منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   واحة الأدب والشعر العربي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=199)
-   -   مختارات من القصص و أدب المذكرات العربي والعالمي (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=16775)

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 12:55 AM

مختارات من القصص و أدب المذكرات العربي والعالمي
 
مختارات من القصص و أدب المذكرات العربي والعالمي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه مجموعةمن المختارات لأدباء كبار من القصص العربية والعالمية
اتمنى أن ان تنال إعجابكم
التعريف بابن خلدون، بقلمه. ويحوي لقاء العالم الاسلامي المعروف بتيمور لنك:
ولد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون في تونس وعاش في اقطار المغرب العربي المختلفة ما يقارب الخمسين عاماً . ثم استقر به الامر بعد ذلك في مصر التي وصل اليها سنة 1384 ، وبقي فيها حتى وفاته.

وهو يعد من كبار العلماء الذين انجبهم العالم العربي ، اذ قدم نظريات كثيرة جديدة في علمي الاحتماع والتاريخ ، بشكل خاص في كتابيه : العبر والمقدمة . وقد عمل في التدريس في بلاد المغرب ، بجامع القرويين في فاس ، ثم في الجامع الازهر في القاهرة ، والمدرسة الظاهرية، وغيرها من محافل المعرفة التي اكثرت في ارجاء العالم الاسلامي المختلفة خلال القرن الثالث عشر نظراً لحض الدين الحنيف للناس على طلب العلم. وقد عمل ابن خلدون في مجال القضاء اكثر من مرة ، وحاول تحقيق العدالة الاجتماعية في الاحكام التي اصدرها. ونحن نقتطف وصفه لمعاناته في هذا المجال في كتاب مذكراته التعريف بأبن خلدون.

ولكن ابن خلدون كان دبلوماسياً حكيماً ايضاً . وقد أُرسل في اكثر من وظيفة دبلوماسية لحل النزاعات بين زعماء الدول : مثلاً ، عينه السلطان محمد بن الاحمر سفيراً له الى امير قشتالة للتوصل لعقد صلح بينهما .. وبعد ذلك بأعوام استعان به اهل دمشق لطلب الامان من الحاكم المغولي القاسي تيمور لنك ، وتم اللقاء بينهما . ونحن في الصفحات التالية نقتطف ايضاً وصف ابن سينا لذلك اللقاء في مذكراته. اذ يصف ما رآه من طباع الطاغية ، ووحشيته في التعامل مع المدن التي يفتحها ، ويقدم تقييماً متميزاً لكل ما شاهد في رسالة خطها لملك المغرب. الخصال الاسلامية لشخصية ابن خلدون ، اسلوبه الحكيم في التعامل مع تيمور لنك مثلاً، وذكائه وكرمه ، وغيرها من الصفات التي ادت في نهاية المطاف لنجاته من هذه المحنة، تجعل من التعريف عملاً متميزاً عن غيره من نصوص ادب المذكرات العربية والعالمية. فنحن نرى هنا الملامح الاسلامية لعالم كبير واجه المحن بصبر وشحاعة وذكاء ولباقة.


الرحلة الى المشرق ، وولاية القضاء بمصر:

ولما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة اربع وثمانين ، اقمنا في البحر نحواً من اربعين ليلة ، ثم وافينا مرسى الاسكندرية يوم الفطر . ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر على التخت ، واقتعاد كرسي الُملك دون اهله بني قلاوُن، وكنا على ترقب ذلك، لما كان يؤثر بقاصية البلاد من سموه لذلك ، وتمهيده له . واقمت بالاسكندرية شهراً لتهيئة اسباب الحج ولم يُقدّر عامئذ ، فانتقلت الى القاهرة اول ذي العقدة ، فرأيت حضرة الدنيا ، وبستان العالم ، ومحشر الامم ، ومدرج الذر من البشر ، وايوان الاسلام ، وكرسي المُلك ، تلوح القصور والاواوين في جوه ، وتزهر الحوانك والمدارس بآفاقه ، وتضئ البدور والكواكب من علمائه ، قد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء ، يسقيهم النهل والعلل سيحه ويجني اليهم الثمرات والخيرات ثجه ، ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة ، واسواقها تزخر بالنعم ، وما زلنا نحدثُ عن هذا البلد ، وبُعد مداه في العمران ، واتساع الاحوال ، ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا واصحابنا ، حاجبهم وتاجرهم ، بالحديث عنه . سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس ، وكبير العلماء بالمغرب ، ابا عبد الله المقري ، مقدمه من الحج سنة اربعين ، فقلت له : كيف هذه القاهرة؟ فقال: من لم يرها لم يعرف عز الاسلام .

وسالت شيخنا ابا العباس ابن ادريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال : كأنما انطلق اهله من الحساب ، يُشير الى كثرة اممه وامنهم العواقب .

وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس ، الفقيه الكاتب ابو القاسم البرجي بمجلس السلطان ابي عنان ، منصرفه من السفارة عنه الى ملوك مصر ، وتادية رسالته النبوية الى الضريح الكريم ، سنة ست وخمسين وسأله عن القاهرة فقال:

اقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار : ان الذي يتخيله الانسان ، فانما يراه دون الصورة التي تخيلها ، لاتساع الخيال عن كل محسوس ، الا القاهرة ، فانها اوسع من كل ما يُتخيل فيها . فأعجب السلطان والحاضرون بذلك.

ولما دخلتها ، اقمت اياماً ، وانثال على طلبة العلم فيها ، يلتمسون الافادة مع قلة البضاعة ، ولم يُوسعوني عذراً ، فجلست للتدريس بالجامع الازهر منها.

ثم كان الاتصال بالسلطان ، فأبر اللقاء ، وأنس الغُربة، ووفر الجراية من صدقاته ، شأنه مع أهل العلم ، وانتظرت لحاق اهلي وولدي من تونس ، وقد صدهم السلطان هنالك عن السفر ، اغتباطاً بعودي اليه ، فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعة اليه في تخلية سبيلهم .

ثم هلك بعض المدرسين بمدرسة القمحية بمصر ، من وقف صلاح الدين بن ايوب ، فولاني تدريسها مكانه ، وبينما أنا في ذلك ، اذ سخط السلطانُ قاضي المالكية في دولته ، لبعض النعات فعزله ، وهو رابعُ اربعة بعدد المذاهب ، يُدعى كل منهم قاضي القضاة ، تمييزاً عن الحكام بالنيابة عنهم ، لاتساع خطة هذا المعمور ، وكثرة معالمه ، وما يرتفع من الخصومات في جوانبه ، وكبير جماعتهم قاضي الشافعية ، لعُموم ولايته في الاعمال شرقاً وغرباً ، وبالصعيد والفيوم ، واستقلاله بالنظر في اموال اليتام ، والوصايا، ولقد يقال بأن مباشرة السلطان قديماً بالولاية انما كانت تكون له.

فلما عُزل هذا القاضي المالكي سنة ست وثمانين ، اختصني السلطان بهذه الولاية ، تاهيلاً لمكاني ، وتنويهاً بذكري ، وشافهته بالتفادي من ذلك ، فأبى الا امضاءه ، وخلع عليه بايوانه ، وبعث من كبار الخاصة من اقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية ، بين القصرين ، فقمت بما دفع الي من ذلك المقام المحمود ، ووفيت جهدي بما امنني عليه من أحكام الله ، لا تاخذني في الحق لومة ، ولا يزعني عنه جاهً ولا سطوة ، مسوياً في ذلك بين الخصمين ، آخذاً بحق الضعيف من الحكمين ، معرضاً عن الشفاعات والوسائل من الجانبين ، جانحاً الى التثبيت في مساع البينات ، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمل الشهادات ، فقد كان البر منهم مختلطاً بالفاجر ، والطيب متلبساً بالخبيث ، والحكام ممسكون عن انتقادهم ، متجاوزون عما يظهرون عليه من هناتهم ، لما يموهون به من الاعتصام باهل الشوكة ، فان غالبهم مختلطون بالامراء ، معلمين للقرآن ، وائمة في الصلوات ، يلبسون عليه بالعدالة، فيظنون بهم الخير ، ويقسمون لهم الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاة ، والتوسل لهم ، فاعضل داؤهم ،وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم ، ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجع العقاب ، ومؤلم النكال ، وتأدى الي العلم بالجرح في طائفة منهم ، فمنعتهم من تحمل الشهادة، وكان منهم كتاب لدواوين القضاة ، والتوقيع في مجالسهم ، قد دربوا على املاء الدعاوى ، وتسجيل الحكومات ، واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود باحكام كتابتها ، وتوثيق شروطها ، فصار لهم بذلك شفوف على اهل طبقتهم ، وتمويه على القضاة بجاههم ، يدرعون به مما يتوقعونه من عتبهم ، لتعرضهم لذلك بفعلاتهم ، وقد يسلط بعض منهم قلمه على العقود المحكمة، فيوجد السبيل الى حلها بوجه فقهي ، او كتابي ، ويبادر الى ذلك متى دعا اليه داعي جاهٍ او منحة ، وخُصوصاً في الاوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر بكثرة عوالمه ، فاصبحت خافية الشهرة ، مجهولة الاعيان ، عرضة للبطلان ، باحتلاف المذاهب المنصوبة للحكام بالبلد ، فمن اختار فيها بيعاً او تمليكاً ، شارطوه واجابوه ، مُفتاتين فيه على الحكام الذين ضربوا دُونه سد الحظر والمنع حماية من التلاعب، وفشا في ذلك الضرر في الاوقاف ، وطرق الغرر في العقود والاملاك.

فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم على واحقدهم ، ثم التفت الى الفتيا بالمذهب ، وكان الحكام منهم على جانب من الخبرة ، لكثرة معارضتهم ، وتلقينهم الخصوم ، وفُتياهم بعد نفوذ الحكم، واذا فيهم اصاغر ، بيناهم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة ولا يكادون ، اذا بهم طفروا الى مراتب الفتيا والتدريس ، فاقتعدوها ، وتناولوها بالجُزاف ، واجتازوها من غير مثرب ولا منتقد للاهليه ولا مرشح ، اذ الكثرة فيهم بالغة ، ومن كثرة الساكن مشتقة ، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق، وعنانها مرسل ، يتجاذب كل الخصوم منه رسنا ، ويتناول ممن حافته شقاً ، يرزم به الفلج على خصمه ، ويستظهر به لارغامه ، فيعطيه المفتي من ذلك ملء رضاه ، وكفاء امنيته ، متتبعاً اياه في شعاب الخلاف ، فتتعارض الفتاوى وتتناقض ، ويعظم الشغب ان وقعت بعد نفوذ الحكم ، والخلاف في المذاهب كثير ، والانصاف متعذر ، واهلية المفتي او شهرة الفتيا ليس تمييزها للعامي ، فلا يكاد هذا المدد ينحسر ولا الشغب ينقطع.

فصدعت في ذلك بالحق ، وكبحت اعنة اهل الهوى والجهل ، ورددتهم على اعقابهم ، وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب ، يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك ، لا ينتمون الى شيخ مشهور ، ولا يعرف لهم كتاب في فن ، قد اتخذوا الناس هزؤا ، وعقدوا المجالس مثلبة للاعراض ، ومأبنة للحرم ، فارغمهم ذلك مني ، وملأهم حسداً وحقداً علي ، وخلوا الى اهل جلدتهم من سُكان الزوايا المنتحلين للعبادة ، يشترون بها الجاه ليُجيروا به على الله ، وربما اضطر اهل الحقوق الى تحكيمهم ، فيحكمون بما يلقي الشيطان على السنتهم يترخصون به للاصلاح ، لا يزعهم الدين عن التعرض لاحكام الله بالجهل ، فقطعت الحبل في ايديهم ، وامضيت احكام الله فيمن اجاروه ، فلم يغنوا عنه من الله شيئاً ، واصبحت زواياهم مهجورة ، وبئرهم التي يمتاحون منها معطلة. وانطلقوا يراطنون السفهاء في النيل من عرضي ، وسوء الاحدوثة عني بمحتلف الافك ، وقول الزور ، يبثونه في الناس ، ويدسون الى السلطان التظلم مني فلا يصغي اليهم ، وانا في ذلك محتسب عند الله ما منيت به من هذا الامر ، ومعرض فيه عن الجاهلين ، وماض على سبيل سواء من الصرامة ، وقوة الشكيمة ، وتحري المعدلة ، وخلاص الحقوق ، والتنكب عن خطة الباطل منى دعيت اليها ، وصلابة العود عن الجاه والاغراض متى غمزني لامسها ، ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة ، فنكروه علي ، ودعوني الى تبعهم فيما يصطلحون عليه من مرضات الاكابر ، ومراعاة الاعيان ، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة ، او دفع الخصوم اذا تعذرت ، بناء على ان الحاكم لا يتعين عليه الحكم مع وجود غيره ، وهم يعلمون ان قد تمالأوا عليه.
وليت شعري ! ما عذرهم في الصور الظاهرة ، اذا علموا خلافها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في ذلك : "من قضيت له من حق اخيه شيئاً فانما اقضي له من النار."
فأبيت في ذلك كله الا اعطاء العهدة حقها ، والوفاء لها ولمن قلدنيها ، فاصبح الجميع علي البا ، ولمن ينادي بالتافف مني عونا ، وفي النكير على امة ،واسمعوا الشهود الممنوعين ان قد قضيت بغير الحق ، لاعتمادي على علمي في الجرح ، وهي قضية اجماع ، وانطلقت الالسنة ، وارتفع الصخب ، وارادني بعض على الحكم بغرضهم فوقفت ، واغروا بي الخصوم فتنادوا بالتظلم عند السلطان ، وجمع القضاة واهل الفتيا في مجلس حفل للنظر في ذلك ، فخلصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الابريز ، وتبين امرهم للسلطان ، وامضيت فيها حكم الله ارغاماً لهم ، فغدوا على حرد قادرين ، ودسوا لاولياء السلطان وعظماء الخاصة ، يقبحون لهم اهمال جاههم ، ورد شفاعتهم مموهين بان الحامل على ذلك جهل المصطلح ، وينفون هذا الباطل بعظائم ينسبونها الي ، تبعث الحليم ، وتغري الرشيد ، يستثيرون حفائظهم علي ، ويشربونهم البغضاء لي ، والله مجازيهم ومسائلهم .
فكثر الشغب علي من كل جانب ، واظلم الجو بيني وبين اهل الدولة ، ووافق ذلك مصابي بالاهل والولد ، وصلوا من المغرب في السفين ، فاصابها قاصف من الريح فغرقت ، وذهب الموجود والسكن والمولود ، فعظم المُصاب والجزع ، ورجح الزهد ، واعتزمت على الخروج عن المنصب ، فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته ، خشية من نكير السلطان وسخطه ، فوقفت بين الورد والصدر ، وعلى صراط الرجاء والياس، وعن قريب تداركني اللطف الرباني ، وشملتني نعمة السلطان –ايده الله- في النظر بعين الرجمة ، وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم اطق حملها ، ولا عرفت – كما زعموا – مصطلحها ، فردها الى صاحبها الاول ، وانشطني من عقالها ، فانطلقت حميد الاثر ، مشيعاً من الكافة بالاسف والدعاء وحميد الثناء ، تلحظني العيون بالرحمة ، وتتناجى الامال فيّ بالعودة، ورتعت فيما كنت راتعاً فيه من قبل من مراعي نعمته وظل رضاه وعنايته ، قانعاً بالعافية التي سألها رسول الله صلى وسلم من ربه ، عاكفاً على تدريس علم او قراءة كتاب ، او اعمال قلم في تدوين او تاليف ، مؤملاً من الله قطع صبابة العمر في العبادة ، ومحو عوائق السعادة بفضل الله ونعمته.
لقاء الامير سلطان المغل والطرر:
لما وصل الخبر الى مصر بأن الامير تمُر ملك بلاد الروم ، وخرب سيواس ، ورجع الى الشام ، جمع السلطان عساكره ، وفتح ديوان العطاء، ونادى في الجند بالرحيل الى الشام ، وكنت انا يومئذ معزولاً عن الوظيفة ، فاستدعاني دواداره يشبك ، وارادني على السفر معه في ركاب السلطان ، فتجافيت عن ذلك. ثم اظهر العزم علي بلين القول ، وجزيل الانعام فاصخيتُ ، وسافرت معهم منتصف شهر المولد الكريم من سنة ثلاث ، فوصلنا الى غزة ، فارحنا بها أياماً نترقب الأخبار ، ثم وصلنا الى الشام مسابقين الططر الى ان نزلنا شقحب واسرينا فصبحنا دمشق ، والامير تمُر في عساكره قد رحل من بعلبك قاصداً دمشق ، فضرب السلطان خيامه وابنيته بساحة قبة يُلبُغا. ويئس الامير تمُر من مهاجمة البلد ، فاقام بمرقب على قبة يُلبُغا يراقبنا ونراقبه اكثر من شهر ، تجاول العسكران في هذه الايام مرات ثلاثاً او اربعاً ، فكانت حربهم سجالاً ، ثم نمي الخبر الى السلطان واكابر امرائه ، ان بعض الامراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب الى مصر للثورة بها ، فاجمع رايهم الرجوع الى مصر خشية من انتقاض الناس وراءهم ، واختلال الدولة بذلك ، فأسروا ليلة الجمعة من شهر (….) وركبوا جبل الصالحية ، ثم انحطوا في شعابه ، وساروا على شافة البحر الى غزة ، وركب الناس ليلاً يعتقدون ان السلطان سار على الطريقة الاعظم الى مصر ، فساروا عصباً وجماعات على شقحب الى ان وصلوا الى مصر ، واصبح اهل دمشق متحيرين قد عميت عليهم الانباء.
وجائني القضاة والفقهاء ، واجتمعت بمدرسة العادلية ، واتفق رايهم على طلب الامان من الامير تمُر على بيوتهم وحرمهم ، وشاوروا في ذلك نائب القلعة ، فابى عليهم ذلك ونكره ، فلم يوافقوه . وخرج القاضي برهان الدين بن مفلح الحنبلي ومعه شيخ الفقراء بزاوية (…) فاجابهم الى التامين ، وردهم باستدعاء الوجوه والقضاة ، فخرجوا اليه متدلين من السور بما صبحهم من التقدمة، فاحسن لقاءهم وكتب لهم الرقاع بالامان ، وردهم على احسن الآمال ، واتفقوا معه على فتح المدينة من الغد ، وتصرف الناس في المعاملات ، ودخول امير ينزل بمجل الامارة منها ، ويملك امرهم بعز ولايته.
واخبرني القاضي برهان الدين انه ساله عني ، وهل سافرت مع عساكر مصر او اقمت بالمدينة ، فاخبره بمقامي حيث كنت ، وبتنا تلك الليلة على اهبة الخروج اليه ، فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع ، وانكر البعض ما وقع من الاستنامة الى القول. وبلغني الخبر من جوف الليل ، فخشيت الباردة على نفسي ، وبكرت سحراً الى جماعة القضاة عند الباب ، وطلبت الخروج او التدلي من السور ، لما حدث عندي من توهمات ذلك الخبر ، فابوا على اولاً ، ثم اصغوا لي، ودلوني من السور ، فوجدت بطانته عند الباب ، ونائبه الذي عينه للولاية على دمشق ، واسمه شاه ملك ، من بني جقطاي اهل عصابته ، فحييتهم وحيوني ، وفديت وفدوني ، وقدم لي شاه ملك ، مركوباً ، وبعث معي من بطانة السلطان من اوصلني اليه . فلما وقفت بالباب خرج الاذن باجلاسي في خيمة هنالك تجاور خيمة جلوسه ، متكئاً على مرفقه ، وصحاف الطعام تمُر بين يديه ، يُشير بها الى عصب المغل جلوساً امام خيمته ، حلقاً حلقاً . فلما دخلت عليه فاتحت السلام ، اوميت ايماءة الخضوع ، فرفع راسة ، ومد يده الى فقبلتها ، واشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت . ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد الجبار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم ، فاقعده يترجم ما بيننا ، وسألني من اين جئت من المغرب؟ ولما جئت؟ فقلت : جئت من بلادي لقضاء الفرض وركبت اليها البحر ، ووافيت مرسى الاسكندرية يوم الفطر سنة اربع وثمانين من هذه المائة الثامنة ، والمفرحات باسوارهم لجلوس الظاهر على تخت الملك لتلك العشرة الايام بعددها. فقال لي : "وما فعل معك؟" فقلت : "كل خير، بر مقدمي ، وأرغد قراي ، وزودني للحج ، ولما رجعت وفر جرايتي ، واقمت في ظله ونعمته ، رجمه الله وجزاه. فقال : وكيف كانت توليته اياك القضاء ؟ فقلت: مات قاضي المالكية قبل موته بشهر ، وكان يظن بي المقام المحمود في القيام بالوظيفة ، وتحري المعدلة والحق ، والاعراض عن الجاه ، فولاني مكانه ، ومات لشهر بعدها ، فلم يرض اهل الدولة بمكاني ، فادالوني منها بغيري جزاهم الله. فقال لي : "واين ولدك؟" فقلت : بالمغرب الجواني كاتب للملك الاعظم هنالك. فقال وما معنى الجواني في وصف المغرب؟ فقلت هو في عرف خطابهم معناه الداخلي ، أي الابعد ، لان المغرب كله على ساحل البحر الشامي من جنوبه ، فالاقرب الى هنا برقة ، وافريقية ، والمغرب الاوسط : تلمسان وبلاد زناتة ، والاقصى : فاس ومراكش ، وهو معنى الجواني. فقال لي : وسبتة؟ فقلت: ليست على البحر ، وهي في وسط التلول ، وكرسي ملوك المغرب من بني مرين. فقال : وسجلماسة؟ قلت: في الحد ما بين الارياف والرمال من جهة الجنوب. فقال : لا يقنعني هذا، واحب ان تكتب لي بلاد المغرب كلها ، اقاصيها وادانيها وجباله وانهاره وقراه وامصاره ، حتى كانني اشاهده. فقلت: يحصل ذلك بسعادتك ، وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب من ذلك ، واوعيت الغرض فيه في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة من الكراريس المنصفة القطع. ثم اشار الى خدمه باحضار طعام من بيته يسمونه الرشتة، ويحكمونه على ابلغ ما يمكن ، فاحضرت الاواني منه ، واشار بعرضها علي ، فمثلت قائماً وتناولتها وشربت واستطبت ، ووقع ذلك منه احسن المواقع ، ثم جلست وسكتنا ، وقد غلبني الوجل بما وقع من نكبة قاضي القضاة الشافعية ، صدر الدين المناوي ، اسره التابعون لعسكر مصر . بشحقب ، وردوه ، فحبس عندهم في طلب الفدية منه ، فاصابنا من ذلك وجل ، فزورت في نفسي كلاماً اخاطبه به ، واتلطفه بتعظيم احواله ، وملكه . وكنت قبل ذلك بالمغرب قد سمعت كثيراً من الحدثان في ظهوره ، وكان المنجمون المتكلمون في قرانات العلويين يترقبون القآن العاشر في المثلثة الهوائية ، وكان يترقب عام ستة وستين من المائة السابعة . فلقيت ذات يوم من عام احد وستين بجامع القرويين من فاس ، الخطيب ابا علي بن باديس خطيب قسنطينة ، وكان ماهراً في ذلك الفن ، فسالته عن القران المتوقع ، فقال لي: يدل على ثائر عظيم في الجانب الشمالي الشرقي ، من امة بادية اهل خيام ، تتغلب على الممالك ، وتقلب الدول ، وتستولي على اكثر المعمورة . فقلت : ومتى زمنه؟ فقال : عام اربعة وثمانين تنتشر اخباره. وكتب لي بمثل ذلك الطبيب ابن زرزر اليهودي ، طبيب ملك الافرنج ابن اذفونش ومنجمه . وكان شيخي رحمه الله امام المعقولات محمد بن ابراهيم الابلي منى فاوضته في ذلك ، او سايلته عنه يقول: امره قريب ، ولابد لك ان عشت ان تراه.
واما المتصوفة فكنا نسمع عنهم بالغرب ترقبهم لهذا الكائن ، ويرون ان القائم به هو الفاطمي المشار اليه في الاحاديث النبوية ، من الشيعة وغيرهم ، فاخبرني يحيى بن عبد الله حافد الشيخ ابي يعقوب البادسي كبير الاولياء بالمغرب ، ان الشيخ قال لهم ذات يوم ، وقد انفتل من صلاة الغداة: ان هذا اليوم ولد فيه القائم الفاطمي ، وكان ذلك في عشر الاربعين من المائة الثامنة ، فكان في نفسي من ذلك كله ترقب له.
فوقع من نفسي لاجل الوجل الذي كنت فيه ان افاوضه في شيئ من ذلك يستريح اليه ، ويانس به مني ، ففاتحته وقلت: ايدك الله ! لي اليوم ثلاثون او اربعون سنة اتمنى لقاءك. فقال لي الترجمان عبد الجبار : وما سبب ذلك؟ فقلت: امران، الاول انك سلطان العالم ، وملك الدنيا ، وما اعتقد انه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك، ولست ممن يقول في الامور بالجراف ، فاني من اهل العلم ، واين ذلك فاقول:
ان الملك انما يكون بالعصبية ، وعلى كثرتها يكون قدر الملك ، واتفق اهل العلم من قبل ومن بعد ، ان اكثر امم البشر فرقتان : العرب والترك ، وانتم تعلمون ملك العرب كيف كان لما اجتمعوا في دينهم على نبيهم ، واما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس ، وانتزاع ملكهم افراسياب خراسان من ايديهم شاهد بنصابهم من الملك . ولا يساويهم في عصبيتهم احد من ملوك الارض من كسرى ، او قيصر ، او الاسكندر ، او بختنصر ، اما كسرى فكبير الفرس ومليكهم ، واين الفرس من الترك ؟ واما بختنصر فكبير اهل بابل ، والنبط . واين هؤلاء من الترك ؟ وهذا برهان ظاهر على ما ادعيته في هذا الملك.
واما الامر الثاني ممما يحملني على تمني لقائه ، فهو ما كنت اسمعه من اهل الحدثان بالمغرب ، والاولياء ، وذكرت ما قصصته من ذلك قبل . فقال لي : واراك قد ذكرت بختنصر مع كسرى ، وقيصر ، والاسكندر ، ولم يكن في عدادهم ، لانهم ملوك اكابر ، وبختنصر قائد من قواد الفرس ، كما انا نائب من نواب صاحب التخت ، وهو هذا ، واشار الى الصف القائمين وراءه ، وكان واقفاً معهم ، وهو ربيبه الذي تقدم لنا انه تزوج امه بعهد ابيه ساطلمش ، فلم يلقه هناك ، وذكر له القائمون في ذلك الصف انه خرج عنهم.
فرجع الي وقال: ومن أي الطوائف هو بختنصر ؟ فقلت : بين الناس فيه خلاف ، فقيل من النبط بقية ملوك بابل ، وقيل من الفرس الاولى ، قال : يعني من ولد منوشهر . فقلت نعم هكذا ذكروا ، فقال : ومنوشهر له علينا ولادة من قبل الامهات . ثم افضت مع الترجمان في تعظيم هذا القول منه .
فقال الملك : واي القولين ارجح عندك فيه. فقلت انه من عقية ملوك بابل ، فذهب هو الى ترجيح القول الاخر . فقلت : يعكر تملينا راي الطبري ، فانه مؤرخ الامة ومحدثهم ، ولا يرجحه غيره ، فقال : وما علينا من الطبري ؟ نحضر كتب التاريخ للعرب والعجم ، ونناظرك. فقلت : وانا ايضاً اناظر على راي الطبري ، وانتهى بنا القول ، فسكت ، وجاءه الخبر بفتح باب المدينة وخروج القضاة وفاء بما زعموا من الطاعة التي بذل لهم فيها الامان ، فرُفع من بين ايدينا ، لما في ركبته من الداء ، وحُمل على فرسه فقبض شكائمه ، واستوى في مركبه . وضربت الالات حفا فيه حتى ارتج لها الجو . وسار نحو دمشق ، ونزل في تربة منجك عند باب الجابية ، فجلس هناك ، ودل اليه القضاة واعيان البلد ، ودخلت في جملتهم ، فاشار اليهم بالانصراف ، الى شاه ملك نائبه ان يخلع عليهم في وظائفهم ، واشار الي بالجلوس ، فجلست بين يديه . ثم استدعى امراء دولته القائمين على امر البناء ، فاحضروا عرفاء البنيان المهندسين، وتناظروا في اذهاب الماء الدائر بحفير القلعة ، لعلهم يعثرون بالصناعة على منفذه ، ثم انصرفوا ، وانصرفت الى بيتي داخل المدينة بعد ان استاذنته في ذلك ، فاذن فيه . واقمت في كسر البيت ، واشتغلت بما طلب مني في وصف بلاد المغرب ، فكتبته في ايام قليلة ، ورفعته اليه فاخذه من يدي ، وامر موقعه بترجمته الى اللسان المغُلي . ثم اشتد في حصار القلعة ، ونصب عليها الالات من المجانيق ، والنفوط ، والعرادات، والنقب ، فنصبوا لايام قليلة ستين منجنيقاً الى ما يشاكلها من الالات الاخرى ، وضاق الحصار باهل القلعة ، وتهدم بناؤها من كل جهة ، فطلبوا الامان.
وكان بها جماعة من خدام السلطان ومخلفه ،فامنهم السلطان تمُر ، وحضروا عنده. وخرب القلعة وطمس معالمها ، وصادر اهل البلد على قناطير من الاموال استولى عليها بعد ان اخذ جميع ما خلفه صاحب مصر هنالك ، من الاموال والظهر والخيام . ثم اطلق ايدي النهابة على بيوت اهل المدينة ، فاستوعبوا اناسيها ، وامتعتها ، واضرموا الناء فيما بقي من سقط الاقمشة والخُرثي ، فاتصلت النار بحيطان الدور المدعمة بالخشب ، فلم تزل تتوقد الى ان اتصلت بالجامع الاعظم ، وارتفعت الى سقفه ، فسال رصاصه ، وتهدمت سقفه وحوائطه ، وكان امراً بلغ مبالغه في الشناعة والقبح . وتصاريف الامور بيد الله يفعل في خلقه ما يريد ، ويحكم في ملكه ما يشاء.
وكان ايام مقامي عند السلطان تمُر ، خرج اليه من القلعة يوم من اهلها رجل من اعقاب الخلفاء بمصر، من ذرية الحاكم العباسي الذي نصبه الظاهر بيبرس ، فوقف الى السلطان تمُر يساله النصفة في امره ، ويطلب منه منصب الخلافة كما كان لسلفه ، فقال له السلطان تمُر: انا احضر الفقهاء والقضاة، فان حكموا لك بشئ انصفتك فيه . واستدعى الفقهاء والقضاء ، واستدعاني فيها ، فحضرنا عنده وحضر هذا الرجل الذي يسال منصب الخلافة ، فقال له عبد الجبار : هذا مجلس النصفة فتكلم. فقال : ان هذه الخلافة لنا ولسلفنا ، وان الحديث صح بان الامر لبني العباس ما بقيت الدنيا ، يعني امر الخلافة . واني احق من صاحب المنصب الان بمصر ، لان ابائي الذين ورثتهم كانوا قد استحقوه ، وصار الى هذا بغير مستند ، فاستدعى عبد الجبار كلا منا في امره ، فسكتنا برهة ، ثم قال: ما تقولون في هذا الحديث ؟ فقال برهان الدين بن مفلح: الحديث ليس بصحيح . واستدعى ما عندي في ذلك فقلت : الامر كما قلتم من انه غير صحيح. فقال السلطان تمُر: فما الذي اصار الخلافة لبني العباس الى هذا العهد في الاسلام؟ وشافهني بالقول، فقلت : ايدك الله! اختلف المسلمون من لدن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، هل يجب على المسلمين ولاية رجل منهم يقوم بامورهم في دينهم ودنياهم ، ام لا يجب ذلك؟ فذهبت طائفة الى انه لا يجب ، ومنهم الخوراج، وذهب جماعة الى وجوبه ، واختلفوا في مستند ذلك الوجوب ، فذهب الشيعة كلهم الى حديث الوصية ، وان النبي صلى الله عليه وسلم اوصى بذلك لعلي ، واختلفوا في تنقلها عنه الى عقبه الى مذاهب كثيرة تشذ عن الحصر . واجمع اهل السنة على انكار هذه الوصية ، وان مستند الوجوب في ذلك انما هو الاجتهاد ، يعنون ان المسلمين يجتهدون في اختيار رجل من اهل الحق والفقه والعدل ، يفوضون اليه النظر في امورهم.

ولما تعددت فرق العلوية وانتقلت الوصية بزعمهم من بني الحنيفة الى بني العباس ، اوصى بها ابو هاشم بن محمد الحنفية الى محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس ، وبث دعاته بخراسان . وقام ابو مسلم بهذه الدعوة ، فملك خراسان والعراق ، ونزل شيعتهم الكوفة ، واختاروا للامر ابا العباس السفاح ابن صاحب هذه الدعوة ، ثم ارادوا ان تكون بيعته على اجماع من اهل السنة والشيعة ، فكاتبوا كبار الامة يومئنذ ، واهل الحل والعقد ، بالحجاز والعراق ، بشاورونهم في امره ، فوقع اختيارهم كلهم على الرضى به ، فبايع له شيعته بالكوفة بيعة اجماع واصفاق . ثم عهد بها الى اخيه المنصور ، وعهد بها المنصور الى بنيه ، فلم تزل متناقلة بينهم ، اما بعهد او باختيار اهل العصر ، الى ان كان المستعصم آخرهم ببغداد . فلما استولى عليها هولاكو وقتله ، افترق قرابته ، ولحق بعضهم بمصر ، وهو احمد الحاكم من عقب الراشد ، فنصبه الظاهر بمصر ، بممالأة اهل الحل والعقد من الجند والفقهاء . وانتقل الامر في بيته الى هذا الذي بمصر ، لا يُعلم خلاف ذلك. فقال لهذا الرافع : قد سمعت مقال القضاة ، واهل الفتيا ، وظهر انه ليس لك حق تطلبه عندي . فانصرف راشداً.
الرجوع عن هذا الامير تمُر الى مصر:
كنت لما لقيته ، وتدليت اليه من السور كما مر أشار علي بعض الصحاب ممن يخبر احوالهم بما تقدمت له من المعرفة بهم ، فاشار بان اطرفه ببعض هدية ، وان كانت نزرة فهي عندهم متأكدة في لقاء ملوكهم ، فانتقيت من سوق الكتب مصحفاً رائعاً حسناً في جزء محذو ، وسجادة انيقة ، ونسخة من قصيدة البردة المشهورة للابوصيري في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، واربع علب من حلاوة مصر الفاخرة . وجئت بذلك فدخلت عليه ، وهو بالقصر الابلق جالس في ايوانه ، فلما رآني مقبلاً مثل قائماً واشار الي عن يمينه ، فجلست واكابر من الجقطية حفافية ، فجلست قليلاً ، ثم استدرت بين يديه ، واشرت الى الهدية التي ذكرتها ، وهي بيد خدامي ، فوضعتها ، واستقبلتني ، ففتحت المصحف فلما رآه وعرفه ، قام مبادراً فوضعه على راسه . ثم ناولته البردة ، فسالني عنها وعن ناظمها فاخبرته بما وقفت عليه من امرها. ثم ناولته السجادة ، فتناولها وقبلها . ثم وضعت علب الحلوى بين يديه ، وتناولت منها حرفاً على العادة في التانيس بذلك . ثم قسم هو ما فيها من الحلوى بين الحاضرين في مجلسه ، وتقبل لك كله ، وأشعر بالرضى به . ثم حومت على الكلام بما عندي في شان نفسي ، وشان اصحاب لي هنالك . فقلت ايدك الله ! لي كلام اذكره بين يديك ، فقال : قل. فقلت انا غريب بهذه البلاد غربتين ، واحدة من المغرب الذي هو وطني ومنشأي واخرى من مصر واهل جيلي بها ، وقد حصلت في ظلك ، وانا ارجوا رايك لي فيما يؤنسني في غربتي، قل الذي تريد افعله لك، فقلت : حال الغربة انستني ما اريد ، وعساك – ايدك الله – ان تعرف لي ما اريد . قال انتقل من المدينة الى الاردو عندي ، وأنا ان شاء الله اوفى كنه قصدك . فقلت يامر لي بذلك نائبك شاه ملك ، فاشار اليه بامضاء ذلك ، فشكرت ودعوت وقلت : وبقيت لي اخرى . فقال : وما هي؟ فقلت هؤلاء المخلفون عن سلطان مصر. من القراء ، والموقعين ، والدواوين ، والعمال ، صاروا الى ايالتك والملك لا يغفل مثل هؤلاء فسلطانكم كبير ، وعمالاتكم متسعة ، وحاجة ملككم الى المتصرفين في صفوف الخدم اشد من حاجة غيركم ، فقال وما تريد لهم؟ قلت: مكتوب امان يستنيمون اليه ، ويعولون في احوالهم عليه. فقال لكاتبه : اكتب لهم بذلك ، فشكرت ودعوت . وخرجت مع الكاتب حتى كتب لي مكتوب الامان ، وختمه شاه ملك بخاتم السلطان ، وانصرفت الى منزلي . ولما قرب سفره واعتزم على الرحيل عن الشام ، دخلت عليه ذات يوم ، فلما قضينا المعتاد ، التفت الي وقال : عندك بغلة هان؟ فقلت نعم ، قال حسنة ؟ قلت نعم ، قال وتبيعها؟ فانا اشتريها منك ، فقلت ايدك الله ! مثلي لا يبيع من مثلك ، انما انا اخدمك بها ، وبامثالها لو كانت لي، فقال : انا اردت ان اكافئك عنها بالاحسان ، فقلت : وهل بقي احسان وراء ما احسنت به ، اصطنعتني ، واحللتني من مجلسك محل خواصك ، وقابلتني من الكرامة والخير بما ارجو الله ان يقابلك بمثله ، وسكت وسكتُّ وحملت البغلة –وانا معه في المجلس – اليه ولم ارها بعد.

ثم دخلت عليه يوماً آخر فقال لي : أتسافر الى مصر؟ فقلت ايدك الله ، رغبتي انما هي انت ، وانت قد آويت وكفلت ، فان كان السفر الى مصر في خدمتك فنعم ، والا فلا بغية لي فيه ، فقال لا ، بل تسافر الى عيالك واهلك ، فالتفت الى ابنه ، وكان مسافراً الى شقحب لمرباع دوابه ، واشتغل يحادثه ، فقال لي الفقيه عبد الجبار الذي كان يترجم بيننا : ان السلطان يوصي ابنه بك ، فدعوت له، ثم رايت ان السفر مع ابنه غير مستبين الوجهة ، والسفر الى صفد اقرب السواحل الينا املك لامري ، فقلت له ذلك ، فاجاب اليه ، واوصى بي قاصداً كان عنده من حاجب صفد ابن الداويداري فودعته وانصرفت ، واختلفت الطريق مع ذلك القاصد ، فذهب عني ، وذهبت عنه . وسافرت في جمع من اصحابي ، فاعترضتنا جماعة من العشير قطعوا علينا الطريق، ونهبوا ما معنا ، ونجونا الى قرية هنالك عرايا. واتصلنا بعد يومين او ثلاث بالصبيبة فخلفنا بعض الملبوس ، واجتزنا الى صفد ، فاقمنا بها اياماً. ثم مر بنا مركب من مراكب ابن عثمان سلطان بلاد الروم ، وصل فيه رسول كان سفر اليه عن سلطان مصر ، ورجع بجوار رسالته ، فركبت معهم البحر الى غزة ، ونزلت بها ، وسافرت منها الى مصر ، فوصلتها في شعبان من هذه السنة ، وهي سنة ثلاث وثمانمائة ، وكان السلطان صاحب مصر ، قد بعث من بابه سفيراً الى الامير تمُر اجابة الى الصلح الذي طلب منه ، فاعقبني اليه . فلما قضى رسالته رجع ، وكان وصوله بعد وصولي ، فبعث الى مع بعض اصحابه يقول لي : ان الامير تمُر قد بعث معي اليك ثمن البغلة التي ابتاع منك ، وهي هذه فخذها ، فانه عزم علينا من خلاص ذمته من مالك هذا . فقلت لا اقبله الا بعد اذن من السلطان الذي بعثتك اليه ، واما دون ذلك فلا . ومضيت الى صاحب الدولة فاخبرته الخبر فقال وما عليك؟ فقلت ان ذلك لا يجمل بي ان افعله دون اطلاعكم عليه ، فاغضى عن ذلك ، وبعثوا الي بذلك المبلغ بعد مدة ، واعتذر الحامل عن نقصه بانه اعطيه كذلك ، وحمدت الله على الخلاص .

وكتبت حينئذ كتاباً الى صاحب المغرب ، عرفته بما دار بيني وبين سلطان الططر تمُر ، وكيف كانت واقعته معنا بالشام ، وضمنت ذلك في فصل من الكتاب نصه :

"وان تفضلتم بالسؤال عن حال المملوك ، فهي بخير والحمد لله ، وكنت في العام الفارط توجهت صُحبة الركاب السلطاني الى الشام عندما زحفت الططر اليه من بلاد الروم والعراق ، مع ملكهم تمُر ، واستولى على حلب وحماة وحمص وبعلبك ، وخربها جميعاً وعاثت عساكره فيها بما لم يُسمع اشنع منه. ونهض السلطان في عساكره لاستنقاذها ، وسبق الى دمشق ، واقام في مقابلته نحواً من شهر ، ثم قفل راجعاً الى مصر ، وتخلف الكثير من امرائه وقضاته ، وكنت في المخلفين . وسمعت ان سلطانهم تمُر سأل عني ، فلم يسع الا لقاؤه فخرجت اليه من دمشق ، وحضرت مجلسه ، وقابلني بخير ، واقتضيت منه الامان لاهل دمشق ، واقمت عنده خمساً وثلاثين يوماً ، اباكره واراوحه . ثم صرفني ، وودعني على احسن حال ، ورجعت الى مصر . وكان طلب مني بغلة كنت اركبها فاعطيته اياها ، وسالني البيع فتاففت منه ، لما كان يعامل به من الجميل ، فبعد انصرافي الى مصر بعث الي بثمنها مع رسول كان من جهة السلطان هنالك ، وحمدت الله تعالى على الخلاص من ورطات الدنيا.

وهؤلاء الططر الذين خرجوا من المفازة وراء النهر ، بينه وبين الصين ، اعوام عشرين وستمائة مع ملكهم الشهير جنكزخان وملك المشرق كله في ايدي السلجوقية ومواليهم الى عراق العرب ، وقسم الملك بين ثلاثة بين ثالثة من بنيه وهم جقطاي ، وطولي ، ودوشي خان :
فجقطاي كبيرهم ، وكان في قسمته تركستان وكاشغر ، والصاغون ، والشاش وفرغانة، وسائر ما وراء النهر من البلاد .

وطولي كان في قسمته اعمال خراسان ، وعراق العجم ، والري الى عراق العرب وبلاد فارس وسجستان والسند . وكان ابناؤه: قبلاي ، وهولاكو.

ودوشي خان كان في قسمته بلاد قبجق ، ومنها صراي ، وبلاد الترك الى خوارزم . وكان لهم اخ رابع يسمى اوكداي كبيرهم ، ويسمونه الخان ، ومعناه صاحب التخت ، وهو بمثابة الخليفة في ملك الاسلام . وانقرض عقبه ، وانتقلت الخانية الى قبلاي ، ثم الى بني دوشي حان ، اصحاب صراي. واسمتر ملك الططر في هذه الدول الثلاث ، وملك هولاكو بغداد ، وعراق العرب ، الى ديار بكر ونهر الفرات. ثم زحف الى الشام وملكها ، ورجع عنها ، وزحف اليها بنوه مراراً ، وملوك مصر من الترك يدافعونهم عنها ، الى ان انقرض ملك بني هولاكو اعوام اربعين وسبعمائة ، وملك بعدهم الشيخ حسن النوين وبنوه . افترق ملكهم في طوائف من اهل دولتهم ، وارتفعت نقمتهم عن ملوك الشام ومصر . ثم في اعوام السبعين او الثمانين وسبعمائة ، ظهر في بني جُقطاي وراء النهر امير اسمه تيمور ، وشهرته عند الناس تمُر ، وهو كافل لصبي متصل النسب معه الى جقاي في آباء كلهم ملوك ، وهذا تمُر بن طرغاي هو ابن عمهم ، كفل صاحب التخت منهم اسمه محمود ـ وتزوج امه صرغمتش ، ومد يده الى ممالك التتر كلها ، فاستولى عليها الى ديار بكر ، ثم جال في بلاد الروم والهند ، وعاثت عساكره في نواحيها ، وخرب حصونها ومدنها ، في اخبار يطول شرحها . ثم زحف بعد ذلك الى الشام ، ففعل به ما فعل ، والله غالب على امره . ثم رجع آخراً الى بلاده ، والاخبار تتصل بانه قصد سمرقند ، وهي كرسيه.

والقوم في عدد لا يسعه الاحصاء ، ان قدرت الف الف فغير كثير ، ولا تقول انقص ، وان خيموا في الارض ملأوا الساح ، وان سارت كتائبهم في الارض العريضة ضاق بهم الفضاء ، وهم في الغارة والنهب والفتك بأهل العمران ، وابتلائهم بانواع العذاب ، على ما يحصلونه من فئاتهم آية عجب ، وعلى عادة بوادي الاعراب.

وهذا الملك تمُر من زعماء الملوك وفراعنتهم ، والناس ينسبونه الى العلم ، وآخرون الى اعتقاد الرفض ، لما يرونه من تفضيله لأهل البيت . وآخرون الى انتحال السحر ، وليس من ذلك كله في شيء ، انما هو شديد الفطنة والذكاء ، كثير البحث واللجاج بما يعلم ولا يعلم ، عمره بين الستين والسبعين ، وركبته اليمنى عاطلة من سهم اصابه في الغارة ايام صباه على ما اخبرني ، فيجرها في قريب المشي ، ويتناوله الرجال على الايدي عند طول المسافة ، وهو مصنوع له ، والمللك لله يؤتيه من يشاء من عباده.

يتبع

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:02 AM

أحمد أمين 1

1886- 7 195

يقول طه حسين: "لقد اهدى احمد امين الى العالم الحديث بتاليف فجر الاسلام وضحاه وظهره كنزاً من اقوم الكنور واعظمها حظاً من الغنى واقدرها على البقاء ومطاولة الزمان والاصراح." في حياتي يسعى احمد امين لتقديم صورة صادقة عن نموه منذ مراحل الطفولة الباكرة حتى اواخر عمره ، موضحاً كيفية تكون الشخصية التي قدمت للعالم العربي فجر الاسلام . فقد كان من المعتقدين بدور البيئة في خلق الشخصية ، اذ يقول في بداية سيرته : "كل انسان - الى حد كبير - نتيجة لجميع ما ورثه عن آبائه وما اكتسبه من بيئته التي احاطت به ." وهو يذكر في هذا السياق عوامل عدة منها تاثير اسرته التي ترعرع في ظلالها عليه ، والحارة التي ترعرع فيها ، الكتاب والازهر . ثم يصف عمله الجامعي كاستاذاً بكلية الاداب وعميداً لها.

في الصفحات التالية ، يصف احمد امين تجاربه الاولى مع اسرته ، ويوضح كيف اثرت في شخصيته لاحقاً. فالقسوة في معاملته كطفل تدفعه للجدية، ولعدم القدرة على مشاركة الاخرين الافراح، بل انه يبات جدياً اقرب للكابة في طبعه طوال العمر. هو يصف ايضاً مساعيه لتوسيع حدود تعليمه التراثي في الازهر عن طريق تعلم اللغة الانجليزية،وتاثير القراءة باكثر من لغة على اسلوبه في التفكير. بل انه يقدم رؤية خاصة للغة العربية وكيفية استخدام المحدثين لها ، اذ يدعوا للغة بسيطة يقدر القاريء العادي على فهمها. سيجد القاريء هنا ايضاً وصفاً لزواج احمد امين وتحليلاً لمزايا وشرور العلاقة الزوجية يتميز بصراحة يندر ان نعثر عليها في ادب المذكرات العربي المعاصر .


حياتي
ما انا الا نتيجة حتمية لكل ما مر علي وعلى ابائي من أحداث. فالمادة لا تنعدم وكذلك المعاني. قد يموت الطير وتموت الحشرات والهوام ، ولكنها تتحلل في تراب الارض فتغذي النبات والاشجار . قد يتحول النبات والاشجار الى فحم ، ويتحول الفحم الى نار، وتتحول النار الى غاز ، ولكن لا شيء من ذلك ينعدم . حتى اشعة الشمس التي تكون الغابات وتنمي الاشجار تُختزن في الظلام، فاذا سُلطت عليها النار تحولت الى ضوء وحرارة وعادت الى سيرتها الاولى.

وكذلك الشأن في العواطف والمشاعر والافكار والاحيلة ، تبقى ابداً ، وتعمل عملها ابداً. فكل ما يلقاه الانسان من يوم ولادته ، وكل ما يلقاه اثناء حياته ، يستقر في قرارة نفسه ، ويسكن في اعماق حسه، سواء في ذلك ما وعى وما لم يعي، وما ذكر وما نسى ، وما لذ وما آلم. فنبحة الكلب يسمعها ، وشعلة النار يراها ، وزجرة الاب او الام يتلقاها ، واحداث السرور والالم تتعاقب عليه. كل ذلك يتراكم ويتجمع ، ويختلط ويمتزج ويتفاعل، ثم يكون هذا المزيج وهذا التفاعل اساساً لكل ما يصدر عن الانسان من اعمال نبيلة وخسيسة-وكل ذلك ايضاً هو السبب في ان يصير الانسان عظيماً او حقيراً ، قيماً او تافهاً. فكل ما لقينا من احداث في الحياة ، وكل خبرتنا وتجاربنا ، وكل ما تلقته حواسنا او دار في خلدنا هو العامل الاكبر في تكوين شخصياتنا - فان رايت مكتئباً بالحياة ساخطاً عليها متبرماً بها ، او مبتهجاً بالحياة راضياً عنها متفتحاً قلبه لها ، او رايت شجاعاً مغامراً كبير القلب واسع النفس ، او جباناً ذليلاً خاملاً وضيعاً ضيق النفس ، او نحو ذلك ، فابحث عن سلسلة حياته من يوم ان تكون في ظهور ابائه - بل قد تحدث الحادثة لا يابه الانسان بها وتمر امام عينيه مر البرق، او يسمع الكلمة العابرة لا يقف عندها طويلاً ، او يقرأ جملة في كتاب قراءة خاطفة ، فتسكن هذه كلها في نفسه وتختبيء في عالمه اللاشعوري ، ثم تتحرك في لحظة من اللحظات لسبب من الاسباب فتكون باعثاً على عمل كبير او مصدراً لعمل خطير . وكل انسان - الى حد كبير - نتيجة لجميع ما ورثه عن ابائه ، وما اكتسبه من بيئته التي احاطت به .

ولو ورث أي انسان ما ورثت ، وعاش في بيئة كالتي عشت، لكان اياي او ما يقرب مني جداً.

لقد عمل في تكويني الى حد كبير ما ورثت عن آبائي ، والحياة الاقتصادية التي تسود بيتنا ، والدين الذي يسيطر علينا ، واللغة التي نتكلم بها ، وادبنا الشعبي الذي كان يروي لنا ونوع التربية الذي كان مرسوماً في ذهن ابوي ولو لم يستطيعا التعبير عنه ورسم حدوده ونحو ذلك . فانا لم اصنع نفسي ولكن صنعها الله عن طريق ما سنه من قوانين الوراثة والبيئة .

عجيب هذا العالم ، ان نظرت اليه من زاوية رايته كلاً متشابهاً ، بتجانس في تكوين ذراته ، وفي بناء اجزائه ، وفي خضوعه لقوانين واحدة ، وان نظرت اليه من زاوية اخرى رايت كل جزيئة منه تتفرد عن غيرها بمميزات خاصة بها، لا يشاركها فيها غيرها . حتى شجرة الورد نفسها تكاد تتميز كل ورقة فيها عن مثيلاتها . فمن الناحية الاولى تستطيع ان تقول : ما اشبه الانسان بالانسان. ومن الناحية الثانية تقول: ما اوسع الفرق بين الانسان والانسان.

وعلى هذه النظرة الثانية فانا عالم وحدي ، كما ان كل انسان عالم وحده . تقع الاحداث على اعصابي ، فانفعل لها انفعالا خاصاً بها، واقومها تقويماً يختلف - قليلاً او كثيراً - عن تقويم كل مخلوق آخر غيري. فالحادثة الواحدة يبكي منها انسان ، ويضحك منها آخر، ولا يبكي ولا يضحك منها ثالث ، كأوتار العود الواحد ، يوقع عليها كل فنان توقيعاً منفرداً متميزاً لا يساويه فيه أي فنان آخر.

فانا اروي من الاحداث ما تاثرت به نفسي ، واحكيها كما رات عيني ، واترجمها بمقدار ما انفعل بها شعوري وفكري.



-3-

كانت اول مدرسة تعلمت فيها اهم دروسي في الحياة بيتي. وقد بني أبي - بعد ان تحسنت حاله -بيتاً مستقلاً في الحارة التي يسكنها هو وأخوه ، يتكون من دورين غير الارضي. ففي الدار الارضي منظرة للضيوف وكل دور به ثلاث غرف وتوابعها.

وطابع البيت كان البساطة والنظافة . فاثاث اكثر الحجر حصير فرشت عليه سجادة ، واذا كانت حجرة نوم رأيت في ركن من اركانها حشية ولحافاً ومخدة ، تطوي في الصباح وتبسط في المساء . فلم نكن نستخدم الاسرة . وادوات المطبخ في غاية السذاجة . وهكذا ، ولو اردنا ان ننتقل لكفتنا عربة كبيرة لنقل الاثاث. اما اكثر ما في البيت واثمنه وما يشغل اكبر حيز فيه فالكتب - المنظرة مملوءة دواليب صففت فيها الكتب ، وحجرة ابي مملوءة بالكتب وحجرة في الدور الاول ملئت كذلك بالكتب .

وكان ابي مولعاً بالكتب في مختلف العلوم ، في الفقه ... والتفسير والحديث واللغة والتاريخ والادب والنحو والصرف والبلاغة ، واذا كان الكتاب مطبوعاً طبعتين : طبعة اميرية وطبعة اهلية لم يرتح حتى يقتنيه طبعة اميرية ، وقد مكنه عمله مصححاً في المطبعة الاميرية ان يقتني كثيراً مما طبع فيها وكانت هذه الكتبة اكبر متعة لي حين استطت الاستفادة منها . وقد احتفظت بخيرها واتخذته نواة لمكتبتي التي اعتز بها وامضي الساعات فيها كل يوم الى الان .

في حجرة في هذا البيت ولدت. وكانت ولادتي في الساعة الخامسة صباحاً من أول اكتوبر سنة 1886، وكأن هذا التأريخ كان ارهاصاً باني سأكون مدرساً فأول أكتوبر عادة بدء افتتاح الدراسة. وشاء الله ان اكون كذلك . فكنت مدرساً في مدرسة ابتدائية ، ثم في مدرسة ثانوية ثم في عالية ، وكنت مدرساً لبنين وبنات ، ومشايخ وافندية ، وكنت رابع ولد وُلد. ولم يكن ابي يحب كثرة الاولاد شعوراً منه بالمسؤولية ، ولما لقي من الحزن العميق في وفاة اختى ابشع وفاة.

فقد كان لي اخت في الثانية عشرة من عمرها شاء ابي الا تستمر في البيت من غير عمل فأرسلها الى معلمة تتعلم عندها الخياطة والتفصيل والتطريز . وقامت يوماً بعد القهوة لضيوف المعلمة فهبت النار فيها واشتعل شعرها وجسمها وحاولت ان تطفيء نفسها اول الامر فلم تنجح فصرخت ، ولكن لم يدركوها الا وهي شعلة نار ، ثم فارقت الحياة بعد ساعات. وكان ذلك وانا حمل في بطن امي . فتغذيت دماً حزيناً ورضعت بعد ولادتي لبناً حزيناً، واستقبلت عند ولادتي استقبالاً حزيناً. فهل كان لذلك اثر فيما غلب علي من الحزن في حياتي فلا افرح كما يفرح الناس ، ولا ابتهج بالحياة كما يبتهجون؟ علم ذلك عند الله والراسخين في العلم .

وكان من محاسن اسرتنا استقلالنا في المعيشة وفي البيت ، فلا حماة ولا أقارب الا ان يزوروا لماماً .

وكان بيتنا محكوماً بالسلطة الابوية : فالاب وحده مالك زمام اموره ، لا تخرج الام الا باذنه ، ولا يغيب الاولاد عن البيت بعد الغروب حوفاً من ضربه ، ومالية الاسرة كلها في يده يصرف منها كل يوم ما يشاء كما يشاء ، وهو الذي يتحكم حتى فيما نأكل وما لا نأكل ، يشعر شعوراً قوياً بواجيه نحو تعليم أولاده ، فهو يعلمهم بنفسه ويشرف على تعليمهم في مدارسهم ، سواء في ذلك ابناؤه وبناته ، ويتعب في ذلك نفسه تعباً لا حد له ، حتى لقد يكون مريضاً فلا يأبه بمرضه ، ويتكيء على نفسه ليلقي علينا درسه. اما ايناسنا وادخال السرور والبهجة علينا وحديثه اللطيف معنا فلا يلتفت اليه، ولا يرى انه واجب عليه ، يرحمنا ولكنه يخفي رحمته ويظهر قسوته ، وتتجلى هذه الرحمة في المرض يصيب احدنا ، وفي الغيبة اذا عرضت لاحد منا ، يعيش في شبه عزلة في دوره العالي ، يأكل وحده ويتعبد وحده ، وقلما يلقانا الا ليقرئنا . أما احاديثنا وفكاهتنا ولعبنا فمع امنا .

وقد كان لنا جدة - هي ام امنا - طيبة القلب شديدة التدين ، يضيء وجهها نوراً ، تزورنا من حين لآخر ، وتبيت عندنا فنفرح بلقائها وحسن حديثها ، وكانت تعرف من القصص الشعبية - الريفية منها والحضرية - الشيء الكثير الذي لا يفرغ ، فنتحلق حولها ونسمع حكاياتها ولا نزال كذلك حتى يغلبنا النوم ، وهي قصص مفرحة احياناً مرعبة احياناً ، منها مايدور حول سلطة القدر وغلبة الحظ ، ومنها ما يدور حول مكر النساء ودهائهن ، ومنها حول العفاريت وشيطنتها ، والملوك والعظماء وذلهم امام القدر "الخ" ، وتتخلل هذه القصص الامثال الشعبية اللطيفة والجمل التي يتركز عليها مغزى القصة .

ولكن كان بيتنا-على الجملة- جداً لا هزل فيه ، متحفظاً ليس فيه ضحك كثير ولا مرح كثير ، وذلك من جد أبي وعزلته وشدته .

ولم تكن المدنية قد غزت البيوت ، وخاصة بيوت الطبقة الوسطى امثالنا. فلا ماء يجري في البيوت وانما هو سقاء يحمل القربة على ظهره ويقذف ماءها في زير البيت تملأ منه القلل وتغسل عنه المواعين وكلما فرغت قربة أحضر قربة . والسقاء دائم المناداة على الماء في الحارة ، وحسابه لكل بيت عسير ، اذ هو ياخذ ثمن مائه كل اسبوع. فتارة يتبع طريقة ان يخط خطاً على الباب كلما احضر قربة . ولكن بعض الشياطين يغالطون فيمسحون خطاً او خطين ، لذلك لجأ لاسقاء الى طريقة "الخرز" فيعطي البيت عشرين خرزة ، وكلما احضر قربة اخذ خرزة ، فاذا نفذت كلها حسب اهل البيت عليها .

وأخيراً - وانا فتى - رأيت الحارة تحفر والانابيب تمد والمواسير والحنفيات تركب في البيوت واذا الماء في تناولنا وتحت أمرنا ، واذا صوت السقاء يختفي من الحارة ويريحنا الله من الخطوط تخط او الخرز يوزع .

وطبيعي في مثل هذه الحال الا يكون في البيت كهرباء فكنا نستضيء بالمصابيح تضاء بالبترول ، ولم نستضيء بالكهرباء حتى فارقت حينا الى حي آخر أقرب الى الارستقراطية .

وطعامنا يطهى على الخشب ثم تقدمنا فطهينا على رجيع الفحم (فحم الكوك) ثم تقدمنا اخيراً فطهينا على (وابور بريمس)

وكل اعمال البيت تقوم بها امي . فلا خادم وخادمة ولكن يعينها على ذلك ابناؤها فيما يقضون من الخارج ، وكبرى بناتها في الداخل .

وكان ابي مدرساً في الازهر ومدرساً في مسجد الامام الشافعي وامام مسجد ويتقاضي من كل ذلك نحو انثي عشر جنيهاً ذهباً . فلم نكن نعرف عملة الورق ، واذكر -وانا في المدرسة الابتدائية - ان ظهرت عملة الورق فخافها الناس ولم يؤمنوا بها وتندرت الجوائد الهزلية عليها . وكانت لا تقع في يد الناس-وخاصة الشيوخ - حتى يسرعوا الى الصيارف فيغيروها ذهباً. وكانت الاثنا عشر جنيهاً تكفينا وتزيد عن حاجتنا ويستطيع ابي ان يدخر منها للطواريء ، اذ كانت قدرتها الشرائية تساوي الاريعين جنيهاً والخمسين اليوم ، فعشر بيضات بقرش ، ورطل اللحم بثلاثة قروش او اربعة ورطل السمن كذلك وهكذا . ومن ناحية اخرى كانت مطالب الحياة محدودة وعيشتنا بسيطة. فابي من بيته الى عمله الى مسجده ثم الى بيته ، لا يدخن ولا يجلس على مقهى ، وملابسنا جميعاً نظيفة بسيطة ، ومأكلنا معتدل ليس بضروري فيه تعدد اصنافه، ولا اكل اللحم كل يوم . ولم نر فيمن حولنا عيشة خيراً من معيشتنا تشقي بالطموح الى ان نعيش مثلها ، ولا سينما ولا تمثيل. ولكن من حين لآخر نتصب خيمة على باب حارتنا يلعب فيها "قرة جوز" ادخل اليها بنصف قرش ويكون ذلك مرة في السنة او مرتين .

وغمر البيت الشعور الديني: فابي يؤدي الصلوات لاوقاتها ويكثر من قراءة القرآن صباحاً ومساء ، ويصحو مع الفجر ليصلي ويبتهل ، ويكثر من قراءة التفسير والحديث ، ويكثر من ذكر الموت ويقل من قيمة الدنيا وزخرفتها ويحكي حكايات الصالحين واعمالهم وعبادتهم ، ويؤدي الزكاة يؤثر بها اقرباءه ويحج وتحج امي معه - ثم هو يربي اولاده تربية دينية فيوقظهم في الفجر ليصلوا ويراقبهم في اوقات الصلاة الاخرى ويسائلهم متى صلوا واين صلوا . وامي كانت تصلي الحين بعد الحين ، وكلنا يحتفل برمضان ويصومه- وعلى الجملة فانت اذا فتحت باب بيتنا شممت منه رائحة الدين ساطعة زاكية ، ولست انسى يوماً اقيمت فيه حفلة عرس في حارتنا ، وقدمت فيه المشروبات الروحية لبعض الحاضرين فشوهد اخي المراهق يجلس على مائدة فيها شراب ، فبلغ ذلك ابي فما زال يضربه حتى اغمي عليه . وكان معي يوماً قطعة بخمسة قروش فحاولت ان اصرفها من بائع سجائر فشاهدني اخي الكبير فاخذ يسالني ويحقق معي تحقيق "وكيل النيابة" مع المتهم ، خوفاً من ان اكون اشتري سجائر لادخنها اذ ليس احد في البيت يحدث نفسه ان يشرب سجارة.

وبعد ، فما اكثر ما فعل الزمان! لقد عشت حتى رايت سلطة الاباء تنهار ، وتحل محلها سلطة الامهات والابناء والبنات واصبح البيت برلماناً صغيراً ، ولكنه برلمان غير منظم ولا عادل فلا تؤخذ فيه الاصوات ولا تتحكم فيه الاغلبية ، ولكن يتبادل فيه الاستبداد. فاحياناً تستبد الام، واحياناً تستبد البنت او الابن وقلماً يستبد الاب. وكانت ميزانية البيت في يد صراف واحد فتلاعبت بها ايدي الصرافين ، وكثرت مطالب الحياة لكل فرد وتنوعت، ولم تجد راياً واحداً يعدل بينها ، ويوزن بين قيمتها ، فتصادمت وتحاربت وتخاصمت ، وكانت ضحيتها سعادة البيت وهدوءه وطمأنينته .

وغزت المدنية المادية البيت فنور كهربائي وراديو وتلفزيون ، وادوات للتسخين وادوات للتبريد ، واشكال والوان من الاثاث . ولكن هل زادت سعادة البيت بزيادتها ؟

وسفرت المرأة وكانت أمي واخراتي محجبات - لا يرين الناس ولا يراهن الناس الا من وراء حجاب- وهكذا من امورالانقلاب الخطير ، ولو بعث جدي من سمخراط وراى ما كان عليه اهل زمنه وما نحن عليه اليوم لجن جنونه ، ولكن خفف من وقعها علينا انها تاتي تدريجياً ، ونالفها تدريجياً ، ويفتر عجبنا منها واعجابنا بها على مر الزمان ، ويتحول شيئاً فشيئاً من باب الغريب الى باب المالوف.


..احسست حاجتي الشديدة الى لغة اجنبية ، فدروسي في الاخلاق مصدرها مذكرات عاطف بك التي نقلها عن الانجليزية ، وانا شيق الى ان اتوسع فيها ، ومن حولي من الاساتذة العصريين يستفيدون اكبر فائدة من مادتهم التي يحضرونها من اللغة الانجليزية او الفرنسية ، وقد اخفقت في تعلم الفرنسية ، فلاجرب حظي في الانجليزية.

ويوماً قابلت صديقي احمد بك امين ، وجلسنا في مقهى ، وذهب الحديث فنوناً الى ان وجدته يقول انه عثر على كتاب انجليزي قيم لمستشرق امريكي اسمه مكدونالد ، وانه قسم كتابه الى ثلاثة اقسام : قسم يتعلق بنظام الحكم في الاسلام ، وقسم في الفقه الاسلامي ، وقسم في المذاهب والعقائد الاسلامية. واخذ يطري الكتاب ويحكي بعض ارائه ، فاستفزني الموضوع وقلت : هل تستطيع الآن ان تذهب معي الى مدرسة (برليتز) لارتب دروساً لي في الانجليزية؟ فقبل ، واقسمت ان اتعلم وان اقرأ هذا الكتاب في لغته . وذهبنا الى المدرسة ورتبنا دروساً ثلاثة في الاسبوع بمائة وخمسين قرشاً كل شهر. واشتريت الكتاب الاول ، وتولى تعليمي سيدة انجليزية يظهر انها فقيرة الحال، تحسن الانجليزية لانها انجليية، وان لم تكن مثقفة الا الثقافة الضرورية. وبذلت في ذلك مجهوداً شاقاً ، اقرأ في البيت وأحفظ في الطريق واذاكر اذا كنت مراقباً في الامتحان او مشرفاً على حصة العاب رياضية ، والدرسة بهذا الشكل عسيرة اذ لم اكن في فصل يتعاون الطلبة فيه على التعليم، ولم اكن في بيئة تعود سمعي اللغة ، ويقول لي الشيخ الخضري ، لقد جرب هذ التجربة مئات من طلبة دار العلوم ، فساروا خطوات ثم وقفوا ، ولم ينجح منهم الا من كان بعثة الى انجلترا ، فقلت له سأجرب كما جربوا ولكن سانجح اذا فشلوا .

وبعد شهرين في هذا الجهد احضرت كتيباً صغيراً عنوانه "الاسلام Islam" للسيد امير علي ، وقلت ان موضوعه معروف لي ومعرفة الموضوع تعين على الفهم . ولكني قرأت الصفحة الاولى فلم افهم ، فظللت اصرف اكثر من ثلاث ساعات في الصفحة ، اكشف في المعجم العربي عن كل كلمة حتى "من" و"عن" وانا جاد صابر. ومكثت على ذلك سنة، اتممت فيها الجزء الاول والثاني من كتب برليتز وبدأت الجزء الثالث في السنة الثانية . وفيه بعض فصول في الادب والانجليزي وتاريخه. فاحسست ان هذه المدرسة غير ملمة بتاريخ الادب وانها لا تصلح لتدريس هذا الكتاب ، فبحثت عن مدرس آخر او مدرسة اخرى .

ووفقت الى سيدة انجليزية كان لها اثر عظيم في عقلي ونفسي .

مس بور (Power) سيدة في نحو الخامسة والخمسين من عمرها ، ضخمة الجسم مستديرة الوجه ، يوحي منظرها بالقوة والسيطرة، بسيطة في ملبسها وزينتها . مثقفة ثقافة واسعة ، تجيد الانجليزية والفرنسية والالمانية ، ذات رأي تعتد به جريدة التيمس فترحب بمقالاتها ، عرفت الدنيا من الكتب ومن الواقع ، اقامت في فرنسا سنين وفي المانيا سنين وفي امريكا سنين فكملت تجاربها واتسع افقها ، حضرت الى مصر ووافقها جوها فاقامت فيها ولكن ليس لها من المال ما يكفيها للاقامة طويلاً، فهي تستاجر بيتاً خالياً في ميدان الازهار وتفرش حجراته ، وتؤجرها للراغبين فتكسب من ذلك نحو ثلاثين جنيهاً في الشهر تكون اساس عيشها. ثم هي رسامة فنانة ، تاخذ ادواتها الى سفح الهرم فترسم الصور الزيتية لمنظر الاهرام والفيضان وما يحيط بهما من منظر جميل او نحو ذلك من مناظر طبيعية ترسمها بالزيت وتتانق فيها ، وتقضي في رسمها الايام والاشهر وتبيعها بثمن كبير ، ثم هي تدرس الرسم والتصوير لبنات رئيس وزارة ، ثم هي تقبل ان تدرس لي درساً في اللغة الانجليزية بجنيهين كل شهر ، ولا تعاملني معاملة مدرسة لتلميذ، بل معاملة ام قوية لابن فيه عيوب من تربية عتيقة.

ابتدات ادرس معها الجزء الثالث من سلسلة كتب بيرليتز ، اقرأ فيه وتفسر لي ما غمض وتصلح لي ما اخطات ، ثم اضع الكتاب واحدثها وتحدثني في أي موضوع اخر يعرض لنا. ولا ادري لماذا لا يعجبها مني ان اضع العمامة بجانبي اذا اشتد الحر ـ بل تلزمني دائماً بوضعها فوق راسي . ونستمر على ذلك نحو الساعتين اتكلم كثيراً وتتكلم قليلاً ، وتنفق اكثر ما تاخذه مني في اشكال مختلفة لنفعي، فهي تدعو بعض اصحابها الانجليز من رجال ونساء الى الشاي ، وتدعوني معهم لاتحدث اليهم ويتحدثوا الى ، فاسمع لهجانهم ويتعود سمعي نطقهم واصغي الى آرائهم وافكارهم واقف على تقاليدهم ، ومرة ترسلني الى سيدة انجليزية صديقة لها اكبر منها سناً قد عدا عليها المرض فالزمها سريرها لاتحدث اليها . تقصد بذلك ان هذه المريضة تجد في تسلية لعزائها وفرجاً من كربتها ، وانا اجد فيها ثرثارة لا تنقطع عن الكلام ، فاستمع الى قولها الانجليزي الكثير رغم انفي.

وتوثقت الصلة بيننا فكانني كنت من اسرتها ، وهي لا تعني بي من ناحية اللغة الانجليزية وآدابها فحسب ، بل هي تشرف على سلوكي واخلاقي . لاحظت في عيبين كبيرين فعملت على اصلاحهما ، ووضعت لي مبدأين تكررهما على في كل مناسبة.

راتني شاباً في السابعة والعشرين اتحرك حركة الشيوخ ، وامشي في جلال ووقار ، واتزمت في حياتي ، فلا موسيقى ولا تمثيل ولا شيئاً حتى من اللهو البريء واصرف حياتي بين دروس احضرها ودروس القيها ، ولغة اتعلمها ، وراتني مكتئب النفس منقبض الصدر ينطوي قلبي على حزن عميق ، وراتني لا ابتهج بالحياة ولا يتفتح صدري للسرور ، فرضعت لي مبدأ هو : "تذكر انك شاب" تقوله في كل مناسبة وتذكرني به من حين الى حين.

والثاني انها رات لي عيناً مغمضة لا تلتفتت الى جمال زهرة ولا جمال صورة ولا جمال طبيعة ولا جمال انسجام وترتيب ، فوضعت لي المبدأ الآخر : "يجب ان يكون لك عين فنية" فكنت اذا دخلت عليها في حجرتها وبدأت آخذ الدرس واتكلم في موضوعه صاحت في : "الم تر في الحجرة ازهاراً جميلة تلفت نظرك وتثير اعجابك فتتحدث عنها؟" وكانت مغرمة بالازهار تعني بشرائها وتنسيقها كل حين ، وتفرقها في اركان الحجرة وفي وسطها ، ويؤلمها اشد الالم ان ادخل على هذه الازهار فلا احييها ولا ابدي اعجابي بها واعجابي بفنها في تصفيفها .

ويوماً آخر ادخل الحجرة فاتذكر الدرس الذي اخذته في غزل الزهور فاحيي وردها وبنفسجها وياسمينها وكل ما احضرت من ازهار، فتلتفت الي وتقول: اليست لك عين فنية؟" اعجب من هذا الاستنكار، وقد حييت الازهار، فتقول: الم تلحظ شيئاً؟ "فاجيل عيني في الحجرة فلا ارى شيئاً جديداً غير الزهر الجديد، فتقول: "الم تلحظ الحجرة وقد غير وضع اثاثها؟ لقد كان الكرسي هنا فصار هاهنا ، وكانت الاريكة هنا فصارت هاهنا؟" وتقول : "قد سئمت الوضع القديم وتعبت عيني من رؤيته ، فغيرت وضعه لتستريح عيني" ، وهكذا.

لازمتها اربع سنوات ، استفدت فيها كثيراً من عقلها وفنها ولكنني لا اظن انني استفدت من تكرارها على سمعي ان اتذكر دائماً اني شاب.

انتهيت من الجزء الثالث ، واخترت ان اقرأ معها كتباً اخرى ، في الاخلاق احياناً وفي الاجتماع احياناً، وفي آخر المرحلة قرأت معها فصولاً كثيرة من جمهورية افلاطون بالانجليزية ، فكان هذا الكتاب مظهر سعة عقلها وكثرة تجاربها، فكنت اقرأ الفصل فتشرحه لي ، وتبين ما طرأ على فكرة أفلاطون من التغير وما بقي من آرائه الى اليوم ، وكيف طبق هذا المبدأ في المدنية الحديثة في الامم المختلفة ، وهكذا.

ولا ادري ما الذي انتابها فقد رايتها تكثر من القراءة في كتب الارواح ، ثم تمعن في قراءتها، ثم تذكر أي انها خصصت ساعتين تغلق عليها حجرتها ، وترخي ستائرها، وتغمض عينيها، وتركز روحها في مريض تعالجه وهو في داره وهي في دارها، او تجرب تجربة اخرى ان ترسل من روحها شارة لاسلكية لصاحب لها تنبئه ان يحضر او لا يحضر ، وان يعد كذا او لا يعد ، وهكذا، وقد نجحت في بعض الاحوال دون بعض فلم تشأ ان تعتقد ان هذا مصادفة، ولكنها اعتقدت ان ما نجحت فيه فانما نجحت لان الامر قد استوفى شروطه، ومالم نتجح فيه لم تستكمل عدته، فزاد اجتهادها، وطالت ساعات عزلتها، وامعنت في تركيز روحها، كل ذلك وانا انصحها الا تفرط في هذا خشية عليها فلا تسمع، لانها تامل ان تصل من ذلك الى نجاح باهر.

وذهبت اليها يوماً فرايتها مصفرة الوجه مضطربة الاعصاب خفاقة العينين، فسالتها عما بها، فاخبرتني انها ذهبت اليوم صباحاً الى كوبري قصر التيل وهمت ان ترمي نفسها في النيل، ثم رايتها نذكر لي انها اخفقت هذه المرة في الانتحار، ولكنها ستنجح في مرة اخرى، فخرجت من عندها اسفاً باكياً، واتصلت بطبيب للامراض العقلية فحضر ورآها، واخبرني انه لابد من ارسالها فوراً الى مستشفى للمجاذيب، وكذلك كان. وكنت اعودها من حين الى حين، فاذا جلست اليها تحدثت كعادتها حديثاً هادئاً معقولاً، وسالتها مرة: ماذا بها؟ فقالت لا شيء بي الا انني فقدت الارادة فاذا اطلق سراحي الان لا دري اين اتجه. ثم تولت امرها القنصلية الانجليزية فاسفرتها الى بلدها. واخيراً -وبعد نحو سنتين-جائني خطاب بعنواني بمدرسة القضاء عليه طابع ايطالي ففضضته فاذا هو من مس بور تخبرني انها شفيت من مرضها، وانها الان في روما، تتمتع بجمال مناظرها وروعة كنائسها، فرددت عليها فرحاً بشفائها ، ثم انقطعت عني الى اليوم اخبارها رحمها الله.

وفي هذه الفترة التي كنت ادرس فيها مع "مس بور" جائني صديق وقال انه يعرف اسرة انجليزية تتكون من زوج وزوجة يريدان ان يتعلما العربية وانا اعلم الزوج فهل لك ان تعلم الزوجة؟ قلت لا اعلمها بمال ولكن اتبادل معها ، فاعلمها العربية وتعلمني الانجليزية ، وعرض عليها ذلك فرضيت.

سيدة انجليزية في ريعان الشباب جميلة الطلعة لها عينان تبعثان في النفس معنى الصفاء والطهارة والثقة، تعيش مع زوجها الانجليزي المدرس بالمدرسة الخديوية الثانوية عيشة ارستقراطية فخمة. مولعان بركوب الخيل والتروض عليها عصر كل يوم ، يستمتعان بالزواج الجديد السعيد. كنا نقضي ساعتين في الدرس مرتين في الاسبوع، ساعة تعلمني الانجليزية وساعة اعلمها العربية واختارت لي ان اقرا معها كتاب "قصص شيكسبير للامب"

وكنت اترقب موعد هذا الدرس بشوق ولهفة ، وكانت هذه السيدة تغذي عواطفي برقتها وجمالها وكمالها، كما كانت مس بور تغذي عقلي بثقافتها واطلاعها وتجاربها.

كنت احدثها يوماً ، وقد قامت الحرب العالمية الاولى فزل لساني ونقدت الانجليز نقداً خفيفاً امامها، فما كان منها الا ان دمعت عينها وقالت في رقة : "اتعيب قومي وامتي!" فخجلت خجلاً شديداً وقدرت وطنيتها التي يجرحها النسيم ، ولم اعد بعد لمثلها، واستمررت على ذلك اكثر من سنة قرأت معها هذه القصص، وعلمتها قدراً لا باس به من العربية. وكان بصعب عليها النطق بالعين ، فكانت تقول: ان عينكم تؤلمني، وكنت اقول في نفسي مثل قولها . وكان لها نقد لطيف لما تتعلمه من العربية-نقد لا ندركه نحن لانها لغتنا. نشانا فيها ورضعناها مع لبن امنا والفناها منذ صغرنا . قالت لي مرة: ان اللغة العربية غير منطقية، الا تراها تؤنث الشمس وهي قوية جبارة وتذكر القمر وهو لطيف وديع، فاولى ان نذكر الشمس ونؤنث القمر كما نفعل نحن في لغتنا . وقالت مرة الا تعجب من لغتكم تقول ثلاثة كتب ، وتقول الف كتاب، وكان الاولى ما دمت تقول ثلاثة كتب ان تقول الف كتب . وهكذا من طرائفها الظريفة . واشتدت الحرب فجند زوجها ، وانقطع عني خبره وخبرها.

ما ذا كنت اقول لو لم اجتز هذه المرحلة؟ لقد كنت ذا عين واحدة فاصبحت ذا عينين، وكنت اعيش في الماضي والحاضر، وكنت اكل صنفاً واحداً من مائدة واحدة فصرت اكل من اصناف متعددة على موائد مختلفة، وكنت ارى الاشياء ذات لون واحد وطعم واحد، فلما وضعت بجانبها الوان اخرى وطعوم اخرى تفتحت العين للمقارنة وتفتح العقل للنقد. لو لم اجتز هذه المرحلة ثم كنت اديباً لكنت اديباً رجعياً، يعني بتزويق اللفط لا جودة المعنى، ويعتمد على ادب الاقدمين دون ادب المحدثين ، ويلتفت في تفكيره الى الاولين دون الآخرين ، ولو كنت مؤلفاً لكنت جماعاً اجمع مفترقاً او افرق مجتمعاً من غير تمحيص ولا نقد . فانا مدين في انتاجي الضعيف في الترجمة والتاليف والكتابة الى هذه المرحلة بعد المراحل الاولى ، وهذه الزهرة الجديدة الفت باقة مع الازهار القديمة.



18

ثم ان لهذه المرحلة تكملة .

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:03 AM

احمد امين2
فقد كانت السنة سنة 1914 وقد تخرج من مدرسة المعلمين العليا بضعة من خيار الطلبة عرفوا بالتفوق في العلم والخلق، كان اكثرهم مرشحاً للبعثة الى انجلترا ثم منعهم قيام الحرب، وكان بعضهم من القسم العلمي وبعضهم من القسم الادبي ، شاءت الظروف السعيدة ان اتعرف بهم وان اصادقهم ، رايتهم مثقفين من غير جنس ثقافتي، ثقافتهم عصرية بحتة ، وثقافتي شرعية كثيراً وعصرية قليلاً ، منهم الذي بلغ درجة جيدة في الجغرافيا والتاريخ العام والادب الانجليزي، ومنهم من بلغ هذه الدرجة في الرياضة والطبيعة والكيمياء ، وكلهم يعرف من الدنيا الجديدة والمدنية الحديثة اكثر مما اعرف ، بحكم ثقافتهم وثقافتي. وقد اخترنا قهوة تطل على ميدان عابدين صاحبها لغوي شاعر يتلقفنا اذا حضرنا ليعرض علينا رايه في كلمة اكتشف انها غير صحيحة لانها لم ترد في معاجم اللغة ، او ليسمعنا قصيدة من نظمه يحملنا على الاعجاب بها ولو من باب المجاملة . على كل حال كان يجتمع هؤلاء الصحاب في هذه القهوة عصر بعض الايام فتكون منهم مائدة شهية مختلفة الطعوم متعددة الالوان .

هذا مغرم بالقصص الانجليزية يقرأ منها الكثير ، وله ذوق حسن في الاختيار وشهوة قوية في التحدث عما اختار ، وتحمس لما يقول وما يعرض ، ولا يرضيه الا ان يحمس السمعون حماسته ويبتهجوا بما يقول ابتهاجه. وكان يقول ان الاستماع للحديث فن كفن الالقاء ، من الناس من يجيده ومنهم من لا يجيده، وانما يجيده السامع اذا تجاوب مع القائل في شعوره وعواطفه وانفعالاته، يضحك للحديث المضحك وبيكي للحديث الباكي وتظهر على اسارير وجهه كل هذه الاستجابات. وكان يعتقد في اني اجيد الاستماع فيتحدث الى باكثر مما يتحدث به مع غيري . وهذا الاخر هوايته التاريخ، يطيل القراءة فيه ويُفتن باسلوب الاوربيين في كتابته وقدرتهم على التحليل الدقيق ورجوع الجزئيات الى كلياتها وحريتهم في تقدير الابطال والاعتداد بشخصياتهم . فقد يهدم بعضهم بطلاً اجمع الناس على بطولته ، اويشيد بذكر مغمور اجمع الناس على خموله ، وينقد كتابة التاريخ عند العرب . فقد احسنوا في رواية الاحداث ولم يحسنوا فلسفتها الا ماكان من ابن خلدون فقد احسن في فلسفة التاريخ وقصر في تطبيقها على الاحداث ، ثم هو يحاول ان يطبق هذا المذهب فيعرض علينا من بحثه في عمر وعلي -مثلاً - على نمط جديد فيه التقدير وفيه النقد.
وهذا عالم تخصص في الكيمياء وجعل مسلاته الادب . فهو يقرأ في ديوان ابي الطيب وابي فراس ويتخير من شعرهما ويحفظه وينشده ، وتلتهب عاطفته فيحاول ان يقول شعراً بعضه لا باس به . وهذا عالم آخر كيمياوي ايضاً جل علمه ونفسه وكل ما يملكه من ملكات وثقافات لخدمة دينه . اثر في كثير من الطلبة في مدرسته العالية فدينهم ، وملا المسجد به وبهم ، قد حفظ القرآن واطال قرءته وبذل جهداً في فهمه ، فهو يفهمه كما يقول المفسرون ويزيد عليهم ما يفهمه من نظريات الطبيعين والكيمياويين وما يقتبسه من اقوال المتدينين من العلماء الاوروبيين . يحلو له الكلام في الدين وهداية الضالين ، ويعز عليه ان يسمع الحاداً او كلمة يشتم منها الحاد بل لا يسمح ان ينقد احد امراً من امور الدين ، ولو كان في التفاصيل . وهو في كل ذلك مخلص لا يقول كلمة بلسانه ينكرها قلبه ، قوي الحجة طويل النفس في المناظرة مؤثر اذا قال ، جزل الاسلوب اذا كتب ، يدرس الكيمياء والطبيعة فتكون ديناً ، يتحرج صحبه ان يذكروا امامه شيئاً يمس شعوره الديني وعاطفته المسلمة ، ويهابونه في طربوشه اكثر مما يهابونني في عمتي.
وهذا عالم في الرياضة ولكنه لا يقل ثقافة ادبية عن المختصين في الثقافة الادبية يقرأ في الاغاني والعقد الفريد كما اقرا ويتذوقها وينقدها ، ويقرأ الكتب الكثيرة في الثقافة العامة الانجليزية في الاخلاق والاجتماع وعلم النفس ، ويتاثر بما يقرأ الىحد كبير ، ويقتنع بما يقرأ ويتحمس له ، وياتي ويحدثنا بخلاصة ما قرأ وما فكر فيما قرأ ، وله اسلوب لطيف ساخر جامح في نقد ما يرى وما يسمع ، تطبيقاً لنظرياته التي اعتنقها من قراءاته ، ولابأس ان يغلو في الهدم ، ولا بأس ان يغلو اليوم في عكس ما غلا فيه بالامس ، وهذا وهذا مما يطول شرحه.
كل اولئك كانوا مدرسة لطيفة لي ، مدرسة خلت من عبوس الجد وثقل المدرس وسماجة تحديد الموضوع والزمان والمكان ، ونعمت بالبعد عن الامتحان وصداع الجرس ، مدرسة فيها الجد والفكاهة ، والعلم والادب ، والدين والشعر، والتقريظ والنقد ، مدرسة يكون فيها التلاميذ استاذاً والاستاذ تلميذاً ، وان شئت فقل ان كل من فيها استاذ تلميذ ، مدرسة فيها حرية القول وحرية السماع وحرية الموضوع وحرية كل شيء ، تقارب فيها سن الاساتذة والتلاميذ فتجانست مشاعرهم ، وتشابهت آمالهم ومطامحهم ، وتفتحت نفوسهم للاستفادة من تنوع مواهبهم .
وكان لهذه المدرسة التفاتة لطيفة الى تقويم البدن كتقويم النفس ، والعناية به كالعناية بالعقل . فما بالنا نقضي نهارنا في المدرسة ندرس، وعصرنا في القهوة نجلس جلسة الكسالى العجائز نتحدث ، وليلنا على الكتب نحضر ! اين الهواء الطلق ؟ اين جمال الطبيعة؟ اين الرياضة البدنية؟ اين الرحلات؟ ان كل هذه تجدد النفس وتنعش الروح وتبعد العجز ، وتخدم العقل كما تخدم الجسم ، وتغذي الروح كما تغذي البدن .
اذن - فلنشترك في ناد من نوادي الالعاب الرياضية ، ولننظم رحلات اسبوعية ، ولاحقق انا بعض ما كانت تقوله لي المدرسة الانجليزية "تذكر انك شاب".
وذهبنا الى نادي الالعاب الرياضية بالجزيرة واشتركنا فيه ، وكانت عمتي اول عمامة اشتركت في النادي ، وربما كانت آخرها ايضاً ، واخذت خزانة فيه ككل عضو ، اضع فيها "الفانيلا والشورت والجزمة الكاوتش" ، فاذا حضرت خلعت عمامتي وجبتي وقفطاني ولبست الشورت وما اليه وتسابقت في العدو مع العدائين ، ولعبت كرة القدم مع اللاعبين ، حتى اذا تعبنا جلسنا على الحشيش في الهواء الطلق نتحدث ونضحك . وقد كنت اول الامر الهث اذا جريت ، واخفق اذا لعبت ، ثم استقام امري ، وان لم ابلغ في خفة الحركة مبلغ صحبي ، لاني احمل من اوزار تربيتي الاولى ما لا يحملون . فاذا فرغنا من ذلك كله ذهبنا الى خزائننا وخلعت "الشورت" ولبست الجبة والقفطان والعمامة وخرجت من النادي شيخاً وقوراً .
ويوم الجمعة احياناً كنا نخرج الى رحلة في جبل المقطم في الشتاء ، فيوماً الى الغابة المتحجرة ، ويوماً الى وادي دجلة او وادي حوف في حلوان ، ويوماً الى العين الساخنة وهكذا. وكانت رحلات قاسية وقائدنا فيها عنيف لا يرحم ، وكم قلت له : "رفقاً بالقوارير" وهو لا يسمع ! فكنا نمشي في الوديان ونتسلق الجبال من طلوع الشمس الى غروبها ، نحمل معنا غذائنا وشربنا على ظهورنا ونسير سيراً حثيثاُ لا نستريح الا ساعة ناخذ فيها غذاءنا ثم نسير سيرنا واعود الى البيت مضنى متعباً ، ثم انام ملء جفوني ، واعرج بعدها في مشيي ثلاثة ايام او اربعة ، ولكني احس صفاء نفسي وصفاء راسي . وكنت في هذه الرحلات كشاني في الالعاب ، اخيب عضواً في الاولى وابطا عضو في الثانية : لست انسى يوماً عصيباً ذهبت فيه مع صحبي الى وادي حوف فلما بدأنا في العودة تخرق نعل جزمتي فسددتها بورق مقوى كنا احضرنا فيه بعض الفطائر والحلوى ، فلم يفد ذلك الا قليلاً، ثم برزت رجلي وسرت على الحصى ، ودميت اصابعي ، وابطا القوم في سيرهم ورثوا لحالي ، واخيراً جداً عثرت على حمار قبل مدخل حلوان ، وطلبت من صاحبه ان يحملني الى المحطة باي اجر شاء ، ودخلت حلوان على حمار وحولي الحواريون يمتزج شعورهم نحوي بالضحك مني والرثاء لي .
وتحررت بعض الشيء ، فكنا نذهب احياناً الى صالة "منيرة المهدية" لسماع غنائها ومشاهدة رواياتها ، وكنت اتاثر من بعض نغماتها اثراً يرن في اذني طول الاسبوع .
فاذا احب بعضهم ان يذهبوا الى اكثر من ذلك تواصوا فيما بينهم الا يخبروني ، لاني لا اصلح لمثل موقفهم .
وانضم الى جماعتنا ثلاثة من نوابغ خريجي مدرسة الحقوق كانت لهم ثقافتهم القانونية والسياسية ، ودب في الجماعة روح التفكير القومي: فهذا البلد ضعيف مسكين متاخر في جميع مرافقه ، ونحن الشباب يجب ان نفكر ونعمل في تقدمه واعلاء شانه رغم الاحتلال وسيطرته . فلنؤلف لجاناً لدراسة مصر من نواحيها الختلفة : لجنة للناحية الاقتصادية ، واخرى للناحية السياسية ولجنة للتربية والتعليم، ولتفعل كل لجنة فعل الطبيب يشخص المرض ويصف العلاج ، وفعلت اللجان ذلك وبدات الجماعة تعمل ، لكن عصفت الرياح باللجان كلها، وبقيت - بحمد الله - "لجنة لتاليف والترجمة والنشر"- التي سن قانونها احد الاعضاء القانونيين ، وقُريء على الاعضاء مجتمعين ، وعُدل ونُقح ، والتزم كل عضو ان يدفع عشرة قروش في كل شهر ، وان يجتمع مجلس ادارتها في بيت عضو من اعضائها، وبدأ بعض الاعضاء العلميين يؤلف كتباً في الكيمياء لطلبة المدارس الثانوية ، يحضر كل باباً ويقرؤه على الاخرين فينقحونه ويهذبونه ، فاذا فرغوا منه قدموه للطبع. فاذا لم يكف ما جمع من عشرات القروش اقرض اللجنة بعض الاغنياء من الاعضاء ليتم طبع الكتاب ، فكان هذا اول حجر في بناء اللجنة .
وقد تكونت اللجنة على هذا المنوال سنة 1914 ، ونحن الان في سنة 1953 فيكون قد مضى عليها اكثر من ست وثلاثين سنة ، وقد طبعت من الكتب اكثر من مائتي كتاب ، وكانت لا تقرركتاباً الا اذا حولته على اثنين خبيرين بالموضوع يبديان فيه راياً بالصلاحية او عدمها ، او حاجته الى التعديل . ولبثت طول هذه المدة رئيساً للجنة يعاد انتخابي فيها رئيساً لها كل عام . وازداد عدد اعضائها الى حتى شبهها الناس بالماسونية . وكل عضو فيها يشجع اللجنة بما يقدر عليه ، واسست لها مطبعة خاصة ، كما اسست مجلة اسمها الثقافة تنشر فيها الاراء على مبادئها واستمرت نحو اربعة عشر عاماً ثم اوقفتها هذا العام سنة 1953 لما تتكبد فيها من خسائر . وقد حزن الاعضاء والقارئون على وقوقها ، ولكن لماذا يجدي الحزن العاطفي امام الخسائر الفادحة؟
ونمت مالية اللجنة من هذه العشرات من القروش ومن الارباح من الكتب حتى بلغت اكثر من ستين الفاً من الجنيهات. وشغلت هذه اللجنة جزءاً كبيراً من حياتي . فكنت اذهب اليها كل يوم ادير شؤونها واطلع على مشاكلها : واقرا بريدها واؤشر على ما يلزم في هذا البريد . وقد كانت اللجنة تسكن اولاً في بيت عضو من اعضائها، ثم استاجرت مكاناً متواضعاً في حي بلدي . ثم اشترت بيتاً في جي ارستقراطي بنحو 20 الف جنيه . واخيراً وبعد ان وقفت على رجليها منحتها الحكومة مبلغاً من المال يقرب من تسعمائة جنيه كل سنة ، افردناه في دفاتر خاصة وطبعنا به كتباً خاصة ، نبيعها بتكاليفها تقريباً ، وتحاسبنا الوزارة على هذا البند وحده. وعلى الجملة كانت هذه اللجنة مشغلة لي ، اسال عنها ، واحاسب نفسي عنها كما احاسبها على اولادي ، واستعين باعضاء مجلس ادارتها الكرام على تنظيم شؤونها ، وترتيب امورها ، واحمد الله على التوفيق فيها .
على كل حال كانت هذه اللجنة نتيجة لصداقة هؤلاء الاصحاب الذين ذكرت بعض صفاتهم ، وحظيت بصداقتهم. وبهؤلاء الصحاب احسست اني اقرب من عقليتهم ومزاجهم وثقافتهم شيئاً فشيئاً ،وابتعد عن عقلية زملائي الاقدمين ومزاجهم شيئاً فشيئاً ، ورايتني اكون لنفسي نواة من الكتب الانجليزية بجانب الكتب العربية ، واحضر دروسي منها في الاخلاق والمنطق ، واملا الفراغ بالمطالعة في هذه وتلك، واذا العين تتفتح والافق يتسع.
.....وفي هذا العهد كثر الحديث في مجالسنا عن الزواج والازواج والزوجات وسعادة الزوجية وشقائها وضرورتها او الاستغناء عنها والزواج بالاجنبيات والمصريات ، ورويت الاحاديث المختلفة عن فلان المتزوج الذي سعد في زواجه وفلان المتزوج الذي شقي بزواجه، وفلان الذي اضرب عن الزواج واستمتع بالجياة في اولها وشقي في اخرها وهكذا. وجال الموضوع في ذهني في قوة ووجدتني قد بلغت التاسعة العشرين . فصممت ان ابت في الموضوع هل اتزوج او لا اتزوج ، واخيراً وبعد تردد طويل قررت ان اتزوج ، ولكن نشات العقدة الثانية : من اتزوج ؟ وكان السفور في هذا الزمن في اول امره لم يجرؤ عليه الا عدد محدود من المثقفات. فكان الزواج غالباً يخضع للتقاليد القديمة ، يسمع الشاب من صديقه او احد اقاربه ان لفلان بنتاً في سن الزواج ، وقد يبلغه هذا الخبر من محترفة لهذه الوظيفة وهي التي تسمى الخاطبة وهي امرأة تزور البيوت وتتعرف اخبارها وترى من فيها من الشابات في سن الزواج او من الشباب الذين يريدون الزواج ، وتكون واسطة بين اهل الزوج واهل الزوجة في تعريف هؤلاء باولئك ، فيتقدم احد اقارب الشاب الى ابي الشابة او ولي امرها يعرض عليه الرغبة فاذا قبل ارسل الشاب امه وبعض قريباته من النساء لرؤية الفتاة ، فاذا وصفوها وصفاً اقتنع به تقدم للزواج من غير ان ينظرها ويعرف شكلها وطباعها واخلاقها .وانما يعرف ذلك كله بعد عقد العقد وبعد الزفاف.
وهكذا كان الزواج في عهدي في مثل طبقتي . وكنت شاباً لا باس بشكله ولا باس باسرته ، فانا وبيتي نعد من الاوساط وانا احمل شهادة عالية ، ومرتبي نحو ثلاثة عشر جنيهاً وهو مرتب لا يستهان به في ذلك العصر ، وكنت اتلمس الزواج من امثالي في الاوساط، لا اطلب الغنى ولا اطلب الجاه . ومع ذلك كله وقفت العمامة حجر عثرة في طريقي. فكم تقدمت الى بيوت رضوا عن شبابي ورضوا عن شهادتي ورضوا عن مرتبي ، ولكن لم يرضوا عن عمامتي، فذو العمامة في نظرهم رجل متدين ، والتدين في نظرهم يوحي بالتزمت وقلة التمدن والالتصاق بالرجعية والحرص على المال ونحو ذلك من معان منفرة ، والفتاة يسرها الشاب المتمدن اللبق المساير للدنيا اللاهي الضاحك ، فكم قيل لي ان ليس عندهم مكان لعمامة ، ورضي بي قوم اولا واحبوا ان يروني ، فاحببت ان اريهم اني متمدن ، وذهبت اليهم احمل كتاباً انجليزياً وجلست اليهم وجلسوا الي وتحدثت اليهم حديثاً عصرياً على آخر طراز وحشرت في كلامي بعض كلمات انجليزية فاستغربوا لذلك ، وفهمت انهم اعجبوا بي ورضوا عني، ولكن بلغني ان الفتاة اطلت على من الشباك وانا خارج ورات العمامة والجبة والقفطان فرعبت ورفضت رفضاً باتاً ان تتزوجني رغم الحاح اهلها. وشاء القدر ان تتزوج هذه الفتاة فيما بلغني شاباً انيقاً كاتباً في وزارة ولكنه سكير معربد اذاقها المرار في حياتها الزوجية ثم طلقها ، وما زال يسوء حالها حتى تزوجت بعامل في التلغراف وجاءت الى وانا قاض في محكمة الازبكية تطلب من زوجها النفقة.
وهكذا لقيت العناء في الزواج . فكلما دلني صديق على فتاة فاما ان اجد مانعاً منها او تجد مانعاً مني. فمن ارضاه لا يرضاني ومن يرضاني لا ارضاه. واخيراً دلني مدرس معي في مدرسة القضاء على بيت رضيني ورضيته . فارسلت امي واختى وزوجة الاستاذ لرؤية الفتاة فراينها ووافقن عليها ، وجعلت اسال امي واختى اسئلة عن شكلها وملامح وجهها وطولها وعرضها وفراستهما في اخلاقها ونحو ذلك ، واستمع لاجابات لا تصور شكلا ولا توضح حقيقة ، واجلس الى نفسي واعمل خيالي فيما سمعت ، فاصوغ من ذلك شكلاً. وقد اجلس معهما مرة اخرى اسمع منها جديثاً آخر ووصفاً آخر، فاتخيل من ذلك صورة اخرى وهكذا. واخيراً سلمت الامر لله وتركت التصوير حتى ترى العين ما رسم الخيال . وتم عقد الزواج يوم 3 ابريل سنة 1916 ، وقد اخذت يوم العقد مائة جنيه انجليزي ذهباً في علبة جميلة قدمتها مهراً للزوجة ، وانتظرت نحو اربعة اشهر حتى يتم اهل الزوجة الجهاز .
وكانت هذه الاشهر الاربعة مجال تفكير في السعادة المرجوة والاحلام اللذيذة ، بناء القصور على الاراء الفلسفية او النظريات المدونة في الكتب . فانا ازور المكتبة الانجليزية وابحث عما كتب في الزواج ، فاعثر - مثلا - على سلسلة من الكتب احدها فيما ينبغي للزوج ان يعلم ، وثانيها فيما ينبغي للزوجة ان تعلم وهكذا . ثم اجد كتاباً في الزواج السعيد وآخر في الاسرة ، وثالثاً في تربية الطفل فأقرؤها وافكر فيها استخلص منها ما يجب ان اعمل لاسعد وعلى أي الاسس ابني اسرتي وهكذا.
وقد ذهبت بعيد الزواج الى مصور ماهر صورني صورة تذكارية احتفظت بها ، ووجدتني قد كتبت على ظهرها العبارات الاتية: "هذه صورتي اخذت يوم الجمعة 7 ابريل سنة 1916 وسني تسع وعشرون سنة وستة اشهر ، عقب عقد زواجي باربعة ايام ، وقد اتخذت الكتب شعاراً لي في الصورة ، فوضع المصور امامي كتباً من عنده وامسكت بيدي اليسرى كتاب "مباديء الفلسفة" وكنت قد عربت اكثره واوشكت على الانتهاء . وقد لاحظت ان اصور صورة في غاية البساطة فلم اتعمل شيئاً الا اختيار الثوب الذي اخترته يوم عقد الزواج . وربما كان الباعث لي على هذا التصوير ما اشعر به من اني قادم على حياة جديدة ومرحلة جديدة ، فقد انهيت حياة الوحدة وساقدم على حياة الاسرة ، وانا مقتناع ان هذه البيئة الجديدة سيكون لها اثر كبير في نفسي وجسمي وعقلي. . ومن البواعث على هذا التصوير ايضاً علمي ان السنة المتممة للثلاثين تختم حياة الصبا والفتوة وتفتح حياة يغلب عليها العقل والروية ، على اني - والاسف يملأ فؤادي-لم انتفع بزمن الصبا والفتوة كما كان يجب . فلم يجد المرح والنشاط واللهو-ولو كان بريئاً- ولا الحب الى قلبي منفذاً، بل تشايحت منذ الصبا - وهذا ولا شك اثر التربية المنزلية . فقد كانت تربية اساسها التخويف والارهاب ، ولم يكن في بيتي أي مظهر من مظاهر البهجة والسرور. واني في هذه السنة احس شيئاً من النشاط على اثر دروسي الانجليزية مع مدرسة كانت تصلح من نفسي كما تصلح من لساني، وكانت تنتقد في الهدوء والسكينة. ومما احسه ايضاً انني اكثر حرية في الفكر واكثر نقداً لما يعرض لي ، واكثر ميلي هذه السنة الى القراءة في علمي الاخلاق والاجتماع مع ما اجد من الصعوبة في فهم ما اقرأ، لقرب عهدي بتعلم الانجليزية. فقد بدأت تعلمها في يناير سنة 1914 فلي الان نحو سنتين ونصف سنة وهي مدة لم تكف في التبحر فيها .
وليس لي تعليق على ما كتبته خلف الصورة الا على قولي "ان الحب لم يجد الى قلبي منفذاً" فهو تعبير غير دقيق وقول لا يصدق الا على رجل جامد العواطف . بل كانت عواطفي اقرب الى ان تكون حادة وخاصة في ايام الشباب الاولى ظهرت حدتها في العاطفة الدينية فقد كانت مشبوبة حادة ، وفي حبي لاصدقائي. فقد كنت آنس بقربهم وآلم لبعدهم ، وفي عاطفة الرحمة والشفقة على الفقراء والبائسين ونحو ذلك من مظهر للعواطف ، بل لقد تحركت في عاطفة الحب منذ الصبا . فقد احببت وانا في نحو الخامسة عشرة ابنة جار لنا والتهبت عاطفتي فأرقت كثيراً وبكيت طويلاً . وكل ما كان من وصال ان اجلس انا وهي على كرسيين امام دارها نتحدث في غير الغرام ، فلما وسوس الشيطان لابيها حجبها عني وشقيت زمناً بذلك ثم سلوت ، ثم احببت المدرسة الانجليزية الشابة حباً ضنيت به ولم تشعر به. وكل ما سعدت به ساعات الدرس اتحدث اليها وتتحدث الي وتنظر الي يعينيها الصافيتين . ولكنه كان حباً يائساً ، فهي متزوجة مخلصة لزوجها سعيدة بزواجها. فعاطفة الحب كانت في اعماق نفسي ولكنها مكبوتة، حال دون ظهورها وسطي . فالفتاة لم تكن سافرة سفور اليوم ، وكان الشاب لا يعرف من الفتيات الا اقاربه ، وكانت تربيتي الدينية تعد الحب فجوراً والنظر الى الفتاة وحديثها اغواء شيطانياً ، ومدرستي كبيتي متزمتة متعنتة ، لا ترتاح لان يجلس طالب في قهوة ، وتعاقب من وجد في صالة غناء. وحدث مرة ان شوهد متخرج حديثاً من المدرسة يجلس في مقهى بالازبكية مع صاحبيه من غير المدرسة وامامهم كاسات من البيرة. فكان من سوء الحظ ان مر عليهم عاطف بك وراي هذا المنظر ، ومع انه لم يتحقق من شرب هذا الشاب البيرة فقد حرمه من تولي القضاء سنين ، ورفض كل رجاء في العفو عنه ، ولم يعين بعد الا بضغط عليه شديد او رغماً عنه .
كل هذا لم يهبني مجالاً للحب ، بل كبته في اعماق نفسي الى ان تزوجت.
وبعد العذاب في اختيار الزوجة وعقد العقد واعداد الجهاز اخترت بيتاً اسكن فيه وحدي مع زوجي قريباً من بيت اهلي ، وحرصت على ذلك حتى اتجنب الاقوال الشائعة والحكايات التي لا تنتهي في النزاع بين الزوجة والام ، وكذلك تمت هذه المرحلة.
تزوجت وكان كل اعتمادي في الزواج - كما ذكرت - على الخيال لا على الواقع . الخيال هو الذي رسم صورة زوجتي واخلاقها وصفاتها معتمداً في رسمه على احاديث النساء اللاتي شاهدنها ، والخيال هو الذي رسم صورة لحياتي المستقبلية اعتماداً على ما سمعته من احاديث عمن سعدوا في زواجهم ومن شقوا ، واسباب سعادتهم واسباب شقائهم ، واعتماداً على ما قراته في الكتب الانجليزية عن الحياة الزوجية.
ولكن شتان بين الواقع والخيال ، فالخيال يرسم الصورة وهو حر طليق محلق في السماء ، والواقع يلتصق بلالرض ويتقيد بالظروف والبيئة والممكان والزمان وغير ذلك . وقد اذكرني الفرق بين الواقع والخيال بحادث حدث لصديق لي سافرت معه الى الاسكندرية لنستجم من متاعبنا ، وكنت اعرف العوم ولم يكن يعرفه ، فغاظه ذلك وصمم على ان يتعلم العوم ، فغاظه ذلك وصمم على ان يتعلم العوم ، وصادف ان مر امام مكتبة انجليزية فرأى في ظاهرها كتاباً في العوم فاشتراه - وكان قوياً في اللغة الانجليزية فسهر عليه ليلة حتى اتمه قراءة وفهماً وعرف منه تمام المعرفة نظرية العوم وكيفيته وطرقه ، وايقن انه بذلك يستطيع ان يغالب اكبر عوام ، وحدثني بذلك في الصباح فضحكت من حديثه. فلما ذهبنا الى حمام البحر تبخرت كل نظرياته وعلمه ، ووضع "قرعتين" على ظهره، وامسك بالحيل الممدود ، وطمأن رجليه على الرمل، ولكن سرعان ما اصفر وجهه واضطرب جسمه وخاف ان يفارق الجيل وفقاً لنظريات الكتاب.
قابلت زوجي فكنت كمن يفض حلاوة البخت او كمشتري ورقة اليانصيب حين يقرأ جدول النمر الرابحة ، وحمدت الله على ما وهب ، وبقى ان اعرف صفاتها التي تظهر يوماً فيوماً كلما حدثت مناسبة او جد جديد.
لقد عشنا زمناً عيشة هادئة فيها لذة الاستكشاف : اتكشف اخلاقها وتصرفاتها وتتكشف اخلاقي وتصرفاتي ، وفيها لذة تحقيق الشخصية فقد لبثت طويلاً في كنف ابوي ، وانا الان رئيس البيت حر التصرف الى اخر ما هنالك.
ولكن صدم زوجي بعد قليل ان رأتني هادئاً غير مرح ، قليل الكلام ، وقد تربت في بيت مرح ، مملوء بالضحك والبهجة ، يكثر فيه الحديث في الفارغ والملآن ، فظنت اني لا اقدرها او نادم على الزواج بها . واؤكد لها ان هذا طبعي كسبته في بيتي فلم تصدق ولم تطمئن الا بعد طول العشرة ووثوقها من اني كذلك مع غيرها لا معها وحدها.
ومشكلة اخرى عرضت لها ولي ، وهي اني رجل مدرس مضطر الى تحضير دروسي في المساء لالقيها في الصباح ، وفوق ذلك اني احب القراءة في غير دروسي ايضاً ، فانا فرح بتعلمي الانجليزية مشغول اول عهدي بالزواج بانهاء ترجمة كتاب “مباديء الفلسفة” ، وزوجتي مثقفة ثقافة محدودة ، تقرأ القصص والروايات الخفيفة من غير شغف، فهي تحتمل الصباح وحدها لاعداد ما نأكل وتنظيف ما ينظف ، ولكن كيف تحتمل المساء ايضاً وحدها وانا في غرفة بجانبها اقرأ واكتب والايام هي الايام الاولى لزواجنا ؟ وحدث مرة ان اعدت العشاء وفتحت على الباب واخبرتني بان العشاء معد. وكنت امام جملة في مباديء الفلسفة صعبة ، احاول ترجمتها واحاور عبارتها واتذوق صياغتها ، فلم اسمع النداء والاخبار ، ولم اشعر بفتح الباب ، فكان خصام وكان نزاع وكانت شكوى الى اهلها لم تنته الا بعناء. ولم استطع التحول عن طبعي وغرامي . ثم حلت المشكلة بعض الشيء بالولد الاول واشتغال امه به ثم بما تتابع من اولاد ، ثم باضطرارها الى قبول الامر الواقع والرضا بما قدر الله من عيش في شبه عزلة بما اقرأ واكتب.
وكانت نظريتي في الاولاد تخالف نظريتها ، فكان من رأيي الاقتصار على ولد او ولدين ، شعوراً بمسئولية التربية وتوفيراً للزمن الذي احتاجه في التحصيل والدرس ، وتمشياً مع النظرة التي أراها وهي ان الامة المصرية مكتظة بالسكان وان كثرتهم تحول دون العناية بتغذيتهم تغذية صحيحة ، فلو قل عدد الاسرة كانت اقدر على ان ترفع مستواها في امور الاقتصاد والتربية ، ولكن زوجتي لا ترى هذا الرأي ، وقد نصحتها بعض قريباتها بالمثل المشهور وهو "قصيه لئلا يطير" فالطائر اذا نزع ريشه او قص لا يطير ، والزوج اذا خف حمله لقلة الاولاد كان عرضة ان يطير ويتزوج ثانية وثالثة ، وقد غلبت نظريتها نظريتي، ولم تعبأ بالمتاعب التي كانت تلاقيها في الولادة والتربية ، فرزقت بعشرة اولاد -ولله الحمد- مات منهما اثنان في طفولتهما ، وبقى لي ثمانية اسال الله ان يمد في عمرهم ويسعدني بهم ، ستة ابناء وبنتان ، واني لاعجب لنفسي وعجب لي غيري كيف استطعت ان اؤلف ما الفت واكتب ما كتبت واقرأ ما قرأت مع ما تتطلبه تربية الاولاد من جهود لا نهاية لها ، ويرجع الفضل في ذلك الى الام وحملها عني الاعباء التي تستطيع القيام بها ، واكتفائي بالاشراف على تربيتهم العلمية والخلقية، ثم تقصيري في اطالة الجلوس معهم ومسامرتهم واطالة عزلتي على مكتبي .
على كل حال بعد ان عرفت زوجي اخلاقي وعرفت اخلاقها وتكشفت لها ميولي وتكشفت لي ميولها ، حدثت المصالحة والتفاهم فتنازلت عن بعض رغباتها لرغباتي ، وتنازلت عن بعض رغباتي لرغباتها ، فكانت عيشة هادئة سعيدة نرعى فيها اكثر ما نرعى مصلحة الاولاد وخلق الجو الصالح لتربيتهم .
واحياناً كان يعكر صفونا شيئان لعله لم يخل بيت منهما الا في القليل النادر .
احدهما مسألة الخدم ، فالبيت لا سيغني عنهم ولا يرتاح بهم ، وكانت مشكلتهم عندنا مزمنة وخاصة في الخادمات . فزوجي غضوب ، تريد ان تنفذ جميع اوامرها في دقة ، والحادمة لا تعمل او لا تستطيع او تعاند فيكون الغضب ، او تريد ان تعاملها معاملة السيد للعبد ، تابى هي الا ان تعامل معاملة الند للند ، او تريد زوجي ان تكون الخادمة نظيفة والخادمة قذرة ، او مرتبة منظمة وهي لا تفهم ترتيباً ولا نظاماً ، وهكذا . كثيراً ما يكون للزوجة الحق وكثيراً ما يكون للخادمة الحق ، فاذا تدخلت انقلب مركز النزاع من الخادمة الي . وزوجي غيور ، فهي لا تحب بطبيعتها ان يكون للخادمة اية مسحة من جمال ، فان كانت كذلك فالويل لها ، والحديث يطول بيننا حول خادمة خرجت وخادمة جاءت وحادمة اساءت وحادمة سرقت . واخيراً قررت اخلاء يدي من الخادمين والخادمات ، وتركت لها مطلق الحرية ان تخرج من تشاء وتدخل من تشاء على شرط الاتذكر لي شيئاً من اخبارهم واحوالهم .
والثاني مشكلة وسائل التفاهم ، فقد كنت من غفلتي اعتقد ان العقل هو وحده الوسيلة الطبعية للتفاهم ، فان حدثت مشكلة احتكمنا اليه وادلى كل منا بحججه فاما اقتنع واما اقنع واما اصر ، واما اعدل ، ولكني بعد تجارب طويلة رايت ان العقل اسخف وسيلة للتفاهم مع اكثر من رايت من السيدات، فانت تتكلم في الشرق وهن يتكلمن في الغرب ، وانت تتكلم في السماء فيتكلمن في الارض ، وانت تاتي بالحجج التي تعتقد انها تقنع أي معاند ، وتلزم أي مخاصم ، فاذا هي ولا قيمة لها عندهن . تقول : ان الاوفق ان تتصرف في هذا الامر بكذا لكذا من الاسباب ، فترد عليك باقوال متاثرة بعواطف ساذجة . وتقول : هذا التصرف لا يصلح لما يترتب عليه من اضرار تعينها . فترد عليك بان العرف والعادة غير ذلك . وتعاقب ابنك لتؤدبه فتفسد العقوبة بتدخلها لمجرد العطف الكاذب . وتتصرف التصرفات الحكيمة فتؤولها بنظراتها العاطفية تاويلات غريبة . وهكذا ادركت ان من الواجب الا التزم المنطق ، واني اذا اردت الراحة والهدوء فلاضح بالمنطق احياناً ، واتكلم الكلمة السخيفة اذا كان فيها الرضا، والعب بالعواطف رغم المنطق اذا اردت السلامة .
وهكذا كانت حياتنا كالبحر الهاديء ، ولكن من حين لآخر تثور مشكلة من هذه المشاكل فيتكهرب الجو ويموج البحر ثم تنتهي العاصفة ويعود الى البحر هدوؤه .
ولم تكن لنا مشكلة مالية مما تشقى به تعض العائلات ، فقد وسع الله علي في الرزق ، ولم يأت على يوم اقتصرت فيه على مرتبي الحكومي . فعند تخرجي من مدرسة القضاء انتدبت مدرساً للاخلاق بمدارس الاوقاف الملكية بمرتب آخر ، ولما عينت قاضياً انتدبت مدرساً بمدرسة القضاء ، ثم در على الرزق بما اربح من كتبي ومقالاتي . فمع ما يتطلبه الاولاد الكثيرون من نفقات لم اشعر بحاجتي الى الاستدانة ولا مرة ، والى جانب ذلك فانا رجل ليس لي كيف من الكيوف الا الدخان ، ثم معتدل في الانفاق ، وانا اميل الى التبذير وزوجتي اميل الى التدبير ، ولو ترك الامر لي ما ابقيت على شيء ، ولكن زوجتي لكثرة الاولاد ، وما يتطلبه ذلك من حساب المستقبل ، احتاطت ودبرت وادخرت .
وكذلك حمانا الله من مشاكل اخرى اصيبت بها بعض الاسر لا داعي لذكرها لانها لم تدخل في تجاربنا .
ورزقت بالولد الاول عقب زواجي ، فاوليته كل عنايتي وطالعت من اجله بعض الكتب الانجليزية والعربية في تربية الطفل ، وكنت اشتري له اللعب الاجنبية الموضوعة للتسلية وتربية العقل ، ولم ارتض له المدارس المصرية ،ـ فعلمته في المدارس الفرنسية - في الفرير - ثم حولته بعد السنة الثالثة الثانوية الى مدرسة مصرية ليتقوى في اللغة العربية والانجليزية ، فلما نجح في البكالوريا ، كان ترتيبه متقدماً يسمح له ان يكون في الطب او الهندسة ، اختار الهندسة .
وعنيت بالولد الاول اكبر عناية ، علماً بانه سيكون نموذجاً لاخوته .
وقد كنت قاسياً على اولادي الاولين ، شديد المراقبة لهم في دروسهم واخلاقهم ، اعاقبهم على انحرافهم ولو قليلاً ، ولا اسمح لهم بالحرية الا في حدرد ، جسب عقليتي اذ ذاك ، ولكنها على كل حال قسوة لا تقاس بجانب قسوة ابي علي، وكلما تقدمت بي السن واتسع تفكيري اقللت من تدخلي واكثرت من القدر الذي يستمتعون فيه بحريتهم ، فلم اجد كبير فرق بين الاولين والاخرين لشدة تاثر من لحق بمن سبق .
وما اكثر ما لقيت من متاعب الاولاد في صحتهم وفي دراستهم وفي سلوكهم وكان لكل سن متاعبها . فاكثر متاعب الطفولة في الصحة والمرض، واكثر متاعب المراهقة في الدراسة والسلوك، واكثر متاعب الشباب في طرق الوقاية والمهارة في الاشراف من بعيد . وكثيراً ما كان عندي الاسنان كلها احمل متاعبها المتنوعة جميعها . واحمد الله فقد نجحت في تحمل اعبائهم ، وحسن توجيههم الى حد كبير. فالان وانا اكتب هذا زوجت بنتي زوجاً يعد بقدر الامكان سعيداً ، واتم ثلاثة درسة الهندسة والرابع في طريق اتمامها ، ولما ضقت ذرعاً بالهندسة وكرهت سماع النغمة الواحدة تدخلت في الامر بعد ان كنت اترك لهم الاختيار ـ فوجهت الخامس لدرسة الحقوق ، وحاولت ان اوجه السادس للطب وقد كان اول البكالوريا في القطر فلم افلح .
وكان حنوي وحنو امهم عليهم بالغ الحد، حتى لكثيراً ما ضحينا بسعادتنا لسعادتهم ، وتعبنا لراحتهم ، وانفقنا من صحتنا محافظة على صحتهم ، ونحن نطمع ان يتولى الله وحده الجزاء . اما هم فقد يحاسبوننا على الكلمة الصغيرة يظنون انها تجرح احساسهم ، وعلى التقصير القليل يظنونه مساً بحقوقهم ، وعلى العمل يسيئون تفسيره ، وقد يكون الغرض منه خيرهم ، ولكن الموقف النبيل يقضي بان تربية الاولاد ليست تجارة ، تعطي لتاخذ وتبيع لتربح ، انما هي واجب يؤديه الاباء لابنائهم وامتهم ، فان قدره الابناء فادوا واجبهم نحو ابائهم فيها ، والا فقد فعل الاباء ما عليهم ، والمكافيء الله.
نعم رزقت الحنو عليهم حنواً شديداً حتى لينغص على سفري اذا سافرت ورحلاتي اذا رحلت فلا ازال اذكرهم في سفري حتى اعود ، ولا تهنأ لي راحة الا اذا عدت اليهم ، واخواني المسافرون معي يستنكرون ذلك مني ، ولا اراهم يحنون الى اولادهم حنيني.
تركت العمادة وعدت استاذاً وخلت يدي ممن كل سلطة ادارية ، واتت وزارة لا تعدني من رجالها ، فلم يكن لي شأن في علاوات وترقيات ، وليس في قبول في شفاعات ، وأذ ذاك سفرت لي وجوه قبيحة من أنكار الجميل وقلة الوفاء .
هذا كان صديقي يوم كنت استطيع نفعه ، فلما سلبت مني هذه القدرة تلمس الوسائل ليكون عدوي، فان لم يجد اسباباً اختلقها ، وان لم يجد فرصة لاظهار هذه الخصومة تعمد ايجادها ، وهؤلاء الذين كانوا يتهافتون على اقامة حفلات تكريم لي يوم انتخبت عميداً ، فارفضها وارفضها ، لم يفكروا في اقامة حفلة وداع يوم تركت العمادة .

وهذه التليفونات التي كانت تدق كل حين للسؤال عن صحتي ، وطلب موعد لزيارتي ، لاظهار الشوق اولاً ، والاطمئنان على صحتي ثانياً ،والرجاء في قضاء مسألة ثالثاً ، لم تعد تدق الا للاعمال الضرورية التي ليس منها سؤال عن صحة ، ولا اعلان اشواق .

وهذا صندوق البريد الذي كان يمتليء بالخطابات المملوءة بالطلبات والرجاوات اصبح فارغاً الا من خطابات عائلية او مسائل مصلحية.

وهذه ايام الاعياد التي كان يموج فيها البيت بالزائرين من الصباح الى المساء يهنئون بالعيد ، اصبحت كسائر الايام ، اجلس فيها على المكتب فاقرأ واكتب ، ولا وسائل ولا مجيب .

وهذه صورة للناس لم تكن جديدة علي، فقد قرأت مثلها في الكتب كثيراً ،وسمعت في الاحاديث كثيراً ، وشاهدتها في غيري كثيراً ، ولكن لعل أسوأها في نفسي ما شاهدته من قلة الوفاء في بعض طلبتي ، فقد كنت اعتقد ان الرابطة العلمية فوق كل الروابط ، وان حق الاستاذية فوق كل الحقوق . أما ان طالباً يخرج على استاذه ويخاصمه ، ويقدح فيه بالكذب والاباطيل فشيء لم اكن رايته ، فلما رايته استعظمته ، وحز في نفسي وبلغ اثره اعماق قلبي ، لم اعد بعد ذلك اثق بالناس كما كنت اثق ، ولا اركن اليهم كما كنت اركن ، فكانت اذا حدثت فصول من هذا القبيل تكسرت النصال على النصال :

وصرت اشك فيمن اصطفيه لعلمي انه بعض الانام

وعدت الى الكتاب فهو أوفى وفي وخير صديق .

هاأنا اعود الى كتبي ومكتبتي ، وابدأ في اعداد الجزء الاول من ظهر الاسلام ، والاشتراك في نشر كتاب الامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي ، واضع - مع الاستاذ زكي نجيب - خطة في وضع كتاب قصة الفلسفة اليونانية ، ثم قصة الفلسفة الحديثة في جزأين ، ثم قصة الادب في العالم في أربعة اجزاء ، وأشارك في تأليفها وأنجازها ، وأجد بعد ذلك من الفراغ ما يمكنني من الاشتراك وأشارك في تأليفها وانجازها ، وأجد بعد ذلك من الفراغ ما يمكنني من الاشتراك في المجالس العلمية والاشراف على اعمال لجنة التأليف والترجمة والنشر ونحو ذلك - حياة علمية هادئة لذيذة ، لا خصومة فيها ولا رجاء فيها ولا أخذ ولا رد فيها . وهذا هو ما يتفق ومزاجي ، فانا لا احب الجاه بالقدر الذي يجعلني اتحمل متاعب المنصب الاداري وما فيه من ضياع وقت واضطراب بال .

وقد كان بجانب عملي العلمي في البحث والتأليف والنشر ان اتجهت اتجاهاً ادبياً كان امتداداً لما بدأت به من الايام الاولى من حياتي يوم اشتركت في تحرير جريدة السفور . في سنة 1933 فكر الاستاذ احمد حسن الزيات في ان يشترك مع بعض اصدقائه في لجنة التاليف في اخراج مجلة الرسالة ، وكنت احدهم ، فكنت اكتب في كل اسبوع تقريباً مقالة ، وكان هذا عملاً ادبياً يلذ نفسي بجانب بحثي العلمي ، فأنا كل أٍسبوع أفكر في موضوع مقال وأحرره ، واضطرني ذلك الى قراءة كثير من الكتب الانجليزية استعرض فيها ما يكتب وكيف يكتب ، واعتمد اكثر ما اعتمد على وحي قلبي او اعمال عقلي او ترجمة مشاعري ، وكانت مقالاتي تتوزعها هذه العوامل الثلاثة.

واكثر ما اتجهت في هذه المقالات الى نوع من الادب تغلب عليه الصبغة الاجتماعية والنزعة الاصلاحثة ، فهذا اقرب انواع الادب الى نفسي واصدقها في التعبير عني . وخير الادب ما كان صادقاً يعبر عما في النفس من غير تقليد ، ويترجم عما جربه الكاتب في الحياة من غير تلفيق . ولقد اطماننت الى هذا النوع من الكتابة ، اذ كان يفتح عيني للملاحظة والتجربة ، ويسري عن نفسي بالافراج عما اختزنته من حرارة . فكنت اشعر بعد كتابة المقالة كما يشعر المحزون دمعت عينه او المسرور ضحكت سنه . وكنت احس كان نحلة تطن في اذني لا تنقطع حتى اكتب ما يجيش في صدري ، فاذا استولى موضوع المقالة على ذهني فهو تفكيري اذا اكلت او شربت ، وحلمي اذا نمت ، وعمل لا وعيي الباطن اذا شُغلت . ولهذا انقلبت هذه الظاهرة الى عادة ، ومن عادة الى كيف متسلطن كما يشعر مدمن الدخان او مدمن الخمر .

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:04 AM

ولي تجربة في هذا الباب ، وهي اني اذا عمدت الى اعداد بحث علمي كفصل من فصول فجر الاسلام او ضحى الاسلام فانا كل وقت صالح لهذا العمل مالم اكن مريضاً ، اما في المقالات الادبية فلست صالحاً في كل وقت ، بل لابد ان تهيج عواطفي بعض الهياج ، وتهتز نفسي بعض الاهتزاز ،وانسجم مع الموضوع كل الانسجام . فاذا لم تتيسر لي كل هذه الظروف كنت كمن يمتح من بئر او ينحت من صخر . واحياناً ارى القلم يجري في الموضوع حتى لا استطيع ان اقفه ، واحياناً يسير في بطء وعلى مهل حتى لا استطيع ان استعجله ، واحياناً يتعثر فلا اجد بداً من الاعراض عن الكتابة . ومن الصعب تعليل ذلك ، فقد يكون سببه صلاحية المزاج وسوءه. وقد يكون قوة الدواعي وضعفها ، وقد يكون الاستعداد للتجلي وعدمه .

واعتدت منذ اول عهدي بالقلم ان اقصد الى تجويد المعنى اكثر مما اقصد الى تجويد اللفظ ، والى توليد المعاني اكثر من تزويق الالفاظ ، حتى كثيراً ما تختل (ضمائري) فاعيد الضمير على مؤنث مذكراً وعلى مذكر مؤنثاً ، لاني غارق في المعنى غير ملتفت الى الالفاظ ، ولا اتدارك ذلك الا عند التصحيح ، وقد يفوتني ذلك ايضاً . ولتقديري للمعنى اميل الى تبسيطه ، حتى لاسرف احياناً في ايضاحه ، لشغفي بوصوله لاى القاريء بيناً ولو ضحيت في ذلك بشيء من البلاغة .

وقد تعودت من الادب الانجليزي الدخول على الموضوع من غير مقدمة ، وايضاح المعنى من غير تكلف ، والتقريب -ما امكن - بين ما يكتبه الكاتب وما يتكلمه المتكلم ، وعدم التقدير للمقال الاجوف الذي يرن كالطبل ثم لا شيء وراءه . ومن حبي للايضاح افضل اللفظ ولو عامياً على اللفظ ولو فصيحاً اذا وجدت العامي اوضح في الدلالة وادق في التعبير . وافضل الاسلوب السهل ولو لم يكن جزلاً اذا وجدت الاسلوب الرصين يُغمض المعنى او يثير الاحتمالات ، ويدعو الى التاويلات .

ومن اجل هذا تشكك في بعض الادباء : هل يعدونني اديباً او عالماً! ولم اقم لهذا الشك وزناً ، فخير لي ان اصدق مع نفسي ومع غرضي ومع ميلي من ان ازوق اسلوبي واكذب على نفسي ليجمع الناس على ادبي .

وقد اعتدت - عند كتابة مقال - ان ارسم الموضوع اجمالاً لا تفصيلاً ، واذا رسمته ابحث لنفسي ان اغيره وابدله اذا جد جديد ، وكثير من المعاني التفصيلية تاتي وانا اكتب لا وانا افكر قبل ان اكتب.

ثم طُلب الي ان اذيع احاديث في محطة الاذاعة فاذعت ، وكانت احاديثي اشبه ما تكون بمقالاتي من حيث موضوعاتها واسلوبها ، الا اني تعمدت في هذه الاحاديث ان تكون اسهل موضوعاً وابسط تعبيراً ،ونزلت في ذلك الى ان دنوت من العامية لتناسب جمهور السامعين ، ولم ار في ذلك باساً بل لقد هممت احياناً ان اتحدث بالعامية لاني ارحم الاميين واشباههم الا يكون لهم غذاء عقلي يستمتعون به . واكره من الادباء ارستقراطيتهم ، فلا يكتبون الا للخاصة ولا يتفننون الا لهم . وواجب الادباء ان يوصلوا غذائهم الى كل عقل ، ونتاجهم الفني الى كل اذن ، فاذا لم يفعلوا فقد قصروا . وقد لفت نظري لهذا مرة ان حضر الى مصر رجل كبير من مسلمي الصين ، فتقابلنا مراراً وتحدثنا كثيراً ، وفي مرة عرفته بالاستاذ توفيق الحكيم ، وقلت له انه اديب كبير ، فسالني : هل هو اديب شعبي او اديب ارستقراطي ؟ فرن السوال في رأٍسي ، فلما قلت له هو اديب ارستقراطي ، سألني : فمن من ادبائكم شعبي؟ فحرت جواباً ،وآلم نفسي الا يكون لجمهور الشعب اديب ، وكثيراً ما شغلت ذهني مشكلة العلاقة بين اللغة الفصحة واللغة العامية وان صعوبة اللغة الفصحى - ولا سيما من ناحية الاعراب - تحول دون انتشارها في جمهور الشعب وخاصة اذا اردنا مكافحة الامية وتعميم التعليم ، فنحن لو اردنا تعميم التعليم بين الجماهير باللغة الفصحى المعربة احتجنا الى زمن طويل ، ولم نتمكن من اجادة ذلك كما لم نتمكن الى اليوم من اجادة تعليم المثقفين اياها . فطلبة المدارس يقضون تسع سنين في التعليم الابتدائي والثانوي واربع سنين في الجامعة ثم لا يحسن اكثرهم الكتابة والقراءة ، وكثيراً ما يلحنون في الاعراب. ومن اجل هذا اقترحت في بعض مقالات نشرتها وفي محاضرة في المجمع اللغوي ان نبحث عن وسيلة للتقريب ، واقترحت ان تكون لنا لغة شعبية ننقيها من حوافيش الكلمات (على حد تعبير ابن خلدون) ونلتزم في اواخر الكلمات الوقف من غير اعراب ، وتكون هي لغة التعليم ولغة المخاطبات ولغة الكتابة للجمهور ، ولا تكون اللغة الفصحى المعربة الا لغة المقفين ثقافة عالية من طلبة الجامعة واشباههم ، والا الذين يريدون ان يطلعوا على الادب القديم ويستفيدوا منعه ، وبهذا تكسب اللغة العامية والفصحى معاً ، فاللغة الفصحى الان لا تتغذى كثيرا من استعمال الكلمات اليومي ، وهذا الاستعمال اليومي في الشارع وفي البيوت وفي المعاملات من طبيعته ان يكسب اللغة حياة اكثر من حياتها بين الدفاتر ، وفي الاوساط الخاصة ، ويكسب اللغة العامية رقياً يقرب من الفصحى ، وهو يمكننا من نشر الثقافة والتعليم لجمهور الناس في سرعة ، ويمكننا من تقديم غذاء ادبي لقوم لا يزالون محرومين منه الى اليوم ، وهو اجرام كبير كاجرام حبس البريء وتجويع الفقير ، ولكن هذا الاقتراح لقي معارضة شديدة بل وتجريحاً عنيفاً .

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:06 AM

طه حسين
كتاب الأيام
(1889-1973 )



ولد طه حسين عام 1889 ، وعاش طفولته الباكرة في احدى قرى الريف المصري . ثم انتقل الى الازهر للدراسة ، ولم يوفق فيه، فتحول الى الجامعة المصرية ، وحصل منها على الشهادة الجامعية ، ثم دفعه طموحه لاتمام دراساته العليا في باريس ، وبالرغم من اعتراضات مجلس البعثات الكثيرة ، الا انه اعاد تقديم طلبه ثلاث مرات ، ونجح في نهاية المطاف في الحصول على شهادة الدكتوره في باريس. بعد عودته لمصر ، انتج اعمالاً كثيرة قيمة منها على هامش السيرة ، والايام ، ومستقبل الثقافة في مصر ، وغيرها. وهو يعتبر بحق "عميد الادب العربي" نظراً لتاثيره الواضح على الثقافة المصرية والعربية.

وقد نشر الجزء الاول من الايام في مقالات متتالية في اعداد الهلال عام 1926 ، وهو يُعد من نتاج ذات المرحلة التي كتب خلالها : في الشعر الجاهلي. وتميزت هذه الفترة من حياة الاديب الكبير - رحمه الله - بسخطه الواضح على تقاليد مجتمعه وعاداته الشائعة في كتاباته . ومن المؤكد ان لهذه المرارة دوافعها : فطه حسين فقد البصر صغيراً بسبب جهل اسرته باسس الرعاية الصحية. وهي خسارة فاحشة لا يمكن تعويضها . وقد رفض المجتمع المصري المحافظ الكثير من ارائه في موضوعات مختلفة حين رجوعه من فرنسا كذلك.

لهذه الاسباب وغيرها ، يعتبر الايام سيرة ذاتية تعبر عن سخط كاتبها بواقعه الاجتماعي ، خاصة بعد ان عرف الحياة في مجتمع غربي متطور . الاجزاء التي اخترناها هنا تصف مرحلة مهمة في حياة طه حسين الفكرية : اذ ترسم صورة حزينة لمساعيه للدراسة في الازهر، موضحةً اعتراضاته على نظام التعليم الشائع فيه آنذاك، واسباب عدم نجاحه في الحصول على الشهادة التي نجح من هو اقل منه شأناً وعلماً في امتلاكها.



من الايام [a]



واقبل صاحبنا على دروسه في الازهر وغير الازهر من المساجد . فأمعن في الفقه والنحو والمنطق ، واخذ يحسن "الفنقلة" التي كان يتنافس فيها البارعون من طلاب العلم في الأزهر على المنهج القديم ، ويسخر منها المسرفون في التجديد ، ولا يُعرض عنها المجددون العتدلون . واذا هو يدرس شرح الطائي على الكنز مصبحاً ، والازهرية مع الظهر ، وشرح السيد الجرجاني على ايساغوجي ممسياً . وكان يحضر الدرس الاول في الازهر ، والدرس الثاني في مسجد محمد بك ابي الذهب ، والدرس الثالث في مسجد الشيح العدوي على استاذ من سلالة الشيخ العدوي نفسه . وربما الم بدرس من دروس الضحى كان يُقرأ فيه كتاب قطر الندى لابن هشام تعجلاً للتعمق في النحو والفراغ من كتب المبتدئين والوصول الى شرح ابن عقيل على الالفية . ولكنه لم يكن يواظب على هذا الدرس . كان يستجهل الشيخ ، ويرى في "فنقلة" الشيح عبد المجيد الشاذلي حول الازهرية وحاشية العطار ما يكفيه ويرضيه.

وقد بقيت في نفسه آثار لا تمحى من درس الازهرية هذا ، ففيه تعلم "الفنقلة" حقاً ، وكان اول ذلك هذا الكلام الكثير والجدال العقيم حول قول المؤلف "وعلامة الفعل قد" ، فقد اتقن صاحبنا ما اثير حول هذه الجملة البريئة من الاعتراضات والاجوبة ، واتعب شيخه جدالاً وحواراً حتى سكت الشيخ فجأة اثناء هذا الحوار ، ثم قال في صوت حلو لم ينسه صاحبنا قط ، ولم يذكره قط الا ضحك منه ورق له : "الله حكم بيني وبينك يوم القيامة ". قال ذلك في صوت يملؤه السأم والضجر ، ويملؤه العطف والحنان ايضاً. وآية ذلك انه بعد ان اتم الدرس واقبل الصبي ليلثم يده كما كان الطلاب يفعلون ، وضع يده على كتف الصبي ، وقال له في هدوء وحب: "شد حيلك الله يفتح عليك."

وعاد الصبي مبتهجاً بهذه الكلمات والدعوات ، فأنبأ بها اخاه وانتظر بها اخوه موعد الشاي . فلما اجتمع القوم الى شايهم قال للصبي مداعباً : قرر لنا "وعلامة الفعل قد". فامتنع الصبي حياء اول الامر ، ولكن الجماعة الحت عليه ، فأقبل يقرر مما سمع وما وعى وما قال ، والجماعة صامتة تسمع له ، حتى اذا فرغ نهض اليه ذلك الكهل الذي كان ينتظر الدرجة فقبل جبهته وهو يقول : "حصنتك بالحي القيوم الذي لا ينام."

واما الجماعة فاغرقت في الضحك . واما الصبي فاغرق في الرضا عن نفسه ، وبدأ منذ ذلك الوقت يعتقد انه اصبح طالباً بارعاً نجيباً.

وقوى هذا الرأي في نفسه ان زملاءه في درس النحو التفتوا اليه وجعلوا يستوقفونه بعد الدرس ، او يدنون منه قبل الدرس ، فيسألونه ويتحدثون اليه ، ثم يعرضون عليه ان يعدوا معه الدرس قبل الظهر. وقد اغراه هذا العرض فترك درس القطر ، وجعل يطلع مع زملائه هؤلاء يقرءون له وياخذون في التفسير ، وجعل هو يسبقهم الى هذا التفسير ويستبد به من دونهم ، فلا يقاومونه وانما يسمعون منه ويصغون اليه . وجعل ذلك يزيده غروراً الى غرور ، ويخيل اليه انه قد بدأ يصبح استاذاً.

واطردت حياته في ذلك العام متشابهة لا جديد فيها الا ما كان يفيده الصبي من العلم كلما امعن في الدرس ، وما كان يشعر به من الغرور اذا كان بين زملائه ، وما كان يُرد اليه من التواضع اذا كان بين اولئك الطلاب الكبار ، والا ما كان يفيده من العلم بشؤون الاساتذة والطلاب في الازهر لما كان يسمع من حديث زملائه واصدقاء اخيه عن اولئك وهؤلاء .

فلم يكن شيء من هذه الاحاديث ليحسن ظنه باولئك او هؤلاء ، وانما كان ظنه يزداد بهم سوءاً كلما مر عليه الوقت . فقد كان يسمع بين وحين ثناء بالذكاء والبراعة على هذا الشيح او ذاك من صغار العلماء وكبارهم ، ولكنه كان يسمع دائماً عيباً لاولئك وهؤلاء بالوان من النقائص التي تتصل بالخلق او تتصل بالسيرة او تتصل بصناعة العلم نفسها ، والتي كانت تثير في نفسه كثيراً من الغضب والازدراء وخيبة الامل .

ولم يكن يسلم من هذه العيوب احد . فاما هذا الشيخ فقد كان شديد الحقد على زملائه واقرانه ، شديد المكر بهم والكيد لهم ، يلقاهم مبتسماً فلا يكاد يفارقهم حتى يقول فيهم اشنع القول ويسعى بهم اقبح السعي. واما هذا الشيخ الاخر فقد كان رقيق الدين ، يظهر التقوى اذا كان في الازهر او بين اقرانه ، فاذا خلا الى نفسه والى شياطينه اغرق في اثم عظيم .

وكانت الغيبة والنميمة اشيع واشنع ما كان يُذكر من عيب الشيوخ. فكان الطلاب يذكرون سعي ذلك الشيخ بصديقه الحميم عند شيخ الازهر او عند الشيخ المفتي ، وكانوا يذكرون ان شيخ الازهر كان اذناً للنمامين ، وان الشيخ المفتي كان يترفع عن الاستماع لهم ويلقاهم بالزج القاسي العنيف.

وقد تحدث الطلاب الكبار ذات يوم بقصة عن جماعة من كبار الشيوخ سموهم يومئذ ، فزعموا ان هؤلاء الشيوخ لاحظوا انهم قد اسرفوا على انفسهم في الغيبة ، فأستعظموا ذلك وذكروا قول الله عز وجل : "ولا يغتب بعضكم بعضاً ليحب احدكم ان ياكل لحم اخيه ميتاً فكرهتموه"، فتناهوا عن هذه الخطيئة الكبيرة ، وتعاهدوا على ان من اخذ منهم في الغيبة فعليه ان يؤدي الى اصحابه عشرين قرشاً .

وقد كفوا عن الغيبة يوماً او بعض يوم ضناً بهذا المبلغ من النقد . وانهم لفي بعض حديثهم ، واذا شيخ يمر بهم فيلقي عليهم تحية ، ويمضي في طريقه. ولكنه لا يكاد يمضي حتى يخرج احدهم قطعة من الفضة فيدفعها الى اصحابه وياخذ في اغتياب هذا الشيخ.

فاما تحدث الطلاب كباراً وصغاراً بجهل شيوخهم وتورطهم في الوان الخطأ المضحك الذي كان بعضه يتصل بالفهم وبعضه يتصل بالقراءة ، فقد كان اكثر من ان يحصى واعظم من ان يقدر . ومن اجل هذا كان صاحبنا سيء الرأي في العلماء والطلاب جميعاً . وكان يرى ان الخير كل الخير في ان يجد ويجتهد ويحصل ما استطاع من العلم معرضاً عن مصادره التي كان يستقيه منها .

وازداد رايه سوءاً حين استقبل السنة الثالثة من حياته في الازهر ، فالتمس لنفسه استاذاً يقرأ في الفقه شرح مُلا مسكين على الكنز ، فُدل على استاذ معروف بعيد الذكر ظاهر المكانة في القضاء ، فذهب اليه وجلس في حلقته ، ولكنه لم يكد ينفق دقائق حتى احس حرجاً عظيماً وراي نفسه مضطراً الى ان يبذل جهداً شديداً لمقاومة الضحك . وذلك ان الشيخ رحمه الله قد كانت له لازمة غريبة ، كما كان يقول الازهريون . فلم يكن يقرأ جملة في الكتاب او يفسرها من عند نفسه الا قال هذه الجملة مرتين : "قال ايه ثم قال ايه”

يعيد ذلك مرات في الدقائق القليلة ، وصاحبنا يسمع له ويعنف على نفسه حتى لا يضحك فياتي منكراً من الامر.

وقد استطاع صاحبنا ان يضبط نفسه ، ولكنه لم يستطع ان يختلف الى درس الاستاذ اكثر من ثلاثة ايام ، لانه لم يجد عنده غناء ، وانما وجد عنده عناء ، لم يفد منه شيئاً ، وانما كان يكظم ضحكه كظماً عنيفاً ، ويكلف نفسه من ذلك ما لم تكن تطيق . والتمس غيره من الاساتذة الذين كانوا يقرءون هذا الكتاب ، فلم يجد عندهم الا هذه اللوازم التي كانت تختلف باختلافهم ، ولكنها كانت تدفع الغلام الى الضحك وتضطره الى ان يبذل في ضبط نفسه من الجهد ما كان يشغله احياناً عن الاستماع ، وقيل له في اثناء ذلك ان هذا الكتاب من كتب الفقه ليس بذي خطر ، وان استاذاً ممتازاً سموه له يقرأ كتاب الدرر ، والخير في ان تحضر درسه ، فهو من اذكى العلماء وابرع القضاة .

واستشار صاحبنا اخاه واصحاب اخيه فلم يردوه عن ذلك ، بل شجعوه عليه واوصوا به الشيخ . وقد رضى الغلام عن استاذه الجديد في دروسه الاولى ، فلم يكن يلتزم جملة بعينها او لفظاً بعينه او صوتاً بعينه ، ولم يكن يتردد في القراءة ولا في التفسير، وكان ذكاؤه واضحاً ، واتقانه للفقه متقناً ، وحسن تصرفه فيه لا يتعرض للشك .

وكان الاستاذ رشيقاً انيقاً حلو الصوت ممتازاً في حركته وفي لقائه للطلاب وحديثه اليهم . وكان معروفاً بالتجديد ، لا في العلم ولا في الرأي ، ولكن في السيرة. وكان كبار الطلاب يتحدثون بانه يلقي درسه اذا صبح ثم يمضي الى محكمته فيقضي فيها ، ثم يروح الى بيته فيطعم وينام . فاذا كان الليل خرج مع لذاته فذهب الى حيث لا ينبغي ان يذهب العلماء ، وسمع من الغناء ما لا ينبغي ان يسمع العلماء ، واقبل من اللذات على ما لا ينبغي ان يقبل عليه رجال الدين ، وكانوا يذكرون "الف ليلة وليلة". فيعجب الغلام لانه كان يعرف ان "الف ليلة وليلة" اسم كتاب طالما قرأ فيه ووجد في قراءته لذة ومتاعاً . ولكنهم كانوا يذكرون هذا الاسم على انه مكان يسمع فيه الغناء ، ويكون فيه اللهو ، وتطلب فيه بعض اللذات .

وكان الغلام يسمع عن شيخه هذه الاحاديث فلا يصدقها ولا يطمئن اليها ، ولكنه لم ينفق مع الشيخ اسابيع حتى احس منه تقصيراً في اعداد الدرس ، وقصوراً في تفسير النص ، وضيقاً باسئلة الطلاب ، بل احس منه اكثر من ذلك ، فقد ساله ذات يوم عن تفسير بعض ما كان يقول فلم يجبه الا بالشتم . وكان الشيخ ابعد الناس عن الشتم واشدهم عنه ترفعاً .

فلما قص الغلام على اخيه واصحابه من امر الشيخ ما راى ، انكروا ذلك واسفوا له ، وهمس بعضهم لبعض بان العلم والسهر في "الف ليلة وليلة" لا يجتمعان.

وكان حظ الغلام في النحو خيراً من حظه في الفقه ، فقد سمع القطر والشذور على الشيخ عبد الله دراز رحمه الله ، فوجد من ظرف الاستاذ وصوته العذب وبراعته في النحو ومهارته في رياضة الطلاب على مشكلاته ما زاده في النحو حباً.

لكن حظه في النحو لم يلبث ان ساء حين استؤنفت الدراسة في العام الجديد . فقد اخذ الغلام يسمع على الشيخ عبد الله دراز شرح ابن عقيل ,. وبينما الاستاذ وطلابه ماضون في درسهم ، راضون عن عملهم ، صدر الامر الى الاستاذ بالانتقال الى معهد الاسكندرية . فمانع في ذلك ما استطاع ، ومانع طلابه ما استطاعوا ، ولكن المشيخة لم تسمع له ولا لهم . فلم يجد بداً من انفاذ الامر . ولم ينس الغلام ذلك اليوم الذي ودع الاستاذ فيه طلاببه ، وانه ليبكي مخلصاً ، وانهم ليبكون مخلصين ويشيعونه باكين الى باب المسجد.

ثم اقيم مقام الشيخ، شيخ آخر ضرير ، وكان مشهوراُ بالذكاء الحاد والتفوق الظاهر والنبوغ الممتاز ، وكان لا يذكر الا اثنى عليه ذاكروه والسامعون لذكره بهذه الخصال . اقبل هذا الشيخ ، فاخذ الدرس من حيث تركه الشيخ عبد الله دراز . وكانت حلقة الشيخ عند الله دراز عظيمة تملا رقعتها القبة من مسجد محمد بك ابي الذهب. فلما خلفه هذا الشيخ ازدادت هذه الحلقة ضخامة واتساعاً حتى اكتظ بها المكان . القي الشيخ درسه الاول فرضي عنه الطلاب ، ولكنهم لم يجدوا عنده وداعة استاذهم القديم ولا عذوبة صوته . ثم القى درسه الثاني والثالث ، واذا الطلاب ينكرون منه رضاه عن نفسه واعجابه بها ، وثقته بما كان يقول ، وغضبه الحاد على مقاطعيه .

ولم يكد يتقدم في درسه الرابع حتى كانت بينه وبين صاحبنا قصة صرفت الغلام عن النحو صرفاً . كان الشيخ يفسر قول تأبط شراً:

فابتُ الى فهم وما كدت آثبا وكم مثلها فارقته وهي تصفر

فلما وصل الى قرله "تصفر" اقل : ان العرب كانت اذا اشتدت على احدهم ازمة او محنة وضعوا اصابعهم في افواههم ونفخوا فيها ، فكان لها صفير يسمع .

قال الغلام للشيخ : واذن فما مرجع الضمير في قوله "وهي تصفر" وفي قوله"وكم مثلها فارقتها؟" قال الشيخ مرجعه "فهم" ايها الغبي. قال الغلام: فانه قد عاد الى فهم والبيت لا يستقيم على هذا التفسير. قال الشيخ : فانك وقح وقد كان يكفي ان تكون غبياً . قال الغلام : ولكن هذا لا يدل على مرجع الضمير. فسكت الشيخ لحظة ثم قال: "انصرفوا ، فلن استطيع ان اقرأ وفيكم هذا الوقح."

ونهض الشيخ ، وقام الغلام ، وقد كاد الطلاب يبطشون به لولا ان حماه زملاؤه.

ولم يعد الغلام الى درس النحو ، بل لم يحضر الغلام بعد ذلك درساً في النحو ، بل ذهب من غده الى درس كان يلقيه استاذ معروف من اهل الشرقية . وكان يقرأ شرح الاشموني ، ولكنه لم يتم الاستماع للدرس. مضى الشيخ يقرأ ويفسر ، وسأله الغلام في بعض الشيئ ، فرد عليه الشيخ بما لم يقنعه . فاعاد السؤال ، فغضب الشيخ وامره بالانصراف. فتوسط بعض اصدقائه عند الشيخ يستعطفونه ، فازداد غضب الشيخ وابى ان يمضي في الدرس ختى يقوم هذا الغلام ومعه اصدقائه ,. ولم يكن لهم بد من ان ينصرفوا.

وذهب الغلام من غده مع اصحابه الى حلقة اخرى كان يُقرا فيها شرح الاشموني ، يقرؤه استاذ مشهور من اساتذة الشرقية ايضاً . فوقف الغلام على الحلقة لحظة لا تتجاوز الدقائق الخمس ، ولكنه سمع فيها هذه اللزمة يعيدها الشيخ كلما انتقل من جملة الى جملة "اخص على بلدي". فضحك الغلام وضحك اصدقاؤه وانصرفوا . وازمع الغلام وصديق له ان يدرسا النحو مستقلين ، وان يدرساه في مصادره الاولى ، فقرآ كتاب المفصل للزمخشري ، ثم كتاب سيبويه ، ولكن هذه قصة اخرى.





ولم يكن حظه في المنطق خيراً من حظه في الفقه والنحو . لقد احب المنطق حباً شديداً حين كان يسمع شرح السيد على ايساغوجي من استاذه ذلك الشاب في العام الماضي. فاما في هذا العام فقد جلس لامثاله من اوساط الطلاب علم من اعلام الازهر الشريف ، وامام من ائمة المنطق والفلسفة فيه ، وكان معروفاً بين كبار الطلاب بهذا الذكاء الظاهر الذي يخدع ولا يغني شيئاً ، وكان معروفاً بهذه الفصاحة التي تبهر الاذن ولا تبلغ العقل . وكان يؤثر عنه انه كان يقول "مما من الله علي به اني استطيع ان اتكلم ساعتين فلا يفهم احد عني شيئاً ولا افهم انا عن نفسي شيئاً . " كان يرى ذلك مزية وفخراً . ولكن لم يكن بد للطالب الذي يقدر نفسه من ان يجلس اليه ويسمع منه . وقد جلس للطلاب بعد صلاة المغرب يقرأ لهم شرح الخبيصي على تهذيب المنطق . وذهب اليه صاحبنا وسمع منه درساً ودرساً ، وكانت حلقته عظيمة حقاً تكتظ بها القبة في جامع محمد بك . وكان الغلام يسبق صلاة المغرب فيجلس في اقرب مكان من كرسي الاستاذ . وكان الاستاذ جهوري الصوت قد احتفظ بلهجة الصعيد كاملة . وكان شديد النشاط كثير الحركة . وكان اذا ساله طالب رد عليه ساخراً منه ، فان الح الطالب في السؤال ثار هو به وجعل يقول له في حدة : "اسكت ياخاسر ، اسكت ياخنزير!" وكان يفخم الخاء في الكلمتين الى اقصى ما يستطيع فيه ان يبلغ من التفخيم .

وقد استقام للشيخ وللطلاب امرهم حتى اتمموا قسم التصورات . فلما بلغوا في كتابهم المقصد الثاني في التقصديقات لقى الغلام من نفسه ومن شيخه بلاء عظيماً ، فاضطر الى ان يختار له من الغد مكاناً بعيداً عن الشيخ ، وما زال يتاخر يوماً بعد يوم في مجلسه حتى بلغ باب القبة ، فحرج منه ذات ليلو ، ولم يدخله بعد ذلك.

لقى الغلام بلاء من نفسه لم يذكره قط الا ضحك منه ضحكاً شديداً ، واضحك منه اخاه واصدقائه جميعاً . فقد جلس الشيخ على كرسيه واخذ في القراءة ، فقال : "المقصد الثاني في التصديقات" يقلقل القاف ويفخم الصاد ، ويمد الالفات والياءات مداً متوسطاً ، ثم يعيد هذه الكلمات نفسها فيقلقل القاف ويفخم الصاد ويطيل مد الالف والياء في الثاني ، ولكنه لا يقول " في التصديقات" وانما يقول "في مين؟" فلا يرد عليه احد . فيرد على نفسه ويقول "في التصديقات" ثم يعيد الكلمة نفسها على هذا النحو نفسه ، فاذا انتهى الى قوله "في مين" ولم يرد عليه احد ، ضرب بظهر يده في جبهة الغلام وهو يقول : "ردوا ياغنم ، ردوا يابهائم ، ردوا ياخنازير!". يفخم الغين والخاء الى اقصى ما يستطيع فمه ان يبلغ من التفخيم ، فيقول الطلاب جميعاً : "في التصديقات."

لقى الغلام من نفسه عناء شديداً ، فقد كان هذا كله خليقاً ان يضحكه ، وكان يخاف ان يضحك بين يدي الاستاذ . ولقى من شيخه بلاءاً عظيماً بهذه الضربات التي كانت تتوالى على جبهته بين حين وحين. ومهما يكن من شيء فقد تحول الغلام عن هذا الدرس ولم يتجاوز بالمنظق عند هذا الشيخ باب القضايا .

تحول عن هذا الدرس في اثناء العام ، وقرر ان يحضر مكانه درساً في التوحيد كان يلقيه شيخ جديد حديث الظفر بدرجة العالمية . وكان اصدقاؤه من كبار الطلاب يذكرونه بالظرف الشديد والذكاء المتوسط وحلاوة الصوت وحسن الالقاء ، ويقولون: ان علمه يخدع من حدثه او سمع عنه ، فاذا تعمقه لم يجد عنده شيئاً . وكان يقرأ شرح الخريدة ومتنها للدردير. فسمع الغلام منه درساً واعجب بصوته والقائه وظرفه ، وجعل ينتظر ان يعجب بعلمه وفنقلته . ولكن الشيخ صُرف عن الدرس لانه نقل من القاهرة وارسل الى مكان بعيد تولى فيه منصب القضاء ، فلم يتح للغلام ان يعلم علمه ، ولا ان يقضي في امره بشيء الا انه كان لبقاً ظريفاً حلو الصوت عذب الحديث .

واذاً فقد ضاعت السنة في حقيقة الامر على الغلام ، ولم يحصل فيها من العلم شيئاً جديداً ، الا ما كان يقرؤه في الكتب ويسمعه من اولئك الطلاب الكبار وهم يطالعون او يتناظرون .

فلما عاد الى الازهر عاد اليه ضيق النفس به ، شديد الزهد فيه ، حائراً في امره لا يدري ماذا يصنع : لا يستطيع ان يقيم في الريف ، وماذا يفعل في الريف ! ولا يجد نفعاً من اقامته في القاهرة واختلافه الى الشيوخ .



[18]

وفي الحق ان اقبال الفتى على درس الادب لم يصرفه عن علومه الازهرية اول الامر، فقد كان يظن انه يستطيع الملاءمة في نفسه بين هذين اللونين من الوان المعرفة . وهو لم يرسل الى القاهرة ولم ينسب الى الازهر ليكون اديباً ينظم الشعر او ينشيء النثر . وانما ارسل الى القاهرة وانتسب الى الازهر ليسلك طريقه الازهرية الخالصة ، حتى يبلغ الامتحان ويظفر بالدرجة ، ويسند ظهره الى عمود من الاعمدة القائمة في ذلك المسجد العتيق ، ويتحلق الطلاب من حوله فيسمعوا منه درساً في الفقه او في النحو او فيهما جميعاً .

كذلك كان يتمنى ابوه ،وبذلك كان يتحدث الى الاسرة في شيء من الامل والاعجاب بابنه هذا الشاذ الغريب. وكذلك كان يريد اخوه ، وكذلك كان يريد هو . وماذا كان يمكن ان يريد غير ذلك وقد فرضت الحياة على امثاله من المكفوفين الذين يريدون ان يحيوا حياة محتملة احدى اثنتين : فاما الدرس في الازهر حتى تنال الدرجة وتضمن الحياة بهذه الارغفة التي تؤخذ في كل يوم ، وبهذه القروش التي تؤخذ آخر الشهر لا تزيد عن خمسة وسبعين قرشاً ان كانت الدرجة الثالثة ، ولا عن مائة قرش ان كانت الدرجة الثانية ، ولا عن خمسين ومائة قرش ان كانت الدرجة الاولى . واما ان يتجر بالقرآن فيقراه في المآتم والبيوت كما انذره بذلك ابوه في وقت من الاوقات.

فلم يكن للفتى بد اذن من ان يمضي في طريقه الازهرية حتى يبلغ غايتها . وكانت هذه الطريق تتشعب الى شعبتين اذا قضى الطالب ثلاثة اعوام او اربعة في الازهر : احدهما علمية وهي الاختلاف الى الدروس والتنقل في مراحل العلم . وكان الفتى ماضياً فيها ، اقبل عليها مشغوفاً بها ، ثم فترت همته . ثم ازدراها وانصرفت عنها نفسه حين استياس من الاساتذة وساء ظنه بالشيوخ.

والثانية مادية وكانت تتالف من مراحل ثلاث: مرحلة المنتسب ، ومرحلة المنتظر ، ومرحلة المستحق ، اما مرحلة المنتسب فهي المرحلة التي يبدا الطالب بها حياته الازهرية بعد ان يتم تقييده في سجلات الازهر. ولم يكن له بد من ان ينتسب الى احد الاروقة . وقد انتسب صاحبنا كما انتسب اخوه الى رواق الفشنية . واما مرحلة المنتظر فقد كانت المرحلة الثانية ، ينتقل اليها الطالب بعد ان يقيم اعواماً في الازهر ، وسبيله الى ذلك ورقة يكتبها ويرفعها الى شيخ الرواق يعين فيها ما انفق في الازهر من عام وما حضر فيه من درس ، ويشهد على صدقه فيما سجل فيها شيخان من شيوخه ، ويطلب الى شيخ الرواق ان يقيد اسمه بين اسماء المنتظرين ، حتى اذا خلا مكان بين المستحقين للجراية ارتقى اليه فبلغ المرحلة الثالثة ونال جرايته رغيفين او ثلاثة او اربعة ، على اختلاف بين الاروقة في ذلك .

فلم يكن بد لصاحبنا من ان يرقى الى مرحلة المنتظرين ، وقد كتب الورقة وختمها بالجملة التي كانت شائعة اذ ذاك "جعلكم الله ملجأ للقاصدين."

وشهد شيخان انه لم يقل في هذه الورقة الا حقاً . وذهب الى الشيخ في داره فرفع اليه الورقة بعد ان قبل يده وانصرف. فانتظر وطال الانتظار ، ولم يظفر بالجراية قط في هذا الرواق . ولكن ارتقاءه الى مرحلة المنتظرين ارضى اباه وملأ فمه فخراً على كل حال .

وبينما كان ينتظر في طائل او في غير طائل خرج الاستاذ الامام من الازهر في تلك القصة المعروفة ، وبعد تلك الخطبة المشهورة التي القاها الخديوي على بعض العلماء .

وكان الفتى يظن ان تلاميذ الشيخ ، وكانوا كثيرين يكتظ بهم الرواق العباسي في كل مساء ، سيحدثون حدثاً ، وسينبئون الخديوي بان شباب الازهر قد تغيروا ، وبانهم سيذوذون عن شيخهم ، وسيبذلون في سبيل ذلك لا اوقاتهم وحدهم بل ارواحهم .

ولكن الشيخ ترك الازهر واتخذ داراً للافتاء ، فلم يزد تلاميذه على ان حزنوا وتحدثوا بالاسف فيما بينهم وبين انفسهم ، وزار قليل منهم الشيخ في داره بعين شمس ، وانصرف عنه اكثرهم ، وانتهى الامر عند هذا الحد . فامتلات نفس الفتى حزناً وغيظاً ، وساء ظنه بالطلاب كما ساء ظنه بالشيوخ ، ولم يكن مع ذلك قد عرف الاستاذ الامام او قدم اليه .

وبعد ذلك بقليل توفى الاستاذ الامام ، فاضطربت مصر لوفاته ، وكانت البيئة الازهرية اقل البيئات المصرية اضطراباً لهذا الحادث الجلل. واسف تلاميذ الشيخ ، ولعل قليلاً منهم سفحوا بعض الدموع ، ولكنهم اقبلوا بعد الصيف على دروسهم ، وكأن الشيخ لم يمت ،او كأن الشيخ لم يكن ، لولا ان الخاصة من تلاميذه كانوا يذكرونه بالخير بين حين وحين .

وكذلك عرف الفتى في الم لاذع ولاول مرة في حياته الناشئة ان ما يقدم الى عظماء الرجال من الوان الاكبار والاجلال وضروب التملق والزلفى لغو لا طائل تحته ولا غناء فيه ، وان وفاء الناس ينحل في اكثر الاحيان الى كلام لا يفيد .

وزاد سوء الظن بالناس في نفس الفتى قوة ما لاحظه في بعض البيئات من انتهاز وفاة الشيخ فرصة للتجار باسمه ، واستغلال الصلة به ، يتوسلون الى ذلك بالشعر حيناً وبالنثر حيناً آخر، وبالاعلان في الصحف والمجلات دائماً .

ولكن الفتى احس شيئاً آخر زاد به انحرافاً عن الازهر وانصرافاً عن شيوخه وطلابه . احس ان الذين بكوا الشيخ صادقين وحزنوا عليه مخلصين لم يكونوا من اصحاب العمائم ، وانما كانوا من اصحاب الطرابيش ، فوجد في نفسه ميلاً خفياً الى ان يقرب من اصحاب الطرابيش هؤلاء ، والى ان يتصل ببيئاتهم بعض الاتصال . ومن له بذلك وهو فتى ضرير قد فُرضت عليه الحياة الازهرية فرضاً فلم يجد عنها منصرفاً .

وكان الاستاذ الامام شيخاً لرواق الحنفية ، فلما خرج من الازهر او لما خرج من الحياة اصبح خلفه على الافتاء خلفاً له على الرواق ايضاً.

كان ابن المفتي الجديد استاذاً لصاحبنا الفتى ، سمع عليه في صباه شرح السيد الجرجاني على ايساغوجي في المنطق ، وكان يقوم عن ابيه بامر الرواق . فاغرى الفتى بالانتساب الى رواق الحنفية والانتظار فيه . وكانت الجراية في رواق الحنفية ايسر منالاً واكثر عدد ارغفة منها في غيره من الاروقة ، ولم يكن الانتساب الى رواق الحنفية ايام الاستاذ الامام سهلاً ولا يسيراً وانما كان الامتحان سبيلاً اليه . وقد احتفظ الفتي الجديد بهذه السنة ، وكان ابنه هو الذي يمتحن المتقدمين للانتساب في موعد بعينه في العام . فقيل لصاحبنا الفتى مالك لا تنتسب الى هذا الرواق وقد انتسب اليه اخوك من قبل واصحابه النجباء ايام الاستاذ الامام ، وهم ياخذون منه جراياتهم اربعة ارغفة لكل واحد منهم في كل يوم. وزين ذلك له وحثه عليه اخوه واصحابه . وارسل الى الامتحان ذات مساء ومعه كتاب الى الممتحن. فلما ادخل الفتى على الممتحن حياه واخذ منه الكتاب فنظر فيه ثم القى عليه سؤالاً ورد الفتى جواب السؤال حطأ او صواباً لم يدر ، ولكن الممتحن قال له : "انصرف ياعلامة" فانصرف راضياً ، ولم يمض الا وقت طويل حتى اصبح الفتى مستحقاً ونال رغيفين في كل يوم ، فكثر الخير في الغرفة ، وفرحت الاسرة في الريف.

على ان الفتى لم ينل رغيفين فحسب ، وانما نال معهما خزانة في الرواق كانت آثر عنده من الرغيفين . فقد كان يستطيع اذا دخل الازهر في الصبح ان يذهب الى خزانته فيضع فيها نعليه ورغيفيه او احدهما ، ويقضي نهاره حراً لا يعني بهاتين اللتين كان او احدهما ، ويقضي نهاره حراً لا يعني بهاتين النعلين اللتين كان يبذل جهداً غير قليل لحمايتهما من عدوان الخاطفين والسارقين . وما اكثر ما كانت تسرق النعال في الازهر! وما اكثر ما كانت تلصق على جدران الازهر من حول الصحن اوراق يعلن فيها اصحابها ان نعلانهم قد ضاعت ، وان من ظفر بها فردها الى صاحبها في مكان كذا او رواق كذا ، فله الاجر والثواب ، ومن احتفظ بها متعدياً قطعه الله من هذا المكان. كان الفتى اذاً سعيدا بخزانته ورغيفيه ، ولكنه لم يكن سعيداً بما كان يحصل من العلم او يسمع من الدرس . وقد كان يكره نفسه اكراهاً على ان يسمع بعد الفجر درساً في التوحيد كان يلقيه الشيخ راضي رحمه الله ، وكان يقرأ كتاب المقاصد ، ويسمع في الصبح درس البلاغة على الشيخ عبد الحكيم عطا وكان يقرأ شرح السعد .

وكان درس الفقه يسلي الفتى ويلهيه بما كان يسمع من غناء الشيخ اذا خلى الطلاب بينه وبين الغناء ، وحدة الشيخ ونكته الازهرية اذا قطع الطلاب عليه غناءه فجادلوه في بعض ما كان يقرأ او كان يقول وربما كان الشيخ ينشد طلابه احياناً من شعره اذا صفا وطابت نفسه للانشاد . وقد حفظ عنه الفتى بيتاً من الشعر لم ينس قط صوت الشيخ وهو يتغنى به مترنحاً :

كأن عمته من فوق هامته شنف من التبن محمول على جمل

وقد روى الفتى هذا البيت لاخيه واصحابه فتضاحكوا وتذاكروا وتناشدوا بعضه. وروى الفتى الى البيت السابق بيتاً آخر ليس اقل منه طرافة وظرفاً ، وهو مطلع قصيدة قالها الشيخ رحمه الله في رثاء بعض العلماء ، وهو :

خطب جليل بعد موتك يانبي فقد الائمة كالامام المغربي

وقد روى المصريون جميعاً عن الشيخ بعد ذلك العهد باعوام طوال بيتاً آخر لم ينسه ظرفائهم بعد ، وقد سار فيهم كما تسير الامثال ، وهو:

انا مع الامرا والوفد والوزرا على وفاق له في القلب تاييد

وكان الفتى ربما جادل الشيخ فاطال الجدال ،وقد اسرف الجدال مرة في الطول حتى تاخر الدرس عن ابانه ، وتصايح الطلاب من جوانب المسجد الحسيني بالشيخ ان حسبك فقد نفذ الفول ، فاجابهم الشيخ في غنائه الظريف : لا والله لا نقوم حتى يقتنع هذا المجنون، ولم يكن بد للمجنون من ان يقتنع ، فقد كان هو ايضاً حريصاً على ان يدرك الفول قبل ان ينفذ .

وكان درس البلاغة اثيراً عند الفتى ، لا لما كان يحصل فيه من علم ، فقد مضى منذ وقت طويل اقبال الفتى على الدروس في الازهر لتحصيل العلم ، وانما كان يقبل عليه اداء للواجب وقطعاً للوقت والتماساً للفكاهة . وكان درس البلاغة اثيراً عنده لانه كان يجد فيه هذه الفكاهة ، ولان الشيخ ، نضر الله وجهه ، كان سمح النفس رضي الخلق مخلصاً في درسه للعلم وللطلاب . ولانه بعد ذلك كان يكلف نفسه في الفهم والافهام جهداً عظيماً وعناء ثقيلاً . وكان اذا بلغ منه الجهد رفه على نفسه بهذه الجملة يوجهها الى طلابه بين حين وحين ، في لهجة منياوية عذبة مضحكة : "فاهمين ياسيادي؟"

وكان اذا انتصف الدرس اشفق على نفسه وعلى الطلاب فقطع القراءة والتفسير واقام دقائق صامتاً لا ينطق ، واقبل على نشوقه فالتهم منه بانفه ما استطاع في تؤدة وروية واناة. وكان الطلاب ينتهزون هذه الفرصة ليطفئوا ما كان يتاجج في بطونهم من نار الفول والطعمية والكراث يقدح من اقداح الشراب الذي كان يطوف به الباعة عليهم في اثناء الدروس ، ويدعونهم دعاء لطيفاً بهذا النقر الحفيف الذي كان يمس به الزجاج فيبعث الى الاذات صوتاً خفيفاً ظريفاً .

غضب القصر على شيخ كبير من شيوخ الازهر ، فمنع الشيخ من القاء دروسه ، ورأى الناس ان في هذا المنع ظلماً للشيخ وعدواناً على حقوق الازهر ، ولكنهم لم يصنعوا شيئاً ، وكان الازهريون اشدهم فتوراً وخنوعاً ، واكن صديقاً من اصدقاء الفتى اقبل عليه ذات يوم فقال له : الست ترى فيما حل بشيخنا ظلماً وعدواناً؟ قال الفتى: بل واي ظلم واي عدوان؟ قال له الصديق : الا تشارك في الاحتجاج على هذا الظلم؟ قال الفتى: وكيف السبيل الى ذلك؟ قال الصديق: نجمع نفراً من اصدقائنا الذيم كانوا يسمعون دروس الشيخ ونسعى اليه نتمنى عليه ان يمضي في القاء دروسه علينا في بيته ، فاذا قبل انتفعنا بالدرس واعلنا ذلك في الصحف فعرف الظالمون للازهر ان بين الازهريين من لا يقرون الظلم ولا يذعنون له . فقال الفتى : هذا حسن.

واجتمع نفر من طلاب الشيخ فسعوا اليه بما ارادوا ، واجابهم الى ما طلبوا ، فاعلنوا ذلك في الصحف ، واعلنوا ان الشيخ سيقرأ لهم "سلم العيون" في المنطق و"مسلم الثبوت" في الاصول ، يقسم الاسبوع بين هذين الكتابين .

وبدأ الشيخ دروسه في بيته ، وكثر الطلاب المقبلون على هذه الدروس حين علموا بها ، ورضى هؤلاء الشباب عن انفسهم وعن شجاعتهم ، وعاد الى الفتى شيئ غير قليل من الامل:

ولكنه في ذات يوم جادل الشيخ في بعض ما كان يقول . فلما طال الجدال عضب الشيخ وقال للفتى في حدة ساخرة : "اسكت يا اعمى ما انت وذاك!" فغضب الفتى واجاب الشيخ في حدة : "ان طول اللسان لم يثبت قط حقاً ولم يمح باطلاً." فوجم الشيخ ووجم الطلاب لحظة ، ثم قال الشيخ لطلابه: "انصرفوا اليوم فهذا يكفي."

ولم يعد الفتى منذ ذلك اليوم الى دروس الشيخ ، بل جهل كل ما كان من امرها. وكذلك عاد الفتى الى ياسه من الازهر ، ولم يبق له امل الا في درس الادب الذي آن وقت للتحدث عنه وعن آثاره البعيدة في حياة هذا الشاب.
[19]

لم يكد الفتى يبلغ القاهرة ويستقر فيها حتى سمع ذكر الادب والادباء ، كما سمع ذكر العلم والعلماء . سمع حديث الادب بين هؤلاء الطلاب الكبار حين كانوا يذكرون الشيخ الشنقيطي ، رحمه الله ، وحماية الاستاذ الامام به وبره له . وقد وقع هذا الاسم الاجنبي من نفس الصبي موقعاً غريبا. وزاد موقعه غرابة ما كان الصبي يسمعه من اعاجيب الشيخ واطواره الشاذة وآرائه التي كانت تضحك قوماً وتغضب قوماً آخرين .

كان اولئك الطلاب الكبار يتحدثون بانهم لم يرو قط ضريباً للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سنداً ومتناً عن ظهر قلب . وكانوا يتحدثون بحدته وشدته وسرعته الى الغضب وانطلاق لسانه بما لا يطاق من القول . وكانوا يضربونه مثلاً لحدة المغاربة . وكانوا يذكرون اقامته في المدينة ورحلته الى القسطنطينة ، وزيارته للاندلس ، وربما تناشدوا شعره في بعض ذلك. وكانوا يذكرون ان له مكتبة غنية بالمخطوط والمطبوع في مصر وفي اوربا . وانه لا يقنع بهذه المكتبة وانما ينفق اكثر وقته في دار الكتب قارئاً او ناسخاً. ثم كانوا يذكرون بعد ذلك متضاحكين قصته الكبرى تلك التي شغلته بالناس وشغلت الناس به ، وعرضته لكثير من الشر والالم ، وهي رايه ان "عمر" مصروف لا ممنوع من الصرف.

وكان الصبي يسمع حديث "عمر" هذا فلا يفهم منه شيئاً اول الامر ، ولكنه لم يلبث ان فهمه في وضوح حين تقدم في درس النحو وعرف المصروف والممنوع من الصرف ، وعرف غير المتمكن والمتمكن ، والمتمكن الامكن من الاسماء. وكان اولئك الشباب يذكرون مناظرات الشيخ مع جماعات من علماء الازهر في صرف "عمر" هذا او منعه من الصرف ، ويتحدثون ضاحكين بان العلماء اجتمعوا للشيخ ذات يوم في الازهر يراسهم شيخ الجامع ، فطلبوا اليه ان يعرض عليهم رايه في صرف عمر. فقال الشيخ في لهجته المغربية المتحضرة: لا اعرض عليكم هذا الرأي حتى تجلسوا مني مجلس التلاميذ من الاستاذ . فتردد الشيوخ ، ولكن واحداً منهم ماكراً ماهراً نهض عن مجلسه وسعى حتى كان بين يدي الشيخ فجلس على الارض متربعاً ، واخذ الشيخ في عرض رايه فقال : انشد الخليل

فقال:

ياايها الزاري على عُمرٍ قد قلت فيه غير ما تعلم

فقال الشيخ الجالس مجلس التلميذ بصوته الماكر النحيف : لقد رايت الخليل امس فانشدني البيت على هذا النحو: "ياايها الزاري على عُمرَ " ولم يدعه الشيخ الشنقطيطي يتم انشاده، وانما قطع عليه الانشاد محتداً وهو يقول : "كذبت ، كذبت! لقد مات الخليل منذ قرون طويلة فكيف يمكن لقاء الموتي؟!" وجعل بعد ذلك يشهد الشيوخ على تعمد صاحبهم للكذب ، وعلى جهله بالنحو والعروض . وضحك القوم وتفرق المجلس دون ان يقضى في امر "عمر" اممنوع من الصرف كما يقول النحاة ام مصروف كما يقول هذا الشيخ الغريب. وكان الصبي يسمع هذا الكلام فيحفظه ، ويجد اللذة فيما فهم منه ، ويعجب بما لم يفهم .

وكان الشيخ يقرأ لبعض الطلاب هذه القصائد التي تعرف بالمعلقات ، وكان اخر الصبي وبعض اصدقائه يسمعون هذا الدرس في يوم الخميس او في يوم الجمعة من كل اسبوع ، وكانوا يعدون هذا الدرس كغيره من الدروس . وكذلك سمع الصبي لاول مرة

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل.

وما اسرع ما انصرف هؤلاء الطلاب الكبار عن هذا الدرس الذي لم يسيغوه! ولكن اخا الصبي حاول ان يحفظ المعلقات ، فحفظ منها معلقة امريء القيس ومعلقة طرفة. كان يردد الابيات بصوت مرتفع والصبي يسمع فيحفظ ، ثم لم يلبث ان اشرك الصبي معه في الحفظ. لكنه لم يتجاوز هاتين المعلقتين وانصرف الى دروسه الازهرية الاخرى. واستقرت المعلقتان في نفس الصبي يحفظهما ولا يفهم منهما الا قليلاً.

وكان هؤلاء الطلاب يتحدثون عن درس آخر كان يلقى في الازهر ليعلم الازهريين صناعة الانشاء. وكان يلقيه شيخ سوري من خاصة الاستاذ الامام ، وقد اختلف اليه هؤلاء الطلاب فاشتروا الدفاتر وكتبوا موضوعات الانشاء ، ولكنهم عدلوا عنه بعد قليل كما عدلوا عن درس الشنقيطي . واقبل اخو الصبي ذات يوم ومعه مقامات الحريري ، فجعل يحفظ بعضها رافعاً صوته بالقراءة والصبي يحفظ صامتاً ، ثم اشركه في الحفظ كما اشركه في حفظ المعلقات ، ومضيا في ذلك حتى حفظا عشر مقامات . ثم انصرف الشيخ الفتى الى الاصول والفقه والتوحيد ، كما انصرف عن الملعقات ودرس الانشاء.

واقبل مرة اخرى ومعه كتاب ضخم يسمى نهج البلاغة فيه خطب الامام علي وقد شرحها الاستاذ الامام نفسه . فجعل يحفظ من هذه الخطب ويحفظ الصبي معه ، ثم اعرض عن هذا الكتاب كما اعرض عن غيره بعد حفظ الصبي طائفة من الخطب.

وصنع الشيخ الفتى هذا الصنيع نفسه بمقامات بديع الزمان الهمذاني . ولم ينس الصبي قط فصيدة ابي فراس :

اراك عصي الدمع شيمتك الصبر اما للهوى نهي عليك ولا امر

فقد اقبل بها اخوه وقد طبعت مشطرة او مخمسة ، شطرها او خمسها بعض الازهريين ، فجعل يقرا في هذه القصيدة ، ثم لم يلبث ان اعرض عن تشطير الازهري او تخميسه واخذ في حفظ القصيدة نفسها مع اخيه : وانما ذكر الصبي هذه القصيدة لانه صادف في اثنائها بيتاً كان يقع في اذنه موقعاً غريباً ، وهو قول ابي فراس:

بدوت واهلي حاضرون لانني ارى ان داراً لست من اهلها قفر

فقد قراه الشيخ الفتى واحفظه اخاه: لانني ارى دار الست من اهلها قفر. وكان الصبي يسال نفسه عن معنى هذا البيت ، كما كان يرى غريباً ان تاتي كلمة الست في بيت من الشعر . فلما تقدمت به السن وتقدمت به المعرفة ايضاً قرأ البيت على وجهه ففهمه ، وعرف كذلك ان كلمة الست ربما جاءت في شعر المحدثين من العباسيين ، ونثرهم ايضاً .

وكذلك اتصل صاحبنا بالادب على هذا النحو المضطرب المختلط ، وجمع في نفسه اطرافاً من هذا الخليط من الشعر والنثر . ولكنه لم يقف عند شيء من ذلك ولم يفرغ له ، وانما كان يحفظ منه ما يمر به حين تتاح له الفرصة ، ثم يمضي نشاته وفناقله .

وفي ذات يوم من اول العام الدراسي اقبل اولئك الشباب متحمسين اشد التحمس لدرس جديد يلقى في الضحى ، ويلقى في الرواق العباسي ، ويلقيه الشيخ محمد المرصفي في الادب ، وسموا ديوان الحماسة .

وكانوا قد فتنوا بهذا حين سمعوه فلم يعودوا الى غرفاتهم حتى اشتروا هذا الديوان ، وازمعوا ان يحضروا الدرس وان يعنوا به وان يحفظوا الديوان نفسه . واسرع اخو الصبي كعادته دائماً ، فاشترى شرح التبريزي لديوان الحماسة وجلده تجليداً ظريفاً ، وزين به دولابه ذاك، وان كان قد نظر فيه بين حين وحين . وقد جعل اخو الصبي يحفظ ديوان الحماسة ، وربما قرأ عليه شيئاً من شرح التبريزي ، وكان يقرؤه على نحو نحو ما كان يقرأ كتب الفقه والاصول ، ويتفهمه على نحو ما يتفهم هذه الكتب.

وكان الصبي يحس ان هذا الكتاب لا ينبغي ان يقرأ على هذا النحو ولا ان يُفهم على هذا النحو . كان الشيخ الفتى واصحابه يرون ديوان الحماسة متناً ، وكتاب التبريزي شرحاً ، وكانوا ياسفون على ان احداً لم يكتب على هذا الشرح حاشية . وكانوا كثيراً ما يقصون حديث الشيخ اليهم وعبثه بهم وتندره على اساتذتهم وعلى كتبهم الازهرية .

يقصون ذلك ضاحكين منه معجبين به ، ماضين على الرغم منه في درسهم الازهري لا يفترون عنه ولا يقصرون فيه .

وكان صاحبنا يسمع احاديثهم ، فيبتهج لها اشد الابتهاج ، ويشتاق الى هذا الدرس اشد الشوق . ولكن اولئك الشباب لم يلبثوا ان اعرضوا عن هذا الدرس كما اعرضوا عن غيره من دروس الادب ، لانهم لم يروه جداً ، ولانه لم يكن من الدروس الاساسية في الازهر ، وانما كان درساً اضافياً من هذه الدروس التي انشاها الاستاذ الامام ، والتي كانت تسمى دروس العلوم الحديثة ، وكانت منها الجغرافيا والحساب والادب . ولان الشيخ كان يسخر منهم فيسرف في السخرية ، ويعبث بهم فيغلوا في العبث.

ساء ظنه بهم ، فرآهم غير مستعدين لهذا الدرس الذي يحتاج الى الذوق ولا يحتمل الفنقلة . وساء ظنهم به ، فرأوه غير متمكن من العلم الصحيح ولا بارع فيه ، وانما هو صاحب شعر ينشد وكلام يقال ، ونكت تضحك ثم لا يبقى منها شيء.

وكانوا مع ذلك حراصا على ان يحضروا هذا الدرس ، لان الاستاذ الامام كان يحميه ، ولان الشيخ كان مقرباً من الاستاذ الامام ، ينتهز كل فرصة لينشيء في مدحه قصيدة يرفعها اليه ثم يمليها على الطلاب ، وياخذ بعضهم بحفظها على انها من جيد الشعر ورائعة . وكانوا يرونها جيدة رائعة لانها كانت في مدح الاستاذ الامام.

وقد بذلوا ما استطاعوا من الجهد للمواظبة على هذا الدرس ، ولكنهم لم يطيقوا عليه صبراً ، فانصرفوا عنه. وانقطع عن صاحبنا ذكر الادب بعد ان حفظ من ديوان الحماسة جزءاً صالحاً ، ثم اشيع ذات يوم ان الشيخ المرضفي سيخصص يوميم من ايام الاسبوع لقراءة المفصل للزمخشري في النحو. فسعى صاحبنا الى هذا الدرس الجديد. ولم يسمع للشيخ مرة ومرة حتى احبه وكلف به وحضر درس الادب ف ايامه في الاسبوع ، ولزم الشيخ منذ ذلك الوقت.

وكان الصبي قوي الذاكرة ، فكان لا يسمع من الشيخ كلمة الا حفظها ، ولا رأياً الا وعاه ، ولا تفسيرأ الا قيده في نفسه . وكثيراً ما كان يعرض البيت وفيه كلمة قد مضى تفسيرها او اشارة الى قصة قد قصها الشيخ فيما قدم من درسه ، فكان صاحبنا يعيد على الشيخ ما حفظ من قصصه وتفسيره وما قيد من آرائه وخواطره ونقده لصاحب الحماسة وشراحها ، وتصحيحه لرواية ابي تمام ، واكماله للمقطوعات التي كان ابو تمام يرويها .

واذا الشيح يحب الفتى ويكلف به ، ويوجه اليه الحديث في اثناء الدرس ، ويدعوه اليه بعد الدرس فيصحبه الى باب الازهر ثم يدعوه الى ان يصحبه في بعض الطريق . وقد دعاه ذات يوم الى ان يُبعد معه في السير ، حتى انتهى الشيخ وتلميذه هذا وتلاميذ آخرون الى قهوة فجلسوا فيها ، وكان هذا اول عهد الفتى بالقهوات . وقد طال المجلس منذ صليت الظهر دعا المؤدن الى صلاة العصر . وعاد الفتى سعيداً مغتبطاً قوي الامل شديد النشاط.

ولم يكن للشيخ حديث الى تلاميذه اذا تجاوز درس الادب الا الازهر وشيوخه وسوء مناهج التعليم فيه . وكان الشيخ قاسياً اذا طرق هذا الموضوع . وكان نقده لاذعاً وتشنيعه على اساتذة وزملائمه اليماً حقاً . ولكنه كان يجد من نفوس تلاميذه هوى ، وكان يؤثر في نفس هذا الفتى خاصة ابلغ تاثير واعمقه .

واذا الفتى يؤثر هذا الدرس على غيره من الدروس شيئاً فشيئاً ، ويختص اثنين من التلاميذ المقربين الى الشيخ بمودته ثم بوقته . واذا هم يلتقون اذا كان الضحى فيسمعون للشيخ ، ثم يذهبون الى دار الكتب فيقرءون فيها الادب القديم ، ثم يعودون الى الازهر بعد العصر فيجلسون في هذا الممر بين الادارة والرواق العباسي ، يتحدثون عن شيخهم وعما قرءوا في دار الكتب ، ويعبثون بشيوخهم الاخرين ، ويعبثون بالداخلين والخارجين من الشيوخ والطلاب . فاذا صليت المغرب دخلوا الرواق العباسي فسمعوا درس الشيخ بخيت الذي كان يقرأ في تفسير القرأن مكان الاستاذ الامام بعد ان توفى.

ولكن الفتية لم يكونوا يسمعون للشيخ الذي يقرأ كما كان يسمع له غيرهم من الطلاب ، وانما كانوا يسمعون له ليضحكوا منه وليقيدوا عليه اغلاطه ، وكانت كثيرة ولاسيما حين كان يعرض للغو والادب. وليشنعوا عليه بهذه الاغلاط بعد الدرس ، وليعرضوا هذه الاغلاط من الغد على شيخهم المرضفي ، فيقدموا اليه مادة جديدة للتشنيع على اساتذته وزملائه من الشيوخ .

وقد كانت نفوس هؤلاء الفتية ضيقة بالازهر ، فزادها الشيخ ودرسه بها ضيقاً . وكانت نفوسهم شيقة الى الحرية ، فحط الشيخ ودرسه عنها القيود والاغلال.

وما اعرف شيئاً يدفع النفوس ، لا سيما النفوس الناشئة ، الى الجرية والاسراف فيها احياناً كالادب ، وكالادب الذي يدرس على نحو ما كان الشيخ المرضفي يدرسه لتلاميذه حين كان يفسر لهم الحماسة او يفسر لهم الكامل بعد ذلك . نقد حر للشاعر اولاً ، وللراوي ثانياً ، وللشرح بعد ذلك ، وللغويين على اختلافهم بعد اولئك وهؤلاء . ثم امتحن للذوق ورياضة له على تعرف باطن الجمال في الشعر او النثر ، في المعنى جملة وتفصيلاً ، وفي الوزن والقافية وفي مكان الكلمة بين اخواتها . ثم اختبار للذوق الحديث في هذه البيئة التي كان يلقى فيها الدرس ، وموازنة بين غلظة الذوق الازهري ورقة الذوق القديم ، وبين كلال العقل الازهري ونفاذ العقل القديم ، وانتهاء من هذا كله الى تحطيم القيود الازهرية جملة ، والى الثورة على الشيوخ في علمهم وذوقهم وفي سيرتهم واحاديثهم بالحق في كثير من الاحيان ، والاسراف والتجني في بعض الاحيان .

ومن اجل هذا لم يثبت حول الشيخ من تلاميذه الذين كثروا اول الامر الا نفر قليل ، وامتاز منهم هؤلاء الثلاثة خاصة ، فكونوا عصبة صغيرة ولكنها لم تلبث ان بعد صوتها في الازهر ، وتسلمه بها الطلاب والشيوخ ، وتسامعوا خاصة بنقدها للازهر وثورتها على التقاليد ، وربما كانت تنظم من الشعر في هجاء الشيوخ والطلاب واذا هي بغيضة الى الازهريين مهيبة لهم في وقت واحد.

ولم يكن الشيخ استاذاً فحسب ، ولكنه كان اديباً ايضاً ، ومعنى ذلك انه كان يصطنع وقار العلماء اذ لقى الناس او جلس للتعليم في الازهر ، فاذا خلا الى اصدقائه وخاصتهم عاش معهم عيشة الاديب ، فتحدث في حرية مطلقة عن كل انسان وعن كل موضوع ، وروى لخاصته من شعر القدماء ونثرهم ما يثبت انهم كانوا احراراً مثله ، يقولون في كل شيء وفي كل انسان لا متنطعين ولا متحفظين ، كما كان يقول .

وكان ايسر شيء واهونه ان يذهب الطلاب مذهب شيخهم ولا سيما ، اذا احبوه واكبروه ، ورأوا فيه المثل الاعلى للصبر على المكروه والرضا بالقليل ، والتعفف عما لا يليق بالعلماء والترفع عما كان ينغمس فيه كثير من شيوخ الازهر من الوان السعاية والنميمة والكيد والتقرب الى الرؤساء واصحاب السلطان.

كان تلاميذ الشيخ يرون منه ذلك راى العين ويلمسونه بايديهم ، ويعيشون معه ، في حين كانوا يزورونه في منزله ذلك المتهدم الخرب القديم في حارة قذرة من حارات باب البحر يقال لها "الركراكي" . هناك في اقصى هذه الحارة كان يسكن الشيخ ، يسكن بيتاً قذراً متهدماً ، تدخل فيه من بابه ، فاذا انت في ممر ضيق رطب تنبعث فيه روائح كريهة ، قد خلا من كل شيء الا هذه الدكة الخشبية الضيقة الطويلة العارية التي قد اسندت الى حائط يتساقط منه التراب .

وكان الشيخ ينزل لتلاميذه فيجلس معهم على هذه الدكة ، ولكنه يجلس راضياً مطمئناً ، يسمع لهم باسماً ويتحدث اليهم ارق الحديث واعذبه واصغاه وابراه من التكلف . وربما كان مشغولاً حين يقبل تلاميذه لزيارته ، فيدعوهم الى غرفته ، فيصعدون اليه في سلم متهدم ، ويسلكون اليه دهليزاً خالياً من كل شيء قد انتشر فيه ضوء الشمس . حتى اذا بلغوا غرفته دخلوا على شيخ منحن قد دخل على الارض ، ومن حوله عشرات الكتب يبحث فيها عن مقطوعة يريد ان يتمها ، او بيت يريد ان يفسره ، او لفظ يريد ان يحققه ، او حديث يريد ان يصحح الرأي فيه ، وعن يمينه ادوات القهوة . فاذا دخلوا عليه لم يقم لهم ، وانما تلقاهم مستبشراً فرحاً ، ثم دعاهم الى الجلوس حيث يستطيعون ، ودعا احدهم الى صنع القهوة وادارتها عليه وعليهم . ثم تحدث اليهم لحظات ، ثم دعاهم الى ان يشركوه فيما كان بسبيله من بحث او تحقيق.

ولم ينس الفتى واحد صديقيه انهما زارا الشيخ ذات يوم حين صليت العصر .. فلما صعدا اليه لقيا شيخاً قد جلس على فراش متواضع القي في هذا الدهليز ، والى جانبه امراة محطمة قد انحنت حتى كاد راسها يبلغ الارض والشيخ يطعمها بيده .

فلما راى تلميذيه هش لهما ، وامرهما ان ينتظراه في غرفته شيئاً . ثم اقبل عليهما بعد حين وهو يقول ضاحكاً واضي النفس ، "كنت اعشي امي ".

كان هذا الشيخ اذا خرج من داره صورة الواقار والدعة ، وامن النفس وطمأنينة القلب وصفاء الضمير . وكان صورة الغنى واليسار، لا يحس من يتحدث اليه الا رجلاً قد يُسر عليه في الرزق ، فهو يعيش عيشة امن وهناءة وهدوء.

ولكن تلاميذه وخاصته كانوا يعلمون حق العلم انه كان من اشد الناس فقرا واضيقهم يداً ، وانه كان ينفق الاسبوع او الاسابيع لا يطعم الا خبز الجراية يغمسه في شيء من الملح ، وكان على ذلك يعلم ابنه تعليماً ممتازاً ، ويرعى غيره من ابناءه الذين كانوا يظنون العلم في الازهر رعاية حسنة ، ويدلل ابنته تدليلاً مؤثراً ، يصنع هذا كله براتبه الضئيل الذي لم يكن يتجاوز ثلاثة جنيهات ونصف جنيه . كان من اصحاب الدرجة الاولى ، فكان يتقاضى جنيها ونصف جنيه لذلك ، وكان الاستاذ الامام قد كلفه درس الادب فكان يتقاضى لذلك جنيهين . وكان يستحي ان يقبض راتبه اول الشهر ، ويكره ان يختلط بالعلماء وهم يتهافتون على "المباشر" ليتقاضوا منه رواتبهم ، فكان يدفع خاتمه الى تلميذ من خاصته ليقبض له هذا الراتب الضئيل في الضحى ويؤديه اليه بعد الظهر.

كذلك كان يعيش هذا الشيخ ، وكان تلاميذه يرونه ويشاركونه في حياته تلك البائسة الحرة الممتازة . وكان يرون ويسمعون من امر شيوخ اخرين ما كان يملأ قلوبهم غيظاً وحنقاً ونفوسهم ازدراء واحتقاراً . فاي غرابة في ان يفتتنوا بشيخهم ويتاثروه في سيرته وفي مذهبه وفي ازدرائه للازهريين وثورته بما كان لهم من تقاليد !

لم ينكر تلاميذ الشيخ عليه في ذلك العهد الا انه انحرف ذات مرة يوم عن الوفاء للاستاذ الامام حين تولى الشيخ الشربيني مشيخة الازهر ، فنظم الشيخ قصيدة يمدح فيها الشيخ الجديد ، وكان تلميذاً للشيخ محباً له . وكان الشيخ الشربيني خليقاُ بالحب والاعجاب . واملى الشيخ المرصفي على تلاميذه قصيدته التي مساها ثامنة المعلقات : والتي عارض بها قصيدة طرفة . فلما فرغ من املائها ، والتف حوله تلاميذه ، مضى في الثناء على استاذه ، وعرض بالاستاذ الامام شيئاً ، فرده بعض تلاميذه في رفق ، فارتد اسفاً خجلاً واستغفر الله من خطيئته .

وكذلك اندفع هؤلاء التلاميذ فيما دفعهم اليه حبهم للشيخ وتاثرهم به ، فاسرفوا على انفسهم وعلى شيخهم .

ولم يكتفوا بهذا العبث الذي كانوا يعبثونه بالطلاب ، ولكنهم جعلوا يجهرون بقراءة الكتب القديمة وتفضيلها على الكتب الازهرية . يقرءون كتاب سيبويه او كتاب المفصل في النحر ، ويقرءون كتاب عبد القاهر الجرجاني في البلاغة ، ويقرءون دواوين الشعراء لا يتحرجون في اختيار هذه الدواوين ولا في الجهر بانشاند ما كان فيها من شعر المجون يقولونه احياناً في الازهر . ويقلدون هذا الشعر ويتناشدون ما ينشئون من ذلك اذا التقوا . والطلاب ينظرون اليهم شرزاً ، ويتربصون بهم الدوائر ، وينتهزون بهم الفرص . وربما اقبل عليهم بعض الطلاب الناشئين يسمعون منهم ويتحدثون اليهم ، ويريدون ان يتعلموا منهم الشعر والادب ، فيغيظ ذلك نرءهم من الطلاب الكبار ويزيدهم موجدة عليهم وائتماراً بهم.

وفي ذات يوم كان صاحبنا يعد مع احد صديقيه درس الكامل ، فعرضت لهم هذه الجملة من كلام المبرد : "ومما كفرت العلماء به الحجاج قوله والناس يطوفون بقبر النبي ومنبره : انما يطوفون برمة واعواد." فانكر صاحبنا ان يكون في كلام الحجاج ما يكفي لتكفيره ، وقال لقد اساء الحجاج ادبه وتعبيره ، ولكنه لم يكفر . وسمع بعض الطلاب ذلك فانكروه ، ثم تناقلوه .

وان فتيانا الثلاثة لفي مجلسهم حول الشيخ عند الحكيم عطا واذا هم يدعون الى حجرة الشيخ الجامع ، فيذهبون واجمين لا يفهمون شيئاً .فاذا دخلوا على الشيخ حسونة لم يجدونه وحده وانما وجدوا من حوله اعضاء مجلس ادارة الازهر وهم من كبار العلماء ، فيهم الشيخ بخيت ، والشيخ محمد حسن العدوي ، والشيخ راضي وآخرون . ويلقاهم الشيخ متجهماً ، ثم يامر رضوان رئيس المشدين ان يدعوا من عنده من الطلاب . فيقبل جماعة من الطلاب فيسالهم الشيخ عما عندهم . ويتقدم احدهم فيتهم هؤلاء الفتية بالكفر لمقالتهم في الحجاج ، ثم يقص من امرهم الاعاجي.

وكان هذا الطالب ماهراً حقاً ، فقد احصى على هؤلاء الفتية كثيراً جداً مما كانوا يعيبون به الشيوخ ، ومما كانوا يعيبون به الشيخ بخيت والشيخ محمد حسنين، والشيخ راضي والشيخ الرفاعي ، وكانوا جميعاً حاضرين ، فسمعوا باذانهم آراء هؤلاء الفتية فيهم . وشهد طلاب آخرون بصدق هذا الطالب في كل ما قاله . وسئل الفتية فلم ينكروا مما سمعوا شيئاً . ولكن الشيخ لم يحاورهم ولم يداورهم ، وانما دعا اليه رضوان فامره في شدة بمحو اسماء هؤلاء الطلاب الثلاثة من الازهر لانه لا يرديد مثل هذا الكلام الفارغ ، ثم يصرفهم عنه في عنف . فخرجوا وجلين قد سقط في ايديهم لا يعرفون ماذا يصنعون ، وكيف يصورون هذه القصة لاهلهم.

ولم يقف امرهم عند هذا الحد ولا عند نظر الطلاب اليهم في ضحك منهم وشماتة بهم ، ولكنهم اقبلوا بعد صلاة العشاء ليلقوا شيخهم المرصفي وليسمعوا منه درس الكامل . واقبل الشيخ ، فلقيه رضوان وانبأه في ادب ولطف بان الشيخ الجامع قد الغى درس الكامل ، وبانه ينتظره في مكتبه اذا كان الغد.

فانصرف الشيخ محزوناً ، ومضى معه تلاميذه الثلاثة خجلين وجلين ، والشيخ يُسري عنهم مع ذلك . حتى اذا كانوا في بعض الطريق خطر لهم ان يذهبوا الى الشيخ بخيت ليستعطفوه ويوسطوه عند شيخ الجامع . وقال لهم شيخهم ، لا تفعلوا ، فلن تبلغوا من سعيكم هذا شيئاً ، ولكنهم مضوا مع ذلك الى دار الشيخ بخيت . فلما ادخلوا عليه عرفهم فتلقاهم ضاحكاً ، ثم سالهم عن جلية امرهم في فتور . فلما احذوا يدافعون عن انفسهم قال لهم في فتور ايضاً : ولكنكم تدرسون الكامل للمبرد ، وقد كان المبرد من المعتزلة ، فدرس كتابه اثم.

وهنالك نسى الفتية انهم جاءوا مستعطفين ، واخذوا يجادلون الشيخ حتى احفظوه . وانصرفوا عنه وقد ملاه الغضب وملاهم الياس . ولكنهم مع ذلك تضاحكوا من الشيخ واعادوا بعض كلماته وتفرقوا وقد تعاهدوا ان يخفوا الامر على اهلهم حتى يقضي الله امراً كان مفعولاً .

ولقوا شيخهم من الغد ، فانباهم بان شيخ الجامع قد حظر عليه قراءة الكامل ، وكلفه قراءة الغنى لابن هشام ، ونقله من الرواق العباسي الى عمود في داخل الازهر . ثم جعل الاستاذ يعبث بشيخ الجامع ، ويزعم لتلاميذه انه لم يخلق للعلم ولا للمشيخة ، وانما خلق لبيع العسل الاسود في سرياقوس ، وكان قد فقد اسنانه فكان ينطق السين ثاء ، وكان يتكلم لغة القاهرة فكان يجعل القاف همزة ، ويمد الواو بينها وبين السين ، وكان يتكلم هامساً ، فلم ينس تلاميذه قط هذه الجملة التي طبعوا بها الشيخ حسونة رحمه الله ، فسموه "بائع العثل في ئرياؤوث".

ولكن بائع سرياقوس هذا كان شديداً حازماً ، وكان مهيباً صارماً ، يخافه الشيوخ جميعاً ومنهم الشيخ المرضفي ، فقد اخذ يقرأ كتاب المغنى ، وذهب اليه تلاميذه مطمئنين، وما يعنيهم ان يقرأ الشيخ هذا الكتاب او ذاك. حسبهم ان يقرأ الشيخ وان يسمعوا منه ويقولوا له وقد سمعوا منه . فلما هم الفتى ان يقول له بعض الشيء اسكته في وفق وهو يقول: لأ ، لأ ، عاوزين ناكل عيش ؟. ولم يعرف الفتى انه حزن منذ عرف الازهر كما حزن حين سمع هذه الجملة من استاذه ، فانصرف عنه ومعه صديقاه ، وان قلوبهم ليملؤها حزن عميق.

على انهم لم يرضوا بهذه العقوبة التي فرضها عليهم شيخ الجامع ، وانما فكروا في الطريق التي يجب ان يسلكوها ليرفعوا عن انفسهم هذا الظلم ، فاما احدهم فقد آثر العافية وفارق صاحبيه واتخذ لنفسه مجلساً في جامع المؤيد بمعزل من العدو والصديق حتى تهدأ العاصفة . واما الاخر فقص الامر على ابيه ، وجعل ابوه يسعى في اصلاح شأن ابنه سعياً رقيقاً . ولكن الفتى لم يفارق صاحبيه ولم يعتزل عدواً ولا صديقاً ، وانما كان يلقى صاحبه كل يوم فيتخذان مجلسهما بين الرواق العباسي والادارة ، ويمضيان فيما تعودا ان يمضيا فيه من العبث بالطلاب والشيوخ.

واما صاحبنا فلم يحتج الى ان يقص الامر على اخيه ، فقد انتهى الامر الى اخيه عن طريق لا يعرفها . ولكن اخاه لم يلمه ولم يعنف عليه ، وانما قال له : "انت وما تشاء فستجني ثمرة هذا العبث وستجدها شديدة المرارة ". ولكن الفتى لم يكن يعرف رفقاً ولا ليناً ، فلم يسع الى احد ولم يتوسل الى الشيخ باحد ، وانما كتب مقالاً عنيفاً يهاجم فيه الازهر كله وشيخ الازهر خاصة ويطالب بحرية الرأي. وماذا يمنعه من ذلك وكانت الجريدة قد ظهرت وكان مديرها يدعو كل يوم الى حرية الرأي.

وذهب صاحبنا بمقاله الى مدير الجريدة فتلقاه لقاء حسناً فيه كثير من اعلطف والاشفاق . وقرأ المقال ثم دفعه ضاحكاً الى صديق له كان في مجلسه يومئذ ، فالقى الصديق نظرة على هذا المقال ثم قال غاضباً : لو لم تكن عوقبت على ما جنيت من ذنب لكانت هذه المقالة وحدها كافية لعقابك . وهم الفتى ان يرد على هذا الصديق ، ولكن مدير الجريدة قال له مترفقاً : ان الذي يحدثك هو حسن بك صبري مفتش العلوم الحديثة في الازهر . ثم قال له : اتريد ان تشتم الشيخ وتعيب الازهر ، ام تريد ان يرفع عنك هذا العقاب؟ قال الفتى : بل اريد ان يرفع عني هذا العقاب ، وان استمتع بحقي من الحرية . قال مدير الجريدة : فدع لي هذه القصة وانصرف راشداً .

وقد انصرف الفتى ، ثم لم يلبث ان تبين وتبين معه صاحباه ، ان شيخ الجامع لم يعاقبهم ولم يمح اسماءهم من سجلات الازهر ، وانما اراد تخويفهم ليس غير.. ومنذ ذلك الوقت اتصل الفتى بمدير الجريدة وجعل يتردد عليه ، حتى جاء وقت كان يلقاه فيه كل يوم .

وفي مكتب مدير الجريدة ظفر الفتى بشيء طالما تمناه ، وهو ان يتصل ببيئة الطرابيش بعد ان سئم بيئة العمائم ، ولكنه اتصل من بيئة الطرابيش بارقاها منزلة واثراها ثراء ، وكان وهو فقير متوسط الحال في اسرته ، سيء الحال جداً اذا قام في القاهرة . فاتاح له ذلك ان يفكر فيما يكون من هذه الفروق الحائلة بين الاغنياء المترفين والفقراء البائسين .



الكتاب الثالث : من الفصل الثاني .....

....ثم مضت الايام وتتابعت فيها الاحداث ، حتى اذا دار العام راى الفتى نفسه يتهيأ للامتحان في الازخر لينال درجة العالمية . وقد تلقى الفتى حينئذ ما كان يسمى بالتعيين ، وهو الدروس التي يجب ان يعدها ليقيها امام لجنة الامتحان ، ويثبت لمناقشة الممتحنين فيها.

فاستعد الفتى واحسن الاستعداد ، وحفظ فاحسن الحفظ ، حتى اذا لم يبق بينه وبين شهود الامتحان الا سواد الليل ، اقبل عليه شيخه المرصوفي - رحمه الله -فأبناه هذا النبأ العجيب الذي لم يحمله اليه في ضوء النهار ، وانما حمله اليه في ظلمة الليل ، بعد ان صليت العشاء.

قال الشيخ : اذا اصبحت يابني فاستقل من الامتحان ولا تخضره في عامك هذا ، فان القوم ياتمرون بك ليسقطوك.

قال الفتى : وما ذاك ؟!

قال الشيخ : تعلم اني عضو في لجنة الامتحان التي ستحضر امامها غداً ، والتي يرأسها الشيخ دسوقي العربي ، فقد دُعى رئيس اللجنة الى رئيس اللجنة واُمر باسقاطك مهما تكن الظروف.

قال الفتى : ولكني ساحضر امام لجنة اخرى يراسها الشيخ عبد الحكيم عطا .

قال الشيخ : فان هذه اللجنة لن تجتمع لان رئيسها ابى ان يسمع للشيخ الاكبر حين امره باسقاطك . فلما الح الشيخ الاكبر عليه الح هو في الاباء ، فلما خيره الشيخ الاكبر بين اسقاطك وبين ال اتجتمع لجنته آثر الا تجتمع اللجنة ، وقال انما هو غداء وثلاثون قرشاً .

وأبى الفتى ان يستقيل على رغم الحاح الشيخ المرضفي عليه في ذلك ، ونام ليله هادئاً موفوراً ، واستقبل صاحبه راضياً مسروراً . وغدا على لجنة الامتحان ، وكانت في مكان ما في الدراسة لا يعرف الفتى اقائم هو ام درس من المنازل والدور.

غدا على لجنة الامتحان فالقى التحية ، وجلس ، وكان اعضاء اللجنة يشربون الشاي.

قال الرئيس للفتى : "هل افطرت؟"

قال الفتى : "نعم"

قال الرئيس: "فاتمم هذا الكوب الذي شربت نصفه لتحصل لك البركة. "

واخذ الفتى من الشيخ كوبه مبتسماً ، وشرب ما فيه متكرهاً. ثم اخذ في الدرس الاول فانفق فيه ساعتين ونصف ساعة ، ولقى فيه من المناقضة اشدها ، ومن الجدال اعنفه . وفي اثناء ذلك دخل الشيخ الاكبر ، فلم يسلم ، وانما قال : حرام عليك ياشيخ دسوقي ، حرام عليك ، ارفق به! ارفق به! ثم انصرف .

ولم يرفق الشيخ دسوقي بالفتى ، وانما اضاف شدة الى شدة ، وعنفاً الى عنف ، وانقضى الدرس الاول . وقيل للفتى اذهب فاسترح .

وخرج الفتى فاذا كرسي قد وضع الى جانب الباب ، وجلس عليه الشيخ الاكبر كانه ينتظر شيئاً . ولم يكد يرى الفتى حتى دعا شيخاً من الشيوخ كان هناك وقال له : خذه ياشيخ ابراهيم فاسقه فنجاناً من القهوة . وفي انتظار هذا الفنجان اقبل من حمل المحفظة الى الفتى ايذاناً بانه قد سقط ، وبأن اللجنة لا تريد ان يتم ما بقي له من الدروس.


[a] المصدر : الايام، طه حسين . القاهرة : مركز الاهرام للترجمة والنشر، 1991.

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:08 AM

الحكيم (زهرة العمر)
توفيق الحكيم



تختلف سيرة توفيق الحكيم الذاتية عن غيرها من نصوص المذكرات المعروفة. فهي تتكون اساساً من مجموعة من الرسائل يكتبها الؤلف الى صديق له في باريس. وهو في هذه الرسائل يصف حياته كتلميذ قانون في فرنسا خلال فترة ما بين الحربين، ويذكر الاسباب التي ادت لعدم نجاحه في الدراسة ، ثم حياته بعد عودته الى مصر ، وعمله في النيابة .

يمكن مقارنة زهرة العمر بمذكرات هنري آدامز وطه حسين ، نظراً لاهتمام هؤلاء الثلاثة بوصف مراحل تعلمهم المختلفة.. ولكن توفيق الحكيم يبدو اكثرهم قلقاً واقلهم استقراراً. اذ انه يخشى من عدم قدرته على الوصول للنجاح الذي يريده، ويصف في مذكراته الجهد الذي بذله للوصول للتفوق في ميدان الادب. هو يصف بشكل خااص ما لاحظه عن اوضاع الادب العربي –مزاياه ونقاط ضعفه – بالمقارنة مع الاداب العالمية.

الصفحات التالية تصف حياة كاتب زهرة العمر في باريس ، ثم اسباب فشله في دراسته ، وبعض آرائه بشان الادب العربي.

زهرة العمر


باريس - شارع بلبور في....

عزيزي اندريه :

اشكر لك خطابك . وآسف لما سببه لك خطابي من حزن لأجلي . ما كان لي الحق ان اضيف ما بي الى ما بك . فهذا حمل ثقيل لا ارضاه لك. اني اؤنب نفسي الان . لقد الجأها الضعف اليك للتوكؤ عليك. اني اؤنب نفسي الآن . وفاتها ان في ذلك ازعاجاً لك . قاتل الله الضعف . ومع ذلك .. لولا هذا الضعف الانساني ما وجدت العواطف الانسانية الجميلة التي تنتج احياناً الاعمال الانسانية العظيمة. ان الضعف هو ايضاً مظهر جمال في بعض الاحيان لا يجب ان ننسى ذلك . انه جمال الانسان الذي يمتاز به عن اله قوي لا رقة فيه ولا شعور. لماذا نعد دائماً الضعف البشري نقيصة؟ ما دمنا قد وصمنا به الى الابد فلنحترمه احياناً ولنستثمره ولنحوله الى فضيلة من فضائل البشر . بغير هذا فان الحياة لن تُحتمل . اراني اعزي نفسي يا اندريه بهذا الهراء من الكلام؟ اتراني اقلب الحقائق وارى الدنيا ملأى بالحسنات والفضائل ، خليقة باحترامنا جديرة بتحملنا الالام في سبيل المكث فيها؟ لا تضحك ولا تسخر ولا تتهمني بالحمق. فانك قد تحترمني قليلاً وتدهش لقوة احتمالي ، اذا عرفت مبلغ ما تجمع على رأسي من شقاء . ومع ذلك ما زلت احاول انتزاع ابتسامة من شفتي الحياة . لا اريد ان احدثك عن نفسي اكثر من ذلك. لكن فلاحدثك قليلاً لتعلم انك بالقياس لي اسعد المخلوقات طراً .فانت الان رجل ناجح في حياتك تجد من يقدر عملك وجهدك وينقدك عليه اجراً معقولاً . والمستقبل امامك جلي كالنجم اللامع في السماء الصافية . وقد قلت لي ان معامل "ليل" تتخاطفك. وانك ترقى درجات العمل الاولى سريعاً . ثم انت فوق ذلك رجل محاط بالحب والعطف من زوجك وولدك. انت محب محبوب. ومن تحب تحرص عليك وترى فيك المثل الاعلى . لا للرجولة وحدها والبطولة ومكارم الاخلاق بل للجمال ايضاً . لكم ادهشتني جرمين ذات يوم وانا اريها صورة "ردولف فلنتينو" في احدى الصحف قائلاً لها: "اليك صورة اجمل رجل في العالم " فقد قالت للفور : اندريه اجمل منه . الا توافقني على ان اندريه اجمل منه؟" ماذا تريد اكثر من ذلك؟ وماذا يريد انسان اكثر من ذلك؟ انك لا تعرف الشقاء. اما انا فاعرفه . انه فجيعة الانسان في آماله . نحن انما نعيش داخل امالنا. فاذا اندكت فنحن كالنمر الشارد في الشتاء العاصف . لا تنظر الي بعين سخريتك بااندريه ولا تظن اني اعني الحب. فلو انه هو الذي انهدم وحده عندي لما حزنت كثيراً . ولكن كل شيئ انهدم ياأندريه . لم يعد لايامي مذاق. فهي كالماء القراح اجرعه على غير ظمأ. والمستقبل امامي محاط بالضباب. يخيل الي اني هويت قبل الاوان كالثمرة التي تسقط من الفرع قبل النضج. امامي برقية من ابي المسكين يقول: "ابرق لنا في حالة نجاحك." كلمة النجاح غريبة على اذني الان . اانا استطيع ان انجح في شيء ؟ ان اسمي كما تعلم مقيد منذ زمن بجدول المحامين في بلادي. اني في عرف القانون محام. ولكن أي محام؟! لقد كانت فجيعة لابي المسكين ايام ان كان يسمع ويرى اني انسى صفتي كمحام ، وانحشر في زمرة الممثلين او اولئك الذين يسمونهم عندنا "المشخصاتية" ، والحق انهم في مصر ليسوا بعد من الطوائف المحترمة . لقد كان ملحن رواياتي "كامل الخعي" يدندن وهو عاري القدمين الا من "قبقاق" خشبي .. تلك كانت بدايتي الفنية والادبية .. في عين الوقت الذي كان غيري يبدأ حياته الادبية بالكتابة السياسية ، فيظفر سريعاً بالشهرة والاحترام، ولو اني فعلت ذلك لرضى عني اهلي بعض الرضا . فالفرق شاسع في مصر بين خدمة رجال السياسة وخدمة رجال "التشخيص" ! وها انذا لم اظفر بشهرة ولا ذكر بينما لمعت اسماء اولئك الذين اختاروا الطريق الآخر المحترم...فسهل عليهم بعدئذ ان ينتقلوا منه الى الادب محتفظين باثواب التجلة ومظاهر التقدير . اما انا الذي اخترت الفن من البداية صرفاً صريحاً فلا استطيع ان انتقل الى شيء .. غير الانحطاط الاجتماعي.

ولقد خشى والدي المتوجع ان يجرفني التيار عن حياة القضاء التي عاشها بشرف ، فاشار عليه المخلصون ان يقصيني عن مصر فترة من الزمان. فارسلني كما ترى الى هنا لعلي اسلوا الفن وانصرف الى ما يتمناه لي من حياة قانونية قضائية محترمة . فماذا انا قائل له الان؟ وبماذا ارد على برقيته ؟ ثم امامي خطاب ممن احببت واوهمتني بنعيم دام اسبوعين ، تكشف لي فيه عن المهزلة. ولم تترفق فتترك لي حتى ذكرى تلك الايام القليلة سليمة جميلة. لقد شائت ان تسترد كل شيء حتى الاوهام والاحلام. فجردتني منها بعبارة واحدة: "اتمنى اني ما عشت قط هذين الاسبوعين" ياالهي! الى هذا الحد! وهاهي ذى تغني اليوم لرجوع كل ود بينها وبين حبيبها الحقيقي. اسمع غناءها من نافذة حجرتي فاضحك. لكن أي نوع من الضحك! ثم امامي قصاصات من نقد صحف مصر لرواياتي التي تمثل في القاهرة. فانا اذاً موضع السخرية . ودراساتي التي لا تؤدي الى نتائج وشراهتي في المعرفة التي تسبق قدرتي الذهنية وقوتي الجثمانية ووقتي المادي.

كل شيء حولي يهدمني هدماً .



باريس - شارع بليور في..

لا شك اني لست كريم الخلق بالفطرة والسليقة . امس هبط علي الشاعر البارناسي في حال يرثى لها ، فلم امد له يد المعونة كما ينبغي . يجب قبل كل شيء ان تعرف من هو هذا الرجل عندي . انك لم تره غير مرة واحدة معي في قهوة الدوم . وقد غاظك اشتغالنا عنك بمناقشات فنية طويلة عن الفروق الدقيقة بين المدرسة الايطالية والمدرسة الفلمنكية في التصوير . فتركتنا ساخراً وانت تهمس في اذني: اين هذا الشيخ المتهدم الذي جاوز الثمانين من تلك الصبية الحسناء التي تنتظرني في "الروتوند"؟! ولكنك تذكر ان اغراءك في تلك المرة لم يصادف عندي نجاحاً . ان الجلوس الى ذلك الشيخ المتهدم كان ينسيني مفاتن الدنيا لانه كان يريني مفاتن الفن . هو الذي فتح بصري على جمال الفن "البلاستكي" من نحت وعمارة وتصوير. كما ازاح لي مسيو هاب الستار قبل ذلك عن جمال الاداب القديمة .فقرأ معي الالياذة وبعض مآسي سوفوكليس ويروبيد واشيل وكوميديات ارستوفان . ثم ترك حبلي على غاربي . وقد تمكن مني داء المعرفة . فتركته وانطلقت وحدي التهم كل شيئ من قديم وحديث . وكما حدث مع والدتك يوم كنت اقطن عندها في "كوربفوا" وتذوقت لاول مرة غنائها للاوبرات . فكنت انتزعها من المطبخ انتزاعاً لتذهب الى البيانو بفوطتها تغني لي المقطوعات الجميلة في "كارمن " و"فاوست" و"اجراس كورنفيل" الى ان عرفت طريق دار الاوبرا والاوبرا كوميك ثم قاعات الكونسير "كولون" و"جافو" و "بادلو" . فلم اعد اليها بعد ذلك قط. على ان والدتك وكذلك مستر هاب ليسا في حاجة الى حسن المعاملة. اما ذلك الشاعر المسكين فله شأن آخر. انه لا يكاد يجد الان ما يسد به رمقه . انه كان شاعراً معروفاً يوم اخرج مجموعة شعره الكبرى. ولقد اراني نسخة من الطبعة الاولى صدرت منذ نصف قرن . وقصاصات من نقد ذلك العهد تنعته بانه من اركان مذهب البارناء. ولكن الشعر لا يستطيع ان يقيم اود انسان الى ما بعد الثمانين. فهو اليوم بائس حقاً ، يعيش في حجرة قذرة "مانسارد" وياكل مما تجود به معونة اصدقائه ، ولعل اكثرهم قد مات الان ، وهو قد فرح بي يوم عرضت عليه ان يقودني الى المتاحف وآثار الفن وان يلازم احدنا الاخر كلما استطعنا الى ذلك سبيلاً ، على ان اتكفل اثناء ذلك بنفقات غذذائه وعشائه وتبغه وشرابه ، وهو يستحق اكثر من هذا ولكن ماليتي كما تعلم محدودة. ومع ذلك فما كنت اتركه بعد كل لقاء دون ان ادس في يده ورقة مالية صغيرة ، وانا اقول في نفسي " اجعل انك اشتريت بهذا المبلغ كتاباً." وما اكثر الكتب التي ابتاعها كل يوم كما تعلم بالمال المخصص لكسوة الشتاء ، على ان هذا الرجل كان لي خيراً من الف كتاب. انه كتاب حي متنقل ما ترك قاعة في متحف اللوفر ، او حديقة فيها تماثيل، او كاتدرائية اثرية دون ان يذهب بي اليها ويقف بي عليها شارحاً مفسراً . اني لم ازل اذكر لقاءنا الاول وقد احضر معه الى القهوة "صرة" دون ان ينبس ..فاذا هي مجموعة اثرية صغيرة ، عن العصور الحجرية الاولى ، او ما يسمونه "المجاليت" واخذ يوضح لي المظاهر الاولى لفن العمارة في المنهير والدولمن . ذلك انه اراد ان ابدأ في معرفة الفن من البداية . فاراني تطور النزعة الفنية منذ الانسان الاول . وقادني الى متحف التاريخ الطبيعي ، ثم الى دار الكتب ، وهناك رأيت لاول مرة تمثال "افروديت"بغير رأس ولا ذراعين ولا ساقين ، ولكن أي جمال ؟ "لا شيئ اجمل من جسد امرأة " تلك هي الصيحة التي لفظناها امام هذا التمثال . لقد قلت لصاحبي الشاعر يومئذ اني قد فهمت المعنى الحقيقي لكتاب "بييرلويس" عن افروديت ، وانه لا شك قد راى من تمثالها هذا ما رأينا! كيف استطاع ذلك النحات الاغريقي ان يستخرج من ثديين وردفين (لان التمثال ليس اكثر من ذلك) جمالاً ارتفع الى القدسية؟ بيير لويس اراد ايضاً ذلك بلا جدال ، فاشاد بجسد المرأة اشادة لم تفهم احياناً على الوجه الذي اراد .. وهكذا كنا نتحادث ونتناقش امام كل تمثال او صورة او اثر فني . ويجرنا الحديث من فن الى فن ، ومن مقارنة الى مقارنة . فالاداب والفنون والعلوم وكل مظاهر النشاط الذهني متصل بعضها ببعض الى حد قد لا يصدق لاول وهلة. فالمعرفة سائل في اناء عناصره كل هذه الاشياء . واخيراً جائت الساعة المحتومة . لقد تفتحت عيناي وانتهى الامر . وعرفت كيف ابصر بدون حاجة الى دليل. وعرفت كيف اقرء في ذلك الباب . فهذا (هيوبوليت ثين) و(جان ماري جوبو) و (جرانت الن) و (جون راسكن) (سالمون ريناخ) الخ... وعشرات الكتب الفنية المصورة عن اعمال ومتحف "روادن" والمعارض السنوية الدورية. ثم بعد ذلك كله وهو الاهم ...هذا هو تفكيري الشخصي قد تكون بعض التكوين ونظرتي الخاصة بدأت تطالبني بان استقل في التامل والتقدير والاستنتاج . جاءت اللحظة التي شعرت فيها بوجوب السير بمفردي . وكانت بوادرها ذلك اليوم الذي ادركت فيه ان محادثات ذلك الشاعر لم يعد فيها جديد يثير اهتمامي او التفاتي . ولقد شعر المسكين بذلك فكف عن الحديث عن الفن . وندرت مقابلاتنا واقتصر الكلام اثنائها على التافه من امور الدنيا الى ان انقطعت ، وانصرف كل الى شانه ، فاصبحت لا اراه الا اذا اشتدت به ضائقة ارغمته على اقتراض بعض النقود مني . ولقد جاءني امس كما قلت لك في الصباح المكبر فاستيقظت ساخطاً متبرماً فابصرته يرتعد في البرد ويقول لي : طاذا لم اجد دثاراً ثقيلاً في هذ االشتاء فاني لن اظل حياً حتى مطلع الربيع “. فلم ارد عليه بكلمة ، ولكني اخرجت له ورقة مالية صغيرة وضعتها في كفه كانه شحاذ ، فرفع الشيخ قبعته شكراً وانصرف صامتاً . وعدت الى فراشي لاستانف رقادي ، فقد سهرت ليلتي اطالع كالمعتاد . ولكن النوم هرب مني . لقد تنبهت لما حدث ، وتمثل لي سوء فعلي. كيف اصنع معه ذلك؟ وكيف اتركه يذهب هكذا بقليل من نقود لن تغنيه شيئاً . وتذكرت هيئته الذليلة ساعة انصرافه صاغراً مذعناً لحكم القدر او حكمي انا على الاصح. وكانت آخر لفظة قالها برغم ذلك هي : Merci beaucoup خرجت من فمه خافتة محلصة لا اثر للمرارة فيها ولا للعتاب. هنا ادركت اني لو كنت كريم النفس حقاً لالقيت على منكبيه الهزيلين معطفي بغير تفكير ولا تدبير ولا تردد.



باريس - شارع بلبور في ....

عزيزي اندريه:

لقد لفظ القدر كلمته . انه لا يريد لي طريق القانون . لقد رسبت في ثلاث درجات ، ولم ترد لجنة المحلفين جبر النقص بينما وافقت لجنة اخرى على جبر اربع درجات لاحد اعضاء البعثة. من هذا ترى ان القدر لم يرد ان يمد الى يده كما مدها لغيري. لماذا؟ اياك ان تفهم اني تهاونت في الدرس. لقد كانت اجابتي مرضية جداً في علم تاريخ والمباديء والمذاهب الاقتصادية (آراء ارسطو حتى آراء كارل ماركس) وكذلك في علم الاقتصاد السياسي والتشريع الصناعي ولم اهبط الى حد الرسوب الا في علم واحد هو علم المالية (ولعل هذا يفسر لك ارتباك ماليتي) . انه علم اجراءات وارقام لا تستقر في ذاكرتي . آه للذاكرة يااندريه . مادامت الذاكرة هي المعول عليها الى حد كبير في الامتحان فلا امل لي . اما المطالعة في ذاتها فما ايسرها وما الذها عندي. اني اطالع في اليوم ما لا يقل عادة عن مائة صفحة في مختلف الوان المعرفة (من ادب وفنون وفلسفة وتاريخ الى علوم رياضية وروحانية). مائة صفحة في اليوم أي ثلاثة الاف صفحة في الشهر. بينما المقرر كله لامتحان الدكتوراه لا يتجاوز ثلاثة الاف صفحة في العام كله . لو تعلم اني قرأت مقرر الدكتوراة للقانون العام وهو عن (سلطة الكنيسة والدولة) و (نظام العبادات منذ القرن الرابع عشر) و(عصبة الامم) و (المباديء البارزة للقانون الدولي) و(اهم اتجاهات قضاء مجلس الدولة) و(الدساتير المكتوبة) قرأت ذلك كله دون ان اتقدم فيه الى أي امتحان . قراته لمجرد القراءة . وما قراءة مقرر عندي الى جانب قراءاتي الاخرى ! الم اخبرك اني تتبعت كثيراً من دروس السربون لغير غاية الا تتبع اثار الثقافة التي تعنيني. لقد حضرت كثيراً من محاضرات الاستاذ برنشفيج عن "صلات العلم بالدين في القرن السابع" ومحاضرات دلاكروا عن "الاحوال النفسية للفن" ودروس روبين عن "المذاهب الاخلاقية والسياسية لافلاطون وارسطو". ودروس فوجير عن "مصادر فن العمارة الاغريقية" و"آثار اكروبول اثينا" ومحاضرات برونو عن "الثورة واللغة" ومحاضرات لجويس عن "تاريخ الشعر الانجليزي" الخ. ولم يمنعني الانقطاع عن الحي اللاتيني من متابعة هذه الدراسات فقد استحضرت كتبها وانغمست في مطالعتها لنفسي ، وسرت على دربها وانا في حجرتي. ان التحصيل في ذاته للثقافة والتكوين هو لذتي الكبرى الان . انما الذي يخيفني هو الامتحان . لقد تحقق لدي اليوم اني لا اصلح بطبعي للتقدم الى أي امتحان. ذلك ان الامتحان يريد مني عكس ما اريد انا من القراءة. اني اقرأ لانسى . والامتحان يريد مني ان اقرأ لاتذكر. اني اقرأ لاهضم ما قرأت أي احلل مواد قرءاتي الى عناصر تنساب في كياني الواعي وغير الواعي. اما الامتحان فيريد مني ان احتفظ له بهذه المواد صلبة مفروزة . اني اشعر وانا اقرأ حتى مقرر الدكتوراه في القوانين ان مواده قد تفككت واختلطت بمواد اخرى لقرءات اخرى لا علاقة لها بلاقانون ، كما تختلط في المعدة المواد الغذائية بعضها ببعض. واذاً الناتج من هذه المواد المختلطة هو عصير ثقافي يسرى في دمي المعنوي فأحس كان وزني الفكري قد ازداد . وكأن قدرتي على احتمال التامل المثمر قد نمت . اما المواد الغذائية في ذاتها فقد هضمت أي نسيت. الامتحان يريد مني ان اقف عملية الهضم حتى يتحقق الممتحن من وجود المواد صلبة مغروزة داخل المعدة الذهنية.

لا اريد بذلك ان اعيب نظام الامتحان في ذاته ، انما اعيب نظام بنيتي الفكرية . اني سريع الهظم الى حد قد يعد مرضاً في نظر الممتحن. ومع ذلك لماذا اتقدم لممتحن ، ما دمت قد تناولت الغذاء واحس حرارة الدم القوي تفور في رأسي ، فلماذا ادع الناس يفحصون ما في معدتي؟

اتراني ادافع عن نفسي والتمس الاعذار ياأندريه ! لست ادري . هاانت ذا تراني غير يائس ولا ساخط . واتي اتقبل الصدمة باسمها لانها لا تدل على شيء الا على قرب وقوع الكارئة العظى: تركي اوربا والعودة الى بلادي.

لقد لفظ القدر كلمته . ولا جدوى من الاصرار على معارضة القدر. لكن ، اتراها اندريه ارادة القدر ام ارادتي انا؟ من الانصاف ان اخبرك بشيء عجيب : لقد قرأت منذ اسبوعين كتاباً جديداً لاحد معاوني فرويد عن القدر ، ذكر فيه اننا نحن الذي نصنع اقدارنا بانفسنا. وان ما نسميه القدر ليس الا ارادتنا غير الواعية. ورب حادث صغير او حلم من الاحلام او نبوئة من النبوءات نصدقها فتستقر في اعماقنا وتعمل سراً على دفعنا في سبيل تحقيقها . فقد حدث لي مثل هذا الحادث . كان ذلك آخر ليلة استعد فيها للامتحان . لقد سهرت الى الرابعة صباحاً تحت مصباح المكتب الصغير حتى اتممت مراجعتي الاخيرة فطويت الاوراق والكتب ونهضت للنوم كي استيقظ نشيطاً للامتحان. وكنت منشرحاً متفائلاً مفعماً بالامل لامتلاكي ناصية المقرر. واذا فجأة تصطدم يدي بالمصباح فيقع مكسوراً على ارض الحجرة تاركاً كل شيء في الظلام . عند ذلك دب التشاؤم في نفسي وحدثتني بسوء الختام . في هذه اللحظة فقط كان فشلي قد تقرر ، كما تقرر مصير ماكبث ملكاً مجرماً في اللحظة التي آمن فيها بنبوءة الساحرات .

سواء كانت تلك ارادة او ارادتي فقد فشلت بااندريه ، فارث لي .





الاسكندرية في ...

عزيزي اندريه :

مضى شهران وانا انتظر خطاباً منك لا ياتي ، وبدأت اعتقد انه لن ياتي ابداً . ومع ذلك ثق اني لم اصب عليك اللعنات او اني فعلت ، ولكني اقسمت اني على استعداد لشراء خطاب منك بالنقود . نعم انه لتمر بي لحظات اخرج من جيبي ورقة مالية اعلم انك في اشد الحاجة اليها ، واضعها ثمناً لرسالة منك ذات اربع صفحات.

اما بعد ، فان مسألة اكل العيش ما زالت عقدة العقد وامرها اصعب ما تتصور. ماذا تريدني ان اكون ؟ وكيل نيابة؟ تاجراً ؟ مزارعاً ؟ ثق اني في أي مهنة خلقها الله لن اكون سوى واحد: انا بطبيعتي ونقصي ! ومعنى ذلك اني سوف اكون وكيل نيابة او تاجراً او مزارعاً على طريقتي وهنا المصيبة والفضيحة! انك تعلم من غير شك ان لي منطقاً خاصاً يشط بي احياناً عما اعتاده الناس . فاذا انا في واد والناس في واد . ينظرون الي ويقولون : اما انه ابله واما انه فطن . لا اذكر في حياتي ان الناس حكمت علي غير هذين المنطقين المتناقضين : ففريق ، ومنه والدي ، يقول اني ابله ، وفريق ومنه والدتي يقول اني فطن . ولم اسمع طول عمري حكماً وسطاً بين هذا وذاك. على ان هذا كله لا يهمني ولا ينبغي ان يهمك. مستقبلي حتى الان شيء غامض . بل لعله لم يكتب بعد في (اللوح المحفوظ). اذكر قولك لي مرة في حديقة اللكسمبورج: ان الله لم يخلقني ، وانما هو الشيطان اراد ان يخلق طرازاً جديداً من الادميين او "موديل" من الانسان ، يضارب به الطراز الشائع المعروف. فجاء خلقه عجيب البناء غريب التركيب ، به اثر من عبقرية الشيطان ، ولكن به نقصاً ينم عن تخبط في شؤون الخلق والابداع . ومع ذلك ، حتى على فرض ان الله هو الذي خلقني لا الشيطان ، فانه كان لسوء حظي يضجر ويتبرم كلما جاءه ابريل بلوحي المحفوظ ليعين فيه خطوات حياتي ، فقد كان يصرخ في وجه الملاك الامين قائلاً : "اذهب عني الان" فيقول جبريل خاشعاً : "لكن ، با اله السموات والارض ، المدعو توفيق الحكيم ولد وشب ونما وكاد يدنو من الثلاثين ، وهو لم يزل يدب على الارض ويعيش فيها بالمصادفة ، وكلما جئت بلوحه لاجل التعيين ..." فيسمع كأن الصوت العلوي يصيح به : "قلت لك اذهب عني الان ولا تشغلني بهذا المخلوق!" هكذا اعيش بغير مصير . حياتي فيما يحيل الى هي في يد المصادفة ، والمصادفة غير قديرة على صنع حياة محبوكة الاطراف . آه ... ان حياتي مفككة ، كالقصة المفككة ، او الهيكل المزعزع الاركان . انا الذي لا يحب في الفن غير قوة البناء ، وما يتبعه من قوة التركيز ، وهذا هو سر عنايتي بالحوار التمثيلي في الادب . نعم ذلك ما اسميه عاطفة ال Architecture هذا الاساس الهندسي الذي من نتائجه: الحساب ووضع الكلام بمقدار والاعتماد على الخطوط الكبرى التي تحدث التاثير. اني مهندس Architecture ادبي. هذا كل شيء. من ذلك الطراز الذي يشيع معبداً عارياَ : اعمدة ضخمة متناسقة ولا شئ غير ذلك . ما أشد حاجتي الى حياة قائمة على اعمدة راسخة كالمعبد الضخم الجميل! اني معبد يتصاعد من جوفه لا بخور الايمان ، بل بخار الشك والقلق . اني اتالم الماً لا يراه احد ، اذ لا يظهر على وجهي شيئ غير هدوء الرضا. هنالك دودة دائمة الوخز، دائبة النخز في قلب هاديء المظهر رائع المنظر كالكمثرى الذهبية . هنالك قلوب يسكنها الالم كانه عبادة. حياتي كلها ليست سوى قارب ثمل. لهذا يخيل الى اني صديق رامبو الانسان قبل الشاعر ، ولهذا ايضاً كنت صديق "ايفان" الروسي الثائر . اما انت يااندرية؟ ان لك قلباً من غير شك ولكن ... ينقصك الالم ، اذا انصهر قلبك يوماً انصهاراً كافياً وانتشر حوله الدخان ، فان هنالك بين الدخان تستطيع ان ترى الشبح الحقيقي لصديقك الشرقي.

اني الان انتظر الشتاء ، ولعله ياتي بجديد . ولعل الله في هذه المرة يلتفت الى وجودي غير ضجر ولا متبرم فيعين طريقاً لحياتي. ان الانتاج الفكري يا اندريه ليرتبط الى حد ما بطريقة عيش الكاتب ، ويتلون احياناً بلون حياته اليومية . لذلك تراني انتظر . على اني في هذه الفترة اتعزى عن نفسي بك وبنشاطك واتوجه ببصري اليك في امل، واتبعك في مطالعاتك الليلية في غبطة ورجاء.

حاشية- بعد ان ختمت هذا الخطاب تاملت قليلاً في امر ذلك اللوح المحفوط الذي تسطر فيه مصائرنا ، مما لا شك فيه ان لكل نفس قصة يجب ان تعيشها على هذه الارض . ومما لا شك فيه ايضاً ان كل قصة يجب ان تكون جديدة بعض الجدة ، وان تختلف عن غيرها بعض الاختلاف . تصور اذن كم من القصص قد الف ويجب ان يؤلف لملايين الملايين من البشر . يخيل الي ان هنالك في السماء ملاكاً فناناً منقطعاً لتأليف قصص المواليد قبل خروجهم الى الحياة. هذا الملاك واسع الخيال الى حد مخيف . والويل له اذا نضب خياله مرة . اخشى مع ذلك ان يكون خياله قد نضب وهو يمسك بالقلم ليسطر قصة حياتي .

يتبع

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:08 AM

دسوق "غريبة" في...

عزيزي اندريه :

وااسفاه!... مضى عام وانا لم ازل في انتظار رد منك ، رد صغير ينبئني بان الحبل بيننا لم ينقطع . يظهر انه انقطع . ذلك الحبل الذي كان يربط احدنا الى الاخر ونحن هائمان في جليد ذلك القطب الفكري المرتفع. ترى اين انت الان؟ اتركتني وحدي وذهبت عائداً الى المجتمع ؟ هل فعلت ذلك؟ اما انا فاني اقاوم بكل ما لدي من قوة وعزم . اني اكتب اليك الان من مدينة ضغيرة على النيل تدعى دسوق. هي مع ذلك مركز من اهم مراكز القطر . لقد اسندوا الى اعمال نيابتها ، فوجدت نفسي امام عمل هالني من الكثرة والخطورة . ان قاضي المحكمة لا يقيم في المدينة . فهو يحضر جلستيه ويذهب . وبهذا صرت انا الرئيس المسئول عن شئون النيابة والمحكمة معاً . لقد تبين لي بعد اسابيع قليلة اني الرئيس المتصرف في هذه المدينة كلها . فالبوليس والادارة والصحة والهندسة والري والزراعة، وكل فروع الحكومة المختلفة تصب مشاكلها بين يدي. حتى فيما لا يقع تحت طائلة القانون وما يكتفي فيه بالنصح والارشاد والمصالحة والتوفيق واقرار النظام بالحسنى. كل ذلك يحتاج الى رأيي ولكلمتي فيه المقام الاول . لقد شعرت جقاً بعبء المسئولية فدفعني ذلك الى العمل المضني . لقد وضعت نظاماً دقيقاً للعمل لا انحرف عنه قيد شعرة . اني اعمل نهاري كله من الصباح حتى الثانية بعد الظهر ومن الرابعة حتى السابعة . فاخرج للنزهة ساعة فوق جسر النيل . تلك هي الساعة التي تسمح لي فيها تبعاتي ان اتحرر قليلاً لاعود الى نفسي وذكرياتي . ففي تلك الساعة الهادئة اسير وحدي فوق الجسر اتامل الامواج في اصطفاقها الخافت فتلعب في رأسي الافكار القديمة من جديد . افكار الادب والفن . فالتفت حولي حرصاً عليها من مفاجيء فلا ابصر غير الخفير النظامي يحمل بندقيته ويتبعني من بعد ليبلغني بما يرد من اشارات مستعجلة. حتى اذا خيم الظلام عدت الى مسكني فتناولت العشاء ثم نظرت في بعض ملفات القضايا . ثم اويت الى فراشي في انتظار ازعاجي نصف الليل ببلاغ عن وقوع جناية . لقد احصيت عدد الليالي التي انتقل فيها الى حوادث جنائية في هذا المركز . فاذا هي في المتوسط خمس ليال . أي اني لا اظفر باكثر من ليلتين في الاسبوع اقضيهما نائماً في فراشي كما ينام الآدميون . اني اؤدي واجبي وانهض باعباء عملي القضائي بامانة وهمة واستقامة الحظ اثرها الحسن في مكاتبات الرؤساء الرسمية. انهم يثقون في تصرفاتي ثقة تملؤني فخراً . هل كنت يااندريه تتوقع نجاحي كوكيل نيابة ؟ ولا انا ما كانت اتوقع لنفسي ذلك . لقد ثبت لي اني رجل امين لا يعرف الغش في شروط اللعب . اني في الفن كنت الفوضى بعينها . ولكني في عمل القضاء انا النظام بعينه بل اني مبالغة في الغيرة على سمعة هذا المنصب لا اختلط بالاعيان ولا برجال الادارة ولا باي شخص اكثر من الاختلاط الذي يدعو اليه العمل الرسمي. لطالما سمعت باخبار زملاء قضائيين - لم يتصلوا يوماً بفن ولا بفنانين- ومع ذلك لم يبالوا ، فكانت لهم في مراكز اعمالهم سهرات "بوهيمية" ومغامرات نسائية . تركت اثراً في صحائف خدمتهم لا يمحى . اما انا فصحيفتي نقية بيضاء...ولقد التقيت ذات مرة بالنائب العام فقال لي انه يعدني من خيرة وكلائه عملاً واستقامة وسمعة . فانا اذن يااندريه كما ترى . اسير بخطى ثابتة نحو الاطار النهائي الذي يريد ان يحبسني فيه المجتمع .ماذا بقى لي من الفن والفنان بقبعته السوداء ذات الاطار العريض ؟! كنت منذ اشهر بالقاهرة فقابلني احد زملاء الدراسة الذي يشتغل الآن بالتجارة ، ولا يعرف من امري شيئاً . فما ان اتفرس في وجهي وهيئتي حتى قال لي : "ماذا تعمل في الحياة؟ لابد انك من رجال القضاء؟!" فدهشت وسألته: "كيف عرفت؟" فقال لي : "شكلك وهيئتك وسيماؤك"! عجباً. اهكذا المهنة قد طبعتني بطابعها ورن عندئذ في اذني صوت "ايما دوران" يوم قابلتني اول مرة وتفرست في وجهي قائلة لي : ماذا تعمل ؟ لابد انك فنان في مونمارتر!" واسفاه. مات ذلك الفنان وحلت روحه في جسد رجل قانون ! اترى الفنان يااندريه يبعث من مرقده يوماً؟ ولكن كيف؟ كيف لي ذلك هاهنا. كيف يحدث ذلك لقضائي منظور اليه نظرة الرضا والاحترام . كيف السبيل الى الفن الان. والمجتمع كما ترى قد هيأ لي مكاناً في احضانه لا استطيع منه فكاكاً. اندريه اخشى ان يحطمني المجتمع . يحطم الفنان في . ربما كان قد حطمني وكسرني ولكني اقاوم. منذ اسابيع وانا اتلقى من اهلي خطابات يغرونني فيها بالزواج . ويذكرون لي اسماء لامعة في الثروة والجاه ويتهمونني بالحمق والغفلة والعته اذا خامرتني فكرة الرفض ويظهر ان كل شيئ قد اعد . وان اصحاب هذه الاسماء قد قبلوا . فالمناصب القضائية-شانها في مصر شان فرنسا- مزيتها الكبرى هي سعرها الممتاز في سوق الزواج . فماذا تقول في ذلك ؟ المهم انهم ينتظرون قبولي. يكفي يااندريه ان الفظ كلمة "نعم" ليضع المجتمع اصفاده في يدي الاخرى الطليقة، ويجرني نهائياً الى المصير المحتوم . لقد قلت لهم " لا" باعلى صوتي ، وهم مشدوهون لا يعرفون السبب. "لا" ، تلك هي الصيحة الاولى لمقاومتي اليائسة ، يجب ان اقاوم وان اجاهد . اارضى ان تطويني الحياة وترغمني على ما لا اريد؟ فيم كان اذن جهادي الطويل في سبيل الفن؟ فيم كانت الاعوام الطوال التي انفقتها قراءة واطلاعاً وتحصيلاً وتكويناً وممارسة لالوان الفن وانواع العلم وفروع المعرفة . لقد اردت ان اكون كاتباً وسأكون ، ولكن ، ولكن كيف ياصديقي اندريه؟ اني اخط اليك هذا السؤال بصوت مرتفع في سكون هذا الليل تحت هذا المصباح الضئيل المستيقظ انتظاراً لجرائم الناس. كيف السبيل يا اندريه؟ انك تعلم اني عملت وجهدت لامتلاك ناصية فني. ولم اكتف ببدايتي الاولى منذ عشر سنوات فتناسيتها وانطلقت من جديد اكتب وامزق واكتب وامزق . ولم يسلم من التمزيق اخيراً سوى المخطوطات التي حدثتك عنها . اظن اني قد اعددت نفسي اعداداً كافياً ، واظن اني قد جاوزت السن التي يحسن فيها باديب وفنان ان يغرس قدمه في ميدان فنه ، ويعرض ثماره على اهل وطنه . ولكن مع ذلك ، انا في شك يا اندريه . من ادراني ان فني يستحق النشر الان ؟ لم لا تقول اني متسرع . لطالما تسرعت من قبل . الا يحسن بنا التريث؟ قد تسالني الىمتى؟ لست ادري الى متى. ان الفن حقاً طويل. واذا تريثت اكثر من ذلك فسأظل طول حياتي اتريث واتشكك. ولكن من جهة اخرى اذا اخرجت للناس شيئاً تافهاً ، فماذا يكون جوابك؟ ان الانتظار الى آخر العمر لاهون على نفسي الان من احراج عمل فني ناقص. اني لم اعد الشاب الطائش الذي كنت تعرفه في باريس . اني اكره العجلة وابغض النشر لمجرد النشر. واقدس الفن حقيقة. وانزه أي عمل فني عن الظهور مادمت ارتاب في امره بعض الارتياب. كلا. فلنبق كما نحن ياسيدي. وحسبي ان انظر في مخطوطاتي من حين الى حين. لاستخرج في كل مرة نقصاً جديداً . قد تدهش اذا قلت لك اني صححت وعدلت وبدلت في كل مخطوطة. وقمت بتبييضها ونسخها بنفسي اكثر من اربع مرات . اجل يااندريه. لكل مخطوطة عندي كبرت او صغرت اربع نسخ مختلفة بخط يدي. على اننا اذا طرحنا جانباً مسالة النضج الفني لعملي وهل تم او لم يتم؟ ومسالة الاقدام او التريث وايهما الاصوب؟ ومسالة الثقة او الارتياب وايهما الارجح. فان هناك مسالة اخرى يجب ان لا تغيب عن خاطرك: المجتمع الذي حولي الان. كيف السبيل الى الخروج من اطاري القضائي؟؟ كيف انشر فناً دون ان اتعرض لسخرية الزملاء وخيبة امل النائب العام وفجيعة الاهل والخلصاء؟ آه يااندريه معذرة. اني افكر الان تفكيراً سخيفاً . هذا كلام غير خليق بفنان! ولكن هل انا فنان؟ اتراها القبعة السوداء هي التي كانت تملأ رأسي بهذه الاوهام! لقد خلعتها كما تعلم منذ زمن بعيد. وهاانذا اليوم اتشح بالوسام الاحمر الاخضر. ولم اعد اسمع احداً ينعتني بالفن .ربما قلت لي" يكفي ان تصغي الى الصوت الصاعد من اعماق نفسك! اجل يااندريه. ولكن نفسي الان ينخر فيها الشك. وما عدت اصدق لها كلاماً؟ واخجلاه! لست ادري كيف يتكلم هذا الكلام رجل يتشبث بالفن. حقاً. يجب ان اؤمن بالفن. الايمان بالفن هو التعويذة التي تفتح لي الطريق. اني اؤمن بابولون. اؤمن بابولون اله الفن الذي عفرت جبيني اعواماً في تراب هيكله. انه ليعلم كم جاهدت من اجله وكم كافحت وناضلت وكددت! باسمه اخوض المعركة الكبرى وانازل كل مجتمع وكل حياة وكل عقبة تحول بين وبين فني الذي منحته زهرة ايامي التي لن تعود.

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:10 AM

بانني انفذ مشيئة الخالق العظيم حين ادافع عن نفسي ووطني ضد تسلط اليهود

في العالم ، معلناً الحرب حتى الموت ضد ممارسات هذا الشعب الشرير.

قائل هذه الكلمات هو:

أ دولف هتلر

(1889 - 1945)

تمهيد :



قد يكون آدولف هتلر اهم الشخصيات السياسية في القرن العشرين .. ومن المعروف ان وجود صورته على ظهر كتاب يزيد مبيعاته بنسسبة 20% . وقد وُلد كما يقص في مذكراته لاسرة متواضعة ، وعاش جل اعوام طفولته وشبابه الاول خارج المانيا. ثم عاد لوطنه الام وساهم في تاسيس الحزب النازي. وخلال عشرة اعوام ، بات قائداً للامة الالمانية.

في كفاحي، يقص هتلر حكاية صراعه في سبيل الوصول للفلسفة التي يؤمن بها اولاً ، ثم الكفاح في سبيل تحقيق ما يعتبره طموحات الشعب الالماني. نختار اولاً وصف هتلر لطفولته الباكرة وحياته الاسرية الباكرة ثم معاناته من الفقر المدقع في فيينا ، وصولاً الى آرائه التي لم يغيرها ابداً بشأن القضية اليهودية .


كفاحي


الفصل الاول : طفولتي

يبدو وكأن القدر تعمد اختيار براوناو موقعاً لاولد فيه : فتلك المدينة الصغيرة تقع على الحدود بين دولتين سعينا نحن الجيل الجديد لتوحيدهما بكل ما لدينا من قوة.

فلابد من عودة المانيا النمساوية للوطن الام ، وليس بسبب أي دوافع اقتصادية. بل وحتى ان الحق الاتحاد اضراراً اقتصادية، فلابد منه. دمائنا تطلب وطناً واحداً ، ولن تستطيع الامة الالمانية امتلاك الحق الاخلاقي لتحقيق سياسة استعمارية حتى تجمع اطفالها في وطن واحد. وفقط حين تشمل حدودنا آخر الماني، ولا نستطيع تامين رزقه، سنمتلك الحق الاخلاقي في احتلال اراض اخرى بسبب معاناة شعبنا. سيصير السيف اداة الحرث ، ومن دموع الحرب سينبت الخبز للاجيال القادمة. وهكذا يبدو لي ان هذه القرية الصغيرة كانت رمزاً للمسؤلية الغالية التي انيطت بي.

ولكن هنالك صورة بائسة اخرى تذكرنا تلك المدينة بها. فقبل مائة عام، كانت مسرحاً لكارثة ماساوية ستخلد في صفحات التاريخ الالماني. فحين انحطت الاوضاع الى اسوء حال ممكن تحت وطئة الاحتلال الفرنسي، استشهد جوهانا، بائع الكتب، في سبيل الوطن الذي احبه. وقد رفض التخلي عن شركائه وشجب الذين كانوا افضل منه في قدراتهم. وقد ابلغ احد ضباط الشرطة الالمان عنه الفرنسيين ، وبقى العار ملحقاً باسمه حتى الساعة.

في هذه المدينة الصغيرة، المضيئة ببريق الشهادة في سبيل الوطن، والتي حكمتها النمسا وان كان دم شعبها المانياً ، عاش والدي في آواخر الثمانينات من القرن الماضي: وبينما كان والدي موضفاً حكومياً، رعت امي افراد الاسرة. ولم بيق حالياً في ذاكرتي سوى القليل عن هذا المكان لاننا سرعان ما رحلنا منه لبلدة باسو في المانيا.

وخلال تلك الايام كان التنقل مصيراً محتوماً على الموظف. وهكذا انتقل والدي مرة ثالثة الى لينز، وهناك اخيراً تمت احالته على التعاقد. ولكن ذلك لم يعن له الراحة ابداً. فمنذ طفولته كان لا يطيق البقاء في المنزل بلا عمل، وهرب في سن الثالثة عشر الى فيينا وتعلم حرفة وحصل على التجربة والنجاح قبل سن السابعة عشر، ولكنه ما قنع بكل هذا ، بل ان معاناة الاعوام الاولى دفعت للسعي وراء مستقبل افضل . وهكذا بحث على وظيفة حكومية، وبعد عشرين عاماً من الصراع الدؤوب ، عثر عليها. وهكذا حقق قسمه القديم ، وهو الا يعود لقريتة الصغيرة الا بعد ان يكون قد كون نفسه.

حقق الرجل حلمه ، ولكن لا احد في القرية تذكر الطفل الذي هاجر ، بل وبدت له قريته غريبة تماماً ، وكانه يراها لاول مرة. واخيراً، وفي سن السادسة والخسين، بعد تقاعده، ما استطاع احتمال الفراغ، فاقتنى مزرعة وعمل في زراعتها كما فعل اجداده من قبل.

وخلال تلك الفترة تكونت داخلي بوادر الشخصية الاولية. اللعب في الحقول، المشي الى المدرسة، وخصوصاً الاختلاط مع اصدقائي العنيفين الذي اقلقت علاقاتي معهم والدتي، كل هذه جعلتني من النوع النشط الذي لا يرتاح للبقاء في المنزل. وبالرغم من عدم تفكري بالحرفة المستقبلية، ما كانت عواطفي ابداً تتجه نحو المسير الذي اتخذه والدي لنفسة. اؤمن باني حتى آنذاك تمتعت بقدرات بلاغية مميزة ظهرت في شكل حوارات عنيفة مع زملاء الدراسة. بل وبت زعيماً لمجموعة: ونجحت في المدرسة بالفعل ، ولكني كنت شديد المراس. اشتركت في النشاطات الكنائسية ، واسكرتني عظمة هذه المؤسسة العريقة. وبدا لي القس مثالاً لما ينبغي ان اكونه، كما بدا لوالدي من قبل. ولكن الاخير فشل في التعامل مع قدرات ابنه البلاغية وما استطاع تصور مستقبل ممكن له، بل واقلقه هذا الوضع كثيراً.

هذا الحلم الكنائسي تخلى عني سريعاً ، بعد ان عثرت على بعض الكتب العسكرية التي وصفت العارك بين فرنسا والمانيا عام 1870 - 71. عشقت هذه النصوص ، وصارت الصرعات البطولية النشاط الفكري والخيالي الاساسي لكياني. ومنذ ذلك الوقت صرت اعشق كل ما له علاقة بالجنود. ولكن الاسئلة الصعبة بدأت تفرض نفسها على فكري : هنل هناك فوارق - بين الالمان الذين خاضوا تلك المعارك والاخرين؟ ولماذا لم تشترك النمسا فيها؟ ولماذا لم يطلب من والدي الاشتراك؟ الا ننتمي جميعاً لذات الوطن؟ الا ننتمي سوية؟ بدأت هذه التساؤلات تشغل بالي لاول مرة. طرحت الاسئلة واجابوني بحذر قائلين ان الالمان غير المحظوظين لا ينتمون لذات الدولة التي اسسها بسمارك.

وكان هذا الوضع عسيراً على الفهم.

ثم قالوا لي ان الاوان قد حان للذهاب للمدرسة الثانوية.

اكد والدي انه يرغب في ان اذهب لمدرسة خاصة لاعداد الموظفين. فهو - بسبب تجاربه الحياتية - ما راى طائلاً وراء المدارس العادية. كانت رغبته هي ان اصير موظفاً حكومياً مثله ، بل وافضل لانني كنت ساتعلم من اخطائه واستفيد من تجاربه.

لانه تصور استحالة ان ارفض السير على دربه، كان قراره واضحاً ، مؤكداً. معاناة عمر طويل ومشاق الحياة وهبته طبيعة متعسفة. وبدا له من المستحيل ان يترك الامر لابنه غير المجرب ، الغير قادر على احتمال المسئوليات. بل وتصور انه سيكون مذنباً ان لم يستخدم سلطته لتحديد مستقبله، وراى ان هذه مسؤولية تحتمها عليه الوظيفة الابوية.

ومع ذلك سارت الامور بطريقة مغايرة: فقد رفضت الفكرة بشكل قاطع، وما كان عمري اكثر من احدى عشر سنة. ولم ينجح الترغيب او الترهيب كليهما في تغيير رايي. وكل مساعي والدي الذي قص علي قصصاً عن تجاربه في العمل ، راجياً ان اقنع به واحبه، ادت لنتائج عكسية. تثائبت واهناً اذ تصورت انني ساقضي العمر امام مكتب ، بدون ان يكون وقتي ملكاً لي، قاضياً حياتي في تحويل الدنيا الى فراغات يقوم احدهم بملأها في صورة طلب او وظيفة. واي افكار كان يمكن لمشهد كهذا ان يخلقه في نفس طفل طبيعي؟ الوظائف المدرسية كانت سهلة ، وامتلكت الوقت الحر لدرجة ان الشمس عرفتني اكثر من حيطان حجرتي. وحين يبحث اعدائي السياسيين في الماضي البعيد، ويعثرون على ما يؤكد ان هتلر كان طفلاً شقياً ، اشكر الله على انهم قد اعادوا لفكري ذكريات بعض تلك الايام السعيدة. الغابات والحقول باتوا حلبات الصراع التي قضيت فيها حياتي.

والمدرسة الجديدة لم تغير هذا الوضع.

وطالما كانت معارضتي الاساسية لفكرة والدي نظرية ، استطعنا التعايش سوياً. فقد احتفظت بارآئي الخاصة، وما خالفته بصوت مرتفع. ولكن - وفي سن الثانية عشر - بدأت اطمع في ان اصير رساماً. ومع ان والدي كان يشجع هذه الهواية، الا انه لم يتصور ابداً ان اسير في هذا الاتجاه.

-"رسام"؟

تشكك حتى في عقلي ، وربما تصور انه لم يفهم ما اعنيه. ولكن بعد ان فهم ، عارض الفكرة بكل ما في طبيعته من عناد. "رسام! فقط بعد موتي.” ولكنة اكتشف ان ابنه قد ورث منه ذات العناد. وهكذا بقي الحال زمناً طويلاً . وما كانت النتائج طيبة. فقد اصابت المرارة نفس الرجل الكبير، وما كان باستطاعتي الرضوخ له. وهكذا حين اكد استحالة دراستي للفن، قررت ايقاف الدراسة بشكل عملي، متصوراً انه حين سيرى فشلي الدراسي ، سيسمح لي بالسير في الاتجاه الذي اختاره. كانت نتائجي المدرسية آنذاك غير طبيعية: فكل ما له علاقة بالرسم جلبت فيه افضل النتائج، وفي الباقي اسوءها. ولكن انجازاتي كانت مميزة في حقلي الجغرافيا والتاريخ الالمانيين، لانني عشقت هاتين المادتين وكنت افضل التلاميذ فيهما.

وحين اتطلع لتلك المرحلة الان، بعد مرور السنوات الكثيرة، الاحظ حقيقتين هامتين: فاولاً ، صرت قومياً، وثانياً ، تعلمت معنى التأريخ. ففي دولة متعددة الاجناس كالنمسا ، كان من الصعب جداً ان يعرف الرء معنى الانتماء لالمانيا. فبعد العارك الفرنسية الالمانية، قل الاهتمام بالالمان في الخارج، ونساهم البعض تماماً. ومع ذلك، فلو لم يكن الدم الالماني طاهراً قوياً ، لما استطاع العشرة مليون الماني ترك بصمتهم واضحة جلية في دولة تتكون من اكثر من خمسين مليون نسمة، لدرجة ان الناس تصورت ان النمسا كانت دولة المانية مستقلة.

القليلون ادركوا قسوة الصراع الوحشي الذي خضناه للحفاظ على اللغة الالمانية، المدارس الالممانية، والاسلوب الخاص للحياة: اليوم فقط، حين يحلم الملايين من الالمان بالعودة للوطن الام، ساعين على الاقل للحفاظ على لغتهم القوية، يدرك جل الناس صعوبة هذا الصراع، وربما يقدر بعضهم اهمية هؤلاء الافراد الذين حموا الوطن من الهجمات من الشرق، وحاربوا من اجل ابقاء اللغة المشتركة حين ما اهتمت الحكوات الالمانية الا بالمستعمرات البعيدة ، متناسية معاناة الالمان في الجوار. وحتى الاطفال اشتركوا في الصراع القومي: اذ رفضنا ترتيد الاغاني غير الالمانية، وارتدينا الثياب التقليدية ، بالرغم من التهديد والعقوبات. فمنذ طفولتي لم يعني شعور “الوطنية” أي شيء لي، بينما عنت المشاعر القومية كل شيء.

وقد كانت دراسة التاريخ دافعاً قوياً لخلق الحس القومي، نظراً لعدم وجود تاريخ نمساوي مستقل. بل ان مصير هذه الدولة مرتبط بالممانيا لدرجة ان ظهور تاريخ نمساوي خاص يبدو مستحيلاً. فتقسيم المانيا لموقعين هو في حد ذاته جزء من التاريخ الالماني.

ضرورة توحيد الالمان والنمساويين كانت نتيجة حلماً بقي في قلوب الجماهير بسبب تذكرها للتاريخ الذي كان بئراً لا ينضب. وخاصة في اوقات النسيان ، سما التاريخ فوق الثراء المرحلي وهمس الماضي للشعب باحلام المستقبل.

تعليم التاريخ في ما يسمى المدارس الثانوية لا يزال حتى اليوم في حال يرثى لها. والقلة من الاساتذة تفهم ان الهدف من دراسته ليس حفظ ارقام او تواريخ، مثل يوم معركة، او ساعة ميلاد زعيم، او حتى حين وصول ملك للسلطة. فمعرفة التاريخ تعني معرفة القوى التي تسبب النتائج المسماة احداثاً تاريخية.

والمعرفة هي : القدرة على تذكر الاساسي ، ونسيان كل ما هو غير ضروري.

وقد يكون احد اهم اسباب تشكيل شخصيتي الحالية دراستي للتاريخ مع احد القلة الذين عرفوا هذه القواعد وراعوها في التدريس، الاستاذ ليوبلد بوتش. فقد كان ذلك الرجل العجوز خيراً متقناً لمادته، وتمتع ايضاً بقدرة بلاغية مميزة سحرت اللب وجعلتنا، ونحن نستمع لبعض قصصه، ننسى الحاضر، وكانه ساحر ياخذنا لعصور ماضية، عبر ضباب عشرات السنين، صانعاً من الاحداث التاريخية واقعاً معاشاً. وقد كنا من المحظو ظبن جداً لان هذا المدرس عرف كيف ينير الماضي بامثلة من الحاضر، وكيف يجلب من الماضي وقائع تلقي الضوء على الحاضر. ونتيجة لهذه القدرة فهم اكثر من غيره المصاعب التي نعانيها، واستغل مشاعرنا القومية لتقويمنا، مستنشداً باحساسنا بالشرف للانتماء للوطن. وبهذه الطريقة نجح في تهذيبنا بشكل افضل من أي اسلوب آخر.

هذا المدرس جعلني عاشقاً للتاريخ. وهكذا بت ثورياً بدون ان يسعى هو متعمداً لذلك. فمن يستطيع دراسة التاريخ الالماني مع استاذ كهذا بدون ان يكره الدولة التي كادت تدمر مصير الامة؟
الم نعرف ان النمسا ما حملت للالمان سوى البغضاء؟ الم نشاهد افعالهم كل يوم؟ في الشمال والجنوب كان سم الدول الاخرى يدمر جسد وطننا ، وحتى فيينا تم تحويلها لمدينة لا المانية. فقد حاولت الاسرة الحاكمة جلب سكان البلاد الاخرى، وخصوصاً التشيك، بقدر الاستطاعة، وكان مقتل السيد فرانسز فوردناد، عدو الالمان الاول، على ايديهم دلالة على عدالة الرب الازلي.

كانت الاثقال التي ناء بحملها الشعب الالماني هائلة ، اذ دفعوا المال والدم ، وبلا فائدة . ولكن ما اغضبني ادعاء ان كل هذا نتج عن علاقات متميزة بين المانيا والنمسا، تنج عنها ان الشعب الالماني تم تديره بموافقة من الحكومة الالمانية ذاتها . وكانت نتيجة هذا النفاق هو ازدياد الكرهية للحكومة الالمانية لدرجة الازدراء. ولكن حكام المانيا ما فقهوا كل هذا ، ومثل رجل اعمى، عاشوا بجوار الجثة متصورين في سكون الموت ماعة ميلاد حياة جديدة. وهذا التصور الخاطيء ادى للحرب العالمية الاولى والدمار الناتج عنها.

ادركت في هذه الفترة ان الامة الالمانية ستبقى فقط لو تم تدمير النمسا، وما هو اهم ، ان الحس القومي يتعارض كلية مع مشاعر التبجيل للملك. عرفت ان هذه الاسرة الحاكمة لا هدف لها سوى اخماد نار الامة الالمانية. ومع ذلك احببت النمسا كجزء من الوطن الام.

طبع التفكير التاريخي الذي تعلمته خلال هذه الايام ما هجرني ابداً بعد ذلك. بات التاريخ العالمي مورداً لا ينضب عرفت عن طريقه مغزى الاحداث المعاصرة. وهكذا تحولت باكراً الى سياسي ثائر.

ما كان المسرح سيئاً في شمال النمسا. فقد شاهدت المسرحيات المحتلفة في سن الثانية عشر ، وبعض اعمال الاوبرا كذلك.

كل هذه العوامل دفعتني لرفض العمل الذي اراد والدي اعدادي له . ايقنت انني لن استطيع الوصول للراحة النفسية في أي وظيفة حكومية. ساكون رساماً، ولن تقدر أي قوة في العالم على جعلي موظفاً.

ومع ذلك ، تحولت مع مرور الاعوام الى حب المعمار اكثر من الرسم.

وعلى كل حال ، فقد تدخل القدر، واصيب والدي بالجلطة، وانتهت رحلته الدنيوية، وتركنا جميعاً في حالة من الحزن العميق. لقد كان طموحه الاخير مساعدة ابنه حتى لا يعاني كما عانى ويكرر ذات الاخطاء. وان لم ينجح الا ان البذور التي زرعها لعبت دورها في خلق مستقبل لم يستطع هو - ولا انا- ادراكه آنذاك.

وقد رغبت امي في ان استمر في الدراسة كما اراد والدي. ثم اصبت بمرض ساعدني على التغلب على هذا الصراع المنزلي. اذ اكد الطبيب انني لا استطيع البقاء في مكتب ، والح على ابتعادي عن المدرسة لعام كامل. وهكذا حققت لي الاقدار الهدف الذي سعيت له.

وافقت امي مكرهة اخيراً على ان ادرس في المعهد الفني. كانت اسعد ايام العمر امامي - الا انها بقت احلاماً لان والدتي توفيت بعد وفاة والدي بعامين نتيجة لمرض قاتل اصابها على حين غرة. احترمت والدي، ولكنني احببت امي، وقد احزنني رحيلها كثيراً.

وهكذا وجدت نفسي مضطراً لاتخاذ قرارات صعبة. الاموال القليلة المتبقية كانت قد اُنفقت في علاج امي، وما قدمته الحكومة للايتام ما كان كافياً حتى لشظف العيش . وهكذا كان امامي مسؤولية الاستقلال الاقتصادي.

وضعت ثيابي القليلة في حقيبة ، وفي قلبي ارادة جديدة، واتجهت الى فيينا. مثل والدي، قررت ان انتزع من القدر مصيراً ميزاً ، وان اكون شيئاً خاصاً ، أي شيء ، باستثناء موظف حكومي.



الفصل الثاني: اعوام الدراسة والمعاناة في فيينا . . .

حين ماتت والدتي ، حدد القدر اجزاء كثيرة من مصيري المستقبلي .

خلال الشهور الاخيرة من مرضها ، ذهبت الى فيينا لاجتياز الاختيار المبدأي لدخول المعهد الفني. كنت قد اعددت بعض اللوحات ، متاكداً من ان الامتحان سيكون في غاية السهولة . فقد كنت الافضل في الفصل في مجال الرسم دائماً ، ومنذ ذلك الوقت ، تقدمت قدراتي بسرعة، فاصابني الغرور .

ومع ذلك، شعرت بالمرارة لان قدراتي على الرسم الهندسي فاقت بكثير قدراتي كرسام. وكل يوم كان ولعي بالفنون المعمارية يتزايد - خصوصاً بعد رحلة لمدة اسبوعين قضيتها في فيينا في سن السادسة عشر. وقد كان هدف تلك المرحلة هو دراسة متحف الفن، وان وجدت نظراتي تتطلع اكثر لهيكل المتحف. فمنذ الصباح الباكر وحتى المساء، تجولت في الاروقة متابعاً كل ما يشغف فكري، وان كان جل اهتامي قد انصب على المتحف ذاته. لساعات وقفت اما مبنى الاوبرا، وبدا لي المكان ساحراً مثل قصور الف ليلة وليلة.

والان كنت في المدينة الخلابة للمرة الثانية، منتظراً على احر من الجمر نتائج الامتحان. كنت متاكداً من النجاح لدرجة ان سقوطي اصابني بذهول مطبق. وجين تحادثت مع المسؤول، وطلبت منه التوضيح، اكد لي ان اللوحات التي قدمتها تشير الى عدم توافر الموهبة المطلوبة للرسم لدي، وان اكد ان مجال الرسم الهندسي هو الملائم لي ولم يصدق انني لم ادرسه البتة. مكتئباً تركت البنى، لاول مرة في حياتي غير عارف بما يجدر بي فعله.

عرفت الان انه لابد لي ن دراسة الهندسة . وكان الطريق صعباً: فكل مارفضت دراسته خلال صراعي مع والدي بات ضرورياً. ما كان ممكناً دخول كلية الهندسة بدون الشهادة الثانوية. وهكذا بدا ان حلمي الفني لن يتحقق ابداً.

حين عدت لفيينا مرة تالثة، بعد وفاة والدتي، كان الطموح والعناد قد عادا لي. قررت ان اصير مخططاً هندسياً ، وكل الصعاب كانت التحدي الذي لابد لي من اجتيازه. كنت مصمماً على مواجهة العقبات، وامامي صورة ابي، الذي بدأ حياته مصلحاً للاحذية ، وصعد بجهوده الخاصة الى موقع حكومي جيد. توفرت لدي امكانيات اكثر، وهكذا بدا ان الصراع سيكون اسهل، وما بدا لي آنذك سوء الحظ، امتدح اليوم كمساعدة القدر الحكيم. فبينما ازدادت معاناتي اليومية، ازدادت ارادة المقاومة داخل ذاتي وفي نهاية المطاف تفوقت على غيرها من العوامل . تعلمت خلال تلك الايام الشدة ، وتحولت من طفل مدلل الى رجل قُذف به الى قلب المعاناة والفقر المدقع. ومن ثم تعرفت على اولئك الذين سادافع عنهم في ايام مستقبلية.

خلال تلك المرحلة ادركت وجود خطرين مدقعين يحيطان بالشعب الالماني، وهما اليهودية والشيوعية. ولا تزال فيينا، التي يتصورها الكثيرني مدينة اللذات البريئة، تجلب لذهني اسوء صور المعاناة الانسانية التي عرفتها لمدة خمسة اعوام اضطررت خلالها للعمل ، اولاً كمستاجر يومي، ثم كرسام.

ما جلبته من مال ما كفى حتى لاشباع الجوع اليومي. كان الجوع صديقاً لي آنذاك، وما تركني للحظة، بل شاركني في كل شيء. كل كتاب اقتنيته ، وكل مسرحية شاهدتها، جعلته اقرب الي. ومع ذلك، درست خلال تلك الايام اكثر من أي فترة اخرى. باستثناء زياراتي النادرة للاوبرا التي دفعت ثمنها جوعاً ، ما كان لدي أي لذة سوى القراءة. وهكذا خلال تلك الفترة قرات كثيراً وبعمق. كل وقت الفراغ المتاح لي بعد العمل قضيته في القراءة، وبهذه الطريقة جمعت خلال بضع اعوام المعارف التي تغنيني حتى الساعة .

خلال تلك الاعوام، تكونت في ذهني صورة للعالم تبقى القاعدة التي استخدمها في كل قرار اتخذه ، وكل تصرف اقوم به. وانا اليوم مقتنع بان كل سلوكياتنا تنبع من آراء تنتج اثناء شبابنا. فحكمة النضوج تحوي الاراء الخلاقة التي ينتجها الفكر الشاب ولا يمكن تطويرها آنذاك، مضافاً لها الحذر الذي يتعلمه الانسان بالتجربة. وهذه العبقرية الشبابية ستكون الاداة الاساسية لخطط المستقبل، التي سيمكن تحقيقها فقط لو لم تدمرها تماماً حكمة النضج.

كانت طفولتي مريحة، بلا قلق يذكر. كنت انتظر مجيء الصباح، بلا أي معاناة اجتماعية. فقد انتميت لطبقة الراسمالية الصغيرة ، وكنت لهذا السبب بعيداً عن الطبقات العاملة. وبالرغم من ان الفرق الاقتصادي بين الطبقتين كان محدوداً ، الا ان الفاصل بينهما كان شاسعاً . وقد يكون سبب العداء بين الطبقتين هو ان الموظف، الذي ما استطاع الا بصعوبة ترك الطبقات العاملة ، يخشى من العودة الى تلك الطبقة المحتقرة، او على الاقل ان يتصوره الناس جزءاً منها. هناك ايضاً الذكريات المخيفة للفقر، وانعدام المعايير الاخلاقية بين الطبقات المنحطة، وهكذا يخشى الراسمالي الصغير أي اتصال مع هذه الطبقة. وهذا الصراع عادة يدمر كل شعور بالرحمة. فصراعنا للبقاء يدر عواطفنا لاولئك الذين تخلفوا ورائنا.

اشكر القدر الذي اجبرني على العودة لعالم الفقر والخوف، لان التجربة ازاحت عن عيوني غشاء نتج عن تربية الرأسمالية الصغيرة. عرفت الان معاناة الانسانية ، وتعلمت التفرقة بين المظاهر الفارغة والكائن الموجود في داخلها.

كانت فيينا التي شاهدتها احدى اكثر مدن اوربا تخلفاً. الثراء الفاحش والفقر المدقع تجاورا. في مركز المدينة وحاراتها شعرت بنبض 52 مليوناً . اما المحكمة الفخمة والمناطق المجاورة لها، وخصوصاً المباني الحكومية،

فجذبت لها الذكاء والثراء. وهذه المناطق كانت كل ما يوحد الشعوب المختلفة الموجودة في هذه الدولة. فالمدينة كانت العاصمة الثقافية والسياسية والاقتصادية. مجموعة مديرى الشركات العامة والخاصة، موظفي الحكومة، الفنانين، والمدرسين والمثقفين، عاشت في مواقع قريبة بجوار الفقراء، وواجهت جيوشاً من العمال كل يوم. خارج القصور المعروفة تشرد الاف من العاطلين، وفي ظلال اسوارها رقد من لا يملكون مسكناً.

معرفة هذه الوضاع المزرية ودراستها لن يتم من مواقع عالية : لا احد ممن لم يسقطوا في اشداق هذه المعاناة يمكن له ان يفهم الآمها. ومن حاولوا دراستها من الخارج غرقوا في لغو الحديث والعاطفة ، وانا لا ادري ان كان تجاهل الاغنياء للفقير اكثر ضرراً من افعال اولئك الذين يدعون الشفقة عليه بتكبر وغرور. والنتيجة دائماً سلبية على كل حال، بينما تزداد الوضاع سوءاً. ولا يجدر بالفقير ان يرضى بصدقة بدلاً من ان تعاد له بعض حقوقه.

لم اعرف الفقر من بعيد: بل ذقت طعم الجوع والحرمان، ولم ادرسه بطريقة موضوعية، بل خبرته داخل روحي. وكل ما استطيع فعله الان هو وصف المشاعر الاساسية، وذكر بعض ما تعلمته من هذه التجارب.

لم يكن العثور على وظيفة صعباً ، نظراً لافتقاري للتجربة. وهكذا اضطررت للعمل كمساعد عامل او كعامل باجر يومي. حلمت بالهجرة الى امريكا. تحررت من الافكار القديمة عن الحرفة والمركز، المجتمع والتراث، وسعيت وراء أي فرصة متاحة، وتقبلت أي عمل، مدركاً ان أي عمل شريف لا يجلب العار لصاحبه. عرفت بسرعة ان العمل متوفر ويمكن الحصول عليه بسهولة، ولكن يمكن ايضاً بسهولة ان يفقده المرء. بدا لي ان عدم ضمان الوصول لرغيف العيش كل يوم كان اسوء ما عانيته.

العامل المدرب لا يجد نفسه في الشارع بيسر مثل العامل غير المحترف، الا انه قد يواجه ذات المصير ايضاً. ولذلك ترى العمال يضربون عن العمل: مما يؤدي للاضرار باقتصاد المجتمع ككل.

ذلك الفلاح الذي يهاجر الى المدينة، متخيلاً سهولة العمل، وقلة ساعاته، والاضواء الكهربائية الملونة، كان قد اعتاد على نوع من الضمان بخصوص لقمة العيش. ففي القرية، لن يترك عمله الا اذا ضمن لنفسه عملاً افضل منه. ونظراً لوجود حاجة دائمة للايدي العاملة في الفلاحة، تبقى امكانيات البطالة محدودة. ومن الخطأ تصور ان الفلاح الذي يهاجر للمدينة اكثر كسلاً من ذلك الذي يبقى في عقر داره. العكس هو الصحيح: فالمهاجر عادة يكون الاكثر صحة ونشاطاً. ولذلك لا يخاف من مواجهة الصعاب. هو يصل ايضاً للمدينة ومعه مدخراته. ولذلك لا يخاف ان لا يصل للوظيفة المرغوبة من اول يوم. ولكن الامور تزداد سوءاً ان عثر على وظيفة ثم فقدها. فالعثور على غيرها، خصوصاً في فصل الشتاء، سيكون شاقاً بل ومستحيلاً . ومع ذلك، سيعيش وستعاونه الفوائد الحكومية للعاطلين. ولكن، حين تنضب هذه الموارد مع مرور الوقت، ستبدأ المعاناة الحقيقية. سيتشرد الفتى الجائع في الشوارع، وسيبيع او يرهن ما يملك، وستسوء حال ثيابه، وينحط الى مستوى مادي وروحي في غاية التعاسة. فتتسمم روحه. وان فقد سكنه في الشتاء، وهو مايحدث كثيراً ، فستكون معاناته فظيعة. وفي نهاية المطاف، سيعثر على وظيفة اخرى، ثم تتكرر ذات القصة مرة ثانية وثالثة، وشيئاً فشيئاً يتعلم عدم الميالاة، ويصير التكرار عادة. وهكذا يتحول هذا الرجل النشيط سابقاً الى كسول يستخدمه الاخرين لمصالحهم. وقد عاش حياة البطالة لوقت طويل بدون ذنب حتى ما عاد بهمه طبيعة العمل الذي يقوم به، حتى ان كان هدفه تدمير القيم السياسية الثقافية الاجتماعية. وحتى ان لم تعجبه فكرة الاضراب، فلن يبالي بها. وقد شاهدت الاف القصص المشابهة للتي اقصها. وكلما شاهدت المزيد ، ازدادت كراهيتي للمدينة الكبيرة التي تمتص دماء الرجال وتدمرهم.

فحين جاءوا فراداً، انتمى كل منه للمجتمع، وبعد اعوام، ما انتموا لاي شيء.

وانا ايضاً عانيت وعثاء حياة المدينة: شعر جسدي بصعابها وامتصت روحي معاناتها. وقد شاهدت ايضاً ان التنقل السريع بين العمل والبطالة، وما ينتج عنه من تقلب اقتصادي، يدمر شعور الفرد باهمية الاقتصاد. بدا ان الجسد يعتاد على التبذير حين يتوفر المال، ويستحمل الجوع حين انعدامه. وبصراحة، ان الجوع يقضي على أي ارادة تسعى للتنظيم الاقتصادي حين يتوافر المال لانه يضع امام ضحيته المعذبة سراب الحياة السعيدة لدرجة ان الرغبات المريضة ستدمر أي قدرة على التحكم ساعة الوصول لاي موارد. وهكذا حين يصل الرجل للمال ينسى كل افكار تتعلق بالنظام والترتيب، ويعيش حياة البذخ ويسعى وراء اللذات الانية. وغالباً ما سيكون لهذا العامل زوجة واطفال وسيعتادون جميعاً على التبذير ثلاث ليال من الاسبوع، والجوع باقيه. وفي ساعات الظهيرة سيجلسون سوياً امام الصحون شبه الفارغة، منتظرين يوم وصول المرتب، متحدثين عنه، حالمين طوال ساعات الجوع بلذات التبذير.

وهكذا يعتاد الاطفال منذ طفولتهم على هذه الاوضاع السيئة.

وقد شاهدت هذه الاوضاع مئات المرات وتقززت منها اولاً، ثم فهمت حقيقة الماساة التي يعيشها هؤلاء الناس الذين باتوا ضحايا لظروف اجتماعية سيئة. وما كان اكثر بؤساً هو اوضاع السكن السيئة . بل انني اشعر بالغضب حتى هذه الساعة حين اتذكر الغرف الصغيرة والاكواخ الخشبية المحاطة بالقاذورات والاوساخ من كل جانب. وقد خشيت ذلك اليوم المرعب، حين سيخرج هؤلاء العبيد من اقفاصهم للانتقام من قسوة البشرية عليهم.

والمسؤولون والاثرياء يتركون الامور تسير على مجاريها: وبدون أي تفكير يفشلون حتى في الشك بان القدر يخطط للانتقام من هذا الجور. اما انا فعرفت ان تحسين هذه الاوضاع ممكن بطريقتين: فلابد من وجود احساس عميق بالمسؤولية لخلق اسس افضل للتقدم ، ومعه ارادة وحشية تدمر كل ما سيقف في طريقها ويعوق تقدمها. وكما لا تركز الطبيعة جهودها في الحفاظ على ما هو موجود، بل تسعى لخلق اجيال ستقبلية افضل، سيكون من الضروري صناعة قنوات جديدة اكثر صحية منذ البداية.

تجاربي المختلفة في فينا علمتني ان المشاريع الخيرية غير مفيدة ، والمطلوب تدمير الفوضى الاقتصادية التي تؤدي الى انحطاط الافراد الخلقي. بل ان عدم قدرتنا على استخدام الوحشية في الحرب ضد المجرمين الذين يهددون المجتمع سببها هو عدم تاكدنا من برائتنا التامة من الاسباب النفسية والاجتماعية لهذه الظواهر. شعورنا الجمعي بالذنب تجاه مآسي الانحطاط الاخلاقي يشل قدرتنا على اتخاذ اقل الخطوات قسوة في الدفاع عن مجتمعاتنا. وفقط حين نتحرر من سلطة عقدة الذنب هذه سنقدر على الوصول للقوة والوحشية والضروريين لتدمير الاعشاب الضارة والافكار المارقة.

وبما ان النمسا كانت عملياً بلا قانون اجتماعي صالح، لم تكن الدولة قادرة على التعامل مع هذه الامراض البتة.

ولا اعرف حتى الساعة ما ارعبني اكثر: هل كان سوء الاوضاع الاقتصادية لمن عرفت، ام انحطاطه الخلقي، ام الضعف الفكري؟

تصور مثلاً هذا المشهد: في شقة تتكون من حجرتين سكنت اسرة عامل تتكون من سبع اشخاص. بين الاطفال الخمسة، كان هناك طفل في الثالثة، وهو السن الذي تتكون خلاله انطباعات الفرد الاولى. هناك بعض الموهوبين الذين يتذكرون هذه الانطباعات حتى ارذل العمر. مجرد ضيق الشقة وازدحامها لا يؤدي لخلق ضروف صحية ونفسية ملائمة للنمو. قد تحدث مثلاً خلافات بسيطة بين افراد كل اسرة، وعادة يذهبون كل الى حجرة مختلفة، وينتهي الامر. اما في شقة صغيرة، فكل سيرى نفسه في مواجهة الاخرين طوال الوقت. بين الاطفال، الخلاف شيء طبيعي، وهم ينسون اسبابه بسرعة. ولكن ان شاهد الاطفال الابوين في حال خصام دائم، تستخدم خلاله الالفاظ النابية، وربما العنف، فستكون النتائج سلبية. سيتصور الطفل العالم بطريقة تخيف من يقدر على تصورها. فقد تم تسميممه اخلاقياً، وما تغذى جسده كما ينبغي. ومن ثم يذهب هذا المواطن الصغير الى المدرسة. بعد صراع مضن، قد يتعلم القراءة والكتابة، اما الواجب المنزلي، فانجازه مستحيل. بل ان والديه سيقذعان المدرسة بابشع الالفاظ. كل ما سيسمعه الطفل لن يعلمه احترام مجتمعه. سيكره المدرسين وكل انواع السلطة. وحين يُطرد من المدرسة بعد ذلك، سيلاحظ الناس غبائه، وجهله ، وكذلك سوء اخلاقه. أي موقع سيستطيع هذا الشاب االيافع لوصول اليه في ظروف مثل هذه؟ كل ما لديه هو كراهية المجتمع والبشرية. وبعد هذا، في سن الخامسة عشر، سيبدأ ذات الحياة التي عاشها والده، فيذهب للخانات، ويعود متاخراً لمنزله، وينتهي به الامر في السجن.

وكم من مرة غضب الرأسمالي اذ سمع العامل الفقير يقول انه لا يهتم سواء اكان المانياً ام لا، ما دام يجد الغذاء والكساء: فقدان الشعور القومي بهذه الطريقة فظيع. كم من الالمان في عصرنا يشعرون بالفخر ان تذكروا انجازات امتهم الثقافية والفنية؟ وهل يدرك المسؤولين ان الشعور بالفخر والعزة الوطنية لا يصل الا لقلة من افراد الشعب.

لذلك لا بد من تحسين الاوضاع المعيشية ومن ان يركز التعليم على قيم اساسية تتفشى في اذهان الناس عبر التكرار.

ولكن المانيا، بدلاً من الدفاع عن القيم القليلة الموجودة، تسعى لتدميرها. والفئران التي تبث سمومها في القلب والذاكرة تنجح في الوصول لغاياتها، بمساعدة الفقر والمعاناة: يوماً بعد يوم، في المسارح ودور السينما، نرى السم يُقذف على الجماهير، ثم يتحير الاثرياء عن اسباب انحطاط القيم الاخلاقية للفقراء، وانعدام الشعور الوطني بينهم.

قضية خلق الشعور الوطني اذاً تعتمد على توفير ظروف ملائمة لتعليم الافراد لان اولئك الذين يتعلمون عن طريق الاسرة والمدرسة فقط هم الذين سيستطيعون تقدير الانجازات الثقافية والاقتصادية والسياسية لوطنهم لدرحة الانتماء لذلك الوطن. استطيع ان احارب فقط من اجل ما احب، واحب فقط ما احترمه، واحترم على الاقل ما اعرفه.

ومع ازدياد اهتمامي بالقضايا الاجتماعية ، بدات اقرء المزيد عنها ، وفتح عالم جديد ابوابه لي.

خلال الاعوام 1900 -1910 تغيرت اوضاعي لانني ما عدت اعمل كعامل ، بل بدات العمل كخطاط وراسم بالالوان المائية. ومع ان المال ما كان كافياً ، الا انه كفى لتحقيق طموحي آنذاك. اذ استطعت الرجوع للمنزل وانا قادر على القراءة بدون ان يدفعني التعب من عمل اليوم للنوم فوراً. بات بعض وقتي ملكاً لي.

تصور الكثيرون انني غير طبيعي : ولكنني تابعت ما اعشق، الموسيقى والعمران. كنت اجد في الرسم والقراءة كل اللذات وسهرت كثيراً حتى الصباح مع لوحة او كتاب. وهكذا كبرت طموحاتي، وحلمت بان المستقبل سيحقق امالي، وان بعد حين. كذلك تابعت قضايا السياسة وقرات المزيد عنها لانني ارى ان التفكير في شؤونها وظيفة تقع على عاتق كل مواطن يفكر. وبدون معرفة شيء عن طبيعتها لا يحق للفرد النقد او الشكوى.

ما اعنيه بالقراءة يختلف عا يقوله دعاة الثقافة في عصرنا. فقد عرفت رجالاً قراوا كثيراً ، ولكنه ما كانوا مثتقفين. نعم، هم عرفوا الكثير من المعلومات، ولكنهم ا استطاعوا تسجيلها وتنظيمها. وهكذا افتقدوا فن تمحيص القيم من الغث، والتحرر مما كان بلا فائدة، والاحتفاط بالمفيد معهم طول العمر. فالقراءة ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الغايات. وظيفتها الاساسية هي ملأ الفراغ المحيط بالمواهب والقدرات الطبيعية للافراد. المفروض هو ان نقدم للفرد المعدات التي يحتاجها لعمله الحياتي بغض النظر عن طبيعة هذا العمل. كذلك، يجدر بالقراءة ان تقدم رؤية معينة للوجود. وفي كلا الحالين، الضروري هو الا تتحول محتويات الكتاب الى الذاكرة بجوار كتب لاحقة، بل ان توضع العلومة المفيدة بجوار غيرها لتوضيح الرؤية الاساسية في فكر القاريء. وان لم يحدث هذا، ستتجمع المعلومات بشكل فوضوي في الذهن، بلا قيمة سوى خلق الكبرياء. فالقاريء من هذا النوع سيتصور انه قد عرف المزيد ، وان كان في الواقع يبتعد اكثر فاكثر عن الواقع حتى ينتهي المطاف به في مستشفى المجانين.. او مجلس الشعب، وهو ما يحدث كثيرا. وهو لن يستطيع اذاً الاستفادة مما قراه.

اما القاريء الناجح، فيستطيع بسرعة ادراك ما سيستفيد منه وترك الباقي. المعلومة المفيدة ستصحح الاخطاء، وتوضح الصورة الكلية. ثم، حين تضع الحياة سؤالاً امام القاريء، ستعرف ذاكرته كيف تجلب الاجزاء المطلوبة للاجابة، وتقدمها للعقل حتى يختبرها ويتحقق بشانها، حتى تتم الاجابة على السؤال. وهذه هي القراءة المفيدة. ومنذ صباي حاولت القرائة بهذا الاسلوب، وفي هذا المسعى عاونني الذكاء والذاكرة. اما تجارب الحياة اليومية فقد دفعتني لقراءة المزيد والتفكر بشانه. وفي هذا السعى عاونني الذكاء والتجارب. وهكذا وجدتني اخيراً قادراً على الربط بين النظرية والواقع ، وعلى اختبار النظرية في ظل الواقع، ونجوت بهذه الطريقة من الكبت الذي تخلقه النظرية لمن لا يعرف سواها، ومن التفاهة التي يحياها من لا يعرف سوى الواقع اليومي المعاش.

خلال تلك المرحلة دفعتني تجارب الحياة الى دراسة سؤالين آخرين، كانت الماركسية احدها. فما عرفته عن الفكر الديمقراطي كان قليلاً وغير دقيق. آنذاك، اسعدتني فكرة الصراع من اجل حقوق الانتخاب. فحتى في ذلك الزمن الباكر، ادركت بان هذا سيضعف من سطوة السلطة الجائرة في المنسا. وكلما زادت اللغات المستخدمة في مجلس الشعب النمساوي الذي بات مثل - بابل - بدا تشتت تلك الدولة الحتمي وشيكاً ، ومعه ساعة تحرر الشعب الالماني.

نتيجة لكل هذا، لم اتضايق من حركات الديمقراطية الاجتماعية. بل ان ادعائاتها بمساعدة الطبقات الفقيرة بدت لي من العوامل التي وقفت في صفها. ولكني رفضت في هذه الحركات عدائها لكل محاولات المحافظة على الشخصية الالمانية، ومغازلتها "للرفاق السلاف"، الذين ما تقبلوا من افكارها الا ما سيستفيدوا منه، وتركوا الباقي باحتقار تام.

حدث لقائي الاول مع هذه الحركات خلال عملي كعامل بناء.

وكانت التجربة سيئة منذ البداية: كانت ثيابي نظيفة، ولغتي جيدة، وسلوكي حذراً. كنت لا ازال اسعى وراء مصيري لدرجة تجاهل الناس حولي. بحثت عن العمل فقط خوفاً من الجوع، وللاستمرار في الدراسة. ربما ما كانت القضية ستهمني البتة لو لم يطلبوا مني في اليوم لرابع الانضمام لتجمعهم. ونظراً لجهلي بالموضوع، رفضت موضحاً انني لا اعرف ما يكفي عنهم للانضمام اليهم. ربما لهذا السبب لم يعادونني ، بل ورغبوا في اقناعي بالانضمام الى صفوفهم. ولكنني خلال الاسبوعين القادمين عرفت افكارهم جيداً، وما عاد باستطاعتي البتة الانضمام لمجموعة بغضتها.

ساعة الظهيرة حين كنا نتناول الطعام في الحانة: كنت اشرب الحليب وآكل الخبر في زاوية متطلعاً لهم بحذر او متاملاً حظي السيء. وهكذا استمعت لهم، بل انهم جاءوا بجواري حتى استمع واتخذ موقفاً. وما كان امامي منفذ آخر لان ارائهم اغضبتني جداً: قالوا ان الحس الوطني نتج عن اعلام الطبقات الراسمالية، وانه عبارة عن سلاح يستخدمه الاثرياء لاستغلال العمال، والمدرسة ليست سوى مؤسسة لانتاج العبيد واسيادهم، اما الدين فادعوا انه اسلوب لتخدير الشعوب حتى تسهل السيطرة عليهم، والاخلاق ليست سوى دلالة على الغباء. ما كان هناك ما لم يلقونه في الوحل. في البداية لذت بالصمت، ولكنني سرعان ما بدأت باتخاذ مواقف فكرية مخالفة، وقرأت فكرهم وناقشتهم بشانه. واستمر النقاش حتى قرروا استخدام سلاح يقهر العقل بسهولة: وهو البطش والارهاب. وهكذا طلبوا مني الذهاب وهددوني بانهم سيلقونني في لخارج ان رفضت. وهكذا خسرت عملي، وفي نفسي سؤال مرير: هل هؤلاء فعلاً بشر؟ وهل يستحقون شرف الانتماء لامة عظيمة؟ وكان السؤال صعباً. وان كانت اجابته بالايجاب، فان الصراع في سبيل القومية لن يستحق التضحية والمعاناة، اما ان كانت الاجابة بالنفي، فان امتي ستفتقر بالفعل للانسان.

ومن المؤكد ان ملايين العمال بدأوا برفض الحركات اليسارية ، ولكن الراسماليين ذاتهم دفعوهم لاحضانها بطريقة مجنونة: اذ ان الاثرياء رفضوا كل محاولات تحسين اوضاع العمال، سواء اكان الهدف تحسين الاوضاع الصحية في المصانع عبر تطوير الالات، او منع عمالة الاطفال، او حماية المرأة الفقيرة اثناء فترة الحمل. وقد كان رفض هذه الافكار مخزياً بالفعل، ودفع العمال لاحضان اليسار. ولن تستطيع الراسمالية ابداً التحرر من اضرار رفضها للاصلاح الذي بذر الكراهية بين الغني والفقير ودفع بالعمال الى الاحزاب اليسارية.

خلال تلك الفترة، رفضت ايضاً اتحادات العال، وان كنت خاطئاً في هذا الاتجاه. ففي سن العشرين عرفت ان الاتحاد العمالي سعى للدفاع عن الحقوق الاجتماعية لهذه الطبقة، وان هدفه الاساسي كان تحسين اوضاعها الاجتماعية. فالعامل لا يستطيع ان ما رضي بعمله، استبداله بآخر. فاما ان يكون تحسين الاوضاع الاجتماعية في مصلحة المجتمع او لا يكون. وان كان ، فلابد من الصراع لتحسين هذه الاوضاع. ولكن العامل لا يقدر وحيداً على مواجهة قوة الراسمالي الثري. ولذلك كانت الاتحادات ضرورية . ولكنها منذ بدايات القرن العشرين بدات تفقد دورها الاجتماعي الاساسي ، ومع مرور الاعوام تحولت الى سلاح تستخدمه الاحزاب الشيوعية في صراعها الطبقي. وهكذا بات هدفها تدمير اقتصاد المجتمع، وتغييره، بدلاً من اصلاح الاوضاع السيئة - التي كان اصلاحها خطراً اذ انه قد يقنع العمال بتقبل اوضاعهم، ولا يسمح للشيوعيين باستغلالهم بذات الطريقة البشعة. تطلع زعماء الاتحادات بخوف لامكانيات الاصلاح لدرجة انهم رفضوا أي محاولة للتغيير للافضل، وهاجموها يقسوة شديدة. ثم تقدموا بطلبات مستحيلة ما كان للراسماليين بد من رفضها، ثم ادعوا ان هناك مؤامرة لتدمير العمال واستغلالهم. ونظراً لضعف قدرات هذه الطبقة الفكرية، ما كان النجاح صعباً.

وهكذا عرفت طبيعة العلاقة بين هذه العقيدة المدمرة والطبائع الحقيقية لاناس ما عرفت بعد أي شيء عنهم. وقد كانت معرفتي باليهود فقط هي ما اوضح لي الطبيعة الحقيقية الخفية لنشاطات اتحادات العمال، الديمقراطية ظاهراً، الشيوعية في الخفاء.

لا اتذكر بالضبط متى بدات بالتفكير بشكل جدي بالقضية اليهودية. لا اعتقد انني استمعت لهذه الكلمة في منزلنا اثناء طفولتي. اعتقد ان والدي كان سيتضايق من الاهتمام بهذه القضية بل ويعتبر التركيز عليها نوعاً من انواع التخلف. وبسبب تجاربه المختلفة، وصل لنوع من العالمية التي، بالرغم من وطنيته، اثرت على بشكل ما. وما رايت في المدرسة ما دفعني لتغيير افكاري. واتذكر الان وجود شاب يهودي معنا في المدرسة، ولم نكن نثق به بسبب تسريبه للاخبار من شخص لآخر. ولكن هذا لم يدفعني للتفكير بالامر بشكل جدي.

في سن الخامسة عشر، استمعت لحوارات دينية وسياسية تناولت القضية اليهودية، ولكني ضقت ذرعاً بها نظراً لطبيعتها الدينية. كان هناك بعض اليهود في لينز. ومع مرور القرون، تغيرت طباعهم ومظهرهم لدرجة انني اعتبرتهم الماناً. ياللبلاهة! تصورت انه لا فرق بيننا وبينهم سوى الدين. حقيقة معاناتهم للاضطهاد بسبب دينهم، كما تصورت واهماً ، دفعتني للغضب حين سمعت الناس ينتقدونهم.

ثم جئت الى فيينا.

وبسبب اهتمامي بالمعمار والصعاب التي واجهتها، لم الاحظ وجود مئتا الف يهودي بين المليونين الذي يقطنونها. غمرتني الافكار والقيم الجديدة. وفقط مع عودة الوعي والتروي وضحت الرؤية. في البداية ، اغضبتني للغاية انتقادات بعض الصحف المحلية لليهود، وتصورت انها رجعة لتطرف العصور الوسيطة. وبما ان المجلات المعنية ما كانت حسنة السمعة، تصورت ان القضية لا تزيد عن كراهية وحسد. واكد صحة هذا الراي الاسلوب النبيل الذي استخدمته الصحف الكبيرة في الرد على هذه الاتهامات، او رفضها احيان كثيرة مجرد التعليق عليها، وقتلها بالصمت المطبق.

قرات الصحافة الدولية واذهلني وسع افقها ومواضيع مقالاتها. احترمت سموها الفكري، وان ضايقني احياناً ما اعتبرته نوع من النفاق على حساب الحقيقة. فقد رايت مغازلة هذه الصحف للسلطة. وما حدث امر يتعلق بالحكومة، الا ووصفوه بحماس منقطع النظير. وفي ذات الان، كانوا احياناً يهاجمون الحكومة القيصرية في المانيا. كانت موضوعيتهم اذاً عبارة عن احترام مصطنع لاتفاقية بين دولتين. شعرت بسطحية هذه الصحافة، وبدات الاحظ نقاط ضعفها. قراتها الان بحذر، ولاحظت ان الصحافة المعادية لليهود، كانت اكثر صراحة احياناً. بل ان بعض ما نُشر على صفحات الاخيرة كان يدفع للتفكير.

وفي يوم لاحظت يهودياً في شوارع فيينا وتطلعت له متسائلاً: هل هذه الرجل الماني؟ كالعادة قمت بالقرائة عن هذا الموضوع، وكانت الكتب سيئة. الكتاب تصوروا ان القاريء يعرف كل ما هو ضروري عن اساسيات الموضوع، وجله قدم افكاراً غير علمية البتة. تراجعت، وخشيت ان تتكون لدي اراء غير عادلة بهذا الشان.

ما بات واضحاً لي هو ان اليهود ما كانوا الماناً ، بل شعباً خاصاً. فمنذ ان بدأت بدراسة الموضوع بت الاحظهم. وكانت تصرفاتهم واخلاقياتهم واشكالهم تخالف تماماً الالمان العاديين. بل اننني عرفت ان هناك بينهم حركة تدعى الصهيونية تؤكد على انهم شعب خاص. وكان واضحاً ان بعضهم وافقوا على هذه الفكرة، وعارضها آخرين. ولكن المعارضين للصهيونية بدوا لي كاذبين لانهم ما رفضوا الصهاينة كمارقين، بل كيهود يقدمون افكاراً خطيرة واساليب ضارة للتعبير عن هويتهم الدينية. وهكذا كانوا جميهاً جسداً واحداً ، الصهاينة وغيرهم.

خلال فترة قصيرة تقززت من الحوار بين اليهود الصهاينة واليهود غير الصهاينة لان الحوار بدا لي مبنياً على خداع كاذب لا يتلائم مع السمو الخلقي والطهارة التي يدعيها الشعب المختار لنفسه.

ثم لاحظت ايضاً الدور الذي يلعبونه في الحياة الثقافية: ولا ادري هل يوجد اي نوع من انواع الفساد الاخلاقي والثقافي بدون ان يكون احدهم وراءه. لاحظت دورهم في الصحافة، الفن، الادب ، المسرح. لم احتاج سوى لقراءة الاسماء وراء كل انتاج يسعى لهدم البنية الاخلاقية للمجتمع، وفي جميع الميادين. ان انتجت الطبيعة واحداً مثل جوثة، فهناك مقابله الاف من هؤلاء الذين يبثون السموم في ارواح الناس. وبدا كأن الطبيعة قد خلقت اليهود للقيام بمثل هذه الادوار.

تسعة اعشار القذرات في ميداني الادب والمسرح انتجها الشعب المختار، وهم لا يزيدون عن 1% من السكان. اما الصحافة الدولية التي احببتها يوماً فكان غالب كتابها منهم. ادركت الان ان اسلوبهم الموضوعي في الرد على مهاجميهم ، والتزامهم الصمت احياناً، ما كانا سوى خداعاً يهدف للسيطرة على الناس. لاحظت ان الاعمال المسرحية والادبية التي يمتدحونها هي التي يقدمها اليهود، اما الاعمال الادبية الالمانية، فانتقدوها دائماً بقسوة بالغة. ما اختبا وراء الوضوعية المصطنعة كان العداوة الشديدة لكل ما هو الماني.

ولكن ، لمصلحة من كان كل هذا؟

هل كان كله محض صدفة؟

بت غير واثق شيئاً فشيء.

ثم لاحظت الاخلاقيات اليهودية في الشارع. علاقتهم بالدعارة، بل وباستعباد البيض، كان واضحاً جداً في فيينا. وهكذا حين ادركت ان اليهودي هو ذلك المرابي البارد القلب، المنعدم الحياء، الذي يستثمر امواله في هذه التجارة الفاسدة التي تدمر المجتمع، ارتعشت اطراف جسدي.

بدات بمناقشة القضية اليهودية، وتعودت ان اراهم في مختلف فروع الحياة الثقافية. ولم استغرب حين عرفت ان زعيم الحزب الديمقراطي الذي تحدثت عنه اعلاه كان يهودياً.

وحتى في علاقاتي اليومية مع العمال، لاحظت قدراتهم المذهلة على تقبل اراء متعاكسة، متذبذبين بين اتجاه واخر احياناً خلال ساعات او ايام محدودة. لم استطع ان افهم كيف يمكن لاناس، حين تتحدث مع احدهم ، يبدو لك منطقياً واقعيا، ان يتحول فجاة تحت تاثير رفاقه لاراء معاكسة لكل منطق. احياناً شعرت بالياس التام المطبق. فبعد ساعات قضيتها في حوار مضني، شعرت بانني ساعدت في تحرير احدهم من هراء آمن به، وسعدت لنجاحي، ولكني سمعته يكرر ذات الهراء ثانية صباح اليوم التالي، وذهب جهدي هباء.

فهمت انهم ما كانوا قانعين باوضاعهم وبغضوا القدر الذي عاملهم بقسوة شديدة ، والرجال الذي بخسوهم الاجر وما فهموا معاناتهم، وانهم تظاهروا ضد ارتفاع الاسعار، كل هذا كان مفهوماً. ولكن ما لا افهمه كان كراهيتهم لجنسهم ووطنهم، واحتقارهم له، وتدميرهم لتاريخه. كان هذا الصراع ضد جنسهم وقبائلهم وبلادهم تدميراً للذات. وان امكن معالجتهم منه، فلساعات محدودة.

ثم لاحظت ان صحافة الديمقراطيين تحكم فيها اليهود: ومع ان ظروف العمل في هذه الصحف شابهت غيرها، الا انني لم اجد بينها واحدة يمكن اعتبارها حسب رؤيتي الخاصة، وطنية. كانت الصحافة التي يديرها اليهود شيوعية في العادة، واسعدني هذا. اذ عرفت ان الحزب الذي كنت اتصارع معه منذ شهور كان اجنبياً، فاليهود ما كانوا ابداً المانا.

عرفت الان من اغوى شعبنا لطريق الظلال.

عرفت ايضاً ان انقاذه ممكن.

اما اليهودي، فارائه الضالة لا تتغير ابداً.

فقد حاولت آنذاك مناقشتهم: تحدثت كثيراً واوضحت شرور الفكر الماركسي، ولكن بلا فائدة سوى ان يبح صوتي. واحياناً ،حين نجحت في اصابة احدهم بضربة فكرية مميتة، وشاهد جميع السامعين هذا، واضطر غريمك للموافقة، فانه سيعود صباح اليوم التالي لموافقه ذاتها، وكان أي تغيير لم يحدث.

وكان لكل هذا فائدة: فكلما فهمت اساليب اليهود وخداعهم بشكل افضل، زاد عطفي على العمال وادركت انهم ضحايا لهذه الاساليب واغوائها.

تراجعت عن الافكار الدولية وبت ناقماً على اليهود. وحين درست نشاطاتهم عبر القرون، تسائلت : هل كتب القدر لهم التوفيق والسيطرة على الاخرين، لاسباب لا نعرفها؟ هل يمكن ان يكون النصر حليفاً لامة ما عاشت الا للدنيا؟

تفكرت مرة اخرى في عقائد الماركسية ، وتعلمت اشياء جديدة: ان هذه العقيدة ترفض فكرة الصفوة الارستقراطية الموجودة في الطبيعة وتستبدل القوة الفكرية بالكثرة العددية. وهي لهذا السبب ترفض أي قيمة فردية، وتعارض الفكر القومي، وتسحب من الانسانية ثقافتها. انها فكرة كفيلة بتدمير أي حضارة، وان انتصر اليهودي بمعونة هذا الفكر، فان نصره سيكون الدمار النهائي للانسانية.

ولذلك اشعر انني اتصرف بمعاونة الخالق العظيم ومن اجل تحقيق اهدافه السامية لمصلحة البشرية حين ادافع عن نفسي ضد اليهودية واعلن الحرب عليها.

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:11 AM

بمشروع ما قام به أحد من قبل، ولن يقدر غيري بعدي على تكراره.

وقائل هذه العبارة هو:
جان جاك روسو
(1712-1778)



كان لـ اعترافات جان جاك روسو،[1] التي كُتبت بين 1765-1770 ونُشرت بين 1781-1788 تأثير تاريخي مهم لأنها قدمت طرقاً جديدة لفهم النفس وعلاقتها بالآخرين الذين تعيش في وسطهم. شجاعة الكاتب وتصميمه على إعادة تقييم ما يعتبر القيِّم والتافه، الصواب والخطأ، في حياته يؤثر حتى على من يقرأ الكتاب بعد اكثر من مأتي عام بعد صدوره.

الحقائق المعروفة عن حياة روسو محدودة، ربما بسبب الاعترافات التي أعلن فيها انه سيقول الحقيقة كاملة وان اهتم اكثر في واقع الأمر بشرح مبادئه والدفاع عن نفسه. ترك روسو منزله في سن الخامس عشرة وذهب للحياة مع السيدة دوارنز التي حمته وصارت فيما بعد المرأة التي ارتبط بعلاقة معها. عمل في عدة مجالات من سكرتير الى مسئول حكومي في باريس حيث استقر سنة 1745. وقد عاش هناك مع ثريسال قاسور التي ادعت فيما بعد أنها أنجبت له خمسة أطفال ذهبوا جميعا الى منزل الأيتام لرفضه رعايتهم. ان كانت لم تقدم اي أدلة لاثبات هذه الادعاءات، فهو لم يسع لنفيها. أحياناً كثيرة، اضطر روسو للهرب من فرنسا الى سويسرا بسبب بعض ما كتبه، كما ذهب الى لندن سنة 1766 ونزل في ضيافة الفيلسوف ديفد هيوم. وقد سُمح له بالعودة الى باريس سنة 1770، وكان السماح مشروطا بالتوقف عن أنتقاد نظام الدولة في كتاباته.

أثارت أفكار روسو التي شرحها في رواية جوليا وفي مذكراته ومقالاته السياسية التي كان أهمها العقد الاجتماعي ضجة كبيرة أثناء حياته. فقد آمن روسو بان المؤسسات الحكومية تُدمر حياة الإنسان، وبان الجنس البشري سينحط مع مرور الزمن اذا لم يرجع الناس الى الطبيعة ويطبقون أسسها على نظم الحياة الاجتماعية. وهو كذلك يؤمن بان فضائل الإنسان العادي تميزه على الطبقات العليا التي أفسدها الثراء البالغ والترف المدقع.

مذكراته إذاً تختلف عما كتب من قبل في هذا المجال: فبعكس القديس أوجستن الذي يسعى جاهداً للسمو بروحه فوق سطوة للذات العابرة، وينتقد نفسه بمرارة لبحثه المحموم عنها في شبابه، يقضي روسو الكثير من الوقت في وصف وتحليل اللذات التي يجدها في حياته، وكأن الإقرار بها بصراحة إنجازاً أخلاقياً كبيراً. تصوير نفسه بهذه الطريقة، كلذة وعاطفة، يدل على تعلق الكاتب بنفسه لدرجة النرجسية، اي التركيز على النفس لدرجة عزلها عن الآخرين والواقع الذي تعيش فيه. وهو كذلك يصف نفسه ككائن يتميز بمشاعر سامية عظيمة، وأفكار مشوشة فوضوية، مما يجعله يعتبر العواطف لا العقل أساساً لسلوكه. وهذه النظريات تخلق الشخصية الأساسية في الاعترافات، التي نراها كثيرا وهي تسعى للتعبير عن مشاعر طبيعية يرفضها المجتمع. رسم نفسه بهذه الطريقة، كلذة وعاطفة، بدون اي تحليل لما تعلمه من تجاربه، يدل فعلا على تعلق الكاتب بنفسه.




اعترافات
من الكتاب الأول: (الأعوام 1712-1719)

سأبدأ بمشروع ما قام به أحد من قبل، ولن يقدر غيري فيما بعد على تكراره. ارغب برسم صورتي بكل صدق الطبيعة للقارئ. انا فقط اعرف مشاعري وأسرار قلبي، وأدرك كم اختلف عن كل من أراه حولي من الناس. أغامر بالقول انه ليس هناك مثيل لي على قيد الحياة، وهذا لا يعني انني افضل بالضرورة، بل انني من نوع آخر فحسب. سيكتشف القارئ بعد قراءة هذه الصفحات هل أخطأت الطبيعة في خلقي، ام صنعت الأفضل.

حين يدق ناقوس الساعة، سأقف أمام خالقي المعظم وهذا الكتاب في يدي، قائلا بشجاعة: "هذا ما فكرت به وفعلته . لم انس ذكر الطالح من أفعالي، ولم أضف من الخير ما لم يكن موجودا بالفعل. أؤكد الان ان الإضافات النادرة الموجودة إنما كانت لتعويض تفاصيل لم أجدها في ذاكرتي، وبانني ما ذكرت ابدا ما عرفت بعدم صدقه. عرضت نفسي كما كنت: حقيراً استحق الاحتقار او عظيماً سامياً في فكري، حسب ما كنت عليه في تلك المرحلة. كشفت نفسي كما رأتها عيناك يا خالقي العظيم. اجمع حولي الان كل اخوتي، ودعهم يسمعون اعترافي ويندبون لفشلي ومساوئي. ثم دع أي واحد منهم يكشف بذات الصدق أسرار قلبه ثم يقول لو كان يجرؤ: "كنت افضل من هذا الرجل."

شعرت قبل ان أفكر، وهذا هو نصيب الإنسان الذي عانيته اكثر من غيري. لا اعرف ما فعلته حتى بلغت سن السادسة، ولا أتذكر كيف او متى تعلمت القراءة. ولكني أتذكر أول قراءاتي وتأثيرها علي. تركت أمي بعد وفاتها بعض القصص الرومانسية، وكنا أنا وأبى نقرا منها كل يوم بعد العشاء. في البداية، كان الهدف هو مساعدتي على تعلم القراءة بمساعدة كتب مسلية، ولكننا بعد ذلك أعجبنا بالقصص وصرنا نقضي جل الليل في هذا العمل. أحيانا، كان والدي يخجل حين يسمع صوت تغريد الطيور في الفجر الباكر ويقول: "لنذهب للنوم، فأنا اكثر طفولة منك."

بهذه الطريقة الخطرة تعلمت ما هو اكثر من القراءة وفهم ما اطلع عليه، لأنني كذلك عرفت اكثر من غيري من الأطفال طبيعة الرغبات والعواطف البشرية. لم افهم بالطبع طبيعة العلاقات بين الجنسين، ولكنني أحسست بالمعاناة التي تتضمنها. هذه العواطف الغامضة التي أحسست بها واحدة تلو الأخرى لم تسيطر على قدراتي الفكرية فحسب، ولكنها ساهمت في صياغة نمط معين من التفكير الذي عانيت منه، بحيث رأيت العالم بصورة رومانسية حالمة، ولم تفلح التجربة حتى هذه اللحظة في معالجة هذا الطبع.

ما كان لي ان اعرف الشر، حين لم أر أمامي سوى أمثلة الخير وافضل الناس. لم بستمع أبى او عمتي او الأقارب والأصحاب لما قلت، ولكنهم وهبوني الحنان والرعاية وأحببتهم لهذا السبب. ما طلبت سوى القليل، وهذا تحقق دائما. اقسم انني لم اعرف معنى كلمة "نزوة" حتى بدأت بالدراسة مع معلم. باستثناء الأوقات التي قضيتها في القراءة والكتابة مع والدي، او حين ذهبت المربية بي للتجول، بقيت مع عمتي، جالسا بجوارها، متطلعا لها وهي تحيك الثياب، مستمعا لغنائها، وكنت قانعا بهذا. مرحها ولطفها وجمالها الرقيق يبقيان في ذاكرتي لدرجة انني أستطيع تذكر نظرتها وسلوكها والحنان الذي أبدته نحوي. أستطيع تذكر ثيابها وطريقتها في التمشي وحتى كيفية ترتيبها لشعرها بدون ان أنسى الخصلتين من الشعر الأسود اللتين تركتهما فوق جبينها، وهو الأسلوب السائد خلال تلك الأيام.

لانها كانت تعرف عددا كبيرا من الأغاني التي غنتها بصوتها الرقيق العذب تعلمت منها حب الموسيقى التي درستها وكتبت عنها في مرحلة مقبلة من حياتي. اما مرحها، فقد طرد كل الأحزان من عالمها وحياة من حولها من الناس. عذوبة صوتها تبقى في ذاكرتي، وحتى هذه اللحظة افرح حين استرجع بعض تلك الأنغام والكلمات. هاأنا الآن، وقد كبر بي العمر وأحاطت بي الهموم، ومع ذلك لا أزال ابكي حين أهمهم بأحد تلك الأنغام بصوت مكسور مرتعش.

قضيت جل حياتي وأنا أتوق لحب متبادل، بدون أن انبس بأي حرف يدل على عواطفي لمن عشقتهم. مع أنني عانيت الأمرين من الخجل الشديد الذي منعني من البوح بمشاعري، فقد كنت دائما أضع نفسي والحبيب في مواقف تدل على مشاعري. كنت أجد لذة في الجلوس بجوار قدمي حبيبتي المتعجرفة، مطيعا لأوامرها، طالبا منها الغفران، وكلما ازداد خيالي التهابا اشتد تمسكي بالعفة. من الواضح ان هذا الأسلوب في ممارسة الحب لا يؤدي الى نتائج ملموسة ولن يشكل أي خطورة تذكر على براءة المحبوب. لهذا السبب لم امتلك من عشقت في الواقع، وان كان لي كل لذات الجسد في الخيال. وهكذا حافظ الخجل على صفاء روحي وعفة جسدي لذات السبب الذي كان، بشيء من الجرأة، سيلقيني في خضم الحسية الحيوانية.

أنا اذا رجل مزدوج الشخصية: في لحظة أكون عاطفيا مجنونا متهورا لا اعرف الحذر والخوف او حتى الحشمة، لا يمنعني من الوقاحة والعنف سوى خوفي على من احب. ولكنني في لحظة أخرى أصير كسولا أعاني من الخجل الشديد الذي يمنعني حتى من الحركة: مجرد كلمة لابد من قولها، او حركة لابد من فعلها، تقض مضجعي. الخوف والخجل يسيطران علي لدرجة أنني أتمنى الهروب من نظرات البشرية جمعاء، وهذا لدرجة أنني لو اضطررت للفعل، فلن اعرف التصرف القويم من شدة الاضطراب. ساعة العاطفة، تأتى لي الكلمات الصحيحة، ولكنني في الحوار العادي لا أجدها، واعاني الأمرين لمجرد ان تبادل الكلمات ضرورة حياتية.

بالإضافة لهذا، لا ارغب بما يمكن للنقود شراءه. لا أريد سوى اللذة التي لا يسممها المال ويشوهها. مثلا، احب الطعام والشراب، ولكنني لا أطيق قيود المجتمع الراقي او فوضى الحانات مما يحتم علي الشرب وتناول الطعام برفقة صديق. وحيدا، يسرح خيالي بعيدا ولا اشعر بلذات الفم. ذات الصفة تميز علاقاتي بالنسوة: فلو رغب دمي بهن، يظل قلبي يبحث عن الحنان. النسوة اللواتي يعرضن أجسادهن للبيع لا يمتلكن السحر الذي يخلبني. وهذا هو الحال مع كل ما أراه حولي من لذات: لو كان للذة سعر، لكانت لذة فاترة بالنسبة لي. أريد اللذة التي تكون فقط للإنسان الذي يعرف كيف يستمتع بها، لا لكل من امتلك القدرة على شرائها.

اعشق الحرية وابغض القيود والصعاب والاعتماد على الغير. طالما تبقى النقود في محفظتي، ستضمن لي الاستقلال وتخلصني من الحاجة للبحث عن وسائل لتعويض ما فقدت وهي ضرورة ابغضها. وهكذا يجعلني الخوف من الفاقة بخيلا. يمكن ان يكون المال وسيلة للتحرر، ولكن في حالة استسلام المرء للجشع والسعي وراء المزيد، يصير وسيلة للاستعباد. ولذلك أتمسك بما لدي و لا اطلب المزيد.

سبب لا مبالاتي هو ان لذة الملكية لا تستحق معاناة السعي لها. اما تبذيري فيسببه نوع من الكسل: حين تأتى الفرصة المؤتية للتلذذ بالصرف، استخدمها. النقود لا تغريني مثل الأغراض، بسبب وجود وسيط بين الرغبة والمرغوب، واختفائه في لحظة الاستهلاك. حين ارى ما أريد، ارغب باقتنائه، أما لو شاهدت الوسيلة للوصول له فقط، فلا يكون للإغراء القوة نفسها. لهذا السبب مارست السرقة، وحتى الان، اسرق الصغائر لان هذا افضل من السؤال والسعي، ولكني لا اذكر أبداً أنني سرقت أي شيء من المال.



من الكتاب الثاني (سنوات 1728-1731)

...تعلمت درسا أخلاقياً هاما، قد يكون الوحيد الذي يملك أي قيمة عملية، وهو ان أتجنب تلك المواقف الني تجبرني على الاختيار بين مسئوليتي ورغبتي، بحيث يكون مكسبي على حساب خسارة الآخرين وإلحاق الأضرار بهم. بغض النظر عن مدى التزام الفرد الذي يصل لهذا الموقع بالفضيلة مبدئيا، ستراه يضعف شيئا فشيئاً بدون ان يشعر بهذا الضعف، ويصير ظالما شريرا بفعله، بدون ان يكف عن تصور انه ما زال عادلا في قلبه.

اعتمادي على هذا المبدأ جعل الكثير من المعارف يتهمونني بالغباء، بعدم القدرة على اتخاذ القرار، وحتى بضعف الشخصية. في الواقع، لم ارغب أبداً بلعب أدوار تشبه أدوار الآخرين او تختلف عنهم، بل رغبت بإخلاص بفعل الصواب. لذلك تجنبت دائما الموقع الذي سيتيح لي حرية الاختيار بين مصلحتي ومصالح الآخرين لانه قد يخلق في قلبي الرغبة السرية لإلحاق الضرر بهم.

...أحببت بصدق واخلاص تام حرمني من السعادة. لم تكن العواطف ابدا اكثر حيوية وصفاء مما كانت عليه في حالتي. فقد كنت مستعدا للتضحية بسعادتي الف مرة من اجل إسعاد الإنسان الذي أحببته للحظة واحدة. كانت سمعتها اكثر أهمية من حياتي، وما كنت مستعدا لإزعاجها للحظة واحدة من اجل لذتي. هذا الإحساس جعلني أعيش الحب في وسط من الحذر والسرية مما حرمني من الوصول لأي نتيجة. عدم نجاحي مع النساء سببه اذا تعلقي الشديد بهن.



من الكتاب الثالث (1731-1732)

شعرت بمدى تعلقي بالسيدة دوانز حين غابت عني. قنعتُ ساعة تواجدنا سويا، أما حين غيابها، فتململتُ وعانت روحي من عدم الاستقرار. حاجتي للبقاء معها عصفت بروحي وملأت عينيي بالدموع أحياناً. لا أستطيع ان أنسى ذلك اليوم حين فرح الجميع بالأعياد، ولكنني، بسبب رحيلها لمدينة أخرى، تركت الأفراح وقريتي وتجولت في الريف وقلبي مفعم بالرغبة في ان اقضي عمري معها. أدركت استحالة ما ارغب به، وعرفت ان ما أسعدني الآن ساعة البقاء معها لن يبقى. هذه المعرفة أحزنتني، ولكنه كان حزنا بلا ألم، شتتته الآمال اكثر من مرة. أصوات الأجراس وتغريد الطيور، جمال النهار وسحر الطبيعة، ومساكن الفلاحين المتناثرة في كل مكان، والتي حلمت بان يكون مسكننا واحدا منها، كل هذه العوامل سمت بروحي لنشوة لا يمكن وصفها. لا أتذكر أبداً أنني وجدت مثل هذه السعادة في الحلم بالمستقبل، وحين تحقق الحلم لم يختلف كثيرا عما رايته في خيالي مما جعلني اعتبره رؤيا منت علي بها السماء. الخطأ الوحيد كان في رؤيتي للمدة: لأنني تصورت أننا سنقضي الأيام والشهور في هدوء دائم، بينما لم يبق الواقع الا لحظات. خسارة! سعادتي الدائمة كانت فقط في حلم تحقق في لحظة ومضى سريعا تاركا الذكرى ومعرفة ما كان.

لماذا، حين وجدت الكثيرين من الشرفاء في طفولتي، لا أري الا القليلين في كبري؟ هل اندثر ذلك النوع من البشر؟ لا، ولكن الطبقة التي ابحث عنها ما عادت كما كانت. بين الناس لا تتحدث العواطف الجياشة الا فيما ندر، اما بين الصفوف الارقى، فهي قد كُبتت تماما، ولا يُسمع الا صوت يدل على الغرور والرغبة في المصلحة.

نقيضان يتحدان في نفسي بطريقة يصعب علي فهمها: عواطف نشطة عاصفة، تقابلها أفكار ضعيفة بطيئة النمو لا تتضح معالمها الا بعد فوات الأوان. من الممكن القول ان عقلي وقلبي لا ينتميان لذات الفرد: فالإحساس يحتل روحي بسرعة البرق، ولكن، بدلا من المعرفة، التهب حماساً وافقد القدرة على الرؤية. اشعر بكل شيء ولا أرى أي شيء. فحين تخترقني العاطفة، افقد القدرة على التفكير الذي يحتاج للسكينة. الغريب هو انني برغم عواطفي الجياشة، أظل قادرا على الوصول للقرار الصائب خاصة لو لم أتعجل.

هذا البطء في التفكير وحيوية العاطفة لا يتدخلان فقط في حواري مع الآخرين، ولكني أحس، حتى في ساعات الوحدة والعمل، بالأفكار تنتظم في رأسي بصعوبة شديدة، تنموا هناك وتنضج فقط مع مرور الكثير من الوقت. العاطفة التي تفيض في داخلي مع بداية اي مشروع فكري تحرمني من القدرة على الكتابة وتجبرني على الانتظار. ثم تهدا العاصفة ويتضح المشهد لناظري ويأخذ كل شيء مكانه الطبيعي، ولكن فقط بعد فترة طويلة قد ضاعت في الفوضى والضياع.



من الكتاب الرابع (1731-1732)

قررت الذهاب الى لوسان حتى أستطيع البقاء بجوار بحيرتها الجميلة. نادرا ما اتخذت القرارات المهمة بمنطقية اكثر. ما يبدو كحلم في الأفق البعيد لا يكفي لدفعي للتصرف. عدم معرفة الفرد بما سيحدث يجعلني أرى التخطيط للمستقبل كعملية خداع يسقط المغفلين ضحايا لها. مثل غيري، كثيرا ما أطلقت العنان لخيالي وحلمت بالمستقبل، ولكن على شرط ان لا يتطلب تحقيق الحلم أي عناء. اقل اللذات العابرة أهمية تغريني اكثر من كل متع الجنة. لكن اكثر ما أخشاه هو اللذة التي ينتج عنها الألم لأنني احب اللذة خالصة بلا أي معاناة.

كلما اقتربت من إقليم فاود، أحس بمشاعر تطغى عليها ذكرى السيدة وارنس التي ولدت هناك، ووالدي الذي عاش في ذات المكان، والمدموزيل دفولسن التي عرفت معها أيام الحب الأول، وعدة رحلات سعيدة أخرى قمت بها لذات المكان حين كنت طفلا. ما أن أملت بالسعادة والآمن اللذين افتقدهما الان حتى شددت رحالي الى إقليم فاود بجوار البحيرة. أتمنى هنالك ان يكون لدي صديق مخلص وزوجة تحبني وبقرة وقارب صغير، وهو كل ما يحتاجه الإنسان ليكون سعيدا في هذا العالم. ما يؤسفني هو طبع السكان المحليين الذي يختلف كثيرا عن جمال المكان.

خلال هذه الرحلة، سلمت نفسي للأحزان السعيدة[2] واستمتعت بألف لذة فريدة. كم مرة جلست على ضفة النهر وبكيت وشاهدت دموعي تسقط للنهر وتذوب في مياهه. زيارتي لباريس خيبت أملى. جمال بعض المدن الريفية التي زرتها من قبل، وتنظيم شوارعها، جعلني أتوقع ان تكون باريس مدينة عظيمة. تصورت في خيالي بلدا جميلة بقدر ما هي جليلة، لا يوجد فيها سوى القصور الذهبية والشوارع الواسعة. ولكني، حين وصلت لضاحية سنت ماركو صُدمت بمرأى الشوارع القذرة والمنازل السود المكفهرة والإحساس العام بالفقر والديون المستحقة، الذي جسده منظر المتسولين ومرقعي الثياب المستعملة وبائعي القبعات القديمة. كل هذا حُفر في ذاكرتي وخلق انطباعا سلبيا لم يغيره كل ما رأيت فيما بعد من عظمة، وحتى هذه اللحظة، لا ارغب بالحياة في العاصمة بسبب هذا الانطباع الأولى. طوال الوقت الذي اضطررت لقضائه في العاصمة، سعيت جاهدا للفرار منها.

هذه هي نتيجة الخيال الذي يبالغ ويتوقع اكثر مما هو موجود فعلا. سمعتهم يمتدحون باريس، فتصورت أنها اعظم من بابل في العصور الغابرة، ثم جاء الواقع ليحطم هذا التصور. ذات الشيء حدث حين زرت الأوبرا التي هرعت لها في اليوم التالي لوصولي وتكرر عدة مرات بعد ذلك.

مناظر الريف الجميلة، الهواء النقي، الصحة التي تتجدد مع المشي، غياب كل ما يذكر الإنسان بالحاجة للآخرين، كل هذا يحرر الروح ويخلق الشجاعة الفكرية في نفس الإنسان ويلقي بها في خضم الطبيعة التي تراها بحيث تستطيع جمع، اختيار، وامتلاك كل ما تريد بلا خوف أو موانع. اشعر وكأنني أتحكم بالطبيعة نفسها، بينما يحلق قلبي من مكان لاخر، مختلطاً ومتوحدا بكل ما يشفيه حتى تسكره النشوة.

في المساء استلقي في الجو النقي، أنام على سرير من الزهور. أتذكر أنني قضيت ليلة سعيدة خارج المدينة حيث أحاطت بي الحدائق من كل ناحية. ذلك اليوم كان شديد الحرارة، اما المساء فكان بديعا، لان الندى رطب الأرض، وهدأ الجو بلا نسيم، بينما تعالى تغريد الطيور. تاركاً لقلبي ومشاعري حرية الاستمتاع بكل شيء، غارقا في حلمي، استمررت في التجول حتى آخر الليل بدون أدنى شعور بالإرهاق.



من الكتاب الخامس (1732-1736)

يقال أن السيف يمزق غمده، وهذه هي قصتي. عواطفي أعطتني الحياة، وعواطفي قتلتني. أي عواطف اعني؟ تفاهات كفت مع ذلك لتشويقي وكأنني أسعى لامتلاك عروش الدنيا بما فيها. أهمها سببتها النساء. فحين امتلكت احداهن، هدأت حواسي، بينما ظل قلبي متأججاً. الحاجة للحب التهمتني حتى ساعة النشوة. كان لي السيدة دوارنز التي لعبت دور الأم، وكان لي صديق مخلص، ولكني مكثت بلا حبيبة. تصورت واحدة في مكانها ورسمتها بألف صورة لخداع نفسي. ولو كانت المرأة التي احتظنتها هي السيدة دوارنز، لما بقيت أي رغبة او متعة. متعة! وهل هذه من نصيب الإنسان؟ لو كنت قد جربت لمرة واحدة متعة الحب التامة، لا اعتقد ان جسدي الضعيف كان سيستحملها. كنت قد مت فورا.

وهكذا احترقت بنار الحب، ولكن بلا شخص احبه، وهذا الوضع كان اكثر ما أتعبني. كنت متململا بعد ان سمعت بعلاقة السيدة دوانز برجل سيئ، وبسلوكها غير الرزين الذي خشيت ان يحطمها في وقت قريب. خيالي القاسي الذي تصور دائما المصائب رسم لي صورة واقعية لما سيحدث. وهكذا تناوبتني حالات الخوف والرغبة حتى وصلت لحال يرثى لها.



من الكتاب السادس

في هذه الأيام بدأت مرحلة السعادة القصيرة في حياتي، تلك الأيام الآمنة التي تجعلني أقول، "لقد عشت فعلا." ليت تلك اللحظات تعود من جديد، وتمضي ببطء شديد. كيف يمكنني تذكر وذكر ما لم يقال بالكلمات، بل أحسست واستمتعت به؟ استيقظت وكنت سعيدا، تركتها وكنت سعيدا. تجولت في الحقول والوديان، قرأت، عملت في الحديقة، بينما جاءت السعادة ورائي في كل مكان بلا سبب. الفرحة نشأت في أعماقي وما تركتني للحظة واحدة.

أتمنى لو عرفت اذا كانت ذات الأفكار الطفولية تأتى لغيري من الناس؟ أثناء دراستي، بينما كنت أعيش حياة الملاك الطاهر، عانيت من الخوف من إمكانية ذهابي الى الجحيم. سالت نفسي، "في أية حال انا الآن؟ لو مت في هذه اللحظة، ماذا سيكون مصيري؟" للكاثوليك اعتقاداتهم بخصوص هذه المسالة، ولي شخصيا رأي آخر. وقد استخدمت وسائل سيجدها البعض مضحكة، بل مجنونة، للتخلص من الخوف الذي عانيته. ذات يوم، بينما كنت أفكر في هذا الموضوع البائس، بدأت بإلقاء بعض الأحجار على الأشجار المجاورة لتسلية نفسي، وفكرت: "سألقى بهذا الحجر على تلك الشجرة، ولو أصبتها، فسيعني هذا ان الله سيرحمني، اما لو لم أصبها، فقد حلت بي اللعنة." ألقيت الصخرة بقلب خافق ويد مرتعشة، ولكنها أصابت الهدف خير إصابة. أقول الحق، كانت شجرة كبيرة سهل علي أصابتها. ومع ذلك، لم اشك أبدا بان روحي قد نجت من نيران الجحيم. حين أتذكر هذا الحدث، لا اعرف هل يجدر بي الضحك او البكاء. العظماء سيضحكون من هذا السفه، ولكنني اقسم بأنني آمنت آنذاك بنجاة روحي من العذاب

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:16 AM

أحمد فارس الشدياق
1805-1878


يعتبر الساق على الساق[1] من اهم الاعمال الادبية العربية التي كتبت خلال القرن التاسع عشر. وقد كتب الشادياق ترجمته الذاتية هذه عام 1855 ، واصفاً فيها اهم مراحل حياته منذ نشاته في قرية عشقوت بلبنان ، مروراً باسفاره الكثيرة لمصر وتونس وجزيرة مالطا وبريطانيا وغيرها من البلاد ، حتى ساعة اعداد كتابه هذا للنشر - على حسابه الخاص في باريس. وقد عُرف هذا الكاتب بشدة حبه للحياة ، وانغماسه في حقولها المختلفة مما جعل رؤيته تلك التي يتمتع بها المجرب الخبير، لا المسافر الذي يرى المشهد من بعيد.

يتميز كتاب الساق على الساق باسلوب ماكر بارع في مكره- اذ يتعمد الكاتب استخدام كلمات تحوي اكثر من معنى، للسخرية من التقاليد الاجتماعية السائدة في عهده، وللتعبير احياناً عما هو فاحش من المعاني باسلوب غامض ، ربما خوفاً من ان يُحرق الكتاب، كما يذكر الشادياق في المقدمة. وقد انتقد البعض الكاتب لولعه بذكر المترادفات من الكلمات، واستخدامه السجع بل ومحاكاته للمقامات احياناً ، مما يقلل من متعة قراءة الكتاب للقاريء ويشتت افكاره. الا ان الشادياق كان في واقع الامر بسعى لتعليم اسس البلاغة العربية الاصيلة لقرائه، مدافعاً عن لغة الضاد في زمن سعى فيه الاتراك لاضعافها.

الاجزاء التالية من سيرة الشادياق الذاتية تحوي الفصل الاول: وفيه ذكر لاسباب سعي الكاتب لكتابة مذكراته، يليها شكواه في رسالة لبطريارك المارون ضد المتنفذين من الكهنة لانهم سجنوا اخاه لعدة سنوات مما تسبب في موته بسبب محالفته اياهم الرأي. اما القسم الاخير فيتعلق بوصف الكاتب لاوضاع القاهرة والاسكندرية الاجتماعية التي لاحظها حين زارهما في الثلاثينات من القرن الماضي.
من الساق على الساق في ما هو الفارياق

1 - في اثارة رياح:
مه صه اسكت اصمت اعلم اني شرعت في تاليف كتيبي هذا المشتمل على اربعة كتب في ليالي راهصة ضاغطة احوجتني الى الجؤار قائماً قاعداً حتى لم اجد لصنبور افكاري ما يسده عن ان يتبقع على ميزاب القلم في وجوه هذه الصحائف. فلما رأيت القلم مطواعاً لاناملي والدواة مطواعاً للقلم قلت في نفسي لا باس ان اقفو القوم الذين بيضوا وجوههم بتسويد الطروس فان كانوا قد احسنوا فانا اعد ايضاً من المحسنين. وان كانوا قد اساءوا فلعل عدد كتبهم يحتاج الى تكملة فيكون كتابي على كل حال متصفاً بالكمال. لأن ما كمل غيره كان جديراً بان يكمل نفسه. فمن ثم لم اتوقف فيما قصدته ولم اتحاش ان اودعه من الالفاظ الشائقة الرائقة والمعاني الفائقة الآفقة كل ما خف على السمع ، ولذ للطبع . مع علمي انه لا يكاد مؤلف يعجب الناس جميعاً.
وكأني بمتعنت يقول في نفسه او لغيره لو كان المؤلف اجهد قريحته في تاليف كتاب مفيد لاستحق ان يُثنى عليه. لكني اراه قد اضاع وقته عبثاً بذكر ما لا ينبغي ذكره حيناً. وحيناً بذكر ما لا يجدي نفعاً. والجواب عن الاول : ومحترس من مثله وهو حارس. وخذ من جذع ما اعطاك. وعين الرضى عن كل عيب كليلة. وعن الثاني: اربع على ظلعك. وارق على ظلعك. وقِ على ظلعك. وكأني بآخر يقول حديث خرافة يا أم عمرو . وجوابه وكم من عائب قولاً سليماً. ثم كأني بجوقة عظيمة من الجلاذ والنهامين والانهمة ... وهم يضجون ويعجون ويجأرون وينعرون ويصخبون ويتهددون...... . فاقول لهم مهلاً مهلاً انكم قضيتم عمركم كله في حرفة التاويل فما يضركم لو اولتم ما تنكرونه في كتابي من اول وهلة. وسعيتم كما هو دابكم لان تجعلوا منه حسناً ما يظهر قبيحاً ومستظرفاً ما يلوح من خلال عباراته فاحشاً. فان ابا نواس قد اوجب عليكم ذلك بقوله:

لا تحظر العفو ان كنت امرءاً ورعاً فان حظركه بالدين ازراء...
وبقوله :

كن كيفما شئت ان الله ذو كرم وما عليك اذا اذنبت من باس

الا اثنتين فلا تقربهما ابداً الشرك بالله والاضرار بالناس

فاما ان قلتم ان عباراته صريحة بحيث لا تقبل التأويل. فاقول لكم انكم بالامس كنت تخطأون وتخرضمون وتلحنون... وان قلتم ان بعضها وهو السيء مفهوم وبعضها غير مفهوم قلت لعل ما لم تفهموه هو من الحسنات التي تذهب السيئات فلا ينبغي لكم على اية حال كانت ان تحرقوه. ولعمري لو لم يكن من شافع لقبوله واجرائه عند الادباء وعندكم انتم ايضاً مجرى كتب الادب سوى سرد الفاظ كثيرة من المترادف لكفى. بل فيه من ذكر الجمال واهله ادام الله عزهن ما يوجب اعظامه وتقريظ مؤلفه حياً ثم تابينه بعد مفارقته اياهن رغم انفه.

على اني اعرف كثيراً من الوفهة الكرام المشهود لهم بالفضل بين الانام لا يتحرجون من قولهم شيء ممجمج وشيء متدملك وشيء ازيب. ومن ذكر الكعثب والكثعب والجهلوم والعركوك .... وكنت احملق في وجوههم عند ذكرهم ذلك فلم اكن ارى عليها حمرة الخجل ولا صفرة الوجل بل كانت ناضرة مستبشرة مبتهجة مسفرة . فان ابى المنكر الا عناداً وتقاضاني جدول اسمائهم قلت له هاك اوله يبتديء بالالف وآخره بالياء. فاحسبوني اذاً وافهاً من هؤلاء.

ثم ان شرطي على القاريء الا يسطر شيئاً من الالفاظ المترادفة في كتابي هذا على كثرتها. فقد يتفق ان يمر به في طريق واحدة سرب خمسين لفظة بمعنى واحد او بمعاني متقاربة . والا فلا اجيز له مطالعته ولا اهنؤه به. على اني لا اذهب الى ان الالفاظ المترادفة هي بمعنى واحد والا لسموها المتساوية وانما هي مترادفة بمعنى ان بعضها قد يقوم مقام بعض. والدليل على ذلك ان الجمال مثلاً والطول والبياض والنعومة والفصاحة تختلف انواعها واحوالها بحسب اختلاف المتصف بها فخصت العرب كل نوع منها باسم ولبعد عهدهم عنا تظنيناها بمعنى واحد وقس على ذلك انواع الحلى والماكول والمشروب والملبوس والمفروش والمركوب. لا بل عندي ولا اخشى من ان يقال انه اذا كان اسمان مشتقين من مادة واحدة وكانا يدلان على معنى واحد كالخجوج والخجوجاة مثلاً للريح الشديدة المر فلابد وان يكون الاسم الزائد في اللفظ زائداً في المعنى ايضاً . ان شئت اذعنت او لا فعاند.

هذا واني قد الفته وما عندي من الكتب العربية شيء اراجعه واعتمد عليه غير القاموس. فان كتبي كانت قد فركتني فاعتزلتها ، غير ان مؤلفه رحمه الله لم يغادر وصفاً في النساء الا وذكره . فكانه كان الهم ان سياتي بعده من يغوص في قاموسه على جمع هذه الجواهر في مؤلف واحد منتسق لتكون اعلق بالذهن وارسخ في الذكر.

ولولا اني خشيت غيظ الحسان على لكنت ذكرت كثيراً من مكايدهن وحيلهن لكني انما قصدت بتاليفه التقرب اليهن وترضيهن به. واني آسف كل الاسف على انهن غير قادرات على فهمه لجهلهن القراءة لا لعوص العبارة اذ لا شيء يصعب على فهمهن مما يؤول الى ذكر الوصل والحب والغرام. فهن يستوعبنه ويتلقفنه من دون تلعثم ولا قصور وحسبي ان يبلغ مسامعهن قول القائل ان فلاناً قد الف في النساء كتاباً فضلهن به على سائر المخلوقات فقال انهن زخرف الكون، وتعيم الدنيا وزهاها، وغبطة الحياة ومناها، وسرور النفس ومشتهاها، وعلق القلب وقرة العين، وانتعاش الفؤاد، وروح الروح.....وان خلاق الرجل من دونهن حركان، وفوزه خيبة، وهناؤه تنغيص ، وانسه وحشة، وشبعه جوع، وارتواؤه ظمأ، ورقاده أرق، وعافيته بلاء، وسعادته شقاوة.

فاذا قدر الله بلوغ هذا الخبر المطرب سماع احدى سيداتي هؤلاء الجميلات وسرت به وفرحت. ورقصت ومرحت. رجوت منها وانا باسط يد الضراعة ان تبلغه ايضاً مسامع جارتها. وأملت من هذه ايضاً ان تطالع به صاحباتها حتى لا يمضي اسبوع واحد الا ويكون خبر الكتاب قد شاع في المدينة كلها. وكفاني ذلك جزاء على تعبي الذي تكلفته من اجلهن. الا وليعلمن اني لو استطعت ان اكتب مديحهن بجميع اصابعي وانطق به بكل من جوارحي لما وفى ذلك بمحاسنهن. فكم لهن علي من الفضل حين بدون في افخر الحلل ومسن باحسن الحلى. ونظرن الى شافنات. حتى ابت الى حفشي وانا اتعثر بافكاري وخواطري. فما كادت يدي تصل الى القلم الا وقد تدفقت عليه المعاني وسرحت على القرطاس. فاورثتني بين الناس ذكراً وفخراً. ورفعن قدري على قدر ذوي البطالة والفراغ. نعم ان من بينهن من نفست على بطيفها في الكرى. ولكنها معذورة في كونها لم تكن تعلم اني اتكلف النوم بعد ان رات عيني من جمالها ما يبهر العقل ويبلبل البال.

فاما اذا تعنت على احد بكون عبارتي غير بليغة. أي غير متبلة بتوابل التجنيس والترصيع والاستعارات والكنايات، فاقول له اني لما تقيدت بخدمة جنابه في انشاء هذا المؤلف لم يكن يخطر ببالي التفتازاني والسكاكي والامدي والواحدي والزمخشري والبستي وابن المعتز وابن النبيه وابن نباتة. انما كانت خواطري كلها مشتغلة بوصف الجمال. ولساني مقيداً بالاطراء على من انعم الله تعالى عليه بهذه النعمة الجزيلة. وبغبطة من خوله عز وجل نعمة الحسن وبرئاء من حرمه منه. وفي ذلك شاغل على غيره. على اني ارجو ان في مجرد وصف الجمال من الطلاوة والرونق والزخرفة ما يغني عن تلك المحسنات استغناء الحسناء عن الحلى ولذلك يقال لها غانية. وبعد فاني قد علمت بالتجربة ان هذه المحسنات البديعية التي يتهور اليها المؤلفون كثيراً ما تشغل القاريء بظاهر اللفظ عن النظر في باطن المعنى.

ولعمري انه ليس في هذا الكتاب شيء يعاب عليه سوى وجدانك الفارياق فيه تارة يحشر في سرب الغواني. وتارة يدمق عليهن وهن آمنات في حجاهلن او في حديقة او في زاوية او على السرير . على انه لم يكن لي بد من ذلك. اذ الكتاب موضوع على أخباره وعلم احواله. فقد بلغني ان كثيراً من الناس انكروا وجود هذا المسمى فقالوا انه من قبيل الغول والعنقاء. وبعضهم قال انه ظهر مرة في الزمان ثم اختفى عن العيان. وذهب غير واحد الى انه مسخ بعد ولادته بايام. ولم يعلم باي صورة تلبس والى أي شكل استحال. وزعم قوم انه صار من جنس النسناس. وقال غيرهم انه صار من نوع الجن. واثبت بعض انه قد استحال امرأة. فانه لما راى ان المرأة اسعد حالاً من الرجل في هذه الدنيا المسماة دنيا النساء كان لا يبيت الا وهو جائر الى ربه بالدعاء لان يصير انثى. فتقبل الله ذلك منه وهو على كل شيء قدير. فرأيت والحالة هذه من بعض ما يجب علي ان اعرف هؤلاء المختلفين فيه بحقيقة وجوده على ما فطر عليه. ما عدا التغيير الذي عرض له عن جهد المعيشة وسوء الحال ومقاساة الاسفار ومخالطة الاجانب والاحتكال. وعلى الخصوص من تلفيع الشيب. والمجاوزة من حد الشباب الى سن الكهولة. فاذ قد علم ذلك فاقول:

كان مولد الفارياق في طالع نحس النحوس والعقرب شائلة بذنبها الى الجدي او التيس والسرطان ماش على قرن الثور، وكان والداه من ذوي الوجاهة والنباهة والصلاح (مرحى مرحى) الا ان دينهما كان اوسع من دنياهما وصيتهما اكبر من كيسهما (برحى برحى) وكان لطبل ذكرهما دوى يسمع من بعيد. ولزوابع شانهما عجاج ثناء يثور في الجبال والبيد. ولتكرير العفاة عليهما واعتشاء الوفود لديهما تعطلت سبل دخلهما ونزحت بئر فضلهما فلم بيق فيها الا نزازات يلقى فيها المخفق المحروم سداداً من عوز. فكانا يجودان به ايضاً من عوز السداد (وه وه) فلذلك لم يعد في طاقتهما ان يبعثاه الى الكوفة او البصرة ليتعلم العربية. وانما جعلاه عند معلم كتاب القرية التي سكنا فيها (ويح ويح) وكان المعلم المذكور مثل سائر معلمي الصبيان في تلك البلاد في كونه لم يطالع مدة حياته كلها سوى كتاب الزبور وهو الذي يتعلمه الاولاد هناك لا غير (اف اف) وليس قولي انهم يتعلمونه موذناً بانهم يفهمونه. معاذ الله. فان هذا الكتاب مع تقادم السنين عليه لم يعد في طاقة بشر ان يفهمه (غط غط) وقد زاده ابهاماً وغموظاً فساد ترجمته الى اللغة العربية وركاكة عبارته حتى كاد ان يكون ضرباً من الاجاجي والمعمى (رط رط) وانما جرت عادة اهل تلك البلاد بان يدربوا فيه اولادهم على القراءة من غير ان يفهموا معناه. بل فهم معانيه عندهم محظور (تف تف) وكما انهم لا يفهمون معنى وحا وميم وقاف مثلاً. فكذلك لا يفهمون عبارة الكتاب المذكور اذا قراوها (طيخ طيخ).

والظاهر ان سادتنا رؤساء الدين والدنيا لا يريدون لرعيتهم المساكين ان يتفقهوا او يتفتحوا. بل يحاولون ما امكن ان يغادروهم متسكعين في مهامة الجهل والغباوة (اع اع) اذ لو شاؤوا غير ذلك لاجتهدوا في ان ينشئوا لهم هناك مطبعة تطبع فيها الكتب المفيدة سواء كانت عربية او معربة (سر سر) فكيف ترضون ياسادتنا الاعزة لعبيدكم الاذلة ان تربى اولادهم في الجهل والعمه (عزوى عزوى) وان يكون معلموهم لا يعرفون العربية ولا الخط والحساب والتاريخ والجغرافية ولا شيئاً غير ذلك مما لا بد للمعلم من معرفته (تعز تعز) فكم لعمري من ملكات براعة وحذق من الله تعالى بها على كثير من هؤلاء الاولاد. غير انه لفقد اسباب العلم وعدم ذرائع التاديب والتخريج طفئت جذوتها فيهم على صغر بحيث لم يمكن ان يستقبها بهم نتف التحصيل على كبر (أوه أوه) هذا وانكم بحمد الله من المتمولين المثرين. لا يعجزكم ان تنفقوا كذا وكذا كيساً على انشاء مدارس وطبع كتب مفيدة (ايه ايه) فان لبطرك الطائفة المارونية دخلاً له وقع عظيم، وقدر جسيم، يحبث يمكنه ان يحبي به قلوب طائفته هذه التازرة التي لا هم لها في المنافسة والمباراة في شيء بين من سبقوهم الى كل علم وفضل (هيس هيس) وانما همهم ان يتعلموا بعض قواعد في نحو اللغتين العربية والسريانية لمجرد العلم بها فقط من دون فائدة (آه آه) اذ لم يعلم الى الآن ان واحداً منهم ترجم كتاباً او كراسة مفيدة في هاتين اللغتين ولا ان البطرك امر بطبع كتاب لغة فيهما (تغ تغ) ولو انه انفق نصف دخله في كل سنة على تحصيل اسباب العلم بدل هذه الولائم والمآدب التي يهيؤها لزواره. او لو كان كل من الامراء والمشائخ الكرام ينقل شيئاً معلوماً في كل سنة لاجل هذه المصلحة الخيرية او لو بعث من قبله الى البلاد الافرنجية وكلاء يجمعون من ذوي الخير والاحسان فيها مبلغاً يخصصه بما نحن بصدده. لاحمد كل من في لشرق والغرب فعله (جنح جنح) ولكن اذا تعنى احد سادتنا هؤلاء لان يبعث الى اخوانه الافرنج خنا او متى او لوقا لجمع المال فانما يبعثه لبناء كنيسة او صومعة (آح آح) ومع ان الانسان مذ يولد الى يبلغ اثنتي عشرة سنة لا يمكنه ان يدرك شيئاً على حقيقته من جهة الكنيسة والصومعة ويمكنه في خلال ذلك ان يتعلم ما يفيده في مدرسة او كتاب (ثع ثع) فهل تعدونني ياسادة بانشاء مكاتب وطبع كتب حتى لا اطيل عليكم هذا الفصل. فان بقلبي منكم لحزازات حاكة ويصدري عليكم ملامات صاكة (أخ أخ) لان خليصي الفارياق في دولتكم السعيدة لم يمكنه ان يتعلم في قريته غير الزبور وهو كتاب حشوه اللحن والخطأ والركاكة (اخ اخ) لان معربه لم يكن يعرف العربية وقس عليه سائر الكتب التي طبعت في بلادكم وفي روما العظمى (هع هع). ومعلوم ان الغلط اذا تاصل في عقل الصغير شب معه ونمى فلم يكن ممكناً بعد قلعه. فهل من سبب لهذا الشين والعيب سوى اهمالكم وسوء تصرفكم في السياسة المدنية والكنائيسة (افوه افوه).

اتحسبون ان الركاكة من شعائر الدين ومعالمه وفرائضه وعزائمه وان البلاغة تقضي بكم الى الكفر والالحاد والبدعة والفساد (مطغ مطغ) ام حسبتم ان تلك الابيات العاطلة قد افحمت ذلك المسلم العالم عن المجادلة والمناضلة (يع يع).. اما بعروقكم دم يهيجكم الى حب الكلام الجزل الفخم. والى البلاغة والبلة. ونق العبارة على موجب القواعد المقررة. والافصاح عما يخطر ببالكم دون الحشو المخل. والاعتراض الممل. والتعقيد المعل والاخلاء المسل؟ وقولكم في جوز الجملة الخ. وحعلكم الفعل الثلاثي رباعياً. وبالعكس. واستعمالكم ما يتعدى منه بالباء متعدياً بفي وبالعكس وعدم فرقكم بين اسمي الفاعل والمفعول. فتقولون هم محسودون مني أي حاسدون لي وما اشبه ذلك (قه قه) وليس كتابي هذا درة الثين في اوهام القسيسين حتى استوعب فيه ذكر اغلاطكم واوهامكم (ايحي ايحي) وانما المقصود من ذلك ان ابين لكم ان ادمغتكم قد سقيت اللحن والركاكة من وقت ذهابكم الى الكتاب وقراءتكم فيه كتاب الزبور الى ان تصيروا كهلاً ثم شيوخاً (دح دح) وانه ما دمتم على هذه الحال فلن يرجى لكم من ابلال (ويب ويب).

ثم ان الفارياق اقام عند معلمه ريثما ختم الكتاب المذكور. وبعد ذلك اوجس منه المعلم ان يربكه في مسائل تصعب عليه فينفضح بها. فاشار على والده بان يخرجه من الكتاب ويشغله بنسخ الكتب في البيت (به به) فلبث على هذه الحال مدة طويلة فاستفاد منها ما امكن لمثله ان يستفيد من تجويد الخط وحفظ بعض الالفاط (بد بد) وكان اهل البلاد يفضلون حسن الخط على كل ما تصنعه اليد. فعندهم ان من يكتب خطاً حسناً هو الذي افق بين اقرانه في الفضل. ومع اشتهار ذلك فلم يكن حاكم البلاد يستخدم من الكتاب الا من بذأت العين خطه وعاف الذزق السليم كلامه (عيط عيط) اشعاراً بان الخط لا يتوقف الا على الحظ. وان ادارة الاحكام لا تفتقر الى تهذيب الكلام (تع تع) وان كثيراً قد نالوا المرتب السامية والمناصب السنية وهم لا يحسنون توقيع اسمهم الشريف (حس حس) غير ان الفارياق لم يكن قرير العين بهذه الحرفة. اذ كان يعتقد ان الرزق الذي ياتي من شق كشق القلم لا يكون الا ضيقاً (وي وي). نعم ان كثيراً من الناس قد نالوا العيش الواسع الهني. والخير المتتابع الوفي من مورد هو بالنسبة الى شق القلم رحب لكنه بالنسبة الى شرههم وسرفهم ضيق (واه واه) غير ان الفارياق وقتئذ كان غراً لا تجربة له ولا خيرة فكان يحكم على البعيد بالقريب . ولا شيء اقرب الى عين الكاتب من لسان قلمه وعارض قرطاسه او ادنى الى قلبه من الكلام الذي يكتبه واللبيب من قنع بالحرفة التي يتعاطاها ولم يشق عليه امت الشق ولم يشرئب الى ما ليس يحسنه (شع شع).
من 18 :في النحس

....واتفق وقتئذ ان قدم نقاش يفدد على شراء السلع القديمة وعلى اصلاحها او على مقايضتها او على صبغها. وادعى انه يقدر على ان يعيدها الى لونها الاول وانه لا يعجزه شيء من احوالها بحيث ان صاحب السلعة نفسه اذ رآها بعد صبغها وتصليحها يتعجب منها غاية العجب ولا يعود يعرفها. انه أي النقاش لما بلغه في بلاده فساد تلك السلع اقبل الى تلك البلاد وهو يحمل خرجاً كبيراً فيه من الاصباغ والادوات ما يرفأ كل خرق ويعيد كل لون نافض. فسار اليه الفارياق عجلاً الى المقايضة وواطأه على ابدال ما عنده من السلعة القديمة باخرى جديدة راقت لعينه. فقد يقال لكل جديد بهجة. ثم قفل الى منزله مسروراً بصفقته. فلما علم أهله وحيرانه بذلك استشاطوا عليه غيضاً وقالوا. لعمر رب الحنود ما جرت العادة في بلادنا بتغيير البياعات ولا بمقايضتها ولا باصلاحها ولا بصبغها. ثم لم يلبث الخبر ان بلغ مطران الصقع فكأنما كان سكيناً سقط على حلقومه. او خردلاً دخل على خرطومه. فهاج وازبد، وابرق وارعد، وماج واضطرب، وضج وصخب، والب وحزب، وبربر وثرثر، واقبل وادبر، وزجر ونهر، ووثب وطفر، وفتل لحيته من الغيظ حتى صارت كالمقرعة. واغوى كل حنتوف مثله بان يهيج معه. ونادى ياخيل الله على الكفار. انهم صالوا النار. كيف تجرأ هذا الشقي المنحوس. المعتره المهلوس، على ان يذهب مذهباً غير ما نهجه له جاثليقه وسلكه فيه بطريقه؟ وكيف اقدم بوقاحته، وصفاقة وجهه وقباحته على معاملة ذلك النقاش اللئيم ومباعيته ما ورثه عن آبائه من الزمن القديم. اليس في بلادنا صلب، وادهاق ويلب، هلموا به مهانا، اجلدوه عريانا، اطرحوه نيرانا، القموه حيتانا، اطعموه دمانا، اقطعوا منه لسانا، اسقوه الزنانى، على به الان. فابتدر بعض الحاضرين وقال انا اتيك بهذا الجعشوش بأسرع من رد طرفك اليك. ثم ولى حفدا الى الفارياق فوجده مكبا على قراءة الدفتر الذي فيه اثمان السلعة. فتناوله بالسيف فاصاب فروته. ثم سيق الفارياق الى الجزار المشار اليه. فلما بصر به انتفخت اوداجه واتسع منخراه وتعقدت اسرة جبينه واصفرت شفتاه. ورقص شارباه واحمرت حدقتاه. واحترقت اسنانه ودارت بينهما هذه المحاورة:
قال الضوطار : ياويلك يامغبون ما دعاك الى المساومة على سلعتك؟

الفارياق - اذا كانت هي سلعتي كما اقررت فما الذي يمنعني من ذلك؟

الظوطار: ضللت. هي سلعتك من حيث انك ورثتها من آبائك لا من حيث ان لك حق

التصرف فيها

الفارياق : هذا خلاف العادة والحق فان ما يرثه الانسان يحق له التصرف فيه.

الضوطار: كذبت. انما انت ورثتها لتحفظها لا لتضيعها ولا لتتبادل بها..

الفارياق : هي ميراثي افعل به ما اشاء

الضوطار : قبحت. اني انا القيم عليه الصائن له من الشوائب.

الفارياق: ما بلغنا عن احد انه تولى ميراث غيره الا اذا كان الوارث غير راشد.

الضوطار غويت . انك انت غير رشيد وانا وليك ووصيك وكفيلك ووكيلك وحسيبك.

الفارياق: ما الدليل على اني لست من الراشدين ومن ذا الذي جعلك وصياً وولياً؟

الضوطار: زغت. انما الدليل على غوايتك وضلالك هو انك تبدلت به متاعاً غيره. واما

كوني وصياً فان جميع امثالي يشهدون لي به كما اني انا ايضاً اشهد بانهم

اولياء امثالك.

الفارياق: ليس بتبديل شيء بآخر دليل على الظلال والزيغ اذا كان المبدل والمبدل منه

من جنس واحد. ولاسيما اني رايت لون القديم يوشك ان ينصل وقد ركت

رقعته فتبدلته بما هو ازهى واقوى.

الضوطار: كفرت. انه عشى على بصرك فما تستطيع ان تفرق بين الالوان.

الفارياق: كيف ذلك ولي عينان ناظرتان ويدان لامستان.

الضزطار: عميت فان الحواس قد تغش ولا سيما حاسة البصر.

الفارياق: اذا كانت حواسي قد غشت فكيف سلمت حواسك من الغش وانت بشر مثلي.

الضوطار: حننت. اني وان كنت بشراً مثلك لكني وكيل من طرف شيخ السوق. وقد

افادني مما اودع الله فيه من الاسرار العجيبة ان لا يطرأ على غبن ولا غش

الا وتبنيته لانه هو منزه عن الغش.

قال الفارياق: واين شيخ الفسوق هذا. ثم استدرك كلامه وقال انما اردت شيخ السوق. فلا

تكن زيادة هذه الثمانين موجبة لحد الثمانين.

الضوطار: لعنت. هو بعيد عنا بيننا وبينه ابحار وجبال. غير ان انفاسه القدسية تسري

فينا.

الفارياق: كيف به اذا مرض او جن او مسه طائف من الجن او اصابه برسام. فكيف

يمكنه والحالة هذه تمييز المتاع الردي من الجيد؟

الضوطار: هلكت. ما هو ببلو للعوارض . لانه بواب رتاج عظيم وبيده مزلاجان عظيمان

لاحكام الباب من قبل ومن دبر.

الفارياق: ليس هذا بدليل فان كل انسان في العالم يمكنه ان يصير بواباً ذا مزلاجين.

الضوطار : فسقت وفجرت. انه هو وحده مستبد بهذه الخطة اذ قد فوضت اليه من المالك

الامر.

الفارياق: متى كان ذلك؟

الضوطار : صلبت منذ الفي سنة تقريباً

الفارياق: او عاش هذا الشيخ الفي سنة؟

الضوطار : الحدت. انما انتقلت اليه بالورائة.

الفارياق: ممن ورثها امن ابيه وجده؟

الضوطار : نكلت . من انسان لا يعد من اهله.

الفارياق: هذا امر عجيب كيف يرث الانسان شيئاً من رجل غريب فان الغريب اذا مات عن

غير وارث انتقل ماله الى بيت المال فهو اولى به من رجل على حدته.

الضوطار: عذبت . هذا سر ليس لك ان تبحث عنه.

الفارياق: ما الدليل على كونه سراً؟

الضوطار: افحشت. هذا هو الدليل. وعند ذلك قام عجلاً واتى بكتاب واخذ يقلب فيه مطلوبه اذ لم يكن كثير الدرسة له. الى ان وجد عبارة مضمونها ان المالك كان احب مرة رجلا فوهبه هبات شتى من جملتها كاس وطست وعصا في راسها صورة ثعبان وجبة وتبان ونعلان وبلب له مزلاجان. وقال له قد وهبتك هذه كلها فاستعملها واهنا بها.

الفارياق: لعمري ليس في هذه الهبة ما يدل على سره هذا وقد مات كل من الواهب والموهوب له وفقد الموهوب كله. فكيف لم بيق الا المزلاجان فقد وقد ضاع الباب وهما لا ينفعان من دونه شيئاً.

الضوطار: فندت. لم يبق لنا في غير المزلاجين من حاجة.

الفارياق: بحق هذين المزلاجين عليك ياسيدي الا ما اريتني الكأس مرة في العمر وحسب.

ولك علي بعد ذلك الامرة التامة.

فلما ان ضغط الضوطار بين السلب والايجاب استشاط وغراً وهم ان يلحق الفارياق بالباب والكأس لولا ان دعاه داع الى اللوس. فقام ناشطاً ووكل به الاوغاد وكان وقتئذ يتضور جوعاً فرأى ان رؤية قمر القدر في المطبخ اشهى اليه من النظر الى وجه الفارياق. فتغافل عنه فتملص الفارياق من هذه الورطة واقبل يهرول الى الخرجي وقال له.. لقد خسرت تجارتي معك فان البضاعة كادت تميتني بمبضع. فابتغي منك الاقالة. اولاً فان يكن عندك في الخرج رأس يلائم جثتي حين تعدم هذا فارني اياه ليسكن روعي. اذ لا يمكن لي ان اعيش بلا راس. فاما ان لم يكن على الخرج غير اللسان فما لي به حاجة هذا متاعك فضمه اليك. فقال له الخرجي ما هكذا حق التعامل ينبغي ان تصبر على ما يلحقك من تبعة الصفقة كما داب جميع المتبايعين عندنا. وتلك من بعض خواص هذه التجارة. ولكن لا تخف فان من خواصها ايضاً ان تقي الواقي لها وتحفظ المحافظ عليها. فيكون له بها غنى عن الرأس اذا نقف وعن العينين اذا سملتا وعن اللسان اذا استل. وعن الساقين اذا غمزتا بالدهق. وعن اليدين اذا غلتا بالكبل . وعن العنق اذا وقصت. والكبد اذا فرصت. قال ما ارى ما ترى فان الاسف لا يحيي مائتاً . والندم لا يرد فائتاً . فان يكن عندك مخزن آمن فيه من العدو على السلعة فآوني اليه. والا فهذا فراق بيني وبينك. فاطرق الخرجي ساعة ثم دخل به حجرة صغيرة واقفل الباب. واخذ يمتحن الفارياق كما سيرد بيانه في الفصل التالي.


الساعة الآن 07:49 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى