏ لو لم يكن من عَيْبهم إلا أنّهم أَصدق ما يكونون أبغضُ ما يكونون إلى الله تعالى ‏"‏ لكَفَاهُم ‏"‏‏.‏
وعاتب مُصْعبُ بن الزبير الأحنفَ في شيء فأنكره فقال‏:‏ أَخْبَرني الثقةُ قال‏:‏ كلا إنّ الثقة لا يُبلغِ‏.‏
وقد جَعل اللهّ السامع شريك القائل‏.‏
فقال‏:‏ ‏"‏ سًمّاعُون للكَذِب أَكَّالُون للسُّحْتِ ‏"‏‏.‏
وقيل‏:‏ حَسْبك من شّرٍ سماعُه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ لَعمركَ ما سبَّ الأمير عدوُّه ولكنَّما سَبَّ الأمير المُبَلغُ وقال آخر‏:‏ لا تقبلنَّ نَميمةً بُلِّغتَها وتحفَظَنَّ مِن الذي أنباكَهَا إنّ الذي أنباك عنه نَميمةً سَيَدِبُّ عنك بمثلها قد حاكها لا تنقشنَّ برِجْل غيرك شَوْكةً فَتَفي برِجْلك رجْلَ مَن قد شاكَها وقال دِعْبل‏:‏ وقد قطَع الواشُون ما كان بَيننا ونحنُ إلى أن نُوصِلَ الحَبلَ أحْوَجُ وكانوا أناسا كنتُ آمنُ غيْبَهم فراحُوا على ما لا نُحبّ فأدْلجوا الغِيبَة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا قلتَ في الرجل ما فيه فقد اغتَبْته وإذا قلتَ ما ليس فيه فقد بهَته‏:‏ ومرَّ محمدُ سِيرين بقوم فقال إليه رجل منهم فقال‏:‏ أبا بكر إنّا قد نِلْنا منك فحَلِّلنا فقال‏:‏ ‏"‏ إني ‏"‏ لا أحِلّ لك ما حَرّم اللهّ عليك ‏"‏ فأمّا ما كان إليَّ فهو لك ‏"‏‏.‏
وكان رَقَبة بن مَصْقلة جالساً مع أصحابه فذَكَروا رجلاً بشيء فاطْلعَ ذلك الرجلُ فقال ‏"‏ له ‏"‏ بعضُ أصحابه‏:‏ أَلا أخْبره بما قًلنا فيه لئلا تكون غِيبة قال‏:‏ أخبره حتى تكون نميمة‏.‏
اغتاب رجلٌ رجلاً عند قُتيبة بن مُسلم فقال له ‏"‏ قُتَيبة ‏"‏‏:‏ أمْسك عليك أيها الرجل فواللّه لقد تلَمَّظت بمُضْغة طالما لَفَظها الكِرام‏.‏
محمد بن مُسلم الطائفيّ قال‏:‏ جاء رجلٌ إلى ابن سِيرين فقال له‏:‏ بَلغني أنك نِلْتَ منّي قال‏:‏ نفسي أعزًّ ‏"‏ علي ‏"‏ من ذلك‏.‏
وقال رجل لبَكْر بن محمد بن عِصْمة‏:‏ بلَغني أنَّك تقع فيّ قال‏:‏ أنتَ إذًا عليَّ أكرمِ من نفسي‏.‏
وَوقع رجلٌ في طَلْحَة والزُبير عند سَعد بن أبي وَقّاص فقال له‏:‏ اسكُتْ فإن الذي بيننا لم يَبْلُغ وعاب رجلٌ رجلاً عند بعض الأشراف فقال له‏:‏ قد استدللتُ على كَثرة عُيوبك بما تكثر من عُيوب الناس لأن طالبَ العُيوب إِنما يَطْلبها بقَدر ما فيه منها أما سمعتَ قولَ الشاعر‏:‏ لا تَهْتِكَنْ من مَساوي الناس ما سترُوا فَيَهْتِكَ الله سِتْراً مِن مَساوِيكَا واذكُرْ محَاسِنَ ما فيهم إذا ذُكِروا ولا تَعِبْ أحداً منهم بما فِيكا وقال آخر‏:‏ لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثْلَه عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عَظيمُ وابْدَأْ بنفسك فانهَها عنَ غَيِّها فإِذا انتهت عنه فأنتَ حَكيمِ وقال محمد بن السماك‏:‏ تَجَنَب القول في أخيكَ لخَلتين‏:‏ أمَّا واحدة فعلَّك تعِيبه بشيءٍ هو فيك وأما الأخرى فإنْ يَكُن الله عافاك ممَّا ابتلاه به كان شُكْرك الله على العافية تعبيراً لأخيك على البَلاء‏.‏
وقيل لبعض الحُكماء‏:‏ فلانٌ يَعِيبك قال‏:‏ إنما يَقْرض الدَرهمَ الوازنُ‏.‏
‏"‏ قيل لبُزَرْجَمُهر‏:‏ هل تعلم أحداً لا عيبَ فيه قال‏:‏ إن الذي لا عيب فيه لا يموت ‏"‏‏.‏
وقيل لعمرو بن عُبيد‏:‏ لقد وَقع فيك أيوب السِّخْتيانيّ حتى رَحمْناك قال‏:‏ إياه فارحَمُوا‏.‏
‏"‏ وقال ابن عبَّاس‏:‏ اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به ودَع منه ما تُحِبُّ أن يَدَع وقَدم العلاء بن الحَضرميّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ هل تَرْوِي من الشعر شيئَاَ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فأنشِدني فأنشِده‏:‏ تَحَببْ ذَوي الأضغان تَسْب نفوسَهم تَحَببَك القُربَى فقد تُرْقع النَّعَلْ وإن دَحسوا بالكُرْه فاَعفُ تكرُّمًا وإن غَيَّبوا عنك الحديثَ فلا تَسَل فإن الذي يُؤْذيك منه سماعُه وإن الذي قالوا وراءك لم يُقل فقال النبي عليه السلام‏:‏ إن من الشِّعر لَحِكْمة‏.‏
وقال الحسنُ البَصْرِي‏:‏ لا غِيبةَ في ثَلاثة‏:‏ فاسقٍ مُجاهر ‏"‏ بالفِسْقِ ‏"‏ وإمام جائر وصاحب بِدْعة لم يَدَع بِدْعته‏.‏
وكتب الكِسائي إلى الرَّقاشي‏:‏ تركتَ المسجد آلْجَام عَ والتَرك له ريبَهْ فلا نافلةً تَقْضي ولا تَقضي لمَكْتوبَه وأخبارُكَ تَأْتينا على الأعْلام مَنْصوبَه قال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ شَرّ الناس من اتّقاه الناسُ لشَرّه‏.‏
وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إذا لقيتَ اللئيمَ فخالِفْه وإذا لقيتَ الكريمَ فخالِطْه‏.‏
وقال أبو الدِّرداء‏:‏ إنا لنَكْشِرُ في وُجوه قوم وإنّ قلوبنا لتَلْعنهم وسُئل شَبيب بن شَيْبة عن خالد بن صَفْوان فقال‏:‏ ليس له صديق في السرّ ولا عدوّ في العَلاَنية‏.‏
وقال الأحنف‏:‏ رُبَّ رجل لا تَغيب فوائدُه وإن غابَ وآخرَ لا يسلم منه جليسهُ وإِن احتَرس‏.‏
وقال كثير بن هَرَاسة‏:‏ إنّ من الناس ناسًا يَنْقصونك إذا زِدْتهم وتَهُون عندهم إذا خاصصْتَهم ليس لرضاهم مَوْضع تَعْرِفه ولا لسُخْطهم موضع تَحْذره فإذا عرفتَ أُولئك بأعْيانهمِ فابذُل لهم موضِعَ الموَدة واحرمهم موضعَ يَكُن ما بذلتَ لهم من المودة حائلاً دون شرِّهم وما حَرَمتهم من الخاصة قاطعاً لحرْمتهم‏.‏
وأنشد العُتْبيّ‏:‏ لي صديقٌ يَرَى حُقوقي عليه نافلاتٍ وحقَّه الدهرَ فَرْضَا لو قطعتُ البلادَ طُولاً إليه ثم من بَعْد طُولها سِرْتُ عَرْضا لرَأَى ما فعلتُ غَيْر كَثِير وآشتَهى أن يَزيد في الأرْض أَرْضا اْسقِهم السُّمّ إن ظَفِرت بهم وآمزُجْ لهم من لِسانك العَسَلاَ كَتب سهلُ بن هارون إلى مُوسى بن عِمْران في أبي الهُذَيل العَلاّف‏:‏ إنّ الضَّمِير إذا سألتًكَ حاجةً لأبي الهُذَيل خلافُ ما أبدِي ‏"‏ فأَلِن له كنفا ليحسن ظنًّه في غير منفعة ولا رِفد ‏"‏ حتى إذا طالتْ شَقاوةُ جَدِّه وعَنَاؤه فاجْبَهه بالردّ وقال صالحُ بن عبد القُدُوس‏:‏ تجنب صدِيق السّوء وآصرِمْ حِبالَه وإِن لم تَجدْ عنه مَحيصاً فَدَارِهِ ومَن يَطلب المعْروف من غير أَهله يَجدْه ورَاءَ البحر أو في قَرارِه وللّه في عَرْضُ السمواتِ جَنَّةٌ ولكنّها مَحْفوفة بالمَكاره وقال آخر‏:‏ بَلاءٌ ليس يُشْبِهه بَلاءٌ عدَاوةُ غير ذي حَسَبٍ ودينِ يبيحك منه عِرْضاً لم يَصُنْه لِيرْتع منكَ في عِرْض مَصون عُرض على أبي مُسلم صاحب الدّعْوة فرسٌ جواد فقال لقُوّاده‏:‏ لماذا يصلُح مثلُ هذا الفرس قالت الحُكماء‏:‏ جُبل الناسُ على ذمّ زَمانهم وقلّة الرِّضا عن أهل عَصْرهم فمنه قولُهم‏:‏ رضَا الناسُ غايةٌ لا تُدرك‏.‏
وقولهم‏:‏ لا سبيلَ إلى السلامة من أَلْسنة العامّة‏.‏
وقولهم‏:‏ الناسُ يعيّرون ولا يَغْفِرون واللّه يَغْفر ولا يُعيِّر‏.‏
وفي الحديث‏:‏ لو أن المؤمن كالقِدْح المُقوّم لقال الناس‏:‏ ليت ولو‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ مَن لابَس النَّاس لم يَسْلم من الناس وضَرَّسُوهُ بأَنْيَابٍ وأَضْرَاس هِشام بن عُروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت‏:‏ رَحِمَ الله لَبِيداً كًان يقول‏:‏ ذَهب الذين يُعاش في أكنافهم وبَقِيتُ في خَلَف كجِلْد الأجْرَبِ فكيف لو أَبصر زمانَنا هذا‏.‏
قال عُروة‏:‏ ونحن نقول‏:‏ رَحِم الله عائشة فكيف لو أدركت زمانَنا هذا‏.‏
وكان بعضهم يقول‏:‏ ذهب الناسُ وبَقيَ النَسْناس فكيف لو أدْرك زماننا هذا‏.‏
دخل مُسلم بن يَزِيد بن وَهْب على عبد الملك بن مَرْوَان‏.‏
فقال له عبدُ الملك‏:‏ أيُّ زمان أدركتَ أفضَل وأيُّ الملوك أكمل قال‏:‏ أمّا المُلوك فلم أَرَ إلا حامداً أو ذامًّا وأما الزمان فيَرْفع أقواماً وكلّهم يَذُم زمانَه لأنه يُبْلِي جديدَهم ويُفرَق عديدهم ويهْرِم صغيرَهم ويهلك كَبيرَهم‏.‏
أيا دهرُ إن كنتَ عاديتَنا فَها قد صَنَعتَ بِنا ما كفَاكَا جَعلت الشرَارَ علينا خِياراً وولَيتنا بعد وَجْهٍ قفَاكا وقال آخر‏:‏ إذا كان الزمانُ زمانَ تَيْمٍ وعكْلٍ فالسلامُ على الزّمانِ زمان صارَ فيه الصدرُ عَجْزا وصار الزُّجّ قُدّامَ السّنان لعلّ زمانَنا سَيعود يومًا كما عاد الزمانُ على بِطان أبو جعفر الشّيباني قال‏:‏ أتانا يوماً أبو مَيَّاس الشاعر ونحن في جماعة فقال‏:‏ ما أنَتم ‏"‏ فيه ‏"‏ وما تتذاكرون قلنا‏:‏ نَذْكُر الزمان وفَساده قال‏:‏ كلا إنما الزمانُ وِعاء وما ألْقِي فيه مِن خَيْر أو شرّ كان على حاله ثم أنشأ يقول‏:‏ أرَى حُللاً تُصان على أناسٍ وأخلاقاً تُدَاسُ فَما تُصَان يَقولوِن الزمانُ به فَسادٌ وهُم فَسدوا وما فَسد الزمان أنشد فرج بن سلاّم‏:‏ هذا الزمان الذيِ كنَّا نُحذَّرُه فيما يُحدِّث كعبٌ وابن مسعودِ إن دام ذا الدهرُ لم نحْزَن على أحدٍ يموتُ منَا ولم نَفْرح بِمَوْلود لم أَبكِ في زَمن لم أرضَ خَلَته إلا بكيتُ عليه حين يَنْصَرِمُ وقال آخر في طاهر بن الحسين‏:‏ إذا كانت الدُنيا تًنال بِطاهرٍ تَجَنَّبت منها كلَّ ما فيه طاهرُ وأعرضتُ عنها عِفَةَ وتكَرُّماَ وأرجأتُها حتى تَدورَ الدوائر وقال مُؤمن بن سَعيد في مَعْقل الضَّبيّ وابن أخيه عثمان‏:‏ لقد ذلَّت الدنيا وقد ذلّ أهلُها وقد مَلَّها أهلُ النَدى والتَّفضُّل إذا كانت الدُّنيا تَميل بخَيّرها إلى مِثل عًثمانٍ ومِثل المُحوّل ففي استِ ام دُنيانا وفي آست ام خَيّرها وفي آست آم عثمان وفي آست ام مَعقِل وقال محمد بن مُناذر‏:‏ يا طالبَ الأشعار والنَّحوِ هذا زمانٌ فاسدُ الحَشْوِ نهارُه أوْحشً من لَيْله ونَشْوُه من أخْبَث النّشْو فَدَع طِلاَبَ النَّحو لا تَبغِهِ ولا تقل شعراً ولا تَرْو فَما يَجوز اليومَ إلا آمرؤٌ مُسْتَحكم العَزْف أو الشَّدْو رَجاءٌ دُون أَقْربه السَّحابُ وَوَعْدٌ مثلُ ما لمَع السَّرَابُ ودَهْر سادت العُبْدان فيه وعاثَتْ في جوانبه الذِّئاب وأيّام خلَتْ من كلِّ خَيْرٍ ودُنيا قد تَوَزّعها الكِلاب كلابٌ لو سألتَهم تُرَاباً لقالوا عندنا آنقطع التّراب يُعاقَب مَن أساء القولَ فيهم وإنْ يُحْسِن فليس له ثَواب كتب عَمْرو بن بحر الجاحظ إلى بعض إِخوانه في ذمِّ الزمان‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم حَفِظك الله حفْظ مَن وَفّقه للقَناعة واستَعمله في الطاعة‏.‏
كتبتُ إليك وحالي حالُ من كَثُفت غمومه وأشْكلت عليه أموره واشتَبه عليه حالُ دهره ومَخْرج أمْره وقَلَّ عنده من يَثِق بوَفائه أو يَحمد مَغبة إخائه لاستحالة زمانِنا وفَساد أيّامنا ودَوْلة أنذالِنا‏.‏
وقِدْماً كان يقال مَن قَدَم الحياءَ على نَفْسه وحكَّم الصِّدْق في قوله وآثر الحقً في أموره ونَبَذ المُشتبِهات عليه من شئونه تَمٌتْ له السلامة وفاز بوُفورِ حظّ العافية‏.‏
وحَمِد مَغبة مكْروه العاقِبة فنَظرنا إذ حال عِنْدنا حُكْمُه وتحوّلت دولتُه فَوَجَدْنا الحياء متَّصلاً بالحِرْمان والصِّدْق آفةً علِى المال والقَصْدَ في الطّلَب برك استعمال القِحة وإخْلاقِ العِرض في طريق التوكّل دليلاَ على سَخافة الرأي إذا صارت الخُطوة السابقة والنًعمة السابغة في لُؤم النِّيَّة وتناولُ الرِّزق من جهة محاشاة الوفاء ومُلابسة مَعرّة العار‏.‏
ثم نَظَرنا في تعقّب المُتعقّب لقولنا والكاسِر لحُجّتنا فأقَمنا له عًلَماً واضِحا وشاهِداً قائماً ومنارًا بيِّناً إذ وَجَدْنا مَن فيه السُّفوليةَ الواضحة والمَثالب الفاضحة والكَذِب المُبرِّح والخُلْفَ المُصَرّح والجَهالة المُفْرطة والرِّكاكة المُسْتَخِفّة وضَعْف اليقين والاستيثاب وسرْعة الغَضب والخِفّة قد استُكْمل سروره واعتدلت أمورُه وفاز بالسِّهْم الأغْلب والحظّ الأوْفر والقَدْر الرَّفيع وَالجَواب الطّائع والأمر النافِذ إن زلّ قيل حَكُم وإنْ أخطأَ قيل أصاب وإن هَذَى في كَلامه وهو يَقْظان قيل رُؤْيا صادِقة في سِنَة مُباركة فهذه حُجّتنا ‏"‏ أبقاك اللّه ‏"‏ على مَن زَعم أنّ الجهْل يَخْفِضُ وأن الحُمق يَضَع وأنّ النَّوْك يُرْدي وأن الكَذِب يَضُر وأنّ الخُلفَ يُزْرِي‏.‏
ثم نَظَرْنا في الوَفاء والأمانة والنُّبْل والبَراعة وحُسْن المَذْهب وكماله المُروءَة وسَعة الصَّدْر وقلّة الغَضب وكَرِم الطبيعة والفائق في سَعة عِلْمه والحاكم على نَفْسه والغالِب لِهَواه فَوَجدنا فُلان بن فلان ثم وَجدنا الزَّمان لم يًنْصفه من حقّه ولا قامَ له بوَظائف فرْضه‏.‏
وَوَجَدْنا فضائلَه القائمة له قاعدهً به‏.‏
فهذا دليلٌ على أنّ الطًلاح أجدَى من الصَّلاح وأنّ الفَضْل قد مَضى زمانُه وعَفَت آثارُه وصارت الدائرة عليه كما كانت الدائرة على ضدّه وَوَجدْنا العَقْلَ يَشْقى به قرينُه كما أن الجَهْل والحمْق يَحْظَى به خَدِينُه‏.‏
وَوَجدْنا الشعرَ ناطقاً على الزَّمان ومُعْرباً عن تَحَامَقْ مع الحَمْقَى إِذا ما لَقيتَهمِ ولاقِهمُ بالجَهْل فعْلَ أخِي الجَهْل وخَلِّط إذا لاقَتْ يوماً مُخَلِّطا يُخَلِّط في قَوْلٍ صَحيح وفي هَزْل فإنِّي رأيتُ المَرْء يَشْقَى بعَقْلِه كما كان قبلَ اليوم يَسْعد بالعَقْل فبقيتُ أبقاك الله مثلَ مَن أصبح على أَوْفاز ومن النُّقلة على جهَاز لا تَسوغ له نِعْمة ولا يُطعم عَيْنيه غَمْضة في أهاويل يُباكره مكْرُوهها وتُراوحه عقابيلُها فلو أنّ الدُّعاءَ أجيب والتَضرًع سُمع لكانت الهَدّة العُظمى والرَّجفة الكبرى فليتَ الذي يا أخي ما أَستَبْطئه من النّفْخة ومن فَجْأَة الصَّيحة قُضي فحان وأذن به فكان فواللهّ ما عُذبت أُمةٌ برَجفة ولا ريح ولا سَخْطة عذابَ عَينيّ برُؤْية المُغايظة المُضْنية والأخبار المُهلكة كأنّ الزَّمان توكَّل بعَذَابي أو انتصب لإيلامي فما عَيْشُ مَن لا يُسَر بأخ شقيق ‏"‏ ولا خِدْن شفيق ‏"‏ ولا يَصْطبح في أوَّل نهارِه إلا برُؤية من تُكْره ‏"‏ رؤيتُه ‏"‏ ونَغمة من تَغُمه طَلْعته فبدَّل الله ‏"‏ لي أي أخي بالمسكن مَسكنا وبالرَّبع رَبْعا فقد طالت الغُمة وواطنت الكُرْبة ادلهمتْ الظُّلمة وخَمد السِّراج وتَباطأ الانفِراج‏.‏
‏"‏ والسلام ‏"‏‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:29 AM

فساد الإخوان



قال أبو الدَّرداء‏:‏ كان الناس وَرَقاً لا شَوْك فيه فصاروا شَوْكاً لا وَرَق فيه‏.‏
وقيل لعُرْوة بن الزُّبير‏:‏ ألا تَنْتقل إلى المدينة قال‏:‏ ما بَقِى بالمدينة إلا حاسدٌ على نِعْمة أو شامت بمُصِيبة‏.‏
الخُشني قال أنشدني الرِّياشيّ‏:‏ إذا ذَهَب التكرُّم والوَفاء وباد رِجالُه وبَقِي الغُثَاءُ وأَسْلَمني الزَّمانُ إلى رِجالٍ كأمْثال الذِّئاب لها عُواء صَديق كلَّما استَغْنيت عنهم وأَعْداء إذا جَهَدَ البَلاء إذا ما جئتهم يَتدافَعوني كأنِّي أجربٌ آذاه داء أقولُ - ولا ألاَم على مَقال - على الإخوان كُلِّهم العَفاء وقالت الحًكماء‏:‏ لا شيءَ أضيع من مَوَدَةِ من لا وَفاء له‏:‏ واصطناع مَن لا شكر عِنده والكريمُ يَوَدُّ الكريم عن لُقْية واحدة واللّئيم لا يَصِل أحداً إلا عن رَغْبة أو رَهْبة‏.‏
وفي كتاب لِلْهند‏:‏ إنّ الرَّجل السًوْء لا يَتَغَيّر عن طبْعه كما أنَّ الشَّجرة المُرَّة لو طَلَيْتها بالعَسل لم وسَمِع رجلٌ أبا العتاهية يُنْشد‏:‏ فارْم بطَرْفك حيث شئ تَ فلا ترى إلا بَخيلاَ ‏"‏ فقال له‏:‏ بَخلت الناس كًلَّهم قال‏:‏ فأَكذبني بسَخِيّ واحد ‏"‏‏.‏
وقال أيضا في هذا المعنى‏:‏ للّه درُّ أَبيك أيّ زَمان أصبحتُ فيه وأيّ أهل زَمانِ كلّ يُوازنك المَودة جاهداً يُعْطِي ويأخُذ منك بالميزان فإذا رأى رُجْحانَ حَبَّة خَرْدلٍ مالتْ مَودَّتُه مع الرًّجحان وقال فيه أيضاً‏:‏ أَرَى قوماً وُجُوهُهمُ حِسانٌ إذا كانت حَوائجُهم إلينَا وإن كانت حَوائجُنا إِليهم يُقبح حُسْن أوجههم عَلَينا فإن مَنع الأشحّةُ ما لَدَيهم فإنّا سوف نَمْنح ما لَدَينا وقال‏:‏ مَوالينا إذا احتاجوا إلينا وليسَ لنا إذا احتجنا موالى للبَكريّ‏:‏ كان في سِرِّي وجَهْري ثِقَتي لستُ عنه في مُهِمّ أحترس ستر البغض بألفاظ الهوى وادَّعىٍ الوُدَّ بغِش ودَلَس إنْ رآني قال لي خَيراً وإنْ غبت عنه الود بغش ودلس ثم لمّا أمكَنَتهُ فًرْصةٌ حَمَل السيفَ على مَجْرَى النّفس وأرادَ الرُوح لكنْ خانَهُ قَدَرٌ أيقَظَ مَن كانَ نَعَس وأنشد العُتبي‏:‏ إِذا كنتَ تَغْضب من غير ذَنْب وتَعْتِب من غَير جُرْم عَلَيّا طَلبتُ رِضاكَ فإن عَزَّني عَدْدتُكَ مَيْتاً وإن كنتً حَيّا فلا تعجبنّ بمَا في يَدَيْكا فأكثْر منه الذي في يَدَيّا وقال ابن أبي حازم‏:‏ وصاحب كانَ لي وكنتُ لهُ أشفقَ من والدٍ عَلَى وَلَدِ كُنّا كَسَاقٍ تَسْعى بها قَدَمٌ أو كَذِراعٍ نيطت إلى عَضد حتى إذا دَبَّت الحوادثُ في عَظْمِي وحًل الزّمانُ من عقَدي وخِلٍّ كان يَخْفِض لي جَناحًا أعادَ غِنًى فنابذَني جماحَا فقلتُ لهُ وَلِي نَفْس عَزُوف إذَا حَمُيت تَقحَمت الرًّماحا سأبدِل بالمَطامع فيك يأسًا وباليَأْس آستَراح من استراحا وقال عبد الله بن مُعاوية بن ‏"‏ عبد الله بن ‏"‏ جعفر‏:‏ وأنتَ أخي ما لم تكن ليَ حاجةٌ فإِنْ عَرَضت أيقنتُ أنْ لا أخا لِيَا فلا زاد ما بَيْني وبَيْنك بعدَ ما بَلَوْتُكَ في الحاجاتِ إلا تمَادِيا كِلاَنَا غنيٌّ عن أَخِيه حياتَه ونحنُ إذا مِتْنا أشدُّ تَغانِيا وعينُ الرِّضَا عن كلِّ عَيْبٍ كليلةٌ كما أنّ عينَ السُّخط تُبدِي المَساوِيا وقال البُحتريّ‏:‏ أشرِّق أم أغَرِّبً يا سعيدُ وأَنْقُص من ذِمامِي أو أزِيدُ عَدَتني عن نَصِيبين العَوادِي فبَخْتى أبلهٌ فيها بَلِيدُ وخَلَّفني الزّمانُ على رِجالٍ وجُوههمُ وأيديهمْ حَدِيد لهم حُلَل فهُنَّ بِيضٌ وأخلاقٌ سَمُجن فهُنَّ سُود وقالُوا لو مَدحت فَتًى كَرِيماً فقلتُ وكيفَ لي بفتًى كَريم بُلِيتُ ومَرَّ بي خَمْسون حَولاً وحَسْبُك باْلمُجَرِّب من عَلِيم فلا أَحدٌ يُعَدُّ ليومِ خيْرٍ ولا أحدٌ يَعود علَى عَدِيم وقال‏:‏ قد بلوتُ النّاسَ طُرَّا لم أحِدْ في الناس حرا صار حُلْوُ الناس في العَي ن إذا ما ذيق مُرا وقال‏:‏ مَن سَلاَ عنِّيَ أَطْلَق تُ حِبالِي من حِبالهْ أَو أَجَدّ الوَصل سارَع ت بجَهْدِي في وصاله إنَّما أَحْذو على فع ل صَدِيقي بمثَاله غيرَ مُستجْدٍ إِذا ازوَر ر كأني مِن عِيَاله لَنْ تراني أبداً أع ظِم ذا مالٍ لماله لا ولا أَزْرَى بمَنْ يع قِل عندي سُوءُ حاله ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ أبا صالحٍِ جاءت على الناس غَفْلةٌ على غَفْلَةٍ بانت بكلِّ كَرِيم فَليتَ الآلي باتُوا يُفادون بالألى أقاموا فَيُفْدَى ظاعنٌ بمقيم وياليتَها الكُبْرَى فتُطْوى سماؤنا لها وتُمَدّ الأرضُ مَدَّ أَديم فما الموتُ إلا عَيْش كلِّ مُبَخَّل وما العَيْش إلا موت كل ذَميم وأعذَرُ ما أدمى الجُفونَ من البُكا كَريمٌ رَأى الدًّنيا بكَفّ لَئيم ومثلُه في هذا المعنى‏:‏ أبا صالحٍ أينَ الكِرامُ بأَسْرِهم أفِدْني كريماً فالكريمُ رِضَاءُ أحقًّا يقول الناسُ في جود حاتمٍ وابن سِنان كان فيه سَخاء عَذِيريَ مِن خَلْق تَخَلَّق منهم غَباءٌ ولُؤْم فاضحٌ وجَفاء حِجارةُ بُخْلٍ ما تَجُود ورُبَّما تَفجَّر من صُمِّ الحجارة ماء ولو أنّ موسى جاَء يَضْربُ بالعَصا لما انبجَسَت من ضَرْبه البُخلاء بَقاءُ لِئام الناس مَوْتٌ عليهمُ كما أنّ موتَ الأكْرمين بَقاء ساقٌ تَرنّح يَشْدُو فوقَهُ ساقُ كأنّه لِحَنِين الصَّوْتِ مُشْتاقُ يا ضَيْعَةَ الشِّعر في بُلْهٍ جَرامقةٍ تَشابهت منهُمُ في اللُّؤْم أخلاق ‏"‏ غُلَّت باَّعناقِهم أَيدٍ مُقَفَّعَةٌ لا بُوركت منهُمُ أَيدٍ وأعنَاق كأنما بينهم في مَنْع سائلهم وحَبْس نائلهم عَهْد ومِيثاقُ كم سُقْتهم بأَماديحي وقُدْتهم نحو المَعالي فما انقادوا ولا انساقوا وإن نَبا بيَ في ساحاتهم وَطنٌ فالأرض واسعة والناس أَفراق ما كنتُ أوّلَ ظمآن بمَهمهة يَغرُّه من سراب القَفْر رَقراق رِزْقٌ من الله أرضاهم وأسخطَني اللّهُ للأنْوك المَعْتوه رَزَّاق يا قابضَ الكف لا زالت مُقبَّضة فما أناملُها للناس أرزاق وغِبْ إذا شِئت حتى لا تُرى أبداً فما لفقدك في الأحشاء إقلاق ولا إليك سبيلُ الجود شارعةٌ ولا عليكَ لنور المجد إشراق لم يَكتنفني رَجاء لا ولا أمل إلا تكنّفه ذُلّ وإملاق يَتحامَوْن لِقائي مثلَ ما يَتحامَوْن لِقاءَ الأسد طَلْعتي أثقلُ في أعينهم وعلى أنفسهم من أحُد لو رأوني وَسْط بحْرٍ لم يكن أحَدٌ يأخذ منهم بيَدىِ ‏"‏



باب في الكبر
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقول الله تبارك وتعالى‏:‏ العَظمة إزاري والكِبْرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما قصمتُه وأهنته‏.‏
وقال عليه السلام‏:‏ لا يدخل حَضْرة القدس مُتكبِّر‏.‏
وقال‏:‏ فَضل الإزار في النار‏.‏
معناه‏:‏ من سَحب ذيلَه في الخُيلاء قاده ذلك إلى النار‏.‏
و ‏"‏ نَظر الحسنُ إلى عبد الله بن الأهْتم يَخْطِر في المَسْجِد فقال‏:‏ انظروا إلى هذا ليس منه عضو إلا وللّه عليه نِعْمة وللشيطان في لَعْنة‏.‏
وقال سَعد بن أبي وَقّاص لابنه‏:‏ يا بُني‏:‏ إيّاك والكِبرَ ولْيكُنْ فيما تَسْتَعِين به على تَرْكه‏:‏ عِلْمُك بالذي منه كنتَ والذي إليه تَصِير وكيف الكِبْر مع النُّطْفة التي منها خُلِقتَ والرحِم التي منها قُذِفْت والغِذَاء الذي به غُذِيت‏.‏
وقال يحيى بن حَيّان‏:‏ الشريفُ إذا تَقَوى تواضَع والوَضيع إذا تقوَّى تَكَبَّر‏.‏
وقال بعضُ الحُكماء‏:‏ كيف يَسْتقِرّ الكِبر فيمن خُلِق من ترَاب وطُوِي على القَذَر وجَرى مجرى البول‏.‏
وذكر الحسنُ المُتكبرين فقال‏:‏ يُلْفي أحدُهم ينص ‏"‏ رَقَبَته ‏"‏ نصّا ينفَض مذرويه ويَضرب أصْدَريه يَمْلُخ في الباطل مَلْخا يقول‏:‏ ها أناذا فاعرفُوني قد عَرَفناك يا أَحمق مَقتك الله ومَقتك الصالحون‏.‏
ووَقف عُيينة بن حِصْن بباب عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه فقال‏:‏ استأذِنُوا لي على أمير المؤمنين وقولُوا له‏:‏ هذا ابن الأخيار بالباب‏.‏
فأذِن له فلما دَخل عليه قال له‏:‏ أنتَ ابن الأخْيار قال نعم قال له‏:‏ بل أنتَ ابن الأَشْرار وأما ابن الأخيار فهو يُوسف بن يَعْقوب بن إسحاق بن إبراهيم‏.‏
وقيل لعبيد اللهّ بن ظَبْيان‏:‏ كثر الله في العَشِيرة أمثالك فقال‏:‏ لقد سألتم الله شَططا‏.‏
وقيل لرجُل من بني عبد الدَّار عَظِيم الكِبْر‏:‏ ألا تَأْتي الخَلِيفة قال‏:‏ أخشى أَلا يَحمل الجسْرُ شرفي‏.‏
وقَيل له‏:‏ ألا تَلبَس فإنَّ البَردَ شدِيد قال‏:‏ حَسَبي يُدْفئني‏.‏
قيل للحجاجِ‏:‏ كيف وجدت منزلَك بالعِرَاق أيها الأمِير قال‏:‏ خَير مَنزِل لو أدركتُ بها أربعةَ نفر فَتقرَّبت إلى الله سُبحانه وتعالى بدمائهم قيل له‏:‏ ومَن هم قال‏:‏ مُقاتل بن مِسْمع وَلِي سِجِسْتان فأتاه الناسُ فأعْطاهم الأموال فلما قَدِم البصرة بسط له الناسُ أرديتهم فمشى عليها فقال‏:‏ لمثْل هذا فليعمل العامِلُون‏.‏
وعبيد اللهّ بن ظَبيان خطَب خُطْبة أَوْجَز فيها فناداه الناسُ من أَعْراض المَسْجد‏.‏
كثَّر الله فينا أمثالك قال‏:‏ لقد كلَّفتم ربكم شططا‏.‏
ومَعْبد بن زُرارة كان ذات يومٍ جالساً على طريق فمرَّت به امرأةٌ فقالت‏:‏ يا عبد الله أين الطَّريق لِمَكان كذا فقالَ لمِثْلي يُقال يا عبد الله‏!‏ وَيلك‏!‏ وأبو السَّمّال الحَنَفِيّ أضلَّ ناقَته فقال‏:‏ واللهّ لئن لم تُرَدَّ عليَّ ناقتي لا صلّيتُ أبداً‏.‏
وقال ناقلُ الحديث‏:‏ ونَسيِ الحجَّاج نفسَه وهو خامسُ هؤلاء الأربعة بل هو أشدُّهم كُفْراً وأعْظَمهم إلحاداَ حين كتب إلى عبد الملك بن مروان في عَطْسة عَطسها فَشَمَّته أصحابُه ورَدَ عليهم‏:‏ بَلغني ما كان من عُطاس أمير المؤمنين وتشْميت أصحابه له وردّه عليهم فيا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيما‏.‏
وكتابُه إليه‏:‏ إنّ خَليفة الرَّجل في أهلِه أكرمُ عليه من رَسوله إليهم وكذلك الخُلفاء يا أميرَ المؤمنين أعلَى منزِلةً من المُرسلين‏.‏
العُتْبيّ قال‏:‏ رأيتُ مُحْرِزاَ مولَى باهلة يَطوف على بَغْلة بين الصَّفا والمَرْوة ثم رأيتُه بعد ذلك على جِسْر بَغْداد راجلاً فقلتُ له‏:‏ أراجلٌ أنتَ في مِثْل هذا المَوْضع قال‏:‏ نعم إنّي ركبتُ في مَوْضع يمْشي الناسُ فيه فكان حقيقاً على الله أن يُرَجِّلني في مَوْضع يَرْكب الناس فيه‏.‏
وقال بعضُ الحكماء ‏"‏ لابنه‏:‏ يا بُني عليك بالترحيب والبشر وإياك والتقطيبَ والكبر فأنَ الأحرار أحبُّ إليهم أن يًلْقَوْا بما يُحبون ويُحرَموا مِن أن يُلْقَوْا بما يكرهون ويًعْطَوْا‏.‏
فانظر إلى خَصْلة غَطّت على مِثْل اللؤم فالزمها وانظر إلى خَصلة عَفَّت على مثل الكرة فاجتنبها‏.‏
ألم تسمع قول حاتم الطائي‏:‏ أضاحِك ضيفي قبل إنزال رَحْله ويُخصب عندي المَحَلُّ جديبُ وما الخِصب للأضياف أن يَكْثُرَ القِرَى ولكنما وجهُ الكريم خَصيب وقال محمود الوراق‏:‏ التِّيه مَفسدة للدِّين منقصة للعَقل لمجلبة للذمّ والسخَطِ مَنْع العطاء وبَسْط الوجه أحسنُ من بَذْل العطاء بوَجْه غير منبسط وقال أيضاً‏:‏ بِشْرُ البخيلِ يكاد يصْلِح بُخلَه والتِّيهُ مَفْسدة لكلِّ جوادِ ونقيصة تبْقى على أيامه ومَسبَّة في الأهل والأولاد وقال آخر في الكِبر‏:‏ مع الأرض يا بنَ الأرض في الطَيران أَتأْمُل أن تَرْقَى إلى الدَبَرَانِ حَمَاهُ مكانُ البُعد مِن أَن تَناله بسَهْم من البَلْوى يدُ الحَدثان التسامح مع النعمة والتذلل مع المصيبة قالوا‏:‏ من عَزّ بإقبال الدَّهر ذَلّ بإِدْباره‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن أَبْطره الغِنَى أذلّه الفقر‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن وَليَ وِلاية يَرى نفْسَه أكبر منها لم يتغيَّر لها ومَن وَليَ ولايةً يراها أكبر من نفسه تغير لها‏.‏
وقال يحيى بن حَيّان‏:‏ الشرَّيف إذا تقوَّى تواضع والوضيعُ إذا تقوَّى تكبَّر‏.‏
وقال كِسرى‏:‏ احذَرُوا صَوْلة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شَبع‏.‏
وكتب عليًّ بن الجَهْم إلى ابن الزيّات‏:‏ أبا جعفر عرج على خُلطائكَا وأَقصِر قليلاً من مَدى غُلوائكَا فإن كنتَ قد أُوتيت في اليوم رِفْعةً فإنّ رَجائي في غَدٍ كرجائكا وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابيّ‏:‏ إذا نال لم يَفْرَح وليس لنَكبة أَلمَت به بالخاشع المُتَضائل وقال الحسنُ بن هانئ‏:‏ لقد حَزِنْتُ فلَم أَمُتْ تَرَحا ولقد فَرِحْتُ فلم أمُت فَرَحا كتب عقِيلُ بن أبي طالب إلى أخيه عليّ بن أبي طالب عليه السلامُ يسأله عن حاله فكتب إليه عليٌّ رضي الله عنه‏:‏ فإنْ تَسألِينيّ كيفَ أنتَ فإنني جَليِدٌ على عَض الزَّمان صَلِيبُ عَزِيزٌ عليًّ أنْ تُرى بي كآبةٌ فيفرح واشٍ أو يُسَاء حَبِيب ما جاء في ذم الحمق والجهل قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الجاهلُ يظلم مَن خالطه ويعتدي على مَن هو دونه ويتَطاول على مَن هو فَوْقه ويتَكلّم بغير تَمييز وإن رَأَى كريمةً أعرض عنها وإن عَرَضت فتْنة أرْدَتْه وتهوَّر فيها‏.‏
وقال أبو الدَّرداء‏:‏ عَلامة الجاهل ثلاث‏:‏ العُجُب وكَثرة المَنطق وأن يَنْهَى عن شيء ويأتيه‏.‏
وقال أرْدشير‏:‏ حَسْبُكم دَلالة على عَيْب الجهل أنَّ كل الناس تَنفر منه وتَغضب من أن تُنسب وكان يُقال‏:‏ لا تَغْرُرْك من الجاهل قَرابة ولا أُخوَة ولا إِلْف فإنّ أحقَّ الناس بتَحريق النَّار أقربُهم منها‏.‏
وقيل‏:‏ خَصْلتان تقَرِّبانك من الأحمق كثرةُ الالتفات وسرعة الجواب‏.‏
وقيل‏:‏ لا تَصْطحب الجاهِلَ فإنّه يُريد أن يَنْفعك فيضُرّك‏.‏
ولبعضهم‏:‏ لكلِّ دَاءٍ دواءٌ يستطب به إلا الحماقةَ أَعْيَتْ مَن يُدَاويها ولأبى العتاهية‏:‏ احْذَرِ الأحمقَ أن تَصْحَبَه إنما الأحمقُ كالثَّوب الخَلَقْ كلَّما رَقَّعْتَه مِن جانبٍ زَعْزَعتْه الريحُ يوماَ فَانخرق أو كصدع في زُجاج فاحشٍ هل تَرَى صَدْع زُجاجٍ يَلْتصق فإذا عاتبتَه كي يَرْعَوِي زادَ شرًّا وتمادى في الحُمق



باب في التواضع
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَن تَوَاضَع للّه رَفعه الله‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مَرْوان رَفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أفضَل الرجال مَن تَوَاضع عن رِفْعة وزَهِد عن قُدْرة وأنصف عن قوة‏.‏
وقال ابن السماك لعيسى بن موسى‏:‏ تواضُعك في شَرَفك أكبرُ من شرَفك‏.‏
وأصبح النّجاشيّ يوماً جالساً على الأرض والتّاجُ عليه فأعظمت بَطارقتُه ذلك وسألُوه عن السَّبب الذي أوْجبه فقال‏:‏ إني وَجدت فيما أنزل الله على المَسِيح‏:‏ إذا أنعَمْتُ عَلَى عَبْدِي نِعمةً فَتَواضَع أتمَمتُها عليه وإنه وُلد لي هذه الليلةَ غلامٌ فتواضعتُ شكراً للّه‏.‏
خرج عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه ويدُه على المُعلَّى بن الجارود العَبْديِّ فَلقيَتْه امرأةٌ من قُرَيش فقالت له‏:‏ يا عُمر فَوَقف لها فقالت‏:‏ كنَا نَعْرفك مُدةً عُميراً ثم صِرْت من بعد عُمير عُمر ثم صِرْت من بعد عُمر أميرَ المؤمنين فاتق اللهّ يا بن الخطّاب وانظُر في أمور الناس فإنه مَن خاف الوَعيد قَرُبَ عليه البَعيد ومَن خاف الموتَ خَشيَ الفَوْت‏.‏
فقال المُعلّى‏:‏ إيهاً يا أمةَ الله فقد أبكيتِ أميرَ المؤمنين‏.‏
فقال له عُمر‏:‏ اسكت أتَدْري مَن هذه ‏"‏ ويحك ‏"‏ هذه خَوْلة بنت حَكيم التي سمع الله قولَها من سمائه فعُمَر أحرى أن يَسمع قولَها ويَقْتدي به‏.‏
وقال أبو عَبّاد ‏"‏ الكاتب ‏"‏‏:‏ ما جَلس إليَّ رجل قَطَ إلا خيِّل إليَ أنّي سأجلس إليه‏.‏
وسُئل الحسنُ عن التواضع فقال‏:‏ هو أن تخرج من بَيْتك فلا تلْقى أحداً إلا رأيتَ له الفضلَ وقال رجل لبَكر بن عبد الله‏:‏ عَلِّمني التواضع فقال‏:‏ إذا رأيتَ مَن هو أكبَرُ منك فقُل‏:‏ سَبَقني إلى الِإسلام والعَمل الصالح فهو خير مني وإذا رأيت ‏"‏ من هو ‏"‏ أصغرُ منك فقُل‏:‏ سبقتُه إلى الذُّنوب والعمل السيئ فأنا شرٌّ منه‏.‏
وقال أبو العتاهية‏:‏ يا مَن تشرًّف بالدُّنيا وزينتها ليسَ التشرُّف رَفْعَ الطّين بالطيّن إذا أردتَ شريفَ الناس كلِّهِمُ فانظُرْ إلى مَلِك في زِيِّ مِسْكينَ ‏"‏ ذاك الذي عَظُمت في الناس هِمَّته وذاكَ يَصْلح للدُّنيا وللدِّين ‏"‏ الرفق والأناة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَن أًوتِيَ حظَّه من الرِّفق فقد أوتي حظَّه من خَيْر الدُنيا والآخرة‏.‏
وقالت الحُكماء‏:‏ يُدْرَك بالرِّفق ما لا يُدْرَك بالعًنْف ألاَ تَرى أنّ الماء على لِينه يَقْطع الْحَجَر على شِدَته وقال أشجعُ ‏"‏ بن عمرو ‏"‏ السُّلَميّ لجعفر بنِ يحيى بنِ خالد‏:‏ وقال النابغة‏:‏ الرِّفْقُ يُمْن والأَناةُ سعادةٌ فاْسْتَأْنِ في رِفْق تُلاَق نَجَاحَا وقالوا‏:‏ العَجل بَرِيدُ الزَّلل‏.‏
أخذ القَطامىِ التَّغلبِيّ هذا المعنى فقال‏:‏ قد يُدْرِك المُتَأنِّي بعض حاجتِه وقد يكونُ معَ المُستَعْجل الزَّللُ وقال عَدِيُّ بن زَيد‏:‏ قد يُدْرِكُ المُبْطِىءُ مِن حظّه والْحَين قد يَسْبقُ جُهْدَ الحَرِيصْ استراحة الرجل بمكنون سره إلى صديقة تقول العرب‏:‏ أَفْضَيْتُ إليك بشُقوري‏.‏
وأَطلَعْتُك على عًجَري وبُجَري‏.‏
لوكان في جَسدي بَرص ما كَتَمتُه‏.‏
وقال اللهّ تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرّ ‏"‏‏.‏
وقالت الحكماء‏:‏ لكلّ سِرّ مُستودع‏.‏
وقالوا‏:‏ مكاتمة الأدْنين صرَيحُ العُقوق‏.‏
وأبثثتُ عَمراً بعضَ ما في جَوَانحي وجَرَّعتُه من مُرّ ما أتجرع ‏"‏ ولا بدَّ من شَكْوى إلى ذي حَفِيظةٍ إِذَا جَعلتْ أسرارُ نفس تَطَلَّع ‏"‏ وقال حبيب‏:‏ شكوت وما الشَّكْوَى لِمِثْليَ عادةٌ ولكنْ تَفِيضُ النفسُ عند امتلائها وأنشد أبو الحسن محمد الَبَصَريَّ‏:‏ لَعِبَ الهَوَى بمَعالمي ورُسومي ودُفِنْتُ حيًّا تحت رَدْم هُمُومِي وشكوتُ هَمِّي حين ضِقْتُ ومَن شكا هَمًّا يضِيقُ به فغير ملوم وقال آخر‏:‏ إِذا لم أطِق صَبراً رَجعتُ إلى الشكوى وناديتُ تحت اللًيل يا سامع النَّجْوَى وأَمطَرْت صَحْن الخَدِّ غيثاً من البُكا على كَبِد حَرَّى لِتَرْوَى فما تَرْوَى الاستدلال باللحظ على الضمير قالت الحكماء‏:‏ العينُ باب القَلْب فما كان في القلب ظهَر في العين‏.‏
أبو حاتم عن الأصمعي عن يونس بن مُصْعب عن عثمان بن إبراهيم بن محمد قال‏:‏ إني لأَعرف في العين إِذَا عَرفتْ وأَعرِف فيها إذا أنكرتْ وأعرف فيها إذا لم تَعرف ولم تُنكر أما إذا عرفت فتخواصّ وأما إذا أَنكرت فتَجْحظ وأما إذا لم تَعرف ولم تُنْكر فتَسْجُو‏.‏
وقال صريعُ الغَواني‏:‏ جَلنا عَلامات اْلمَوَدَّة بَيْننا مَصايِدَ لَحْظٍ هنَ أَخفي من السِّحْرِ فأعرفُ فيها الوَصْلَ في لِينِ طَرْفِها وأعرِف فيها الهَجْر في النَظر الشزْر وقال محمودٌ الورّاق‏:‏ إنّ العُيون على القُلوب شَوِاهدٌ فبغيضُها لكَ بَينٌّ وحبِيبُها وإذا تَلاحظت العُيون تَفاوضت وتحدثت عما تجن قلوبها يَنْطِقْنَ والأفْواهُ صامِتةٌ فما يَخْفي عليك بَريئُهَا ومُريبها وقال ابن أبي حازم‏:‏ خذْ مِن العَيْش ما كَفي ومِن الدَّهر ما صَفا عين من لا يُحب وَصْلك تُبْدِي لكَ آلْجَفَا ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ صاحب في الحب مَكْذُوبُ دَمْعة للشَّوق مَسْكوب وقال الحسنُ بن هانئ‏:‏ وإِنّي لِطَيْر العيَنْ بالعَينْ زاجِر فقد كِدْتُ لا يَخْفي عَلَيَّ ضَمِيرُ الاستدلال بالضمير على الضمير كتب حَكيمٌ إلى حَكيمٍ‏:‏ إذا أردتَ معرفةً مالَك عنِدي فضَع يَدَك على صدْرك فكما تَجدُني كذلك أجدُك‏.‏
وقالوا‏:‏ إيَّاكم ومَن تُبغضه قلوبُكم فإنَ القُلوب تُجَازي القلوبَ‏.‏
وقال ذو الإصْبع‏:‏ لا أسألُ الناسَ عمّا في ضَمائرهم ما في ضمِيري لهم مِن ذاك يَكْفِينى وقال محمود الورّاق‏:‏ لا تسألنَّ المَرْء عمًا عنِده واستَمْل ما في قَلبه من قَلْبكَا إنْ كان بُغْضاً كان عندك مِثْلُه أو كان حُبَا فاز منك بحًبِّكا الإصابة بالظن قيل لعمرو بن العاص‏:‏ ما العَقْل قال الإصابة بالظَّن ومَعْرفة ما يكون بما قد كان‏.‏
وقال عليٌ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ للهّ دَرُّ عباس إن كان لينظر إلى الغَيْب من سِترْ رَقيق‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ وقَلّما يَفْجأ المَكْرُوهُ صاحبَه حتى يَرى لوجوه الشَّرّ أسْبَاباً وإنّما رَكَّب الله العقلَ في الإنسان دون سائر الحَيوان ليستدلَ بالظاهر على الباطن ويَفْهم الكثيرَ بالقليل‏.‏
ومن قوِلنا في هذا المعنى‏:‏ يا غافلا ما يَرى إلا مَحاسِنَه ولو دَرَى ما رأى إلا مَساويهِ انظُر إلى باطنِ الدًّنيا فظاهِرُها كلُّ البهائم يَجْري طَرْفُها فيه تقديم القرابة وتفضيل المعارف قال الشَّيباني‏:‏ أَوَّل مَن آثر القَرابة والأولياء عثمانُ بن عفّان رضي الله عنه وقال‏:‏ كان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يمنع أقاربَه ابتغاءَ وجه اللهّ‏.‏
فلا يُرَى أفضل من عمر‏.‏
وقال لما آوَى طريدَ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما نَقِم الناسُ عَلَيَّ أن وصلتُ رحماً وقَرَّبت وقيل لمُعَاوية بن أبي سُفيان‏:‏ إنَّ آذِنَك يُقدِّم معارفَه وأصدقاءَه في الإذْن على أشرافِ الناس ووُجوههم فقال‏:‏ وَيْلكم‏!‏ إنَّ المَعْرفة لتَنْفع في الكلْب العَقور والجَمَل الصَّؤول فكيف في رَجُل حَسيب ذي كرم ودين‏.‏
وقال رجلٌ لزِياد‏:‏ أصلح اللهّ الأميرَ إنَ هذا يُدِلّ بمَكانةٍ يَدَّعيها منك قال‏:‏ نعم وأخبرك بما يَنْفعه من ذلك إنْ كان الحق له عليك أخذتُكَ به أخذاً شديداً وإن كان لك عليه قَضيته عنه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ أقولُ لجاريِ إنْ أتاني مُخاصماً يُدِلُ بحقِّ أو يُدِلُّ بباطل إذا لم يَصِلْ خيْري وأنتَ مُجاورِي إليك فما شَرِّي إليك بواصِل العُتْبيّ قال‏:‏ وَلَي عبدً اللهّ بنُ خالد بن عبد الله القَسْرِي ‏"‏ قَضاء ‏"‏ البَصرة فكان يُحابى أهل مودَّتِه فقيلَ له‏:‏ أيّ رجلٍ أنت لولا أنك تُحَابي‏!‏ قال‏:‏ وما خَيْر الصَّديق إذا لم يَقْطع لصديقه قِطْعة من دينه‏.‏
ووَلِي ابن شُبرمة قَضَاء البَصرة وهو كاره فأحسن السِّيرة‏.‏
فلما عُزِلَ اجتمع إليه أهلُ خاصَّته ومَودَّته فقال لهم‏:‏ والله لقد وَليتُ هذه الوِلاية وأنا كارهٌ وعُزلت عنها وأنا كاره وما بي من ذلك إلا مخافَة أن يلي هذه الوُجوهَ من لا يَعرف حقّها‏.‏
ثم تمثَل بقول الشاعر‏:‏ بَلَى إنَّ أقواماً أخافُ عليهمُ إذا مِتُّ أن يُعطوا الذي كنتُ أمنع ‏"‏ وتقول العامَّة‏:‏ مَحَبَّة السلطان أردّ عليك من شُهودك ‏"‏ وقال الشاعر‏:‏ إذا كان الأمير عليك خَصما فَلَيس بقابلٍ منك الشّهودَا وقال زياد‏:‏ أحب الولايةَ لثلاث وأَكرهها لثلاث‏:‏ أحبها لِنَفْع الأوْلياء وضرَّ الأَعْداء واسترخاص الأشياء وأكرهها لِرَوْعة البريد وقُرْب العزْل وشَماتة العدوّ‏.‏
ويقول الحُكماء‏:‏ أَحقُّ مَن شاركك في النِّعمة شرُكاؤك في المُصِيبة‏.‏
أَخذه الشاعر فقال‏:‏ وإنَ أوْلى الموالي أن تُوَاسِيه عند السُّرُور لمن آساك في الحزَن إنّ الكِرام إذا ما أسْهلُوا ذَكَروا مَن كان يَألَفهم في المَنْزِل الخَشِن وقال حَبِيب‏:‏ قَبَح الإلهُ عداوةً لا تُتّقى ومَودَّةً يُدْلَى بها لا تَنْفَعُ فضل العشيرة قال عليّ بنُ أبي طالب رضي اللهّ عنه‏:‏ عشيرةُ الرجل خيرٌ للرجل من الرجل للعَشِيرة إن كَفَّ عنهم يداً واحدة كَفُّوا عنه أيدياً كثيرة مع مودَّتهم وحِفَاظهم ونُصْرتهم‏.‏
إنِّ الرجل لَيَغْضَب للرجل لا يَعْرفه إلا بِنسَبه وسأتْلُو عليكمِ في ذلك آياتٍ من كِتاب اللهّ ‏"‏ تعالى ‏"‏ قال اللهّ عزّ وجلّ فيما حكاه عن لُوط‏:‏ ‏"‏ لَوْ أنَّ لِي بِكُم قُوّة أَوْ آوِى إلى رُكْن شَدِيد ‏"‏‏!‏ يعني العشيرة ولم يكن للوط عَشيرة‏:‏ فوالذي نفسيِ بيده ما بعث الله نبيًّا من بعده إلا في ثَرْوَة من قومه ومَنعة من عَشِيرته ثم ذكر شُعيباَ إذ قال له قومُه‏:‏ ‏"‏ إنَّا لَنَرَاكَ فِينا ضعِيفاً ولَوْلا رَهطك لَرَجَمْناكَ ‏"‏ وكان مَكْفوفاً واللّه ما هابُوا ‏"‏ الله ولا هابوا ‏"‏ إلا عشيرتَه‏.‏
وقبل لِبُزُرْجمْهِر‏:‏ ما تقول في ابن العم قال‏:‏ هو عدوُّك وعدوُّ عدوّك‏.‏
الدَّين مِن حَدِيث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ الدَّيْنُ يَنْقُص ذا الحَسب‏.‏
وقال عمر ‏"‏ ألا إنّ ‏"‏ لأسَيْفع أُسَيْفِع جُهينة رَضي مِن دِينه وأمانته أن يُقال‏:‏ سَبق الحاج ألا وإنه قد أدان مُعرِضاَ وأصبح قدرِين به فمن كان له عِنْده شيء فلْيأْتنا بالغداة وقال مولَى قُضاعة‏:‏ فلو كنتُ مولىَ قَيْس غَيْلانَ لم تَجد علي لإنْسان من الناس دِرْهَما ولكنَّني مولَى قُضاعة كُلِّها فلستُ أبالي أن أدينَ وتَغرَما وقال آخر‏:‏ إذا ما قضيْتَ الدَّينَ بالدَين لم يكُن قَضاءَ ولكِن كان غًرْماً على غُرْم وقال سُفيان الثوريّ‏:‏ الدَّين هَمٌ باللًيل وذُلٌ بالنهار فإذا أراد الله أن يُذِلَ عَبداً جَعله قِلادة في عُنقه‏.‏
ورأى عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً مُتقنِّعاً فقال له‏:‏ كان لقمان الحكيم يِقول‏:‏ القِنَاع رِيبةٌ بالليل ذُلٌّ بالنهار فقال الرجلُ‏:‏ إنّ لُقمان الحكيم لم يكن عليه دين‏.‏
وقال المقنع الكِنْديّ‏:‏ يَعِيبونني بالدَين قَومي وإنما تَداينتُ في أشياء تُكْسِبهم حَمْدا إذا أكلوا لَحْمي وَفَرتُ لحومهم وإن هدَمُوا مَجْدِي بنيتُ لهم مَجْدَا وقالت الحكماء‏:‏ لَيس لكَذّاب مُرُوءة‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن عُرف بالكَذِب لم يَجُزْ صِدْقه‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يجوز الكَذِب في جِدّ ولا هَزْل‏.‏
وقال‏:‏ لا يكون المؤمن كَذّاباً‏.‏
وقال عبد الله بن عُمر‏:‏ خُلْف الوَعْدِ ثُلُث النِّفاق‏.‏
وقال حبيب الطائيِّ في عَيّاش‏:‏ يا أكثر الناس وَعْداَ حَشْوُه خُلْفٌ وأكثر الناس قولاً حَشْوُه كَذِبُ ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ صَحِيفةٌ أفنيتْ ليتٌ بها وعسى عُنْوانها راحةُ الرِّاجي إذا يَئسَا وَعْدٌ له هاجسٌ في القَلْب قد بَرِمتْ أحشاءُ صَدْري به من طول ما آنحبسا مواعدٌ غَرَّني منها وَمِيضُ سَنَى حتى مَددْتُ أيها الكًفّ مقْتَبِسا فَصادفتْ حجَراً لو كنتَ تَضْرِبه مِن لُؤْمه بعَصَا مُوسى لما آنْبَجَسا كأنما صِيغ من بُخل ومن كَذِب فكان ذاكَ له رُوحا وذا نَفَسا والقول به اعلم أنّ السامع شريك القائل في الشَر‏.‏
قال الله ‏"‏ تعالى ‏"‏‏:‏ ‏"‏ سماعُونَ لِلْكَذِب ‏"‏‏.‏
وقال العُتبي‏:‏ حَدّثني أبي عن سَعد القصير قال‏:‏ نَظر إليَّ عمرو بن عُتبة ورجل يَشْتُم رجلاً بين يديّ فقال لي ويلك - وما قال لي ويلك قبْلها - نَزَه سَمْعك عن استماع الخَنا كما تُنزِّه لِسانَك عن الكلام به فإنّ السامعَ شريكُ القائل وإنه عَمد إلى شرِّ ما في وعائه فأفرغه في وِعائك ولو رُدَّت كلمة جاهل في فِيهِ لَسَعِدَ رادُّها كما شَقي قائُلها‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:32 AM

باب في الغلو في الدِّين
توّفِّي رجل في عَهد عمرَ بن ذَرّ ممن أسرَف على نفسه في الذنوب وجاوَزَ في الطُّغيان فتَحَامَى الناسُ عن جِنازته فحضرَها عمرُ بن ذرّ وصلّى عليه فلما أدْلٍيَ في قبره قال‏:‏ يَرْحمك الله أبا فُلان صَحِبْت عُمْرك بالتوحيد وعَفَّرت وجهك لله بالسُّجود فإن قالوا مُذْنِب وذو خَطايا فمَن منَا غيرُ مُذنِب وذِي خطايا‏.‏
ومن حديث أبي هُريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال‏:‏ ‏"‏ يأ يُّها الرُسل كُلُوا مِنَ الطًيبَاتِ واعْمَلوا صالِحاً إنّي بما تَعملون عَلِيم ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ يأيها الذِينَ آمَنُوا كلوا مِنْ طَيِّبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ ‏"‏ ثم ذكر الرجلَ يرى أشعثَ أغبرَ يمُدُّ يديه إلى السماء يقول‏:‏ يا رَبّ يا رَب ومَطعَمه حَرَام ومشرَبه حَرام ومَلْبسه حَرام فأنى يُستجاب له قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن اللهّ بَعثني بالْحَنِيفيَّة السَّمْحة ولم يبعثني بالرهبْانية المُبْتدعة سُنَّتي الصلاة والنوم والإفطار والصَّوم فمن رَغِب عن سُنتي فليس مني‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ هذا الدِّين مَتِين فأَوْغل فيه برِفق فإنّ اْلمنبَتَ لا أرْضاً قَطع ولا ظَهْراً أَبقى‏.‏
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ خَير هذه الأمَّة هذا النَّمط الأوْسط يَرْجع إليهم الغالي ويَلحق بهم التّالي‏.‏
وقال مطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير لابنه وكان قد تَعبَّد‏:‏ يا بُنيّ إن الحسنَة بين السيئتين - يعني أن الدين بين الإفْراط والتّقْصير - وخَير الأمور أَوْسطها وشَرّ السّير الحَقْحقة‏.‏
وقال سلمان الفارِسيّ‏:‏ القَصْدَ والدًوامَ فأنت الجَواد السابق‏.‏
وقالوا‏:‏ ‏"‏ طالب العِلم و ‏"‏ عاملُ البِرِّ كآكِل الطَّعام إن أكل منه قوتاً عصمه وإن أسْرَف منه أَبْشَمه‏.‏
وفي بعض الحديث‏:‏ إن عيسى بنَ مريم عليه السلام لَقِيَ رجلاً فقال له‏:‏ ما تَصْنع قال‏:‏ أَتعبَّد ونظير هذا أن رفقة من الأشعريين كانوا في سَفر فلما قَدِموا قالوا‏:‏ ما رأينا يا رسول الله بعدَكَ أفضلَ من فلان كان يَصُوم النهار فإذا نزَلنا قام من الليل حتى نرْتحل قال‏:‏ فَمن كان يَمْهن له ويَكفُله قالوا‏:‏ كلّنا قال‏:‏ كلّكم أفضلُ منه‏.‏
وقيل للزهري‏:‏ ما الزّهد في الدنيا قال ‏"‏ أمّا ‏"‏ إنه ما هو بتشعيث اللِّمة ولا قَشَف الهيئة ولكنَّه ظَلَف النَّفس عن الشَّهوة‏.‏
عليِّ بن عاصم عن أبي إسحاق الشَّيباني قال‏:‏ رأيتُ محمد بن الحنفيَّة واقفاً بعَرَفات على بِرذَوْن وعليه مُطْرَف خز أصْفَر‏.‏
السدِّي عن ابن جُريج عن ‏"‏ عثمان بن أبي سليمان‏:‏ أن ‏"‏ ابن عباس كان يَرْتدي رِدَاء بأَلْف‏.‏
إسماعيل بن عبد الله بن جعْفر عن أبيه قال‏:‏ رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ثوبان مصبوغان بالزَّعفران‏:‏ رداء وعمامة‏.‏
وقال مَعمر‏:‏ رأيتُ قميص أيوب السِّخْتِياني يكاد يَمس الأرض فسألتُه عن ذلك فقال‏:‏ إن الشُّهرة كانت فيما مضى في تذْييل القَمِيص وإنهّا اليومَ في تَشميره‏.‏
أبو حاتم عن الأصمعي‏:‏ أن ابن عَوْن اشترى بًرْنساً فمرَّ على معاذَة العَدَويَّة فقالت‏:‏ مِثلُك يَلْبس هذا فذكرتُ ذلك لابن سيربن قال‏:‏ أفلا أخبرتها أن تَميما الدارمي اشترى حُلَّة بألف فصلّىِ قدم حمَّاد بن سَلمة البَصرة فجاءه فرْقد السَّبَخي وعليه ثيابُ صُوف فقال له حمَاد‏:‏ ضَع عنك نَصرانيّتك هذه فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم ‏"‏ فيخرج إلينا ‏"‏ وعليه معَصفْرة ونحن نرى أن المَيْتة قد حلَّتْ له أبو الحسن المدائنيّ قال‏:‏ دخل محمد بن واسع على قُتيبة بن مُسلم وَالي خُراسان في مِدْرَعة صوف فقال له‏:‏ ما يدعوكَ إلى لِباس هذه فسكت فقال له قتيبة‏:‏ أكلّمك ولا تُجيبني قال‏:‏ أَكرَه أن أقولَ زُهداً فأُزَكّي نفسي أو أقولَ فَقْراً فأَشكو ربي فما جوابُك إلا السُّكوت‏.‏
قال ابن السًماك لأصحاب الصُّوف‏:‏ واللّه لئن كان لباسُكم وَفْقاً لسرائركم فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها وإن كان مخالفاً لها فقد هَلكتم‏.‏
وكان القاسمُ بن محمد يَلْبس الخزّ وسالِم بن عبد الله يَلْبس الصُّوف ويقعُدان في مجلس المدينة فلا يُنكر هذا على هذا ‏"‏ شيئاَ ‏"‏ ولا ذا على هذا‏.‏
ودَخل رجلٌ على محمد بن المُنْكَدر فوجده قاعداً على حَشايا مُضاعَفة وجاريةٌ تُغَلِّفه بالغالية فقال‏:‏ رَحمك اللّه جئتُ أسألك عن شيء وجدتك فيه - يريد التزيّن - قال‏:‏ على هذا أدركتُ الناس‏.‏
وصلّى الأعمشُ في مسجد قوم فأطال بهم الإمام فلما فَرغ قال له‏:‏ يا هذا لا تُطِلْ صلاتك فإنه يكون خَلْفك ذو الحاجة والكبَير والضَّعيف قال الإمام‏:‏ وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين فقال له الأعمش‏:‏ أنا رسولُ الخاشعين إليك إنهم لا يَحتاجون إلى هذا منك‏.‏
العُتْبيّ قال‏:‏ أصابت الربيعَ بن زِياد نُشَّابةٌ في جبينه فكانت تنتقض عليه كل عام فأتاه عليُّ بن أبي طالب عائداً فقال له‏:‏ كيف تَجدك يا أبا عبد الرحمن قال‏:‏ أجدُني لو كان لا يذهب ما بي إلا بذَهاب بَصري لتمنيّت ذهابَه قال له‏:‏ وما قيمة بَصرك عندك قال‏:‏ لو كانت لي الدُّنيا فديتُه بها قال‏:‏ لا جَرم ليُعطينّك اللهّ على قَدْر الدُنيا لو كانت لك لأنفقتها في سبيله إِنّ الله يُعطي على قَدْر الألم والمُصيبة وعنده بعدُ تَضْعيفٌ كثير‏.‏
قال له الرَّبيع‏:‏ يا أميرَ المؤمنين ألا أشكو إليك عاصمَ بن زِياد قال‏:‏ وماله قال‏:‏ لَبِسَ العَباء وتَرَك المُلاَء وغم أهْلَه وأحْزن وَلَده قال‏:‏ عليِّ عاصماً‏.‏
فلما أتاه عَبس في وَجْهه وقال‏:‏ وَيْلكَ يا عاصم‏!‏ أترى الله أباح لك اللذّاتِ وهو يكره ‏"‏ منك ‏"‏ أخْذَك منها أنت أهونُ على الله من ذلك أو ما سَمعْته يقول‏:‏ ‏"‏ مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان بَيْنهما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَان ‏"‏ حتى قال‏:‏ ‏"‏ يَخْرُجُ مِنْهَما اللُؤْلُؤُ والمَرْجَان ‏"‏‏.‏
وتاللّه لابتذال نِعَم الله بالفِعال أحب إِلي من ابتذالها بالمَقَال وقد سمعته يقول‏:‏ ‏"‏ وأمَّا بِنِعْمَةِ ربكَ فَحَدًث ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ قُلْ مَنْ حَرَمَ زِينَةَ الله الَتي أخْرَجَ لِعِبَادهِ والطيبَاتِ مِنَ الرزْقِ ‏"‏‏.‏
قال عاصم‏:‏ فعلامَ اقتصرتَ أنت يا أميرَ المَؤمنين على لِبْس الخَشِن وأكْل الحَشف قال‏:‏ إن الله افترض على أئمة محمد بن حاطب الْجُمَحيّ قال‏:‏ حدّثني من سَمع عمرو بن شُعيب وكنتُ سمعتُه أنا وأبي جميعاً قال‏:‏ حدّثني عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدّه عن ‏"‏ عبد الله بن مَسعود قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم أمّ ‏"‏ عبد الله بن عمرو ‏"‏ بن العاص ‏"‏ وكانت امرأة تَلْطُف برسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّم فقال‏:‏ كيف أنتِ يا أمَ عبد الله كيف أكونُ وعبد الله بن عمرو رجلٌ قد تخلّى من الدنيا قال لها‏:‏ كيف ذلك قالت‏:‏ حرّم النوم فلا ينام ولا يُفطر ولا يَطْعم اللحم ولا يؤدِّي إلى أهله حقَّهم قال‏:‏ فأين هو قالت‏:‏ خرج ويُوشك أن يَرْجع الساعة قال‏:‏ فإذا رجع فاحبسيه عليَّ‏.‏
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عبد الله وأوْشك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرَّجعة فقال‏:‏ يا عبد الله بن عَمرو ما هذا الذي بلغني عنك ‏"‏ قال‏:‏ وما ذاك يا رسولَ الله قال بَلَغني أنك لا تنام ‏"‏ ولا تُفْطر ‏"‏ قال‏:‏ أردتُ بذلك الأمْنَ من الفزع الأكبر قال‏:‏ وبلَغني أنك لا تَطْعم اللَّحم قال‏:‏ أردتُ بذلك ما هو خيرٌ منه في الجنَّة قال‏:‏ وبلغني أنك لا تؤدي إلى أهلك حقَهم قال‏:‏ أردتُ بذلك نساءً هنَّ خير منهنّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلَّم يا عبد الله بن عمرو إن لك في رسول الله أسوة حَسنة فرسول الله يَصوم ويُفطر ويأكل اللَّحم ويُؤدِّي إلى أهله حقوقَهم‏.‏
يا عبد الله بن عمرو إنَ لله عليك حقّا وإنَ لبدنك عليك حقّا وإن لأهلك عليك حقّا‏.‏
فقال‏:‏ يا رسول الله ما تأمرني أن أصوم خمسة أيام وأفطر يوماً قال‏:‏ لا قال‏:‏ فأصوم أربعة وأفطر يوماً قال‏:‏ لا قال‏:‏ فأصوم ثلاثة وأفطر يوماً قال‏:‏ لا قال‏:‏ فيومين وأفطر يوماً قال‏:‏ لا قال‏:‏ فيوماً ‏"‏ وأفْطِر يوماً ‏"‏ قال‏:‏ ذلك صيام أخي داود يا عبد الله بن عمرو كيف بك إذا بَقِيت في حُثالة من الناس قد مَرِجَتْ عهودُهم ومواثيقُهم فكانوا هكذا - وخالف بين أصابعه قال‏:‏ فما تأمرني ‏"‏ به ‏"‏ يا رسول اللهّ قال‏:‏ تأخذ ما تَعرف وتَدَع ما تُنكر وتَعمل بخاصَّة نَفْسك وتَدع الناس وعوامَّ أمرهم‏.‏
قال‏:‏ ثم أخذه بيده وجعل يمشي به حتى وضعَ يده في يد أبيه وقال له‏.‏
أطِع أباك‏.‏
فلما كان يومُ صِفّين قال له أبوه عمرو‏:‏ يا عبد الله اخرج فقاتل فقال‏:‏ يا أبتاه أتأمُرني أن أخرج فأقاتل وقد سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت وعَهِد إليَ ‏"‏ ما عهد ‏"‏ قال‏:‏ أنشدك الله ألم يكن آخر ما قال لك أن أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك‏:‏ أطِع أباك ٍ قال‏:‏ اللهم بلى قال‏:‏ فإني أعزم عليك أن تَخْرج فتقاتل‏.‏
قال‏:‏ فخرج فقاتل متقلَداً بسيفين‏.‏
القول في القدر أتى قومٌ من أهل القَدر محمد بن المُنْكدر‏.‏
فقالوا له‏:‏ أنت الذي تقول‏:‏ إن الله يُعذِّب الخلق على ما قدَّر عليهم فصرف وجهه عنهم ولم يُجبهم‏.‏
فقالوا له‏:‏ أصلحك الله إن كنت لا تُجيبنا فلا تُخْلِنا من بركة دعائك فقال‏:‏ اللهم لا تُرْدِنا بعُقوبتك ولا تَمكر بنا حِيلتك ولا تُؤاخذنا بتَقْصيرنا عن رِضاك قليلَ أعمالنا تقَبّل وعظيمَ خطايانا اغفر أنت الله الذي لم يكن شيء قبلك ولا يكونُ شيء بعدك وليّ الأشياء ترفع بالهُدى من تشاء لا مَن أحسن استغنى عن عَونك ولا مَن أساء غَلَبك ولا استبدّ شيء عن حُكومتك وقُدرتك ‏"‏ لا ملجأ إلا إليك ‏"‏ فكيف لنا بالمغفرة وليست إلا في يديك وكيف لنا بالرحمة وليست إلا عندك حفيظ لا ينسى قديم لا يَبلى حيّ لا يموت بك عرفناك وبك اهتدينا إليك ولولا أنت لم نَدْرِ ما أنت سُبحانك وتعاليت‏.‏
فقال القوم‏:‏ قد واللّه أخبر وما قَصرّ‏.‏
وقال‏:‏ ذُكر القَدر في مجلس الحسن البصريّ فقال‏:‏ إن الله خلق الخلق للابتلاء لم يُطيعوه بإكراه ولم يَعْصوه بغَلبة لم يُهْملهم من الملْك وهو القادر على ما أقدرهم عليه والمالك لما ملّكهم إياه فإن يأتمر العِباد بطاعة الله لم يكن اللهّ مُثَبِّطاً ‏"‏ لهم ‏"‏ بل يَزيدهم هُدىً إلى هُداهم وتَقوَى إلى تَقْواهم وإن يأتمروا بمعْصية اللّه كان الله قادراً على صرفهم إن شاء وإن خَلّى بينهم وبين المَعْصية فمن بعد إعذار وإنذار‏.‏
مروان بن موسى قال‏:‏ حدّثنا أبو ضَمْرة أنّ غَيْلان قَدِم بكلمة قد صاغها حتى وقف على ربيعة فقال له‏:‏ أنت الذي تزعم أنّ الله أحبَّ أن يُعْصىَ فقال له رَبيعة‏:‏ أنت الذي تزعم أن الله يُعصى كَرها فكأَنما أَلقمه حجراً‏.‏
قيل لطاوس‏:‏ هذا قَتادة يُحب أن يأتيك فقال‏:‏ إن جاء لأقُومنّ قيل له‏:‏ إنه فقيه قال‏:‏ إِبليس أفقه منه قال‏:‏ ‏"‏ رَبِّ بما أَغْوَيْتَني ‏"‏‏.‏
وقيل للشعبّى‏:‏ رأيتَ قتادة قال‏:‏ نعم رأيت كُناسة بين حَشَّين القَدَر هو العِلْم والكِتاب والكَلِمة والإذْن والمشيئة‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ سألتُ أعرابياً فقلت له‏:‏ ما فَضلُ بَني فُلان على بَني فلان قال‏:‏ الكِتاب يعني القَدَر‏.‏
وقال الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ إنَّا كُلّ شيءِ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ كُلُّ في كِتَاب مُبِين ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لعِبَادِنَا اْلمًرْسَلِين ‏"‏ يعني القَدَر‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ وَلَوْلاً كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزَاما ‏"‏‏.‏
قال الخُشني أبو عبد الله محمد بن السَّلام‏:‏ شاعران من فُحُول الجاهلية لهما ‏"‏ بَيْتان ‏"‏ ذَهب ‏"‏ أحدهما في بيته ‏"‏ مَذْهب العَدْلية والآخر ذَهب مَذْهب الجَبْرية فالذي ذهب مَذْهب العَدْلية أعشى بَكْر حيثُ يقول‏:‏ آسْتأثر الله بالوَفَاء وبالعَدْل وَوَلًى اللامة الرَّجلاَ إنّ تَقْوَى ربِّنَا خَيْرُ نَفَل وبإذْن الله رَيثي وعَجَلْ مَن هَداه سُبلَ الخْير اهتدى ناعِمَ البال ومَن شاءَ أَضَل وقال إِياس بن مُعاوية‏:‏ كلَّمتُ الفِرَق كلها ببعض عَقْلي وكلًمتُ القَدَرِيّ بعَقْلي كلِّه فقلت له‏:‏ دُخولك فيما ليس لك ظُلْم منك قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ فإنّ الأمر كله للّه‏.‏
ومن قوْل اللهّ عز وجل في القدر‏:‏ ‏"‏ قُلْ فَلّلهِ الْحُجًةُ البَالِغةُ فَلَوْ شَاء لهَدَاكمْ أجْمَعين ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ يَمُنُّون عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَّلَيَ إِسْلامَكُمْ بَل الله يَمُنَّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ لِإيمَان إِنْ كنْتمْ صَادِقينَ ‏"‏ ابن شِهاب قال‏:‏ أنزل الله على نبيه آية في القَدرِيَّة‏:‏ ‏"‏ الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين وقال‏:‏ ‏"‏ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكُمْ لبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ ‏"‏‏.‏
وقال محمد بنُ سِيرين‏:‏ ما يُنْكر القَدَرية أن يكونَ الله ‏"‏ قد ‏"‏ عَلِم مِن خَلْقه عِلْماً فكَتبه عليهم‏.‏
وقال رجلٌ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ما تَقول في القَدَر قال‏:‏ وَيْحك‏!‏ أخبرني عن رحمة الله أكانَتْ قبلَ طاعة العباد قال نعم قال علي‏:‏ أسْلَم صاحبًكم وقد كان كافراً فقال الرجلً له‏:‏ أليس بالمَشيئة الأولى التي أنشأني بها ‏"‏ وقَوَّم خَلقي ‏"‏ أقوم وأقعد وأقْبِضً وأبْسُط قال له ‏"‏ علي ‏"‏ إنك بعدُ في المشيئة أمَا إني أسألك عن ثلاث فإن قلتَ في واحدة منهن لا كفرت وإن قلت نعم فأنت أنت فمدَ القومُ أعناقهم ليسمعوا ما يقول فقال له عليّ‏:‏ أخبرني عنك أخلقك اللهّ كما شِئت أو كما شاء قال‏:‏ بل كما شاء قال‏:‏ فَخَلقَك الله لما شِئْت أو لما شاء قال‏:‏ بل لما شاء قال‏:‏ فيومَ القيامة تأتيه بما شئت أو بما شاء قال‏:‏ بل بما شاء قال‏:‏ قُمْ فلا مَشيئة لك‏.‏
قال هشام بن محمد بن السائب الكَلْبي‏:‏ كان هِشام بن عبد الملك قد أنكر على غَيلان التكلم في القَدَر وتقدَّم إليه في ذلك أشدَّ التقدّم وقال له في بعض ما توعده به من الكلام‏:‏ ما أحسبك تَنْتهي حتى تَنْزِل بك دعوةُ عمرَ بن عبد العزيز إِذا احتجَ عليك في المَشيئة بقول الله عزّ وجل‏:‏ ‏"‏ وَمَا تشاءُونَ إلا أنْ يَشَاء الله ‏"‏ فزعمتَ أنك لم تُلْقِ الا بالاً فقال عمر‏:‏ اللهم ان كان كاذباً فاقطع يده وِرجله ولسانه واضرب عُنُقه فانْتَهِ أولى لك ودعَ عنك ما ضَرُه إليك أقربُ من نفْعه فقال له غَيْلان لِحَيْنه وشَقْوته‏:‏ ابعث إليَّ يا أمير المؤمنين من يُكلّمني ويحتجّ عليّ فإن أخذتْه حُجَّتي أمسكتَ عنّي فلا سبيلَ لك إليَّ وإن أخذتنى حجتُه فسألتك بالذي أكرمَك بالخِلافة إلاّ نفَذت فيّ ما دعا به عمرُ عليّ‏.‏
فغاظ قوله هشاماً فعبث إلى الأوْزاعيّ فحكى له ما قال لغَيلان وما ردَّ غيلان‏:‏ فالتفت إليه الأوزاعيّ فقال له‏:‏ اسألك عن خمس أو عن ثلاث فقال غيلان‏:‏ بل عن ثلاث قال الأوزاعيّ‏:‏ هل علمتَ أنّ الله أعان على ما حَرَّم قال غيلان‏:‏ ما علِمت ‏"‏ وعَظُمت عنده ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ فهل علمتَ أن اللهّ قَضى على ما نهى قال غيلان‏:‏ هذه أعظمُ‏!‏ ما لي بهذا من عِلْم قال‏:‏ فهل علمتَ أنّ الله حال دون ما أمر قال غيلان -‏:‏ حال دون ما أمر ما علمتُ قال الأوزاعي‏:‏ هذا مرتاب من أهل الزَّيع‏.‏
فأمر هشامُ بقَطع يده ورِجْله ثم ألقي في الكُناسة‏.‏
فاحْتَوشه الناسُ يَعجبون من عظيم ما أنزل اللهّ به من نِقمته‏.‏
ثم أقبل رجلٌ كان كثيراً ما يُنْكر عليه التكلّم في القَدَر فتخلّل الناس حتى وَصل إليه فقال يا غيلانُ اذكُر دُعاء عمر رحمه اللهّ فقال غيلان‏:‏ أفلح إذاً هشام إن كان الذي نَزَل بي بدعاء عمر أو بقضاء سابق فإنه لا حَرج على هشام فيما أمر به فبلغت كلمته هشاما فأمر بقَطْع لسانه وضَرب عُنقه لتمام دَعْوة عمر‏.‏
ثم التفت هشام إلى الأوزاعيّ وقال له‏:‏ قد قلتَ يا أبا عمرو فَفَسِّر فقال‏:‏ نعم قَضى على ما نَهى عنه نَهى آدم عن أكل الشجرة وقضى عليه بأكلها وحال دُون ما أَمر أمر إبليس بالسُجود لآدم وحال بينه وبين ذلك وأعان على ما حرَّم المَيْتة وأعان المُضطر على أكلها‏.‏
الرَّياشي عن سعيد بن عامر بن جُوَيرية عن سَعيد بن أبي عَرُوبة قال‏:‏ لما سألتُ قتادةَ عن القَدَر فقال‏:‏ رأى العرب تريد فيه أم رأيَ العَجم فقلت‏:‏ بل رَأْيَ العرب‏:‏ قال‏:‏ فإنه لم يكن أحدٌ من العرب إلا وهو يُثبت ‏"‏ القدر ‏"‏ وأنشد‏:‏ وقال أعرابيّ‏:‏ الناظًر في قَدَر الله كالناظر في عَين الشمس يعرف ضَوْءها ولا يَختم على حدودها‏.‏
وقال كعب بن زُهَير‏:‏ لو كنتُ أعجبُ من شيء لأعجَبني سَعْيُ الفَتَى وهو مخْبُوءٌ له القَدَرُ يَسْعى الفتَى لأمور ليس يُدْرِكها فالنَّفْس واحدةٌ وآلهمّ منْتشِر والمَرْءُ ما عاش مَمْدُودٌ له أمل لا تَنْتَهي العينُ حتى يَنْتهي الأثر وقال آخر‏:‏ والجَدّ أنهض بالفتَى من عَقْله فانهضْ بجَدٍّ في الحَوادث أو ذَرِ ما أقربَ الأشْياء حين يَسُوقها قَدَرٌ وأبعدَها إذا لم تُقْدَرِ عبد الرحمن القَصِير قال‏:‏ حدّثنا يونس بن بلال عن يَزيد بن أبي حَبيب أنّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله أيقدّر الله عليِّ الشرّ ثم يُعذَبني عليه قال‏:‏ نعم وأنت أظْلم‏.‏
وحدّث أبو عبد الرحمن المُقْرىء يَرْفعه إلى أبي هُريرة عن عمر بن الخطاب رضي اللهّ عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا تجَالسوا أهلَ القَدَر ولا تُفاتحوهم‏.‏
ومن حديث عبد الله بن مَسعود قال‏:‏ ما كان كُفْر بعد نُبوَّة قط إلا كان مِفْتاحه التَّكْذيب بالقَدَر‏.‏
ثُمَامة بن أَشْرَس قال‏:‏ دَخل أبو العَتاهية على المأمون لما قَدِم العراق فأَمر له بمال وجَعل يُحادثه فقال له يومًا‏:‏ ما في الناس أجهل من القَدرِيَّة فقال له المأمون‏:‏ أنت بصناعتك أَبصر فلا تَتَخَطَّها إلى غيرها قال له‏:‏ يا أميرَ المؤمنين اجمع بيني وبين من شئتَ منهم‏.‏
فأَرْسَلَ إليِّ فدخلتُ عليه فقال لي‏:‏ هذا يَزعم أنّك وأصحابَك لا حُجَّة عندكم‏.‏
قلت‏:‏ فلْيَسأَل عمّا بدا له‏.‏
فحرَّك أبو العتاهية يدَه وقال‏:‏ مَن حَرَّك هذه قلتُ مَن ناك أُمّه فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين شتَمني قلت له‏:‏ نَقضت أصلَك يا ماصّ بَظْر أمّه فَضَحك المأمونُ فقلت له‏:‏ يا جاهل تحرك يدَك ثم تقول‏:‏ مَن حَرَّكها ‏"‏ فإن كان اللهّ حَرَّكها ‏"‏ فلم أَشْتُمك وإِن كنتَ أنت المُحَرّك لها فهو قَوْلي قال له المأمون‏:‏ عندك زيادةٌ في المسألة‏.‏
قال الكندي في الفَنّ التاسع من التّوحيد‏:‏ اعلم أن العالَم كله مَسوس بالقضاء والقَدَر - أعنى بالقضاء - ما قُسم لكل مَعْلول مما هو أَصلح وأَحْكم وأَتقن في بِنْية الكُل لأنه - جل ثناؤه - خَلَق وأبدع مُضطرًّا ومُختارًا بتمام القُدْرة فلما كان المختار غيرَ تامّ الحكمة لأن تمام آلحِكمة لِمبدع الكل كان لوِ أطلق واختيارَه لاختار كثيراً مما فيه فَسادُ الكل فقَدّر - جلّ ثناؤه - بِنْيةً للكلّ تقديراَ محْكَمًا‏.‏
فصيّر بعضه سوانحَ لبعض يَختار بإرادته ومَشيئته غيرَ مقْهور مما هو أَصْلح وأحكم في بِنْية اكل فتقدير هذه السَّوانح هو القَدَر فبالقضاء والقَدَر ساسَ - جل ثناؤه - جميع ما أَبدع بهذه السِّياسة المُحكمة المُنظمة التي لا يَدْخلها زَلَل ولا نَقْص فاتْضَح أنّ كل مَعْلوِل فيما قسم له ربه من الأحْوال لا خارج عنها وأنّ بعضَ ذلك باضطرار وبعضه باختيار وأنّ المُختار عن سَوانح قَدَره ‏"‏ اختار ‏"‏ وبإرادته لا بالكَرْه ‏"‏ منه ‏"‏ فَعل‏.‏
سُئل أعرابيّ عن القَدَر فقال‏:‏ ذاك عِلْم اختَصَمت فيه الظُّنون وكثر فيه المُختلفون والواجب علينا أن نَرد ما أتشكل من حُكْمه إلى ما سبق في عِلْمه‏.‏
واصطحب مَجوسي وقَدَري في سَفَر فقال القدريّ للمجوسيّ‏:‏ مالَك لا تُسلم قال‏:‏ إن أَذِن الله في ذلك كان قال‏:‏ إن الله قد أذن إلا أنَّ الشيطان لا يدَعك قال‏:‏ فأنا مع أَقْواهما‏.‏
وقال رجلٌ لهشام بن الحَكَم‏:‏ أنت تَزعُم أن اللهّ في فضْله وكَرمه وعَدْله كَلَّفنا ما لا نُطِيقه ثم يًعذِّبنا عليه قال هشام‏:‏ قد واللّه فَعل ولكن لا نَسْتطيع أن نتكلَّم‏.‏
اجتمع عمرو بن عُبيد مع الحارث بن مِسْكين بمنىَ فقال له‏:‏ إنّ مِثلى ومثلك لا يَجْتمعان في مثل هذا المَوْضع فيَفترقان من غير فائدةَ فإن شِئتَ فقُلْ وإن شئتَ فأنا أقول قال له‏:‏ قل قال‏:‏ هل تَعلم أحداً أقبلَ للعُذر من الله عز وجل قال‏:‏ لا قال‏:‏ فهل تَعْلم عذراً أبينَ من عذر مَنْ قال لا أقدر فيما تَعلم أنت أنه لا يَقدر عليه قال‏:‏ لا قال‏:‏ فلمَ لا يَقْبَلُ - مَن لا أَقبلِ للعُذر منه - عُذْرَ مَن لا أبينَ من عُذْره فانقطع الحارث بن مِسْكين فلم يرُدّ شيئاَ‏.‏



رد المأمون على الملحدين وأهل الأهواء
قال المأمون للثَّنوي الذي تكلّم عنده‏:‏ أَسألك عن حَرْفين لا أَزيد عليهما هل نَدِم مُسيء قط على إساءته قال‏:‏ بلى قال‏:‏ فالندَّم على الإساءة إساءةٌ أم إحسان قال‏:‏ بل إحسان قال‏:‏ فالذي نَدِم هو الذي أساء أم غَيْره قال‏:‏ بل هو الذي أساء قال‏:‏ فأرَى صاحبَ الخَيْر هو صاحبُ الشر قال‏:‏ فإني أقول‏:‏ إن الذي نَدِم غير الذي أساء قال‏:‏ فنَدِم على شيء كان منه أم على شيء كان من غَيْره فسكت‏.‏
قال له أيضاً‏:‏ أخبرني عن قولك باثنين هل يَستطيع أحدُهما أن يَخلُق خلقاً لا يَستعين فيه بصاحبه قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فما تَصنع باثنين واحدٌ يَخلق كلَّ شيء خيرٌ لك وأصح‏.‏
وقال المأمون للمُرتد الخراسانيّ الذي أسلم على يَدَيه وحمله معه إلى العِراق فارتدَ عن الإسلام‏:‏ أَخبرني ما الذي أَوْحَشك مما كنتَ به آنساً من دِيننا فواللّه لأن أستحييك بحق أحبّ إليَّ من أن أقتلُك بحق وقد صِرْتَ مُسلماً بعد أن كنت كافراً ثم عُدت كافراً بعد أن صِرْت مُسلماً وإن وجدتَ عندنا دواءً لدائك تداويتَ به وإن أخطأك الشفاء وتَباعد عنك كنتَ قد أبليتَ العُذْر في نَفْسك ولم تُقَصرِّ في الاجتهاد لها فإن قتلناك قَتَلْناك في الشَّريعة وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار واليَقين ولم تُفَرِّط في الدُّخول من باب الحزْم قال المرتد‏:‏ أوْحشني منكم ما رأيتُ من كثرة الاختلاف في دِينكم قال المأمون‏:‏ لنا اختلافان‏:‏ أحدُهما كاختلافِنا في الآذان وتكبير الجنائز وصلاة العِيدين والتشهّد والتَّسليم من الصلاة ووُجوه القراآت واختلاف وُجوه الفُتيا وما أشبه ذلك وهذا ليس باختلاف وإنما هو تخيير وتَوْسعة وتخفيف من السنَّة فمن أذِّن مَثنى وأقام مَثْنى لم يَأثم ومَن ربع لم يأثم‏.‏
والاختلاف الآخر كنَحْو اختلافنا في تأويل الآية من كتاب الله وتأويل الحديث عن نبيّنا مع اجتماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عَينْ الخبر فإن كان إنما أوْحشك هذا فينبغي أن يكون اللفظُ بجميع التوراة والإنجيل متفقاً على تأويله كما يكون متفقاً على تَنزيله ولا يكون بين اليهود والنَّصارى اختلافٌ في شيء من التأويلات ولو شاء الله أن يُنزِّل كًتبه مُفَسَرة ويجعل كلامَ أنبيائه ورسله لا يُختلف في تأويله لفَعل ولَكنَّا لم نجد شيئاً من أمور الدَين والدُنيا وقع إلينا على الكِفاية إلا معِ طُولِ البحث والتَحْصيل والنَّظر ولو كان الأمر كذلك لسَقَطت البَلْوى والمِحن وذهَب التفاضل والتبايُن ولمَا عُرف الحازم من العاجز ولا الجاهل مِن العالم وليس على ‏"‏ هذا ‏"‏ بُنِيت الدنيا‏.‏
قال المُرتد‏:‏ أشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له وأن المَسيح عبدُ اللّه وأنَّ محمداً صادق وأنك أمير المؤمنين ‏"‏ حقّا ‏"‏‏.‏
وقال المأمون لعليّ بن موسى الرِّضا‏:‏ بِمَ تَدَّعون هذَا الأمر قال‏:‏ بقرابة عليّ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وعلى آله وبقرابة فاطمة منه ‏"‏ فقال له المأمون‏:‏ إنْ لم يكن ها هنا إلا القرابة فقد خَلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أهل بَيته مَن كان أقربَ إليه من عليّ أو مَن في مِثل قُعْدُده وإن كان بقرابة فاطمة من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن الحق بعد فاطمة للحسن والحسين وليس لعلي في هذا الأمر حق وهما حيان فإذا كان الأمر كذلك فإن عليًا قد ابتزَهما حقهما وهما صحيحان واستولى على ما لا يَجب له‏.‏
فما أجابه علي بن موسى بشيء‏.‏
كتب واصل بنُ عَطاء الغزّال إلى عمرو بن عُبيد‏:‏ أما بعد فإنّ استلاب نِعمة العبد وتَعْجيل المُعاقبة بيد اللّه ومهما يكن ذلك فباستكمال الآثام والمُجاوَرة للجِدال الذي يحُول بين المرء وقَلْبه وقد عرفتَ ما كان يُطعن به عليك وُينسب إليك ونحن بين ظَهْراني الحسن بن أبي الحسن رحمه اللّه لاسْتِبْشاع قُبْح مَذْهبك نحن ومَن قد عرفتَه من جميع أصحابنا وُلمَّة إخواننا الحاملين الواعين عن الحسن فللّه تلكم لمَّة وأوْعياء وحَفَظة ما أدمثَ الطبائع وأرزن المجالس وأبينَ الزُّهد وأصدقَ الألسنة اقتدَوْا والله بمن مَضى شَبهًا بهم وأخذوا بهَدْيهم‏.‏
عَهدي واللهّ بالحسن وعَهدكم به أمس في مَسْجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرقيّ الأجنحة وآخر حديث حدَّثنا إذ ذَكر الموت وهول المُطَّلع فأسف على نفسه واعترف بذنبه ثم التفت واللّه يَمنة ويسرة مُعتبرًا باكيًا فكأني أنظر إليه يمسَح مُرْفَض العَرق عن جبينه ثم قال‏:‏ اللهم إني قد شَددْت وَضِين راحلتي وأخذت في أَهبة سَفَري إلى محلّ القبر وفَرْش العَفْر فلا تؤاخذني بما ينسبون إليَّ من بعدي اللهم إني قد بلَّغْت ما بَلغني عن رسولك وفسَّرت من مُحْكم تأويلك ما قد صَدًقه حديثُ نبيّك ألا وإني خائفٌ عَمْرا ألا وإني خائف عَمْرا شكاية لك إلى ربِّه جَهراً وأنت عن يمين أبي حُذيفة أقر بنا إليه وفد يلغني كبير ما حمّلته نفسَك وقَلّدته عنقك من تَفسير التنزيل وعبارة التأويل ثم نظرتُ في كتبك وما أدّته إلينا روايتك من تنقيص المعاني وتفريق المَباني فدلَت شكاية الحسن عليك بالتَّحقيق بظهور ما ابتَدَعت وعظيم ما تحمَّلت فلا يَغْرْرك ‏"‏ أي أخي ‏"‏ تَدْبيرُ مَن حولك وتعظيمهم طولَك وخَفضهم أعينهم عنك إجلالاً لك غداً واللّه تمضي الخُيلاء والتفاخر وتُجْزى كلّ نَفْس بما تَسعى ولم يكُن كتابي إليك وتَجليبي عليك إلا لتَذْكيرك بحديث الحسن رحمه اللهّ وهو آخر حَديث حدّثناه فأَدِّ المَسموع وانطق



باب من أخبار الخوارج
لما خرجت الخوارجُ عَلَى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا من أصحابه وكان مِن أمر الحَكمين ما كان واختِداع عمرو لأبي مُوسى ‏"‏ الأشعريّ ‏"‏ قالوا‏:‏ لا حُكْم إلا للهّ‏.‏
فلما سمع عليٌ رضي اللهّ عنه نِداءهم قال‏:‏ كلمة حق يراد بها باطل وإنما مَذْهبهم أن لا يكون أمير ولا بُدَ من أمير بَرًّا كان أو فاجرًا‏.‏
وقالوا لعليّ‏:‏ شككتَ في أمرك وحكَّمت عدوّك في نَفْسك‏.‏
وخرجوا إلى حَرُوراء وخرج إليهم عليٌّ رضي الله عنه فخَطَبهم متوكِّئاً على قوْسه وقال‏:‏ هذا مَقام مَن أفلح فيه أَفلح يومَ القيامة أنْشُدكم اللهّ هل عَلِمتم أنّ أحداً كان أكرَه للحكومة منِّي قالوا‏:‏ اللهم لا ‏"‏ قال‏:‏ أفعلتم أنكم أكرهتموني عليها حتِى قبِلْتُها قالوا‏:‏ اللهم نعم ‏"‏ قال‏:‏ فعلامَ خالفتُموني ونابذتموني قالوا‏:‏ إنَّا أتينا ذنباَ عظيما فتُبْنا إلى اللهّ منه فتُب إلى اللهّ منه واْستغفره نُعدْ إليك‏.‏
فقال عليٌ‏:‏ إني أستغفر الله من كلّ ذنب فرَجَعوا معه وهم في ستّة آلاف‏.‏
فلما استقرُّوا بالكوفة أشاعُوا أن عليَاً رَجع عن التحكيم وتاب منه ورآه ضلالاً‏.‏
فأتى الأشعثُ بن قيس عليَاً رضي اللهّ عنه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّ الناس قد تحدثوا أنك رأيتَ الحكومة ضلالاً والإقامة عليها كُفْراً وتُبْت‏.‏
فخطب عليٌ الناس فقال‏:‏ مَن زَعم أني رجعتُ عن الحكومة فقد كذَب ومَن رآها ضلالاً فهو أضلّ منها‏.‏
فخرجت الخوارج من المسجد فحكّمت فقيل لعليّ‏:‏ إنهم خارجون ‏"‏ عليك ‏"‏ فقال‏:‏ لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيَفعلون‏.‏
فوَجّه إليهمٍ عبدَ الله بن العبّاس فلما سار إليهم رحَّبوا به وأكرموه فرأى لهم جباهًا قَرِحة لطول السجود وأيديًا كثَفِنات الإبل وعليهم قمُص مُرْحَضة وهم مُشمِّرُون فقالوا‏:‏ ما جاء بك يا بن عبّاس قال‏:‏ جِئتكم من عند صِهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه وأَعْلمنا برّبه وسنة نبيّه ومن عند المهاجرين والأنصار فقالوا‏:‏ إنا أتينا عظيماَ حين حَكّمنا الرجالَ في دين اللّه فإن تاب كما تُبْنا ونهض لمًجَاهدة عدوّنا رَجعنا‏.‏
فقال ابن عبّاس‏:‏ نَشدتكم الله إلا ما صَدَقتم أنفسَكم أمَا عَلمتم أنَّ الله أمر بتَحْكيم الرِّجال في أَرْنب تُساوي رُبع درْهم تًصَاد في الحَرَم وفي شِقاق رجل وامرأته فقالوا‏:‏ اللهم نعم قال‏:‏ فأنشُدكم اللّه هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمْسك عن القِتال للهُدنة بينه وبين أهل الحُدَيبية قالوا‏:‏ نعم ولكن عليًّا مَحا نفسَه من خِلافة المسلمين قال ابن عبّاس‏:‏ ليس ذلك يُزِيلها عنه وقد مَحا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اسمه ‏"‏ من النبوَّة وقال سُهَيل بن عمرو‏:‏ لو عَلمتُ أنك رسول الله ما حاربتُك فقال للكاتب‏:‏ اكتُب‏:‏ محمد بن عبد الله‏.‏
وقد أخذ على الحَكَمين أن لا يَجُورا ‏"‏ وإِن يَجُورا ‏"‏ فعليٌّ أوْلى من مُعاوية وغيره قالوا‏:‏ إنّ مُعاويةَ يدَّعي مثلَ دعوى عليّ قال فأيُّهما رأيتُموه أوْلى فولُوه قالوا‏:‏ صدقتَ‏.‏
قال ابن عباس‏:‏ ومتى جار الحَكَمان فلا طاعة لهما ولا قَبُول لقولهما‏.‏
فاتَّبعه منهم ألفان وبَقي أربعة آلاف‏.‏
فصلّى بهم صلاتَهُم ابن الكَوّاء وقال‏:‏ متى كانت حرب فرئيسُكم شَبَث بن رِبْعِيّ الرِّياحي‏.‏
فلم يَزالوا على ذلك حتى أجْمعوا على البَيعة لعَبد الله بن وَهْب الرَّاسبيّ فخرج بهم إلى النَّهروان فأوْقع بهم عليّ فقَتل منهم ألفين وثمانمائة وكان عددُهم ستةَ آلاف وكان منهم بالكوفة زُهاء ألفين ممن يُسِرّ أمره فخرج منهم رجلٌ بعد أن قال عليٌّ رضي اللهّ عنه‏:‏ ارجعوا وادفعوا إلينا قاتلَ عبد الله بن خَبّاب قالوا‏:‏ كلّنا قَتله وشرك في دَمه وذلك أنهمٍ لما خرجوا إلى النَّهْروان لقُوا مُسْلمًا ونَصرانيا فقتلوا المُسْلم وأوْصَو‏!‏ بالنصرانيّ خَيرا وقالوا‏:‏ احفظًوا ذمّة نبيّكم‏.‏
ولقُوا عبدَ الله بن خبّاب وفي عُنقه المُصحف ومعه امرأته وهي حامل فقالوا‏:‏ إنّ هذا الذي في عنقك يأمرنا بقَتلك فقال لهم‏:‏ أحْيوا ما أحْيا القُرآن وأميتوا ما أمات القرآن قالوا‏:‏ حَدِّثنا عن أبيك قال‏:‏ حدَّثني أبي قال‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ تكون فتنة يموت فيها قلبُ الرجل كما يموت بدنه يمسى مؤمناً ويُصبح كافرًا فكُن عبدَ اللهّ المقتول ولا تكن عبدَ اللهّ القاتلَ قالوا‏:‏ فما تَقول في أبي بكر وعمر فأثنى خيراً ‏"‏ قالوا‏:‏ فما تقول في عليّ قبل التحكيم وفي عثمان فأثنى خيراً ‏"‏ قالوا‏:‏ فما تقول في الحكومة والتحكيم قال‏:‏ أقول‏:‏ إنَّ عليًّا أعلمُ بكتاب اللهّ منكم وأشد تَوقِّيا على دينه وأبعد بصيرةً قالوا‏:‏ إنك لستَ تتَّيع الهدى بل الرجالَ على أسمائها ثم قَرَّبوه إلى شاطئ البَحر فذَبحوه فا مذَقَرَّ دمُه أي جَرى مستقيماً على دقة وسامُوا رجلاً نَصْرانيا بنَخْلة فقال‏:‏ هي لكم هِبَة قالوا‏:‏ ما كُنَّا نأخذها إلا بثَمن فقال‏:‏ ما أَعجبَ هذا‏!‏ أتقتلون مثلَ عبد الله بن خبّاب ولا تَقبلون منا ‏"‏ جنَى ‏"‏ نخْلة إلا بثَمن‏!‏ ثم افترقت الخوارج على أربعة أضرب‏:‏ الإباضية أصحاب عبد اللهّ بن إباض والصُّفرية واختلفوا في نَسبهم فقال قوم‏:‏ سُمُّوا بابن الصفار وقال قوم‏:‏ نهكتهم العبادة فاصفرّت وجوهُهم ومنهم البَيْهسية وهم أصحاب ابن بَيْهس ومنهم الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي وكانوا قبلُ على رَأْيٍ واحد لا يختلفون إلا في الشيء الشاذّ‏.‏
فبلغهم خروج مُسلم بن عُقبة إلى المدينة وقَتْلُهُ أَهلَ حَرَّة وأنه مُقبل إلى مكة فقالوا‏:‏ يجب علينا أن نمنعَ حَرَم الله منهم ونمْتَحن ابن الزبير فإن كان على رأينا تابعناه‏.‏
فلما صاروا إلى ابن الزبير عرَّفوه أنفسهم وما قَدِموا له فأظهر لهم أنه على رأْيهم حتى أتاهم مُسلم بن عُقبة وأهل الشام فدافعوه إلى أن يأتي رأْيُ يزيدَ بنِ مُعاوية ولم يُتابعوا ابن الزُّبير ثم تناظَروا فيما بينهم فقالوا‏:‏ نَدخل إلى هذا الرجل فنْظر ما عنده فإن قَدّم أبا بكر وعمر وبَرِىء من عُثمان وعليّ وكَفر أباه وطَلْحة بايعناه وإن تكُن الأخرى ظَهر لنا ما عنده وتَشاغلنا بما يجديِ علينا‏.‏
فدخلوا على ابن الزًّبير وهو مُتَبذل وأصحابه مُتفرقون عنه فقالوا له‏:‏ إنَا جِئناك لتُخْبرنا رأْيَكَ فإن كنتَ على صواب بايعناك وإن كنتَ على خلافة دَعَوْناك إلى الحق ما تقولُ في الشَّيخين قال‏:‏ خيرًا قالوا‏:‏ فما تقول في عُثمان الذي حَمَى الحِمَى وآوى الطَّريد وأظهر لأهل مِصرْ شيئاً وكَتب بخلافه وأوطأ آلَ بني مُعيط رِقابَ الناس وآثرهم بَفيْء المُسلمين وفي الذي بعده الذي حكّم ‏"‏ في دين اللّه ‏"‏ الرجالَ وأقام على ذلك عيرَ تائب ولا نادم وفي أبيك وصاحبه وقد بايعا عليًّا وهو إمام عادل مَرْضي لم يَظْهر منه كُفر ثم نكَثَا بَيْعته وأخرجا عائشة تُقاتل وقد أمرها الله وصَواحبَها أن يَقرنْ في بُيوتهن وكان لك في ذلك ما يَدْعوك إلى التَّوْبة فإن أنتَ قبِلت كلّ ما نقول ‏"‏ لك ‏"‏ فلك الزُّلفي عند اللهّ والنصر على أيدينا إن شاء الله ونَسألُ الله لك التوفيقَ وإن أبَيتَ خَذلك الله والنصر منك بأيدينا‏.‏
فقال ابن الزبير‏:‏ إنّ الله أمر وله العِزّة والقُدرة في مخاطبة أكْفر الكافرين وأَعتَى العانين بأَرقَّ من هذا القول فقال لموسى وأخيه صلى الله عليهما‏:‏ ‏"‏ اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إنِّهُ طَغَى فقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعًلّهُ يَتذكَّر أَوْ يَخْشىَ ‏"‏‏.‏
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تُؤذوا الأحياء بسَبّ المَوْتىَ ‏"‏‏.‏
فنهى عن سبّ أبي جَهل من أجل عِكْرمة ابنه وأبو جهل عدوّ الله وعدوّ رسوله والمُقيم على الشِّرك والجادّ في محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبل الهجرة والمُحارب له بعدَها وكفي بالشِّرك ذَنْبًا وقد كان يُغْنيكم عن هذا القول الذي سمَّيتم فيه طلحة وأَبي أن تقُولُوا‏:‏ أتَبرأ من الظالمين فإن كانا منهم دخَلا في غُمَار الناس وإن لم يكونا منهم لم تُحْفِظوني بسبّ أبي وصاحبه وأنتم تَعلمون أنّ اللهّ جلّ وعزّ قال للمُؤْمن في أبويه‏:‏ ‏"‏ وَإنْ جاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصاحِبْهُمَا في الدًّنْيَا مَعْرًوفاً ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ وَقُولُوا للَنَّاس حُسْنًا ‏"‏‏.‏
وهذا الذي دعوتُم إليه أمرٌ له ما بعده وليس يُقْنعكم إلا التَّوقيف والتَّصْريح ولَعَمْري إنّ ذلك أحرَى بِقَطْع الْحجج وأَوْضَح لمنهاج الحقّ وأوْلَى بأن يَعرف كلٌّ صاحبَه من عدوِّه فَرُوحوا إليَّ من عَشِيَّتكم هذه أكْشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله تعالى‏.‏
فلمَّا كان العشي راحُوا إليه فخَرج إليهم وقد لبِس سلاحه فلما رأى ذلك نَجْدةُ قال‏:‏ هذا خُروج منا بذلكم فجلس على رَفَع من الأرض فحمد اللّه وأثنى عليه وصلىّ على نبيّه ثم ذكراً أبا بكر وعُمر أحسنَ ذِكْر ثم ذكر عُثمان في السِّنين الأوائل من خِلافته ثم وصلهنّ بالسّنين التي أنكروا سِيرتَه فيها فجعلها كالماضية وأخبر أنه آوى الحَكَم بن أبي العاصي بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذَكر الحِمَى ومما كان فيه من الصَّلاح وأن القومَ آستعتبوه ‏"‏ من أمور ‏"‏ ما كان له أن يَفعلها أوّلاً مصيِبِا ثم أعتبهم بعد ذلك مُحسناً وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمِن لهم العُتْبى ثم كُتب ذلك الكتابُ بقَتْلهم فدَفعوا الكتابَ إليه فَحَلف باللّه أنه لم يكتبه ولم يأْمر به وقد أَمر الله عزّ وجلّ بقبول اليمين ممَّن ليس له مثل سابقته مع ما اجتَمع له من صِهْر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه ‏"‏ من ‏"‏ الإمامة وأنّ بَيعة الرِّضوان تحت الشجرة إنما كانت بِسبَبه وعثمان الرجل الذي لَزِمَتْه يمينٌ لو حَلَف عليها لَحَلَف على حقّ فافتَدَاها بمائة ألف ولم يَحْلِف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع‏:‏ ‏"‏ مَن حَلَف باللّه فلْيَصدُق ومن حُلِف له باللّه فليقْبل ‏"‏‏.‏
وعُثمان أمير المؤمنين ‏"‏ كصاحبيه ‏"‏ وأنا وليّ وليّه وعدوّ عدوّه وأبي وصاحبه صاحبَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ورسول الله ‏"‏ يقول ‏"‏ عن اللّه ‏"‏ عزّ وجلّ يومَ أُحد لما قُطعت إصْبع طَلْحَة‏:‏ ‏"‏ سَبَقته إلى الجنة ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ أوْجب طلحة ‏"‏‏.‏
وكان الصِّديق إذا ذُكر يومَ أُحد قال‏:‏ ذلك يوم كلّه ‏"‏ أو جُلّه ‏"‏ لطلحة‏.‏
والزُّبير حواريَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَفْوته وقد ذكر أنه في الجنّة وقال عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ لَقَدْ رَضيَ الله عَنِ المؤمنينَ إذْ يُبَايعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ‏"‏‏.‏
وما أخبرَنا بعدُ أنه سَخِط عليهم وإن يكن ما صَنعوا حقًّا فأهل ذلك هم وإن يكن زلّة ففي عَفو الله تَمحِيصُها وفيما وَفَّقهم له من السابقة مع نبيّهم صلى الله عليه وسلم ومهما ذَكَرتموهما به فقد بَدَأْتم بأًمِّكم عائشة فإن أبَى آبٍ أن تكون له أمًّا نَبَذ اسم الإيمان عنه وقد قال جلّ ذِكْره‏:‏ ‏"‏ النَّبِيُّ أَوْلَى باْلمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ‏"‏‏.‏
فنظر بعضهم إلى بعض ثم انصرفوا عنه‏.‏
وكتب بعد ذلك نافعُ بن الأزرق إلى عبد الله بن الزُّبير يَدْعوه إلى أمره‏:‏ أمّا بعد فإني أحذِّرك من الله يومَ تَجد كلُّ نفس ما عَمِلَت من خَيْر مُحْضَرًا وما عَمِلَت من سُوء توَدّ لو أنّ بينها وبَينه أَمدًا بعيداً ‏"‏ ويُحَذِّركم الله نفسه ‏"‏‏.‏
فاتّق الله ربَّك ولا تَتَوَلّ الظالمين فإنّ الله يقول‏:‏ ‏"‏ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ لا يَتَّخِذ المُؤْمِنون الكافِرِينَ أوْليَاءَ مِنْ دونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْس مِنَ الله في شيَء ‏"‏‏.‏
وقد حضرتُ عثمانَ يومَ قُتِل فَلَعمري لئن كان قُتل مظلومًا لقد كفر قاتلوه وخاذِلُوه وإن كان قاتلوه مُهْتدين وإنهم لمُهْتدون لقد كفَر مَن تولاّه ونصرَه‏.‏
ولقد علمتَ أنّ أباك وطَلْحة وعليّاً كانوا أشدَّ الناس عليه وكانوا في أمره بين قاتل وخاذِل وأنت تتولى أباك وطلحة وعثمان فكيف ولاية قاتل مُتَعَمِّد ومَقتول في دين واحد ولقد ملك علىّ بعده فَنَفي الشُّبهات وأقام الحُدود وأَجْرى الأحكام مجاريها وأَعطى الأمور حقّها فيما عليه وله فبايَعه أبوك وطَلْحة ثم خَلعا بَيْعته ظالمين له وإن القَول فيك وفيهما لكما قال ابنُ عباس رحمه الله‏:‏ إن يكُن علِيّ في وقت مَعْصِيتكم ومُحاربتكم له كان مؤمنَاَ لقد كفَرتم بقتال المؤمنين وائمة العَدْل وإن كان كافراً كما زَعمتم وفي الحُكم جائراً فقد بُؤْتم بغضب من الله لفراركم من الزَّحف‏.‏
ولقد كنتَ له عدوًّا ولسيرته عائباً فكيف توليته بعد مَوته‏.‏
وكتب نجدةُ وكان من الصُّفرية القَعَديّة إلى نافع بن الأزرق لما بلغه عنه استعراضُه للناس وقَتْله الأطفال واستحلاله الأمانة‏:‏ بسم اللهّ الرحمن الرحيم صلى الله عليه وسلم أمّا بعد فإنّ عَهْدي بك وأنت لليتيم كالأب الرَّحيم وللضعيف كالأخ البَرّ لا تأخذك في الله لومةُ لائم ولا ترى معونة ظالم ‏"‏ كذلك كنتَ أنت وأصحابك أما تذكر قولَكَ‏:‏ لولا أني أعلمِ أنّ للإمام العاذل مِثلَ أجر جميع رعيّته ما تولّيت أمر رجلين من المسلمين ‏"‏ فلما شَرَيْتَ نفسك في طاعة ربّك ابتغاءَ رضوانه وأصبتَ من الحق فصَّه ‏"‏ وركبتَ مُرَّة ‏"‏ تَجَرّد لك الشيطانُ فلم يكن أحدٌ أثقلَ وطأةً عليه منك ومن أصحابك فاستمالك واستغواك فعَوِيتَ وأكفرت الذين عَذرهم الله في كتابه من قَعَدة المسلمين وَضعفتهمِ فقال جلَّ ثناؤه وقوله الحق ووعدُه الصِّدق‏:‏ ‏"‏ لَيْسَ عَلَى الضعفاءِ وَلاَ على المَرْضى وَلا عَلَى الذينَ لا يَجدُونَ مَا يُنْفِقونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للّه وَرَسُوله ‏"‏ ثم سمَّاهم أحسنَ الأسماء فقال‏:‏ ‏"‏ مَا عَلَى المحسِنِينَ مِنْ سَبِيل ‏"‏‏.‏
ثم استحللت قتلَ الأطفال وقد نَهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن قَتْلهم وقال جلَّ ثناؤه‏:‏ ‏"‏ وَلاَ تَزِرً وَازِرَةٌ وِزْرَ أًخْرَى ‏"‏‏.‏
وقال في القَعَد خيراً وفَضّل الله من جاهد عليهم ولا يدفع منزلةُ أكثر الناس عملاً منزلةَ مَن هو دُونه إلا إذا اشتركا في أصلٍ أو ما سمعتَ قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ لا يَسْتَوِى القَاعِدُون مِن المؤمِنين غيرُ أولَي الضّرَرِ والمُجَاهِدُونَ في سَبِيل الله ‏"‏ فجعلهم الله من المؤمنين وفَضّل عليهم المَجاهدين بأعمالهم ورأيتَ من رأيك أن لا تؤَدِّي الأمانة إلى مَن يُخالفك واللّه يأمرك أن تؤدي الأماناتِ إلى أهلها فإتق الله وانظُرْ لنفسك واتَّقَ يومًا لا يجزى والدٌ عن ولده ولا مَوْلود هو جازٍ عن والده شيئاً فإن الله بالمِرْصاد وحُكمه العدل وقوله الفصل والسلام‏.‏
فكتب إليه نافعُ بن الأزرق‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد‏:‏ فقد أتاني كتابُك تَعِظُني فيه وتُذكِّرني وتَنصحُ لي وتزجرُني وتصِفُ ما كنتُ عليه من الحق وما كنتُ أُوثرهُ من الصواب وأنا أسألُ الله أن يجعلني من الذين يَسْتمعون القولَ فيتبعون أحسنه‏.‏
وعِبْتَ على ما دِنْتُ به من إكفار القَعد وقَتل الأطْفال واستحلال الأمانة وسأفسِّر لك ‏"‏ لِمَ ‏"‏ ذلك إن شاء اللّه‏:‏ أما هؤلاء القَعد فليسوا كمن ذكرتَ ممن كان بِعَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا بمكة مَقْهورين مَحْصورين لا يجدون إلى الهرب سَبيلاً ولا إلى الاتصال بالمُسلمين طريقاً وهؤلاء قد فَقُهوا في الدين وقرءوا القرآن والطريقُ لهم نَهَج واضح وقد عرفتَ ما يقول الله فيمن كان مِثْلهم إذ قال‏:‏ ‏"‏ إنَّ الّذَينَ تَوَفَّاهُمُ الملائِكةُ ظالمي أنْفُسِهِم قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ‏.‏
قَالوا كنا مُسْتَضْعَفينَ فيِ الأرْض‏.‏
قالوا أَلم تَكُنْ أرضُ الله وَاسعةَ فتُهاجرُوا فيها ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ فَرحَ المُخَلَّفُون بمقعدهم خِلاف رسول الله وقال‏:‏ ‏"‏ وَجَاء الْمُعَذِّرًونَ مِنَ الأعرابِ لِيُؤْذَن لَهُمْ‏.‏
وَقَعَد الّذِين كَذَبُوا الله وَرَسُولَه ‏"‏ ‏"‏ فخبَّر بتَعْذِيرهم وأنهم كذبوا الله ورسولَه ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ سَيُصِيبُ الذينَ كَفَروا منهُمْ عَذابٌ أَليم ‏"‏ فانظر إلى أسمائهم وسِمَاتهم‏.‏
وأما أمر الأطفال فإنّ نبيّ الله نُوحًا كان أَعرفَ باللهّ يا نَجْدةُ منّي ومنك قال‏:‏ ‏"‏ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْض منَ الكافِرينَ دَيَّارًا‏.‏
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِراً كَفَّارًا ‏"‏ فسماهم بالكفر وهم أطفال وقبل أن يُولَدُوا فكيف جاز ذلك في قوم نُوح ولا يجوز في قومنا واللّه يقول‏:‏ ‏"‏ أَكُفَّارُكم خَيْرٌ مِنْ أولَئِكُم أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ في الزُّبُر ‏"‏‏.‏
وهؤلاء كمشركي العرب لا تُقْبل منهم جِزْية وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام‏.‏
وأما استحلال الأمانات ممَّن خالفنا فإن الله عز وجلَّ أحلَّ لنا أموالهم كما أحل لنا دماءَهم فدماؤهم حَلال طِلْق وأموالهُم فَيْء للمُسْلمين فاتَّق اللهّ وراجِع نفسك فإنه لا عُذْر لك إلا بالتوبة ولا يَسَعك خِذْلانُنا والقُعود دوننا ‏"‏ وتَرْك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا ‏"‏ والسلام على مَن أَقرَّ بالحق وعمل به‏.‏
وكان مِرْداس أبو بلال من الخوارج وكان مُستتراَ فلما رأى جِدَّ ابن زياد في قَتْل الخوارج وحَبْسهم قال لأصحابه‏:‏ إنه واللهّ لا يَسعنا المُقام بين هؤلاء الظالمين تَجْري علينا أحكامُهم‏!‏ مُجانبين للعدل مفارقين للعقل والله إنّ الصبرَ على هذا لَعَظيم وإنّ تَجريد السيف وإخافةَ السبيل لعظيم ولكنّا لا نَبْتدئهم ولا نُجرِّد سيفاً ولا نُقاتل إلا مَن قاتلنا‏.‏
فاجتمعِ عليه أصحابُه وهم ثلاثون رجلاً فأرادوا أن يُولّوا أمرَهم حُرَيث بن حَجْل فأبى فولّوا أمرَهم مِرداساً أبا بلال‏.‏
فلما مضى بأصحابه لَقِيه عبدُ الله بن رَبَاح الأنْصاري وكان له صديقاَ فقال له‏:‏ يا أخي أين تُريد قال‏:‏ أريد أن أهْرُب بديني ودين أصحابي هؤلاء من أَحكام هؤلاء الجَوَرة والظَّلمَة فقال له‏:‏ أَعَلِم بكم أحد قال‏:‏ لا قال‏:‏ فارجع قال أَوَ تخاف عليّ مكروهاً قال‏:‏ نعم ‏"‏ وأن يُؤْتى بك ‏"‏ قال‏:‏ فلا تَخَف فإنّي لا أجرِّد سيفاً ولا أخيف أحَداً ولا أقاتل إلا مَن قاتلني‏.‏
ثم مَضى حتى نزل آسَك وهوِ مَوْضع دون خُراسان فمرّ به مالٌ يُحمل إلى ابن زِيَاد وقد بلغ أصحابُه أربعين رجلاَ فحطَّ ذلك المالَ وأخذ منه عطاءَه وأعْطيات أصحابه وردّ الباقي على الرُّسل فقال‏:‏ قُولوا لصاحبكم إنّا قبضنا أعطياتِنا فقال بعضُ أصحابه‏:‏ فعلامَ نَدع الباقي فقال‏:‏ إنّهم يَقْسمون هذا الفَيْء كما يُقيمون الصلاة فلا نقاتلهم‏.‏
ولأبي بلال مِرْداس هذا أشعارٌ في الخُروجِ منها قولُه‏:‏ أبعدَ ابن وَهْب ذي النزاهة والتُّقىِ ومن خاضَ في تلك الحُروب المَهالِكَا أحِبّ بقاءً أو أُرَجِّي سَلامةً وقد قَتلوا زيدَ بن حِصْنٍ ومالكا فيا رَبِّ سَلِّمْ نِيّتي وبَصيرتي وهَبْ لي التّقَى حتى ألاقِي أولئكا وقالوا‏:‏ إنََّ رجلا من أصحاب زياد قال‏:‏ خرجنا في جَيْش نُريد خُراسان فمرَرْنا بآسَك فإذا نحن بمرْداس وأصحابه وهم أربعون رجلاً فقال‏:‏ أقاصدُون لقتالنا أنتم قُلْنا‏:‏ لا إنما نريد خُراسان قال‏:‏ فأبْلِغوا مَن لَقِيتم أنَّا لم نَخْرج لنُفْسد في الأرض ولا لنُروِّع أحداً ولكن هَرَبنا من الظُّلم ولَسْنا نُقاتل إلا مَن قاتَلنا ولا نأخذ من الفَيْء إلا أعطياتنا ثم قال‏:‏ أَنُدِب لنا أحد فقُلْنا‏:‏ نعم أسْلَم بن زُرْعة الكلابيّ قال‏:‏ فمتى تَرَوْنه يَصلُ إلينا قُلنا له‏:‏ يومَ كذا وكذا فقال أبو بلال‏:‏ حَسْبنا الله ونعم الوكيل‏.‏
ونَدَب عُبيد الله بن زياد أسلم بن زُرعة الكِلاَبيّ ووجّهه إليهم فيِ ألفين فلما صار إليهم صاح به أبو بلال‏:‏ اتق الله يا أسلم فإنا لا نُريد قتالا ولا نحْتجز مالا فما الذي تُريد قال‏:‏ أريد أن أردَّكم إلى ابن زياد قال‏:‏ إذاً يقتلنا قال‏:‏ وإنْ قَتلكم قال‏:‏ أفَتَشْركه في دمائنا قال‏:‏ نعم إنه مُحق وأنتم مُبْطلون قال أبو بلال‏:‏ وكيف هو مُحق وهو فاجر يُطيع الظَّلمة‏.‏
ثم حَملوا عليه حملةَ رجل واحد فانهزم هو وأصحابه‏.‏
فلما وَرد على ابن زياد غَضَب عليه غَضباً شديداً وقال‏:‏ انهزمت وأنت في ألفين عن أَربعين رجلا‏!‏ قال له أسلم‏:‏ واللّه لأن تَذُمَّني حيّا أحبًّ إليَّ من أن تَحمَدني مَيِّتاً‏.‏
وكان إذا خرج إلى السوق ومرَّ بالصبيان صاحُوا به‏:‏ أبو بلال وراءك حتى شكا إلى ابن زياد فأمر الشّرط أن يكفّوا الناسَ عنه‏.‏
رد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على شوذب الخارجي الهيثم بن عَدِيّ قال‏:‏ أخبرنى عَوانة بن الحَكم عنِ محمد بن الزُّبير قال‏:‏ بَعثني عمر بن عبد العزيز مع عَوْن بن عبد الله بن مَسْعود إلى شوْذَب الخارجيّ وأصحابه إذ خرجوا بالجزيرة وكتب معنا كتاباً فقَدِمنا عليهمِ ودَفعنا كتابَه إليهم فبَعثوا معنا رجلاً من بني شَيْبان ورجلاً فيه حَبشيّة يقال له شوْذَب‏.‏
فقدما معنا على عمرَ وهو بخِنَاصرة فصَعِدْنا إليه وكان في غُرْفة ومعه ابنه عبدُ الملك وحاجبُه مُزاحم فأخبرناه بمكان الخارجيين فقال عمر‏:‏ فتِّشوهما لا يَكُن معهما حديد وأدخلوهما فلما دخلا قالا‏:‏ السلامُ عليكم ثم جلسا فقال لهما عمر‏:‏ أخْبراني ما الذي أخْرجكم عن حُكْمي هذا وما نَقِمْتم علي فتكلَّم الأسود منهما فقال‏:‏ إنَّا واللّه ما نَقِمْنا عليك في سِيرتك وتَحَرِّيك العَدْل والإحسان إلى مَن وَليت ولكنَّ بيننا وبينك أمراً إن أعطيتَناه فنحن منك وأنت منَّا وإن مَنَعْتناه فلستَ منا ولسنا منك قال عمر‏:‏ ما هوِ قالا‏:‏ رأيناك خالفتَ أهلَ بيتك وسَمَّيتها مظالم وسلكت غيرَ طريقهم فإن زعمتَ أنك على هُدى وهم على ضلال فالْعَنهم وابرأ منهم فهذا الذي يَجمع بيننا وبينك أو يُفرِّق‏.‏
فتكلم عمر فَحَمِد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ إني قد علمتُ أو ظننتُ أنكم لم تَخْرجوا مخرجكم هذا لطلب الدنيا ومَتاعها ولكنَّكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلَها وإني سائُلكما عن أمر فباللّه اصْدقاني فيه مَبلغ عِلْمكما قالا‏:‏ نعم قال‏:‏ أخبراني عن أبي بكر وعُمر أليسا من أسلافكما ومَن تتولَّيان وتَشْهدان لهما بالنجاة قالا‏:‏ اللهم نعم قال‏:‏ فهل عَلِمْتما أنّ أبا بكر حين قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم له فارتدّت العرب قاتلَهم فَسَفك الدِّماء وأخذ الأموال وسَبَى الذراري قالا‏:‏ نعم قال فهل عَلمتم أنّ عمر قام بعد أبي بكر فردّ تلك السَّبايا إلى عشائرها قالا‏:‏ نعم قال‏:‏ فهل بَرِىء عمر من أبي بكر أو تَبْرءون أنتم من أحد منهما قالا‏:‏ لا قال‏:‏ فأخبراني عن أهل النَّهروان أَليْسوا من صالحي أسلافكم وممَّن تَشْهدون لهم بالنجاة قالا‏:‏ نعم قال‏:‏ فهلِ تَعلمون أنّ أهل الكوفة حين خرجوا كَفوا أيديَهم فلم يَسْفكوا دماً ولم يُخيفوا آمناَ ولم يأخذوا مالا قالا‏:‏ نعم قال‏:‏ فهل علمتم أن أهل البَصْرة حين خَرجوا مع مِسْعَر بن فُدَيك استعرضوا الناس يَقْتلونهم ولَفوا عبد الله بن خبّاب بن الأرَتّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه وقتلوا جاريتَه ثم قتلوا النّساء والأطفال حتى جعلوا يُلْقونهم في قُدُور الأقْط وهي تفور قالا‏:‏ قد كان ذلك قال‏:‏ فهل بَرِىء أهلُ الكوفة من أهل البصرة قالا‏:‏ لا قال‏:‏ فهل تَبرءُون أنتم من إحدى الفِئتين قالا‏:‏ لا قال‏:‏ أَفرأَيتم الدِّين إليس هو واحد أَم الدِّين اثنان قالا‏:‏ بل واحدة قال‏:‏ فهل يَسعكم منه شيء يُعْجِزني قالا‏:‏ لا قال فكيف وَسِعكم أن تولَّيتم أبا بكر وعُمرِ وتولَّى كلُّ واحد منهما صاحبَه وتولَّيتم أهلَ الكوفة والبَصرة وتولَّى بعضُهم بعضاَ وقد اختلفوا في أعْظم الأشياء‏:‏ الدِّماء والفُروج والأموال ولا يَسَعني إلا لَعْن أهل بَيْتي والتبرُؤ منهم أو رأيتَ لَعْنَ أهل الذُّنوب فَريضةً لا بدّ منها فإنْ كان ذلك فمتى عَهْدك بلَعْن فِرْعون وقد قال‏:‏ أَنَا ربًّكم الأعلى قال‏:‏ ما أذكُر أني لعنتُه قال‏:‏ ويحك‏!‏ أيسَعك أن لا تَلْعن فِرْعون وهو أخبث الخَلْق ولا يَسَعُني إلا أن ألعن أهلَ بَيْتي والبراءةُ منهم ويحكم‏!‏ إنكم قَوْم جُهَّال أردتم أمراً فأخطأتموه فأنتم تَردّون على الناس ما قَبل منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَعثه اللهّ إليهم وهم عَبَدَة أوثان فدعاهم إلا أن يخلعوا الأوثان وأن يَشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً عبدُه ورسولُه فمن قال ذلك حَقَن بذلك دَمَه وأحْرز مالَه ووَجبت حُرمَتُه وأَمِن به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إِسوة المُسلمين وكان حسابُه على اللّه أفلستم تَلقَون مَن خَلع الأوْثان ورَفَض الأديان وشَهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله تَسْتحلون دَمَه ومالَه وُيلْعن عندكم ومَن تَرَك ذلك وأباه من اليهود والنَّصارى وأهلِ الأديان فَتُحَرِّمون دَمَه ومالَه ‏"‏ ويأمن عندكم ‏"‏ فقال الأسود‏:‏ ما سمعتُ كاليوم أحداَ أبين حُجّة ولا أقرب مَأْخذاً أمّا أنا فأشهد أنك على الحق وأني بَرِيءٌ ممن بَرِىء منك‏.‏
فقال عمر لصاحبه‏:‏ يا أخا بني شَيْبان ما تقول أنت قال‏:‏ ما أَحسَنَ ما قُلْتَ ووصفتَ غير أني لا أفتات على الناس بأمْر حتى أَلقاهم بما ذكرتَ وأنظر ما حُجّتهم قال‏:‏ أنت وذاك‏.‏
فأقام الحَبشيّ مع عمر وأمر له بالعَطاء فلم يَلْبث أن مات ولَحِق الشَّيباني بأصحابه فقُتل معهم بعد وفاة عُمر ‏"‏ رضي الله عنه ‏"‏‏.‏
وذُكر رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم فَذَكروا فضلَه وشِدَة اجتهاده في العِبادة‏.‏
فبينما هم في ذِكْره حتى طَلَع عليهم الرجلُ فقالوا‏:‏ يا رسولَ اللّه هو هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما إني أرى بين عَيْنيه سَفْعة من الشَّيطان فأقبل الرجلُ حتى وقف فسلّم عليهم فقال‏:‏ هل حَدَّثتك نفسُك إذ طلعتَ علينا أنه ليس في القوم أحسن منك قال نعم ثم ذهب إلى المسجد فصفّ بين قَدَميه يصلِّي‏.‏
فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيكم يقومُ إليه فيقتله فقال أبو بكر‏:‏ أنا يا رسول اللهّ‏.‏
فقام إليه فَوَجده يًصلَي فهابه فانصرف فقال‏:‏ ما صنعتَ قال وجدتُه يصلِّي يا رسول الله فهِبتُه‏.‏
فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيكم يَقُوم إليه فيقتله قال عمر‏:‏ أنا يا رسولَ اللّه‏.‏
فقام إليه فوجده يصلِّي فهابه فانصرف فقال‏:‏ يا رسولَ اللّه وجدتُه يصلِّي فهِبتُه‏.‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيكم يقوم إليه فيقْتُلَه فقال عليٌّ‏:‏ أنا يا رسول اللّه قال‏:‏ أنت له إن أدركته‏.‏
فقام إليه فوجده قد انصرف‏.‏
فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ هذا أول قَرْنٍ يَطلًعُ في أُمتي لو قتلتموه ما اختلف بعده اثنان إنّ بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقةً واحدة وهي الجماعة‏.‏
إنما قيل لهم رافضة لأنهم رفضوا أبا بكر وعمر ولم يَرْفُضهما أحد من أهل الأهواء غيرهم والشيعة دونهم وهم الذين يُفضِّلون عليًّا على عثمان ويَتَوَلَّون أبا بكر وعمر‏.‏
فأما الرافضة فلها غُلوّ شديد في عليّ ذهب بعضُهم مَذهب النَّصارى في المسيح وهم السَّبئية أصحاب عبد الله بن سبأ عليهم لعنةُ اللهّ وفيهم يقول السَّيد الحميري‏:‏ قَوْمٌ غَلوْا في علّيِ لا أبالهمُ وأُجْشَمُوا أنفُساً في حُبِّه تَعَبَا قالوا هو اللهّ جَلِّ الله خالقُنا من أن يكون ابن شيء أو يكون أَبا وقد أَحْرقهم عليّ رضي الله عنه بالنَّار‏.‏
ومن الروافض‏:‏ المُغيرة بن سعد مولى بَجِيلة‏.‏
قال الأعمش‏:‏ دخلتُ على المُغيرة بن سعد فسألته عن فَضائل عليّ فقال‏:‏ إنك لا تَحْتملها قلتُ‏:‏ بلى‏.‏
فَذَكر آدم صلواتُ الله عليه فقال‏:‏ عليٌّ خير منه ثم ذكر مَن دونه من الأنبياء فقال عليٌّ خير منهم حتى انتهى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ عليّ مثلُه فقلت‏:‏ كذبت عليك لعنة الله قال‏:‏ قد أَعلمتُك أَنك لا تحتملها‏.‏
ومن الروافض‏:‏ مَن يزعُم أنّ علياً رضي الله عنه في السَّحاب فإذا أطلَّت عليهم سحابة قالوا‏:‏ السلامُ عليك يا أبا الحَسن‏.‏
وقد ذكرهم الشاعر فقال‏:‏ بَرِئتُ من الخوارجِ لستُ منهم مِن الغَزّال منهم وابن باب ولكنّي أُحِبُّ بكلّ قَلْبي وأعْلم أنَّ ذاك من الصواب رسولَ الله والصِّدِّيقَ حَقًّا به أرجو غداً حُسن الثَّواب وهؤلاء من الرافضة يقال لهم‏:‏ المَنصورية‏.‏
وهم أصحاب أبي منصور الكِسْف وإنما سُمِّي الكِسْف لأنه كان يتأوَّل قي قول الله عزَّ وجلً‏:‏ ‏"‏ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ سَاقِطاً يَقُولوا سَحَابٌ مَرْكُوم ‏"‏ فالكِسْفُ عليٌّ وهو في السحاب‏.‏
وكان المُغيرة بن سعد من السَّبئية الذين أحْرقهم علي رضيِ الله تعالى عنه بالنار وكان يقول‏:‏ لو شاء عليّ لأحيا عاداً وثمودَ وقروناً بين ذلك كثيراَ‏.‏
‏"‏ وقد ‏"‏ خرج ‏"‏ على ‏"‏ خالد بن عبد الله فقتل خالد وصلبه بواسط عند قنطرة العاشر‏.‏
ومن الروافض كُثَيِّر عَزَّة الشاعر‏.‏
ولما حضرته الوفاة دعا ابنةَ أَخٍ له فقال‏:‏ يا بِنتَ أخي إنَ عمَّك كان يُحب هذا الرَّجلَ فأَحبَيه - يعني عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه - فقالت‏:‏ نَصِيحتك يا عمّ مردودة عليك أحبًّه واللهّ خلافَ الحبِّ الذي أحْببتَه أنت فقال لها‏:‏ بَرِئت منك وأنشد يقول‏:‏ بَرِئتُ إلى الإله من ابن أَرْوَى ومن قول الخوارج أجمعينَا ومن عُمرٍ برئتُ ومن عَتيق غداةَ دُعي أميرَ المؤمنينا والروافض كلها تؤمن بالرَّجعة وتقول‏:‏ لا تقوم الساعةُ حتى يخرجِ المهديُّ وهو محمد بن عليِّ فيملؤُها عَدْلا كما مُلِئتْ جَوْراً ويُحيى لهم موتاهم فيرْجعون إلى الدنيا ويكون الناسُ أمةً واحدة‏.‏
وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏ أَلا إنَّ الأئمة من قُريش وُلاةَ العَدْل أربعةٌ سَواءُ عليّ والثلاثةُ مِن بَنيه همُ الأسباط ليس بهمِ خَفاء فَسِبْطٌ سِبطُ إيمانٍ وبِرٍّ وسِبْط غَيًبته كرْبلاء أراد بالأسباط الثلاثة‏:‏ الحسن والحسين ومحمد بن الحنفيَّة وهو المهديّ الذي يخرُج في آخر الزمان‏.‏
ومن الروافض‏:‏ السيّد الحِمْيري وكان يُلقَى له وسائد في مسجد الكوفة يَجلس عليها وكان يؤمن بالرَّجعة وفي ذلك يقول‏:‏ إذا ما المرْءُ شابَ له قَذال وعَلِّلهُ اْلمَواشِطُ بالْخِضابِ فقد ذهبتْ بَشاشتهُ وأودَى فَقُم بأَبيك فابكِ على الشَباب فليسَ بعائدٍ ما فاتَ منهُ إلى أحدٍ إلى يوم المآب إلى يومٍ يؤوب الناسُ فيه إلى دُنياهُمِ قبل الحساب لأنَّ الله خَبَّر عن رِجالٍ حَيُوا من بعد دَسٍّ في التُّراب وقال يرثيِ أخاه‏:‏ يابن أمِّي فدَتْكَ نفسي ومالي كنتَ رُكني ومَفْزعي وَجَمالي ولَعَمْرِي لئن تركْتُك مَيْتاً رَهْنَ رَمْس ضَنْكٍ عليك مُهالَ لوشيكاً ألقاك حياً صحيحاً سامِعاً مُبْصَراً على خير حال قد بُعثتم من القُبور فَأبْتُم بعد ما رَفَت العِظامَ البَوالي أو كَسَبْعين وافداً مع مُوسى عاينُوا هائلاً من الأهْوال حين رامُوا من خُبثهم رُؤية الله وأنىَّ برُؤية المتعالي فرَماهم بصَعْقة أحْرقتهم ثم أحياهُم شديدُ المحال دخل رجل من الْحِسْبانيّة على المأمون فقال‏:‏ لثُمامة بن أشرس كلِّمه فقال له‏:‏ ما تقول وما مَذْهبك فقال‏:‏ أقول إنّ الأشياء كلّها على التوهُّم والْحِسْبان وإنما يُدْرٍك منها الناسُ على قَدْر عقولهم ولا حتَّى في الحقيقة‏.‏
فقام إِليه ثُمامة فَلَطَمه لطمةً سوَدت وَجْهه فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين يفعل بي مثلَ هذا في مجلسك‏!‏ فقال له ثُمامة‏:‏ وما فعلتُ بك قال‏:‏ لَطَمْتني قال‏:‏ ولعلَّ إنما دَهَنتُك بالبان ثم أنشأ يقول‏:‏ ولعلَّ ما أبصرتَ من بِيض الطًّيور هو الغُراب وعَساك حين قَعدتَ قم تَ وحين جئتَ هو الذّهاب وعَسى البنفسج زِئْبقاً وعسى البَهار هو السَّذاب وعَساك تأكل مِن خَرَا ك وأنتَ تَحْسبه الكَباب ومن حديث ابن أبي شَيْبة أن عبد الله بن شدِّاد قال‏:‏ قال لي عبد الله بن عبَّاس‏:‏ لأخبرنَّك بأعجب شيء‏:‏ قَرَع اليومَ علي البابَ رجلٌ لما وضعتُ ثيابي للظَّهيرة فقلتُ‏:‏ ما أتى به في مثل هذا الحين إلا أمرٌ مهمّ أدخله‏.‏
فلما دخل قال‏:‏ متى يُبعث ذلك الرجل قلت‏:‏ أي رجل قال‏:‏ عليّ بن أبي طالب قلتُ‏:‏ لا يُبعث حتىِ يَبعث الله مَن في القبور قال‏:‏ وإنك لتقول بقول هذه الجَهلة‏!‏ قلت‏:‏ أَخْرِجُوه عني لعنه اللّه‏.‏
ومن الروافض الكَيْسانية قلتُ‏:‏ وهم أصحاب المُختار بن أبي عُبيد ويقولون إنّ اسمه كَيْسان‏.‏
ومن الرافضة الحُسينية وهم أصحاب إبراهيم بن الاشتر وكانوا يطوفون بالليل في أزقة الكوفة وينادون‏:‏ يا ثاراتِ الحًسين فقيل لهم‏:‏ الحُسينية‏.‏
ومن الرافضة الغُرابية‏:‏ سمِّيت بذلك لقولهم‏:‏ عليّ أشبه بالنبي من الغُراب بالغراب‏.‏
ومن الرافضة‏:‏ الزَّيْدِية وهم أصحاب زيد بن عليّ المقتول بخُراسان وهم أقلُّ الرافضة غُلُوًّا مالك بن مُعاوية قال‏:‏ قال لي الشّعبيِ وذَكَرْنا الرافضة‏:‏ يا مالك لو أردتُ أن يُعطوني رقابَهم عَبيداً وأن يَمْلئوا بيتي ذَهَباَ عليً على أن أكْذِبَ لهم على علّيِ كِذْبَةً واحدةً لَقَبِلوا ولكني واللّه لا أَكْذِب عليه أبداً يا مالك إني دَرسْتُ الأهواءَ كلَّها فلم أَرَ قوماً أحمقَ من الرافضة فلو كانوا من الدوابّ لكانوا حميراً أو كانوا من الطير لكانوا رَخَماً‏.‏
ثم قال‏:‏ أحذِّرك الأهواءَ المُضلة شرُّها الرافضة فإنها يهود هذه الأمة يُبغضون الإسلام كما يُبغض اليهودُ النَّصرِانية ولم يدْخلوا في الإسلام رغبةً ولا رَهْبة من الله ولكن مَقْتاً لأهل الإسلام وبَغْياَ عليهم وقد أحرَقهم عليًّ بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار ونفاهم إلى البُلْدان منهم‏:‏ عبد الله بن سبأ نفاه إلى ساباط وعبد الله بن سباب نفاه إلى الجازر وأبو الكَرَوَّس وذلك أن مِحْنة الرافضة محنة اليهود قالت اليهود‏:‏ لا يكون المُلك إلا في آل داود وقالت الرافضة‏:‏ لا يكون المُلك إلا في آل عليّ بن أبي طالب وقالت اليهود‏:‏ لا يكون جِهاد في سبيل الله حتى يَخْرج المَسيح المُنتظر ويُنادي منادٍ من السماء وقالت الرافضة‏:‏ لا جِهادَ في سبيل الله حتى يخرُج المَهديُّ ويَنْزل سَبَب من السماء واليَهود يُؤخِّرون صلاةَ المَغرِب حتى تَشتبك النّجوم وكذلك الرافضة واليَهود لا تَرى الطَّلاق الثلاثَ شيئاَ وكذا الرَّافضة واليهود لا تَرى على النساء عدة وكذلك الرافضة واليهود تستحل دم كل مسلم وكذلك الرافضة واليهود حرفوا التوراة وكذلك الرافضة حرفت القران واليهود تُبْغض جبريلَ وتقول‏:‏ هو عَدوُّنا من الملائكة وكذلك الرافضة تقول‏:‏ غَلط جبريلُ في الوَحْي إلى محمد بترك عليّ بن أبي طالب واليهود لا تأكُل لَحم الجَزُور وكذلك الرافضة‏.‏
ولليهود والئصارى فَضِيلة على الرافضة في خَصْلتين سُئِل اليهود مَن خَيْر أهل مِلّتكم فقالوا‏:‏ أصحابُ موسى وسُئِلت النصارى فقالوا‏:‏ أصحابً عيسى وسُئِلت الرِافضة‏:‏ مَن شرّ أهل مِلّتكم فقالوا‏:‏ أصحابُ محمّد أمَرهم اللهّ بالاستغفار لهم فشَتَموهم فالسيفُ مَسْلول عليهم إلى يوم القيامةِ لا تَثبُت لهم قدم ولا تَقومُ لهم راية ولا تُجمع لهم كِلمة دَعْوَتُهم مَدْحورة وكَلِمتهم مِختلفة وجَمْعهم مُفرَّق كلما أَوْقدُوا ناراً للحرب أطْفأها اللّه‏.‏
وذُكرت الرّافضةُ يوماً عند الشًعْبِيّ فقال‏:‏ لقد بغَّضُوا إلينا حديثَ عليّ بن أبي طالب‏.‏
وقال الشّعبيّ‏:‏ ما شَبَّهتُ تأويلَ الرِوافض في القرآن إلا بتأويل رَجل مَضْعوف من بني مَخْزوم من أهل مكّة وجدتُه قاعداَ بفِناء الكَعْبة فقال يا شعبيّ‏:‏ ما عِنْدك في تأويل هذا البَيْت فإن بَني تَميم يَغْلطون فيه ويزعمون أنه إنما قيل في رجل منهم وهو قولُ الشاعر‏:‏ بَيْتاً زُرَارةُ مًحْتَبِ بِفِنائه ومُجاشع وأَبو الفَوارس نَهْشلُ فقلت له‏:‏ وما عِندَك أنت فيه قال‏:‏ البيتُ هو هذا البيت وأشار بيده إلى الكَعْبة وزُرارةُ الحجر زُرِّر حول البيت فقلت له‏:‏ فَمُجاشع قال‏:‏ زَمزم جَشِعت بالماء قلت‏:‏ فأَبُو الفوارس قال‏:‏ هو أبو قُبيس جَبل مكَّة قلت‏:‏ فَنَهْشل ففكّر فيه طويلا ثم قال‏:‏ أَصبتُه هو مِصْباح الكعبة طويلٌ أَسود وهو النَّهشل‏.‏
قولهم في الشيعة قال أبو عُثمان عمرو بِن بَحر الجاحظ‏:‏ أخبرني رجلٌ من رُؤساء التجّار قال‏:‏ كان معنا في السَّفينة شيخٌ شرس الأخلاق طويلُ الِإطْراق وكان إذا ذُكِر له الشِّيعةُ غَضِب واربدّ وجهُه وزَوى من جاجبَيْه فقلتُ له يوماً‏:‏ يَرْحمك اللّه ما الذي تَكْرهه من الشِّيعة فإني رأيتُك إذا ذُكِروا غَضِبْتَ وقُبضتَ قال‏:‏ ما أَكْره منهم إلا هذه الشِّين في أوّل اسمهم فإني لم أجِدْها قطُّ إلا في كلَّ شرّ وشُؤْم وشَيْطان وشَغب وشَقَاء وشَنَار وشَرَر وشَين وشَوْك وشَكْوى وشَهْوة وشَتْم وشُح‏.‏
قال أبو عثمان‏:‏ فما ثَبت لِشيعيّ بعدها قائمة‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:38 AM

باب من كلام المتكلمين
دخل المُوبَذ على هشام بن الحكم واْلمُوبَذ هو عالم الفُرس فقال له‏:‏ يا هشام‏:‏ حولَ الدنيا شيء قال‏:‏ لا قال‏:‏ فإن اخرجتُ يدي فثَمِّ شيءٌ يَرُدُها قال هشام‏:‏ ليس ثَمَّ شيءٌ يرُدّها ولا شيء تُخْرِج يدك فيه قال‏:‏ فكيف أعلَم هذا قال له يا مُوبَذُ أنا وأنت على طَرَف الدنيا فقلت لك يا مُوبَذً‏.‏
إني لا أرى شيئاً فقلتَ لي‏:‏ ولم لا ترِى فقلت لك‏:‏ ليس هاهنا ظلامٌ يمنعني قلت لي أنتَ‏:‏ يا هشام إِني لا أرى شيئاَ فقلت لك‏:‏ ولم لا ترى قلتَ‏:‏ ليس ضياء أنظر به فهل تكافأت المِلَّتان في التناقض قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فإذا تكافأَتا في التناقض لم تتكافآ في الإبطال أن ليس شيء فأشار الموبَذُ بيده أن أصبت ‏"‏‏.‏
قال رجلٌ لبعض ولاة بني العباس‏:‏ أنا أجعل هِشام بن الحَكم يقول في عليّ رضيِ الله عنه إنه ظالم ‏"‏ فقال‏:‏ إن فعلت ذلك فلك كذا وكذا ثم أحْضر هشام ‏"‏ فقال له نشدتُك اللهّ أبا محمَد أما تَعلم أن عليًّا نازع العباس عند أبي بكر قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فمَن الظالم منهما فكَرِه أن يقول‏:‏ العبّاس فَيُواقع سُخْط الخليفة أو يقول‏:‏ عليْ فيَنْقض أصلَه قال‏:‏ ما منهما ظالم قال‏:‏ فكيف يَتنازع اثنان في شيء لا يكون أحدُهما ظالماً قال‏:‏ قد تَنازع المَلَكان عند داود عليه السلام وما فيهما ظالم ولكن ليُنبِّها داود على الخَطِيئة وكذلك هذان أرادا تَنْبيه أبي بكر من خَطِيئته فأُسْكت الرجل وأمر الخليفةُ لهشام بِصِلة عظيمة‏.‏
‏"‏ دخلَ إبراهيمُ النَّظَّام على أبي الهُذَيل العَلاف وقد أَسنَّ وَبَعًد عهدُه بالمُناظرة وإبراهيمُ حَدَث السنّ فقال‏:‏ أخبرني عن قراركم‏:‏ أن يكون جَوْهراً مخافة أن يكون حِسْما فهل قَرَّرْتم أن لا يكون جوهراً مخافةَ أن يكون عرضاً والعَرض أضعفُ من الجوهر‏.‏
فَبَصَق أبو الهُذَيل في وجهه فقال له إبراهيم‏:‏ قبحك الله من شَيْخ‏!‏ ما أضعف حُجِّتك وأسفه حِلْمك‏.‏
قال‏:‏ لَقِي جَهْم رجلاً من اليونانيين فقال له‏:‏ هل لك أن تُكلِّمني وأكلَمك عن مَعْبودك هذا أرأيته قطَّ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فلمستَه قال‏:‏ لا قال‏:‏ فذُقته قال‏:‏ لا قال‏:‏ فمن أين عَرفتَه وأنت لم تُدْركه بحسّ من حواسّك الخَمْس وإنما عقلك معبر عنها فلا يدرك إلا ما أوصلَتْ إليه من جميع المَعْلومات‏.‏
قال‏:‏ فَتلجلج جَهْم ساعةً ثم استدرك فعكس المسألة عليه فقال له‏:‏ ما تًقِرّ أنّ لك رُوحا قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فهل رأيتَه أو ذُقْتَه أو سَمِعْته أو شَممتَه أو لَمستَه قال‏:‏ لا قال‏:‏ فكيف علمتَ أنّ لك رُوحا فأقَرّ له اليُونانيّ‏.‏



باب في الحياء
قال النبي صلى الله عليه وسلم الحَياء خَيْرٌ كلُّه‏.‏
الحَياء شُعْبة من الإيمان‏.‏
وقال عليه السلام‏:‏ إنّ اللهّ تَبارك وتعالى يحبّ الحيّ الحَليمَ المُتَعفِّف ويَكره البَذِىء السأّل المُلْحُف‏.‏
وقال عَوْن بن عبد الله‏:‏ الحياءُ والحِلْم والصَّمتُ من الإيمان‏.‏
وقال ابن عمر‏:‏ الحياء والإيمان مَقْرونان جميعاً فإِذا رُفِع أحدهما ارتفع الآخر معه‏.‏
وقال‏:‏ مَكْتوب في التوراة‏:‏ إذا لم تَسْتح فاصنع ما تَشاء‏.‏
وقال‏:‏ أحيُوا الحياء بمُجالسة من يُسْتحيا منه‏.‏
وذكر أعرابيٌ رجلاً حيا فقال‏:‏ لا ترَاه الدهرَ إلا وكأنّه لا غِنى به عنك وإن كنتَ إليه أحوجَ وإن أذْنبتَ غَفر وكأنّه المُذنب وإن أسأت إليه أحسن وكأنه المُسيء‏.‏
لليلى الأخيلية‏:‏ فتًى هو أحْيا منِ فَتاة حَيِيَّة وأشجعً من لَيْثٍ بخِفَّان خادِر ولابن قيس أيضاَ‏:‏ تخَالهم للحلم صُما عن الخَنَا وخُرْساً عن الفَحشَاءِ عند التَهاجُر ومَرْضى إذا لوقُوا حَياءً وعَفّة وعند الحِفاظ كالليوث الخوادر وقال الشعبي‏:‏ تَعاشر الناس فيما بينهم زماناً بالدِّين والتَقوى ثم رُفِع ذلك فتعاشروا بالحَياء والتذمُّم ثم رُفع ذلك فما يَتعاشر الناس إلا بالرغبة والرَّهبة وسيجىء ما هو شرمن ذلك‏.‏
وقيل‏:‏ الحياء يزيد في النُّبل‏.‏
ولبعضهم‏:‏ فلا وأبيكَ ما في العَيْش خيرٌ ولا الدُّنيا إذا ذَهب الحياءُ وقال آخر‏:‏ إذا رُزِق الفتى وجهاً وَقاحاً تَقلَّب في الأمور كما يشاءُ ورُث قَبيحةٍ ما حالَ بيني وبين رُكُوبها إلا الحَياء وقال عليّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهَه‏:‏ قُرنت الهيبةُ بالخَيْبة والحياءُ بالحِرْمان‏.‏
وقد قيل‏:‏ ارفع حياءَكَ فيما جئتَ طالبَه إنّ لحياءَ مع الحِرمان مَقرونُ وفي المثل‏:‏ كثرة الحياء من التخنث‏.‏
قال الحسن‏:‏ من استتر بالحياء لبس الجهل سرباله فقطّعوا سرابيل الحياء فإنه مَن رَقّ وجهه رق عِلْمه‏.‏
وَصَف رجل الحياء عند الأحنف فقال‏:‏ إن الحياء ‏"‏ لَيَتّتُم ‏"‏ لمقدار من المقادير فما زاد على ذلك فسمِّه بما أحببت‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ إن الحياء مع الحرمان مُقْترن كذاك قال أميرُ المؤمنين عَلي واعلم بأن من التخنيث أكثره فارفعه في طلب الحاجات والأمَلَ وللشماخ‏:‏ أجاملُ أقواماً حياءً وقد أرى صدورهم بادٍ عَلَيَّ مِراضُها ولابن أبي حازم‏:‏ حياءٌ وإسلام وتقْوى وأنَّني كريم ومِثْلي قد يَضرُ ويَنفع وقال آخر‏:‏ إذا حُرم المرء الحياءَ فإنهُ بكلّ قبيح كان منه جديرُ له قِحة في كل أمر وسِره مُباح وجدواه جفاً وغرور يَرى الشَّتْم مَدْحاً والدناءة رِفْعة وللسَّمْع منه في العِظات نُفور فرجِّ الفتى ما دام حيَّا فإنّهُ إلى خيِر حالات اْلمُنِيب يَصِير ‏"‏



باب جامع الآداب
أدب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قال أبو عُمر أحمد ببن محمد‏:‏ أوّل ما نَبدأ أدبُ النبي صلى الله عليه وسلم ثم أَدبه صلى الله عليه وسلم لأمّته ثم الحكماء والعُلماء وقد أدّبَ الله نَبِيّه بأحسن الآداب كًلها فقال له‏:‏ ‏"‏ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ‏"‏‏.‏
فنهاه عن التَقتِير كما نهاه عن التَّبذير وأمره بتوسّط الحاليْن كما قال عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ وَالَّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لم يسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما ‏"‏ وقد جَمع الله ‏"‏ تبارك و ‏"‏ تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم جوامعَ الكَلِم في كتابه المُحْكَكم ونَظِم له مَكارم الأخلاق كلّها في ثلاث كلمات منه فقال‏:‏ ‏"‏ خُذِ العفو وَأَمًرْ بالعرفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ ‏"‏‏.‏
ففي أَخذِه اللعفو صِلة مَن قَطَعه والصَّفحُ عمَّن ظَلَمه وفي الأمر بالمعروف تَقْوَى اللّه وغَض الطِّرفِ عن المحارم وصَوْن اللسان عن الكَذِب وفي الإعراض عن الجاهِلين تنزيه النَّفْس عن مماراة السَّفيه ومنازعة اللَجُوجِ‏.‏
ثم أمره تبارك وتعالى فيماِ أدَّبه باللِّين في عَريكته والرِّفق بأًمّته فقال‏:‏ ‏"‏ واخفضْ جَناحَك لمن اتَّبَعَكَ مِنَ المؤْمِنِين ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ ولَوْ كُنْتَ فَظّا غليظَ الْقَلْب لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ‏"‏‏.‏
وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ لا تَسْتَوي الحَسَنَةُ وَلا السِّيِّئَةُ اْدْفَعْ بالَّتي هِيَ أحْسَنُ فَإِذَا الَذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كأنَّهُ وَليٌّ حَمِيم‏.‏
وَمَا يُلَقَاهَا إلا الذِينَ صَبروا وَمَا يُلَقَاهَا إلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيم ‏"‏‏.‏
فلما وَعى عن الله عزَّ وجلَّ وكَمُلت فيه هذه الآداب قال اللهّ تبارك وِتعالى‏:‏ ‏"‏ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏"‏‏.‏



باب أدب النبي لأمته صلى الله عليه وسلم
لأمته قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أدّب به أمته وحَضها عليه من مَكارم الأخْلاق وجَمِيل المعاشرة وإصلاح ذاتِ البَينْ وصِلَة الأرحام‏:‏ أوْصاني ربيِّ بتِسْع ‏"‏ وأنا ‏"‏ أوصيكم بها‏:‏ أوصاني بالإخلاص في السر والعَلانية والعَدْل في الرِّضا والغَضب والقَصْد في الغِنَى والفَقْر وأن أعْفُو عمن ظَلَمني وأعْطي مَن حَرَمني وأصِل مَن قَطعني وأن يكون صَمتي فِكْراً ونُطْقي ذِكْراً ونَظَري عبَرا‏.‏
وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تقْعدوا على ظُهور الطُّرق فإن أَبَيْتم فغُضُوا الأبصار وأفشُوا السلام واهدوا الضالَّ وأعينوا الضعِيف‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَوْكُوا السِّقاء واكْفَئُوإ الإناء وأَغْلِقوا الأبواب وأطفِئوا المِصْباح فإن الشيطان لا يَفْتح غَلَقا ولا يحل وِكاءً ولا يَكْشف الإناء‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا أنَبئكم بشرّ الناس قالوا‏:‏ بلى يا رسولَ اللهّ قال‏:‏ من أكل وَحْدَه ومَنَع رِفْده وجَلَد عبدَه‏.‏
ثم قال‏:‏ ألا أُنبئكم بشِرّ من ذلك قالوا‏.‏
بلى يا رسول اللّه قال‏:‏ ‏"‏ من لا يُقيل عزة ولا يقبل مَعْذرة ثم قال أَلاَ أنبئكم بشرّ من ذلك قالوا بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قال‏:‏ مَن يُبغض الناسَ ويُبْغِضونه‏.‏
وقال‏:‏ حَصِّنوا أموالَكم بالزّكاة وداوُوا مَرْضاكم بالصدَقة واستَقْبِلوا البَلاء بالدُّعاء وقال‏:‏ ما قَلّ وكَفي خير مما كثر وألْهى‏.‏
وقال المسْلِمون تَتكافأ دِماؤُهم ويَسْعَى بذمَّتهم أدْناهم وهُمْ يَدٌ على مَن سواهم‏.‏
وقال‏:‏ اليَدُ العُلْيا خيرٌ من اليد السُّفْلي‏.‏
‏"‏ وقال ‏"‏‏:‏ وابْدَأ بمن تَعول‏.‏
وقال‏:‏ لا تَجْن يَمينُك على شِمالك ولا يًلدغ المُؤمن من جحر مرتين‏.‏
وقال‏:‏ اْفصِلُوا بين حَدِيثكم بالاستغفار واسْتَعينوا على قضاء حَوائجكم بالكِتمان‏.‏
وقال‏:‏ أَفضل الأصحاب من إذا ذَكَرْت أعانك وإذا نَسيت ذَكرَّك‏.‏
وقال‏:‏ لا يُؤَم ذو سُلْطان في سُلْطانه ولا يُجْلس على تَكْرِمته إلا بإِذنه‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقول ابن آدم مالي مالي وإنما له من ماله ما أَكل فأفْنى أو لَبِسَ فأبلَى أو وهب فأمْضى‏.‏
وقال‏:‏ سَتَحْرصون على الإمارة فنِعمت المُرْضعة وبئست الفاطمة‏.‏
وقال‏:‏ لا يَحْكمِ الحاكم بين اثنين وهو غَضْبان‏.‏
وقال‏:‏ لو تَكاشفتم ما تَدافَنْتم وما هَلَك امرؤ عَرف قَدْره‏.‏
وقال‏:‏ الناس كإبل مائةٍ لا تَكاد تَجد فيها راحلةً واحدة والناس كلّهم سواء كأسنان المُشْط‏.‏
وقال‏:‏ رَحِم الله عبداً قال خيراً فَغَنِم أو سَكَت فَسَلِم‏.‏
وقال‏:‏ خَيْر المال سِكَة مَأْبورة ومُهْرة مَأْمورة وخير المال عَينٌ ساهرة لِعَين نائمة‏.‏
وقال في إناث الخيل‏:‏ بُطونها كَنْز وظُهورها حِرْز‏.‏
وقال‏:‏ ما أملق تاجرٌ صدُوق وما أقفر بيتٌ فيه خَلّ‏.‏
وقال‏:‏ قَيّدوا العِلم بالكتابة‏.‏
وقال‏:‏ عَلق سَوْطك حيثُ يراه أهلُك‏.‏



باب في آداب الحكماء والعلماء
فضيلة الأدب أوصى بعضُ الحكماء بنيه فقال‏:‏ الأدب أكرم الجواهر طبيعةً وأنْفسها قيمةً يَرْفع الأحساب الوَضيعة ويُفيد الرَّغائب الجليله ويُعِز بلا عشيرة ويُكثر الأنصار بغَيْر رزيَّة فالبسوه حُلّة وتَزَينُوه حِلْية يُؤْنسكم في الوَحشة ويجمع لكم القُلوب المختلفة‏.‏
ومن كلام علّي عليه السلام‏:‏ فيما يُروى عنه أنه قال‏:‏ مَن حَلم ساد ومن ساد استفاد ومن استَحيا حُرم ومن هاب خاب ومَن طلب الرّآسة صَبر على السياسة ومَن أبصر عَيْب نفسه عَمِيَ عن عَيب غيره ومَن سلَّ سيف البَغْي قُتل به ومن احتقر لأخيه بئراً وقَع فيها ومَن نَسى زَلَّته استعظم زلّة غيره ومن هَتَك حِجاب غيره اْنهتكت عورات بَيته ومن كابر في الأمور عَطِب ومن اقتحم اللُّجج غَرِق ومن أعجب برأْيه ضَلَّ ومن استغنى بعَقله زلَ ومن تَجَبَّر على الناس ذَلَّ ومن تَعمَّق في العَمَل مَلَّ ومَن صاحَب الأنذال حُقِّر ومن جالس العلماء وُقَر ومن دَخل مَداخل السًوء اتُّهم ومَن حَسَنُ خُلقه سَهُلَت له طُرُقه ومن حَسَّنَ كلامَه كانت الْهَيْبة أمامَه ومَن خَشي الله فاز ومَن استقاد الجَهْل تَرك طَرِيق العَدْل ومَن عرف أجَله قَصًر أمله ثم أنشأ يقول‏:‏ البَسْ أخاك على عُيوبه واسْتُر وغَطِّ على ذُنوبه واصبر على بَهْتِ السَّفِيهِ وللزَّمان على خُطوبه ودَع الجوابَ تفضلاً وكِل الظلومَ إلى حَسِيبه وقال شَبِيب بن شَيبة‏:‏ اطلُبوا الأدب فإنّه مادًة للعَقْل ودليل على المُروءة وصاحب في الغُربة ومُؤنس في الوَحشة وحِلْية في المَجْلِس ‏"‏ ويجمع لكم القلوب المختلفة ‏"‏‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مَروان لبَنِيه‏:‏ عليكم بطلب الأدب فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالاً وإن اسْتَغنيتم عنه كان لكمٍ جمالاً‏.‏
وقال بعضُ الحكماء‏:‏ اعلم أن جاهاً بالمال إنما يَصْحبك ما صَحِبَكَ المال وجاهاً بالأدب غيرُ زائل عنك‏.‏
وقال ابن المقفَّع‏:‏ إذا أكرمك الناسُ لمالٍ أو لسُلطانٍ فلا يُعْجِبك ذلك فإنّ الكرامة تزُول بزوالهما ولكن ليُعْجبك إذا أكرموك لدِين أو أدب‏.‏
وقال الأحْنَف بن قَيس‏:‏ رأسُ الأدب المَنْطِق ولا خَيْر في قوْل إلاِّ بِفِعْل ولا في مال إلا بجُود ولا وقال مَصقلة الزُّبيريّ‏:‏ لا يَستغني الأديب عن ثلاثة واثنن فأما الثلاثة‏:‏ فالبلاغة والفصاحة وحُسن العِبارة وأما الاثنان فالعِلْم بالأثر والحِفْظ للخَبر‏.‏
وقالوا‏:‏ الحَسَب مُحتاجِ إلى الأدب والمعرفة محتاجة إلى التَّجربة‏.‏
وقال بُزُرْجَمْهِر‏:‏ ما ورَّث الآباءُ الابناءُ شيئاً خيراً من الأدب لأنّ بالأدب يَكْسِبون المال وبالجهل يُتْلفونه وقال الفُضَيل بن عِياضِ‏:‏ رأسُ الأدب مَعْرِفة الرجل قَدْره‏.‏
وقالوا‏:‏ حُسْن الخُلق خيْر قَرِين والأدب خير ميراث والتَوفيق خير قَائد‏.‏
وقال سُفيان الثَّوريّ‏:‏ مَن عَرَف نفسَه لم يَضِرْه ما قال الناس فيه‏.‏
وقال أنو شِرْوان للموبذ وهو العالم ‏"‏ بالفارسيّة ‏"‏‏:‏ ما كان أفضلُ الأشياء قال‏:‏ الطبيعة النقيّة تَكْتفي من الأدب بالرائحة ومن العِلْم بالإشارة وكلما يَموت البَذْر في السِّباخ كذلك تموت الحِكْمة بمَوْت الطبيعة قال له‏:‏ صدقت ونحن لهذا قَلّدناك ما قلّدناك‏.‏
وقيل لارْدَشِير‏:‏ الأدبُ أغلبُ أم الطَّبيعة فقال‏:‏ الأدب زِيادة في العَقل ومَنْبهة للرأيٍ ومِكْسبة للصواب والطَّبيعة أملك لأن بها الاعتقاد ونَماء الغِراسة وتَمام الغِذاء‏.‏
وقيل لبعض الحُكماء‏:‏ أي أعون للعقل بعد الطٌبيعة المَولودة قال‏:‏ أدب مُكْتسب‏.‏
وقالوا‏:‏ الأدب أدَبان‏:‏ أدبُ الغَريزة وهو الأصل وأدب الرِّواية وهو الفرع ولا يتفرَّع شيء إلا عن أصله ولا يَنْمى الأصل إلا باتصال المادة‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ ‏"‏ ولم أرَ فَرْعًا طال إلا بأصْله ولم أرَ بَدْء العِلْم إلا تعلُّما وقال حَبيب ‏"‏‏:‏ وما السيفُ إلا زُبْرَةٌ لو تركتَه على الحالة الأولى لما كان يَقْطعُ وقال آخر‏:‏ ما وَهب اللهّ لامرىء هِبةً أفضلَ من عَقْله ومن أَدبهْ هُما حياةُ الفَتى فإن فًقِدَا فإنّ فَقْد الحَياة أحسنُ به وقال ابن عبّاس‏:‏ كَفَاك من عِلْم الدِّين أن تَعْرف مالا يَسعك جهلُه وكفاكَ من عِلْم الأدب أن تَرْوي الشاهد والمثاللَ‏.‏
قال ابن قُتيبة‏:‏ إِذا أردتَ أن تكون ‏"‏ عالماً فاطلب فَنّا واحداً وإذ أردتَ أن ‏"‏ تكون أديباً فتفنَّن في العلوم‏.‏
وقالت الحُكماء‏:‏ إذا كان الرجل طاهرَ الأثواب كثيرَ الآداب حسنَ المذْهب تأدَّب بأدبه رأيتُ صلاحَ الَمرْء يِصلح أهلَه ويُفسدهم ربُّ الفَساد إذا فَسَدْ يُعظَّم في الدنيا لِفَضل صَلاحه وحْفَظ بعد الموت في الأهْل والوَلد وسُئل ديُوجانِس‏:‏ أي الخِصال أحمدُ عاقبة قال‏:‏ الإيمانُ بالله عزّ وجلّ وبرّ الوالدين ومحبّة العُلماء وقبولُ الأدب‏.‏
رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ مَن لا أدب له لا عقل له‏.‏
وقالوا‏:‏ الأدب يَزيدُ العاقلَ فضلاً ونَباهة ويُفيده رقّة وظَرفاً‏.‏
في رقة الأدب قال أبو بكر بن أبي شَيْبة‏:‏ قيل للعبّاس بن عبد المطّلب‏:‏ أنت أكبرُ أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ هو أكبر منّي وأنا أسنّ منه‏.‏
وقيل لأبي وائل‏:‏ أيكما أكبر أنتَ أم الرَّبيع بن خُثَيم قال‏:‏ أنا أكبر منه سنًا وهو أكبر منّي عقلاً‏.‏
وقال أبان بنُ عثمان لطُويس المغنّى‏:‏ أنا أكبر أم أنت قال‏:‏ جُعلتُ فداك لقد شَهِدْتُ زفاف أمك المُباركة ‏"‏ على أبيك الطيّب‏.‏
انظر إلى حِذْقه ورقّة أدبه كيف لم يَقُل أمك الطيبة إلى أبيك المبارك ‏"‏‏.‏
وقيل لعُمر بن ذَرّ‏:‏ كيف برّ ابنك بك قال‏:‏ ما مَشَيت نهاراً قطُّ إلا مشى خَلْفي ولا ليلاً إلا مَشى أمامي ولا رَقى عِلّية وأنا تحته‏.‏
ومن حديث عائشة قالت‏:‏ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبجل أحداً تبجيلَه لعمّه العباس‏.‏
وكان عمر وعثمان إذا لَقِيا العباس نَزلا إعظاماً له إذا كانا راكبَين‏.‏
الرياشيّ عن الأصمعيّ قال‏:‏ قال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح‏:‏ هذا منزلُك وقد تقدم هذا الخبر في الخبر الذي فيه مخاطبة الملوك وكذلك قول الحجَّاج للشعبيّ‏:‏ كم عَطاؤك ومن قولنا في رقة الأدب‏:‏ أَدبٌ كمثْل الماء لو أفرغتَه يوما لسال كما يَسيلُ الماءُ أحمد بن بّي طاهر قال‏:‏ قلتُ لعليّ بن يحيى ما رأيتُ أكملَ أدبا منك قال‏:‏ كيف لو رأيتَ إسحاق بن إبراهيم فقلتُ ذلك لإسحاق بن إبراهيم قال‏:‏ كيف لو رأيتَ إبراهيم بن المهديّ فقلتُ ذلك لإبراهيم فقال‏:‏ كيف لو رأيت جعفر بن يحيى وقال عبدُ العزيز بِن عُمر بن عبد العزيز‏:‏ قال لي رَجاءُ بن حَيْوة‏:‏ ما رأيتُ أكرمَ أدباً ولا أكرم عِشْرَةً من أبيك سَمَرتُ عنده ليلة فبينا نحن كذلك إذ عَشى المصباحُ ونام الغلام فقلتُ‏:‏ يا أمير المؤمنين قد عَشى المصباح ونام الغلام فلو أذنتَ لي أصلحتُه فقال‏:‏ إنه ليس من مروءة الرجل أن يَسْتخدم ضيفَه ثم حطّ رداءه عن مَنْكِبيه وقام إلى الدَبَّة فصبَّ من الزيت في المصباح وأشْخص الفَتيلة ثم رَجع ‏"‏ وأخذ رداءه وقال‏:‏ قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر‏.‏
العتبي عن أبيه قال‏:‏ صوَت رجل عند عمر بن الخطاب في المسجد فلما كانت الصلاة قال عمر‏:‏ عَزَمتُ على صاحب الصوت إلا قم فتوضّأ ‏"‏ فلم يَقُم أحدٌ‏.‏
فقال جريرُ بن عبد اللهّ‏:‏ يا أميرَ المؤمنين اعزم علينا كلِّنا أن نَقوم فنتوضأ قال‏:‏ صدقتَ ولا عَلِمتُك إلا سيّدا في الجاهليّة فقيها في الإسلام قُوموا فتوضئوا‏.‏
الرياشي عن الأصمعي قال‏:‏ حدَّثني عُثمان الشحَّام قال‏:‏ قلتُ للحسن‏:‏ يا أبا سعيد قال‏:‏ لَبَّيك قلت‏:‏ أتقول لي لَبّيك قال‏:‏ إني أقولها لخادمي‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ يا حبذا حين تُمسى الريحُ باردةً وادي أًشيٍَ وفِتْيانٌ به هُضمُ مُخدَمون كِرامٌ في مجالسهم وفي الرّحال إذا جَربتَهم خَدم وما أصاحب من قوم فأذْكُرهم إلا يَزيدُهم حُبّا إليَ هُم وقالت الحُكماء‏:‏ رأسُ الأدب كلِّه حُسنُ الفَهم والتفهّم والإِصغاء للمتكلّم‏.‏
وذكر الشّعبي قوماً فقال‏:‏ ما رأيتُ مثلَهم أسدَّ تَنَاوباَ في مَجلس ولا أحسن فهما من مُحدِّث‏.‏
وقال الشعبي فيما يَصِف به عبدَ الملك بن مروان‏:‏ والله ما علمتُه إلا آخذاً بثلاث تاركاً لثلاث آخذاً بحُسن الحدِيث إذا حدث وبُحسن الاستماع إذا حُدِّث وبأيسر المؤونة إذا خُولف تاركاً لمجاوبة اللئيم ومماراة السَّفيه ومُنازعة اللجُوج‏.‏
وقال بعض الحُكماء لابنه‏:‏ يا بُني تعلِّم حُسن الاستماع كما تتعلّم حُسن الحديث وليعلم الناسُ أنك أحرصُ على أن تَسمع منك على أن تقول فاحذرْ أن تُسرع في القَوْل فيما تُحِبّ عنه الرجوع بالفِعْل حتى يعلم الناسُ أنك على فِعْل ما لم تَقُل منك إلى قَوْل ما لم تَفْعل‏.‏
وقالوا‏:‏ من حُسن الأدب أن لا تُغالب أحداً على كلامه وإذا سُئِل غيرُك فلا تُجب عنه وإذا حَدًث بحديث فلا تُنازعه إياه ولا تَقْتحم عليه فيه ولا تُره أنك تعَلمه وإذا كلّمت صاحبك فأخذتْه حُجّتك فحسِّن مخرج ذلك عليه ولا تُظهر الظَّفر به وتَعلَم حُسنَ الاستماع كما تعلم حُسنَ الكلام‏.‏
وقال الحسنُ البَصريّ‏:‏ حَدِّثوا الناسَ ما أقبلوا عليكم بوجُوههم‏.‏
وقال أبو عبًاد ‏"‏ الكاتب ‏"‏‏:‏ إذا أنكر المُتكلِّم عين السامع فَلْيسأله عن مَقاطع حديثه والسبَب الذي أُجري ذلك له فإن وَجده يقف على الحقّ أتم له الحديث وإلاّ قطعه عنه وحَرمه مُؤانسته وعَرّفه ما في سُوء الاستماع من الفُسُولة والحِرْمان للفائدة‏.‏
الأدب في المجالسة ومن حديث أبي بكر بن أبي شَيبة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا يَقم الرجلُ ‏"‏ للرجل ‏"‏ عن مجلسه ولكن ليُوسع له‏.‏
وكان عبد الله بن عمر إِذا قام له الرجلُ عن مجلسه لم يجلس فيه وقال‏:‏ لا يقم أحد لأحد عن مجلسه ولكن افْسَحوا يَفسح الله لكم‏.‏
أبو أمامة قال‏:‏ خرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فقمنا إليه فقال‏:‏ لا تقوموا كما يقوم العجم لعُظمائها‏.‏
فما قام إليه أحد منّا بعد ذلك‏.‏
ومن حديث ابن عمر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن خرجتُ عليكم وأنتم جُلوس فلا يقومنَّ أحدٌ منكم في وجهي وإن قمت فكما أنتم وإن جلست فكما أنتم فإنّ ذلك خلق من أخلاق المشركين‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الرّجل أحقُّ بصَدْر دابتَّه وصدْر مجلسه وصَدْر فراشه ومن قام من مجلسه وَرَجع إليه فهو أحقّ به‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا جلس إليك أحدٌ فلا تَقم حتى تستأذنه وجَلس رجلٌ إلى الحسن بن عليّ عليهما الرِّضوانُ فقال له‏:‏ إنك جلستَ إلينا ونحن نريد القيام أفتأذَنُ وقال سعيدُ بنُ العاص‏:‏ ما مددتُ رجْلي قَطًّ بين يَدي جليسي ولا قمتُ ‏"‏ عن مجلسي ‏"‏ حتى يقوم‏.‏
وقال إبراهيمُ النِّخَعيّ‏:‏ إذا دخل أحدُكمِ بيتاً فَلْيَجْلس حيثُ أجلسه أهلُه‏.‏
وطَرح أبو قِلابة لِرَجُل جَلَس إليه وسادةً فرَدَّها فقال‏:‏ أَمَا سَمِعْتَ الحديثَ لا تَردَّ على أخيك كرامَته وقال عليّ بن أبي طالب رضوانُ الله عليه‏:‏ لا يأبى الكرامةَ إلا حِمار‏.‏
وقال سَعِيد بن العاص‏:‏ لجليسي عَلَيَّ ثلاثٌ‏:‏ إذا دنَا رَحَّبْتُ به وإذا جَلَس وَسَّعتُ له وإذا حَدًث أقبلْت عليه‏.‏
وقال‏:‏ إني لأكره أن يمرّ الذُّباب بجليسي مخافةَ أن يُؤذِيه‏.‏
الهيثم بن عديّ ‏"‏ عن عامر الشَّعبي ‏"‏ قال‏:‏ دَخل الأحنفُ بنُ قيس على مُعاوية فأشار إليه إلى وِسادةِ فلم يَجلس عليها فقال له‏:‏ ما مَنعك يا أَحْنف أن تَجلِس على الوسادة فقال‏:‏ يا أمير المُؤمنين إنَّ فيما أَوصى به قَيسُ بن عاصم ولدَه أن قال‏:‏ لا تَسْع للسُّلطان حتى يَمَلَّك ولا تَقْطعه حتى يَنْساك ولا تَجْلِس له على فراش ولا وِسادة واجعل‏!‏ بَينك وبينه مَجْلسَ رجل أو وقال الحسن‏:‏ ‏"‏ مُجالسةُ الرجل من غير أن يُسأل عن اسمه واسم أبيه مُجالسة النوكى‏.‏
ولذلك قال شَبيب بن شَيْبة لأبي جعفر ولَقِيه في الطّواف وهو لا يَعرفه فأَعجبه حسن هَيْئته وسَمته‏:‏ أصلحك الله إنِّي أحب المعرفةَ وأجلَّك عن المسألة فقال‏:‏ أنا فُلان بنُ فلان‏.‏
قال زياد‏:‏ ما أتيت مجلساً قطّ إلا تركتُ منه ما لو جلستُ فيه لكان لي وتَرْك ما لي أحبُ من أخذ ما ليس لي‏.‏
وقال‏:‏ إيّاكَ وصدور المجالس وإن صَدَّرك صاحبُها فإنها مجالس قُلَعة‏.‏
وقال ‏"‏ الشعبي ‏"‏‏:‏ لأن أدعي مِن بُعْد إلى قُرْب أحبُّ إليَّ من أقصى من قُرْب إلى بعد‏.‏
وذكروا أنه كان يوماً أبو السَّمراء عند عبد الله بن طاهر وعنده إسحاقُ ابن إبراهيم فاستدعى عبد الله إِسحاقَ فَناجاه بشيء وطالت النَجوى بينهما‏.‏
قال‏:‏ فاعترَتْني حَيْرَةٌ فيما بين القُعود على ما هما عليه والقيام حتى انقطع ما بينهما وتنَحّى إسحاق إلى مَوْقفه ونظر عبد الله إلي ‏"‏ يا أبا السمراء ‏"‏ إذا النَجيان سرًا عنك أمرهَما فانزحْ بِسَمْعك تَجْهلْ ما يَقُولانِ ولا تُحَملهما ثِقْلاً لخوفهما على تَناجِيهما بالمجلس الدَّاني فما رأيتُ أكرَم منه ولا أرفق أدباً ترك مُطالبتي في هَفْوتي بحق الأمراء وأدَبني أدبَ النُظراء‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما أحدُكم مرآة أخيه فإذا رأى عليه أَذىَ فليمطه عنه وإذا أخذ أحدُكم على أخيه شيئاً فليقل‏:‏ لا بك السُّوء وصَرَف اللهّ عنك السُّوء‏.‏
وقالوا‏:‏ إذا اجتمعت حُرْمتان أسقطت الكبرى الصُّغرى‏:‏ وقال المُهلَب بن أبي صفرة‏:‏ العيْش كلّه في الجَليس المُمْتع‏.‏



الأدب في المماشاة
وَجه هِشامُ بن عبد الملك ابنه على الصَّائفة ووجَّه معه ابن أخيه وأوصى كلَّ واحد منهما بصاحبه فلما قَدِما عليه قال لابن أخيه‏:‏ كيف رأيتَ ابن عمّك فقال‏:‏ إن شئت أجملت وإن شئت فسّرْتُ قال‏:‏ بل أجمل قال‏:‏ عرضتْ بيننا جادة فتركها كلُّ واحد منَّا لصاحبه فما رَكِبناها حتى رَجعنا إليك‏.‏
وقال يحيى بن أكثم‏:‏ ما شيتُ المأمون يوماً من الأيام في بُستان مُؤْنسة بنت المَهديّ فكنت من الجانب الذي يَسترٌه من الشَمس فلما انتهى إلى آخره وأراد الرجوع وأردتُ أن أدور إلى الجانب الذي يَسْترٌه من الشمس فقال‏:‏ لا تفعل ولكن كُن بحالك حتى أسترك كما سَتَرْتني فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين لو قدرتُ أن أقيك حَرَّ النار لفعلتُ فكيف الشمسُ فقال‏:‏ ليس هذا من كرم الصُحبة ومَشى ساتراً لي من الشّمس كما سترته‏.‏
وقيل لعُمَر بن ذرّ‏:‏ كيف برُ ابنك بك قال‏:‏ ما مشيتُ نهاراً قط إلا مَشى خَلفي ولا ليلاً إلا مشى أمامي ولا رَقِي سَطحاً وأنا تحته‏.‏
وقيل لزياد‏:‏ إنك تَستخلص حارثة بن بَدْر وهو يُواقع الشراب فقال‏:‏ وكيف لا أَسْتَخْلصه وما سألته عن شيء قط إلا وجدتُ عنده منه عِلْماً ولا استودعتُه سِرّاً قطْ فضيّعته ولا راكبني قطّ فمست رُكْبتي رُكْبته‏.‏
محمد بن يزيد بن عُمر بن عبد العزيز قال‏:‏ خرجتُ مع موسى الهادي أمير المُؤمنين من جُرْجان فقال لي‏:‏ إمّا أن تَحملين وإمّا أن أحْملك فعلمتُ ما أراد فأنْشدتُه أبياتَ ابن صِرْمة‏:‏ أوصيكم بالله أولَ وَهْلةٍ وأَحْسابِكِم والبرُّ باللّه أَوَّلُ وإنْ قومُكم سادوا فلا تَحْسُدوهم وإن كُنتم أهلَ السِّيادة فاعْدِلوا وإن أنتمُ أعْوَزْتُمُ فتَعفَفَّوا وإن كان فَضْلُ المال فيكم فأَفْضِلوا وإنْ نزلتْ إحدى الدَواهي بقَوْمكم فأنْفُسَكم دون العَشيرة فاجعلوا وإنّ طَلبوا عُرْفاً فلا تَحْرموهمُ وما حَمَّلوكم في المُلمّات فاحملوا قال‏:‏ فأمر لي بعشرين ألف دِرْهم‏.‏
وقيل‏:‏ إن سعيد بن سَلْم راكب موسى الهادي والحَربةُ بيد عبد الله بن مالك وكانت الريح تَسْفي التراب وعبد الله يَلْحظ موضع مَسير موسى فيتكلَّف أن يسير على مُحاذاته وإذا حاذاه ناله ذلك التراب فلما طال ذلك عليه أقبلَ على سَعيد بن سَلْم فقال‏:‏ أما ترى ما نَلقى من هذا الخائن قال‏:‏ واللّه يا أميرَ المؤمنين ما قَصَّر في الاجتهاد ولكن حُرِم التوفيق‏.‏



باب السلام والإذن
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَطِيبوا الكلام وأفشوا السلام وأطعِموا الأيتام وَصَلُّوا بالليل والناسُ نِيام‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أبخل الناس الذي يَبخل بالسلام‏.‏
وأتى رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ عليك السلامُ يا رسول الله فقال‏:‏ لا تقُل‏:‏ عليك السلام فإِنها تحيِّة الموتى وقل‏:‏ السلام عليك‏.‏
وقال صاحبُ حَرس عمر بن عبد العزيز‏:‏ خرج علينا عمرُ في يوم عِيد وعليه قميصُ كَتَّان وعِمامة على قلنسوة لاطئة فقُمْنا إليه وسَلّمنا عليه فقال‏:‏ مَه أنا واحدٌ وأنتم جماعة السلامُ عليّ والردُّ عليكم‏.‏
ثم سلّم ورَددنا عليه ومشى فمشينا معه إلى المسجد‏.‏
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يُسَلِّم الماشي على القاعد والرَّاكب على الراجل والصًغير على الكبير‏.‏
ودخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ أبي يُقْرِئك السلام فقال‏:‏ عليك وعلى أبيك السلام‏.‏
إبراهيم عن الأسود قال قال ‏"‏ لي ‏"‏ عبد الله بن مسعود‏:‏ إذا لقيتَ عُمرَ فاقرأ علية السلام قال‏:‏ فلقيتُه فأَقْرأْته السلام فقال‏:‏ عليك وعليه السلام‏.‏
دخل مَيْمون بن مِهْران على سُليمان بن هِشام وهو والي الجزيرة فقال‏:‏ السلام عليكم فقال له سُليمان‏:‏ ما مَنعك أن تُسَّلِّم بالأمرة فقال‏:‏ إنما يُسلَّم على الوالي بالإمرة إذا كان عنده الناس‏.‏
أبو بكر بن أبي شَيْبة قال‏:‏ كان الحَسن وإبراهيم ومَيمون بن مِهران يَكْرهون أن يقول الرجلُ‏:‏ حيَّاك الله حتى يقول السَّلام‏.‏
وسُئل عبد الله بن عُمر عن الرجل يَدْخل المَسجدَ أو البيتَ ليس فيه أحد قال يقول‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏
ومر رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبَول فسلّم عليه فلم يرد عليه السلام‏.‏
وقال رجلٌ لعائشة ‏"‏ رضي الله عنها ‏"‏‏:‏ كيف أصبحت ‏"‏ يا أم المؤمنين ‏"‏ قالت‏:‏ بنِعْمة من اللّه‏.‏
وقال رجل لشُرَيح‏:‏ كيف أصبحتَ ‏"‏ قال‏:‏ بنعمة ‏"‏ ومدَ إصبعه السَّبابة إلى السماء‏.‏
وقيلِ لمحمد بن وكيع‏:‏ كيف أصبحت ‏"‏ قال‏:‏ أصبحتُ طويلاً أملى قصيراً أجلى سيئاً وقيل لسًفْيان الثَّوْري‏:‏ كيف أصبحتَ قال‏:‏ أصبحتُ في دار حارتْ فيها الأدِلاء‏.‏
واستأذن رجلٌ من بني عامر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال‏:‏ أَلِجُ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه‏:‏ اخرُج إلى هذا فعَلِّمه الاستئذان وقُل له يقول‏:‏ السَّلام عليكم أدْخُل جابر بن عبد الله قال‏:‏ استأذنتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ مَن أنت فقلت‏:‏ أنا قال‏:‏ أنا أنا‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الاستئذان ثلاثة فإن أُذن لك وإلاّ فارجع‏.‏
وقال عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه‏:‏ الأولى إذْن والثانية مؤامرة والثالثة عزيمة إمّا أن يأذنوا وإمّا أن يردّوا‏.‏



باب في تأديب الصغير
قالت الحُكماء‏:‏ مَن أَدَّب ولدَه صغيراً سُرّ به كبيراً‏.‏
وقالوا‏:‏ اطْبَعِ الطِّن ما كان رَطْباً واغْمِز العُود ما كان لَدْناً‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن أدَّب ولدَه غَمّ حاسدَه‏.‏
وقال ابن عبّاس‏:‏ مَن لم يَجْلِس في الصِّغر حيثُ يَكْره لم يَجْلِس في الكبر حيث يحب قال الشاعر‏:‏ إذا المَرءُ أَعْيَتْه المُروءةُ ناشِئاً فَمَطْلَبها كَهْلاً عليه شديدُ وقالوا‏:‏ ما أشدَّ فِطامَ الكبير وأعسرَ رياضةَ الهَرم‏.‏
قال الشاعر‏:‏ وتَرُوض عِرْسَك بعد ما هَرمت ومِن العَناء رياضةُ الهَرِم وكتب شُرَيح إلى معلِّم ولده‏:‏ تَركَ الصلاةَ لأكْلُبٍ يَسعى بها يَبْغِي الهِرَاشَ مع الغُواة الرُّجَّس ‏"‏ فَليَأتيِنَّك غُدوًة بصحيفة كُتِبت له كصحيفة المُتَلمِّس ‏"‏ فإذا هَمَمْتَ بضربه فبدِرَّةٍ وإذا بلغتَ بها ثلاثاً فاحْبِس واعْلم بأنّك ما أتيتَ فنفْسُه مع ما تُجَرِّعني اعزُّ الأنْفس وقال صالح بن عبد القدّوس‏:‏ وإنَّ مَن أدَّبته في الصبا كالعُود يُسقَى الماءَ في غَرْسِه حتى تَراه مُورِقاً ناضِراً بَعد الذي أبصرتَ من يُبْسِه والشيخُ لا يَتْرك أخلاقَه حتى يُوارَى في ثَرى رَمْسه إذا ارْعوى عادَ له جَهْلهُ كذي الضَّنَى عاد إلى نُكْسِه ما يَبْلغ الأعداءُ من جاهل ما يَبْلغ الجاهلُ من نَفْسهِ وقال عمرو بن عُتبة لمعلِّم ولده‏:‏ ليكُن أوّلَ إصلاحك لولدي إصلاحُك لنفسك فإنّ عُيونهم مَعْقودة بعَيْنك فالحَسن عندهم ما صَنعتَ والقبيح عندهم ما تَركت‏.‏
علمَهم كتابَ اللهّ ولا تُكْرههم عليه فيَملّوه ولا تَتركهم منه فيهجروه رَوِّهم من الحديث أشرفَه ومن الشعر أعفّه ولا تَنْقُلهم من عِلم إلى علم حتى يُحْكِموه فإنّ ازدحام الكلام في القَلْب مَشغلة للفهم وعَلِّمهم سُنَن الحكماء وجَنِّبهم محادثة النِّساء ولا تَتّكَل على عُذْر منّي لك فقد اتكلتُ على كِفاية منك‏.‏
أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس فقال‏:‏ يا أبا بحر ما تقول في الولد قال‏:‏ ‏"‏ يا أمير المؤمنين ‏"‏ ثمار قُلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم أرضٌ ذَليلة وسماء ظَلِيلة فإن طلبوا فأعْطِهم وإن غَضبوا فأَرْضهم يمنحوك ودهم ويُحبوك جَهْدهم ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملّوا حياتك ويُحبُّوا وفاتك‏.‏
فقال‏:‏ للّه أنت يا أحنف لقد دخلتَ عليّ وإني لمملوء غضباً على يزيدَ فسَلَلَته من قلبي‏.‏
فلمّا خرج الأحنفُ من عنده بعث مُعاوية إلى يزيد بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب فبعث يزيدُ إلى الأحنف بمائة ألف دِرْهم ومائة ثوب شاطره إياها‏.‏
وكان عبد الله بن عُمر يذهب بولده سالم كلَّ مَذْهب حتى لامه الناسُ فيه فقال‏:‏ يَلُومونني في سالمِ وأَلُومهم وجِلْدةُ بين العَينْ والأنف سالمً وقال‏:‏ إن ابني سالماَ ليُحِبّ حُبَّاً لو لم يَخَفْه لم يَعْصه‏.‏
وكان يحيى بن اليمان يَذْهب بولده داود كل مَذْهب حتى قال يوماً‏:‏ أئمة الحَدِيث أربعة كان عبد الله ثم كان عَلْقمة ثم كان إبراهيم ثم أنت يا داود‏.‏
وقال تزوّجْتُ أمَ داود فما كان عندنا شيءٌ أُلّفه فيه حتى اشتريتُ له كُسوة بدانِق‏.‏
وقال زيدُ بن علي لْابنه‏:‏ يا بُنيَّ إن الله لم يَرْضك لي فأوصاك بي ورَضيني لك فحذَرنيك واعلم أنَ الآباء للأبناء مَن لم تَدْعه المَودَّةُ إلى التَفريط وخَيْرَ الأبناء للآباء مَن لم يَدْعه التقصير إلى وفي الحديث المَرْفوع‏:‏ ريح الوَلد من ريح الجنَّة‏.‏
وفيه أيضاً‏:‏ الأولاد منِ رَيحان اللّه‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بُشر بفاطمة‏:‏ رَيحانة أَشَمّها ورِزْقها على اللهّ‏.‏
ودخل عمرو بن العاص على مُعاوية وبين يديه بنته عائشة فقال‏:‏ مَن هذه يا ‏"‏ أمير المؤمنين ‏"‏ فقال‏:‏ هذه تًفَّاحة القَلْب فقال له‏:‏ انبذُوها عنك ‏"‏ يا أمير المؤمنين ‏"‏ فواللّه إنَهن لَيَلدْنَ الأعداء ويُقرِّبن البُعداء ويُورِّثن الضّغائن‏.‏
قال‏:‏ لا تَقُل ذاك يا عمرو فواللهّ ما مَرّضِ المَرْضى ولا نَدَب الموْتى ولا أعان على الأحزان مِثْلهن ورُبَّ ابن أُخت قد نَفعَ خاله‏.‏
وقال المُعلّي الطائي‏:‏ لولا بُنيّات كزغْب القطَا حُطِطْن من بعْض إلى بَعْض لكان لي مُضطَرَب واسعٌ في الأرض ذاتِ الطّول والعَرْض وإنما أولادُنا بيننا أكبادُنا تمشي على الأرض إن هَبَّت الريحُ على بَعْضهم لم تَشْبع العينُ من الغَمْض وقال عبد الله بن أبي بَكْرة‏:‏ مَوْت الوَلد صَدْع في الكَبِد‏:‏ لا يَنجبر آخرَ الأبد‏.‏
ونظر عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى رجل يحمل طِفْلاً على عُنقه فقال‏:‏ ما هذا منك وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تُرَقص الحسين بن علي رضي اللهّ عنهما وتقول‏:‏ إنّ بُني شِبْه النبي ليس شَبيهاً بعَلي وكان الزُّبير يُرَقص ‏"‏ ولده ‏"‏ عُرْوَة ويقول‏:‏ أَبْيَضُ من آل أبي عَتِيق مُبارَك مِن وَلد الصِّدِّيقِ ألذَّه كما أَلذّ رِيقي وقال أعرابي وهو يُرَقّص ولده‏:‏ أُحبُّه حُبَّ الشحيح مالَهْ قد كان ذاقَ الفقر تمَ نالَهْ إذا يُريد بذلَه بدالة وقال آخر وهو يُرْقص ولده‏:‏ أعرِف منه قلَّة النُّعاس وخِفّةً في رَأسة من راسي وكان رجلٌ من طيء يَقطع الطّريق فمات وتَرك بُنياً رضيعاً فجعلت أُمه تُرقصه وتْقول‏:‏ ياليتَه قد قطع الطّريقا ولم يًرِد في أمره رَفيقاً وقد أخاف الفَجّ والمضيقا فقَلّ أن كان به شفيقاً وقال هارون الرشيد لابنه المعتصم‏:‏ ما فعل وصيفك ‏"‏ فلان ‏"‏ قال‏:‏ مات فاستراح من الكُتَّاب قال أو بلغ منك الكتّاب هذا المبلغ‏!‏ واللهّ لا حضرته أبداً ووجّهه إلى البادية فتعلّم الفصاحة وكان أُمِّيّاً وهو المعروف بابن مارِدة‏.‏
وفي بعضِ الحديث أنّ إبراهيم خليل الرَّحمن صلوات الله عليه كان من أغير النَّاس فلمّا حضرَتْه الوفاة دخل عليه ملك الموت في صُورة رجل أنكره فقال له مَن أدخلك داري قال الذي أسكنك فيها منذُ كذا وكذا سنة قال‏:‏ ومَن أنت قال‏:‏ أنا ملك الموت جئت لقَبض رُوحك قال‏:‏ أتاركي أنت حتى أودِّع ابني إسحاق قال‏:‏ نعم فأرسل إلى إسحاق فلمّا أتاه أخبره فتعلّق إسحاق بأبيه إبراهيم وجعل يتقطّع عليه بُكاءً فخرج عنهما ملك الموت وقال‏:‏ يا ربَّ ذبيحُك إسحاق متعلِّق بخليلك فقال له اللّه‏:‏ قل له إني قد أمهلتك ففعل‏.‏
وانحلّ إسحاق عن أبيه ودخل إبراهيم بيتاً ينام فيه فقبض ملك الموت روحَه وهو نائم‏.‏



باب الاعتضاد بالولد
قال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن عَبْدِه زكريَّا ودُعائه إليه في الولد‏:‏ ‏"‏ وَزَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْني فَرداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثين ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ وَإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانت امرأتي عاقراَ فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَليَّاَ‏.‏
يَرِثُني وَيَرِثُ مِن آل يعقُوبَ واجعلهُ رَبِّ رَضِيَّاً ‏"‏‏.‏
والمَوَالِي ها هنا بنو العم‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ مَن كان ذا عَضُد يُدْرِكْ ظُلامته إنِّ الذّليل الذي لَيْستْ له عَضدُ تَنْبو يَدَاه إذا ما قَلَّ ناضرُه وَيَأنَفُ الضّيْم إنْ أثْرَى له عدد العُتبى قال‏:‏ لمّا أسنَّ أبو بَراء عامرُ بن مالك وضَعَّفه بنو أخيه وخَرَّفوه ولم يكن له ولد يَحْميه أنشأ يقول‏:‏ دَفعتُكم عنَي وما دَفْع راحةٍ بشيء إذا لم تَسْتَعِن بالأنامل يُضَعّفني حِلْمي وكثرةُ جَهلكم عليّ وأني لا أصُول بجاهل وقال آخر‏:‏ تَعْدُو الذِّنائب عَلَى من لا كلابَ له وتَتَّقي سَوْرةَ المُستنفِر الحامِي



باب في التجارب والتأدّب بالزمان
قالت الحُكماء‏:‏ كَفي بالتّجارب تأديباً وبتقلّب الأيام عِظَة‏.‏
وقال حبيب‏:‏ أحاولتَ إرشادي فعَقْليَ مُرْشِدي أم استَمْت تَأديبي فدَهري مُؤدبي وقال إبراهيم بن شَكلة‏:‏ من لم يؤدَبه والده أدَّبه الليلُ والنَّهارُ كم قد أذلأَ كَريمَ قَوْم ليس له منهما انتصار مَن ذا يَدُ الدهرِ لم تَنَله أو اطمأَنّت به الدَيار كُلّ عن الحادِثات مُغْضٍ وعِنده للزّمان ثار وقال آخر‏:‏ وما أبقت لك الأيامُ عُذْراً وبالأيَّام يَتَّعظ‏!‏ اللًبِيب وقالوا‏:‏ كفي بالدهر مُخبرا بما مَضى عمّا بَقيِ‏.‏
وقالوا‏:‏ كَفي مخبراً لذَوي الألباب ما جَرَبوا‏.‏
وقالوا لعيسى بن مَرْيم عليهما السلام‏:‏ مَن أدَّبك قال‏:‏ ما أدَّبني أحد رأيتُ الجَهل قبيحاً فاجتنبتُه‏.‏
قالت الحُكَمَاء‏:‏ اصحب الأيام بالمُوادعة ولا تُسابق الدهرَ فتَكْبُو‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ مَن سابَق الدهر كبا كَبْوةً لم يَسْتَقِلها من خطُا الدَّهرِ فاخطُ مع الدَّهر إذ ما خَطا واجرِ مع الدهر كما يَجْرِي وقال بشّار العُقَيلي‏:‏ أعاذِل إنّ العُسْر سَوف يُفيق وإنّ يَساراً من غدٍ لخلِيقُ وما كنْتُ إلا كالزَّمان إذا صحا صحوتُ وإنْ ماقَ الزَّمان أَموق وقال آخر‏:‏ تحامِق مَع الحَمْقىِ إذا ما لَقيتَهمِ ولاقِهمُ بالجهل فِعل ذوي الجَهْل وَخَلِّط إذا لاقيْت يوماً مخَلَطاَ يُخَلِّط في قول صحيح وفي هَزْل فإنّي رأيتُ المَرْءَ يَشْفي بعَقله كما كان قبلَ اليوم يَسْعد بالعقل وقال آخر‏:‏ إن المَقَادِيرَ إذا ساعَدَتْ ألحقت العاجِزَ بالحازِم وقال الآخر‏:‏ ومن أمثالهم في ذلك ‏"‏ قولُهم ‏"‏‏:‏ تطامن لها تَخْطُك‏.‏
ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ وتطَامنْ للزَّمان يَجْزُكَ عَفْواً وإن قالوا ذَليلٌ قُلْ ذليلُ وقال حَبيب‏:‏ وكانت لَوْعَةً ثم اطمأنتْ كذاك لكلِّ سائلة قَرَارُ وقال آخر‏:‏ ماذا يُريك الدَهْرُ من هَوانِهِ ازْفِن لِقرْد السَّوْء في زَمانِهِ ولآخر‏:‏ الدهر لا يبقى على حالةٍ لا بُدَّ أن يُقبِلَ أو يدبرْ فإنْ تَلقاك بِمْرُوهه فاصبِر فإنَّ الدَّهرَ لا يَصْبر ولآخر‏:‏ اصبرْ لِدَهْرٍ نال من ك فهكذا مضتْ الدُّهورُ فَرَحاً وحُزْناً مرّةً لا الحُزن دام ولا السُّرورُ ولآخر‏:‏ تَرُوح لنا الدُّنيا بغير الذي غَدَت وتَحْدُث مِن بعد الأمور أمورُ وتجْرِي الليالي باجتماع وفُرْقة وتَطْلُع فيها أنجمٌ وتَغور وتَطْمع أن يَبقى السّرُور لأهله وهذا مُحال أن يَدُوم سُرُور ولآخر‏:‏ سأنتظرُ الأيّامَ فيك لعلّها تَعود إلى الوَصل الذي هو أَجْمَلً باب التحفظ من المقالة القبيحة وإن كانت باطلاً قالت الحكماء‏:‏ إياك وما يُعتذر منه‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن عَّرَض نَفْسه للتُّهم فلا يأمَن مِن إساءة الظنّ‏.‏
وقالوا‏:‏ حَسْبك من شرِّ سماعه‏.‏
وقالوا‏:‏ كفي بالقَوْل عاراً وإن كان باطلاَ‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ ومَن دعا الناسَ إلى ذَمِّه ذمُوه بالحقّ وبالباطل وقال آخر‏:‏ قد قِيل ذلك إن حقَّاً وإن كَذِباً فما اعتذارُك من قَوْلٍ إذا قِيلاَ وقال أَرِسْططاليس للإسكندر‏:‏ إنّ الناس إذا قَدروا أن يقولُوا قدروا أن يفعلوا فاحترس من أن يقولوا تَسْلم من أن يفعلوا‏.‏
وقال آمرؤُ القيس‏:‏ وجُرْع اللّسان كجُرح اْلْيَد وقال الأخطل‏:‏ والقول يَنْفذ ما لا تَنفذ الإبرُ وقال يَعقوب الحَمْدونيّ‏:‏ وقد يُرْجَى لجُرح السًيف بُرءٌ ولا بُرْءٌ لما جرح اللّسانُ ولآخر‏:‏ قالوا ولَوْ صحَّ ما قالُوا لفُزْت به مَن لي بتَصْدِيق ما قالوا وتَكْذِيبي



باب الأدب في تشميت العاطس
ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تًشَمِّت العاطس حتى يَحمد الله فإن لم يَحمده فلا تُشَمَتوه‏.‏
وقال عليٌّ رضي اللهّ عنه‏:‏ يُشَمَّت العاطس إلى ثلاث فإن زاد فهو داء يَخْرج من رأسه‏.‏
عَطَس ابن عمر فقالوا له‏:‏ يرْحمك اللهّ فقال‏:‏ يَهديكم الله ويُصلح بالكم‏.‏
وعَطَس عليُّ بن أبي طالب فحمِد اللّه فقيل له‏:‏ يَرْحمك اللّه فقال‏:‏ يَغفر الله لنا و لكم‏.‏
وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ إذا عَطَس أحدُكم فشَمِّتوه ثلاثاً فإن زاد فقولوا‏:‏ إنك مَضنوك‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ التَّشْميت مرة واحدة‏.‏



باب الإذن في القبلة
عبدُ الرحمن بن أبي لَيلى عن عبد الله بن عُمر قال‏:‏ كنَّا نُقَبِّل يدَ النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
وكيع عن سُفيان قال‏:‏ قَبَّل أبو عُبيدة يدَ عمر بن الخطّاب‏.‏
ومن حديث الشعبيّ قال‏:‏ لَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم جعفرَ بن أبي طالب فالتزمه وقبل بين عينيه‏.‏
وقال إياسُ بن دَغْفل‏:‏ رأيتُ أبا نَضْرة يُقَبِّل خدَّ الحسن‏.‏
الشَّيباني عن أبي الحسن عن مُصعب قال‏:‏ رأيتُ رجلاً دخل عَلَى عليّ بن الحسين رضي الله العُتبي قال‏:‏ دخل رجلٌ على هِشام بن عبد الملك فقبّل يدَه فقال‏:‏ أُفٍّ‏!‏ إنّ العرَب ما قبّلت الأيدي إلا هُلوعاً ولا قبّلتها العجم إلاّ خُضوعاً‏.‏
واستأذن رجلٌ المأمون في تَقْبيل يده فقال‏:‏ إنّ القُبلة من المؤمن ذِلّة ومن الذِّمي خديعة ولا حاجةَ بك أن تَذِلّ ولا حاجةَ بنا أن نُخْدَع‏.‏
واستأذن أبو دُلامة المهديَّ في تَقْبيل يده فمنَعَه فقال‏:‏ ما مَنَعْتَني شيئاً أيسر على عِيالي فَقْداً مِنْهُ‏.‏
الأصمعيُّ قال‏:‏ دخل أبو بكر الهَجريّ على المنصور فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين نَغَض فمي وأنتم أهل بيت بركة فلو أَذِنت لي فقبلت رأْسَك لعلَّ اللهّ كان يُمسك عليَّ ما بقي من أسناني قال‏:‏ اختَر بينها وبين الجائزة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّ أهوَن من ذهاب درهم من الجائزة أن لا يبقى في فمي حاكَّة‏.‏
فضحك المنصور وأمر له بجائزة‏.‏
وقالوا‏:‏ قُبلة الإمام في اليَد وقُبلة الأب في الرأس وقُبلة الأخ في الخدِّ وقبلة الأخت في الصدر وقبلة الزَّوجة في الفَم‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:40 AM

باب الأدب في العيادة مَرِض
أبو عمرو بن العَلاء فدَخَل عليه رجلٌ من أصحابه فقال له‏:‏ أَريد أن أُساهرَك الليلةَ قال له‏:‏ أنت مُعافي وأنا مًبْتَلي فالعافية لا تَدَعك أن تَسهر والبلاءُ لا يَدَعني أن أنامِ وأسأل الله أن يَهب لأهل العافية الشُّكر ولأهل البلاء الصَّبر‏.‏
ودَخل كُثير عَزَّة على عبد العزيز بن مَرْوان وهو مريض فقال‏:‏ لو أنّ سُرورك لا يتمّ إلا بأن تَسْلم وأَسْقَم لدعوتُ ربَي أن يَصرف ما بك إليّ ولكن أسأل الله لك أيها الأمير العافية ولي في كَنفك النِّعمة‏.‏
فضحِك وأَمر له بجائزة فخرج وهو يقول‏:‏ ونعودُ سيِّدَنا وسيِّد َغَيْرنا ليتَ التشكِّي كان بالعوادِ لو كان يُقْبَل فِدْيةٌ لفَدَيْتُه بالمُصْطفي مِن طارِفي وتلاَدِي وكتب رجلٌ من أهل الأدب إلى عَليل‏:‏ نُبِّئت أنّكَ مُعْتَلّ فقلتُ لهم نَفسي الفِداء لهُ من كلّ مَحْذورِ يا ليتَ عِلّته بي ثَمَّ كان له أجرُ العَليل وأنِّي غيرُ مأجورِ وكتب آخر إلى عليل‏:‏ وَقَيْنَاك لو نُعْطَى الهوى فيك والمُنَى لكان بنا الشَّكْوى وكان لك الأجْرُ وكان شاعرٌ يختلف إلى يَحيى بن خالد بن بَرمك ويمتدحه فغاب عنه أيّاماً لعلّة عرضت له أيهذا الأمير أكرمك الل ه وأبقاك لي بَقاءً طَوِيلاَ أَجَميلاً تراه أصلحك الله لكَيما أراه أيضاً جَميلاً أنَّنَي قد أقمتُ عَنْك قَلِيلاً لا تُرَى مُنْفذاً إليَّ رَسُولا ألذنب فما عَلِمْتُ سوى الشّك ر لما قد أَوْليتنيه جَزِيلا أم مَلالاً فما عَلِمْتًك للحا فظ مِثْلي على الزَمان مَلولا قد أَتى الله بالصَّلاح فما أَن كرت مما عَهِدْتُ إلاّ قَليلا وأَكلتُ الدًّرَّاج وهو غِذاء أفَلت عِلّتي عليه أُفولا وكَأَنِّي قَدِمْتُ قُبْلك آتي ك غداً إن أَجِدْ إليك سَبيلا فكتب إليه الوزير يعتذر‏:‏ دَفَعَ الله عنكَ نائبةَ الده رِ وحاشاك أن تكون عَلِيلاَ أُشْهِدُ الله ما علمتُ وما ذَا كَ من العذر جائزاً مَقْبولا ولَعَلِّي لو قد عَلِمْتُ لعاوَدْ تُكَ شَهراً وكان ذاك قَلِيلا أَعْزِرْ على بأن أراك عَليلا أو أن يكون بك السَّقامُ نزيلاَ فَوَددْتُ أنَي مالكٌ لسَلامَتِي فأُعيرَها لك بُكرةً وأَصيلا فتكونَ تَبقى سالماً بسلامتي وأكونَ مما قد عَرَاكَ بَدِيلا هذا أخٌ لك يَشْتكي ما تشتكي وكذا الخليل إذا أَحَبَّ خَليلا ومَرِض يحيى بن خالد فكان إسماعيل بن صُبيح الكاتب إذا دَخَل عليه يَعوده وقف عند رأسه ودَعا له ثم يَخْرُج فيسأل الحاجبَ عن مَنامه وشرابه وطعامه فلمّا أفاق قال يحيى بنُ خالد‏:‏ ما عادني في مرضي هذا إلا إسماعيلُ ابن صُبيح‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ عِيادة المَرْء يومٌ بين يَوْمين وجَلسةٌ لك مِثْل اللَّحظ بالعين لا تُبْرِمَنَّ مَريضاً في مُساءلة يكفيك من ذاكَ تَسْآل بحرفين وقال بكر بنُ عبد الله لقوم عادوه في مرضه فأطالوا الجلوسَ عنده‏:‏ المريض يُعاد والصحيح يُزار‏.‏
وقال سفُيان الثّوْريّ‏:‏ حُمْق العُوّاد أشدُّ على المَرضى من أمراضهم يجيئون في غير وقت ويطيلون الجلوس‏.‏
ودخل رجلٌ على عمر بن عبد العزيز يَعوده في مرضه فسأله عن علّته فلمّا أخبره قال‏:‏ من هذه العلة مات فلان ومات فلان‏.‏
فقال له عمر‏:‏ إذا عُدت المَرْضى فلا تَنْعَ إليهم الموْتى وإذا خرجتَ عَنَّا فلا تَعُد إلينا‏.‏
وقال ابن عبّاس‏:‏ إذا دخلتم على الرَّجل وهو في الموت فبشرُوه ليلقى ربَّه وهو حَسن الظن ولقّنُوه الشهادة ولا تُضْجروه‏.‏
ومَرِض الأعمش فأبرمه الناس بالسُّؤال عن حاله فكَتب قصَّته في كِتاب وجعله عند رأسه فإذا سأله أحدٌ قال‏:‏ عندك القِصَّة في الكتاب فاقرأها‏.‏
ولبعضهم‏:‏ مَرِض الحبيبُ فعُدْتُه فمَرِضتُ من حَذَري عليه وأَتىَ إليَّ يَعُودني فبرِئْتُ من نظري إليه ومَرِض محمدُ بن عبد الله بن طاهر فكتبَ إلى أخيه عبيد اللهّ بن عبد الله‏:‏ إنِّي وجدتُ عَلَى جَفَا ئك من فِعالكَ شاهِدَا إني اعتللت في فَقَدْ تُ سِوى رَسولك عائدا ولو اعتللتَ فلم أَجِدْ سبباً إليك مُساعداً فأجابه‏:‏ كُحِلت مُقْلتي بشَوك القَتاد لم أذق مُذْ حُمِمْتَ طَعْم الرُّقادِ يا أخي الباذل المودّة والنا زلَ من مقلتي مكانَ السواد منَعَتْني عليك رِقَّةُ قلبي من دُخولي إليك في العُوّاد لوْ بِأُذْني سمعتُ منك أنيناً لتَفَرَّى مع الأنين فؤادي ولمحمد بن يزيد‏:‏ يا عَلِيلاً أفْدِيك من ألم العِل ة هل لي إلى اللقاء سبيلُ إن يَحُل‏!‏ دونك الحجابُ فما يح جَب عني بك الضَّنَى والعَويل وأنشد محمدُ بنُ يزيد قال أنشدني أبو دُهْمان لنفسه وقد دَخل على بعض الأمراء يعوده‏:‏ بأَنْفُسنا لا بالطَوارِف والتُلْدِ نَقِيك الذي تُخْفِي من السُّقم أو تُبدِي بنا مَعْشرَ العُوّاد ما بك من أذى فإن أَشفقوا مما أقول فَبِي وَحْدِي وكتب أبو تمام الطائي إلى مالك بن طَوْق في شَكاة له‏:‏ كم لَوْعةٍ للنِّدَى وكم قَلق للمجد والمَكْرمات في قَلَقِكْ ودخل محمد بن عبد الله على المتوكل في شَكاة له يعوده فقال‏:‏ اللهّ يَدفعْ عن نَفْس الإمام لنا وكلّنا للمنايا دُونه غَرَض فليتَ أَنّ الذي يَعروه من مرض العائدين جميعاً لا به المَرَض فبالإمام لنا من غيرنا عِوَض وليس في غيره منه لنا عِوَض فما أُبالي إذا ما نَفْسه سَلِمَتْ لو باد كلُّ عباد الله وانقرضوا وقال آخر في بعض الأمراء‏:‏ واعتلّ فاعتلت الدنيا لعِلّته واعتلّ فاعتلَّ فيه البأسُ والكرمُ لما استقَلَّ أنار المَجد وانقشعت عنه الضَّبابة والأحْزان والسَّقم وبلغ قيساً مجنونَ بني عامر أن ليلى بالعراق مريضة فقال‏:‏ يقولون ليلى بالعِراق مريضةٌ فما لك تَجْفوها وأنت صديقُ شَفي الله مرْضى بالعِراق فإنني على كلِّ شاكٍ بالعِراق شفِيق ولمحمد بن عبد الله بن طاهر‏:‏ أَلْبسك اللَهُ منه عافيةً تُغْنيك عن دَعْوتي وعن جَلَدكْ وقال غيره‏:‏ يا أملي كيف أنتَ من ألمِكْ وكيف ما تَشْتكيه من سَقَمكْ هذان يومان لي أعدُّهما مُذ لم تَلًح لي بُرُوق مُبْتسمك حسدتُ حُمّاك حين قِيل لنا بأنها قَبَّلَتك فوق فَمك ولسُحَيم عَبد بني الحَسحاس‏:‏ تَجَمّعن شتى من ثلاث وأرْبع ووَاحدةٍ حتى كَمُلنَ ثمانيَا وأقْبلن من أقصى الْخِيام يَعُدْنني ألا إِنما بعضُ العوائد دَائيا وللعباس بن الأحف‏:‏ قالت مَرِضْت فعُدْتها فتبرَّمت وهي الصحيحة والمريضُ العائدُ والله لو قَسَت القلوبُ كقَلبها ما رَقّ للوَلد الضعيف الوَالدُ وقال الواثق‏:‏ لا بك السُقْم ولكنْ كان بي وبنَفْسي وبأُمِّي وأبيِ قيل لي إنك صُدِّعتَ فما خالطت سمعيَ حتى دير بي وقَوْلُكِ للعُوّاد كيف تَرَوْنه فقالوا قَتيلاً قلتِ أهونُ هالكِ لئن سَاءَني أن نِلتِني بمَساءَةٍ لقد سَرَني أني خَطرت ببالكِ ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ رُوح النَّدى بين أثواب العُلا وَصب يَعْتنُّ في جَسد للمجْد مَوْصوب ما أنتَ وحدَك مكْسُوًّا شُحوبَ ضَنى بل كلنا بك من مُضنى ومشحوب يا مَن عليه حِجَابٌ من جَلالته وإِن بدا لك يوماً غير محجوب أَلْقَى عليك يداً للضرُّ كاشفةً كَشَّافُ ضرُّ نبيّ الله أيُوبِ ومثله من قولنا‏:‏ لا غَرْو إن نال منك السُّقْمُ والضررُ قد تُكْسف الشمسُ لا بل يُخْسَف القمرُ يا غُرّة القمر الذّاوي غَضارتُها فِداً لنُورك منِّي السمعُ والبَصر إن يُمس جسمك موعوكا بصاليةٍ فهكذا يُوعَكُ الضًرغامة الهَصر أنتَ الحُسام فإِن تُقْلَل مضاربُه فقبلَه ما يُفَلّ الصّارِم الذّكَر رُوح من المَجْد في جُثمان مَكْرُمة كأنما الصُّبح من خَدَّيه يَنْفجر لا غرو إن نال منك السقْمُ ما سأَلاَ قد يُكْسَفُ البدر أحياناً إذا كَمُلا ما تَشْتَكي عِلّةً في الدهر واحدةً إلا اشتكي الجُود من وَجْدٍ بها عِلَلا الأدب في الاعتناق أبو بكر بن محمد قال‏:‏ حدّثنا سعيد بن ‏"‏ إسحاق عن عليّ بن يونس المَدينيّ ‏"‏ قال‏:‏ كنتُ جالساً عند مالك ‏"‏ بن أَنس ‏"‏ فإذا سُفيان بن عُيينة يَستأذن بالباب فقال مالك‏:‏ رجلٌ صالح صاحب سُنَة أدخِلوه فدخل فقال‏:‏ السلامُ عليكم ورحمةُ اللهّ وبركاته فردَ السلام فقال‏:‏ سلامٌ خاصّ وعامّ عليك يا أبا عبد الله ورحمةُ الله فقال مالك‏:‏ وعليك السلامُ يا أبا محمد ورحمةُ اللهّ فصافَحه مالك وقال‏:‏ يا أبا محمد لولا أنها بِدْعة لعانَقْناك فقال سُفيان‏:‏ قد عانق مَن هو خيرٌ منَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مالك‏:‏ جعفراً قال‏:‏ نعم فقال مالك‏:‏ ذاك حديثٌ خاصّ يا أبا محمد ليس بعامّ فقال سفيان‏:‏ ما عمَّ جعفراً يَعُمّنا وما خصَّه يخُصّنا إذا كنَّا صالحين أفتأْذن لي أن أُحدَّث في مجلسك قال‏:‏ نعم يا أبا محمد فقال‏:‏ حدّثني عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس أنه لما قَدِم جعفرٌ من أرض الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بين عينيه وقال‏:‏ جعفر أشبه الناس بي خَلْقَاَ



باب الأدب في إصلاح المعيشة
قالوا‏:‏ مَن أشبع أرضَه عملاً أشبعت ‏"‏ بيته ‏"‏ خُبزاً‏.‏
وقالوا‏:‏ يقول الثّوب لصاحبه‏:‏ أكرمني داخَلاَ أُكْرِمْك خارجاً‏.‏
وقالت عائشة‏:‏ المَغزَل بيد المرأة أحسنُ من الرُّمح بيد المُجَاهد في سبيل اللّه‏.‏
وقال عمرُ بن الخطاب‏:‏ لا تَنْهَكوا وجهَ الأرض فإِن شَحمها في وَجْهها‏.‏
وقال‏:‏ فَرِّقوا بين المَنايا واجعلوا من الرأْس رَأْسين‏.‏
وقال‏:‏ أملكوا العَجِين فإِنه أحد الرَّيعين‏.‏
وقال أبو بكر لغُلام له كان يتَّجر بالثياب‏:‏ إذا كان الثوبُ سابغاً فانشرهُ وأنت قائم وإذا كان قَصيراً فانشُره وأنت جالس وإنما البيْع مِكَاس‏.‏
وقال عبد الملك بن مَرْوَان‏:‏ مَن كان في يده شيءٌ فلْيُصْلحه فإنه في زمان إن احتاج فيه فأوّل ما يَبْذُل دينهُ‏.‏



باب الأدب في المؤاكلة
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أَكل أحدُكم فليأكل بيمينه ولْيَشْرَب بيمينه فإنّ الشيطان محمد بن سلاّم الجُمحي قال‏:‏ قال بلال بن أبي بُردة وهو أمير على البَصرة للجارود بن أبي سَترْة الهُذليّ‏:‏ أتحضُر طعامَ هذا الشيخ - يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر - قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فصِفه لي قال‏:‏ نأتيه فنجده مُنْبطحاً - يعني نائماً - فنجلس حتى يستيقظ فيأْذن فنُساقطه الحديث فإن حدَّثناه أحسنَ الاستماع وإن حدَّثَنا أحسنَ الحديث ثم يدعو بمائدته وقد تقدّم إلى جواريه وأُمهات أولاده أن لا تُلطفه واحدةٌ منهن ‏"‏ إلا ‏"‏ إذا وُضعت مائدته ثم يُقبل خَبْازه فيمْثُل بين يديه قائماً فيقول له‏:‏ ما عِنْدك فيقول‏:‏ عِندي كذا وكذا فيعدِّد ما عنده - يريد بذلك أن يَحْبس كلُّ رجل نفسَه وشهوتَه على ما يًريد من الطعام وتُقْبِل الألوان من هاهنا ومن هاهنا فتوضع على المائدة ثم يُؤتى بثريدة شَهباءَ من الفُلفل رَقْطَاء من الْحِمَّص ذاتِ حِفافينْ من العُرَاق فيأكل مُعذِراً حتى إذا ظنّ أن القوم قد كادوا يمتلئون جثَا على رُكْبتيه ثم استأنف الأكل معهم‏.‏
قال ابن أبي بُردة‏:‏ للّه ذرُّ عبد الأعلى ما أربطَ جأشَه على وقع الأضراس‏.‏
حضر أعرابيُّ سُفرةَ هشام بن عبد الملك فبَينا هو يأكل معه إذ تعلّقتَ شَعرةٌ في لُقمة الأعرابيّ‏.‏
فقال له هشام‏:‏ عندك شعرة في لُقمتك يا أعرابيّ فقال‏:‏ وإنك لتُلاحظني مُلاحظة من يَرى الشَّعرة في لُقمتي واللّه لا أكلت عندك أبداً‏.‏
ثم خرج وهو يقول‏:‏ وللَموتُ خيرٌ من زيارة باخل يُلاحظ أطرافَ الأكِيل على عَمْدِ محمد بن يزيد قال‏:‏ أكل قائدٌ لأبي جعفر المنصور معه يوماً وكان على المائدة محمدٌ المهديّ وصالحٌ ابناه فبينا الرجلُ يأكل من ثَريدة بين أيديهم إذ سَقط بعضُ الطعام من فيه في الغَضَّارة وكأن المهديّ وأخاه عافَا الأكل معه فأخذ أبو جعفر الطّعام الذي سَقط من فم الرجل فأكله‏.‏
فالتفتَ إليه الرجلُ فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أمّا الدُّنيا فهي أقلُّ وأيسر من أن أتركها لك لكن واللّه لأتركن في مرضاتك الدُّنيا والآخرة‏.‏
وحدّث إبراهيمُ بن السِّنديّ قال‏:‏ كان فتىً من بني هاشم يَدْخل على المنصور كثيراً ‏"‏ يُسلم من بعيد ويَنْصرف ‏"‏‏.‏
فأتاه يوماً فأدناه ثم دعاه إلى الغَداء فقال‏:‏ قد تغذيتُ‏.‏
فأمهله الربيعُ حاجبُ المنصور حتى ظَنّ أنه لم يفهم الخطيئة فلما انصرف وصار وراء السِّتر دَفع في قَفاه‏.‏
فلما رأى من الحاجب دَفعه في قَفاه شَكا الفتى حالتَه وما ناله إلى عُمومته فأقبلوا من غد إلى أبي جعفر وقالوا‏:‏ إنَ الربيع نال من هذا الفتى كذا وكذا فقال لهم أبو جعفر‏:‏ إنَ الرّبيع لا يقدم على مثل هذا إلا وفي يده حُجَّة فإن شئتم أمْسكنا عن ذلك وأغضينا وإن شِئتم سألتُه وأسمعتكم قالوا‏:‏ بل يسأله أميرُ المؤمنين ونسمع‏.‏
فدعاه فسأله فقال‏:‏ إنّ هذا الفتى كان يأتي فيُسلِّم ويَنصرف من بعيد فلما كان أمس أَدناه أميرُ المؤمنين حتى سلَم من قُرْب وتبذل بين يديه ودعاه إلى غدائه فبلغ من جهله بحق المَرْتبة التي أحلّه فيها أن قال‏:‏ قد تغدّيتُ وإذا هو ليس عنده لمن أكل مع أمير المؤمنين وشاركه في يده إلا سدًّ خَلّة الجوع ومثل هذا لا يُقوِّمه القولُ دون الفعل‏.‏
فسكت القومُ وانصرفوا‏.‏
وقال بكرُ بن عبيد الله‏:‏ أحق الناس بلَطْمة مَن أني طعاماً لم يُدْعَ إليه وأحقُّ الناس بلَطْمتين من يقول له صاحب البيت اجلس ها هنا فيقول‏:‏ لا ها هنا وأحقًّ الناس بثلاث لطمات من دُعي إلى طعام فقال لصاحب المنزل‏:‏ ادعُ رَبّةَ البيت تأكل معنا‏.‏
وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ‏:‏ لا ينبغي للفتى أن يكون مُكْحلاً ولا مُقبِّباً ولا مُكوكباً ولا شُكامداً ولا حرامداً ولا نُقامداً ثم فسّره فقال‏:‏ أما اُلمكحل فالذي يتعرّق العظم حتى يَدَعه كأنه مُكْحُلة عاج والمًقَبِّب فالذيِ يُركِّب اللحم بين يديه حتى يجعله كأنه قُبّة‏.‏
والمُكَوكب‏:‏ الذي يَبْصق في الطِّست ويتَنخّم فيها حتى يصير بُصَاقه كأنه الكواكب في الطَّست‏.‏
والحرَامد‏:‏ الذي يأتي في وقت الغَداء والعَشاء فيقول‏:‏ ما تأكلون فيقولون من بُغْضه‏:‏ سُمًّا فيُدخل يده ويقول في حِرامّ العيش بعدكم‏.‏
والشُّكامد‏:‏ الذي يُتْبع اللقمة بأُخرى قبل أن يُسيغها فيَخْتنق كأنه ديك قد ابتلع فأرة‏.‏
والنُّقامد‏:‏ الذي يضع الطعامَ بين يديه ويأكل من بين يدي غيره‏.‏
ومن الأدب‏:‏ أن يبدأ صاحبُ الطعام بغَسْل يده قبل الطعامِ ثم يقول لجلسائه‏:‏ من شاء منكم فليغسل فإذا غُسلَ بعد الطعام فَلْيُقَدَمْهم ويتأخر‏.‏
وقال العلماء‏:‏ لا يُؤم ذو سُلطان في لسُطانه ولا يُجلس على تَكْرِمته إلا بإذنه‏.‏
وقال زِياد‏:‏ لا يُسَلَّمُ على قادمٍ بين يَدي أمير المؤمنين‏:‏ ودخل عبد الله بن عبّاس على مُعاوية وعنده زَياد فرحَّب به مُعاوية ووسَّع له إلى جَنْبه وأقبل عليه يُسائله ويُحادثه وزِياد ساكِت فقال له ابن عبّاس‏:‏ كيف حالُك أبا المُغيرة كأنك أردت أن تُحْدث بيننا وبينك هِجْرة فقال‏:‏ لا ولكنه لا يُسلَّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين‏.‏
قال ابن عبّاس‏:‏ ما أَْدركْت الناس إِلا وهم يُسلمون على إخوانهم بين يدي أمرائهم‏.‏
فقال له مُعاوية‏:‏ كُفَّ عنه يابن عبّاس فإنك لا تَشاء أن تَغْلِبَ إلا غُلبت‏.‏
الشّيبانيّ قال‏:‏ بَصق ابن مَرْوان فقَصر في بَصْقته فوقعت في طَرف البِساط فقام رجلٌ من المجلس فمسَحه بكُمّه‏.‏
فقال عبدُ الملك بن مَرْوان‏:‏ أَرْبعة لا يُسْتحي من خِدْمتهم‏:‏ الإمام والعاِلم والوالد والضيف‏.‏
وقال يحيى بن خالد‏:‏ مُساءَلة المُلوكِ عن حالها من تَحيَّة النَّوْكَى فإذا أردتَ أن تقول‏:‏ كيف أصبح الأمير فقُل‏:‏ صَبَّح الله الأميرَ بالنِّعمة والكرامة وإن كان عليلاً فأردتَ أن تَسأله عن حاله فقُل‏:‏ أنزل الله علِى الأمير الشِّفاء والرِّحمة‏.‏
وقالوا‏:‏ إذا زادك المَلِك إكراماً فزِدْه إعظاماَ ماذا جَعلك عَبْداَ فاجعله ربًّا ولا تُدِيمن النظر إليه ولا تُكثر من الدُّعاء له في كلِّ كلمةٍ‏.‏
ولا تتغير له إذا سَخِط ولا تَغتر به إذا رَضيَ ولا تُلْحِف في مسألته‏.‏
وقالوا‏:‏ الملوك لا تُسْال ولا تُشمَّت ولا تُكَيف‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إِنَّ المُلوكَ لا يُخَاطَبُونَا ولا إذَا مَلُوا يُعَاتَبُونَا وفي المَقَال لا يُنَازَعُونَا وفي العطاس لا يُشَمًتونَا وفي الخطاب لا يُكَيَّفُونَا يُثنى عليهم ويُبَجًلونَا فافْهَم وَصاتي لا تكُن مَجْنُونا وقالوا‏:‏ من تمام خِدْمة الملوك أن يُقَرِّب الخادمَ إليه نَعْلَيْه ولا يَدَعه يَمشي إليهما ويَجعل النعلَ اليُمنى قُبالة الرِّجل اليمنى واليُسرى قُبالة الرجل اليُسرى وإذا رأى مُتَّكأ يَحتاج إلى إصلاح أصْلَحَه ولا يَنْتظر فيه أمرَه ويَتفقد الدَواة قبلَ أن يَأمره ويَنْفُضِ عنها الغبار إِذا قَربها إليه وإن رأى بين يديه قِرْطاساً قد تباعد عنه قَرّبه إليه وَوَضعه بي يديه على كِسْره‏.‏
وقال أصحابُ معاوية لمُعاوية‏:‏ إنّا ربما جَلَسنا عندك فوقَ مِقْدار شَهْوتك فأنتْ تَكْره أن تَسْتَخِفَّنا فتأمر بالقيام ونحن نكرْه أن نُثْقِل عليك في الجُلوس فلو جعلتَ لنا علامةً نَعْرِف بها ذلك فقال‏:‏ علامةُ ذلك أن أقولَ‏:‏ إذا شِئتم‏.‏
وقيل مثلُ ذلك لعبد الملك بن مروان فقال‏.‏
إذا وضعتُ الخَيْزُرانة‏.‏
وما سمعتُ بألطف مَعنى ولا أكملَ أَدَباً ولا أحسنَ مَذْهباً في مُساءلة الملوك من شَبِيب بن شَيْبة وقوله لأبي جَعْفَر‏:‏ أَصْلَحَكَ الله إني أُحِبُ المعرفة وأُجِلّك عن السُّؤال‏.‏
فقال له‏:‏ فلان بن فُلان‏.‏



باب الكناية والتعريض
ومن أَحْسن الكِناية اللَطيفة عن المعنى الذي يَقْبحُ ظاهرهُ‏:‏ قيل لعُمَر بن عبد العزيز وقد نَبتَ له حبنٌ تحت أُنْثَيَيْه‏:‏ أين نبَتَ بك هذا الحِبْن قال بين الرانفة والصَّفْن‏.‏
وقال آخر ونَبتَ به حِبْن في إبطه‏:‏ أين نبت بك هذا الحِبْن قال‏:‏ تحت مَنْكِبيّ‏.‏
وقد كَنَى اللهّ تعالى في كِتابة عن الجماع بالمُلامَسة وعن الحَدَث بالغائط فقال‏:‏ ‏"‏ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمِ مِن الغَائِطِ ‏"‏ والغائطَ‏:‏ الفَحْص ‏"‏ وهو المُطْمئن من الأرض ‏"‏ وجَمْعه‏:‏ غِيطان‏.‏
‏"‏ وقالُوا مَا لِهَذا الرّسُول يأكًلُ الطَّعامَ ‏"‏‏.‏
وإنما كنّى ‏"‏ به ‏"‏ عن الحَدث‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ واضْمُمْ يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْر سًوءٍ ‏"‏‏.‏
فكنّى ‏"‏ بالسوء ‏"‏ عن البرص‏.‏
ودخل الرّبيع بن زياد على النُّعمان بن المُنذر وبه وَضح فقال‏:‏ ما هذا البَياض بك فقال‏:‏ سيف اللهّ جلاه‏.‏
ودخل حارثةُ بن بدر على زياد وفي وَجهه أثر فقال له زياد‏:‏ ما هذا الأثر الذي في وَجْهِك قال‏:‏ رَكِبت فَرَسي الأشقر فجمح بي فقال‏:‏ أما إنك لو رَكِبْت الأشهب لما فعل ذلك‏.‏
فكنّى حارثة بالأشقر عن النبيذ وكنّى زياد بالأشهب عن اللبن‏.‏
إذَا ما مات مَيْتٌ من تميم وسرك أن يَعيش فجِيءْ بزادِ بخُبز أو بتَمْرِ أو بِسَمْنِ أو الشيءِ المُلَفَفِ في البِجَاد تراه يَطُوف في الافاقْ حِرْصاَ ليأكل رأس لُقمان بن عاد ما هذا الشيء الملفّف في البِجاد قال الأحنف‏:‏ السّخينة يا أميرَ المؤمنين‏.‏
قال معاوية‏:‏ واحدةٌ بأخرى والبادي أظلم - والسّخينة طعام كانت تعمله قريش من دقيق وهو الخَريزة فكانت تُسَب به وفيه يقول حسَّان بن ثابت‏:‏ زَعمْت سَخينة أن ستَغْلِب رَبّها وليُغْلِبنّ مُغالِب الغلابِ وقال آخر‏:‏ تَعشوا من خَزيرتهم فناموا ولمّا عَزل عثمانُ بن عفان عمرو بن العاص عن مِصر وولاها ابن أَبي سَرْح دخل عمرو على عُثمان وعليه جُبّة محشوّة فقال له عُثمان‏:‏ ما حَشْو جُبّتك يا عمرو قال‏:‏ أنا قال‏:‏ قد علمتُ أنك فيها‏.‏
ثم قال له يا عمرو‏:‏ أشعرتَ أن اللِّقاح درّت بعدك ألبانُها فقال‏:‏ لأنكم أعجفتم أولادَها‏.‏
فكنّى عثمان عن خَراج مصر باللّقاح وكنّى عمرو عن جَوْر الوالي بعده وأنه حَرم الرزق أهلَ العطاء ووفَّره على السلطان‏.‏
وكان في المَدِينة رجلٌ يُسَّمى جَعْدة يُرجِّل شعره ويتعرَّض للنساء المِعْزَبات فكتب رجلٌ من أَلاَ أَبلغ أبا حَفْص رسولاً فدًى لك من أَخي ثِقَةٍ إزَارِي قَلائِصُنا هدَاكَ اللهّ إنّا شُغِلنا عنكُم زمنَ الحصارِ يُعَقِّلُهن جَعْد شيظمي وبِئْسَ مُعَقّلُ الذًوْد الظُّؤار فكنَى بالقلائص عن النّساء‏.‏
وعَرض برجل يقال له جَعْدَة‏.‏
فسأل عنه عمرُ فَدُل عليه فجزّ شَعره ونَفَاه عن المدينة‏.‏
وسمعِ عمرُ بن الخطاب امرأة في الطّواف تقول‏:‏ فَمِنْهُنَّ من تُسْقَى بعَذْب مُبرد نًقاخ فتِلْكم عند ذلك قرَتِ ومنهنّ مَن تُسْقَى بأخضرَآجن أُجاجٌ ولولا خشيةُ الله فَرَّت ففهم شكواها فبَعث إلى زَوْجها فوجده متغيِّر الفم‏.‏
فخيَّره بين خمسمائة من الدراهم وطلاقِها‏.‏
فاختار الدَّراهم فأعطاه وطَلّقها‏.‏
ودخل على زياد رجلٌ من أشراف البصرة فقال له زياد‏:‏ أين مَسكنك من البَصرة قال‏:‏ في وَسطها قال له‏:‏ كم لك من الولد قال‏:‏ تِسْعة فلما خرج من عنده قيل له‏:‏ إنه ليس كذلك في كل ما سألته وليس له من الوَلد إلاّ واحدٌ وهو ساكن في طَرف البَصرْة‏.‏
فلمّا عاد إليه سأله زياد عن ذلك فقال له‏:‏ ما كذبتُك لي تسعة من الولد قَدَمْت منهم ثمانية فهم لي وبقي معي واحد فلا أدري إليَ يكون أم عليَّ ومنزلي بين المدينة والجَبانة فأنا بين الأحياء والأموات فمنزِلَي في وَسط البَصرة قال‏:‏ صدقت‏.‏
الكناية يورى بها عن الكذب والكفر لما هَزم الحجاجُ عبدَ الرحمن بن الأشعث وقتَل أصحابَه وأسرَ بعضهم كتب إليه عبدُ الملك بن مَرْوان أن يَعْرِض الأسرى على السيف فمَن أقرَّ منهم بالكفر خلِّى سبيلَه ومَن أبَى يَقْتله فأُتي منهم بعامر الشًعبي ومطرِّف ابن عبد الله بن الشّخّير وسعيد بن جُبَير فأمّا الشعبي ومطرِّف فذَهبا إلى التعريض والكناية ولم يُصرِّحا بالكفر فَقبِل كلامهما وعفا عنهما وأمّا سعيد ابن جُبير فأبى ذلك فقتل‏.‏
وكان مما عرَّض به الشعبي فقال أَصلح الله الأمير نَبا المنزل وأَحْزَن بنا الجَناب واستَحلَسْنا الخوفَ واكتَحلنا السهرَ وخَبطتنا فتنةٌ لم نكن فيها برَرَة أتقياء ولا فَجَرة أقوياء‏.‏
قال صدقَ والله ما بَرُّوا بخروجهم علينا ولا قَوُوا خَلّيا عنه ثم قُدِّم ‏"‏ إليه ‏"‏ مُطرِّف بن عبد الله فقال له الحجّاج‏:‏ أَتُقِرّ على نفسِك بالكفر قال‏:‏ إنّ مَن شق العصا وسَفَك الدماء ونكث البَيْعة وأخاف المسلمين لجديرٌ بالكفر قال‏:‏ خليا عنه‏.‏
ثمّ قُدّم إليه سعيد بن جُبير فقال له‏:‏ أتقِر على ولما وَلي الواثقُ وأَقعد للناس أحمدَ بن أبي دُوَاد للمحنة في القُرآن ودعا إليه الفُقهاء أُتي فيهم بالحارث بن مِسْكين فقيل له‏:‏ أتَشهد أنّ القرآن مخلوق قال‏:‏ أشهدُ أنّ التوراة والإنجيل والزَّبور والقرآن هذه الأربعة مخلوقة ومَدّ أصابعه الأربع فعرض بها وكنَى عن خلق القرآن وخلِّص مُهْجَته من القَتل‏:‏ وعَجز أحمدُ بن نَصر فقيهُ بغداد عن الكِناية فأباها فقُتِل وَصلِب‏.‏
ودَخل بعضُ النسّاك على بعض الخُلفاء فدعاه إلى طَعامه فقال له‏:‏ الصائم لا يأكل يا أميرَ المؤمنين وما أذكِّي نفسي بل الله يُزَكِّي مَن يشاء وإنما كره طعامه‏.‏
الأصمعيُّ عن عيسى بن عمر قال بينما ابن عِرْباض يَمشي مُقْدِماً لِطيَّتِه إذ استقبلته الخوارج يَجزُّون الناسَ بسيوفهم فقال لهم‏:‏ هل خَرج إليكم في اليهود شيء قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فامضُوا راشِدين فمضَوْا وتركوه‏.‏
ولقي شيطانُ الطاق رجلاً من الخوارج وبيده سيفٌ فقال له الخارجي‏:‏ واللهّ لأقتلنَّك أو تبرأَ من عليّ فقال له‏:‏ أنا من عليّ ومن عثمان بريء ‏"‏ يريد أنه من عليّ وبريء من عثمان ‏"‏ 0 أبو بكر بن أبي شَيْبة قال‏:‏ قال الوليد ‏"‏ بن عُقْبة ‏"‏ على المِنْبر بالكوفة‏:‏ أًقسمُ على مَن سمّاني أَشعرَ بَرْكاً إلا قام ‏"‏ فخرج عنّي ‏"‏ فقام إليه رجل من أهل الكوفة فقال له‏:‏ ومَن هذا الذي يقوم ‏"‏ وقال معاويةُ لصعْصعة بن صوحان‏:‏ اصْعَد المنبر فالْعَن عليَّا ‏"‏ فامتنع من ذلك وقال‏:‏ أو تُعْفيني قال‏:‏ لا‏.‏
فَصَعد المنبر فَحَمِد اللهّ وأثنى عليه ثم قال‏:‏ معاشر الناس إنّ معاوية أمرني أن ألعن عليَّاً فالعَنُوه لعنه الله ‏"‏‏.‏



الكناية عن الكذب في طريق المدح
المدائنيّ قال‏:‏ أتي العُرْيان بن الهَيْثم بغلام سكران فقال له‏:‏ مَن أنت فقال‏:‏ أنا ابن الذي لا يَنْزلُ الدَّهرِ قدرُه وإن نزلت يوماً فسوف تَعودُ ترى الناسَ أفواجاَ إلى ضوْء ناره فمنهم قِيامٌ حولها وقُعود فظنّه ولداً لبعض الأشراف فأمر بتخليته‏.‏
فلمّا كُشف عنه قيل له‏:‏ إنّه ابن باقلاني‏.‏
ودخل رجل على عيسى بن موسى وعنده ابن شُبْرمة ‏"‏ القاضي ‏"‏ فقال له‏:‏ أتعرف هذا الرجل - وكان رُمي عنده بريبة - فقال ‏"‏ نعم ‏"‏ إن له بيتاَ وقَدماً وشرَفاً فخلّى سبيلَه‏.‏
فلمّا انصرف ابن شبرمة قال له ‏"‏ أصحابُه ‏"‏‏:‏ أكنت تعرف هذا الرجل قال‏:‏ لا ولكني عرفُ أنّ له بيتاً يأوي إليه وقدماَ يمشي عليها وشرفُه أُذناه ومَنْكباه‏.‏
وخطب رجل لرجل إلى قوم فسألوه‏:‏ ما حِرْفته فقال‏:‏ هو نخَّاس الدوَاب فزوّجوه فلمّا كُشف عنه وجدوه يبيع السَّنانير فلمّا عنِّفوه في ذلك قال‏:‏ أوَ ما السنانير دواب ما كذبتكم في شيء‏.‏
ودخل مُعلَى الطائي على ابن السَّرِيّ يعوده في مرضه فأنشده شعراً يقول فيه‏:‏ فأُقسم إن منَّ الإله بصحَة ونَال السَّرِيُ بنُ السرِيِّ شفَاءَ لأرتَحِلِّن العِيسَ شهراً بحِجة وأُعتق شُكرإً سالماً وصَفَاء فلمّا خرج من عنده قال له أصحابُه‏:‏ واللّه ما نعلم عبدَك سالماً ولا عبدك صَفاء فمَن أردت أن تُعتق قال هما هرّتان عندي والحجّ فريضة واجبة فما عَلَيِّ في قولي شيءإن شاء الله تعالى‏.‏



باب في الكناية والتعريض في طريق الدعابة
سُئل ابن سيرين عن رجل فقال‏:‏ تُوفّي البارحة‏.‏
فلما رأى جَزَع السائل قال‏:‏ ‏"‏ الله يَتوفَى الأنفسَ حين مَوْتها والتي لم تمُتْ في مَنامها ‏"‏ وإنما أردتُ بالوَفاة النوم‏.‏
ومَرِض زيادٌ فدخَل عليه شُريح القاضي يَعوده‏.‏
فلمِّا خَرج بعث إليه مَسْرُوقُ بنِ الأجْدَع يسأله‏:‏ كيف تركتَ الأمير قال‏:‏ تركتُه يأمر وينهى فقال مَسروق‏:‏ إن شُرَيحاَ صاحبُ تَعرِيض ‏"‏ عَوِيص ‏"‏ وكان سِنان بن مُكمِّل النُميريّ يُساير عُمر بن هبيرة الفَزاريّ يوماً على بَغلة فقال له ابن هُبيرة‏:‏ غُضَّ من عِنان بَغلتك فقال‏:‏ إنها مكتوبة أصلح الله الأمير‏.‏
أراد ابن هُبيرة قول جرير‏:‏ فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمير فلا كَعْباً بلغتَ ولا كلابَا وأراد سِنَان قولَ الشاعر‏:‏ لا تَأمننَ فَزاريَّاً خَلوتَ به على قَلُوصك واكتُبْها بأسْيارِ ومرّ رجلٌ من بني تَميم برجل من بني نُمير على يده بازي فقال التَّميميُ للنّميريّ‏:‏ هذا البازي لك فقال له النُّميري‏:‏ نعم وهو أهدَى من القَطا‏.‏
أراد التميميُّ قولَ جرير‏:‏ أنا البازي المُطِلّ على نُمَيْر أُتِحْتُ لها من الجوِّ انصبابَا وأراد النميري قول الطِّرِمْاح‏:‏ تَميم بطُرْق اللُّؤم أهدَى من القَطَا ولو سَلكت سُبْل المكارم ضَلَّتِ ودخل رجلٌ من مُحارب على عبد الله بن يَزيد الهلاليّ وهو والي أَرْمِينية وقَريبٌ منه غَدير فيه ضفادع فقال عبد الله بن يزيد‏:‏ ما تركتنا شيوخ مُحارب نَنام الليلة فقال له المُحاربيّ‏:‏ أصلح الله الأمير أَو تدْري لمَ ذلك قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأنها أضفَت بُرْقُعاً لها قال‏:‏ قَبّحك اللهّ تَنِقّ بلا شيء شُيوخُ مُحَاربِ وما خِلتُها كانت تَريش ولا تَبْرى ضَفادع في ظَلماءِ ليلٍ تَجاوبتْ فدلَّ عليها صوتُها حَيَّةَ البَحَر وأراد المُحاربيُّ قولَ الشاعر‏:‏ لكلّ هِلاليّ من الًّلؤم بُرْقُع ولابن يزيد بُرقعٌ وقميص ُ وقال مُعاوية لعبد الرحمن بن الحَكم‏:‏ استعْرِض لي هذين الفَرسين فقال‏:‏ أحدُهما أجَشُّ والآخر هَزِيم يعني قولَ النَّجاشيّ‏:‏ ونَجَّى ابن هِنْد سابحٌ ذو عُلالةِ أجشُّ هَزيم والرِّماح دواني فقال مُعاوية‏:‏ أما إنَ صاحبَهما على ما فيه ‏"‏ لا ‏"‏ يُشئب بكَنائنه‏.‏
وكان عبدُ الرحمن يُرْمى بكنَّتِه‏.‏
وشاور زيادٌ رجلا من ثِقاته في آمرأة يتزوَّجها فقال‏:‏ لا خير لك فيها إني رأيتُ رجلاً يُقبِّلها فتركها وخالَفه الرجل إليها وتزوَّجها‏.‏
فلما بلغ زياداً خبرهُ أرسل إليه وقال له‏:‏ أما قلتَ لي إنك رأيتَ رجلاً يُقبِّلها قال‏:‏ نعم رأيتُ أباها يُقبِّلها‏.‏
وقال أعرابيُ لعمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ يا أميرَ المؤمنين احمِلْني وسُحَيما على جمل فقال‏:‏ نَشدتك الله يا أعرابيّ أسُحيم هذازِق قال‏:‏ نعم ثم قال‏:‏ مَن لم يَنْفعه ظنه لم يَنْفعه وودَّع رجلٌ رجلاً كان يُبْغِضُه فقال‏:‏ امض في سّرٍ مِن حِفْظ الله وحِجاب من كلاءته‏.‏
فَفطِن له الرجل فقال‏:‏ رَفع الله مكانك وشَدِّ ظهرك وجَعلك مَنظوراً إليك‏.‏
والشَّيباني قال‏:‏ كان ابن أبي عَتيق صاحبَ هَزْل ولهو واسمُه عبد الله بن محمد بن أبي بَكر ‏"‏ الصدِّيق رضي الله عنهم ‏"‏ وكانت له آمرأة من أشراف قَريش وكان لها فتياتٌ يُغنين في الأعراس والمآتم فأمرت جاريةً منهن أن تغنِّي بشعر لها قالتْه في زَوْجها فتغنّت الجاريةُ وهو يسمع‏:‏ ذَهب الإله بما تَعيش به وقمرتَ لُبك أيما قَمْرِ أنفقت مالك غير مُحْتشم في كلِّ زانية وفي الخمر فقال للجارية‏:‏ لمن هذا الشًعر قالت‏:‏ لموْلاتي‏.‏
فأخذ قرْطاساً فكتبه وخرج به فإذا هو بعبد الله بن عُمر بن الخطاب فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن قف قليلا أُكلمك فوقف عبد الله بن عمر فقال‏:‏ ما تَرى فيمن هجاني بهذا الشعر وأنشد البيتن قال‏:‏ أرى أن تَعفو وتَصفح قال‏:‏ أما وإللهّ لئن لقيتُه لأنيكنَه فأخذ ابن عُمر ينَكُله ويَزْجره وقال‏:‏ قبّحك اللهّ‏.‏
ثم لَقيه بعد ذلك بأيام فلما أبصره ابن عُمر أعرض عنه بوَجْهه فاستقبله ابن أبي عَتيق فقال له‏:‏ سألتُك بالقبر ومَن فيه إلا سمعتَ مني حرفين فولاه قفاه وأنصت له قال‏:‏ علمتَ أبا عبد الرحمن أني لقيتُ قائل ذلك الشعر ونِكْته فصعِق عبد الله ولُبِط به فلما رأى ما نَزَل به دنا من أُذنه وقال‏:‏ أصلحك اللّه إنها امرأتي ‏"‏ فلانة ‏"‏‏.‏
فقام ابن عمر وقَبل ما بي عَيْنيه ‏"‏ وتبسَّم ضاحكاً ‏"‏‏.‏



باب في الصمت
كان لُقمان الحكيم يجلس إلى داود صلى اله عليه وسلم ‏"‏ مُقْتَبسا ‏"‏ وكان عبداً أسود فوجده وهو يَعمل دِرْعاً من حديد فعجب منه ولم يَرَ درْعاً قبل ذلك فلم يسأله لُقمان عما يَعمل ولم يُخبره داود حتى تمَّت الدِّرع بعد سنة فقاسها داودُ على نفسه وقال‏:‏ زِرْد طافا ليوم قِرَافا‏.‏
تفسيره‏:‏ درع حَصينة ليوم قِتال‏.‏
فقال لُقمان‏:‏ الصمت حُكم وقَليل فاعله‏.‏
وقال أبو عبيد الله كاتبُ المهدىِّ‏:‏ كُن على التماس الحظ بالسكوتِ أحرصَ منك على التماسه بالكلام إِنّ البلاء موَكَلٌ بالمنطق‏.‏
وقال أبو الدَّرداء‏:‏ أنْصف أُذنيك مِن فيك فإنما جُعل لك أُذنان اثنان وفَم واحد لِتسمع أكثر مما تقوله ابن عَوْف عن الحسن قال‏:‏ جلسوا عند مُعاوية فتكلّموا وسكت الأحنف فقال مُعاوية‏:‏ مالك لا تتكلّم أبا بَحْر قال‏:‏ أخافُك إن صدقتُ وأخاف الله إن كذبت‏.‏
وقال المُهلَّب بن أًبي صُفْرة‏:‏ لأن أرى لعقل الرجل فضلاً على لسانه أحبُّ إليَّ من أن أرى للسانه فضلا على عقله‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن ضاق صدرُه اتسع لسانُه ومَن كثُر كلامُه كثُر سَقَطه ومَن ساء خُلقه قلَّ صديقُه‏.‏
وقال هَرم ابن حيّان‏:‏ صاحبُ الكلام بين إحدى مَنْزلتين إن قصَّرَ فيه خصم وإن أَغْرق فيه أَثِم‏.‏
وقال شَبيب بن شَيبة‏:‏ مَن سمع الكلمة يَكرهها فسكتَ عنها انقطع ضرُّها عنه‏.‏
وقال أكثمُ بن صَيْفيّ‏:‏ مَقْتل الرجل بين فَكًيه‏.‏
وقال جعفر بن محمد بن عليِّ بن الحُسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنهم‏:‏ يَموت الفتَى من عَثْرة بلِسانِه وليس يموتُ المرءُ من عَثْرة الرِّجْل فعثرته مِن فِيه تَرْمِي برأْسه وعثرتُه بالرِّجْل تَبرا على مَهْل وقال الشاعر‏:‏ الْحِلم زَيْنٌ والسكُوتُ سلامةٌ فإذا نَطقتَ فلا تَكُنْ مكثَارَا ما إن نَدِمْتُ على سُكُوتي مَرّةً لكن نَدِمْتُ على الكلام مِرَارا وقال لحسن بن هانيء‏:‏ خَلّ ِجنبيك لِرَامِي واْمض عنه بسَلاَم ربَّ لفظ ساق آجا ل فِئَام وفئام إنما الساِلمُ من أَلْ جَم فاهُ بِلِجَام وقال بعض الحكماء‏:‏ حَظّي من الصّمت لي ونَفْعُه مَقْصور عَلَيَّ وحظّي من الكلام لغيري وَوَباله راجع عَليَّ‏.‏
وقالوا‏:‏ إذا أعجبك الكلامُ فاصمُت‏.‏
وقال رجلٌ لعمر بن عبد العزيز‏:‏ متى أتكلم قال‏:‏ إذا اشتهيتَ أن تَصْمُت قال‏:‏ فمتى أصمُتَ قال‏:‏ إذا اشتهيتَ أن تتكلّم‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أعْطيَ العبدُ شرّا مِن طَلاقة اللّسان‏.‏
وسَمِع عبد الله بن الأهتم رجلا يتكلم فيُخْطىء فقال‏:‏ بكلامك رُزِق الصمتُ المحبة‏.‏



باب في المنطق
قال الذين فَضلوا المنطقَ‏:‏ إنما بُعثَت الأنبياء بالكلام ولم يُبْعثوا بالسُّكوت‏.‏
وبالكلام وُصِف فَضْل الصَّمت ولم يُوصف القولُ بالصمت وبالكلام يُؤْمر بالمعروف وينْهى عن المُنْكر ويُعظَّم اللهّ ويُسبَّحِ بحمده ‏"‏ والبيان من الكلام هو الذي مَنَّ الله به على عِباده فقال‏:‏ ‏"‏ خَلَقَ الإنْسَان عَلَّمَهُ البَيَان ‏"‏‏.‏
والعِلْم كلُّه لا يُؤدِّيه إلى أَوْعية القُلوب إلا اللسان فنَفْع المنطق عام لقائله وسامعه ‏"‏ ومن بلّغه ‏"‏ ونَفْع الصمتِ خاص بفاعله‏.‏
وأَعْدلُ شيء قِيل في الصمت والمَنْطق قولهم‏:‏ الكلامُ في الخير كلِّه أفضلُ من الصمت والصمت في الشرِّ كلّه أفضلُ من الكلام‏.‏
وقال عبد الله المُبارك صاحبُ الرقائق يَرْثي مالكَ بن أَنس المَدَنيّ‏:‏ صَمُوتٌ إذا ما الصمتُ زَيَّنَ أَهلَه وفَتِّاق أبكار الكلام المُخَتَّم وَعَى ما وَعَى القرآنُ من كلِّ حِكْمَة وسِيطَت له الآدابُ باللحم والدَّم وقال عمرُ بن الخطّاب‏:‏ ترْك الحركة غَفْلة‏.‏
وقال بكرُ بن عبد الله المُزنيّ‏:‏ طُول الصمت حبُسْة‏.‏
وقالوا‏:‏ الصمتُ نَوْم والكلام يَقَظة‏.‏
وقالوا‏:‏ ما شيء ثًني إلا قَصرُ إلا الكلام فإنه كلما ثُني طال‏.‏
‏"‏ وقال الشاعر‏:‏ الصمت ُشيمته فإنْ أبْدَى مَقاَلاً كان فَصْلاَ أَبدَى السكوتَ فإن تك - لم لم يَدَعْ في القول فَضْلا ‏"‏ محمدُ بن سِيرين قال‏:‏ ما رأيتُ عَلَى آمرأة أجملَ من شَحم ولا رأيتُ عَلَى رَجُل أجمل من فصاحة‏.‏
وقال اللهّ تبارك وٍ تعالى فيما حكاه عنِ نبيّه موسى صلى الله عليه وسلم وآستيحاشه بعدم الفصاحة‏:‏ ‏"‏ وَأخي هرُون هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناَ فَأرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءَا يُصَدِّقُني ‏"‏‏.‏
آفات المنطق تكلّمَ ابن السماك يوماً وجارية له تسمع كلامه فلما دخل قال لها‏:‏ كيف سمعت كلامي قالت‏:‏ ما أحسنه لولا أنك تردده قال‏:‏ أردّده ليفهمه من لم يفهمه قالت‏:‏ إلى أن يفهمه من لم يفهمه يملّه من فَهِمَه‏.‏
‏"‏ الأصمعي قال ‏"‏‏:‏ قال مُعاوية يوماً لجلسائه‏:‏ أيّ الناس أفصح فقال رجلٌ من السِّماط‏:‏ يا أميرَ المؤمنين قوم قد ارتفعوا عن رُتَّة العراق وتياسَرُوا عن كَشْكشة بكر وتيامَنُوا عن‏:‏ شَنْشَنة تَغْلب ليس فيهم غَمْغمة قُضاعة ولا طمطمانيّة حِمْير‏.‏
قال‏:‏ مَن هم قال‏:‏ قومُك يا أميرَ المؤمنين قُريش قال‏:‏ صدقتَ فمن أنت قال‏:‏ مِن جَرْم قال الأصمعيّ‏:‏ جَرْم فُصْحَى الناس‏.‏
قال أبو العباس محمد بن يزيد النَحويّ‏.‏



التَمتمة في المنطق
التردُّد في التاء والعُقْلة‏:‏ هي التواء اللسان عند إرادة الكلام والحُبْسة‏:‏ تعذُر الكلام عند إرادته واللفف‏:‏ إدخالُ حَرْف في حَرْف والرُّتة‏:‏ كالرتَج تمنُع أول الكلام فإِذا جاء منه شيء اتصل به‏"‏‏.‏
والغَمْغمة‏:‏ أن تسمع الصوت ولا يَبِين لك تقطيعُ الحروف‏.‏
وأما الرَتة‏:‏ فإنها تكون غريزية وقال الراجز‏:‏ يأيُها المُخلّط الأرَتّ ويقال إنها تكثر في الأشراف‏.‏
وأما الغَمْغمة‏:‏ فإنها قد تكون من الكلام وغيره‏.‏
لأنها صَوتُ من لا يُفهم تقطيع حرُوفه‏.‏
قال عنترة‏:‏ ‏"‏ وصاحبِ ناديته فغَمْغما يُريدُ لَبيك وما تكلَّما قد صار من خوف الكلام أَعْجما ‏"‏ والطمْطمة‏:‏ أن يكون الكلام مُشْبِهاً لكلام العجم والُّلكنة‏:‏ أن تَعْترض في الكلام اللغةُ الأعجمية - وسنفسِّر هذا حرفاً حرفاً وما قيل فيه إن شاء اللّه - واللَّثغة‏:‏ أن يُعدَل بحَرْف إلى حَرْف والغُنّة‏:‏ أن يُشرب الحرفُ صوتَ الخَيْشوم والخُنَة‏:‏ أشد منها والزخيم‏:‏ حَذْف الكلام والفأفأة‏:‏ التردد في الفاء‏:‏ يقال‏:‏ رجل فأفاء تقديره فاعال ونظيره من الكلام ساباط وخاتام يامَيُّ ذات الجَوْرب المنشَقّ أخذتِ خاتامِي بغَير حَقِّ وقال آخر‏:‏ ليس بفأفاء ولا تَمتّام ولا مُحبٍّ سَقَطَ الكلام وأما كشْكشة تميم‏:‏ فإن بني عمرو بن تميم إذا ذَكرتْ كاف المؤنّث فوقفتْ عليها أبدلت منها شينا لقُرب الشين من الكاف في المخرج وقال راجزُهم‏:‏ هل لكِ أن تَنْتفعي وأنفعش فتُدْخلين الَلذْ معي في الَّلذْ مَعَش وأما كسكسة بكر‏.‏
فقوم منهم يُبدلون من الكاف سينا كما فعل التميميون في الشين‏.‏
وأما طمطمانية حِمْير‏:‏ ففيها يقول عَنترة‏:‏ تَأوي له قُلُص النَّعام كما أوَتْ حِزَقٌ يمانِيَةٌ لأعجمَ طِمْطِم وكان صُهيب أبو يحيى رحمه الله يَرْتضخ لُكْنة روميّة‏.‏
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ صُهيب سابق الروم‏.‏
وكان عبيد الله بن زياد يرتضخُ لكنة فارسية مِن قِبل زوج أُمه شيرويه الأسواريّ‏.‏
وكان زياد الأعجم وهو رجل من بني عبد القيس‏.‏
يَرْتضخ لكنة أعجمية وأنشد المُهلّبَ في مَدْحه إياه‏:‏ بريد السلطان - وذلك أن بين التاء والطاء نسباً لأن التاء من مخرج الطاء‏.‏
وأما الغُنة فتُستحسن من الجارية الحديثة السن‏.‏
قال ابن الرّقاع ‏"‏ في الظبية ‏"‏‏:‏ تُزْجِي أَغَنّ كأن إبرةَ رَوْقه قلمٌ أصابَ من الدَّواة مِدَادها وقال ابن المُقَفّع‏:‏ إذا كثر تَقْلِيب الِّلسان رقّت حواشيه ولانت عَذَبته‏.‏
وقال العتّابي‏:‏ إذا حُبس اللسانُ عن الاستعمال اشتدَّت عليه مخارج الحروف‏.‏
وقال الراجز‏:‏ كأن فيه لفَفَا إذا نطق من طُول تَحْبِيس وهمّ وأرَقْ



باب في الإعراب واللحن
أبو عُبَيدة قال‏:‏ مَرً الشِّعبيُّ بقَوْم من المَوالي يَتذاكرون النحوَ فقال لهم‏:‏ لئن أَصْلحتموه إنكم لأوَّل من أفسده‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ ليته سَمِع لحنَ صَفْوان وخالد بن صَفْوان وخاقان والفتح بن خاقان والوليدِ بن عبد الملك‏.‏
وقال عبد الملك بن مروان‏:‏ اللحنُ في الكلام أقبح من التَّفتيق في الثوب والجُدَريّ في الوجه‏.‏
وقيل له‏:‏ لقد عَجِل عليك الشيبُ يا أميرَ المؤمنين قال‏:‏ شَيَّبنى ارتقاءُ المنابر وتوقع اللحن‏.‏
وقال الحجَّاج لابن يَعْمَر‏:‏ أتَسمعني ألحن قال‏:‏ لا إلاّ أنه ربما سَبَقكَ لسانُك ببعضه في آن وآن قال‏:‏ فإذا كان ذلك فعَرِّفني‏.‏
وقال المأمون لأبي عليّ المعروف بأبي يَعْلى المِنْقريّ‏:‏ بلغني أنك أُمِّيّ وأنك لا تقيم الشِّعر وأنك تَلحن في كلامك فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أمّا الَّلحن فربما سَبَقني لساني بالشيء منه وأما الأمِّيَّة وكَسْر الشعر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أًمّياً وكان لا يُنشد الشعر قال المأمون‏:‏ سألتُك عن ثلاثة عيوب فيك فزدْتني عَيباً رابعاً وهو الجهل ياجاهل إنّ ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة وفيك وفي أمثالك نَقيصة وإنما مُنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لنَفْي الظِّنَّة عنه لا لِعَيب في الشِّعر والكتاب وقد قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذَا لارْتَابَ اْلمُبْطِلُونَ ‏"‏‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مروانً‏:‏ الإعراب جمالٌ للوَضِيع واللحن هُجْنة على الشَّرِيف‏.‏
وقال‏:‏ تَعلَّموا النحوَ كما تتعلّمون السًّنن والفرائض‏.‏
وقال رجلٌ للحسن‏:‏ إنَّ لنا إماماً يلحن قال‏:‏ أمِيطوه ‏"‏ عنكم فإن الإعراب حِلْية الكلام ‏"‏‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ النَّحوُ يَبْسُط من لسان الأَلْكن والمرءُ تُكْرمه إذا لم يَلْحَنِ فإذا طلبتَ من العُلوم أَجلَّها فأَجلُّها منها مُقِيم الألسن وقال آخر‏:‏ النَّحو صَعْب وطويل سُلًمه إذا ارتقى فيه الذي لا يَعْلمُهْ زَلَّتْ به إلى الحَضِيض قَدَمُه يُريدُ أن يُعْربه فَيُعْجِمه وقال رجل للحسن‏:‏ يا أبو سَعِيد فقال‏:‏ أحْسَبُ أنّ الدَّوانِق شَغَلتْك عن أن تقول‏:‏ يا أبا سعيد‏.‏
وكان عمرُ بنُ عبد العزيز جالساً عند الوليد بن عبد الملك وكان الوليد لَحَّاناً فقال‏:‏ ياغلام ادعُ لي صالح فقال الغلام‏:‏ ياصالحا قال له الوليد‏:‏ انُقص ألفاً فقال عمر‏:‏ وأنت يا أميرَ المؤمنين فزِدْ ألفاً‏.‏
ودخل على الوليد بن عبد الملك رجلٌ من أشراف قُريش فقال له الوليد‏:‏ من خَتَنَك قال له‏:‏ فلانٌ اليهودي فقال‏:‏ ما تقول ويحك‏!‏ قال‏:‏ لعلّك إنما تَسْأل عن خَتَني يا أمير المؤمنين هو فلان بن فلان‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مروان‏:‏ أضرّ بنا في الوليد حُبُّنا له فلم نُلْزمه البادية‏.‏
وقد يَستثقل الإعرابُ في بعض المواضع كما يستخفّ اللحنُ في بعضها‏.‏
وقال مالك بن أسماء بن خارجة الفَزاريّ‏:‏ منطقٌ بارعٌ وتَلحنُ أحيا ناً وخير الحديث ما كان لحنا وذلك أنه من حَكى نادرةً مُضحكة وأراد أن يُوفِّي حروفها حظَّها من الإعرِاب طَمس حُسنها وأَخرجها عن مِقدارها ألا ترى أن مُزَبِّدا المَدِينيّ أكل طَعاماَ فكظَّه فقيل له‏:‏ أَلا تَقِي قال‏:‏ وما أَقي خبز نقي ولحم طَرِي مَرَتي طالق لو وَجدت هذا فيئاً لأكلته‏.‏
قال‏:‏ وكذلك يُستقبح الإعراب في غير موضعه كما استُقبح من عيسى بن عمر إذ قال وابن هُبيرة وحُكي عن بعض المغربين في الَّلحن أن جارية له غنّته‏:‏ إذا ما سَمعتُ اللومَ فيها رفضته فَيَدْخل من أُذْنٍ ويَخرج مِن أُخرَى فقال لها‏:‏ مِن أُخرِى يا فاعلة أما علّمتِكٍ أن ‏"‏ من ‏"‏ تَخفض‏.‏
وقال رجل لشُرَيح‏:‏ ما تقول في رجل توفي وترك أباه وأخيه فقال له‏:‏ أباه وأخاه فقال‏:‏ كم لأباه وأخاه قال لأبيه وأخيه قال‏:‏ أنت علّمتني فما أصْنَع وقال بعضُ الشعراء وأَدرك عليه رجل من المُتفصّحين يقال له حَفْص لحناً في شِعْره وكان حَفْص به اختلاف في عَينيه وتَشويه في وجهه فقال فيه‏:‏ لقد كان في عَينيك يا حَفْصً شاغلٌ وأنفٌ كمِثْل الطَّود عما تَتَبَّع تَتَبّع لحناً من كلامٍ مُرَقَّش وخَلقْك مبْنيّ من اللَّحْن أَجمع فعينك إقواء وأنفك مكفأ ووجهك إبطاء فما فيك مرقع



باب في اللحن والتصحيف
وكان أبو حَنيفة لَحَّاناً على أنه كان في الفُتيا ولُطف النَظر واحدَ زمانه‏.‏
وسأله رجل يوماً فقال له‏:‏ ما تقول في رجل تناول صَخْرة فضرب بها رأسَ رجل فقَتله أتُقيده به قال‏:‏ لا ولو وكان بِشْر المَرِيسيّ يقول لجلسائه‏:‏ قَضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجُوه وأهنؤها فسمع قاسم التَّمّار قوماً يَضْحكون فقال‏:‏ هذا كما قال الشاعر‏:‏ إنّ سليمى واللّهُ يَكْلؤها ضنَّت بشيء ما كان يَرْزَؤها وبِشر المَرِيسيّ رأْس في الرأْي وقاسم التَّمّار مُتقدم في أصحاب الكلام واحتجاجُه لبِشر أعجبُ من لَحْن بِشر‏.‏
ودخل شَبِيب بن شَيبة على إسحاق بن عيسى يُعزِّيه عن طِفْل أُصِيب به فقال في بعض كلامه‏:‏ أَصْلح الله الأمير إنّ الطفل لا يزال مُحْبنظيا على باب الجنة يقول‏:‏ لا أدْخل حتى يَدخل أبواي قال إسحاق بن عيسى‏:‏ سبحان اللّه‏!‏ ماذا جئتَ به إنما هو مُحْبنطى أما سمعتَ قول الراجز‏:‏ إني إذا أنشدتُ لا أَحبنطي ولا أُحِبُّ كثرةَ التمطِّي قال شَبيب‏:‏ ألي يقال مثل هذا وما بين لا بتَيها أعلم مني بها فقال له إسحاق‏:‏ وهذه أيضاً أللبصرةَ لابتان يالُكع فأبان بتَقريعه عَوَاره فأخجله فسكت‏.‏
قوله المُحبنطي‏:‏ المُمتنع امتناع طلب لا امتناع إباء وهو بالطاء غير معجمة ورواه شبيب بالظاء المعجمة‏.‏
وقوله ما بين لا بتَيْها خطأ إذ ليس للبصرة لابتان وإنما اللابة للمدينة نوادر من الكلام يقال‏:‏ ماء نُقاخ للماء العذب وماء فُرات وهو أعذب العذب وماء قُعَاع وهو شديد المُلوحة وماء حُراق وهو الذي يَحرق من مُلوحته وماء شرُوب وهو دون العَذب قليلاً وماء مَسُوس وهو دون الشَرُوب وماء شَريب وهو العذب‏.‏
اجتمع المُفضَّل الضّبي وعبدُ الملك بن قرَيب الأصمعي فأنشد المُفضل‏:‏ تُصْمت بالملك تَوْلباً جَذَعا فقال له الأسمعي‏:‏ تولباً جَدِعاً والجَدِع‏:‏ السيء الغذاء‏.‏
فضَجَّ المفَضّل وأَكثر فقال له الأصمعي‏:‏ لو نَفخت في الشَّبُّور ما نفعك تكلّم بكلام الئمل وأَصِب‏.‏
وقال مروان بن أبي حَفْصة في قوم من رُواة الشعر لا يعَلمون ما هو على كثرة استكثارهم من روايته‏:‏ زَوامل للأشعار لا عِلْم عندهم بجيِّدها إلاِّ كعِلْم الأباعرِ لَعمرك ما يَدْري البَعير إذا غدا بأوْساقه أو راح ما في الغرائر



باب نوادر من النحو
وإنَّ كِلاباً هذه عَشْر أَبطُنٍ وأنت بَرِىء من قَبائلها العَشْرِ قال‏:‏ فجعلتُ أعجب من قوله عَشْرَ أَبطُن ‏"‏ حيث أنث لأنه عَنَى القبيلة ‏"‏ فلما رأَى عَجبي قال‏:‏ أليس هكذا قولُ الآخر‏:‏ وكان مِجَنّي دون من كنتُ أَتَّقي ثلاثُ شُخوص كاعبان ومُعْصرُ وقال أبو زيد قلتُ للخليل‏:‏ لم قالوا في تَصْغير واصل‏:‏ أو يصل ولم يقولوا وُوَيصل قال‏:‏ كرهوا أن يُشبه كلامُهم بنبح الكلاب‏.‏
وقال أبو الأسود الدُّؤَلي‏:‏ من العرب من يقول‏:‏ لولاى لكان كذا وكذا‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ وكم مَوطنٍ لولاي طِحْتَ كما هَوي بأَجْرامه من قنّة النِّيق مُنْهوِي وكذلكَ لولا أنتم ولولاكم ابتداءٌ وخبره محذوف‏.‏
وقال أبو زيد‏:‏ وراء وقُدَّام لا يصرفان لأنهما مؤنثان وتَصغير قدَّام قُدَّيْدمة وتصغير وراء وُرَيِّئة وقدَّام خمسة أحرف لأن الدال مشدَّدة‏:‏ فأسقطوا الألف لأنها زائدة ولئلا يُصغر اسم على خمسة أحرف‏.‏
أبو حاتم قال‏:‏ يقال أمٌّ بيِّنة الأمومة‏:‏ وعمٌّ بين العُمومة‏.‏
ويقال‏:‏ مَأموم إِذ شُج أم رأسه‏.‏
ورجل مَمُوم‏:‏ إذأ أصابه المُوم‏.‏
وقال المازنيّ‏.‏
يقال في حَسب الرجل أُرْفة ووَصمة وابنة وكذلك يقال للعصا إذا كان فيها عيب‏.‏
ويقال‏:‏ قذِيَت عينهُ إذا أصاجها الرَّمد‏.‏
وقد يقال في التقديم والتأخير مثلُ قول الشاعر‏:‏ شَرَّ يوميها وأغواه لها رَكِبتْ عَنْز بحِدْج حَملاَ يريد‏:‏ ركبت عَنْز ‏"‏ بحِدْج جملا في شرِّ يوميها‏:‏ نصب لأنه ظرف‏.‏
وقد يُسمى الشيء باسم الشيء إذا جاوره‏.‏
قال الفرزدق‏:‏ أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قَمراها والنجومُ الطَّوالعُ قوله‏:‏ لنا قَمراها‏:‏ يريد الشمس والقمر‏.‏
وكذلك قولُ الناس في العُمرين‏:‏ أبي بكر وعمر‏.‏
الرِّياشي‏:‏ يقال أخذ قِضِّتها وكُعْبتها إذا أخذ عُذرتها‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ المَعيون الذي ليس له منظر ولا مخبر والمَعين - الذي قد أصيب بالعين‏.‏
والمعين‏:‏ الماء الظاهر‏.‏
أبو عُبيدة قال‏:‏ سمعت رُؤبة يقول‏:‏ أباريق يريد على الريق‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ لقي أبو عمرو بن العلاء عيسى بن عمر‏.‏
فقال له‏:‏ كيف رَحْلك قال‏:‏ ما تزداد إلا مثَالة قال‏:‏ فما هذه المَعيوراء التي تَرْكض يريد ما هذه الحمير التي تَركب‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ إنما يُقال‏:‏ اقرأ عليه السلام‏.‏
وأنشد‏:‏ اقرأ على عَصْر الشَّباب تحية وإذا لقيتَ دداً فَقطْنى من دَدِ وقال الفرزدق‏:‏ وما سبق القيسيُّ من ضَعف عَقله ولكن طَفَت عَلْماء قُلْفة خالدِ ‏"‏ أراد‏:‏ على الماء فحذف ‏"‏‏.‏
وهذا آخر كتاب سيبويه‏.‏
وقال بعض الورَّاقين‏:‏ رأيتُ يا حمَّاد في الصَّيد أرانباً تؤخذ بالأيْدِي إن ذَوي النَّحو لهم أنفسٌ مَعروفة بالمَكْر والكيد يَضرب عبد الله زيداً وما يُريد عبد الله من زيد وأنشد أبو زيد الأنصاري‏:‏ يا قرطَ قُرْطَ حُيَيّ لا أبالكمُ ياقُرطُ إنّي عليكم خائفٌ حَذرُ قُلتُمٍ له اهجُ تَميماً لا أبا لكم في فَم قائِل هذا التُّرابُ والحَجَر فإن بيتَ تميم ذو سمعتَ به بيتٌ به رَأست في عِزِّها مُضر ذو هنا في مكان الذي لا يتغيّر عن حاله في جميع الإعراب‏.‏
وهذه لغة طيء تجعل ذو في مكان الذي‏.‏
حُبًّ المُدَامة ذو سمعتَ به لم يُبق فيّ لغيرها فَضلاَ وبعضُ العرب يقول‏:‏ لا أباك في مكان لا أبا لك ‏"‏ ولأن أبا لك ‏"‏ مضاف‏.‏
لذلك بقيت الألف ولو كانت غير مُعربة لقلت‏:‏ لا أبَ لك بغير ألف‏:‏ وليس في الإضافة شيء يُشبه هذا لأنه حالَ بين المُضاف والمضاف إليه وقال الشاعر‏:‏ أبالموت الذي لا بدُ أني مًلاقٍ لا أباكِ تُخَوِّفينِي وقال آخر‏:‏ وقد مات شَمَّاح ومات مُزَرِّد وأَيّ كريم لا أباكِ يُخلَّدُ وأنشد الفرَّاء لابن مالك العُقيليّ‏:‏ إذا أنا لم أُومَن عليك ولم يَكُن لقاؤُك إلا من وراءُ وراءُ هذا مثل قولهم‏:‏ بين بين‏.‏
وقال محمود الوراق‏:‏ مزَج للصدودُ وصالهنّ فكان أمراً بَيْنَ بَيْنَ وقال الفرزدق‏:‏ وإذا الرّجال رأوا يزيدَ رأيتهم خُضُعَ الرِّقاب نواكسَ الأبصارِ قال أبو العبّاس محمد بن يزيد النَّحويّ‏:‏ في هذا البيت شيء مُسْتطرف عند أهل النَّحو‏.‏
وذلك أنه جمع فاعل على فواعل وإذا كان هكَذا لم يكن بين المُذكر والمُؤنث فَرْق لأنك تقول‏:‏ ضاربة وضوارب ولا يقال في المذكر فواعل إلا في موضعين وذلك قولهم‏:‏ فوارس وهوالك ولكنّه اضطر في الشّعر فأخرجه عن الأصل ولولا الضرورة ما جاز له‏.‏
وقال أبو غَسَّان ‏"‏ رَفيع بن سَلَمة ‏"‏ تلميِذ أبي عُبيدة ‏"‏ المعروف بدَمَاذ يخاطب أبا عثمان النحويَّ المازنيّ ‏"‏‏:‏ تَفكَّرْتُ في النَّحو حتى مَلِل تُ وأَتعبتُ نفسي له والبَدنْ وأتعبْت بَكْراً وأصحابَه بكلّ المَسائل في كلّ فَن سِوَى أنَّ باباً عليه العَفا ءُ لِلْفاء ياليتَهُ لم يَكُن فكنتُ بظاهره عالماً وكنتُ بباطِنه ذا فَطَن وللواو بابٌ إلى جَنْبه من المَقْت أحسبُهُ قد لُعن إذا قلتُ هاتُوا لما يُقا ل لستُ بآتيك أو تَأتين ‏"‏ أَجِيبُوا لما قِيلَ هذا كذا على النَّصب قالُوا لإضمارِ أن وما إنْ رأيتُ لها مَوْضعاً فأَعْرفَ ما قِيلَ إلاّ بفن

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:51 AM

باب التماس الرزق وما يعود على الأهل والولد
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ العائد على أهْله ووَلده كالمُجاهد المُرابط في سَبِيل اللّه‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ اليد العُلْيَا خَيْرٌ من اليد السُّفلى وابدأ ‏"‏ بنَفْسك ثم ‏"‏ بمَنْ تَعُول‏.‏
وقال عمرُ بن الخَطّاب‏:‏ لا يَقْعُدْ أحدُكمِ عن طَلب الرِّزق ويقول‏:‏ اللهم ارزُقْني وقد عَلِم أن السَّماءَ لا تُمْطِرُ ذَهَباً ولا فِضة وإنّ الله تعالى إنما يَرْزق الناسَ بعضهم من بعض وتلا قولَ الله جلّ وعلا‏:‏ ‏"‏ فإذا قُضيت الصَلاةُ فانتشروا في الأرْض وأبْتَغُوا مِنْ فَضْل الله واذْكُرُوا الله كثيراً لَعَلَّكُم تُفلحُون ‏"‏‏.‏
وقال محمدُ بن إدريس الشَافعي‏:‏ احرصْ على ما يَنفعك ودَعْ كلامَ الناس فإنّه لا سَبيل إلى السَّلامة من ألْسنة العامّة‏.‏
ومثلُه قولُ مالك بن دِينار‏:‏ مَن عَرف نَفْسَه لم يَضِرْه ما قال الناسُ فيه‏.‏
وقال كطاهر بن عبد العزيز‏:‏ أَخبرنا علي بن عبد العزيز قال‏:‏ أَنشدنا أبو عُبيد القاسم بن سَلام‏:‏ لا يَنْقص الكاملَ مِن كماله ما ساقَ مِن خير إلى عِيالِه وقال عمرُ بن الخطّاب ‏"‏ رضى الله عنه ‏"‏‏:‏ يا معشرَ القُرَّاء التًمسوا الرِّزْق ولا تَكُونوا عالةً على الناس‏.‏
وقال أكثمُ بن صَيْفيّ‏:‏ مَن ضَيَّع زاده اتَكل على زادِ غيره‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ خَيْركم مَن لم يَدَع آخرتَه لدُنْياه ولا دُنياه لآخرته‏.‏
وقال عمرو بن العاص‏:‏ اعمل لدُنياكَ عَمل من يَعيش أبداً واعمل لآخرتك عمل من يموت غداً‏.‏
وذُكر رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهادِ في العِبادة والقُوَّة على العمل وقالوا‏:‏ صَحِبْناه في سَفر فما رأينا بعدك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعبَدَ منه كان لا يَنْفتل من صلاة ولا يُفْطر من صيام‏.‏
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فمن كان يَمُونه ويَقُوم به قالوا‏:‏ كلّنا قال‏:‏ كلُّكم أعبدُ منه‏.‏
ومَرّ المسيحُ برجل من بني إسرائيل يتعبّد فقال‏:‏ ما تصنع قال‏:‏ أتعبد قال‏:‏ ومَن يقوم بك قال‏:‏ أخي قال‏:‏ أخوك أعبدُ منك‏.‏
وقد جعل الله طَلَب الرِّزق مَفْروضا على الخَلْقِ كلّه من الإنس والجنّ والطير والهوام منهم بتَعْليم ومنهم بإلهام وأهلُ التَّحصيل والنَظر ‏"‏ من الناس ‏"‏ يَطْلبونه بأحسن وُجوهه من التصرف والتَحرز وأهلُ العَجْز والكسل يَطْلبونه بأقْبح وجوهه من السؤال والاتكال والخِلابة والاحتيال‏.‏



باب في فضل المال
قال الله تعالى ‏"‏ المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدًّنْيَا والْبَاقِيَاتً الصالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيرٌ أَمَلاً ‏"‏‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمُجاشِعيّ‏:‏ إن كان لك مال فلك حسَب وإن كان لك خُلًق فلك مُروءة وإن كان لك دِين فلك كَرم‏.‏
وقال عمرُ بن الخطّاب‏:‏ حَسَب الرجل مالُه وكرَمه دِينه ومُروءته خُلُقُه‏.‏
وفي كتاب الأدب للجاحظ‏:‏ اعلم أنّ تَثْمير المال آلةٌ للمكارم وعَوْنٌ على الدِّين وتأليف للإخوان وأنّ مَن فَقد المالَ قَلَت الرَّغبةُ إليه والرَّهبة منه ومَن لم يكن بمَوْضع رَغْبة ولا رَهْبة استهان الناسُ به فاجْهَد جَهْدك كلًه في أَنْ تكُون القلوبُ مُعَلَّقة منك برَغْبة أو رَهْبة في دِبن أو دُنيا‏.‏
وقال حكيم لابنه‏:‏ يا بُنيّ عليك بطَلَب المال فلو لم يكن فيه إلاّ أنّه عِزٌّ في قَلْبك وذُلٌ في قلب عدوّك لكفي‏.‏
وقال عبدُ الله بن عبّاس‏:‏ الدُّنيا العافية والشَّباب الصِّحة والمُروءة الصبر والكرِم التَّقْوى والحَسَب المال‏.‏
وكان سعدُ بن عُبادة يقول‏:‏ اللهم ارزقني جِدّاً ومَجداَ فإنه لا مَجد إلا بفعَال ولا فَعال إلا بمال‏.‏
وقالت الحُكماء‏:‏ لا خيرَ فيمن لا يَجْمع المالَ يَصون به عرْضه ويَحْمي به مُروءته ويَصِل به رَحِمه‏.‏
وقال عبد الرحمن بن عَوْف‏:‏ يا حَبذا المالُ أصونُ به عِرْضي وأتقربُ به إلى ربِّي وقال سُفْيان الثَّوْرِيّ‏:‏ المالُ سِلاح المُؤمن في هذا الزمان‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ نِعْمَ العَوْنُ على طاعة الله الغِنى ونعَم السُّلَّم إلى طاعة الله الغنى وتَلا ‏"‏ وَلَوْ أنَهم أقامُوا التَّوْراةَ وَالإنجِيلَ وَما أنْزِلَ إِليهم مِن ربِّهم لأكًلُوا مِنْ فَوْقهم وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهم ‏"‏ وقولَه‏:‏ ‏"‏ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ‏.‏
وقال خالدُ بن صفْوان لابنه‏:‏ يا بُنَيَّ أوصيك باثنتين لن تزال بخَيْر ما تمسَّكت بهما‏:‏ درْهمك لمعاشك ودِينك لمعادك‏.‏
وقال عُروة بن الوَرد‏:‏ ذَرِيني للغِنَى أسعى فإنِّي رأيتُ النَّاسَ شَرّهُم الفقيرُ وأحقَرُهم وأهونُهم عليهم وإنْ أمسى له حَسب وخِير يُباعده القريبُ وتَزْدرِيه حَلِيلتُه ويَنْهره الصَّغير وتُلْفِي ذا الغنى وله جَلالٌ يكاد فؤادُ صاحبه يَطير قلِيل ذَنْبُه وَالذنْبُ جم ولكنْ لِلْغَني رَبٌّ غَفور قَلِيلٌ ذَنْبُه وَالذَّنْبُ جم ولكنْ لِلْغَنِي رَبُّ غَفور سأكسبُ مالاً أو أموتَ ببَلدة يَقِلُ بها قَطْرُ الدًّموع على قَبْرِي وقال آخر‏:‏ سأعْمل نَصَّ العِيس حتى يَكُفَّني غِنَى المال يوماً أو غِنَى الْحَدَثانِ فَللْموتُ خيرٌ من حياة يُرى بهاَ على المَرْء بالإقلال وَسْمُ هَوَانِ إذا قال لم يُسْمع لِحُسْن مَقاله وإن لم يَقُل قالوا عَدِيمُ بَيَانِ كأنّ الغِنَى عن أهْله - بُورك الغِنَى - بغَيْرِ لِسانٍ ناطقٌ بلسانِ الرِّياشيّ قال‏:‏ أنشدنا أبو بكر بن عَيَّاش‏:‏ حيْران يَعلم أنّ المالَ ساقَ له ما لم يَسُقْهُ له دِينٌ ولا خُلقُ لولا ثلاثون ألفاً سُقْتها بِدَراً إلى ثلاثين ألفاً ضاقت الطُرق فمن يَكُن عن كرام الناس يَسْألني فأكْرم الناس مَن كانت له وَرِق وقال آخر‏:‏ أجلّكَ قوم حين صِرْتَ إلى الغِنَى وكلُّ غَني في العُيون جَلِيلُ ولو كنتَ ذا عقل ولم تُؤْتَ ثروَةً ذَلَلْت لدًيهم والفقيرُ ذليل فشرًّف ذَوِي الأموال حيثُ لَقِيتَهم فقَوْلهُمُ قَوْلٌ وَفِعْلُهم فِعْلُ وأنشد أبو مُحَلَم لرجل من وَلد ‏"‏ طَلِبَة بن ‏"‏ قَيسى بن عاصم‏:‏ وكنتُ إذا خاصمتُ خَصماً كبَبْتُه على الوَجْه حتى خاصَمَتْني الدَّرَاهمُ فلمّا تنازعنا الخُصومة غُلِّبت عليّ وقالوا قُمْ فإنّك ظالم وأنشد الرِّياشي‏:‏ لم يَبْقَ مِن طَلب الغِنَى إلا التَّعَرضُ للحُتُوف فَلأَقْذِفَنَّ بمًهْجَتي بين الأسِنَّة والسيوف ولأطْلُبَنَّ ولو رَأيتُ الموتَ يلمعُ في الصُّفوف وكان لأحَيْحَة بن الجُلاَح بالزَّوْراء ثلثمائة ناضح فَدَخَل بستاناً له فمرَّ بتَمْرة فَلَقطها فعُوتب في ذلك فقال‏:‏ تمْرَة إلى تَمرة تَمرات وجَمل إلى جَمل ذَوْد‏.‏
ثم أنشأ يقول‏:‏ إني مُقيم على الزَّوْراء أعمرُها إنّ الحبيب إلى الإخوان ذو المال فلا يَغُرَّنك ذو قُرْبى وذو نَسب من ابن عمّ ومن عمٍ ومن خال كلّ النداء إذا ناديتُ يَخْذًلني إلا نِدَائي إذا ناديتُ يا مالي قالوا نأيتَ عن الإخوان قلتُ لهم مالِي أخٌ غَير ما تًطْوَى عليه يَدِي ‏"‏ كان الرُّمَاحِس بن حَفْصة بن قَيْس وابن عمِّ له يُدْعى رَبيعة بن الوَرْد يَسْكًنان الارْدُن وكان رَبيعة بن الوَرْد مُوسِراً والرُّمَاحسُ مُعْسِراً كثيراً ما يَشْكو إليه الحاجة ويَعْطف عليه ربيعةُ بعضَ العَطْف فلما أكثر عليه كَتب إليه‏:‏ إِذَا المَرْء لم يَطْلُب مَعاشاً لنَفْسه شكاَ الفَقْرَ أوْ لامَ الصَّدَيقَ فأكْثرا وصار عَلَى الأدنين كَلاًّ وأوشَكت صِلاتُ ذَوي القرْبىَ له أن تَنَكَرا فَسِرْ في بِلاد الله والتَمس الغنَى تَعِشْ ذا يَسَارٍ أو تموتَ فَتُعْذَرا فما طالبُ الحاجات مِنْ حيثُ تبتغى من المال إلا مَنْ أََجدَّ وشَمَّرا ولا تَرْضَ مِنْ عَيْش بدُونٍ ولا تَنمَ وكيف يَنام الليلَ من كان مُعْسرا وقال بعضُ الُحَكَماء‏:‏ المالُ يُوَقَر الدنئ والفَقْر يُذِل السَنيّ‏.‏
وأنشد‏:‏ أرَى ذا الغِنَى في النَّاس يَسْعَون حولِه فإِنْ قال قولا تَابَعُوه وصدَقُوا فذلك دَأْبُ النَّاس ما كان ذا غِنَى فإنْ زال عنه المال يومًا تَفَرقوا وأنشد‏:‏ ما النَّاس إلا مع الدُّنيا وصاحبها فحيثُما انقلبتْ يوماً به انقلَبُوا صنوف المال قال مُعاوية لصَعْصعة بن صُوحان‏:‏ إنما أنت هاتِف بلسانك لا تَنْظُر في أود الكلام ولا في استقامته فإن كنتَ تَنْظُر في ذلك فأخْبرني عن أفضل المال‏.‏
فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين إني لأدع الكلامَ حتى يَخْتمر في صَدْرِي فما أرْهِف به ولا أتَلَهَق فيه حتى أقيم أوده وأحَرِّر مَتْنه‏.‏
وإنّ أفضلَ المال لبرة سَمْراء في تُرْبة غَبْراء أو نَعْجَة صَفْراء في رَوْضة خضراء أو عَينْ خَرَّارة في أرض خَوَّارة‏.‏
قال معاوية‏:‏ للّه أنتَ‏!‏ فأين الذِّهب والفِضِّة قال‏:‏ حَجَران يَصْطَكان إن أقبلتَ عليِهما نَفدا وإن تركتَهما لم يزيدا‏.‏
وقيل لأعرابيَّة‏:‏ ما تَقُولين في مائة من المَعز قالتِ‏:‏ قني قيل لها‏:‏ فمائة من الضّأن قالت‏:‏ غِنَى قيل لها‏:‏ فمائة من الإبل قالت‏:‏ مُنَى‏.‏
وقال عبدُ الله بن الحسن‏:‏ غَلّةُ الدُور مسألة وغَلّة النَّخل كَفاف وغَلة الحَبّ مِلْك‏.‏
وفي الحديث‏:‏ أفْضل أموالكم فَرَسٌ في بَطْنها فرس يَتْبعها فرس وعَينْ ساهرة لعَيْن نائمة‏.‏
وأنشد فَرج بن سلام لبعض العِراقيّين‏:‏ ولقد أقولُ لحاجب نُصْحاً له خَلِّ العُروض وبِعْ لنا أرْضا إني رأيتُ الأرض يَبقى نَفْعُها والمال يأكل بعضه بعضا واحذَرْ أناساً يظْهرون محبَّة وعُيونُهم وقُلوبُهم مَرْضىَ تدبير المال قالوا‏:‏ ‏"‏ لا مالَ ‏"‏ لأخرَق ولا عَيْلة على مُصلح وخيرُ المال ما أطعمك لا ما أطعمتَه‏.‏
وقال صاحبُ كليلة ودِمْنة‏:‏ لِيُنْفِق ذو المال مالَه في ثلاثة مواضع‏:‏ في الصَّدقة إن أراد الآخرةَ وفي مُصانعة السُّلطان إن أراد الذِّكْر وفي النِّساء إن أراد ‏"‏ نَعيم ‏"‏ العيش‏.‏
وقال‏:‏ إنّ صاحبَ الدنيا يَطْلب ثلاثة ولا يُدْركها إلاّ بأربعة فأما الثلاثة التي تُطلب‏:‏ فالسَّعة في المعيشة والمنزلة في النَّاس والزاد إلى الآخرة‏.‏
وأما الأربعة التي تُدرك بها هذه الثلاثة‏:‏ فاكتساب المال من أحسن وُجوهه وحُسْن القيام عليه ثم التَّثْمير له ثمّ إنْفاقه فيما يُصْلِح المَعِيشةَ ويُرْضى الأهلَ والإخوان ويَعًود في الآخرة نَفْعه فإن أضاع شيئاً من هذه الأربعة لم يُدْرك شيئاً من هذه الثلاثة إن لم يَكْتسب لم يكنْ له مالٌ يِعيش به وإنْ كان ذا مال واكتسابِ ولم يُحسن القيامَ عليه يُوشِك أن يَفْنى ويَبْقى بلا مال وإن هو أَنْفقَه ولم يُثَمِّره لم تمنعَه قِلّةُ الإنفاق من سُرْعة النَّفاد كالكُحْل الذي إنما يُؤخذ منه على المِيل مثلُ الغبار ثم هو مع ذلك سرَيعٌ نفادُه وإن هو اكتَسب وأَصْلح وثَمِّر ولمِ يُنفق الأموالَ في أبوابها كان بمنزلة الفقير الذي لا مالَ له ثم لا يَمنع ذلك مالَه من أن يُفارقَه ويَذهب حيثُ لا مَنْفعة فيه كحابس الماء في المَوْضع الذي تَنْصَبّ فيه المياه إن لم يَخْرج منه بقَدْر ما يَدْخل فيه مَصَل وسال من نواحيه فيَذْهب الماء ضَياعا‏.‏
وهذا نظير قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ والذينَ إِذَا أَنْفَقُوا لمْ يُسْرِفوا ولَم يَقْتُرُوا وَكانَ بَين ذلِكَ قَوَاماً ‏"‏ و وقولِه عز وجلّ لنبيّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وَلا تجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كلً البسطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ‏"‏‏.‏
ونظر عبد اللهّ بن عباس إلى دِرْهم بيد رَجُل فقال له‏:‏ إنه ليس لك حتى يَخْرُج من يدك‏.‏
يريد أنه لا ينتفعُ به حتى يُنْفِقَه ويَسْتفيد غيرَه مكانَه‏.‏
وقال الحُطَيئة‏:‏ مفيد ومِتْلاف إذا ما سألتَه تَهلَّل وأهتزّ اهتزازَ المُهَنّدَ وقال مُسْلِم بن الوَليد‏:‏ لا يَعْرِف المالَ إلا رَيْثَ يُنْفِقه أو يومَ يَجْمعه للنَّهب والبَدَدِ وقال آخر‏:‏ مُهْلِكُ مالٍ ومُفِيدُ مال وقال سُفْيان الثَّوْرِيّ‏:‏ مَن كان في يده شيءٌ فَلْيُصْلِحْه فإنّه في زمان إن احتاجَ فيه كان أولَ ما يَبْذُله دينُه‏.‏
وقال المُتلَمِّس‏:‏ وحَبْسُ المال أَيْسَرُ من بُغَاهُ وضَرْب في البِلادِ بغَيْر زاد سَعْد القَصِير قال‏:‏ وَلاّني عُتْبة أموالَه بالحِجاز فلما ودّعته قال لي‏:‏ يا سَعْد تعاهدْ صغير مالي ‏"‏ فَيَكْثُرَ ‏"‏ ولا تُضيِّع كثيرَه فَيَصْغُر فإنه ليس يَشْغلني كثير مالي عن إصلاح قَليله ولا يَمْنعني قليلُ ما في يدي عن الصبر على كثير مما يَنُوبني‏.‏
قال‏:‏ فقَدمْت المدينةَ فحدّثت بها رجالاتِ قُريش ففرَّقوا بها الكُتب على الوُكلاء‏.‏
الإقلال قال أَرِسْططاليس‏:‏ الغِنَى في الغُرْبة وَطَن والمقلّ في أهله غريب‏.‏
أخذه الشاعرُ فقال‏:‏ لَعَمْرُك ما الغريبُ بذي التنائي ولكنّ المُقِلَّ هو الغريبُ إذا ما المرء أَعْوزَ ضاقَ ذَرْعاَ بحاجته وأَبعدَه القريب وقال إبراهيمُ الشَّيباني‏:‏ رأيتُ في جدار من جُدًر بيت المقدس ‏"‏ بيتين مكتوبين بالذَّهب‏:‏ وكُلّ مُقلٍّ حين يَغْدو لحاجةٍ إلى كُل مَن يَلْقى من النَّاس مُذْنِبُ وكان بَنُو عَمِّي يقولون مَرْحباً فلمّا رأوْني مُقْتِراً مات مَرْحب ومِن قَوْلنا في هذا المعنى‏:‏ اقد أسْقطتْ حقّي عليك صَبابتي كما أسْقط الإفْلاسُ حقَّ غَرِيم وأعذَرُ ما أدمى الجُفُونَ من البُكا كريمٌ رأى الدًّنيا بكفِّ لَئِيم أرى كلّ فَدْمٍ قد تَبَحْبَح في الغِنَى وذو الظَّرف لا تَلْقاه غيرَ عَديم قال الحسن بن هانئ‏:‏ الحمدُ للّه لَيس لي نَشَبٌ فَخَفَّ ظَهْري ومَلَّني وَلدِي مَن نَظَرتْ عَيْنُه إليّ فَقَد أحاطَ عِلْماً بما حَوَته يَدِي وكان أبو الشَمَقْمق الشاعر أديباً ظريفاً محارفاً صُعْلوكاً مُتبرَماً قد لَزم بيتَه في أطْمار مَسْحوقة وكان إذا استَفْتح عليه أحدٌ بابَه خرج فَنَظر من فُرَج الباب فإن أعجبه الواقفُ فَتح له وإلا سَكَت عنه‏.‏
فأقبل إليه بعضُ إخوانه فدخل عليه فلما رأى سُوء حاله قال له‏:‏ أبْشر أبا الشَّمَقْمق فإنّا رَوَينا في بَعض الحديث أنّ العارين في الدنيا هم الكاسُون يومَ القيامة‏.‏
قال‏:‏ إن كان والله ما تقول حقًّا لأكونَنَّ بَزَازاً يوم القيامة ثم أنشأ يقول‏:‏ أنا في حالٍ تعالى الله ربِّي أيّ حالِ ولقد أهزلت حتى محت الشَّمسُ خَيالي مَن رَأى شَيْئاً مُحالاَ فأنَا عَين المحال ولقد أفلستُ حتّى حَلَّ أكلي لِعيَالَي في حِرام النَّاس طُرًّا مِن نِسَاء ورجال لو أرَى في النَّاس حُرًّا لَم أكنْ في ذا المِثَال وقال أيضاً‏:‏ أتُراني أرَى من الدَّهر يوماً ليَ فيه مَطِيَّة غيرُ رِجْلي ًكلّما كُنتُ في جَميع فقالوِا قًرِّبُوا للرَّحيل قَرًبتُ نَعْلِى حيثُما كنت لا أخَلِّف رَحْلا مَن رآني فقد رآني ورَحْلي وقال أيضاً‏:‏ لو قد رأيتَ سَرِيري كنتَ تَرْحمني الله يَعلم ما لي فيه تَلْبيسُ واللّه يَعلم ما لي فيه شابكةٌ إلا الحَصيرة والأطْمار والدِّيسُ وقال أيضاً‏:‏ بَرَزت من المَنازل والقِباب فلم يَعْسُر على أحدٍ حِجَابي فمنزليَ الفضاءُ وَسقفُ بَيْتي سماءُ الله أو قِطَع السَّحاب ولا انشَقَّ الثرى عن عُود تَخْتٍ أؤمِّل أنْ أشُدّ به ثِيابي ولا خِفتُ الإبَاقَ على عَبِيدي ولا خِفْتُ الهلاك على دَوَابي ولا حاسَبْتُ يوماً قَهْرماناً مُحاسبةً فأَغْلَظ في حِسابي وفي ذا راحةٌ وفَراغُ بالٍ فَدابُ الدَّهرِ ذا أبداً ودَابي وفي كتاب للهِنْد‏:‏ ما التَّبَع والإخْوان والأهلُ والأصدقاء والأعوان والحَشم إلا مع المال وما أرى المُروءة يُظهرها إلا المال ولا الرّأيَ والقُوّة إلا بالمال ووجدتُ مَن لا مَالَ له إذا أراد أن يتناول أمراً قَعد به العُدْم فيبقى مقَصرأً عما أراد كالماء الذي يَبْقى في الأوْدية من مَطر الصَّيف فلا يَجْري إلى بحر ولا نهر بل يَبْقى مكانَه حتى تَنشَفَه الأرضُ ووجدتُ مَن لا إخوانَ له لا أهلَ له ومَن لا وَلد له لا ذِكر له ومَن لا عَقْل له لا دُنيا له ولا آخرةَ له ومَن لا مال له لا شيءَ له لأن الرجل إذا افتقر رَفَضَه إخوانُه وقَطعه ذوو رَحمه وربما اضطرتْه الحاجة لِنفْسه وعياله إلى التماس الرِّزق بما يُغَرِّر فيه بدينه ودُنياه فإذا هو قد خَسِر الدُّنيا والآخرةَ فلا شيء أشدُّ من الفقر‏.‏
والشَّجَرةُ النابتة على الطريق المأْكولة من كلِّ جانب أمثلُ حالاً من الفقير المُحتاج إلى ما في أيْدي الناس والفَقرُ داعٍ صاحِبَه إلى مقْت الناس ومُتْلِف للعَقْل والمُروءة ومُذْهب لِلعلْم والأدب ومَعْدن للتُّهمة ومَجْمَع للبَلايا‏.‏
ووجدتُ الرجلَ إذا افتقر أساء به الظنَّ مَن كان له مُؤْتمناً وليس مِن خَصلة هي للغنيِّ مَدْح وزَيْن إلا وهي للفَقِير ذَمٌ وشَيْن فإن كان شُجاعاً قيل أهْوج وإن كان جَواداَ قيل مُفْسد وإن كان حَليماً قيل ضَعيف وإن كان وَقُوراً قيل بليد وإن كان صَمُوتاً قيل عَي وإن كان بليغاً قيل مِهْذار‏.‏
فالموت أهونُ من الفقر الذي يَضْطر صاحبَه إلى المسألة ولا سيَّما مسألة اللئام فإنَّ الكريم ‏"‏ لو كُلِّفَ ‏"‏ أن يدخل يده في فَم تنِّين ويْخرجَ منه سُمًّا فيَبْتَلِعَه كان أخفَّ عليه من مسألة ‏"‏ البَخيل اللئيم‏.‏
السؤال قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لأنْ يأخذ أحدُكم أحْبُلَه فَيَحْتطب بها على ظَهره أهونُ عليه من أن يَأتيَ رجلاً أعطاهُ اللهّ من فَضْله فيسأله أعْطاه أو منعه‏.‏
وقال‏:‏ مَن فَتح علٍى نفسه باباً من السًّؤال فَح الله عليه سَبْعين باباً من الفَقر‏.‏
وقال أكثم بن صَيْفِيّ‏:‏ كلّ سُؤال وإن قَلَّ أكثرُ منِ كلّ نَوَال وإن جَلَّ‏.‏
ورَأى عليُّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجهَه رجلا يَسأل بعَرفات فقَنَّعَه بالسَّوط وقال‏:‏ وَيلك‏!‏ أفي مِثل هذا اليوم تَسأل أحداً غيرَ اللّه وقال عبدُ الله بن عباس‏:‏ المساكينُ لا يَعُودون مَريضاً ولا يَشْهَدُون جِنازةً ولا يَحْضُرُون جُمعة وإذا اجتمع الناسُ في أعيادهم ومَساجدهم يَسألون الله منِ فَضْلِه اجتمعُوا يسألون الناسَ ما في أيديهم‏.‏
وقال النّعمان بن النُذر‏:‏ مَن سأل فوْق حَقِّه استحقَّ الحِرْمان ومَن أَلْحَف في مَسْألته استحقَّ المَطْل والرِّفق يُمْن والخُرْق شُؤْم وخَير السَّخاء ما وافق الحاجة وخَير العَفْو مع المَقْدِرة‏.‏
وقال شُرَيح‏:‏ مَن سأل حاجةً فقد عَرض نفْسَه على الرِّق فإن قَضَاها المسئولُ استعبده بها وإن رَدًه عنها رجعَ كلاهما ذليلاً‏:‏ هذا بذُلِّ البُخْل وذاك بذُلِّ الرَّد‏.‏
وقال حَبيب‏:‏ كُلّ السُّؤال شَجىً في الحَلْقِ مُعْترض من دونه شَرَقٌ من تحته جَرض الخُشَنى قال‏:‏ قال أبو غَسان‏:‏ أخبرني أبو زيد قال‏:‏ سأل سائلٌ بمسجد الكوفة وقتَ الظهر فلم يُعْطَ شيئاً فقال‏:‏ اللهم إنّك بحاجتي عالم لا تُعَلَّم أنت الذي لا يُعْوِزك نائل ولا يُحفيك سائل ولا يَبْلغ مَدْحَك قائل أسألك صبراً جميلا وَفَرَجاً قريباً وبصَراً بالهُدى وقُوَّة فيما تُحب وتَرْضى‏.‏
فتبادَروا إليه يُعْطونه فقال‏:‏ وإلله لا رَزأتكم الليلةَ شيئاً ‏"‏ وقد رفعتُ حاجتِي إلى الله ‏"‏ ثم أنشأ يقول‏:‏ ما نالَ باذلُ وَجْهه بِسُؤاله عِوَضاَ ولو نال الغِنى بِسُؤال إذا النًوَال مع السُّؤَال وَزَنْتَه رجَح السؤال وشالَ كلُّ نَوال وقال مسْلم بن الوليد‏:‏ ِسل الناسَ إني سائِلُ الله وَحده وصائنُ عِرْضي عن فُلانٍ وعن فُل وقال عَبيد بن الأبرص‏:‏ َمنْ يَسْأَل الناس يَحْرِموه وسائلُ الله لا يَخِيبُ وقال ابن أبي حازم‏:‏ َلطَيُّ يومٍ ولَيْلتين ولُبْس ثَوْبين بالبَين أَهْوَنُ من مِنَةٍ لقَوْم أغضُّ منها جفُونَ عَيْني لأحْمَدُ اللهّ حين صارتْ حوائجي بَيْنه وبَيْني ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ سُؤَالُ الناس مِفْتَاح عَتِيدٌ لِبَاب الفَقْرِ فألطف في السًّؤَال ‏"‏ وَرَوَى أشعبُ الطَّمَّاع عن عبد الله بن عُمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ يَحْشرٌ اللهّ عز وجل يوم القيامة قوماً عاريةً وجوههم قد أذهب حياءَها كثرةُ السؤال ‏"‏‏.‏
سؤال السائل من السائل مدح أبو الشَّمَقْمق مروانَ بن أبي حَفصة فقال له‏:‏ أبا الشَّمقمق أنت شاعرٌ وأنا شاعر وغايتنا كلَّنا السؤال‏.‏
وذَكر أعرابيٌ رجلاً بالسُّؤال فقال‏:‏ إنّه أسألُ من ذي عَصَوَين‏.‏
وقال حبيب‏:‏ لم يَخْلُق الرحمنُ أحمقَ لِحْيةً من سائلٍ يَرْجو الغِنى من سائل الأصمعيُّ عن عيسى بن عمر النّحويّ قال‏:‏ قَدِمْتُ من سَفر فدخل عليّ ذو الرُمة الشاعر فعَرضتُ أن أعطيه شيئاً فقال‏:‏ ‏"‏ كل ‏"‏ أنا وأنتَ نأخذ ولا نُعْطى‏.‏
الشيب قال قيسُ بن عاصم‏:‏ الشيبُ خِطَامُ المَنيّة‏.‏
وقال غيرُه‏:‏ الشيبُ نذيرُ الموت‏.‏
وقال النُّميريّ‏:‏ الثيبُ عُنوان الكِبَر‏.‏
وقال المُعْتَمر بن سُليمان‏:‏ الشيبُ مَوت الشّعَر ومَوت الشّعَر عِلّة لمَوْت البَشر‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ كنتُ أنكِر البَيْضاء فصِرْتُ أنكِر السَّوداء فيا خيرَ مَبْدول ويا شَرَّ بَدَل‏.‏
وقيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ عَجِل عليك الشّيبُ يا رسولَ اللّه‏!‏ قال‏:‏ شَيَّبَتْني هُود وأخواتُها‏.‏
وقيل لعبد الملك بن مَرْوَان‏:‏ عَجِل عليك الشيبُ يا أميرَ المؤمنين‏!‏ قال‏:‏ شَيَّبَني اْرتقاء المَنابر وتَوَقُّع اللّحن‏.‏
وقيل لرجل من الشًّعراء‏:‏ عَجِل عليك الشّيبُ‏!‏ فقال‏:‏ وكيف لا يَعْجَل وأنا أَعْصرُ قَلْبي في عمل لا يُرْجَى ثَوابُه ولا يُؤْمَن عِقابُه‏.‏
وقال حبيبٌ الطائي‏:‏ غَدَا الشّيْبُ مختَطًّا بِفَودِيَ خُطّةً طريقُ الرّدىَ منها إلى النَّفْس مَهْيَعُ هُو الزَوْرُ يُجْفي والمُعاشر يُحْتوى وذو الإلْف يُقْلَى والجديدُ يُرِقّعُ له مَنْظر في العَينْ أبيضُ ناصعٌ ولكنه في القلْب أسْود أسْفع بَكيتُ لقُرْبِ الأجلْ وبُعْدِ قَوات الأملْ ووَافِدِ شيْب طَرَا بعِقْبِ شبابٍ رَحَل شَباب كأنًْ لم يَكُن وشيبٌ كأنً لم يزَل طَواك بَشِيرُ البَقا وجاء بشير الأجل ‏"‏ وقال أيضاً‏:‏ لا تَطْلُبَنْ أثراً بعَينْ فالشَيْب إحدَى الميتَتَين أبْدَى مَقابحَ كلِّ شَين ومَحَا مَحاسِنَ كل زَيْن فإذا رَأتكَ الغانيا تُ رَأينَ منك غُرابَ بَين ولرُيما نافَسْنَ في ك وكُنَّ طَوْعاً لليَدَين أيامِ عممك الشَّبا بُ وأنا سَهل العارِضيَنْ حتى إذا نزل المَشي بُ وَصِرْتَ بين عِمَامتين سَوْدَاءَ حالكةٍ وبَي ضاءِ المَناشرِ كاللُجَين َمزَج الصُّدُودُ وِصاله ن كُنَّ أمراً بَين بَين وصَبرن ما صَبر السَّوا د على مُصانَعة ومَينْ قَفين شرّ َقَفِيَّة وأخذْن منك الأطيَبَينْ فاقْنَ الحَياءَ وَسَلِّ نف سك أو فَنادِ الفَرْقَدَين ولَئِنْ أصابتْك الخُطو بُ بكل مكروه وشَين فلقد أَمِنْتَ بأن يُصِب بك ناظرٌ أبداً بعين وقال حبيب الطائيّ‏:‏ نظرتْ إليّ بعين مَن لم يَعْدِل لمّا تَمَكّن حبُّها من مَقْتَلي لمِّا رأتْ وَضَح المَشِيب بلِمَّتي صَدَّت صُدودَ مُجانِب مُتحمِّلَ فجعلتُ أطلب وصلها بتلطفٍ والشَّيْبُ يَغْمِزُها بأنً لا تَفْعلي وقال آخر‏:‏ صَدَّت أمامةُ لمَّا جِئتُ زائرَها عنِّي بمَطْروفةٍ إنسانُها غَرقُ وراعها الشيبُ في رأسي فقلتُ لها كذاكَ يَصفرُّ بعد الخُضْرة الوَرَق وقال محمد بن أميّة‏:‏ رأتني الغواني الشّيبُ لاح بعارضي فأَعرضنَ عنِّي بالخُدود النّواضِرِ عَيرتني بشيب رأسي نَوار يا ابنةَ العمِّ ليس في الشّيب عارُ إنَّما العارُ في الفِرار من الزّح ف إذا قِيل أينَ أينَ الفِرار ومن قولنا في الشّيب‏:‏ بِدا وَضَحُ المَشيبِ على عِذَارِي وهَل ليلٌ يكونُ بلا نَهارِ وأِلبسني النُّهى ثوباً جديداً وجَرَّدني من الثَوْب المُعار شرَيت سوادَ ذا ببياض هذا فَبدَّلتُ العِمامةَ بالخِمَار وما بِعْتُ الهوَى بَيْعا بشَرْط ولا استثنيت فيه بالخِيَار ومن قولنا فيه‏:‏ قالوا شَبابُك قد وَلَّى فقلتُ لهمٍ هل من جديدٍ على كَرِّ الجَديدَيْنِ صِلْ من هَوِيتَ وإن أبدى مُعاتبة فأطيبُ العَيْش وصلٌ بين إلْفَين وَاقطَعْ حَبَائلَ خِدْنٍ لا تُلاَئمهُ فرَّبمَا ضاقَتِ الدُّنيا على اثنين ومن قولنا فيه‏:‏ جارَ المَشيبُ على رَأسي فَغَيَّره لمّا رَأَى عندنا الحُكَّامَ قد جارُوا َسوادُ المَرْءِ تُنْفِدُه اللَّيَالِي وإِنْ كانت تَصير إلى نَفَادِ فأَسوده يَعود إلى بَياض وأبيضه يَعود إلى سَواد ومن قولنا أيضاً‏:‏ أطلالُ َلهْوك قد أَقوَتْ مَغانيها لم يَبْقَ من عَهدها إلا أَثافيها هذِي المَفَارق قد قامت شواهدُها على فَنائِك والدُّنيا تُزَكِّيها الشَّيبُ سُفْتَجة فيها مُعَنْونة لم يَبْقَ إلاّ أن يسحيها ومن قولنا أيضاً‏:‏ ُنجوم في المَفارق ما تَغُور ولا يَجْرِي بها فلكٌ يَدُورُ كأنّ سواد لِمَّته ظلاً أغارَ من المَشيبِ عليه نُور ألا إنَّ القَتِيرَ وَعِيدُ صِدْق لنا لو كان يَزْجُرنا القَتير نذيرُ الموت أرسلَه إلينا فكذَّبْنا بما جاء النَّذير وقُلنا للنُّفوس لعلِّ عُمْراً يطول بنا وأطولُه قَصير متى كُذبتْ مواعدُها وخانت فأوَّلُها وآخرُها غُرور ولم ألقَ المُنَى في ظلِّ لَهْوٍ بأقمارٍ سحائبُها السُّتور ‏"‏ ولآخر‏:‏ والشّيبُ تَنْغيصُ الصِّبا فاقض اللبابةَ في الشَّبابْ وقال ابن عبّاس‏:‏ الدنيا الصحّة والشباب‏.‏
ولبعضهم‏:‏ في كل يوم أرى بَيضاء قد طَلَعتَ كأنَّما طَلعت في ناظِر البَصرِ لَئن قصَصْتُكِ بِالمِقْرَاض عن نَظري لَمَا قَصصتًكِ عن هَمِّي ولا فِكَري ولابن المُعتزّ‏:‏ جاء المَشيب فما تَعِسْتُ به ومَضى الشَّباب فما بُكايَ عليْه وقال أيضَاَ‏:‏ ماذا تُريدين من جَهْلي وقد غَبَرت سِنُو شَبابي وهذا الشًيبُ قد وَخَطَا أرفِّع الشَّعرة البَيْضاء مُلْتقطاً فيُصْبِح الشَيبُ للسوداء مُلتقِطا وسَوفَ - لا شَكّ - يُعْييِني فأتْركه فطالما أعْمِل المِقْراضَ والمُشُطا ‏"‏ الشباب والصحة قال أبو عمرو بن العَلاء‏:‏ ما بَكت العربُ شيثاً ما بَكَت الشباب وما بلغت به ما يستحقّه‏.‏
وقال الأصمعيّ‏:‏ أحسن أنماط الشِّعر المَرائي والبُكاء على الشَباب‏.‏
وقيل لكُثَيِّر عَزًة‏:‏ ما ‏"‏ لك لا ‏"‏ تقول الشعر قال‏:‏ ذهب الشبابُ فما أطرب ومات عبدُ العزيز فما - أرغب‏.‏
وقال عبد الله بن عبّاس‏:‏ الدُّنيا العافية والشّباب الصحة‏.‏
وقال محمود الورّاق‏:‏ أليسَ عَجِيباً بأن الفَتَى يُصاب ببَعضٍ الذي في يَدَيْهِ فمن بين باكٍ له مُوجَع وبين مُغذّ مُعَزٍّ إليه ويَسْلًبه الشيبُ شَرْخَ الشبا بِ فليس يُعزِّيه خَلْقٌ عليه قال ابن أبي حازم‏:‏ َولَّى الشَّبابُ فخَلِّ الدَّمعَ ينْهملُ فَقْدُ الشِّبابِ بِفَقْدِ الروح مُتَّصلُ لا تُكْذَبنَّ فما الدُّنيا بأجمعها مِنَ الشَّباب بيومٍ واحدٍ بَدَل وقال جرير‏:‏ وَلَّى الشبابُ حَمِيدةً أيامُه لو كان ذلك يُشْترى أو يُرْجَعُ وقال صريعُ الغواني‏:‏ سَلْ عيش دهرِ قد مَضتْ أيامُه هل يَسْتطيع إلى الرُّجوع سَبيلا وقال الحسنُ ‏"‏ بن هانئ ‏"‏‏:‏ وأراني إذ ذاك في طاعة الجه ل وَفَوْقي من الصِّبا أمراءُ تِرْب عَبْث لرَبْطتي فَصْلُ ذَيْل ولرأْسي ذًؤَابةٌ فَرْعاءُ بقِناع من الشَباب جديدٍ لم ترَقَعه بالخِضاب النَساءُ قبل أنْ يَلْبَس المَشيبَ عِذارى وتبلى عمامتي السوداء وقال أعرابي‏:‏ للهّ أيامَ الشباب وعَصره لو يُستعار جديدُه فيُعارُ ما كان أقصرَ ليلَه ونَهَارَه وكذاك أيامُ السُّرور قِصارُ ومن قولنا في الشباب‏:‏ وَلّى الشبابُ وكنتَ تَسكن ظِلّه فانظُر لنفسك أَيَّ ظلٍّ تَسكنُ ونَهى المَشيبُ عن الصبا لو أنّه يُدْلى بحُجَّته إلى مَنْ يَلْقن ومن قولنا فيه‏:‏ حَسَر المَشيبُ قِناعَه عن رأسه وصَحَا العواذلُ بعد طول مَلام فكأنَّ ذاك العيشَ ظل غمامةٍ وكأنّ ذاك اللهوَ طيفُ منام ‏"‏ ومن قولنا فيه‏:‏ ولو شِئتُ راهنتُ الصَبابةَ والهوَى وأَجْريتُ في اللّذات من مائتين وأسبلتُ من ثَوْب الشّباب وللصّبا عليّ رداءٌ مُعْلَم الطَرَفَينْ ‏"‏ وقال آخر‏:‏ إِنّ شَرْخَ الشّبابِ والشّعرِ الأس ود ما لم يُعاصَ كان جُنونَا وقال آخر‏:‏ قالتْ عَهِدْتُكَ مجنوناً فقلتُ لها إنّ الشّبابَ جُنونٌ بُرؤُه الكِبَرُ ومن قولنا في الشباب‏:‏ كنتُ إلْفَ الصِّبا فَوَدَّعني وَداعَ مَن بانَ غيرَ مُنْصَرفِ أيامُ لهوِي كظِلِّ إسْحَلة وذا شَبابي كروضة أنًف ومن قولنا فيه‏:‏ شبابي كيف صِرْتَ إلى نَفَاد وبُدِّلتَ البياضَ منَ السَّوادِ فِراقُك عَرًف الأحزان قَلبي وفَرَّق بين جَفْني والرُّقاد فيا لنعيم عَيْشِ قد تَولى ويا لغليل حُزْنٍ مستفاد كأني مِنْك لم أرْبَع برَبْع ولم أَرْتَدَّ به أحْلَى مَراد سَقى ذاك الثَّرَى وَبْلُ الثَرَيَّا وغادىَ نَبْته صوْبُ الغوادِي فكم لي من غَلِيلٍ فيه خافٍ وكم لي مِن عَويلٍ فيه بادِي زمانٌ كان فيه الرُّشد غَيّا وكان الغَيُّ فيه من الرًشاد يُقبِّلني بدلٍّ من قَبُول ويُسْعدني بوٍصْل من سُعاد وأجنُبه فيُعطِيني قياداً ويَجْنُبني فأعْطيه قِيَادي



الخضاب
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ غَيِّروا هذا الشّيبَ ‏"‏ وجَنِّبوه السوادَ ‏"‏‏.‏
وكان أبو بكر يَخْضب بالحِنَّاء والكَتَم‏.‏
وقال مالك بنُ أسماء بن خارجة لجاريته‏:‏ ‏"‏ قُومي ‏"‏ اخضبِي رأسي ولِحيتىِ فقالت‏:‏ دَعْني قد عَييت بما أُرقِّعك‏.‏
فقال مالك بنُ أسماء‏:‏ عَيَّرْتِني خَلَقاً أَبليتُ جِدَّته وهل رأيت جَديداً لم يَعُدْ خَلَقَا ودخلِ أبو الأسود الدُؤليّ على معاوية وقد خَضَب فقال‏:‏ لقد أصبحتَ يا أبا الأسود جميلاَ فلو عَلَّقت تميمة‏.‏
فأنشأ أبو الأسود يقول‏:‏ أَفْنى الشّبابَ الذي فارقتُ بهجَته مَرُّ الجديدَيْن من آتٍ ومُنْطلقِ لم يُبْقِيا ليَ في طُول اختلافهما شيئاً يُخاف عليه لَذْعةُ الحَدَق وذُكر عن الأصمعيّ قال‏:‏ بَلغني عن بعض العَرب فصاحةٌ فأتيتُه فوجدتُه يَخْضب فقال‏:‏ يا بن أخي ما الذيَ أَقصدَك إليِّ قلتُ‏:‏ الاستئناسُ بك والاستماع من حديثك قال‏:‏ يا بن أخي قَصدْتَني وأنا أخْضِب والخضاب من مُقدِّمات الضّعف ولطالما فَزّعت الوُحوش وقُدْت الجيوش وَرَوَّيْت السّيف وقَرَيت الضَّيف وحَميت الجارَ وأبيت العار وشَرِبْتُ الرَّاح وجالستُ المِلاَح وعاديت القُروم وعَلوت الخُصوم واليوم يا بن أخي الكِبَرُ وضعف البصر تركا من بعد الصَّفو الكَدَر وأنشأ يقول‏:‏ شَيْبٌ نُعَلِّله كيما نُسرّ به كهيئة الثَّوب مطويا على خِرَقِ فكنتُ كالغُصْ يَرْتاح الفؤادُ به فصرْتُ عُوداً بلا ماءٍ ولا وَرَق صَبْراً على الدَّهر إنِّ الدّهر ذو غِيَرٍ وأهْلُه منه بين الصفو والرَّنَق ‏"‏ ودخل مُعاويةُ على ابن جعفر يعوده فوجده مُفيقاً وعنده جاريةٌ في حِجْرها عودٌ فقال‏:‏ ما هذا يا بن جعفر فقال‏:‏ هذه جارية أروَيها رقيقَ الشعر فَتَزِيده حُسناً بحُسْن نَغْمتها‏.‏
قال‏:‏ فَلْتقل‏.‏
فحرَّكت عُودَها وغنَّت وكان معاوية قد خَضب‏:‏ أليس عندك شُكْرٌ للَّتي جَعلتْ ما ابيضَ من قادمات الرِّيش كالحُمَم جَدَّت منك ما قد كان أخْلَقه رَيْبُ الزمان وصَرْفُ الدهر والقِدَم فحرَّك معاويةُ رجلَه فقال له ابن جعفر‏:‏ لم حركت رجلَك يا أميرَ المؤمنين قال‏:‏ كلُّ كريم طَروب‏.‏
وقال محمود الورّاق في الخِضاب‏:‏ للضيف أَنْ يُقرَى ويُعْرفَ حقُّه والشَّيبُ ضيفُك فاْقْرِه بِخِضَابِ وافي بأكْذَب شاهِد ولربَّما وافي المَشيبُ بشاهِدٍ كذّابِ فافسَخ شهادتَه عليك بخَضبِه تَنْفي الظُّنون به عن المُرْتاب فإذا دنا وَقْتُ المَشيب فخلِّه والشَّيبَ يذهبُ فيه كلِّ ذَهاب وقال آخر‏:‏ وقائلةٍ تقولُ وقد رَأتنْي أًرَقِّع عارضَيّ من القَتِيرِ عليك الخِطْرَ أن تُدَنى إلى بِيضٍ ترائبُهنّ حُور فقلتُ لها المشيبُ نَذِيرُ عُمْري ولستُ مُسَوِّداً وجهَ النَّذير إنّ شَيباً صَلاحُه بخِضَاب لَعَذَابٌ مُوَكَّلٌ بِعَذَاب فوَحَقِّ الشَّباب لولا هَوَى الْبِي ض وأَنْ تَشْمَئِزّ نفسُ الكَعَاَب لأرَحْتُ الخَدًّين مِن وَضر الْخِط ر وآذنتُ بانقضاء الشَّباب وقال غيره‏:‏ َبكَرت تحسِّن لي سوادَ خِضابي لكأنّ ذاك يُعيدني لِشَبابي وإذا أدِيمُ الوَجْه أَخْلَقَه البِلَى لم يُنتَفَع فيه بحُسْن خِضاب ماذا تُرَى يجْدِي عليكِ سوادهُ وخلافُ ما يُرْضيك تحت ثِيابي ما الشَيبُ عندي والخضاب لواصِفٍ إلا كَشَمس جلَلَت بسَحاب تَخْفي قليلاً ثم تَقْشَعه الصَبا فيصيرُ ما سُتِرَت به لِذَهاب ومن قولنا هذا المعني‏:‏ أصمَّم في الغَواية أم أَنابا وشَيبُ الرَّأس قد خَلَس الشَّبَابا إذا نَصل الخِضاب بَكى عليه وَيَضحَك كلما وَصَل الخضابا كأن حمامةً بيضاءَ ظَلَّت تُقاتل في مَفارقه غُرابا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَن شَاب شَيْبة في الإسلام كانت له نُوراً يومَ القيامة‏.‏
وقال ابن أبي شَيبة‏:‏ نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن نَتْف الشَّيب وقال‏:‏ هو نُور المُؤمن‏.‏
وقالوا‏:‏ أوَّل مَن رأى الشيب إبراهيمُ خليل الرحمن فقال‏:‏ يا ربِّ ما هذا قال له‏:‏ هذا الوَقار قال‏:‏ ربِّ زِدني وقارًا‏.‏
وقال أبو نُواس‏:‏ يَقُولون في الشّيب الوقارُ لأهْلِه وشَيبي بحمد الله غير وقارِ وقال غيرُه‏:‏ يقُولون هلْ بعد الثلاثين مَلْعب فقلتُ وهل قبلَ الثلاثين مَلْعبُ لقد جَلَّ قَدْرُ الشَيب إن كان كُلّما بَدت شَيْبةٌ يَعْرَى من اللَّهو مَركب دخل أبو دُلَف على المأمون وعنده جارية وقد ترك أبو دُلف الخِضَابَ فغمز المأمونُ الجاريَةَ فقالت ‏"‏ له ‏"‏‏:‏ شِبْت أبا دُلف إنا لله وإنا إليه راجعون ‏"‏ لا ‏"‏ عليك‏!‏ فسكت أبو دُلف‏.‏
فقال له المأمون‏:‏ أجِبْها أبا دُلف‏:‏ فأطرق ساعةً ثم رَفع رأسه فقال‏:‏ تَهزأت أن رأت شيْبي فقلتُ لها لا تَهْزَئِي مَن يطل عُمرٌ به يَشبِ شَيْبُ الرِّجال لهم زينٌ وَمَكْرُمة وَشَيْبُكًن لَكُنّ الوَيْلُ فاكتئبي وقال محمود الوراق‏:‏ وعائب عابني بشيبٍ لم يَعْدُ لمّا ألم وَقْتَه فقلتُ للعائبي بشيبي ياعائبَ الشَيب لا بَلغتَه ‏"‏ أنشدني أبو عبد الله الإسْكَنْدراني ‏"‏ معلَم الإخْوة‏:‏ وممّا زادَ في طول اكتئابي طلائعُ شيبتين ألمتا بي فأمِّا شَيْبَةٌ فَفَزِعْتُ فيها إلى المِقراض من حُبِّ التَّصابيِ وأمّا شَيْبةٌ فَعَفَوت عنها لتَشْهد بالبَرَاء من الخِضاب ‏"‏ وقال محمد بن مُناذِر‏:‏ لا سَلامٌ على الشَّباب ولا حَي يا الإلهُ الشبابَ من مَعْهودِ قد لَبِسْت الجديدَ من كلّ شيء فوجدتُ الشَّباب شرَّ جَديد صاحبٌ ما يزال يَدْعو إلى الغي ي وما مِن دُعاً له برَشِيد ولَنِعْم المَشيبُ والوازعُ الشَّي - ب ونِعم المًفادُ لِلْمستفيد كبر السن قيل لأعرابيّ قد أَخذته كَبْرة السِّن‏:‏ كيف أصبحتَ فقال‏:‏ أصبحتُ تقيِّدني الشَّعرةُ وأَعثُر بالبَعْرة قد أقام الدهرُ صَعَرِي بعد أن أقمتُ صَعَره‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ آخر ‏"‏‏:‏ لقد كنت أنْكِر البيضاءَ فصرْت أُنْكِر السوداءَ فيا خير مَبْدول ويا شرَّ بَدَل‏.‏
ودخل المُسْتَوْغِرِ بنُ ربيعة على معاويةَ بن أبي سُفيان وهو ابن ثلثمائة سنة فقال‏:‏ كيف تَجدك يا مُسْتوغر فقال‏:‏ أَجِدني يا أميرَ المؤمنين قد لان مِنِّي ما كنتُ أحبّ أن يشتدّ واشتدّ مني ما كنتُ أحبُّ أن يَلين وابيضّ مني ما كنتُ أحبُ أن يسودّ واسودّ مني ما كنتُ أحبّ أن يَبْيضَ ثم أَنشأ يقول‏:‏ سَلْني أنَبِّئك بآياتِ الكِبَرْ نوم العِشاءِ وسُعال بالسَّحَرْ ‏"‏ وقِلَّةَ النَّوْم إذا الليل آعْتَكر ‏"‏ وقِلّة الطُّعْم إذا الزَّاد حَضَر ‏"‏ وسُرْعة الطَّرَف وتَحْمِيج النظر ‏"‏ وتَرْكُك الحَسناءَ في قُبْل الطُّهُر والناسُ يَبْلَوْن كما يَبْلى الشًجَر وقال أعرابي‏:‏ أشْكو إليك وَجَعاً برُكْبتي وَهَدجاناً لم يَكًن في مِشْيتي كهَدَجان الرَّأل خَلْف الهَيْقَتِ وقال آخر‏:‏ وقال جرير‏:‏ تَحِنّ العِظام الرّاجفاتُ من البِلَى ولَيْس لداء الركْبتين طبيبُ وقال أعرابيّ في امرأة ‏"‏ عَجُوز ‏"‏‏:‏ يا بِكْرَ حَوَّاءَ من الأوْلاد وأقدمَ العالم في المِيلادِ عُمْركِ ممدودٌ إلى التَّنادِي فحدًثينا بحَدِيث عادِ ومُبْتدا فِرعون ذي الأوْتاد وكيف حالُ السَّيل بالأطْوادِ وقال آخر‏:‏ إذا عاش سَبْعين عاماً فقد ذَهب المَسرةُ والفَتَاءُ كان في غَطفان نَصْر بنُ دُهْمان قادَ غَطفان وسادَها حتى خرِف وعُمِّر تسعين ومائة سنةٍ حتى اسودَّ شَعرُه ونَبتت أضراسُه وعاد شاباً فلا تُعرف في العرب أعجوبة مثله‏.‏
وقال محمد بن مناذر في رجل من المُعمَّرين‏:‏ إنَّ مُعاذَ بنَ مُسْلم رَجلٌ قد ضَجّ من طُول عُمره الأبدُ قد شابَ رأسُ الزَّمان واكتهل الدَّه ر وأثوابُ عُمْره جدُد يا نَسْرَ لُقمان كم تعيشُ وكم تَسْحَبُ ذَيْلَ الحياةِ يا لُبَد تَسأالُ غِرْبانها إذا حجَلت كيفَ يكون الصّدَاع والرَّمد ودخل الشّعبيّ على عبد الملك بن مَرْوَان فوَجده قد كبا مُهْتَمًّا فقالت‏:‏ ما بالُ أمير المؤمنين قال‏:‏ يا شعبيِّ ذكرتُ قولَ زُهير‏:‏ كأني وقد جاوزت سَبْعين حِجًةً خَلعتُ بها عنِّي عِذَارَ لجامي رَمَتني بناتُ الدهر من حيث لا أَرى فكيف بمن يُرْمى وليس بِرَامي فلو أنني أرْمَى بِنبْلٍ رأيتها ولكنًني أرْمَى بغير سِهام عَلَى الرَّاحَتَيْن تارةً وعلى العصا أُنُوءُ ثلاثاً بعدهنَّ قِيامي قال له الشًعبيُّ‏:‏ ليس كذلك يا أميرَ المؤمنين ولكن كما قال لَبِيدُ ابن ربيعة وقد بلغ سبعين سنة كأني وقد جاوزتُ سَبْعينَ حِجَّةً خلعتُ بها عن مَنْكِبَّيَّ رِدَائيَا فلما بلغ سبعاً وسبعين قال‏:‏ باتت تَشكّى إلى النفسُ مُجهِشةً وقد حملتُكِ سبعاً بعد سَبْعيناً فإن تُزَادي ثلاثاً تَبْلُغي أملاً وفي الثلاثِ وفاءٌ للثّمانينَا فلما بلغ مائة سنة قال‏:‏ فلما بلغ مائة سنةٍ وعشراً قال‏:‏ أليسَ في مائةٍ قد عاشها رجُلٌ وفي تَكامُل عَشْرٍ بعدها عُمُرُ فلما بلغ ثلاثينَ ومائةً وقد حضرَتْه الوفاة قال‏:‏ تَمَنَئ ابنتاي أن يَعيشَ أبوهما وهل أنا إلا منِ رَبيعةَ أو مُضرْ فقُوما وقُولا بالذي تَعْلمانه ولاتَخْمِشَا وجها ولا تَحْلِقَا شَعَر وقولا هو المرءُ الذي لا صَدِيقَه أضاع ولا خانَ الخليلَ ولا غَدر إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلام عليكما ومَن يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذَر قال الشّعبيّ‏:‏ فلقد رأيت السرورَ في وجه عبد الملك طمعاً أن يعيشها‏.‏
وقال لبيد أيضاً‏:‏ أليسَ ورائِي إن تراختْ مَنِيَّتي لُزُومُ العَصا تُحْنَى عليها الأصابعُ أخَبر أخبارَ القُرون التي مَضت أدِبُّ كأنّي كلما قمتُ راكِع فأصبحتُ مثل السيفِ أَخْلق جَفْنَه تَقادمُ عهدِ القَيْن والنَصْلُ قاطِع وقالوا‏:‏ مكتوبٌ في الزّبور‏:‏ مَن بَلغ السبعين أشتكي من غير علّة‏.‏
وقال محمد ابن حسّان النِّبطي‏:‏ لا تَسأل نفسك العامَ ما أعطتك في العام الماضي‏.‏
وقال مُعاويةُ لما أَسنَّ‏:‏ ما مَرَّ شيءٌ كنتُ أستلذّه وأنا شابّ فأجِده اليومَ كما أجده إلا اللبن والحديث الحَسَن‏.‏
عاش ضِرَارُ بن عمرو حتى وُلد له ثلاثةَ عشرَ ذكراً فقال‏:‏ مَن سَرَّه بنوه ساءته نفسُه‏.‏
وقال ابن أبي فَننِ‏:‏ مَن عاشَ أَخْلقتِ الأيام جدَته وخانَه ثِقَتاه السَّمعُ والبَصرُ قالت عَهِدْتًك مَجنوناً فقلتُ لها إنّ الشبَابَ جُنونٌ بُرْؤُه الكِبر قال أبو عُبيدة‏:‏ قيل لشَيْخ‏:‏ ما بَقَى منك قال يَسْبقني مَن بي يَديّ ويُدْركني مَن خَلْفي وأذكر القديمَ وأنْسى الحديثَ وأنْعسِ في الملا وأسْهرُ في الخَلا وإذا قمتُ قَرُبَتِ الأرض مِنِّي وإذا قَعدْتُ تباعدت عَنّي‏.‏
وقال حُمَيد بن ثَوْر الهِلاليّ‏:‏ أرى بَصرِي قد رابني بعد صِحَّةٍ وحَسْبُك داءً أن تَصِحَّ وتَسْلَمَا وِقال آخر‏:‏ كانت قَنَاتي لا تَلِينُ لغامزٍ فألانَهَا الإصباحُ والِإمْساءُ وَدَعَوْتُ رَبِّي بالسلاَمة جاهِداُ لِيُصِحًني فإذا السلامةُ داء وقال أبو العتاهية ‏"‏ ويروى للقُطاميّ ‏"‏‏:‏ ‏"‏ أَلستَ تَرَى أنّ الزَّمانَ طواني وبدَّل عقلي كلّه وبَرَاني ‏"‏ تَحَيَّفَني عُضْواً فَعُضْواً فلم يَدَع سوى اسمي صحيحاً وحدَه ولِساني ولو كانت الأسماء يَدْخُلها البِلَىِ إذاً بَليَ اسمي لامتدادِ زَمانِي وما ليَ أَبْلَى لِسَبْعِينَ حجَّةَ وَسبع أَتَتْ مِن بعدها سَنَتان إذا عَنًّ لي شيءٌ تَخيَّل دونه شَبيهُ ضَباب أو شَبيهُ دُخان وقال الغَزال‏:‏ أصبحتُ واللهّ مَحْسودأً على أَمدٍ مِنَ الحياة قَصيرِ غير مُمتَدِّ حتى بقيتُ بحمد الله في خَلَفٍ كأنّني بينهم من وَحْشًةٍ وَحْدي وما أُفارق يوماً مَن أفارقه إلا حَسِبْت فِراقِي آخرَ العَهد وقال آخر‏:‏ يا مَن لشيخٍ قد تَخَدَّد لحمُه أَفنَى ثلاثَ عمائمٍ أَلوانا سوداءَ حالكةً وسَحْقَ مُفوَف وأجدَّ لوناً بعد ذاك هِجَانَا قَصَرَ اللّيالي خَطْوَه فَتَدَاني وحَنَينْ قائم صُلبه فتحانىَ إنِّي وإن كان مَسنَّى كِبر على ما قد تَرَيْنَ من كِبَرِى أَعرفُ من قبل أن تُفَارِقَني موقعَ سَهْمِي والسهمُ في الوتَر ‏"‏ من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه كان حارثةُ بن بَدر الغُدَانيِّ فارسَ بني تميم وكان شاعراً أديبَا ظريفاً وكان يُعاقرا الشَّرابَ ويَصْحب زياداَ فقيل لزياد‏:‏ إنك تَصْحب هذا الرجلَ وليس من شاكِلَتك إنهُ يُعاقر الشراب فقال‏:‏ كيف لا أَصحبه ولم أَسْأله عن شيء قطّ إلا وجدتُ عنده منه عِلماً ولا مَشىَ أمامي فاضطرَّني أن أناديه ولا مَشى خَلْفي فاضطرَّني أن أَلتفتَ إليه ولا راكَبني فمسَّتْ رُكْبتي رُكْبَتَه‏.‏
فلما هلك زيادٌ قال حارثةُ بنُ بَدْر يَرْثيه‏:‏ أَبا المُغِيرَةِ والدُنيا مُغَرِّرَةٌ وإِنّ مَن غَرَّت الدُّنيا لَمَغْرورُ قد كان عِنْدك للمَعْروف مَعْرِفَةٌ وكان عندك للتَّنْكير تَنْكِير لو خلدَ الخيرُ والإسلامُ ذا قِدَمٍ إذاً لخلّدَك الإسلامُ والخِير وتمامُ هذه الأبياتِ قد وقعتْ في الكتاب الذي أَفْرَدناه للمَرَاثي‏.‏
وكان زياد لا يُدَاعب ‏"‏ أحداً ‏"‏ في مجلسه ولا يَضْحَك فاختصم إليه بنو راسِب وبنو الطُّفَاوَة في غُلام أثْبته هؤلاء وهؤلاء فَتَحَيَّر زيادٌ في الحًكم‏.‏
فقال له حارثةُ ابن بدر‏:‏ عِنْدي أكرمَ اللهّ الأميرَ في هذا الغلام أمرٌ إن أذِن الأميرُ تكلّمت به فيه قال‏:‏ وما عندك فيه قال‏:‏ أرى أن يُلْقَى في دِجْلة فإن رَسَب فهو لِبَني راسِب وإن طفا فهو لبني الطُّفَاوَة فتبسَّم زياد وأَخَذَ نَعْليه ودخل ثم خَرج فقال لحارثة‏:‏ ما حَمَلك على الدُّعابة في مَجلسي قال‏:‏ طَيِّبَةٌ حَضرَتْني أبقى الله الأمير خِفْت أن تَفُوتنِى قال‏:‏ لا تَعُدْ إلى مثلها‏.‏
ولما وَليَ عُبيد اللهّ بن زياد بعد موت أبيه اطرحَ حارثةَ بنَ بدر وجفاه‏.‏
فقال له حارثةُ‏:‏ مالك لا تُنْزلني المنزلةَ التي كان يُنزِلني أبوك أتدَّعي أنّكَ أفضلُ منه أو أعقل قال له‏:‏ إنّ أبي كان بَرَع في الفضل بُرُوعاَ لا تَضرّه صُحْبَة مثلك وأنا حَدَث أخشى أن تَحْرِقني بنارك فإنْ شِئْتَ فاتْرُك الشراب وتكونَ أوَلَ داخل وآخِرَ خارج قال‏:‏ واللّه ما تركتُه للّه فكيف أتركه لك قال‏:‏ فتخَيَّرْ بلداً أوَلِّيكه‏.‏
فاختار سُرَّق من أرض العِراق فولاّه إياها‏.‏
فكتب إليه أبو الأسود الدُؤلي وكان صديقاً له‏:‏ أحارَ بنَ بَدْرٍ قَدْ وَليتَ وِلايةً فكُنْ جًرَذاً فيها تَخُون وتَسْرِقُ وباهِ تَمِيَماَ بالغِنى إنّ للغنى لِساناً به المرْء الهيوبة يَنطق وما الناس إلا اثنان إما مُكَذِّبٌ يقول بما يهْوَى وإمَّا مُصدِّق يقُولون أقوالاً ولا يحْكِمُونها فإنْ قيل يوماً حققوا لم يُحَقَقُوا فدع عنك ما قالوا ولا تَكْترث بهم فحظك من مال العِرَاقين سُرّق وكان ابن الوليد البَجليّ وهو ابن أخت خالد بن عبد الله القَسْرِيّ ولي أصبهان وكان رجلاً مُتَسَمِّتاً مُتَصَلحاً فَقدِمَ عليه حمزةُ بن بيض بن عَوْف ‏"‏ راغباً ‏"‏ في صُحْبته فقيل له‏:‏ إنّ مثل حمزة لا يَصْحب مثلَك لأنه صاحبُ كِلاب ولهو فبعث إليه ثلاثةَ آلاف درْهم وأمره بالانصراف‏.‏
فقال فيه‏:‏ يابن الوليد المُرْتَجَى سَيْبهُ ومن يُجَلي الحدث الحالِكَا سَبِيلُ مَعْروفك مني عَلَى بالٍ فما بالِي عَلَى بالِكا حَشْوُ قميصي شاعرٌ مُفْلِقٌ والجودُ أمْسى حشو سربالِكا يلومك النَّاسُ على صُحْبتٍي والمِسْكُ قد يستصحبِ الرّامِكا إنْ كُنتَ لا تَصحَب إلا فَتى مِثْلك لن تُؤْتىَ بأمْثَالِكا إنيّ آمرُؤ جئتُ أريد الهُدَى فَعُد على جَهلي بإسْلامِكا قال له‏:‏ صدقتَ وقَرَّبه وحَسُنت منزلته ‏"‏ عنده ‏"‏‏.‏
وكان عبدُ الرحمن بن الحَكم الأمير قد عَتَب على نُدمائه‏!‏ فأَمرَ نَصْراً الفتى بإسقاطهم من ديوان عَطائه ولم يَسْتبدل بهم‏.‏
فلما كان بعد أيام أستوحش لهم فقال لِنصر‏:‏ قد استوحشنا لأصحابنا أولئك فقال له نصر‏:‏ قد نالهم من سخْط الأمير ما فيه أدبٌ لهم فإن رأى أن يُرْسل فيهم أرْسلت قال‏:‏ أرْسِلْ‏.‏
فأقبل القومُ وعليهم كآبة فأخذُوا مجالسهم ولم يَنشرحوا ولا خاضُوا فيما كانوا يَخُوضون فيه فقال الأميرُ لِنصر‏:‏ ما يَمنع هؤلاء من الانشراح قال‏:‏ عليهم أَبقى الله الأمير وَجْمَةُ السُخط الذي نالهم قال‏:‏ قُلْ لهم‏:‏ قد عَفَوْنا فليَنْشرحوا‏.‏
قال فقام عبد الرحمن بن الشَمر الشاعرِ المُتنجِّم فجثا بين يديه ثم أنشد شَعراً له أقذع فيه على بعض أصْحابه إلا أنه خَتمه ببيتين بديعين وهما‏:‏ فيا رَحْمَةَ الله في خَلْقه ومَن جُوده أبداً يَسْكُبُ لئن عِفْتَ صُحْبة أهل الذُّنوب لقلَّ مِن الناس من يُصْحَب وأَحسنُ ما قيل في هذا المعنى قولُ النابغة‏:‏ ولمسْتَ بِمُسْتَبْق أخا لا تَلُمّه على شَعَثٍ أيُّ الرِّجال المُهَذَّبُ قولهم في القرآن كتب المَرِيسيّ إلى أبي يحيى مَنصور بن محمد‏:‏ اكتب إليَّ‏:‏ القرآنُ خالق أو مَخْلوق فكتب إليه‏:‏ عافانا الله وإياك من كلِّ فِتْنة وجَعَلنا وإِيَّاك من أهل السُّنة وممن لا يَرْغب بنفْسه عن الجماعة فإنه إن تَفْعل فأعْظِم بها مِنَّة وإن لا تَفْعل فهي الهَلَكة ونحن نقول‏:‏ إنّ الكلامَ في القرآن بِدعة يتكلّف المُجيبُ ما ليس عليه ويتعاطى السائل ما ليس له وما نعلم خالقاً إلا اللّه وما سِوى الله فمخلوق والقرآنُ كلام اللّه فانْتَه بنفسك إلى أسمائه التي سماه الله بها فتكونَ من الضالين جَعلنا الله وإياك من الذين يَخْشَوْن رَبَّهم بالغيب وهم من الساعة مُشْفِقون‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:56 AM

كتاب الجوهرة في الأمثال



‏"‏ قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه ‏"‏‏:‏ قدْ مَضى قولُنا في العِلْم والأدب وما يتولّد منهما ويُنْسب إليهما من الحِكَم النادرة والفِطَن البارعة ونحن قائلون بعَوْن الله وتوفيقه في الأمثال التي هي وَشيُ الكلام وجوهر اللفظ وحَلْى المعاني والتي تخيَّرتْها العربُ وقَدَّمتها العجم ونُطِق بها ‏"‏ في ‏"‏ كل زمان وعلى كلِّ لسان فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة لم يَسِرْ شيءٌ مَسِيرَها ولا عَمَّ عُمومَها حتى قيل‏:‏ أسير من مثل‏.‏
‏"‏ وقال الشاعر ‏"‏‏:‏ ما أنتَ إلا مَثَلٌ سائرُ يَعْرفه الجاهلُ والخابرُ وقد ضرب الله عزَّ وجلَّ الأمثالَ في كتابه وضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلامه قال اللهّ عز وجل‏:‏ ‏"‏ يَا أَيُّهَا الناسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمِعُوا لَه ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَجُلَينْ ‏"‏‏.‏
ومِثْلُ هذا كثير في آي القرآن‏.‏
فأوّلُ ما نبدأ به أمثالُ رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم ثم أمثالُ العلماء‏.‏
ثم أمثالُ أكْثَم بن صَيْفِيّ وبُزُرْجِمهر الفارسيّ وهي التي كان يَسْتَعملها عفرُ بن يحيى في كلامه ثم أمثالًُالعرب التي رواها أبو عُبيد وما أشبهها من أمثال العامة ثم الأمثالُ التي أمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ضرب الله مثلاً صِراطاً مُستقيماً وعلى جَنْبي الصراط أبوابٌ مُفَتَحة وعلى الأبواب سُتور مَرْخِيَّة وعلى رأس الصراط داعٍ يقول‏:‏ ادخُلوا الصراطَ ولا تَعْوَجُّوا‏.‏
فالصراطُ الإسلامِ والستورُ حدودُ اللّه والأبواب محارمُ اللّه والداعي القرِان‏.‏
وقال ‏"‏ النبي ‏"‏ صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَثلُ المُؤْمن كالخامة من الزرع يُقَلِّبها الريِحُ مرَّة كذا ومرَة كذا ومَثلُ الكافر مثل الأرزَة المُجْذِيَة على الأرض ‏"‏ حتى ‏"‏ يكون انجعافُها بِمَرّة‏.‏
وسأله حُذَيفة‏:‏ أبعدَ هذا الخير شرّ يا رسول اللّه فقال‏:‏ جماعة ‏"‏ على ‏"‏ أقْذَاء وهُدْنَة على دَخَن‏.‏
وقولُه حين ذَكر الدنيا وزينتَها فقال‏:‏ إنَّ مما يُنْبت الرّبيعُ ما يَقْتُل حَبَطاً أو يُلِمّ‏.‏
وقال لأبي سُفْيان‏:‏ أنت أبا سفيان كما قالوا‏:‏ كلُّ الصيد في جَوْف الفَرَا‏:‏ وقال حين ذكر الغُلوّ في العِبَادة‏:‏ إنّ المنبَتّ لا أرضاً قَطع ولا ظَهْراً أبْقى‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إياكم وخَضرَاءَ الدِّمن‏.‏
قالوا‏:‏ وما خَضراء الدِّمن قال‏:‏ المرأةُ الحَسْناء في المَنْبت السّوء‏.‏
وذكر الرِّبا في آخر الزمان وافْتِنَانَ الناس به فقال‏:‏ مَن لم يَأكلْه أصابه غُبارُه‏.‏
وقال‏:‏ الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْك‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الولدُ لِلْفراش وللعاهر الحَجَر‏.‏
وقال في فرس‏:‏ وجدتُه بَحْراً‏.‏
وقال‏:‏ إنّ من البيان لَسِحراً‏.‏
وقال‏:‏ لا ترْفع عصاك عن أهلك‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يُلْدغ المؤمن من جُحر مرَّتين‏.‏
وقال‏:‏ الحَرْب خدَعة‏.‏
وله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أمثالٌ كثيرة غيرُ هذه ولكنَّا لم نذهب في كل باب إلى استقصائه وإنما ذهبنا إلى أن نِكْتَفيَ بالبعض ونَسْتدلّ بالقليل على الكثير ليكونَ أسهلَ مَأخذاً للحفظ وأبرأ من المَلالة والهرب‏.‏
وتفسيرها‏:‏ أمِا المثل الأول فقد فَسَّره النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
وأما قوله‏:‏ المؤمن كالخامة والكافر كالأرْزة فإنَه شَبه المُؤْمن في تصرّف الأيام به وما يناله من بلائها بالخامة من الزَرْع تُقلَبها الريحُ مرة كذا ومرة كذا‏.‏
والخامة ‏"‏ في قول أبي عُبيد ‏"‏‏:‏ الغَضّة الرَّطبة من الزَرع‏.‏
والارْزة‏:‏ واحدة الأرز وهو شجر له ثمر يقال له الصَّنَوْبر‏.‏
والمُجْذِية‏:‏ الثابتة وفيها لغتان‏:‏ جَذَي يجذو وأجْذَى يجذِي‏.‏
والانجعاف‏:‏ الانقلاع يقال‏:‏ جَعفت الرجل إذا قلعتَه وصرعتَه وضربت به الأرض‏.‏
وقوله لحُذيفة‏:‏ هُدْنة على دَخَن وجَمَاعة على أقذاء أراد ما تَنطوي عليه القُلوب من الضًغائن والأحقاد فشبّه ذلك بإغضاء الجفون على الأقذاء‏.‏
والدَّخن‏:‏ مأخوذ من الدُّخان جعله مثلا لما في الصُّدور من الغِلّ‏.‏
وقوله‏:‏ إنَ مما يُنبت الرّبيع ما يَقْتُل حَبَطاً أو يُلمّ فالحَبط كما ذكر أبو عُبيد عن الأصمعيّ‏:‏ أن تأكل الدابة حتى تَنْتفخ بطنُها وَتمْرَض منه يقال‏:‏ حَبِطَتِ الدَّابةُ تَحْبِط حَبَطاً‏.‏
وقوله‏:‏ أو يُلم معناه‏:‏ أو يَقْرُب من ذلك ومنه قوله إذ ذكر أهل الجنة فقال‏:‏ إنّ أحدَهم إذا نَظر إلى ما أعدَّ الله له في الجنَّة فلولا أنه شيء قَضَاه الله له لألمّ أن يَذهب بَصرُه ‏"‏ يَعْنى ‏"‏ لما يَرى فيها يقول‏:‏ لَقَرُب أن يَذهب بصرُه‏.‏
وقوله لأبي سُفيان‏:‏ كلُّ الصَّيد في جَوْف الفَرا فمعناه أنّك في الرجال كالفَرا في الصيد وهو الحمار الوَحْشيّ وقال له ذلك يتألّفه على الإسلام‏.‏
وقولُه حين ذكر الغلوَّ في العبادة‏:‏ إن المنبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى‏.‏
يقول‏:‏ إن المُغِذَّ في السير إذا أَفرط في الإغذاذ عطبت راحلتُه من قبل أن يَبْلُغ حاجَته أو يَقْضيَ سَفَرَه فشبّه بذلك مَن أَفْرَطَ في العِبادة حتى يَبْقى حَسِيراً‏.‏
وقوله في الرِّبا‏:‏ من لم يأكله أصابه غُباره إنما هو مَثل لما ينال الناسَ من حُرْمته وليس هناك ‏"‏ تُراب ولا ‏"‏ غُبار‏.‏
وقولُه‏:‏ الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْك أي مَنع منه كأنه قَيْدٌ له‏.‏
وفي حديث آخر‏:‏ لا يَفْتك مؤمن‏.‏
وقوله في فرس‏:‏ وجدتُه بَحْراً وإنّ من البيان لَسِحْراً إنما هو على التمثيل لا على التحقيق‏.‏
وكذلك قوله‏:‏ الولد لِلفِراش وللعاهر الحَجَر‏.‏
معناه‏:‏ أنه لا حق له في نَسب الوِلد‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا ترفَعْ عَصاك عن أهلك إنما هو الأدب بالقَول ولم يُرد ألا تَرْفع عنهم العصا‏.‏
وقوله‏:‏ لا يُلْدغ المُؤمن من جُحر مرّتين معناه أنّ لَدْغَ مرة يَحْفظ من أخرى‏.‏
وقولُه‏:‏ الحرب خَدعة يريد أنها بالمكر والخديعة‏.‏
خَطب النعمانُ بن بَشِير على مِنْبر الكوفة فقال‏:‏ يا أهلَ الكوفة إني وجدتُ مَثَلي ومَثَلَكم كالضّبُع والثَعلب أتيا الضَب في جُحْره فقالا‏:‏ أبا حِسْل‏:‏ قال‏:‏ أجِبْتما ‏"‏ لمَ جِئْتُما ‏"‏ قالا‏:‏ جِئناك نَخْتصم قال‏:‏ في بَيْته يؤتىَ الحَكم قالت الضَبع‏:‏ فتحتُ عَيْبتي قال‏:‏ فِعْلَ النساء فعلتِ قالت‏:‏ فلقطتُ تمرة قال‏:‏ حُلْوًا جنيتِ قالت فاختطفها ثُعالة قال‏:‏ نفسه بَغَى - ثُعالة‏:‏ اسم الثعلب الذكر والأنثى - قالت‏.‏
فلطمتُه لطمةً قال حقًا قضيتِ قالت‏:‏ فلَطَمني أخرى قال‏:‏ كان حُرّا فانتصر قالت‏:‏ فاحكم الآن بيننا قال‏:‏ حَدِّث حديثين امرأة وإن لم تَفْهم فأَرْبعة‏.‏
وقال عبد الله بنً الزُّبير لأهل العِراق‏:‏ وَدِدْتُ واللّه أنّ لي بكم من أهل الشام صَرْفَ الدِّينار بالدِّرهم‏.‏
قال له رجلٌ منهم‏:‏ أتدري يا أَميرَ المؤمنينَ ما مَثلنا ومَثلك ومَثل أهل الشام قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ ما قاله أعشى بكر حيث يقول‏:‏ عُلِّقْتُها عَرَضاً وعُلِّقت رجلاً غيري وعُلِّق أخرى ذلك الرجلُ أَحببناك نحن وأحببتَ أنتَ أهلَ الشام وأحب أهل الشام عبد الملك ‏"‏ بن مروان ‏"‏‏.‏
مثل في الرياء يحيى بنُ عبد العزيز قال‏:‏ حدَّثني نعَيم عن إسماعيل ‏"‏ عن ‏"‏ رجلٍ من ولد أبي بكر الصدِّيق رضوانُ اللّه عليه عن وَهْب بن مُنَبِّه قال‏:‏ نَصب رجلٌ من بني إسرائيل فَخّا فجاءت عُصفورة فنزلت عليه فقالت‏:‏ مالي أراك مُنْحَنياً قال‏:‏ لكثرة صلاتي انحنيت قالت‏:‏ فمالي أراك باديةً عِظامُك قال‏:‏ لكثرة صيامي بدت عظامي قالت‏:‏ فمالي أرى هذا الصُّوفَ عليك قال‏:‏ لزُهْدي في الدُّنيا لبستُ الصُوف قالت‏:‏ فما هذا العِصا عندك قال‏:‏ أتوكأ عليها وأقضي ‏"‏ بها ‏"‏ حَوائجي قالت‏:‏ فما هذه الحبّة في يَدك قال‏:‏ قُرْبان إِن مرّ بي مِسْكين ناولتُه إياها قالت‏:‏ فإنِّي مِسكينة قال‏:‏ فخَذيها‏.‏
فَدَنت فَقَبضت على الحبّة فإذا الفخُّ في عُنقها‏.‏
فجعلت تقول قَعِي قَعِي تفسيره‏:‏ لا غرّني ناسكٌ مُرَاءٍ بعدك أبداً‏.‏
داودُ بنُ أي هِنْد عن الشّعْبِيّ‏:‏ أنّ رجلاً من بني إسرائيل صاد قُبَّرة فقالت‏:‏ ما تُريد أن تَصنع بي قال‏:‏ أذبحك فآكلُك قالت‏:‏ واللّهِ ما أشْفي من قَرَم ولا أغْنى من جُوع ولكنِّي أعلِّمك ثلاثَ خِصال هي خَيْر لك من أَكْلي‏:‏ أما الواحدة فأعلِّمك إياها وأنا في يدك والثانيةُ إذا صرتُ على هذه الشجرة والثالثة إذا صِرْت على هذا الجَبل‏.‏
فقال‏:‏ هاتِ ‏"‏ الأولى ‏"‏‏.‏
قالت‏:‏ لا تَتَلَهَّفنَّ علٍى ما فاتك فخلَّى عنها‏.‏
فلما صارتْ فوْقَ الشجرة قال‏:‏ هاتِ الثانيةَ قالت‏:‏ لا تصِدِّقن بما لا يكون أنه يكون ثم طارت فصارت على الجبل فقالت‏:‏ يا شَقيّ لو ذَبحتني لأخْرجت من حَوْصلتي درَّة وَزْنها عشرون مثقالا‏.‏
قال‏:‏ فَعَضّ علىٍ شَفَتَيْه وتلهّف ثم قال‏:‏ هاتِ الثالثة قالت له‏:‏ أنت قد نَسِيت الاثنتين فكَيف أعلّمك الثالثة ألم أقل لك‏:‏ لا تتلهفنَّ على ما فاتك فقد تلهفت عَلَيّ إذ فُتُّك وقلت لك‏:‏ لا تُصَدِّقن بما لا يكون أنه يكون فصدّقت أنا وعَظْمِي وريشي لا أَزن عشرين مثقالا فكيف يكون في حوْصلتي ما يزنها‏!‏ وفي كتاب للهند‏:‏ مثلُ الدُّنيا وآفاتها ومَخاوفها والموت والمعاد الذي إليه مَصير الإنسان‏.‏
قال الحكيمُ‏:‏ وجدت مثل الدنيا والمَغرُور بالدنيا المَملوءة آفات مثلَ رجل ألجأ خوْفٌ إلى بِئر تدلى فيها وتعلَّق بغُصْنين نابتين على شَفير البئر ووقعتْ رجلاه على شيء فمدَهما فنظر فإذا بحيّات أَرْبع قد أَطْلعن رؤوسهن من جُحورهن ونظر إلى أسفل البئر فإذا بثُعبان فاغر فاهُ نحوَه فرفع بصره إلى الغُصْن الذي يتعلق به فإذا في أصله جُرَذان أبيضُ وأسود يَقْرضان الغُصن دائبيَنْ لا يَفْتُرَان فبينما هو مُغْتمّ بنفسه وابتغاء الحيلة في نجاته إذ نظر فإذا بجانب منه جُحْرُ نَحْل قد صَنَعْن شيئاً من عَسل فَتَطاعم منه فَوَجَدَ حلاوتَه فَشغلته عن الًفِكْر في أمره واْلتماس النَّجاة لنفسه ولم يَذْكُر أنّ رِجْلَيْه فوق أربع حيَّات لا يدْري متى تُسَاوره إحداهن وأنّ الجُرَذَيْنِ دائبان في قَرْض الغُصْن الذي يتعلَق به وأنهما إذا قطعاه وقع في لَهْوة التِّنّين ولم يزل لاهياً غافلاً حتى هَلَك‏.‏
قال الحكيم‏:‏ فشبَّهت الدنيا المملوءة آفاتٍ وشروراً ومخاوفَ بالبئر وشبَّهت الأخلاط التي بُني جَسَدُ الإنسان عليها من المِرَّتين والبَلغم والدَّم بالحيّات الأربع وشَبهت الحياة بالغُصنين اللذين تعلَّق بهما وشَبَّهت الليل والنهار ودورانهما في إفْناء الأيام والأجيال‏!‏ بالجُرَذَين الأبيض والأسود اللذين يَقْرِضان الغُصْنَ دائبَينْ لا يَفْترَان وشبّهتُ الموت الذي لا بد منه بالتِّنين الفاغر فاه وشبَّهْتُ الذي يرى الإنسانُ ويَسمع ‏"‏ ويَطعم ‏"‏ ويَلْمس فَيُلْهيه ذلك عن عاقبة أمره وما إليه مَصِيرة بالعُسَيلة التي تطاعمها‏.‏
من ضرب به المثل من الناس قالت العربُ‏:‏ أَسْخَى من حاتم وأَشجع من رَبيعةَ بن مُكَدَّم وأَدْهَى من قَيْس بن زُهير وأعزُّ من كُلَيب وائل وأَوْفي من السّمَوأَل وأَذْكى من إياس بن معاوية وأَسْود من قَيْس بن عاصم وأَمْنع من الحارث بن طالم وأبلغ من سَحْبان وائل وأَحْلم من الأحْنف بن قيس وأَصْدق من أبي ذرّ الغفاريّ وأكذب من مُسَيلمة الحَنَفيّ وأعيا من باقل وأَمْضى من سُليك المَقَانب وأنْعم من خُرَيم النَّاعم وأحمق من هَبنَّقة وأفْتك من البراض‏.‏
من يضرب به المثل من النساء يقال‏:‏ أشْأم من البَسُوس وأمنع من أم قِرْفة وأحمق من دُغة وأَقْوَد من ظُلْمِة وأبصرَ من زَرْقاء اليمامة - البَسوس‏:‏ جارة جساس بن مُرَّة بن ذهل بن شيْبان ولها كانت الناقة التي قُتل من أجلها كُلَيب بن وائل وبها ثارت بين بَكر بن وائل وتَغْلب ‏"‏ الحرب ‏"‏ التي يُقال لها حَرْب البَسوس‏.‏
وأم قِرْفة‏:‏ امرأة مالك بن حُذَيفة بن بَدْر الفَزاريّ وكان يُعَلَق في بيتها خمسون سيفاً كلُّ سيف منها لذي مَحْرَم لها‏.‏
ودُغَة‏:‏ امرأة من عِجْل بن لُجَيم تزوَجت في بني العَنْبر بن عمرو بن تميم‏.‏
وزَرقاء بني نُمير‏:‏ امرأة كانت باليمامة تُبصر الشَعَرةَ البيضاء ‏"‏ في اللبن وتَنْظُر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام وكانت تُنذر قومها الجُيوش إِذا غَزَتهم فلا يَأتيهم جَيْشٌ إلا وقد استعدُّوا له حتى احتال لها بعضُ مَن غزاهم فأمر أصحابَه فقطعوا شجراً وأمْسكوه أمامهم بأيديهم ونظرت الزَرقاء فقالت‏:‏ إنِّي أرى الشجر قد أقبل إليكم قالوا لها‏:‏ قد خَرِفْت ورَقّ عقلُك وذَهَب بصرُك فكذَّبوها وَصبِّحتهم الخيلُ وأغارت عليهم وقُتلت الزَّرقاء‏.‏
قال‏:‏ فَقوَّرُوا عَينيها فوجدوا عُروق عينيها قد غرِقت في الإثمد من كثرة ما كانت تَكْتحل به‏.‏
وظُلمة‏:‏ امرأة من هُذيل زَنت أربعين عاماً ‏"‏ وقادت أربعين عاماً فلما عَجزت عن الزِّنا والقَوْد اتَّخَذت تَيْساَ وعَنْزاً فكانت تُنْزِى التَيْس على العنز فقِيل لها‏:‏ لم تَفْعلين ذلك قالت‏:‏ حتى أسمع أنْفاس الْجِماع‏.‏
ما تمثلوا به من البهائم قالوا‏:‏ أَشجع من أسد وأَجْبن من الصَّافر وأمْضى من لَيْث عِفَرِّين وأحْذَر من غُراب وأبصر منِ عُقاب ‏"‏ مَلاَع ‏"‏ وأَزْهَى من غُرَاب وِأَذلُّ من قراد ‏"‏ بمَنْسِم ‏"‏ وأَسْمَع من فرَس وأنوَم من فَهْد وأعقُّ من ضب وأجبن من صِفْرِد ‏"‏ وأحقد من جَمَل ‏"‏ وأضرع من سِنَّوْر وأسرَق من زَبابة وأصبر من عَوْد وأَظْلم من حَيّة وأَحنُّ من ناب وأكذبُ من فاخِتة وأعزُّ من بيْض الأنُوق وأَجْوَع من كلْبة حَوْمل وأعزُّ من الأبلق العقوق 0 الصَافر‏:‏ ذو الصَّفير من الطّير والعَوْد‏:‏ المُسِن من الجمال‏.‏
والزَّبابة‏:‏ الفأرة تَسرِق دود الحرير‏.‏
والأنُوق‏:‏ طَيْر يقال إنه‏:‏ يبيض في الهواء‏.‏
وفاخِتة‏:‏ طير يَطير بالرًّطب في غير أيامه‏.‏



ما ضرب به المثل من غير الحيوان
قالوا‏:‏ أَهْدَى من النجم وأجود من الدِّيم وأصْبح من الصّبح وأَسْمَح من البَحر وأنْوَر مِن النَهار وأقْوَدُ من ليل وأمْضى من السيل وأحمق من رِجْلة وأحْسن من دُمية وأَنْزَه منْ روْضة وأَوسع من الدَهناء وآنسُ من جَدْول وأضيق من قَرَار حافِر وأوْحش من مَفازة وأثقل من جَبل وأبقى من الوَحْي في صُمِّ الصِّلاب وأخفُّ من ريش الحَواصِل‏.‏
مما ضربوا به المثل قولهم‏:‏ قَوْس حاجِب وقرْط مارِيَة وحَجَّام سَابَاط وشَقَائِق النعمان وندَامة الكسَعِيِّ وحَدِيث خرافة وكَنْزُ النّطِف وخُفَّا حُنَيْن وعِطْر مَنْشِم‏.‏
أمّا قوسُ حاجب فقد فَسرَّنا خبرَه في كتاب الوفود وأما قُرْط مارية فإِنها مارية بنتُ ظالم بن وَهْب بن الحارث بن مُعاوية الكِنْدِي وأختها هِنْد الهُنود امرأة حُجْر آكل المُرار وابنها الحارث الأعرج الذي ذَكره النابغة والحارثُ الأعْرج خَيْرُ الأنام وإياها يَعْنى حسانُ بن ثابت بقوله‏:‏ أولادُ جَفْنةَ حَوْلَ قَبْر أبيهمُ قبر ابن ماريةَ الكريم المُفضِل وأما حَجام ساباط فإنه كان يَحْجُم الجيوشَ بِنَسِيئةٍ إلى انصرافهم من شدّة كَساده وكان فارسيّا وساباط هو ساباط كِسْرى‏.‏
ونُسبت شَقائق النُّعمان إليه لأنّ النُعمان بنَ المُنذر أمرَ بأن تُحْمَى وتُضْر قَبته فيها استحساناً لها فنُسبت إليه والعربُ تُسَمِّيها الشَقِر‏.‏
وأما خُرافة فإن أنس بنَ مالك يَرْوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها‏:‏ إن من أصدق الأحاديث حديث خُرافة‏.‏
وكان رجلاً من بني عُذْرة سَبتَهْ الجِنّ وكان معهم فإذا استرقوا السمعَ أخبروه فيًخُبِرُ به أهلَ الأرض فَيَجدُونه كما قال‏.‏
وأما كَنْز النَّطِف فهو رجلٌ من بني يَرْبوع كان فقيراً يَحْمل الماء على ظَهْره فَيَنْطُف أي يَقْطُر وكان أغار علىِ مالٍ بَعث به باذانُ من اليمن إلى كِسْرى فأَعْطِى منه يوماً حتى غَرُبت الشمس فَضربت به العربُ المَثل ‏"‏ في كثْرة المال ‏"‏‏.‏
وأما خُفَا حُنَين فإنه كان إِسكافاً من أهل الحيرة ساوَمَه أعرابي بخُفَّين فاختلفا حتى أَغْضبه فأَراد أن يَغِيظ الأعرابيّ فلما ارتحل أخذ أحدَ الخُفين فألقاه في طريق الأعرابيّ ثم أَلقى الآخر بموضع آخر على طَرِيقه فلما مَرَّ الأعرابيّ بالخُف الأول قال‏:‏ ما أشبه هذا بِخُفِّ حُنين لو كان معه صاحبُه لأخذتُه فلمِا مَرَّ بِالآخر نَدِم على تَرْك الأوّل فأناخ راحلتَه وانصرف إلى الأوّل وقد كَمن له حُنين فوَثب على راحلته وذَهب بها وأقبل الأعرابيّ ليس معه غير خفَّي حُنَين فَذَهبت مَثَلاً‏.‏
وأما عِطْر مَنْشِم فإِنها كانت امرأة تَبيع الحُنوط في الجاهليّة فقِيل للقوم إذا تَحاربوا‏:‏ دَقّوا عِطْر مَنْشِم يُراد بذلك طِيب المَوْتى‏.‏
وأما نَدامة الكُسَعيّ فإنه رجل رَمى فأصاب وظَنّ أنه أخطأ فكَسر قوسَه فلما علم نَدِم على كَسر قوسه فضرِب به المثل‏.‏



أمثال أكثم بن صَيْفِيّ وبُزُرْجمِهْر الفارسي العَقْلُ بالتَّجارب‏.‏
الصَّاحبُ مُنَاسب‏.‏
الصديقُ مَن صَدَّق عَيْنينه‏.‏
الغريبُ مَن لم يَكن له حَبيب‏.‏
رًبَّ بَعيدٍ أقربُ من قَريب‏.‏
القريبُ مَن قَرُب نَفْعُه‏.‏
لو تكاشَفْتم ما تَدافَنْتم‏.‏
خيرُ أهلِك مَن كَفاك‏.‏
خَيْرُ سِلاَحك ما وَقاك‏.‏
خيرُ إخوانك مَن لم تَخْبره‏.‏
رُبّ غَريب ناصحُ الجَيْب وابن أب مُتَّهم الغَيب‏.‏
أخوك مَن صَدَقك ‏"‏ النَّصيحةَ ‏"‏‏.‏
الأخُ مِرآةُ أخيه‏.‏
إذا عزّ أخوك فهُن‏.‏
مُكْرَه أخوك لا بَطل تَباعدُوا في الدِّيار وتَقَاربوا في المحبَّة‏.‏
أيُّ الرِّجال المُهذَّب‏.‏
من لك بأخيك كله‏.‏
إنّك إن فَرَّجت لاقٍ فَرَجا‏.‏
أحسِن يُحْسَن إليك‏.‏
ارحم ترْحم‏.‏
كما تَدين تدان‏.‏
مَن برّ يوماً بُرَّ به والدهرُ لا يُغْترّ به عَيْنٌ ‏"‏ عَرفتْ فَذَ ‏"‏ رَفَتْ‏.‏
في كلِّ خِبْرَةٍ عِبرة‏.‏
مِن مَأْمنه يُؤتىَ الحَذِر لا يَعْدُو المرءُ رِزْقَه وإن حَرَص‏.‏
إذا نَزَل القَدَرُ عَمِي البَصر‏.‏
إذا نَزَل الحَينْ نَزل بين الأذنِ والعَينْ‏.‏
الخَمْرُ مِفْتاح كل شرّ‏.‏
الغِنَا رُقْية الزنا‏.‏
القَناعة مال لا يَنْفد‏.‏
خيرُ الغِنى غِنى النَّفس‏.‏
مُنْساقٌ إلى ما أنت لاقٍ‏.‏
خُذ من العافية ما أعطيت‏.‏
ما الإنسان إلا القَلْب واللِّسان‏.‏
إنّما لك ما أَمْضَيت‏.‏
لا تَتكلَّف ما كُفيت ‏"‏ ولا تضيِّع ما وَليت ‏"‏ القَلَم أَحَدُ اللِّسانيَن‏.‏
قِلّة العِيَال أَحَد اليَسَارَيْن‏.‏
رُبما ضاقت الدُّنيا باثنين‏.‏
لن تَعْدَم الحسناءُ ذاماً‏.‏
لن يَعْدَم الغاوِي لائما‏.‏
لا تَكُ في أَهْلك كالجنازة لا تَسْخر من شيء فَيَحُورَبك‏.‏
أخِّر الشرَّ فإذا شِئتَ تَعَجَّلته‏.‏
صَغير الشرَّ يُوشِك يوماً أن يَكْبُر‏.‏
يُبْصِر القلبُ ما يَعْمَى عنه البَصر‏.‏
الحُرّ حُرٌّ وإنْ مَسّه الضُّر‏.‏
العَبْد عَبْد وإن ساعدَه جَدّ‏.‏
مَن عرف قدرَه استبان أمره‏.‏
مَن سَرّه بَنُوه ساءته نَفْسه‏.‏
من تَعظَّم على الزمان أهانَه‏.‏
مَن تعرَّض للسلطان أرداه ومن تَطامن له تخطّاه مِن خَطا يَخطو‏.‏
كلّ مَبْذول مَمْلول‏.‏
كل ممنوع مَرْغوب فيه‏.‏
كل عزيز تحت القُدْرة ذليل‏.‏
لكل مَقام مَقال‏.‏
لكل زمان رجال‏.‏
لكل أجل كتاب‏.‏
لكل عَمَل ثَواب‏.‏
لكل نبأ مُسْتقر‏.‏
لكل سرّ مُسْتَودع‏.‏
قيمةُ كلِّ إنسان ما يُحْسن‏.‏
أطلُب لكلِّ غَلِق مِفْتاحا‏.‏
أكثر في الباطل يكُن حقّا‏.‏
عند القَنَط يأتي الفَرَج‏.‏
عند الصَّباح يُحْمد السُّرَى‏.‏
الصّدق مَنْجاة والكَذب مَهْواة‏.‏
الاعترافُ يَهْدم الاقتراف‏.‏
رُبّ قول أنفذُ من صَوْل‏.‏
رُبّ ساعة ليس بها طاعة‏.‏
رب عَجلةِ تُعْقِب رَيْثاً‏.‏
ربّ كلام أقطعُ من حُسام‏.‏
بعضُ الجَهْل أبلغ من الحِلم‏.‏
رَبيعُ القَلْب ما اشتهى‏.‏
الهوى شديدُ العَمَى‏.‏
الهوَى الإله المَعْبود‏.‏
الرأي نائمٌ والهوى يَقْظان‏.‏
غَلَب عليك مَن دَعا إليك‏.‏
لا راحةَ لحَسُود ولا وَفاء ‏"‏ لمَلُول ‏"‏‏.‏
لا سرور كطيب النَّفس = العُمْر أقصرُ من أن يَحْتَمِل الهَجْر‏.‏
أحقُّ الناس بالعَفْو أَقدرُهم على العُقوبة‏.‏
خيِرُ العِلم ما نَفع‏.‏
خيرُ القَوْل ما اتُّبع‏.‏
البطْنة تُذْهِب الفِطْنة‏.‏
شَرُّ العَمَى عَمى القَلْب أوْثقُ العُرَى كلمة التَّقوى‏.‏
النِّساء حَبَائل الشّيطان 0 الشَّباب شُعْبة من الجنون‏.‏
الشَّقيّ شَقيٌّ في بطن أمه‏.‏
السَّعِيدُ مَنٍ وعظ بغَيْره لكل امرئ في بَدَنه شُغل‏.‏
مَن يَعْرِف البلاءَ يْصبر عليه المَقادير تريك مالا يَخْطرُ ببالك‏.‏
أفضلُ الزاد ما تزوّد ‏"‏ ته ‏"‏ للمعاد‏.‏
الفحل أحمى للشَّول‏.‏
صاحب الحُظْوة غدا مَن بَلَغ المَدَى‏.‏
عواقبُ الصّبر مَحْمودة‏.‏
لا تُبْلغ الغاياتُ بالأماني‏.‏
الصَّريمةُ على قَدْر العَزيمة‏.‏
الضَّيفُ يثني أو يَذُم‏.‏
مَن تَفكَّر اعتَبر‏.‏
كم شاهد لك لا يَنْطِق‏.‏
ليس منك من غَشَّك‏.‏
ما نَظر لامرىء مثلُ نفسه‏.‏
ما سدَّ فقرك إلا مِلْك يمينك‏.‏
ما على عاقل ضيْعة‏.‏
الغِنَى في الغُرْبة وَطن والمُقِلُّ في أهله غَريب‏.‏
أوَّل المَعرفة الاختبار‏.‏
يَدك منك وإن كانت شَلاَّءَ أنفُك منك وإن كان أجْدع‏.‏
من عُرف بالكَذِب لم يُجُز صِدْقُه ومن عُرف بالصِّدْق جاز كَذِبه‏.‏
الصّحة داعية السَّقم‏.‏
الشباب داعيةُ الهرَم‏.‏
كثرة الصِّياح من الفَشَل‏.‏
إذا قَدُمت المُصيبة تُركت التَّعزية‏.‏
إذا قَدُم الإخاء سمُجِ الثَناء‏.‏
العادةُ أملكُ من الأدب‏.‏
الرِّفْق يمن والخُرْق شُؤْم‏.‏
المرأة رَيحانة وليست بقهْرمَانة‏.‏
الدالُّ على الخيْر كفاعله‏.‏
المُحَاجزة قبل الُمناجزة‏.‏
قبل الرّماية تُملأ الكَنائن‏.‏
لكلّ ساقِطَة لاقِطَة‏.‏
مَقْتل الرّجل بين فكّيه‏.‏
تَرْك الحَرَكة غَفْلة‏.‏
طُول الصَّمت حُبْسة‏.‏
من خَيْر خَبَر أن تَسْمَع بمطر‏.‏
كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا لِلخَونة‏.‏
قَيِّدوا النِّعم بالشكر‏.‏
مَن يَزْرع المعروفَ يَحْصُد الشكر‏.‏
لا تَغْترّ بمودّة الأمير إذا غَشّك الوزير‏.‏
أعْظمُ من المُصيبة سُوء الخَلَف منها‏.‏
مَن أراد البقاء فَلْيوطِّن نفسه على المصائب‏.‏
لقاء الأحبة مَسْلاة للهمّ‏.‏
قَطيعة الجاهل كَصِلة العاقل‏.‏
مَن رَضي عن نفسه كثر الساخط عليه‏.‏
قَتلَت أرضٌ جاهلَها وقَتل أرضاً عارفُها‏.‏
أدْوأ الدواء الخُلق الدَّني واللسان البذِيّ‏.‏
إذا جعلك السلطانُ أخا فاجعلْه ربّا‏.‏
احْذَر الأمين ولا تأمن الخائن‏.‏
عند الغاية يُعْرف السابق‏.‏
عند الرّهانِ يْحْمَد المضمار 0 السُّؤال وإن قَلَّ أكثر من النَّوال وإن جَلّ‏.‏
كافيء المعروفَ بمثله أو انشره‏.‏
لا خَلَّة مع عَيْلة‏.‏
ولا مُرُوة مع ضُرّ ولا صبر مع شَكْوَى‏.‏
ليس من العَدْل سُرْعة العَذْل‏.‏
عبدُ غيرك حُرٌّ مِثْلك‏.‏
لا يَعْدم الخيارَ مَن استشار‏.‏
الوضيعُ من وَضَع نفسه‏.‏
المَهين من نَزَل وَحْده‏.‏
من أكثر أهْجر‏.‏
كفى بالمرء كَذبا أن يُحَدِّث بكلّ ما سَمِع‏.‏
‏"‏ كلّ إناء يَنْضح بما فيه‏.‏
العادة طَبْعٌ ثان ‏"‏‏.‏



من أمثال العرب
مما روى أبو عبيد جَرّدناها من الآداب التي أدخلها فيها أبو عُبيد إذ كنا قد أفردنا للأدب والمواعظ كُتًباً غَير هذا وضَمَمْنا إلى أمْثِلة العرب القديمة ما جَرَى على ألْسنة العامة من الأمثال المُسْتعملة وفَسَّرنا من ذلك ما احتاج إلى التفسير فمن ذلك قولُهم‏:‏ في حفظ اللسان‏:‏ لِعُمَر بن عبد العزيز‏:‏ التقيُّ مُلْجَم لأبي بكر الصِّديق‏:‏ ‏"‏ إنّ ‏"‏ البَلاءَ مُوكّل بالمنطق‏.‏
لابن مَسْعود‏:‏ ما شيَءٌ أوْلى بطُول سِجْن من لِسَان‏.‏
لأنس بن مالك‏:‏ لا يكون المؤمن مُؤمناً حتى يَحْتَرِزَ مِن لِسانه ولسان غيره‏.‏
آحذَر لسانَك لا يَضرب عُنُقك‏.‏
جُرْح اللّسان كجُرْح اليد‏.‏
ربَّ كلامٍ أقطعُ من حُسام‏.‏
القوْلُ يَنْفُذ ما لا تَنْفُذ الأبرَ‏.‏
قال الشاعر‏:‏ وقد يُرْجَى لجُرْح السيف بُرْءٌ ولا بُرْءٌ لما جرح اللِّسانُ اجتلبنا هذا البيِت لأنه قد صار مَثلاَ سائراَ للعامة وجعلنا لأمثال الشعراء في آخر كتابنا هذا باباً‏.‏
وقال أكثم بن صَيْفي‏:‏ مَقْتل الرَّجل بين فكَّيه‏.‏
وقال‏:‏ ربما أَعْلَم فأَذَرُ‏.‏
يريد أنه يَدع ذِكرَ الشيء وهو به عالم لما يَحْذر من عاقبته‏.‏
اكثار الكلام وما يتقى منه - قالوا‏:‏ مَن ضاق صَدْرُه اتَّسع لسانُه‏.‏
ومن أكثَر أَهْجَر‏:‏ أي خَرَج إلى الهُجْر وهو القَبيح من القَول‏.‏
وقالوا‏:‏ المِكثار كحاطب ليل‏.‏
وحاطِبُ اللَّيل ربما نَهَشته الحيَّة أو لسعتْه العَقْرب في احتطابه ليلا‏.‏
وقالوا‏:‏ أوَل العيّ الاختلاط وأسوء القًول الإفراط‏.‏
في الصمت - قالوا‏:‏ الصمتُ حُكم وقليلٌ فاعله‏.‏
وقالوا‏:‏ عَيّ صامِت خَيْرٌ من عَيٍّ ناطق‏.‏
والصمتُ يُكْسِب أهلَه المحبّة‏.‏
وقالوا‏:‏ استَكْثَر من الهَيْبة الصَّموتُ‏.‏
والندم على السُّكوت خَيْر من النَّدم على الكلام‏.‏
وقالوا‏:‏ السُّكوت سَلاَمة‏.‏
القصد في المدح - منه قولُهم‏:‏ من حَفَّنا أورَفنَّا فَلْيَقْتصد‏.‏
يقول‏:‏ مَن مدحنا فلا يَغْلونّ في ذلك‏.‏
وقولهم‏:‏ لا تَهْرِف بما لا تَعْرف‏.‏
والهَرْف‏:‏ الإطْناب في المَدْح والثناء‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ شاكِهْ أبا يَسار من دون ذا يَنْفُق الحِمَار‏.‏
أخبرنا أبو محمد الأعرابيِ عن رجل من بني عامر بن صَعْصعة قال‏:‏ لقي أبو يسار رجلاً بالمِرْبَد يَبِيع حِماراَ ورجلاً يُساومه فجعل أبو يسار يُطْرِي الحِمَار فقال المُشتري‏:‏ أعَرَفْت الحمار قال‏:‏ نعم قال كيف سَيْرُه قال‏:‏ يُصْطاد به النعامُ مَعقولاً قال له البائع‏:‏ شاكِه أبا يسار مِن دُون ذا يَنْفق الحمار‏.‏
والمُشاكهة‏:‏ المُقاربة والقصد‏.‏
صدق الحديث - منه قولهم‏:‏ من صدق الله نَجا‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ سُبَّني واصْدُق‏.‏
وقالوا‏:‏ الكذب داء والصدق شِفَاء‏.‏
وقولهم‏:‏ لا يَكْذب الرائدُ أهلَه‏.‏
معناه أن الذي يَرْتاد لأهله منزلاً لا يكْذبهم فيه‏.‏
وقولهم‏:‏ صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ‏.‏
أصلُه أنّ رجلاً ابتاع من رجل بعيراً فسأله عن سنه فقال له‏:‏ إنه بازل فقال له‏:‏ أنِخْه فلما أناخه قال‏:‏ هِدَعْ هِدَعْ - وهذه لفظة تُسكّن بها الصِّغار من الإبل - فلما سمِع المُشْتري هذه الكلمةَ‏.‏
قال‏:‏ صدَقني سِنَّ بَكْره‏.‏
ومنه قوُلهم‏:‏ القَوْلُ ما قالت حَذَام‏.‏
وهي امرأة لُجَيمْ بن صعْب والد حَنِيفة وعِجْل ابني لجيم وفيها قال‏:‏ إذا قالت حَذام فَصَدِّقوها فإنّ القولَ ما قالتْ حَذَام من أصاب مرة وأخطأ مرة - منه قولهم‏:‏ شُخب في الإناة وشُخب في الأرض ‏"‏ شُبه بالحالب الجاهل الذي يَحْلًب شُخْباً في الإناء وشخباً في الأرض ‏"‏ وقولهم‏:‏ يَشُجّ مرة ويأسو أُخرى‏.‏
وقولهم‏:‏ سَهْم لك وسهم عليك‏.‏
وقولهم‏:‏ اْطرِقي ومِيشي‏.‏
‏"‏ والطّرْق‏:‏ ضرْبُ الصوف بالمِطْرقة ‏"‏‏.‏
والميَشْ أن يُخلطَ الشّعرَ بالصُّوف والمِطْرقة‏:‏ العُود الذي يُضْرَب به بين ما خُلِط‏.‏
سوء المسألة وسوء الإجابة - قالوا‏:‏ أساء سَمْعاً فأساء جابة‏.‏
وهكذا تُحكى هذه الكلمة جابة بغير ألف وذلك أنه اسم موضوع‏.‏
يقال أجابني فلان جابةً حسنة فإذا أرادوا المصدر قالوا‏:‏ إجابة بالألف‏.‏
وقالوا‏:‏ حدِّث امرأة حَدِيثين فإن لم تَفْهم فأربعة‏.‏
كذا في الأصل والذي أحفظ فأرْبَعْ أي أمسِك‏.‏
وقولهم‏:‏ إليك يُساق الحَدِيث‏.‏
من صمت ثم نطق بالفهاهة - قالوا‏:‏ سكت ألفاً ونَطق خَلْفاً 0 الخلْف من كل شيء‏:‏ الرَديء‏.‏
المعروف بالكذب يصدق مرة - قولهم‏:‏ مَع الخواطىء سَهْمٌ صائب‏.‏
ورُبَّ رَمْية من غير رام‏.‏
وقولهم‏:‏ قد يَصدُق الكَذُوب‏.‏
المعروف بالصدق يكذب مرة - قالوا‏:‏ لكل جواد كَبْوة ولكلّ صارم نَبْوة ولكل عام هَفْوة‏.‏
وقد يَعْثر الجواد‏.‏
ومَن لك بأخيك كُلِّه‏.‏
وأيّ الرجال المًهذّب‏.‏
كتمان السر - قالوا‏:‏ صَدْرك أوْسع لسرّك‏.‏
وقالوا‏:‏ لا تُفْش سرِّك إلى أَمَة ولا تَبُلْ على أكمةٍ‏.‏
يقول‏:‏ لا تُفْش سرِّك إلى امرأة فَتُبديَه ولا تَبُلْ على مكان مُرتفع فَتبْدوَ عوْرتك‏.‏
ويقولون إذا أسرُّوا إلى الرجل‏:‏ اجعل هذا في وعاء غير سَرِب‏.‏
وقولهم‏:‏ سِرُّك من دَمك‏.‏
وقيل لأعرابي‏:‏ كيف كِتْمانك السرُ فقال‏:‏ ما صَدْرِي إلا القبر‏.‏
اٍنكشاف الأمر بعد اكتتامه - قولهم‏:‏ حَصْحَص الحقُّ‏:‏ وقولهم‏:‏ أبْدَى الصَرِيخ عن الرّغْوَة‏.‏
وفي الرّغوة ثلاث لغات‏:‏ فتح الراء وضمّها وكسرها‏.‏
وقولم‏:‏ صَرَّح المَحْض عن الزُبْد‏.‏
وقالوا‏:‏ أفْرَخ القومُ بَيْضتَهم أي أخرجوا فَرْختها يريدون أظهروا سِرَّهم‏.‏
وقولهم‏:‏ بَرِح الخَفاء وكُشِف الغِطَاء‏.‏
ابداء السر - قالوا‏:‏ أفضيتُ إليك بشُقُوري أي أخبرتُك بأمْري وأطلعتُك على سرِّي‏.‏
وقولهم‏:‏ أخبرتُك بعُجَري وبُجَرى أي أطلعتُك على مَعايبي‏.‏
والعُجَر‏:‏ العرُوق المنعقدة وأما البجُر فَهي في البَطن خاصّة‏.‏
وتقول العامة‏:‏ لو كان في جَسَدي بَرَصَ ما كَتَمْتُكه‏.‏
الحديث يتذكر به غيره - قالوا‏:‏ الحديث ذو شُجُون - وهذا المثل لضَبَّة ابن أُدّ وكان له ابنان‏:‏ سَعْد وسَعِيد‏.‏
فخرجا في طلب إبل لهما فرجع سَعْد ولم يَرْجع سعيد فكان ضَبّة كلما رأى رجلاً مُقْبلا قال‏:‏ أسَعْد أم سَعيد فذهبت مثلاً‏.‏
ثم إن ضبّة بينما هو يَسير يوماً ومعه الحارث بن كَعْب في الشَّهر الحَرام إذ أتى على مكان فقال له الحارث‏:‏ أتَرى هذا اْلمَوضع فإني لقيتُ فتىً هيئتُه كذا وكذا فقتلتُه وأخذت منه هذا السيفَ فإذا بصفة سعيد فقال له ضَبَّة‏:‏ أرني السيفَ أنْظُر إليه فناولَه فَعَرفه فقال له‏:‏ إن الحديث ذو شجون ثم ضرَبه به حتى قَتله فلامَه الناسُ في ذلك وقالوا‏:‏ أقتلتَ في الشهر الحرام‏!‏ قال‏:‏ سَبق السيفُ العَذَل فذهبتَ مَثلا‏.‏
ومنه‏:‏ ذَكّرْتَني الطًعنَ وكنتُ ناسياً‏.‏
وأصل هذا أنّ رجلا حَمَل ليقتل رجلاً وكان بيد المَحْمول عليه رُمْح فأَنْساه الدًهشُ والجَزَع ما في يده فقال له الحامل‏:‏ أَلْقِ الرُّمح قال الآخر‏:‏ فإنّ رُمْحي لَمَعي‏!‏ ذَكِّرتني الطعن وكنتُ ناسياً ثم كًرّ على صاحبه فَهَزمه أو قَتَله‏.‏
ويقال‏:‏ إنّ الحاملَ صَخْر أو مُعاوية السُّلَمي أخو الخَنساء والمَحْمول عليه يَزيد بن الصَّعِقْ‏.‏
العذر يكون للرجل ولا يمكن أن يبديه - منه قولهم‏:‏ رُبَّ سامع بخبري لم يَسْمَع عًذْري‏.‏
ورُبَّ مَلُوم لا ذَنْب له‏.‏
ولعَلَّ له عُذْراً وأنت تَلوم‏.‏
وقولهُم‏:‏ المرْء أَعْلم بشأنه‏.‏
الاعتذار في غير موضعه - منه قولهم‏:‏ تَرْكً الذًنب أيسرُ من التماس العُذْر‏.‏
وتَرْك الذَّنب أيسرُ من طَلَب التَّوبة‏.‏
التعريض بالكناية - منه قولُهم‏:‏ أَعَن صَبُوحٍ تُرَقِّق ومنه قولهم‏:‏ إيّاكِ أَعْني واسمعي يا جارة‏.‏
المن بالعروف - قالوا‏:‏ شَوى أخوك فلما انضج رمَد‏.‏
وقولهم‏:‏ فَضْلُ القَوْل على الفِعْل دنَاءة وفَضْل الفِعْل على القَوْل مَكْرُمة‏.‏
الحمد قبل الاختبار - لا تَحْمدنّ أمةً عام آشترائها ولا حُرَّة عام بِنَائها‏.‏
وقولهم‏:‏ لا تَهْرِف قبلَ إنجاز الوعد - قالوا‏:‏ أنْجز حُرُّ ما وَعد‏.‏
وقولهم‏:‏ العِدَة عطيّة‏.‏
وقولهم‏:‏ من أَخَّر حاجةً فقد ضَمِنها‏.‏
وقالوا‏:‏ وَعْدُ الحرِّ فِعْل ووَعْد اللًئيم تَسْويف‏.‏
وقالت العامّة‏:‏ الوَعد من العَهد‏.‏
التحفظ من المقالة القبيحة وان كانت باطلاَ - حَسْبُك من شَرِ سَماعَهُ وما اْعتذارُك من شيء إذا قِيل الدعاء بالخير - منه قولهم للقادم من سفره‏:‏ خَيْرُ ما رُدَّ في أهلٍ ومال‏.‏
أي جعلك الله كذلك‏.‏
وقولُهم‏:‏ بَلَغ اللَهُ بك أكلأ العُمر أي أقصاه‏.‏
وقولهم‏:‏ نِعم عَوْفُك أي نَعِم بالك 0 وقولهم في النِّكاح‏:‏ على يَدِ الخَير واليُمْن‏.‏
وقولهم‏:‏ بالرِّفاء والبَنِين يريد بالرِّفاء‏:‏ الكثرة يقال منه‏:‏ رفأته إذا دعوت لَه بالكثرة‏.‏
وقولهمِ‏:‏ هُنِّئْتَ ولا تُنْكَه أي أصابك خَيْر ولا أصابك ضُرّ‏.‏
وقولهم‏:‏ هَوَت أمّه‏.‏
وهبِلته أمُّه‏.‏
يدعون عليه وهم يريدون الحمدَ له‏.‏
ونحوُه‏:‏ قاتَله اللّه وأَخْزاه اللّه إذا أحسن‏.‏
ومنه قولُ امرِىء القَيْس‏:‏ ما له عُدَّ من نَفَرِه تعيير الانسان صاحبه بعيبه - قالوا‏:‏ رَمَتْنِي بدائها وانسلَّت‏.‏
وقولهم‏:‏ عَيَّر بُجَيْر بُجَرَه نَسيَ بُجَيْر خَبَرَه‏.‏
وقولهم‏:‏ مُحْترَس من مِثْله وهو حارِس وقولهم‏:‏ تُبْصِر القَذى في عَيْن أخيك ولا تُبْصرِ الْجذع في عَيْنك‏.‏
الدعاء على الإنسان - منه قولهم‏:‏ فاهَا لِفِيك يريد الأرضَ لِفِيك‏.‏
وقولهم‏:‏ بِفِيك الحَجَر وبفيك الأثْلَب‏.‏
وقولهم‏:‏ لِلْيَدين وللفم‏.‏
ولما أتي عمر بن الخطاب رضي اللهّ عنه بسكران في رمضان قال له‏:‏ لليدين وللفم أولدانُنا صِيَامٌ وأنت مُفْطِر وضربه مائَةَ سَوْط‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ بجَنْبه فلْتكن الوَجْبَة‏.‏
يريد الصرعة‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ مِن كِلا جانِبَيك لا لبَّيك أي لا كانت لك تَلْبية ولا سَلامة من كلا جانِبَيك‏.‏
والتَّلبية‏:‏ الإقامة بالمكان وقولهم‏:‏ به لا بِظبْي‏.‏
وقال الفرزدق‏:‏ أقولُ له لما أتاني نَعِيُّه به لا بِظبْي بالصَّريمة أعفرَا ومنه قولهم‏:‏ جَدَع الله مَسامِعَهُ‏.‏
وقولهم‏:‏ عَقْراً حَلْقاً‏.‏
يريد عَقَره الله وحلَقه‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ لا لَعاً له أي لا أقامه اللّه‏.‏
قال الأخطل‏:‏ ولا لعاً لبَني ذَكْوانَ إذا عَثروا ولحبيب‏:‏ صَفْراء صُفْرةَ صِحَّة قد رَكبَّت جُثمانه في ثَوْب سُقْمٍ أصْفَرِ قَتلتْه سرٍّاً ثم قالتْ جَهْرةً قولَ الفَرزدق لا بِظَبْيٍ أعفَر رمى الرجل غيره بالمعضلات - منه قولهم‏:‏ رماه بأقحافِ رأسِه‏.‏
ورَماه بثالثة الأثافي يريد قطعةً من الجَبل يُجعل إلى جَنْبها أثفيّتان وتكون هي الثالثة‏.‏
ومنه‏:‏ يا للعَضِيهة والأَفِيكة إذا المكر والخلابة - منه قولهم‏:‏ فَتَل في ذِرْوَته‏.‏
أي خادَعه حتى أَزاله عن رأيه‏.‏
قال أبو عُبيد‏:‏ ويُروي عن الزُبير أنه حين سأل عائشةَ الخُروجِ إلى البَصرِة فأَبَتْ عليه فما زالَ يفْتِل في الذِّرْوة والغارِب حتى أجابت‏.‏
وقولهم‏:‏ ضرَب أخماساَ لأسْداس يريدون المُماكرة‏.‏
وقال آخر‏:‏ إذا أراد امرؤ مَكراً جَنَى عِلَلاً وظَلَّ يَضرب أخماساً لأسْداس ومنه قولهم‏:‏ الذئب يأدو للغَزَال أي يَخْتِله ليُوقعه‏.‏
اللهو والباطل - منه قولهم‏:‏ جاء فلان بالتُرّه وجرى فلان السُّمَّة وهذا من أسماء الباطل‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أنا من ددٍ ولا دَدٌ مني‏.‏
وفيه ثلاث لغات‏:‏ دَدٌ وددا مثل قفا وددَن مثل حَزَن‏.‏
خلف الوعد - منه قولهم‏:‏ ما وَعْدُه إلا بَرْق خُلَّب وهو الذي لا مَطَر معه‏.‏
ومنه‏:‏ ما وَعْده إلا وَعْد عُرْقوب وهو رجل من العَماليق أتاه أخوه يسأله فقال‏:‏ إذا أطلعت هذه النخلةَ فلك طلعها فأتاه لِلِعدَة فقال‏:‏ دَعْها حتى تصيرَ بَلَحا فلما أبلحت قال‏:‏ دَعْها حتى تَصِير رًطَبا فلما أرْبطت قال‏:‏ دَعْها حتى تَصِير تمراً فلما أتمرت عَمَد إليها عُرقوبُ فجزَّها ولم يُعْطِ أخاه شيئاً فصارت مثلاً سائراً في الخُلف‏.‏
قال الأعشى‏:‏ اليمن الغموس - منه قولهم‏:‏ جَذَّها جَذَّ العَيْر الصِّلْيانةَ وذلك أن الَعَيْرَ ربما اقتلع الصِّلْيانة إذا ارتعاها‏.‏
ومنه الحديثُ المرفوع‏:‏ اليمين الغَمًوس تَدَع الدَيار بلاقع‏.‏
قال أبو عُبيد‏:‏ اليمن الغَمُوس هي المَصْبورة التي يُوقف عليها الرجل فَيَحْلف بها وسمِّيت غَمُوساً لغَمْسها حالِفها في المآثم‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ اليمين حِنْث أو مَنْدمة‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من كان حالفاً فَلْيَحْلف بالله‏.‏
أمثال الرجال واختلاف نعوتهم في الرجل المبرز في الفضل - قولهم‏:‏ ما يُشَقّ غُبَارُه‏.‏
وأصله السابقُ من الخَيْل‏.‏
وقولهم‏:‏ جَرْيَ المُذَكّى حَسَرَتْ عنه الحُمُر‏.‏
أي كما يَسْبق الفرسُ القارِح الحُضرَ وقولهم‏:‏ جَرْيُ المُذَكَيَات غِلاَء أو غِلاَب‏.‏
وقولهم‏:‏ لَيست له هِمَّة دون الغَاية القُصْوى‏.‏
الرجل النبه الذكر - قولهم‏:‏ ما يُحْجَر فلانٌ في العِكْم‏.‏
العِكْم‏.‏
العِكْم‏:‏ الجُوالق يريد أنه لا يخفي مكانه‏.‏
وقولهم‏:‏ ما يومُ حَلِيمة بِسرّ‏.‏
وكانت فيه وقعة مشهورة قُتل فيها المنذر بن ماء السماء فضربت مثلا لِكلّ أمر مشهور‏.‏
وقولهم‏:‏ أشْهر من الفَرَس الأبلق‏.‏
وقولهم‏:‏ وهل يَخْفي على النَاس النَّهار‏.‏
ومثلُه‏:‏ وهل يَخْفي على الناصر الصُّبح‏.‏
وقولهم‏:‏ وهل يجهل فلاناً إلا من يجهل الرجل العزيز يعذبه الذليل - منه قولهم‏:‏ إن البغاث بأرضنا تستنسر‏.‏
البغاث صغار الطير‏.‏
تستنسر‏:‏ تصير نسوراً‏.‏
وقولهم‏:‏ لا حرَّ بوادي عوف‏.‏
يريدون عوف بن محلِّم الشيباني وكان منيعاً‏.‏
وقولهم‏:‏ تمرَّد مارد وعزَّ الأبلق‏.‏
ما رد‏:‏ حصن بدومة الجندل‏.‏
والأبلق‏:‏ حصن ‏"‏ السمؤال ‏"‏‏.‏
ومن عزَّ بزَّ ومن قلّ ذلّ ومن أمر فلّ‏.‏
أمر‏:‏ كثر‏.‏
الرجل الصعب - منه قولهم‏:‏ فلان ألوى بعيد المستمرّ‏.‏
وقولهم‏:‏ ما بللت منه بأفوق ناصل‏.‏
وأصله السهم المكسور والفوق الساقط النّصل‏.‏
يقول‏:‏ فهذا ليس كذلك ‏"‏ ولكنه كالسّهم القويّ ‏"‏‏.‏
وقولهم‏:‏ ما يقعقع لي بالشِّنان‏.‏
وقولهم‏:‏ ما يصطلى بناره‏.‏
وقولهم‏:‏ ما تقرن به صعبة‏.‏
النجد يلقى قرنه - منه قولهم‏:‏ إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً والحديد بالحديد يفلح‏.‏
والفلح‏:‏ الشق‏.‏
‏"‏ ومنه‏:‏ فلاحة الأرض وهو شقها بالحرث ‏"‏‏.‏
ولا يفلّ الحديد إلا الحديد‏.‏
والنَّبع يقرع بعضه بعضاً ورمي فلان بحجره أي قرنٌ بمثله‏.‏
الأريب الداهي - هو هتر أهتار‏.‏
وصلُّ أصلال‏.‏
الصِّلُّ‏:‏ من الحيَّات شبه الرجل بها‏.‏
ومثله‏:‏ حيَّة ذكر وحيَّة وادٍ‏.‏
وقولهم‏:‏ هو عضلة من العضل‏.‏
وهو باقعة من البواقع‏.‏
وحوَّل قلَّب‏.‏
ومؤدم مبشر يقول‏:‏ فيه لين الأدمة وخشونة البشرة‏.‏
وفلان يعلم من حيث تؤكل الكتف‏.‏
النبيه بلا منظر ولا سابقة - قال أبو عبيد‏:‏ هو الذي تسمِّيه العرب الخارجيَّ يريدون خرج من أبا مروان لست بخارجيٍّ وليس قديم مجدك بانتحال وقولهم‏:‏ تسمع بالمعيديّ خيرٌ من أن تراه وهو تصغير رجل منسوب إلى معدّ‏.‏
وقالوا‏:‏ نفس عصامٍ سوَّدت عصاما الرجل العالم النحرير - قالوا‏:‏ إنه لنقّاب وهو الفطن الذكيّ‏.‏
وقالوا‏:‏ إنه لعضُّ وهو العالم النحرير‏.‏
وقولهم‏:‏ أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجَّب‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ الجذيل‏:‏ تصغير الجذل وهو عود ينصب للإبل الجرباء لتحتكّ به من الجرب فأراد أنه يشفى برأيه‏.‏
والعذيق‏:‏ تصغير عذق والعذق ‏"‏ بالفتح ‏"‏‏:‏ النخلة نفسها فإذا مالت النخلة الكريمة بنوا من جانبها المائل بناء مرتفعاً يدعِّمها لكيلا تسقط فذلك التّرجيب وصغّرهما للمدح‏.‏
ومثله قولهم‏:‏ إنه لجذل حكاك‏:‏ ومنه قولهم‏:‏ عَنِيَّته تَشْفِي الجرب‏.‏
والعَنية‏:‏ شيء تُعالج به الإبل إذا جَربت‏.‏
وقولهم‏:‏ لذي الْحِلم قبل اليوم ما تُقْرَع العصا وأوَّل من قُرعت له العصا سَعد بن مالك الكِنانيّ ثم قُرعت لعامر بن الظّرب العدْواني وكان حَكَم العرب في الجاهلية فكَبِر حتى أنكر عَقْله فقال لبنيه‏:‏ إذا أنا زِغْت فقوِّموني وكان إذا زاغ قُرعت له العصا فيَنْزع عن ذلك‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ إنه الأْلمعيّ وهو الذي يُصيب بالظنّ‏.‏
وقولُهم‏:‏ ما حَكَكْت قَرْحة إلا أدميتها‏.‏
وقولهُم الأمور تَشابه مُقبلةً وتَظهر مُدْبرة ولا يَعرفها مُقبلة الرجل المجرب - منه قولُهم‏:‏ إنه لشراب بِأنْقُع أي مُعاود للخَير والشرّ‏.‏
وقولُهم‏:‏ إنه لَخرَّاج وَلاج‏.‏
وقولُهم‏:‏ حَلَب الدَّهر أشْطُره وشرِبَ أفاويقه أي اختبر من الدَهر خيره وشرَه‏.‏
فالشّطر‏:‏ هو شَطر الحَلبة والفِيقة‏:‏ ما بين الحَلْبتين‏.‏
وقولُهم‏:‏ رجل مُنَجَّدٌ وهو المًجَرِّب وأصله من النَواجذ يقال‏:‏ قد عضَ على ناجذيه إذا استحكم‏:‏ وقولهم‏:‏ أول الغَزْو أخرق‏.‏
وقولهم‏:‏ لا تَغْزُ إلا بغلام قد غزا‏.‏
وقولُهم‏:‏ زاحِم بعَوْد أودَع‏.‏
‏"‏ معناه‏:‏ لا تَستعن إلا بمُسنّ مُحْكم أودَع ‏"‏‏.‏
وقولهم‏:‏ العَوان لا تُعلِّم الخِمْرة‏.‏
وقالت العامة‏:‏ الشارف لا يُصفّر له‏.‏
الذب عن الحرم - قالوا‏:‏ الفَحْل يحمي شَوْله‏.‏
والخيل تَجْري على مَساويها‏.‏
يقول‏:‏ إن الخيل وإن كانت لها عُيوب فإنّ كرمها يحملها على الجري‏.‏
وقولهم‏:‏ النَساء لَحم على وَضم إلا ما ذًبَّ عنه‏.‏
وقولهمِ‏:‏ النِّساء حبائلُ الشَّيطان‏.‏
وقولهم‏:‏ كل ذات صِدَار خالَة يريد أنه يَحميها كما يحمي خالَته‏.‏
الصلة وِالقطيعة - منه قولهم‏:‏ لا خَير لك فيمن لا يَرى لك ما يَرى لِنفسه‏:‏ وقولُهم‏:‏ إنما يُضن بالضَنين‏.‏
وقولُهم خلِّ سبيلَ من وَهَى سِقاؤُه‏.‏
وقولُهم‏:‏ ألْقِ حبلَه على غارِبه‏.‏
وقولُهم‏:‏ لو كَرِهْتني يدي قَطَعْتُها‏.‏
الرجل يأخذ حقه قسرا - منه قولُهم‏:‏ يَرْكب الصَّعبَ من لا ذَلُول له‏.‏
وقولُهم‏:‏ مُجَاهرةً إذا لم أَجِد مَختلا‏.‏
يقول‏:‏ آخذ حقِّي قسراً وعلانيَةَ إذا لم أصِل إليه بالسَّتر والعافية‏.‏
وقولًهم‏:‏ حَلبتها بالساعد الأشدِّ يقول‏:‏ أخذتُها بالقوّة والشدةً إِذ لم أقْدِر عليها بالرِّفق‏.‏
وقولُهم‏:‏ التجلّد خيرٌ من التبلّد‏.‏
والمنيَّة خيرٌ من الدنيّة‏.‏
ومن عَزّ بَزّ‏.‏
الإطراق حتى تصاب الفرصة - منه قولُهم‏:‏ مخرِنْبق لينباع‏.‏
مخْرَنبْق‏:‏ مُطْرِق‏.‏
لِينباع‏:‏ لينبعث‏.‏
يقول‏:‏ سكت حتى يُصيب فرصته فيَثب عليها‏.‏
وقولُهم‏:‏ تَحْسَبها حمقاء وهي باخِس‏.‏
وقولُهم‏:‏ خبره في صَدْره‏.‏
وقولًهم‏:‏ أحمق بَلغ‏.‏
يقول‏:‏ مع حُمْقه يُدْرك حاجته‏.‏
الرجل الجلد المصحِح - أطِرِّي فإِنّك ناعِلة‏.‏
أصله أنّ رجلاً قال لراعية له كانت تَرْعى في السّهولة وتتْرك الحزُونة فقال لها‏:‏ أَطِرِّي أي خُذي طُرَر الوادي وهي نواحيه فإنك ناعلة يريد فإن عليك نَعْلين‏.‏
وقولُهم‏:‏ به داءُ ظبي معناه أنه ليس به ‏"‏ داء كما ليس ‏"‏ بالظبي داء وقالوا‏:‏ الشًّجاع مُوَقَّى‏.‏
الذل بعد العز - منه قُوِلهم‏:‏ كان جملاً فاستَنْوق أي صار ناقةً‏.‏
وقولُهم‏:‏ كان حماراً فاستَأتن أي صار أتاناَ‏.‏
وقولُهم‏:‏ الحَوْر بعد الكَوْر وقولُهم‏:‏ ذُلٌ لو أجد ناصراً‏.‏
أصله أن الحارث بن ‏"‏ أبي شَمِر الغَسَّاني سأل أنس ابن أبي الحُجَيْر عن بعض الأمر فأخبره فلطَمه الحارث فقال أنس‏:‏ ذُلّ لو أجد ناصراً فلطمه ثانية فقال‏:‏ لو نِهيتَ الأولى لم تَلْطم الثانية فذهبتا مثلين ‏"‏ وقولًهم‏:‏ الانتقال من ذل إلى عز - منه قولُهمٍ‏:‏ كنتَ كُراعاً فصِرْتَ ذِراعاً‏.‏
وقولهم‏:‏ كنتَ عَنْزا فاستَتْيَست‏.‏
وقولهم‏:‏ كنت بُغاثا فاستَنْسَرت أي صِرْتَ نَسرا‏.‏
تأديب الكبير - قالوا‏:‏ ما أشدَّ فِطام الكَبِير‏!‏ وقولهم‏:‏ عَود يُقَلَّح أي جَمل مُسِن تُنَقى أسنانُه‏.‏
وقالوا‏:‏ من العَناء رِياضة الهَرِم‏.‏
قال الشاعر‏:‏ وتَرُوض عِرسَكَ بعد ما هَرِمتْ ومن العَناءِ رياضةُ الهَرِم وقولهم‏:‏ أعَييتني بأُشُر فكيف بَدُرْدُر‏.‏
يقول أَعيَيْتنِي وأنت شابّة فكيف إذا بدت دَرادِرًك وهي مغارز الأسنان‏.‏
الذليل المستضعف - منه قِولهم‏:‏ فلان لا يَعْوى ولا يَنْبح من ضعفه يقول‏:‏ لا يتكلّم بخير ولا شر‏.‏
وقولهم‏:‏ أهْون مَظْلوم سِقاءٌ مُرَوَّب وهو السقاء الذي يُلَفُّ حتى يبلغ أوان المَخْض‏.‏
وقالوا‏:‏ أهون مَظْلوم عجوز مَعقومة‏.‏
وقولهم‏:‏ لقد ذلّ من بالت عليه الثَّعالب‏.‏
الذليل يستعين بأذل منه - قالوا‏:‏ عَبْدٌ صَريخه أمة‏.‏
وقولهم‏:‏ مُثْقَل استعان بذَقَنه وأصله البعيرُ يُحْمل عليه الحِمْل الثقيل فلا يَقْدر على النهوض به فيعتمد على الأرض بذَقنه‏.‏
وقولهم‏:‏ العَبْد من لا عَبْد له‏.‏
الأحمق المائق - قالوا‏:‏ عدو الرجل حُمْقه وصديقه عَقْله‏.‏
وقولهم‏:‏ خَرقاء عَيَّابة وهو الأحمق الذي يَعيب الناس‏.‏
قالوا‏:‏ في الرَّجل إذا اشتدّ حمقه جدَّا‏:‏ ثَأطة مُدّت بماء‏.‏
الثأطة‏:‏ الحمأة فإذا أصابها الماء ازدادت فَساداً ورُطوبة‏.‏
الذي تعرض له الكرامة فيختار الهوان - منه قولهم‏:‏ تَجَنّبَ رَوْضَة وأحال يَعْدُو‏.‏
يقول‏:‏ ترك الخير واختار الشقاء‏.‏
وقولهم‏:‏ لا يَخْلو مَسْك السَّوء عَن عَرْف السَّوء‏.‏
يقول‏:‏ لا يكون جلد رديء إلا والرِّيح المُنتنة موجودة فيه‏.‏
ومنه قول العامة‏:‏ قيل للشقيّ‏:‏ هَلُمّ إلى السعادة قال‏:‏ حَسْبي ما أنا فيه‏.‏
ومنه قول العامة‏:‏ أنّ الشقيّ بكل حَبْل يَخْتنِق وقولهم‏:‏ لا يَعدَم الشقيُّ مُهَيرْا أي لا يَعْدَم الشقي رياضة مُهر‏.‏
الرجل تريد اصلاحه وقد أعياك أبوه قبل - منه قولهم‏:‏ لا تَقْتن من كلْب سَوء جِرْوا‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ تَرجو الوَليدَ وقد أَعياك والدُه وما رجاؤك بعد الوالدِ الولَدَا الواهن العزم الضعيف الرأي - منه قولهم‏:‏ ما له أكْل ولا صَيَّور أي ليسِ له قُوّة ولا رَأي‏.‏
قال الأصمعيّ‏:‏ طلب أعرابي ثوباً من تاجر فقال‏:‏ أعطنىِ ثوباَ له أكْل يعني قوة وحَصافة‏.‏
ومنه قال أبو عُبيد‏:‏ هو الرجل الذي لا رأي له ولا عَزم‏.‏
فهو يتابع كلَّ أحد على رأيه ولا يثبت على شيء وكذلك الإمرَّة الذي يتابع كل أحد على أمره‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ هو بِنْتُ الجَبل ومعناه الصَدى يُجيبك من الجَبل أي هو مع كل متكلِّم يُجيبِه بمثل كلامه‏.‏
الذي يكون ضاراً لا نفع عنده - من قولهم‏:‏ المِعْزَى تبْهِي ولا تُبْنِي‏.‏
‏"‏ معناه أن المِعْزى لا تكون منها الأبنية ‏"‏ وهي بيوت الأعراب وإنما تكون من وَبر الإبل وصُوف الضأن ولا تكون من الشّعر وربما صَعدت اْلمِعْزى إلى الخِباء فَحَرقته فذلك قولهم تُبْهِي يقال‏:‏ أبهيْتُ البيت إذا خرقته فإذا انخرق قيل‏:‏ بيت باهٍ‏.‏
الرجل يكون ذا منظر ولا خير فيه - منه قولهم‏:‏ ترى الفِتْيان كالنَّخل وما يُدْرِيك ما الدَّخْل‏.‏
وقال الحجاج لعبد الرحمن بن الأشعث‏:‏ إنك لمَنظرانيّ قال‏:‏ نعم ومخْبرانيّ‏.‏
أمثال الجماعات وحالاتهمِ من اجتماع الناس وافتراقهم - قال الأصمعي‏:‏ ويقال‏:‏ لن يَزال الناسُ بخير ما تباينوا فإذا تساوَوْا هَلَكوا‏.‏
قال أبو عبيد‏:‏ معناه أن الغالب على الناس الشرُّ والخير في القليل من الناس فإذا كان التّساوي فإنما هو في الشر‏.‏
ومن أشدّ الهجاء قولُ القائل‏:‏ سواسية كأسنان الحِمار‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ الناس سواء كأَسنان المُشْط‏.‏
وقولهم‏:‏ الناس شباه وشتَّى في الشِّيم ‏"‏ وكلهم يَجْمعه بيتُ الأدَم ‏"‏‏.‏
وقوِلهم‏:‏ الناسُ أخْياف أي مُفترقون في أخلاقهم‏.‏
والأخْيف من الخيل‏:‏ الذي إحدى عَينيه زرقاء والأخرى كَحْلاء‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ بيت الإسكاف لأن فيه من كل جلد رُقعة‏.‏
المتساويان في الخير والشر - هما كفَرَسي رِهَان‏.‏
وكرُكبتي بعَير‏.‏
وهما زَنْدان في وِعاء‏.‏
هذا في الخير وأما في الشر فيقال‏:‏ هما كَحِماري العِباديّ ‏"‏ حين قيل له‏:‏ أي حماريك شر قال‏:‏ هذا ثم هذا ‏"‏‏.‏
الفاضلان وأحدهما أفضل - منه قولهم‏:‏ مَرْعى ولا كالسَّعْدان‏.‏
وقولهم‏:‏ ماء ولا كَصَدّاء‏.‏
وصداء‏:‏ ركيةٌ ذات ماء عَذْب‏.‏
وقولهم‏:‏ فَتىً ولا كمالك‏.‏
وقولُهم‏:‏ في كل الشًجر نار‏.‏
واستَمجدا المَرْخ والعَفَار وهما أكثر الشّجر ناراً‏.‏
الرجل يرى لنفسه فضلاً على غيره - منه قولهم‏:‏ كُلّ مُجْرٍ بالخَلاء يُسَرّ‏.‏
وأصله الذي يُجْرِي فرَسَه في المكان الخالي فهو يُسرّ بما يَرى منه‏.‏
المكافأة - منه قولُهم‏:‏ هذه بتلك وقولهم‏:‏ أضئ لي أَقْدح لك أي كُن لي أَكن لك‏.‏
وقولهم‏:‏ اسْقِ رَقَاش إنها سَقَاية‏.‏
يقول‏:‏ أحسِنوا إليها إنها مُحْسنة‏.‏
الأمثال في القربى التعاطف من ذوي الأرحام - قال ابن الكلبي‏:‏ منه قولهم‏:‏ يا بَعْضي دَعْ بَعْضاً‏.‏
وأصل هذا أن زُرَارة بنِ عُدَسِ زَوَّج ابنتَه من سُوَيد ابن ربيعة فكان له منها تِسْعَةُ بنين وأنّ سُويداً قَتل أخاَ صغيراَ لعمرو بن هِنْد الملك وهَرب ولم يَقْدِر عليه ابن هند فأرسل إلى زُرارة‏:‏ إنِ ائتني بوَلده من ابنتك فجاء بهم فأمر عمرو بقَتْلهم فتعلًقوا بجدّهم زُرارة‏.‏
فقال‏:‏ يا بَعْضي دَعْ بَعْضاً فذهبت مثلاً‏.‏
ومن أمثالهمِ في التحنن على الأقارب - قولهم‏:‏ لكنْ على بَلْدَحِ قَوْمٌ عَجْفَي‏.‏
وقولهم‏:‏ لكِن بالأثلاث لحمٌ لا يُظَلًل‏.‏
وأصل هذا أنّ بَيْهساً الذي يُلقَب بنَعامة كان بين أهل بيْته وبين قوِمِ حَرب‏.‏
فقتلوا سَبْعة إخْوة لِبَيهس وأسروا بَيْهساً فلم يقتلوه لِصِغرِه وارتحلوا به فنزلوا منزلاً في سَفرهم ونَحَروا جَزُوراً ‏"‏ في يوم شديد الحرّ ‏"‏ فقال بعضهم‏:‏ ظَلِّلوا لحْم جَزُوركم ‏"‏ لئلا يَفسد ‏"‏ فقال بَيْهس‏:‏ لكن بالأثَلاث لحمٌ لا يُظَلَّل - يعني لحمَ إخوته القَتْلى - ثم ذكروا كثرة ما غَنِموا فقال بَيْهس‏:‏ لكَنِ على بَلدَح قَوْمٌ عَجْفي‏.‏
ثم إنه أفلت أو خَلّوِا سبيلَه فرجع إلى أمه فقالت أنجوت من بينهم وكانت لا تًحبّه فقال لها‏:‏ لو خُيرت لاخترتِ‏.‏
فلما لم يكن لها ولدٌ غيره رَقّت له وتَعطّفت عليه‏.‏
فقال بَيْهس‏:‏ الثَكلٍ أَرْأَمها فَذَهبت كلماتُه هذه الأربع كلها أمثالاً‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ لا يَعْدَم الحُوَار من أمه حَنّة‏.‏
وقولهم‏:‏ لا يَضُر الحُوَار ما وَطِئَتْه أمه‏.‏
وقولهم‏:‏ بأبي أَوْجُه اليتامى‏.‏
حماية القريب وإن كان مبغضاً - من ذلك قولهم‏:‏ آكل لَحْمي ولا أَدَعُه يُؤكل‏.‏
ومنه لا تَعدَم من ابن عمك نصراً‏.‏
وقولهم الحَفائظُ تُحلِّل الأحقاد‏.‏
وقولهم في ابن العم‏:‏ عدوُك وعدوّ عدوّك‏.‏
وقولهم‏:‏ كَفُّك منك وإن كانت شلاّء‏.‏
وقولهم‏:‏ انصرُ أخاك ظالماً أو مَظلوماً‏.‏
إعجاب الرجل بأهله - منه قولهم‏:‏ كل فتاة بأبيها مُعْجَبة‏.‏
وقولهم‏:‏ القَرَنْبَى في عين أُمها حَسَنة‏.‏
وقولهم‏:‏ زُيِّن يا عَين والدٍ وَلدُه‏.‏
وقولهم‏:‏ حَسَنٌ في كلِّ عين ما تَوَدّ‏.‏
وقولهم‏:‏ مَن يَمْدح العَرُوسَ إلاّ أهلُها تشبيه الرجل بأبيه - منه قولهم‏:‏ من أشبه أباه فما ظَلم‏.‏
وقولهم‏:‏ العُصيّة من العَصا‏.‏
وقولهم‏:‏ ما أشبه حَجَل الجبْال بألوان صُخُورها‏!‏ وقولهم‏:‏ ما أشبه الحَوَل بالقَبَل‏!‏ وما أَشْبه الليلَة بالبارحة‏!‏ وقولهم‏:‏ شنِشنة أَعْرفها من أَخْزم يقال هذا في الولد إذا كانت فيه طبيعة من أبيه‏.‏
قال زُهير‏:‏ وهَلْ يُنْبِت الخَطّيَّ إلا وَشيجُه وتُغْرس إلاّ في مَنابتها النَّخلُ ومنه قولُ العامة‏:‏ لا تَلدِ الذِّئبة إلاّ ذِئْباً‏.‏
وقولهم‏:‏ حَذْوَ النَعل بالنَّعل‏.‏
وحَذْوَ القذة بالقُذَّة‏.‏
والقذة‏:‏ الريشة من ريش السهم تُحْذَى على صاحبتها‏.‏
تحاسد الأقارب - من ذلك قولهم‏:‏ الأقارب هم العقارب‏.‏
وقال عُمر‏:‏ تَزاورُوا ولا تَجَاورُوا‏.‏
وقال أكثم‏:‏ تَباعدوا في الدِّيار وتَقاربوا في المَحَبة‏.‏
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هُريرة‏:‏ زُرْ غِبَّاً تَزْدَد حباً‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ فَرِّق بين مَعد تَحاب‏.‏
يريد أن ذوي القَربى إذا تدانَوْا تحاسدُوا وتباغضوا‏.‏
قولهم في الأولاد - قالوا‏:‏ مَن سَرَّه بنوه ساءتْه نفسُه أي من يَرى فيهم ما يسرُه يرى في نفسه ما يَسُوءه‏.‏
وقولهم‏:‏ إنّ بَنيّ صِبْيَةٌ صَيْفِيّون أَفْلح مَن كان له رِبْعيُون الولد الصيَّفي‏:‏ الذي يُولد للرجال وقد أَسنّ‏.‏
والربعي‏:‏ الذي يُولد له في عُنْفوان شبابه أُخذ من ولد البَقرة الصَّيفي والرِّبعي‏.‏
ويقال للمرأة إذا تَبنَّت غير ولدها‏:‏ ابنك مَن دَمَّى عَقِبيك‏.‏
الرجل يؤتى من حيث أمن - قالوا‏:‏ من مَأمنه يُؤْتىَ الحَذِر‏.‏
وقال عَدِيّ بن زيد العِباديّ‏:‏ لو بِغير الماء حَلقى شَرِقٌ كُنْتُ كالغضَانِ بالماء آعْتِصارِي قال الأصمعيَّ‏:‏ هذا من أشرف أمثال للعَرب‏.‏
يقول‏:‏ إنّ كلَّ من شرَق ‏"‏ بشيء يستغيث بالماء كنتُ من كُرْبتي أَفِرُّ إليهم فهمُ كُرْبتي فأَينَ الفِرَارُ ومثله قول العبّاس بنٍ الأحنف‏:‏ قَلْبي إلى ما ضرَّني داعِي يُكثر أَحْزَاني وأَوْجاعي كيف احتراسي من عَدوِّي إذا كان عدوّي بَين أَضْلاعِي ‏"‏ وقال آخر‏:‏ مَن غَصَّ داوَى بُشرب الماء غُصته فكيف يَصنع مَن قد غَص بالماءِ ‏"‏ الأمثال في مكارم الأخلاق الحلم قال أبو عُبيد‏:‏ من أمثالهم في الحِلْم‏:‏ إذا نَزل ‏"‏ بك ‏"‏ الشرُّ فاقُعد أي فاحلم ولا تسارع إليه‏.‏
ومنه قولُ الآخر‏:‏ الحَليم مَطيَّة الجُهول‏.‏
وقولهم‏:‏ لا يَنْتَصف حَليمٌ من جاهل‏.‏
وقولهم‏:‏ أخر الشرّ فإن شِئْتَ تعجّلته‏.‏
وقولهم في الحَليم‏:‏ إنه لواقع الطَير ولساكن الرِّيح‏.‏
وقولهم‏:‏ في الحُلَماء‏:‏ كأنما على رؤوسهم الطَّير‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ رُبّما أًسْمع فأَذَر‏.‏
وقولهم‏:‏ حِلْمي أصمُّ وأُذني غَيْر صَمّاء‏.‏
العفو عند المقدرة منه قولهم‏:‏ مَلَكْت فأَسْجِح‏.‏
وقد قالته عائشة رضوان اللهّ عليها لعليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يوم الجَمَل حين ظَهر على الناس فَدَنا من هَوْدجها وكَلّمها فأجابْته‏:‏ مَلَكت فأسْجح ‏"‏ أي ظَفِرت فأحْسن‏.‏
فجهزها بأحسن الجهاز وبعث معها أربعين امرأة - وقال بعضهم‏:‏ سبعين - حتى قَدِمت المدينة ‏"‏‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ ‏"‏ إنّ ‏"‏ المَقْدِرة تُذْهب الحَفِيظة‏.‏
وقولهم‏:‏ إذا ارجحنَّ شاصِياً فارْفَعْ يَدا المساعدة وترك الخلاف من ذلك قولهم‏:‏ إذا عَزَّ أخوك فَهُن‏.‏
وقوِلهم‏:‏ لولا الوِئام هَلك اللِّئام‏.‏
الوئام‏:‏ المباهاة‏:‏ يقول لولا المُباهاة لم يفعل الناسُ خيراَ‏.‏
مداراة الناس قالوا‏:‏ إذا لم تَغْلِب فاخْلِب‏.‏
يقول‏:‏ إذا لم تغلب فاخدَع ودار والطف‏.‏
وقولهم‏:‏ إلا حِظية فلا أليّة‏.‏
معناه‏:‏ إن لم يكن حُظْوة فلا تَقْصير‏.‏
‏"‏ إلية‏:‏ من ‏"‏ ألا يألو‏.‏
ويَأتلي أي يقصر‏.‏
‏"‏ ومنه قول الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ ولا يَأْتل أولو الفَضْل منكم والسَّعَة ‏"‏‏.‏
وقولهم‏:‏ سوء الاستمساك خَيرٌ من حُسن الصرَّعة‏.‏
ومنه قولُ أبي الدَّرداء‏:‏ إنّا لَنَبشّ في وُجوه قوم وإنّ قُلوبَنا لَتَلْعنُهم‏.‏
ومنه قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ شِرار الناس من دَارَاه الناسُ لشرِّه‏.‏
ومنه قولُ شَبيب بن شَيْبة في خالد بن صَفْوان‏:‏ ليس له صديقٌ في السرِّ ولا عدوٌ في العَلاَنية‏.‏
يريد أنّ الناس يُدارونه لشرّه وقلوبُ الناس تُبْغِضه‏.‏
مفاكهة الرجل أهله منه قولهم‏:‏ كل آمرئ في بَيْته صَبيّ‏.‏
يريد حُسن الخُلق والمُفاكهة ومنه قولُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‏:‏ إنا إذا خَلَوْنا قَلْلنا‏.‏
ومنه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ خِيَارُكم خَيركم لأهله‏.‏
ومنه قولُ مُعاوية‏:‏ إنهنّ يَغْلبن الكِرام ويَغْلِبهنّ اللِّئام‏.‏
اكتساب الحمد واجتناب الذم - قالوا‏:‏ الحمد مَغْنَم والذمُّ مَغْرَم‏.‏
وقولهم‏:‏ ‏"‏ إنّ ‏"‏ قليلَ الذّم غيرُ قَليل‏.‏
وقولهم‏:‏ إنّ خيراً من الخير فاعلُه وإنّ شرَّاً من الشرّ فاعلًه‏.‏
وقولهم‏:‏ الخَيْر يَبْقى وإنْ طال الزمانُ به والشرُّ أَخبثُ ما أَوْعيتَ مِن زادِ الصبر على المصائب - من ذلك قولهم‏:‏ هَوِّن عَليك ولا تُولَعِ بإشْفاقِ وقولهم‏:‏ من أَراد طولَ البَقاء فَلْيوَطَن نفسه على المصائب‏.‏
وقولهم‏:‏ المُصيبة للصابِر واحدةٌ وللجازع اْثنتان‏.‏
وقال أَكْتم بن صَيْفيّ‏:‏ حِيلُة من لا حِيلة له الصبر‏.‏
وذكروا عن بعض الحُكماء أنه أُصيب بابن له فَبكى حَوْلا ثم سَلا فقيل له‏:‏ مالك لا تَبْكي قال كان جُرحا فَبَرِئ‏.‏
قال أبو خِرَاش الهُذَلي‏:‏ بَلَى إنها تَعْفو الكلُوم وإنما نُوكّل بالأدنىَ وإن جَلَّ مَا يَمْضي ومنه قولهم‏:‏ لا تلهف على ما فاتك‏.‏
منه قولهم‏:‏ اصطناع المَعروف يَقي مَصارع السُّوء‏.‏
وقولهم‏:‏ الجُود محبَّة والبُخْل مَبْغضة‏.‏
وقول الحُطَيئة‏:‏ مَن يَفْعل الخيرَ لا يَعْدَم جَوازِيَه لا يَذْهبُ العُرْفُ بين الله والناس الكريم لا يجد منه قولهم‏:‏ بَيْتي يَبْخَل لا أنا‏.‏
وقولُهم‏:‏ بالسّاعد تَبْطِشُ الكَفُّ‏.‏
وِقولُهم‏:‏ ما كلف الله نَفْساً فوقَ طَاقتها ولا تَجُود يدٌ إلاّ بما تَجِدُ وقال آخر‏:‏ يَرى المرءُ أحياناً إذا قَلَّ مالُه مِن الْخَير تاراتٍ ولا يستَطيعُها مَتى ما يرمها قصَّر الفقرُ كَفّه فَيَضعُف عنها والغنيُّ يُضِيعها القناعة والدعة - منه قولُهم‏:‏ وَحَسْبك من غِنى شِبَع ورِيّ وقولهم‏:‏ يَكْفِيك ما يبلّغك المَحل‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ مَن شاء أنْ يُكْثِر أو يُقِلأَ يكْفِيه ما بلَغه المَحَلاَّ الصبر على المكاره يحمد العواقب - قالوا‏:‏ عواقب المَكاره مَحْمودة‏.‏
وقالوا‏:‏ عِند الصَّباح يحمد القومُ السًّرى‏.‏
وقولهم‏:‏ لا تُدرك الراحةُ إلا بالتَعب‏.‏
أخذه حَبيب فقال‏:‏ على أَنَّني لم أَحْوِ مالاً مُجَمَّعاً فَفُزْتُ به إلاّ بشمل مُبَدَّدِ ولم تُعطِني الأيامُ نوماً مسكناً أَلذُّ به إلاّ بنَوْم مُشَرَّد وأحسن منه قوله أيضاَ‏:‏ بَصُرْتَ بالرَّاحة العُليا فلم تَرَها تُنال إلاّ على جِسْرٍ مِن التَّعب الانتفاع بالمال - قالوا‏:‏ خيرُ مالِك ما نَفَعك‏.‏
ولم يَضِع من مالك ما وَعَظَك‏.‏
ونظر ابن عبِّاس إلى دِرْهم بيد رجل فقال‏:‏ إنه ليس لك حتى يَخْرُج من يدك‏.‏
وقولهم‏:‏ تَقْتِير المَرْء على نفسه تَوْفِير منه على غَيْره‏.‏
قال الشاعر‏:‏ أنتَ للمال إذا أَمْسكتَه فإذا أنفقته فالمالُ لَك المتصافيان - منه قولهم‏:‏ هما كَنَدَمانَي جَذِيمة الأبرش الملك‏.‏
ونديماه رجلان من بَلْقَين يقال لهما‏:‏ مالك وعَقيل‏.‏
‏"‏ بَلْقين‏:‏ يريد من بني القيَنْ ‏"‏‏.‏
وقولهم‏:‏ ‏"‏ هما أَطْول صُحْبة من الفَرقدين‏.‏
قال الشاعر ‏"‏‏:‏ وكُلُّ أخٍ مُفارقُه أخوه لَعَمْر أَبيكَ إلاّ الفَرْقَدان خاصة الرجل - منه قولُهم‏:‏ عَيْبة الرجل‏.‏
يريدون خاصَّته وموضعَ سرِّه‏.‏
ومنه الحديث في خُزاعة‏:‏ كانوا عَيْبة رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم مؤمنُهم وكافرُهم‏.‏
مَن يكسب له غيره - منه قولهم‏:‏ ليس عليك غَزْلُه فاسحبْ وجُرَّ‏.‏
وقولُهم‏:‏ ورُبَّ ساعٍ لقاعد‏.‏
وقولهم‏:‏ خَيْر المال عينٌ ساهرة لعين نائمة‏.‏
المروءة مع الحاجة - منه قولهم‏:‏ تَجُوع الحرةَ ولا تَأكل بِثَدْييها‏.‏
وقولهم‏:‏ شَر الفقر الخُضوع وخَير الغِنى القناعة‏.‏
ومنه الحديث المرفوع‏:‏ أَجْملوا في الطلب‏.‏
قال الشاعر‏:‏ فإذا افتقرتَ فلا تَكًن مُتجَشِّعاً وتَجَمَّل ومنه قولُ هُدْبة العُذْرِيّ‏:‏ ولستُ بمفْراحٍ إذا الدهرُ سًرّني ولا جازع من صَرْفه المُتقلِّب ولا أَتمنىَ الشرِّ والشرُ تاركي ولكنّ مَتى أحْمَل على الشر أَرْكَبَ المال عند مَن لا يستحقه - منه قولهم‏:‏ خَرْقاءُ وجَدت صُوفا‏.‏
وَعَبْدٌ مَلَك عَبْدا ‏"‏ فأَوْلاه تَبَّاً ‏"‏‏.‏
وقولهم‏:‏ مَن يَطُل ذيلُه يَنتَطق به‏.‏
ومَرْعى ولا أَكًولة‏.‏
وعًشب ولا بَعِير‏.‏
ومالٌ ولا مُنفِق‏.‏
الحض على الكسب - منه قولهم‏:‏ اطلب تَظْفر‏.‏
وقولُهم‏:‏ من عَجَز عن زاده اتّكل على زاد غيره‏.‏
وقولُهم‏:‏ من العَجْز نُتِجت الفاقُة‏.‏
وقولُهم‏:‏ لا يَفْترس الليثُ الظَّبْي وهو رابض‏.‏
وقول أوْرَدها سَعْدٌ وسَعْد مُشْتَمل ما هكذا تُورد يا سَعْد الإبِلْ الخبير بالأمر البصير به - منه قولهم‏:‏ على الخَبير سَقَطْتَ‏.‏
وقولهم‏:‏ كفي قوماً بصاحبهم خَبيراً‏.‏
وقولهم‏:‏ لكل أناس في جمالهم خُبْر‏.‏
وقولهم‏:‏ على يَدِي دارَ الحديث‏.‏
وقولهم‏:‏ تُعلِّمني بضبّ أنا حَرَشْتُه‏.‏
يقول‏:‏ أتُخْبرني بامرِ أنا وَليته وَلِّ القوسَ بارِيها‏.‏
وقولُهم‏:‏ الخيلًُ أعلم بفُرْسانها‏.‏
وقولُهم‏:‏ كل قوم أَعلم بِصناعتهم‏.‏
وقولُهم‏:‏ قَتَل أرضاً عاِلمُها‏.‏
وقتلت أرضٌ جاهلَها‏.‏
الاستخبار عن علم الشيء وتيقنه - من ذلك قولُهم‏:‏ ما وراءك يا عصام أول من تكلم به النابغةَ الذَّبياني لعِصام صاحب النّعمانِ وكان النعمانُ مريضاً فكان إذا لَقِيه النابغة قال له‏:‏ ما وراءك يا عِصام وقولُهم‏:‏ سيأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّد‏.‏
وإليك يُساق الحديث‏.‏
انتحال العلم بغير آلته - منه قولُهم‏:‏ لكالحادِي وليسِ له بَعِير وقال الحُطيئة‏:‏ لكا لماشي وليس له حِذاء‏.‏
وقولهم‏:‏ إنباض بغير توتير‏.‏
وكقَابضٍ عَلَى الماء‏.‏
أخذه الشاعر فقال‏:‏ ومَن يَأمنِ الدُّنيا يكن مثلَ قابضٍ على الماءِ خانَتْهُ فُرُوجُ الأصابع من يوصي غيره وينسي نفسه - يا طَبِيبُ طِبَّ لنفسك‏.‏
ومنه‏:‏ لا تعظيني وتَعَظْعَظى أي لا توصيني وأوْصي نفسَك‏.‏
الأخذ في الأمور بالاحتياط - منه قولُهم‏:‏ أنْ تَرِد الماء بماء أَكْيسُ‏.‏
وقول العامة‏.‏
لا تَصُبَّ ماءً حتى تجدَ ماء‏.‏
وقولهم‏:‏ عَشِّ ولا تَغتر‏.‏
يقول‏:‏ عَشِّ إبلك ولا تغتر بما تُقْدم عليه‏.‏
ويُروى عن ابن عبّاس وابن عمر وابن الزّبير أن رجلاَ أتاهم فقال‏:‏ كل لا يَنْفع مع الشرِّك عملٌ كذلك لا يَضُر مع الإيمان تَقْصير فكلُّهم قال‏:‏ عَش ولا تَغتر‏.‏
وقولهم‏:‏ ليس بأَوَّلِ مَن غَره السراب‏.‏
وقولهم‏:‏ اشْتَر لنَفْسك وللسُّوق‏.‏
ومنه الحديثُ المرفوع عن الرجل الذي قال أأرْسِلُ ناقتي وأتوَكّل قال‏:‏ ‏"‏ بل ‏"‏ اعقلها وتوكل‏.‏
الاستعداد للأمر قبل نزوله - منه قولُهم‏:‏ قبلَ الرَّمْي يُراش السَّهم‏.‏
وقولهم‏:‏ قبل الرِّماءِ تُملأ الكنَائن‏.‏
وقولهم‏:‏ خُذ الأمر بقَوابله أي باستقباله قبل أن يُدْبر‏.‏
وقولهم‏:‏ شرُّ الرأي الدَّبَريّ‏.‏
وقولهم‏:‏ المُحاجزة قبل المناجزة‏.‏
وقولهم‏:‏ التقدُّم قبل التندم‏.‏
وقولهم‏:‏ يا عاقدُ اذكر حَلا‏.‏
وقولهم‏:‏ خيرُ الأمور أحمدُها مَغَبَّة‏.‏
وقولهم‏:‏ ليس للأمر بصاحب مَن لم يَنْظُر في العواقب‏.‏
طلب العافية بمسالمة الناَس - قولُهم‏:‏ مَنْ سَلَك الجَددَ أمِن العِثَار‏.‏
وأحذرْ تَسْلم‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ جًرُّوا له الخَطِيرَ ما انْجَرّ لكم‏.‏
الخطير‏:‏ ذِمامُ الناقة‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ لا تَكُن أدنىَ العَيْرين إلى السَّهم‏.‏
يقول‏:‏ لا تكُنِ أدنى أصحابك إلى مَوْضع التَّلف وكن ناحيةً أو وَسطاً‏.‏
قال كعب‏:‏ إنّ لكلّ قوم كَلْباَ فلا تَكُن كلبَ أصحابك‏.‏
وتقول العامّة‏:‏ لا تَكُن لسانَ قَوْم‏.‏
توسط الأمور - من ذلك قولُهم‏:‏ لا تَكُن حُلْواً فتُسْترَط ولا مُرّاً فتُعْقى أي تُلْفظ يقال‏:‏ أعقى الشيءُ إذا اشتدّت مرارتُه‏.‏
‏"‏ قال الشاعر‏:‏ ولا تَكُ آنِياً حُلْواً فَتُحْسىَ ولا مُرّا فتنشب في الحِلاق ‏"‏ وتقول العامّة‏:‏ لا تَكُن حُلْواً فتؤكل ولا مُرّاً فتُلْفظ‏.‏
وتَوَسًّط الأمور أدنى السلامة‏.‏
ومنه قول مُطَرِّف بن ‏"‏ عبد الله بن ‏"‏ الشِّخِّير‏:‏ الحَسنة بي السَّيِّئتين وخيرُ الأمور أوسطها‏.‏
وشرّ السَّير الحَقْحقة‏.‏
قوله‏:‏ بين السيئتين يريد بين المُجاوزة والتقصير‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ بين المُمِخة والعَجْفاء‏.‏
‏"‏ يريد ‏"‏ بين السمين والمهزول‏.‏
ومنه قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ خيرُ الناس هذا النَّمط الأوْسَط يَلْحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي‏.‏
الإتابة بعد الاجرام - منه قولُهم‏:‏ أقصرَ لمَّا أبْصرَ‏.‏
ومنه أتْبِعْ السيئةَ الحسنةَ ‏"‏ تمحها ‏"‏‏.‏
والتائبُ من الذنبُ كمن لا ذنبَ له‏.‏
والندمُ تَوْبة‏.‏
والاعترافُ يَهْدِم الاقْتراف‏.‏
مدافعة الرجل عن نفسه - جاحَش فلان عن خَيْط رَقَبته‏.‏
وخيط الرقبة‏:‏ النخاع يقوِل‏:‏ دافع عن دمه ومُهجته‏.‏
وقالت العامّة‏:‏ ‏"‏ ومنه ‏"‏‏:‏ أَدفع عن نَفسي إذا لم يكن عنها دافِع‏.‏
قولهم في الانفراد - الذئبُ خالياً أسد‏.‏
يقول‏:‏ إذا وجدك خالياً اجترأ عليك‏.‏
ومنه الحديث المأثور‏:‏ الوَحِيد شيطان‏.‏
وفي الحديث الآخر‏:‏ عليكم بالجماعة فإنَّ الذِّئب إنما يُصيب من الغَنم الشَّاردة‏.‏
من ابتلى بشيء مرة فخافهُ أخرى - منه الحديثَ المرفوع‏:‏ لا يُلْسَع المؤمن من جُحْر مَرَّتين‏.‏
يريد أنه إذا لُسع مرّة ‏"‏ منه ‏"‏ تَحفظ من أخرى‏.‏
وقولُهم‏:‏ مَن لَدغته الحيَّة يَفْرَق من الرَّسَن‏.‏
وقولهم‏:‏ مَن يَشتري سَيْفي وهذا أَثرُه يُضرب هذا المثل للذي قد اختُبر وجُرِّب وقولهم‏:‏ كل الحِذَاءِ يَحتذي الحافِي الوَقِعْ الوَقِع‏:‏ الذي يمشي في الوَقَع وهي الحجارة‏.‏
قال أعرابي‏:‏ يا ليت لي نَعْلين من جِلْد الضَّبع وشُرُكا من آستها لا تنقطعْ كلَّ الحِذاء يحتذي الحافي الوَقِعْ اتباع الهوى - قال ابن عبَّاس‏:‏ ما ذَكَر الله الهَوى في شيء إلا ذَمه‏.‏
قال الشعبيّ‏:‏ قيل له هَوًى لأنه يهْوَى به‏.‏
ومن أمثالهم فيه‏:‏ حُبًّك الشيءَ يُعْمى ويُصِمّ‏.‏
وقالوا‏:‏ الهَوَى إله مَعْبود‏.‏
الحذر من العطب - قالوا‏:‏ وقولُهم‏:‏ أعورُ عينَك والحَجَر‏.‏
وقولُهم‏:‏ الليلَ وأهضامَ الوادي‏.‏
وأصله أن يسير الرجلُ ليلاً في بُطون الأودية حذّره ذلك‏.‏
وقولُهم‏:‏ دَع خيرَها لشرِّها‏.‏
وقولهم‏:‏ لا تُراهن على الصَّعْبة‏.‏
وقولُهم أَعْذَر مَن أَنْذَر‏.‏
حسن التدبير والنهي عن الخرق - الرِّفْق يُمْن والخُرْق شُؤْم‏.‏
ورُبَّ أكلة تَمْنع أكلات‏.‏
وقولهم‏:‏ قَلَب الأمر ظَهْراً لِبَطن‏.‏
وقولُهم‏:‏ ‏"‏ اضْرب ‏"‏ وَجْهَ الأمرِ وعَيْنَيه وأجْر الأمور على أَذْلالها أي على وُجوهها‏.‏
وقولُهم‏:‏ وجِّه الحَجَر وِجْهةً ما ‏"‏ له ‏"‏‏.‏
وقولُهم‏:‏ وَلِى حارَها مَن وَلي قارَها‏.‏
المشورة - قالوا‏:‏ أوّلَ الحَزْم المَشورة‏.‏
ومنه‏:‏ لا يهلك امرؤ عن مَشورة‏.‏
قال ابن المُسيِّب‏:‏ ما اْستشرتُ في أمر واْستخرتُ وأبالي على أيَ جنبيّ سقطْتُ‏.‏
الجد في طلب الحاجة - أَبْل عُذْراً وخَلاك ذَمّ‏.‏
‏"‏ يقول‏:‏ إنما عليك أن تَجتهد في الطلب وتُعْذِر لكيلا تُذَمّ فيها وإن لم تكن تقْضىَ الحاجة ‏"‏‏.‏
ومنه‏:‏ هذا أوَانُ الشدِّ فاشتدِّي زيم وقولُهم‏:‏ اضرب عليه جرْوَتك أي وَطِّن عليه نَفْسك‏.‏
ومنه‏:‏ اجمعْ عليه جَرَاميزَك واشددَ له حيازيمك‏.‏
وقولًهم‏:‏ شَمِّر ذَيلا واْدَّرع ليلاً‏.‏
ومنه‏:‏ اْئت به ‏"‏ من ‏"‏ حِسِّك وبَسِّك‏.‏
ومنه قول العامّة‏:‏ جئ به من حيث أيسَ وليس‏.‏
الأيس‏:‏ الموجود‏.‏
والليس‏:‏ التأني في الأمرِ - من ذلك قولُهم‏:‏ رب عجلة تُعْقب رَيْثاً‏.‏
وقولُهم إنَ المنبَتّ لا أرضاً قَطَع ولا ظَهراَ أبقى‏.‏
وقال القطاميّ‏:‏ قد يُدْرك المتأَنِّي بعضَ حاجته وقد يكون مع المستعجل الزَّللُ ومنه‏:‏ ضَحِّ رًوَيْداً أي لا تَعجل‏.‏
والرَّشْفُ أنقع أي أَرْوَى يقال‏:‏ شَرب حتى نَقَع‏.‏
ومنه‏:‏ لا يُرْسل الساقَ إلا مُمْسكاً ساقاً‏.‏
سوء الجوار - منه قولهم‏:‏ لا يَنْفعُك من جار سَوءٍ تَوَقٍّ‏.‏
والجارُ السُّوء قِطعة من نار‏.‏
ومنه‏:‏ هذا أحقُ منزل بتَرْك‏.‏
‏"‏ ومنه قولهم‏:‏ الجارَ قبل الدار‏.‏
الرفيقَ قبل الطريق‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ بعتُ جاري ولم أبع داري‏.‏
يقول‏:‏ كنتُ راغبا في الدار إلا أني بعتُها بسبب الجار السوء ‏"‏‏.‏
سوء المرافقة - أنت تَئِقٌ وأنا مَئِق فمتى نَتَّفِق‏.‏
التَئِق‏:‏ السريع الشرّ‏.‏
والمَئِق‏:‏ السريع البُكاء ويقال‏:‏ الممتلىء من الغضب والتّئِق والمَئِق مهموزان‏.‏
وقولهم‏:‏ ما يجمع بين الأرْوَى والنعام يريد أن مَسْكن الأروى الجبلُ ومَسكنَ النعام الرَّمل - الأرِوى‏:‏ جمع أرْوّية - ومنه‏:‏ لا يَجْتمع السِّيْفان في غِمد‏.‏
ومنه‏:‏ لا يَلتاط هذا بصَفري أي لا يَلْصق بقَلْبي‏.‏
العادة - قالوا‏:‏ العادةُ أملكُ منِ الأدب‏.‏
وقالوا‏:‏ عادةُ السَّوء شرٌ من المَغْرَم‏.‏
وقالوا‏:‏ أَعْطِ العبدَ ذِراعاً يَطْلُبْ باعاَ‏.‏
ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أئِنَّا لَمَرْدودُونَ فِي الْحافِرَة ‏"‏‏.‏
ومنه‏:‏ رجع فلان على قَرْوَائه‏.‏
ومنه الحديث‏:‏ لا تَرْجع هذه الأمة عن قَرْوَائها‏.‏
اشتغال الرجل بما يعنيه - منه‏:‏ كلُّ امرئ في شأنه ساع‏.‏
وقولهم‏:‏ هَمُّك ما أهَمَّك‏.‏
همك ما أدْأبك‏.‏
وقولهم‏:‏ ولي حارَها من تَوَلّى قارَّها‏.‏
قلة الاكثراثٍ - منه قولهم‏:‏ ما أبالِيه بالة‏.‏
وسئل ابن عبّاس عن الوضوء من اللبن فقال‏:‏ ما أبالِيه بالة‏.‏
وقولهم‏:‏ اسمَحْ يُسْمَح لك‏.‏
وقولُهم‏:‏ الكلابَ على البقر‏.‏
يقول‏:‏ خلِّ الكلابَ وبقرَ الوِحْش‏.‏
قلة اهتمام الرجل بصاحبه - هان على الأَمْلس ما لاقَى الدَبِر‏.‏
ما يلقى الشجي منِ الْخَليّ‏.‏
قال أبو زيد‏:‏ الشجي مخفف والخلىّ مشدد‏:‏ ومنه قول العامّة‏:‏ هان علىَ الصحيح أن يَقول لِلْمَريض‏:‏ لا بأس عليك‏.‏
الجشع والطمعِ - منه قولهم تُقَطِّع أعناقَ الرِّجال المطامعُ ومنه قولهم‏:‏ غَثُّك خيرٌ لك من سمِين غيرك‏.‏
وقولهم‏:‏ المَسئلة خُموش في وجه صاحبها‏.‏
وقال أبو الأسْوَد في رجل دنيء‏:‏ إذا سُئِل أَرَز وإذا دُعى انتهز‏.‏
ومنه قولُ عَوْن بن عبد الله‏:‏ إذا سأل أَلْحَف وإذا الشره المطعام - منه قولهم‏:‏ وَحْمَى ولا حَبَل أي لا يذكر له شيء إلا اشتهاه كشَهْوَة الحُبْلى وهي الوَحْمَى‏.‏
ومنه‏:‏ المرء تَوَّاق إلى ما لمِ يَنَل‏.‏
وقولهم‏:‏ يَبْعَث الكلابَ عن مَرَابضها أي يَطْرُدها طَمَعاً أن يَجدَ شيئاً يأكله من تَحْتها‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ أَراد أن يأكل بيَدَيْن‏.‏
ومنه الحديثُ المرفوع‏:‏ الرَّغْبة شُؤْم‏.‏
الغلط في القياس - منه قولُهم‏:‏ ليس قَطاً مثلَ قُطَيّ‏.‏
وقال ابن الأسْلت‏:‏ ليس قطاً مثل قُطَيّ ولا ال مَرْعِيُّ في الأقوام كالرَّاعي ومنه قولهم‏:‏ مُذَكِّيةٌ تقاس بالْجذَاَع‏.‏
يُضرب لمن يَقيس الكَبِير بالصغير‏.‏
والمُذَكِّية هي المُسِنَّة من الخيل‏.‏
وضع الشيء في غير موضعه - منه‏:‏ كمُسْتَبْضع التَّمر إلى هَجَر‏.‏
وهجر‏:‏ معدن التمر‏.‏
قال الشاعر‏:‏ فإنّا وَمَنْ يَهْدِي القَصائدَ نَحْوَنا كمُسْتَبْضع تمراً إلى أَهْل خَيْبرَا ومنه قولهم‏:‏ كمُعَلِّمة أُمّها الرضاع‏.‏
ومنه الحديث المرفوع‏:‏ رُب حامِل فِقْهٍ إلى مَن هو أفقه منه‏.‏
وفيمن وَضع الشيء في غير موضعه ‏"‏ قولهم ‏"‏‏:‏ ظَلَمَ مَن اسْترعى الذئبَ الغَنَم‏.‏
وقال ابن هَرْمة‏:‏ كتاركةٍ بيضها بالعَرَاء ومًلحِفة بيضَ أُخرى جَناحَا كفران النعمة - منه‏:‏ سَمِّنْ كلبَك يأكُلك‏.‏
أحشّك وتَرُوثني‏!‏ قاله في مخاطبة فرسه أي أعْلفك الحشيشَ وتروث عليّ ومنه قولُ الآخر‏:‏ أُعلَمه الرِّمايةَ كلَّ يومٍ فلمَّا اشتدَ ساعدُه رَمَاني التدبر - منه قولهم‏:‏ لا ماءكِ أَبقَيْتِ ولا دَرَنك أنْقيت‏.‏
وقولهم‏:‏ لا أبوك نُشرِ ولا التراب نَفِد‏.‏
أصل هذا المثل لرجل قال‏:‏ ليتني أعرف قبرَ أبي حتى آخذ من تُرابه على رأسي‏.‏
التهمة - منه قولهم‏:‏ عسى الغوَير أَبْؤُساً‏.‏
والأبؤس‏:‏ جمع بأس‏.‏
قال ابن الكَلْبي‏:‏ الغوَير‏:‏ ماء معروف لكَلْب‏.‏
وهذا مثل تكلَّمت به الزباء وذلك أنها وجَّهت قَصِيراَ اللَخْميّ بالعِير ليَجْلِب لها من بَزّ العراق وكان يَطلبها بدم جَذيمة الأبرش فجعل الأحمال صناديق وجعل في كل صُندوق رجلاً معه السلاح ثم تنكّب بهم الطريقَ وأخذ على الغُوَير فسألْت عن خَبره فأُخبرَت بذلك فقالت‏:‏ عسى الغُوَير أَبْؤُساً‏.‏
تقول‏:‏ عسى أن يأتي الغُوَير بشرّ واستنكرت أخذَه على غير الطريق‏.‏
ومنه‏:‏ سَقَطت به النصيحةُ على الظِّنَّة أي نصحتَه فاتهمك‏.‏
ومنه‏:‏ لا تَنْقُش الشوكةَ بمثلها ‏"‏ فإنّ ضَلْعها معها ‏"‏‏.‏
يقول‏:‏ لا تَستَعِن في حاجتك بمَن هو ومنه‏:‏
إذا غاب منها كَوْكبٌ لاحَ كَوكب
وقولهم‏:‏ رأسٌ برأسٍ وزيادةِ خَسمائة‏.‏
قالها الفرزدق في رجل كان في جيش فقال ‏"‏ صاحبُ الجيش ‏"‏‏:‏ مَن جاء برأس فله للمطلوب منه الحاجة أَنْصح ‏"‏ منه لك ‏"‏‏.‏
تأخير الشيء وقت الحاجة إليه - منه‏:‏ لا عطْر بعد عَروس‏.‏
وأصل هذا أَنّ عَروساً أُهديت فوجدها الرجلُ تَفِلة فقال لها‏:‏ أين الطَّيب قالت‏:‏ ادَخَرتُه قال‏:‏ لا عطر بعد عَروس‏.‏
وقولهم‏:‏ لا بَقاء للحمِيَّة بعد الحُرْمة‏.‏
يقول‏:‏ إنّما يَحْمى الإنسانُ حريمه فإذا ذهبت فلا حَميَّة له‏.‏
الإساءة قبل الإحسان - منه‏:‏ يسبق دِرَّتَه غِرارُه‏.‏
الغرار‏:‏ قلة اللبن‏.‏
والدِّرَّة‏:‏ كثرته‏.‏
ويسبق سيلَه مَطرُه‏.‏
البخل - ما عنده خَيْر ولا مَيْر سواء هو والعَدَم‏.‏
والعَدَم والعُدْم لغتان‏.‏
ما بضّ حجره‏.‏
والبَضّ‏:‏ أقلِّ السيلان‏.‏
ما تَبُلّ إحدى يديه الأخرى‏.‏
الجبن - إنّ الجبان حَتْفه من فَوْقه ‏.‏
‏"‏ ومثله ‏"‏ في القرآن‏:‏ ‏"‏ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ‏"‏‏.‏
ومنه‏:‏ كلُّ أَزَب نَفُور‏.‏
وَقَفّ شَعَره واقشعرَّت ذُؤَابته‏.‏
معناه‏:‏ قام شعرُه من الفَزع‏.‏
وشَرِقَ برِيقه‏.‏
الجبان يتواعد بما لا يفعل - الصَدْق يُنبي عنك لا الوَعيد‏.‏
يُنْبي ‏"‏ عنك ‏"‏‏:‏ يَدفع عنك مَن يَنْبو‏.‏
ومنه‏:‏ أَوْسعتُهم شَتْماً وأَوْدَوْا بالإبل‏.‏
وقيل لأعرابيّ خاصم امرأته إلى السلطان ‏"‏ فقيل له‏:‏ ما صنعت معها ‏"‏ قال‏:‏ كَبَّها الله لوَجْهِهَا ولو أُمِرَ بي إلى السِّجن‏.‏
الاستغناء بالحاضر عن الغائب - قولهم‏:‏ إن ذَهب عَيْرٌ فعَيْرٌ في الرِّباط‏.‏
خَمسمائة ‏"‏ درهم‏.‏
فبرز رجل وقتل رجلاً من العدوَ فأعطاه خمسمائة درهمِ ‏"‏ ثم برز ثانية فقُتل فبَكى عليه أهلُه فقال لهم الفرزدق‏:‏ أمَا تَرْضون رأساَ برأس وزيادة خمسمائة المقادير - منه قولُهم‏:‏ المقاديرُ تُريك ما لا يَخْطُر ببالك‏.‏
وقولُهم‏:‏ إذا نزل القَدر غَشىَّ البَصر‏.‏
وإذا نزل الحَينْ غَطَى العين‏.‏
ولا يُغْنى حَذَر من قدَر‏.‏
ومن مَأمنه يُؤتى الحَذر‏.‏
وقولُهم‏:‏ وكيف تَوَقّى ظَهْر ما أنت راكبُه‏.‏
الرجل يأتي إلى حتفه - منه قولًهم‏:‏ أتتكَ بحائنٍ رجلاه‏.‏
لا تَكنُ كالباحُث عن المدية‏.‏
وقولُهم‏:‏ حَتْفَها تحمِل ضأن بأَظْلافها‏.‏
ما يقال للجاني على نفسه - يداكَ أَوْكَتا وفُوِكَ نَفخ‏.‏
وأصلُه أَنّ رجلاً نَفَخ زِقَّاً ورَكِبه في النهر فانحلّ الوِكاء وخَرجت الريح وغرِق الرجل فاستغاث بأعرابيّ على ضفّة النهر فقال‏:‏ يداك أوْكتا وفُوك نَفخ‏.‏
جالب الحين إلى أهله - منه قولُهم‏:‏ دلَت على أهلها رَقاش ورقاش كلبة لحيّ من العَرب مرَّ بهم جيش ليلاً ولم يَنْتبهوا لهم فنَبحت رقاش فدلَّت عليهم‏.‏
وقالوا‏:‏ كانت عليهم كراغية البَكْر‏.‏
يَعْنون ناقةَ ثمود‏.‏
وقال الأخطل‏:‏ ضفَادع في ظَلْماء ليل تَجاوَبَتْ فدلّ عليها صوتها حيةَ البَحْرِ تصرف الدهر - منه قولُهم‏:‏ مرَّةً عيش ومرة جيش‏.‏
ومنه‏:‏ اليوم خَمر وغداً أمر قاله امرؤ القيس أو مهلهل أخو كليب لمّا أتاه موتُ أخيه وهو يَشرب‏.‏
وقالوا‏:‏ عِش رجباً ترى عَجباً‏.‏
وقالوا‏:‏ أتى الأبد على لُبد‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ فيَومٌ علينا ويومٌ لنا ويوماً نُساء ويوماً نسَرّ وقولُهم‏:‏ مَن يَجتمعِ تَتَقَعقَع عُمُدُه‏.‏
وأنشد‏:‏ أجارتَنا مَن يجتَمع يَتَفَرَّق ومَن يك رهناً للحوادث يَغْلَقِ الأمر الشديد المعضل - منه قولًهم‏:‏ أَظْلم عليه يومُه‏.‏
وأين يَضَع المَخنوقُ يدَه ومنه ‏"‏ قولهم ‏"‏‏:‏ لو كان ذا حيلة لتَحوَّل‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ رأى الكوكب ظُهْراً‏.‏
قال طَرَفة‏:‏ وتُرِيه النجمَ يَجْرِي بالظُّهرُ هلاك القوم - منه قولهم‏:‏ طارت بهم العَنْقاء‏.‏
وطارت بهم عُقاب مَلاَع‏.‏
يُقال ذلك في الواحد والجمع وأحسبها مَعْدولة عن مَيْلع‏.‏
والمَنايا على الحَوايا‏.‏
قال أبو عُبيد‏:‏ يقال‏:‏ إن الحَوَايا في هذا الموضع مَرْكب من مَرَاكب النساء واحدتها حويّة وأحسب أصلها أن قوماً قُتلوا فحُمِلوا على الحَوَايا ‏"‏ فظنَّ الراؤون أن فيها نساء فلما كشفوا عنها أبصروا القَتْلى فقالوا ذلك ‏"‏ فصارت مثلاً‏.‏
ومنه‏:‏ أتتهم الدُّهَيم تَرْمِي بالرًضْف‏.‏
معناه‏:‏ الداهية العظيمة‏.‏
وهذا أمر لا يُنادى وَليده معناه أنّ الأمر اشتدّ حتى ذَهِلت المرأةً أن تدعو وَليدَها‏.‏
ومنه‏:‏ التقت حَلقتا البطان وبَلَغ السيل الزُّبى وجاوَز الْحِزامُ الطُّبيين‏.‏
وتقول العامَّة‏:‏ بلغ السِّكينُ العظمَ‏.‏
إصلاح ما لا صلاح له - منه قولهم‏:‏ كدابغةٍ وقد حَلِم الأديم حَلِم‏:‏ فسد‏.‏
وكتب الوليد بن عُقبة إلى معاوية بهذا البيت‏:‏ فإنّك والكتابَ إلى عليّ كدابغةٍ وقد حَلِم الأديمُ في شعر له‏.‏


الساعة الآن 02:20 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى