منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب " أسباب ورود الاحاديث تحليل وتأسيس " (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8849)

ميارى 1 - 8 - 2010 02:23 AM

كتاب " أسباب ورود الاحاديث تحليل وتأسيس "
 

كتاب :أسباب ورود الأحاديث / تحليل وتأسيس

للدكتور : محمد رأفت سعيد

تقديم : عمر عبيد حسنه



الحمد لله الذي اختص الأمة المسلمة بالرسالة الخاتمة، وناط بها حملها، ونقلها، وحراستها، والدعوة إليها، وجعلها بذلك خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وربط استمرار الخيرية والتمكين، بحمل الأمانة، والقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، وفق منهج الله، في الكتاب والسنة، الذين يشكلان المعيار المعصوم، ومركز الرؤية، ودليل العمل، والتعامل مع الحياة والأحياء.. هذا المعيار، أو هذه المعيارية، تعتبر من أخص خصائص الرسالة السماوية الخاتمة، حتى لا يداخلها أي شك، أو احتمال تحريف أو تبديل، فالقرآن معيار، يقول تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه) (المائدة:48)، فالهيمنة هنا تعني فيما تعني: المعيارية، والتصويب، والرقابة، لما داخل الكتب السماوية السابقة، من التحريف، والتبديل، والإخفاء، والإلغاء، والنسيان.

فالقرآن الخالد بهذا يصوب التاريخ، ويصوب الحاضر، ويصوب التوجه نحو المستقبل.

والرسول صلى الله عليه وسلم بسنته، وسيرته، وبيانه للقرآن، وتجسيده له في الواقع ، معيارُ أيضاً، يقول تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومُبشِّرًا ونذيرًا )(الأحزاب:45)، ويقول: (ليكون الرسول عليكم شهيدًا )(الحج 78)، والشهادة تعني: بيان الحق، وإدانة الباطل، وكشف الزيف.

والأمة المسلمة بما تمتلك وتجسد في حياتها من قيم الكتاب والسنة، هي أمة معيارية أيضاً، يقول تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شُهداء على الناس… )(البقرة:143).

فالشهادة على الناس، والقيادة لهم، وفق منهج الله في الكتاب والسنة، هي من أخص خصائص المعيارية. ذلك أن أمة الرسالة الخاتمة يستحيل عليها عقلاً وواقعاً، أن تتواطأ على الخطأ، لأنها تمتلك القيم المعيارية المعصومة، ويمثلها ويجسدها باستمرار ظهور الطائفة القائمة على الحق، التي لا يضرها من خالفها، حتى يأتي أمر الله، وهي على ذلك، الأمر الذي يقتضي عصمة عموم الأمة، التي يشير إليها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (لا تجتمع أمتي على خط أ)، وفي رواية: (ما كان الله ليجمع هذه الأمة على ضلالة أبدًا )(رواه الحاكم).

لأن من لوازم الرسالة الخاتمة، أو من لوازم الخاتمية، وتوقف النبوات، والتصويب: استمرار القيم في الكتاب والسنة، صحيحة سليمة من كل تحريف، أو تبديل، أو تأويل، ليصبح التكليف صحيحاً عقلاً وشرعاً، ويترتب الثواب والعقاب.. ومن لوازمها أيضاً، الخلود، الذي يعني: استمرار تجسد هذه القيم في الواقع، وقدرتها على إنتاج نماذج تثير الاقتداء، وتظهر بالحق في كل زمان ومكان، وتمتلك الإمكانية لمعالجة المشكلات الطارئة، والتعامل مع المتغيرات، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ولعل من مقتضيات الخاتمية أيضاً، تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ القيم في الكتاب والسنة، من أي تحريف أو تبديل، سواء في ذلك تحريف الكلم عن مواضعه، أو تحريفه بالتأويل، وهو الخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ، قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )(الحجر:9)، وقال: (إنَّ علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قُرآنه * ثم إن علينا بيانه )(القيامة:17-19) ، فالتكفل بالحفظ للنص الإلهي، والحفظ والحراسة لبيانه عن طريق النبوة، يعتبر من أبرز سمات الرسالة الخاتمة، وأخص خصائصها.

والصلاة والسلام على معلِّم الناس الخير، المبين للناس ما نزل إليهم، يقول تعالى في بيان مهمته: (وأنزلنا عليك الذكر لتُبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون )(النحل:44)، فجاء حفظ السنة والبيان النبوي، والعناية بهما، ثمرة لازمة لحفظ القرآن. وامتازت الأمة المسلمة عن غيرها من الأمم السابقة واللاحقة، بالرواية والإسناد، تلك الوسيلة التي لا بد منها لحفظ القيم، والقيام بمهمة البلاغ المبين، والتوصيل، والنقل الثقافي، على الوجه الصحيح، التي اعتبرها الله سبحانه وتعالى سبيل النجاة، بقوله: (قل لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً * إلا بلاغاً من الله ورسالاته )(الجن:22،23)، وأمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقوله: (ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلِّغ من هو أوعى له منه )(رواه البخاري)، وقال: (فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع )(رواه الترمذي وأحمد)، وبذلك لم يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على أهمية النقل (الرواية)، وإنما نبه أيضاً إلى فقه الرواية ووعيها (الدراية)، وبهذا استحق المسلمون وراثة القيادة الدينية، بعد نقض بني إسرائيل للميثاق، وتحريفهم للقيم السماوية.

وبعد:

فهذا كتاب الأمة السابع والثلاثون: (أسباب ورود الحديث، تحليل وتأسيس)،للدكتور محمد رأفت سعيد، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في بناء شخصية المسلم المعاصر، وتقويم سلوكه ، وضبط حركته بالقيم الإسلامية، الأمر الذي لا يتأتى إلا بإعادة بناء المرجعية، وتشكيل مركز الرؤية، التي تحققها معرفة الوحي في الكتاب والسنة، وتنطلق منها، وتمتد بها معارف العقل، ليستأنف المسلم دوره، ويستعيد فاعليته لحمل الأمانة، التي كلفه الله بها، وتحقيق العبودية لله، وإلحاق الرحمة بالناس أجمعين، وإبصار طريق العمران البشري، الذي ينسجم مع نسقه الحضاري، ومعادلته الاجتماعية، في ضوء قيمه، واستصحاب تطبيقها في الواقع، من خلال تحديد موقعه بدقة في المسيرة التاريخية للأمة المسلمة، بعيدًا عن الأنماط، والقيم الاستعمارية لحضارة الغالب، المفروضة عليه.

وقد تكون المعادلة الصعبة المطروحة بإلحاح على مسلم اليوم، والتي يُطْلبُ إليه الإحاطة بعلمها، ليكتشف الخلل، ويبصر سبيل الخروج: هي في انتمائه لماضٍ متألق، على الأصعدة المتعددة، ومعايشته لواقع متخلف، يعاني منه على مختلف الأصعدة أيضاً، على الرغم من أن أمته المسلمة، صاحبة الرسالة الخاتمة الخالدة، وأنها تمتلك الخطاب الإلهي السليم، الذي يصوب طريقها، ويمنحها الطاقات الفاعلة، والقيم الروحية، والتجربة الحضارية التاريخية، كما تمتلك الإمكانات، والطاقات المادية الهائلة، المركوزة في بلادها، والتي يمكن - لو أُحسن توظيفها - أن تقود حركة العالم، وتعيّن وجهته، وتسترد إنسانية إنسانه، وفقاً لمنهج الله.

وإذ حق لنا أن نقول: بأن الحاضر هو مستقبل الماضي، أدركنا أن واقعنا وحاضرنا، جاء ثمرة لأصول حضارية، ومذهبيات وفلسفات عقائدية، بعيدة عن قيمنا،وتاريخنا، ونسقنا الحضاري؛ وأن فجوة التخلف التي نعاني منها، أو المعادلة الصعبة التي نعيشها، إنما هي بسبب انسلاخنا عن قيمنا في الكتاب والسنة، وليس بسبب التزامنا بها، وبسبب أننا نعاير واقعنا وحاضرنا، ونحاول قياسه، وتصويبه، بقيم غريبة عنه، مع أن الأمر المنطقي كان يقتضي في دراستنا لمشاريع النهوض، وإبصار سبل الخروج، أن نقيس واقع كل أمة وحاضرها، بأصولها وقيمها الحضارية، لا بأصول وقيم حضارية غريبة عنها، لنكتشف الخلل، ونصوّب المعادلة.

وإذا صح لنا، من استقراء التاريخ، ودراسة سنن التداول الحضاري، القول: بأن نهوض أي مجتمع، مرهون إلى حد كبير، بتوفير ظروف وشروط ميلاده الأول، أدركنا في ضوء ذلك، قولة الإمام مالك رحمه الله تعالى: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأدركنا الأبعاد الكاملة، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يرويه الإمام أبو داود في الملاحم: "يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها".. هذا التجديد، الذي يعني فيما يعني: العودة إلى الأصول، والينابيع الأولى، ومحاولة إزالة الغبش، واستئصال نابتة السوء والابتداع، وتحكم بعض التقاليد الاجتماعية، واختلاطها بالتعاليم الشرعية، واستلهام التطبيق في المجتمع الأول القدوة، واستدعاء المناخ التربوي والنفسي والثقافي، لظروف وشروط الميلاد الأول، الذي يمكن من التجديد، والانبعاث، وإعادة النهوض.

ومن هنا يتأكد لنا أيضاً، وفي كل الظروف والأحوال، أهمية العودة باستمرار إلى دراسة الكتاب والسنة، كقيم معيارية؛ ودراسة السيرة النبوية، كأنموذج بياني تطبيقي، لتنزيل هذه القيم على الواقع، والأخذ بيده للارتقاء، وتقويم سلوكه بها؛ والتبصر بأسباب النزول للقرآن، والورود للحديث، كوسائل إيضاح معينة على فهم آليات التطبيق والتنزيل للقيم على الواقع، وكيفيات التعامل معها، من خلال الاستطاعات المتاحة، والظروف المحيطة.

ولعل من الأمور الأساسية، التي لا بد من مداومة التأكيد عليها، وتكرار القول فيها: أن من لوازم الخاتمية وتوقف النبوة: سلامة خطاب التكليف، من التحريف، والتبديل والانتحال، والغلو، والتأويل، حتى يكون التكليف صحيحاً، ويترتب عليه الثواب والعقاب - كما أسلفنا - ويتحقق العدل الإلهي.. وأن من لوازم الخاتمية أيضاً: الخلود، وتجرد النص الإلهي في الكتاب والسنة، عن حدود الزمان والمكان، وأسباب النزول والورود، لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما هو مقرر عند علماء الأصول، فالخلود يعني: القدرة على العطاء، والامتداد، وتوليد الأحكام، والبرامج، والاستجابة لمعالجة المشكلات، ومواجهة المتغيرات، في كل زمان ومكان، والقدرة على إنتاج النماذج التي تظهر بالحق، وتثير الاقتداء في كل زمان ومكان أيضاً.

وقد يكون من أخطر الإشكالات والإصابات، التي لحقت بالنص السماوي السابق، هي في عملية تحريف الكلم عن مواضعه.. والتحريف كما هو معلوم، قد يكون بتبديل الألفاظ، ليتغير المعنى والتكليف المطلوب، تبعاً لذلك، أو تغييب وإخفاء بعض ما أنزل الله، وإبراز الآخر، لكي يتوافق مع الرغبات والأهواء، ويحقق المصالح الموهومة في الدنيا.. هذا التقطيع للرؤية الشاملة، التي يمنحها النص الإلهي، أو هذا الإيمان، ببعض الكتاب والكفر ببعض، هو سبب الخزي الذي لحق بأهل الكتاب، والذي اعتُبر من علل التدين، وأسباب الانقراض، التي حُذِّر المسلمون من الوقوع فيها، يقول تعالى: (فبما نقضهم مّيثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يُحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكِّروا به ولا تزال تطّلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين )(المائدة:13).. وذاك اللون من التحريف الذي وقع به أهل الكتاب، يتناسب مع شيوع العامية، وانعدام وسائل الكتابة، والقراءة، جاء ليمثل مرحلة من مراحل التحريف.. ويكاد هذا أن يكون مستحيلاً بالنسبة للمسلمين، لأن الله تكفل بحفظ النص السماوي، وتكفل بحفظ بيانه أيضاً، كما هو معلوم، ولشيوع الكتابة والقراءة والحفظ، التي بدأت منها الخطوات الأولى للرسالة الإسلامية.

وقد تكون المشكلة بالنسبة للمسلمين، أو احتمالات التحريف، هي: الخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ، لذلك كان من الأهمية بمكان - إلى جانب حفظ النص الإلهي، الذي تعهد الله بحفظه، وقراءته - حفظ السنة، والتعهد بحفظ البيان النبوي أيضاً: (ثُمّ إنّ علينا بيانه )(القيامة:19) الذي يحول دون التحريف، أو التأويل، الذي يعني عدم مس ألفاظ وحروف النص، بمقدار ما يعني الخروج بالمعنى تأويلاً عما وضع له اللفظ.

فالسنة والسيرة هما البيان العملي، الذي يحول دون التأويل المنحرف، والذي يمنح ملكة فقه التنزيل للنص على الواقع، لذلك فالاجتهاد يعني: تجريد النص من قيد الزمان والمكان والمناسبة (سبب النزول وسبب الورود)، والامتداد به، وتعدية الرؤية، وامتلاك القدرة في التنزيل على الواقع، بواسطة العقل القائس.. نقول: بأن العقل الذي أطلقه الإسلام لتحقيق خلود النص، بالاجتهاد، وفسح أمامه آفاقاً رحبة للامتداد به، له أن يمتد، ويمتد، ويلمح آفاقاً بعيدة، ويولد أحكاماً وروئً، ويضع من البرامج ، في ضوء قيم، ومقاصد النص الإلهي، ما شاء الله له الامتداد، ليحقق الاستجابة لكل جديد، ومتغير.. لكن لا يجوز للعقل، أو الاجتهاد، والتفسير بالرأي، بحال من الأحوال، أن يخرج، أو يغير، أو يلغي، الإطار العام للتفسير بالمأثور، أو البيان النبوي، وإلا كان الخروج، والتأويل الفاسد، وتحريف الكلم عن مواضعه.

لذلك يمكن أن نقول: إن البيان النبوي، أو التفسير بالمأثور، (الذي يشكل سبب النزول والورود وسيلته المعينة)، يشكل الإطار المرجعي، والضابط المنهجي، والنسق المعرفي، لأي بيان أو استنباط، أو تفسير بالرأي للنص، كما يعتبر من عواصم العقل من التجاوز، والانحراف، والإلغاء، والقطيعة، أو التقطيع للنص.. فللمجتهد أن يكتشف آفاقاً وأبعاداً لمقاصد النص، ومراميه، في ضوء الظروف المستجدة، لكن ليس له أن يتجاوز البيان النبوي، أو يخرج عليه، باسم التفسير، أو التأويل، الذي يقود إذا ما تجاوز المأثور، إلى التحريف في المقاصد، والانحراف في السلوك.

وقد يكون -ولأمر يريده الله- انقطاع استمرار الرشد الكامل، بعد جيل القدوة، الذي أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنته، بقوله: (…فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ… )(رواه أحمد)؛ ليبقى هذا الجيل وحده، هو محل الاقتداء والتأسي، ولا تحسب الممارسات التاريخية للأفراد والحكام، على الإسلام، وذلك حتى لا يصبح التاريخ، أو الأشخاص، هم المعيار.

لذلك كان التفسير بالمأثور، أو فقه التنزيل على الواقع، في السنة والسيرة، وفهم خير القرون، هو المأمن، والعاصم، من التأويل الباطني، أو الإشاري، أو العرفاني، الذي يخرج عن كل الضوابط المنهجية، ويعتمد التذوق الذاتي، وبذلك يصير لكل إنسان كتاب وسنة.

ولعل مفرق الطريق، أو نقطة الانطلاق للتفسير العرفاني الصوفي والباطني غير المنضبط، تبدأ من توهين إسناد السنة، أو البيان النبوي.

ونحن بسبيل الكلام عن التفسير بالمأثور، وأهمية اعتماده كإطار مرجعي، في النظر العقلي، والتفسير بالرأي، لا بد أن نذكر أن الكثير من أصحاب التفسير الباطني، والصوفي، والإشاري، أو بكلمة مختصرة: التفسير العرفاني، حاولوا توهين إسناد ومتون بعض الأحاديث المبينة للقرآن، ليكون ذلك مندوحة لهم، للخروج، والرفض، والتجاوز، وإذا لم يجدوا في إسنادها ومتونها وهناً، ردوها على أنها من خبر الآحاد، الذي يفيد الظن، ولا يحقق علم اليقين. مع أن المعتمد عند جميع العلماء، أن أحاديث الآحاد، وأخبار الآحاد، يؤخذ بها في أحكام الفروع، وفي بيان آيات القرآن، أي في التفسير بالمأثور، حتى في مجال بيان آيات العقائد، عند من لم يعتمدها في إثبات العقائد.. وقد يكون الأمر المستغرب حقًا، أن تُلغى أحاديث الآحاد، لأنها تفيد الظن -وقد توفر لها صحة النقل، بشروطه المعروفة عن المعصوم- باجتهاد لا يخرج عن نطاق الظن، من شخص لا عصمة له، أي يرد الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم -لأن سند نقله، لا يفيد اليقين- باجتهاد ونظر عقلي، ممن يجري عليه الخطأ والصواب -بأصل الخلق- حيث الأصل في اجتهاده الظن، وعدم اليقين.

وأسباب النزول والورود -وهي من البيان النبوي- هي أشبه ما تكون بوسائل إيضاح، لتنزيل النص على الواقع، ولتكون أداة معينة على التنزيل في كل زمان ومكان. لكن هذه الوسائل من أسباب النزول والورود، لا تعتبر قيوداً للنص، تجمده في نطاق المناسبة، بمقدار ما تمنح من فقه للتنزيل على الواقع، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب - كما أسلفنا- ذلك أن أسباب النزول والورود، أو البيان النبوي، هو أشبه بالتجربة المخبرية في العلوم التجريبية، التي تعتبر الأساس للانطلاق منها، والتصنيع في ضوئها، واعتمادها في التطبيقات المختلفة والمتعددة، داخل المجتمع، التي تعتمد جميعها تلك التجربة المخبرية، ولا تخرج عليها.

وقد يكون من المفيد، أن نتوقف قليلاً، عند قضية فقه التنزيل، التي يمكن أن نعبر عنها: بالاجتهاد في مورد النص..والاجتهاد في مورد النص الذي نعنيه، أمر آخر غير الاجتهاد المرفوض، حيث لا اجتهاد مع النص، على خلاف ما هو شائع من أنه لا اجتهاد في مورد النص، خاصة إذا اعتبرنا أن مورد النص، هو محله، وأن هذا المحل، لا بد أن تتوفر فيه استطاعات معينة، ليصبح أهلاً ومحلاً لتنزيل الحكم - النص - عليه، ذلك أن فقه المحل، يعتبر من الأهمية بمكان، إلى جانب فقه النص، أو حفظ النص.. فحفظ النص، أو حمله، أو فقه حكمه، يمثل نصف المطلوب، أو نصف الحقيقة، ويبقى النصف الآخر، وهو فقه المحل، أو الاجتهاد في معرفة استطاعة المحل، ومدى إمكانية حصول التكليف، وتنزيل النص عليه، وهي قضية على غاية الأهمية، لو تأملنا في الفقه النبوي، و فقه خير القرون، لوجدنا أنها مدار ومدى التكليف كله، وقد تنبه لأهميتها بعض علمائنا بشكل خاص.. وقد يكون من المفيد استدعاء بعض ما قدموه إلى ساحة الاهتمام المعاصر: يقول الإمام الشاطبي رحمه الله (المتوفى عام 790هـ): "ليس كل ما يُعلم مما هو حق، يُطلب نشرُه، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علماً بالأحكام، بل ذلك ينقسم: منه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب على الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال، أو وقت، أو شخص ".

ويضيف موضحاً، ومفصلاً، ومنبهاً إلى المنهج العلمي، في التعامل مع أحكام الشرع، وتوجيهاته، وقضايا الأفراد والمجتمع، فيقول: "ليس كلُّ علمٍ يُبث وينشر، وإن كان حقاً، وقد أخبر مالك عن نفسه، أنه عنده أحاديث، وعلماً، ما تكلم فيها، ولا حدَّث بها، وكان يكره الكلام، فيما ليس تحته عمل، فتنبه لهذا… وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر مآلها، بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها، فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم، إن كانت مما تقبلها العقول، وإما على الخصوص، إن كانت غير لائقة بالعموم.. وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري، وفق المصلحة الشرعية والعقلية" (الموافقات 4/189-190).

فالأمر لا يتعلق فقط بمعرفة الحكم، وما يطلبه الشرع منا، والتأكد منه، والانطلاق لإنجازه، بل يتعلق أيضاً، باستكمال أبعاد أخرى تخص المحل ومساحة التنفيذ، والتنزيل على الواقع وكيفياته، ومنهجية ومرحلية الإنجاز، خصوصاً في مراحل انتقاص آثار النبوة في الخلق، وضعف صلة الناس بالإسلام فهمًا وممارسة، حيث يحتاج الاجتهاد إلى بصيرة نافذة، وعقل راشد، وفقه نضيج، يمتلك مفاتيح المعادلات المركبة، التي يفرزها التدافع بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والمصلحة والمفسدة، وهو ما عناه الفقهاء بقولهم: "ليس الفقيه هو من يعرف: بأن هذا مصلحة وهذا مفسدة، بل الفقيه هو الذي يعرف: خير الخيرين ، وشر الشرين".

فالعَالِمُ كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله (661-728 هـ): "تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت، عن الأمر والنهي، أو الإحاطة.. كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر، عن الأمر بأشياء، حتى علا الإسلام وظهر.

فالعَالِمُ، في البلاغ والبيان كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء، إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات، وبيان أحكام، إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيانها.

فالمحيي للدين، والمجدد للسنة، لا يبلِّغ إلا ما أمكن علمه، والعمل به، كما أن الداخل في الاسلام، لا يمكن حين دخوله، أن يُلَقّنَ جميع شرائعه ، ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن أول الأمر، أن يؤمر بجميع الدين، ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإن لم يطقه، لم يكن واجبًا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً، لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه عليه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر والنهي، بما لا يمكن علمه وعمله، إلى وقت الإمكان، كما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما عفا عنه، إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات، وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل.. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء، وإن كانت واجبة، أو محرمة في ا لأصل، لعدم إمكان البلاغ، الذي تقوم به حجة الله، في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي، وإن كان في الأصل" (مجموعة الفتاوى 20/58-60).

وقد تكون الحكمة من أن القرآن، جاء ترتيب آياته وسوره توقيفيًا من الله، ولم يرتب بحسب تاريخ وأسباب النزول - والله أعلم - إنما هي لتحقيق الخلود، وتحرير النص الإلهي الخاتم، من قيد الزمان والمكان والمناسبة، وتقديم الرؤية الشاملة، التي تصلح لكل الأحوال، والأزمان، والأماكن، والمتغيرات، وبذلك يمكن تنزيل أحكامه على الواقع، في ضوء استطاعاته وظروفه، دون التجمد على حال واحدة، بحيث يصبح الاجتهاد المطلوب: أين يكون موقع الحاضر - من خلال ظروفه، واستطاعاته - من الرؤية الشاملة؟ وما هي الأحكام التي تناسبه في هذه المرحلة، في إطار هذه الرؤية؟

لذلك فقد يكون فقه المحل، وما يتنزل عليه من الأحكام، بحسب استطاعته، من أهم الأمور المطلوبة للفقيه المسلم اليوم، ذلك أن الكثير من النصوص في الكتاب والسنة، أحاطت بها ظروف، وشروط، ومناسبات، لا بد من إدراكها أثناء عملية التنزيل للنص على الواقع. ولعلي أعتبر سبب النزول، وسبب الورود، نوعًا من فقه المحل، وإعانة للمجتهد على إدراك وأهمية توفر الشروط والظروف نفسها، للتنزيل.

فعندما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي - إذا لم نعلم السبب - قد نقع في مشكلة تأبيد التحريم، في الأحوال كلها، بينما لو علمنا سبب الورود، ندرك أن التحريم كان بسبب طروء الفقر: "للدافة"، ثم لما انتهت الحال التي عليها الناس، عاد الحل، وسُمح بالأكل والادخار بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما نهيتكم - أي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث - من أجل الدافة التي دفت، فكلوا، وادّخرو، وتصدقوا" (رواه مسلم) وقوله: (كلوا وأطعموا وادّخروا، فإن ذلك العام -أي العام الذي نهى فيه عن الادخار- كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيها )(رواه البخاري).

إن هذا الفهم للمحل واستطاعته، وظروفه، الذي يمنحه لنا فقه سبب النزول والورود، يدفعنا قبل تنزيل الأحكام على الواقع، إلى فهم ظروف وشروط الواقع، وهذا هو الاجتهاد المطلوب في مورد النص، ومعرفة مدى استطاعته، وحدود تكليفه.

والقضية التي لا بد أن نعرض لها أيضًا، هي: أننا أثناء التنزيل للنص على الواقع، الذي قد يقتضينا: الاستثناء، أو التأجيل، أو التدرج في الحكم، فإن ذلك لا يعني أن هذه الحال التي عليها المحل، هي الصورة النهائية، أو المرحلة النهائية للحكم الشرعي، وإنما يعني مرحلة في طريق الترقي، وتحضير المحل، ليكون أهلاً للحكم النهائي.. والمشكلة كل المشكلة - في نظري - قد تكون في هذا الفقه الغائب، الذي هو فقه التنزيل الذي يمنحه (سبب النزول والورود)، ذلك أن الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة، شاملة لجميع الأحوال والظروف، التي يكون عليها الناس، حتى يرث الله الأرض، ومن عليها، لكن تبقى المشكلة المطروحة هي: الفقه بكل حالة، وما يناسبها من الأحكام، في هذه المرحلة، وتحضيرها لما بعدها من المراحل، في طريق التدرج والترقي للوصول إلى الكمال.

فالأحكام الشرعية، أشبه ما تكون بالأدوية المتوفرة، لكل الأدواء الممكنة الوقوع، والحالات التي قد يكون عليها المريض، لكن تبقى المشكلة، أو الفقه المطلوب والغائب، هو : أي دواء من الأدوية يحتاج إليها الحال، والمرض الذي نعاني منه؟

إن الغفلة عن إدراك أبعاد سبب النزول والورود، أصاب عملية الاجتهاد والتجديد، أو فقه التنزيل، في مقاتل، وجعل الكثير من الاجتهادات، هي أقرب للتجريدات النظرية ، منها إلى البصارة والفقه العملي الميداني، وجعلنا ننزل النص، أو الحكم الشرعي، على غير محله، وتوهمنا أن كل حكم، يصلح لكل الأحوال، أو أنه ينزل بإطلاق، دون مراعاة الشروط والظروف وملابسات الحال، حتى أصبحنا نوقع النّسخ في غير موقعه، وننزل أحكام وخطاب الحرب والمعركة على ساحات السلم، والدعوة، والبلاغ، ونعطل الكثير من الأحكام، على اعتبار أنها كانت تمثل حالة كان عليها المجتمع الإسلامي الأول، في مراحل تحويله إلى الإسلام، ثم تجاوزها إلى ما فوقها، فأصبحت منسوخة أو معطلة، دون أن ندري أن خلود القرآن والسنة، يعني خلود المشكلات التي عرضا لها، والحلول التي قدماها، وأن الأمة في تاريخها الطويل، سوف تتعرض لحالات كثيرة من السقوط والنهوض، والهزيمة والنصر، والضعف والقوة، وأن لكل حالة حكمها، وفقهها، وأنه لا يكفي حفظ النصوص، وفهمها، بعيدًا عن أسباب نزولها، وورودها، التي تعين على فهم الحال التي تتنزل عليه.

وبمقدار ما نحتاج إلى تجريد النص من قيود الزمان والمكان، وامتلاك القدرة على تعدية الرؤية إلى الأشباه والنظائر، وقياس المستجد، الذي لا نص فيه، على المشابه الذي فيه نص وحكم، في ضوء مقاصد الدين وكلياته العامة، بمقدار ما نحتاج إلى فقه المحل واستطاعاته، وقدرته، وما يلائمه من النصوص والأحكام.. فالقضية الاجتهادية، ذات أبعاد متعددة، وحالات مختلفة.

وقد تكون المشكلة، أو الإشكالية، التي يعاني منها العقل المسلم، بشكل عام، أو المعادلة الصعبة، التي لا بد من حلها وتصويبها، حتى يستقيم الحال، أن الكثير من الذين يفقهون النص، يجهلون العصر، وأن جل الذين يفهمون العصر، يجهلون فقه النص، وأنه على الرغم من أن خطاب التكليف في الكتاب والسنة، إنما يتنزل من خالق الإنسان، العالم بأحواله وحاجاته الأصلية، التي فطر عليها، فإن فهم العصر، محل تنزيل الحكم، هو من فقه الحكم أيضًا.. ولعلنا نقول: إن فهم أسباب النزول والورود، يشكل مدخلاً أو منهجا للفقيه والباحث، لإدراك أهمية فهم العصر، والظروف والملابسات التي تحيط بالحكم الشرعي، وليس فقط فهم أبعاد النص.

إن فهم العصر، لا يتأتى إلا بإدراك السنن والقوانين الاجتماعية، والتمكن من آليات الفهم الاجتماعي، التي لها علومها ومعارفها، والتي لم يمتد بها المسلمون بالأقدار المطلوبة، بحيث أصبح خطابهم في توصيل الإسلام، وبيان أحكامه إلى الناس، يقتصر على مطالبتهم بما يجب أن يكون، دون معرفة ما هو كائن، وما يناسبه من الأحكام في هذه المرحلة، ودون معرفة وسائل وأوعية التحرك بالناس، حتى نصل بهم إلى ما يجب أن يكون.

وما لم تحل هذه المعادلة في العقل المسلم، فسوف نساهم بشكل سلبي في تحنيط الأحكام، وبعدها عن مواقع التنزيل.

وهنا أمر آخر، قد يكون من المفيد التوقف عنده: فلقد بذل علماؤنا وما يزالون، جهودا فائقة ومتميزة، في مجال استنباط الحكم الشرعي، أو الفقه التشريعي، وكان ميدان اجتهادهم ونظرهم هو آيات الأحكام، التي لا تزيد عند أكثرهم على خمسمائة آية، وعلى أحاديث الأحكام أيضاً، وكان نظرهم في هذه الآيات والأحاديث، لا يتجاوز بعض مقاصدها وأغراضها في بيان أحكام الحلال والحرام.

ومع تقديرنا لهذا العمل العظيم، وتأكيدنا لأولويته في النظر العقلي، والفقهي، حتى يكون المؤمن على بينة من أمره، فيما يفعل وما يدع، ذلك أن خلاصة الشريعة عند علماء الأصول، تكاد تتلخص في كلمتين: افعل، أو لا تفعل، ليطابق سلوك المسلم، منهج الله وهديه؛ نقول: مع تقديرنا لهذا العمل العظيم، وما اقتضاه من مناهج في أصول الفقه، والحديث، والتفسير، واللغة، فإنه يبقى يشكل بعض مقاصد القرآن والسنة، ويمثل بعض جوانب الرؤية القرآنية والبيان النبوي.

ولعل السبب في ذلك، لعل السبب هو أن الجيل الأول، أو المجتمع الإسلامي الأول، كان يتمثل عملـيَّا الرؤية القرآنية الشاملة، في تصوره، وسلوكه، ولم يكن بحاجة إلى الاجتهاد، وتوليد القواعد والمناهج والعلوم في شعب المعرفة المختلفة، أو في الميادين المعرفية الأخرى، الاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية، والتربوية، وما إلى ذلك، كحاجته إلى فقه الحلال والحرام.

وكم كان الإنسان يتمنى أن يتوجه الاجتهاد، وتؤصل مناهجه أيضاً، في ميادين الحياة المختلفة، ولا يقتصر على ميدان الفقه التشريعي.. كم كان الإنسان يتمنى أن تتوجه الاجتهادات إلى إنتاج فقه تربوي، وفقه اجتماعي، وفقه سياسي، وفقه اقتصادي، وفقه أخلاقي. أو بكلمة مختصرة: (فقه حضاري) بشكل عام، وأن تكون آيات القرآن والأحاديث كلها محلاً للاستنباط والاجتهاد، وألا يقتصر على بعض المقاصد، أو بعض الآيات والأحاديث.. فبمقدار ما نعتقد أن الفقه التشريعي، يشكل ضرورة وحاجة ودليلا لسلوك الإنسان، بمقدار ما نعتقد أن بناء الإنسان، وتشكيله طبقاً للرؤية القرآنية، في التربية، والاجتماع، والسياسة، وتحضيره ليصبح محلاً للحكم التشريعي، ضروري أيضاً، ذلك أن الاعتناء بتوليد الأحكام التشريعية فقط، بعيدًا عن بناء الإنسان ، محل الحكم، والامتداد بشعب المعارف المختلفة، قد يفتقد قيمته العملية إذا اقتصرنا عليه.. فلا قيمة للحكم إذا افتقدنا محله، الذي هو الإنسان.

إن الاهتمام بالحكم التشريعي، المعرفة التشريعية، أو اعتبار أن القرآن والسنة مصدر للفقه التشريعي فقط، يشكل خللاً لا بد من استدراكه، ببذل الجهود لاعتبار القرآن وبيانه الخالد، مصدرا للمعرفة بشكل عام، أو مصدرًا لشعب المعرفة جميعا، ذلك أن آيات وأحاديث الأحكام التشريعية، هي بعض آيات القرآن وبيانه، وأن الأحكام التشريعية هي بعض مقاصد آيات وأحاديث الأحكام.

إن هذا التبعيض في التعامل مع آيات القرآن عمليا، وترك بقية آياته ومقاصدها للتبرك، أقول: إن هذا التبعيض في التعامل، ولا أقول في الإيمان بآيات القرآن كلها، أورثنا الكثير من الخزي، والتخاذل، والتخلف عملياً.

إن مجتمعات الأنبياء، وما كانت تعانيه من أمراض وعلل اجتماعية، وما كان يشيع فيها من مسالك وأخلاق، ومواقف الكبراء وأتباعهم، من دعوة الأنبياء، يعتبر منجماً لا ينضب للفقه الاجتماعي، أو لعلم الاجتماع.. كما أن السنن التي أشار إليها القرآن الكريم، والحديث الشريف، واستشهد لها من تاريخ البشرية على الأرض، وطلب من الإنسان التوغل في التاريخ الإنساني ، للتأكد من حتميتها، ونفاذها، وتحدى بترتب عواقبها نفسها، إذا توفرت مقدماتها؛ يعتبر من القوانين الاجتماعية الصارمة، الخالدة في الرؤية القرآنية، وبيانها النبوي، والتي ما تزال معطلة في حياة المسلمين.. ولعل الكثير من الإصابات التي تلحق بنا، إنما هي بسبب الغفلة عن هذه السنن الاجتماعية، والنفسية، والمادية، التي ما تزال تعمل عملها فينا، دون أن نلتفت إليها، ونظن أن غاية الاجتهاد، والتأصيل، والمنهجية، هي في الوصول إلى الفقه التشريعي، أو الاقتصار على المطالبة بتطبيق الشريعة فقط.

إن الكثير من المخاطر والإصابات الفكرية، أو الغزو الثقافي لأمتنا، إنما جاء بسبب منا، لأننا توقفنا عن الامتداد بالكثير من شعب المعرفة، التي تمنحها الرؤية القرآنية والحديثية، في المجالات الاجتماعية، والسياسية، والنفسية، والتربوية، والأخلاقية، ولم نؤصل لها المناهج والأصول، ونستنبط قوانينها أو نظرياتها من مصدرها في الكتاب والسنة.

إن توقفنا في ذلك، أحدث فراغًا مخيفًا، سمح بامتداد المناهج والآليات والنظم المعرفية الغربية، وطغيانها على رؤيتنا القرآنية، ومرجعيتنا الإسلامية ، ولسوف تستمر هذه الإصابات، وتمتد، وتتأصل، وتتجذر في مجتمعنا، ما لم نمتلك القدرة على جعل الكتاب والسنة مصدراً للمعرفة بشكل عام، مصدرًا للفقه التربوي، والفقه السياسي، والفقه الاجتماعي، والأخلاقي.. إلخ، ونحسن التوجه صوب الإنسان، محل الحكم ، بالقدر نفسه، أو يزيد، عن توجهنا إلى تأصيل الحكم واستنباطه.

وقد يكون من البدهيات التي لا بد من إثباتها: أن مدرسة الحديث، أو أهل الأثر والاجتهاد الذي يعتمد البيان النبوي كإطار مرجعي، كانوا وما يزالون، هم السد العظيم، الذي حال دون تسلل الخرافة بشكل أعم، وتفشي البدع، وتجاوزات الرأي، وكانوا دائمًا وراء حركات التصويب، وإعادة الأمة إلى الينابيع الأولى، والوقوف بالمرصاد لكل دارس، أو باحث، أو عابد، تضل به الطريق، إلى درجة لم يعد أحد معها أن يجرؤ على القول في الدين بدون تحقيق وتثبت.

والحقيقة أن الجهود الكبيرة التي بذلها العلماء، وهم أوعية النقل ووسائل الحفظ، في حفظ شريعتهم من الكتاب والسنة، بما لم تعن به أمة من قبلهم، حيث حفظوا القرآن، وكتبوه، ورووه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، متواترًا آية آية، وكلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، حتى رووا أوجه نطقه بلهجات القبائل، كما حفظوا كل أقوال وأفعال وأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو المبلغ عن ربه، والمبين لشرعه؛ تعتبر مفخرة من مفاخر الحفظ.، والنقل الثقافي.

لكن على الرغم من القيمة العظيمة، التي قدمها علماء مصطلح الحديث لتنقية السنة من الدخيل،وما قام به الباحثون في تحقيقهم للنصوص ونشرهم للمخطوطات، إلا أن هذه الجهود إذا توقفنا عندها، تبقى تمثل نصف الطريق إلى المطلوب، أو تشكل الوسيلة والمقدمة، التي لا بد من توفيرها، لتبدأ المرحلة الأهم، والتي تشكل المقصد والنتيجة، وهي فقه هذه النصوص، والإفادة منها، في الإجابة عن أسئلة الحاضر، واستشراف وتشكيل المستقبل، واكتشاف أسباب السقوط والنهوض، وإعادة البناء.

إن حامل الفقه، وناقل الفقه، ليس بالضرورة أن يكون فقيهًا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "نضّر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها ثم بلّغها عني، فرُبّ حامل فقهٍ غير فقيه، ورُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه " (رواه ابن ماجة - وهو صحيح).. فالحمل، والتوصيل، والنقل الثقافي، لا بد منه، لأنه يشكل المقدمة والأساس، لكن لا قيمة كاملة لهذا الحمل، إذا لم يحقق الفقه، والحل المطلوب لمشكلات الحاضر.

وبعــــد:

فالكتاب الذي نقدمه اليوم في إطار السلسلة، قد يتميز بطبيعته التخصصية الدقيقة، التي لم يألفها قارئ السلسلة، حيث كان خطابنا له، أو الموقع الذي اخترناه للسلسلة، مخاطبة المثقف المسلم بشكل عام، وترك شأن الكتب المتخصصة إلى مجالاتها، لكن هذا - في نظرنا- لا يمنع، بين الفترة والأخرى، من تقديم بعض الكتب التخصصية، التي تشكل لنا نقاط ارتكاز، وتسهم ببناء المرجعية، وتعيد إلى بيان كيفية التلقي عن الينابيع الأولى في الكتاب والسنة، وتفتح نوافذ على العلوم الأصلية، وتمنح الضوابط الضرورية، للحيلولة دون المجازفات، والجنوح الفكري، وتكسب الاطمئنان إلى مواريثنا الفكرية، التي تضمها القيم في الكتاب والسنة، وتحقق لنا التقوى من الزلل والانحراف.

ميارى 1 - 8 - 2010 02:24 AM

المقدمة

نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائك ورسلك سيدنا محمد، وبعد:

فقد شغلت بموضوع أسباب ورود الحديث منذ وقت طويل؛ يعود إلى مرحلة الدراسة للماجستير؛ فقد كانت تتطلب مني تتبع مرويات "معمر بن راشد الصنعاني" في كتب السنة، باعتباره من أوائل من جمع العلم؛ لأتعرف على مصادره، ومنهجه، وأثره في رواية الحديث من خلال هذه المرويات.

وأتاحت لي هذه الدراسة تأمل مرويات كثيرة، وجدت بعضها يرتبط ببعضها الآخر ارتباطًا لا سبيل إلى حسن الفهم لها جميعًا، إلا بتجميع هذه الروايات في موضع واحد، وفي مصنف واحد.

فهو ارتباط السبب بالمسبب أحيانًا، وارتباط العام بمخصصه أحيانًا، والمطلق بمقيده، والسؤال بجوابه، والوصف بملابساته وظروفه، والحكم بمقاصده.

واستمر البحث والجمع في هذا، وتأخر إخراج نتائج هذا البحث وصياغته إلى هذا الوقت رغبة في العثور على ما فقد من جهود مذكورة في هذا الموضوع.

ولما استقر الأمر على الجزم (النسبي) بعدم وجود المؤلفات المذكورة اسمًا وعنوانًا، لم أجد مبرراً في تأخير إخراج هذا البحث، محللاً ما وجدت من مؤلفات في موضوعه، ومؤسساً للمنهج الذي أراه في تقديم مصنفات جديدة، تأخذ بإيجابيات الأعمال السابقة، وتتجاوز ما يمكن الاستغناء عنه من الأمور التي وجدت في بدايات التصنيف في هذا الموضوع.

ورأيت ضرورة التقديم لهذا بفصل تمهيدي، أعرض فيه أهم الأسس في حسن الفهم للأحاديث النبوية، والتي تقي من الزلل في التعامل معها. وأتناول منها الأساس اللغوي، والتوثيق، والجمع بين الأحاديث، وإعمال قاعدة النسخ، والترجيح ووجوهه، مع تقديم بعض النماذج التي توضح هذا، لنتناول بعد ذلك بالتفصيل البحث في أسباب ورود الحديث لنتعرف على بداية التأليف في أسباب الورود، وارتباط سبب الورود بسبب النزول، واعتماد النوعين على رواية الصحابي أو التابعي، ومعرفة السببين تعين على إدراك حقيقة السبب وأبعاده، وتزيل الإشكال في الفهم.

وأسباب الورود عند السابقين: البلقيني، والسيوطي، وابن حمزة الدمشقي.

وفي الخاتمة أهم النتائج، وتقديم المنهج لتصنيف جديد.

والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.


ميارى 1 - 8 - 2010 02:25 AM

أسس التعامل مع الأحاديث النبوية

إن حسن الفهم لما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة، يقتضي تحصيل مجموعة من الأسس التي لا غنى عنها لقارئ السنة، تحقيقًا لهذا الفهم الصحيح.

وإهمال أساس من هذه الأسس يحدث اضطرابًا في الفهم واختلافًا بين النصوص؛ ليس اختلافًا ذاتياً في النصوص، وإنما اختلاف نشأ من هذا التقصير في التحصيل لدى الناظرين في السنة.

فلا يتوقع الاختلاف والتضاد بين النصوص، عندما يكون المصدر واحدًا، فإذا أضفنا إلى وحدة المصدر عصمته لأنه من وحي الله، فمحال أن يوجد بينها اختلاف (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا )(النساء:82). فالاختلاف في نصوص الوحي، ليس ذاتيًا فيها، وإنما هو من طرف واحد -إن حدث- وهو طرف الناظرين فيها بغير كفاءة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من وحي الله وتعليمه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وبيانه له، وتشهد بذلك آيات القرآن الكريم (وأنزلنا إليك الذكر لتُبيّن للناس ما نُزِّل إليهم )(النحل:44). وقال تعالى: (ثُمّ إنّ علينا بيانه )(القيامة:19). فالبيان للقرآن الكريم في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا البيان تكفل به تعليمًا لرسوله (وعلّمك ما لم تكن تعلم )(النساء:113). وحفظًا له (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )(الحجر:9).

ولذلك فإن وجود الاختلاف والتضاد، لا يتجاوز عقول الناظرين في السنة. والتخلص منه، يكون بالوقوف على هذه الأسس التي نذكرها في هذا المبحث على سبيل الإجمال، مصحوبة بنماذج من تصحيح الفهم تشهد لسلف هذه الأمة، بالعناية بهذه المسألة لنفرد بعد ذلك بشيء يسير من التفصيل أساسًا يحتاج إلى تحليل ما كتب فيه -وهو يسير- وتأسيس منهج نسير عليه، طلبًا للمزيد من هذه النماذج، التي عُني فيها بأسباب ورود الحديث. فمن هذه الأسس:


ميارى 1 - 8 - 2010 02:27 AM

الأساس اللغوي



وهو الأساس الأول في فهم النص، وهو أساس عام لكل نص في كل لغة، فلا يتوقع فهم لمن لا يعرف لغة "ما" لنص مكتوب بها.

فإذا أضفنا إلى ذلك ما تتميز به اللغة العربية -التي نزل بها القرآن الكريم (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسانٍ عربيٍّ مُبين )(الشعراء:193). وتكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم في بيانه، وهو أفصح العرب- من أساليب متعددة منها الحقيقة والمجاز، وما طرأ على المفردات اللغوية على سعتها من تغير في الدلالات، وما تتسع له اللغة العربية من الاشتقاق، وغير ذلك مما تحفل به مراجع اللغة بنحوها وصرفها وفقهها وأساليبها وبلاغتها وآدابها - عرفنا كيف يخطئ في الفهم، ويقع في التناقض، من يجهل هذه الجوانب اللغوية في التعامل مع النصوص الواردة بها، وأهمها وأشرفها بعد كتاب الله تعالى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وإهمال هذا الأساس يجعلنا كذلك المستشرق الذي فسر كلمة "الطائر" في قوله تعالى: (وكل إنسانٍ ألزمناه طائره في عُنُقه )(الإسراء:13). بأنه العصفور وغيره من الطيور التي عنى بها في حياته.




ميارى 1 - 8 - 2010 02:31 AM

توثيق النص

وذلك لأن النصوص الواردة ليست سواء في درجة ثبوتها ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد كفانا علماؤنا منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم هذا الجانب المعين على التوثيق في جانبي الرواية؛ أي في جهة السند، وفي جهة المتن.

وقدمت الدراسات التي تشهد لعلماء الحديث بالسبق والريادة والدقة العلمية في توثيق الروايات، وتمييز بعضها من بعض، بالفوارق اليسيرة التي لا يتنبه إليها إلا من عُني بتحقيق اليقين، فيما ينسب إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه الدين.

فنُظِر إلى الإسناد على أنه دين، فلينظر المرء عمن يأخذ دينه، وقدمت المصنفات في أسماء الرواة وكناهم وصفاتهم، بل نظر في تطور أحوالهم خلال سنوات أعمارهم، وفي شيوخهم وتلاميذهم، ووضع لكل راو لقبه المناسب، وإن اختلفت الأنظار إليهم عرف ذلك، وكيف يكون التعامل مع الموثِّقين والمجرِّحين، بل اشتهر من عرف بالتشدد في الحرج والتعديل، ومن عرف بالاعتدال، أو التساهل.

ودوّن كل هذا ، ويسر تصنيفه، للرجوع إليه عند الحكم على الحديث.

كما فصّل القول في متن الحديث، وعلامات قبوله، وعلامات ردّه، وكل ما يتعلق به؛ لأنه الغاية من السند.

وعرف لكل حديث بسنده ومتنه درجته المطابقة لحاله، بل عرف للدرجة الواحدة مستويات متفاوتة، فالحديث الصحيح درجات، وكذلك الحسن، بل الضعيف له مستويات.

فإذا لم يحصل الناظر في الحديث هذه المعارف، كان نظره قاصرًا، ووقوعه في الخطأ محققا، وظهور الاختلاف والتناقض بين النصوص التي ينظر فيها مؤكدًا.

وهذا ما جعل بعض المغرضين الذين حرموا المعرفة بهذه المقاييس في التصحيح والتضعيف، يستشهدون على أفكار سقيمة بروايات ضعيفة أو موضوعة، وفي مصادر ليست معتبرة عند علماء الحديث، ليضربوا بها نصوصًا صحيحة -أو على الأقل- أرجح منها.

ولذلك فإن بداية التعامل مع الروايات تكون بتوثيقها، وإعمال المعايير النقدية لأهل الحديث فيها، ومعرفة كل رواية وما قيل في الحكم عليها.


ميارى 1 - 8 - 2010 02:34 AM

الجمع بين النصوص الصحيحة

فإذا تحقق التوثيق، وتيقن الناظر من صحة الروايات في الموضوع الذي يدرسه، فإن المنهج الصحيح في النظر أن يجمع بين هذه الروايات، وذلك بحسن توجيهها في الموضوع الذي وردت فيه - بلا تعسف - ودون أن يهمل رواية منها، فالجمع بينها مقدم؛ لأن إعمال النص الصحيح خير من إهماله. وهذا يقتضي من الباحث سعة العلم، وحسن الفهم، حتى يكون تأويله لها صحيحاً، وحتى يكون جمعه فيما بينها موفقًا غير متكلف، وغير متناقض، مع المعاني القرآنية الكريمة، والمقاصد الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة.

وهذا الجمع بين الروايات له أهميته؛ لأنه يدل على استيعاب السنة لجوانب الموضوع الواحد، عل الرغم من ورود الروايات عل لسان رواة متعددين، وفي مواقف متعددة، وفي أزمان متعاقبة.

فطبيعة البيان النبوي، تقتضي هذا التعدد حسب المبين لهم، وعلى مقتضى الحال، الذي يقدم فيه البيان، وبجمع هذه الروايات في الموضوع الواحد، يتبين للعلماء كيف أحاطت السنة بجوانب الموضوع، مما يؤكد جانب الوحي فيها.

فضلاً عن أن هذا الجمع بهذا التتبع، يتيح الفهم الدقيق لكل رواية على حدة، لارتباطها بموقفها وظروفها وملابساتها، قبل أن تنسجم في بناء الموضوع الواحد. وأقدم لبيان ذلك تطبيقاً لبيان كيفية الجمع بين الأحاديث الواردة في الغنى والفقر، وما يتصل بذلك من المعاني.


ميارى 1 - 8 - 2010 02:35 AM

الجمع بين أحاديث الغنى والفقر

ولما وجدت أن بعض المصنفين للحديث النبوي، قد جعلوا أبواباً مستقلة بعضها يمتدح الفقر، ويذم الغنى، وفي الوقت نفسه، نجد أحاديث أخرى فيها الاستعاذة بالله من الفقر، وفيها الثناء على المال الصالح، ووجدت أن هذا المسلك، يحدث اضطرابًا في الفهم، لأحاديث الغنى والفقر، رأيت أن هذه الدراسة ينبغي أن تستوعب الأحاديث الواردة في الجانبين، وتحليل ما ورد فيها، والخلوص إلى النتيجة التي تلازم القارئ، عندما يقرأ حديثًا متفردًا يذكر الغنى أو الفقر؛ سواء بُوِّب له بالمدح أو الذم.

فعندما نقرأ كتاب "الرقاق" من صحيح الإمام البخاري نجد أنه رحمه الله، جعل منه بابًا بعنوان "فضل الفقر".

فهل يفهم من هذه الترجمة، الفضل المطلق للفقر فيرد به ما جاء في مدح الغنى؟ سواء كان هذا المدح في أحاديث مفردة تحت عناوين أخرى، أو كانت تحت عناوين تمدح الغنى؟

إن المتأمل في الأحاديث التي أوردها الإمام البخاري تحت هذا العنوان تجيبنا عن هذا التساؤل.

فأول حديث في الباب عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: مرَّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لرجل عنده، جالس: ما رأيك في هذا؟

فقال: رجل من أشراف الناس، هذا -والله- حريُّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يُشفّع.

قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم مر رجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيك في هذا ؟ فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يُشفّع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا".

فهل استحق الرجل الفقير هذه الخيرية بسبب فقره؟

إن الحديث لا يذكر هذا، وإنما يصحح مفاهيم الناس في موازين الرجال، وأن الفضل قد يكون للرجل الفقير إذا كان صالحًا، وقد يكون للغني إذا كان صالحًا، أما اتخاذ الغنى وحده مقياسًا للتفاضل بين الناس، فهذا ما صححه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.

والحديث الذي يليه يؤكد هذا المعنى، قال فيه الأعمش: سمعت أبا وائل قال: عُدنا خبابًا فقال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أُحد، وترك نمرة، فإذا عطّينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه من الاذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهْدُبُها".

فكلام خباب رضي الله عنه في بيان حال المهاجرين وكان منهم أغنياء وفقراء، والكل يريد وجه الله.

وكان منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ، وكان مترفًا في الجاهلية يرفل في النعيم، فلما منَّ الله عليه بالإسلام، بذل نفسه معلمًا ومجاهدًا واستشهد في أُحد، وما زال المسلمون في بداية الدعوة، لم تفتح لهم الدنيا، حتى كان حاله أن تُغطى رجلاه بالإذخر. فهذا الذي نوّر الله قلبه بالإيمان قد دعاه حب الله ورسوله إلى هذه الحالة، وأجره على الله.

ومن المهاجرين كذلك من مَدَّ الله في عمره وجمع بين أجر الهجرة والجهاد وما فتح الله من الطيبات فهو "يهدبها" أي يجتني الثمرة التي نضجت وحان قطافها.

ففضيلة مصعب رضي الله عنه وسائر المهاجرين رضوان الله عليهم بجهادهم وبذلهم مع إيمانهم وحبهم لله ولرسوله.

ويدعم هذا التوجيه ما رواه أحمد والبزار ورواتهما ثقات، وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الفقراء المهاجرون الذين تُسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم؛ فتقول الملائكة : ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عبادًا يعبدونني، ولا يشركون بي شيئًا، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره، لا يستطيع لها قضاء، قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب (سلامُ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار )(الرعد:24).

فأعمال هؤلاء وجهادهم وبذلهم وإيمانهم من ناحية، وصبرهم ورضاهم على قلة المال، حتى أن أحدهم يموت وحاجته في صدره، لا يستطيع لها قضاء. فالفقر -إذن- لا يكون بإطلاقه سببًا للفضل، بل الفقر إن كان المبتلى به صابرًا راضياً له درجة صبره ورضاه، وقد وعد الله سبحانه الصابرين بقوله تعالى: (إنما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب )(الزمر:10). كما أن الغنى -كذلك- لا يكون سببًا للمذمة أو المدح، إلا بما يقترن به من أعمال وأحوال، فمن ابتلي بالغنى فشكر وصبر نفسه مع الغنى على ما أمر كان الغنى محمودًا.

ويتفاضل الناس بما جعله الله ميزانًا للتفاضل (إنّ أكرمكم عند الله أتقاك م)(الحجرات:13).

يتضح ذلك -أيضًا- في رواية أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟" قلت: نعم يا رسول الله، قال: "فترى قلة المال هو الفقر؟ "قلت: نعم يا رسول الله، قال: "إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب" ثم سألني عن رجل من قريش، قال: "هل تعرف فلانًا؟ " قلت نعم يا رسول الله، قال: "فكيف تراه، أو تُراه؟" قلت: إذا سأل أُعطي، وإذا حضر أُدخل، قال: ثم سألني عن رجل من أهل الصفة، فقال: "هل تعرف فلانًا؟" قلت: لا والله يا رسول الله، فما زال يُجلّيه وينعته حتى عرفته، فقلت: قد عرفته يا رسول الله، قال: "فكيف تراه، أو تُراه؟" قلت : هو رجل مسكين من أهل الصفة، فقال: "هو خير من طلاع الأرض من الآخر". قلت: يا رسول الله، أفلا يعطى من بعض ما يُعطى الآخر؟ قال: "إذا أُعطي خيرًا فهو أهله، وإذا صُرف عنه فقد أٌعطي حسنة "..

فغنى القلب، وفقر القلب، وما يتبعهما من سلوك، هو أساس الفضل والخيرية، وعلى ذلك إذا ذكر الفقراء بالمدح فالتقييد لهذا الإطلاق بما جاء في الأحاديث الأخرى من مواصفات التفضيل والتقديم، وكذلك إذا ذكر الأغنياء بالذم فإنما بما يصحب الغني من كفران النعمة، أو استعمالها في الفخر والكبر، أو منع ما في المال من حقوق، أو ما يتبع الكثرة من الحساب؛ من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟

وعلى هذا يفهم الحديث الثالث، الذي أورده الإمام البخاري رحمه الله في فضل الفقر، والذي رواه عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اطلعت على أهل الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ".

فهو تقرير لما يكون، وليس لبيان علة دخول الجنة أو النار، وهو كذلك تحذير من طغيان المال، وتصبير لمن ابتلوا بالفقر، حتى يجدّوا في الصالحات، وتنبيه للنساء حتى لا يكفرن العشير.

وأما الحديثان الأخيران في الباب فيتعلقان بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ، والتي كان فيها قدوة للناس أجمعين، والذي يعنينا -هنا- أنه صلى الله عليه وسلم قدوة للأغنياء حيث كان يجتمع أمامه المال الكثير، فلا يمضي وقت يسير إلا وقد وجد المال طريقه إلى الناس.

وهو قدوة للفقراء، كيف يصبرون، وكيف يرضون، فلم يختر لنفسه حياة المترفين، وفي الوقت نفسه بيّن للناس كيف أحل الله الطيبات من الرزق.

فتذكر رواية أنس -في الباب نفسه- رضي الله عنه قال: "لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على "خوان" حتى مات، وما أكل خبزًا مُرققًا حتى مات ".

والرواية الأخيرة في الباب لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "لقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما في رَفّي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شَطْرُ شعير في رفّ لي، فأكلت منه حتى طال عَليّ فكلتُه فَفَنِيَ".

فهذا ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم من حياة العبودية لله سبحانه، وعدم الترف فيجوع يومًا ويشبع يومًا؛ ليكون قدوة للجائع كيف يتوجه ويدعو، وللشبعان كيف يحمد ويشكر.

فأحاديث الباب - إذن - توجه إلى ما يصحب حالة الفقر من الصبر والرضى، والخفة التي تدفع إلى الهمة والنشاط في الطاعة والمسارعة في الخيرات.

وقبل أن ندعم هذا التوجيه في أحاديث الباب بما ذكره الإمام البخاري رحمه الله من أحاديث أخرى في كتب وأبواب سابقة. نذكر ما أحس به الكرماني نحو أحاديث الباب، فقد ذكر تعليقًا عليها يقول: واعلم أن الأمة طائفتان: القائلون بأن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر، والقائلون بالعكس.

فالطائفة الأولى قالوا: ليس في الأحاديث ما يوجب أفضلية الفقراء؛ إذ حديث سهل يحتمل أن يكون خيرًا منه لفضيلة أخرى كالإسلام، وحديث خباب ليس فيه ما يدل على فضله فضلاً عن أفضليته؛ إذ المقصود منه أن يبقى منهم إلى حين فتح البلاد، ونالوا من الطيبات، خشوا أن يكون قد عجل لهم أجر طاعتهم بما نالوا منها، إذ كانوا على نعيم الآخرة أحرص.

وحديث عمران يحتمل أن يكون إخبارًا عن الواقع، كما يقول أكثر أهل الدنيا الفقراء، وأما تركه صلى الله عليه وسلم الأكل على الخوان؛ فلأنه لم يرض أن يستعمل من الطيبات، وكذلك حديث عائشة رضي الله عنها.

ثم إنه معارض باستعاذته صلى الله عليه وسلم من الفقر، وبقوله تعالى: "ترك خيرًا": أي مالاً ، وبقوله تعالى: (ووجدك عائلاً فأغنى )(الضحى:8)، وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في أكمل حالاته وهو موسر بما أفاء الله عليه، وبأن الغنى وصف للحق، والفقر وصف للخلق.

فأجابت الطائفة الأخرى بأن السياق يدل على الترجيح للفقراء؛ إذ الترجيح بالإسلام ونحوه لا حاجة له إلى البيان، وبأن من لم ينقص من أجره شيء في الدنيا يكون أفضل وأكثر ثوابًا عند الله يوم القيامة، وبأن الإيماء إلى أن علة دخول الجنة الفقر يشعر بأفضليته، وأما حكاية ترك النبي صلى الله عليه وسلم فهي دليل لنا لا علينا؛ إذ معناه أنه اختار الفقر، ليكون يوم القيامة ثوابه أكثر، وحديث الاستعاذة من الفقر معارض بحديث الاستعاذة من الغنى، وأما الآيتان فنحن لا ننكر أن المال خير، إنما النزاع في الأفضلية، لا في الفضل، أو المراد بالأغنياء في الآية الثانية غنى النفس، وأما قصة وفاته فلا نسلم الإيسار إذ كان ما أفاء الله صدقة، وكان درعه رهنا عند يهودي بقليل من الشعير، وأما غنى الله سبحانه وتعالى، فليس بمعنى الذي نحن فيه فليس من البحث"، والكرماني رحمه الله عرض قول الطائفتين دون أن يذكر ترجيحًا لقول طائفة على أخرى.

إلا أن قول الطائفة الثانية فيه نظر يجعل الطائفة الأولى أرجح في قولها لموافقة النصوص المجموعة في الموضوع.

فالسياق ليس فيه دلالة على ترجيح الفقراء بسبب الفقر، وكما سنرى في سائر النصوص، أن علة الفقر ليست هي المعتبرة وحدها، وإلا فما قيمة فقر بغير رضى، أو صبر أو طاعة؟

ثم إن فضل الله على عباده في الدنيا بالرزق الحلال والطيبات ليس معناه قلة في ذلك بالآخرة فدعاء المؤمنين: (ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار )(البقرة:201). ويقول الله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نُفصل الآيات لقوم يعلمون )(الأعراف:32). وعلة دخول الجنة وجعلها في الفقر مجردًا لا دليل عليه، بل النصوص متضافرة بخلاف ذلك.

وأما اختيار النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد سبق الإشارة إلى ارتباط ذلك بالقدوة لجميع الأمة فقيرها وغنيها، كيف يكون حاله مع الغنى، وكيف يكون حاله مع الفقر، والاستعاذة في الحالتين إنما هي استعاذة من الغنى المطغي، فالغنى مع الطغيان مذموم، كما أن الفقر غير مرغوب، وإذا كان الدافع - كما يرى أصحاب هذا القول - طلب المزيد من الحسنات، فإن الغني الشاكر، يستطيع أن يفعل بالمال الصالح ما لا يستطيعه الفقير، ولذلك جاء في الحديث (ذهب أهل الدثور بالأجور )، وسيأتي هذا الحديث بعد قليل.

فالأفضلية في نهاية الأمر، تكون بما يصحب الغنى أو الفقر من قرائن، وليس الأمر على إطلاق أفضلية الفقر.

والذي يدعم هذا التوجيه، تصنيف الإمام البخاري رحمه الله واختياره للأحاديث قبل هذا الباب، ويكفي أن نعرض بعض هذه الاختيارات.

ففي كتاب الدعوات: باب "الدعاء بعد الصلاة" عن أبي هريرة رضي الله عنه قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم، قال: كيف ذاك، قال: صلوا كما صلينا، وجاهدوا كما جاهدنا، وأنفقوا من فضول أموالهم، وليست لنا أموال، قال: أفلا أخبركم بأمر تدركون من كان قبلكم، وتسبقون من جاء بعدكم، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم إلا من جاء بمثله؛ تسبحون في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدون عشرًا، وتكبرون عشرًا ".

ففي هذا الحديث بيان لقيمة المال عندما يكون في أيد صالحة، فليس الغنى وحده سببًا للسبق، كما أن الفقر ليس سببًا للبعد؛ فالمرء يمكن بهذا التوجيه مع ابتلائه بالفقر أن يتدارك الأمر، وأن يدرك الأجر بالتسبيح والتحميد والتكبير دُبر كل صلاة -كما جاء في الحديث-.

وفي هذا جبْر لقلوب الفقراء، وأنه لا يفوتهم الأجر بسبب الفقر. فالدثور: هي الأموال الكثيرة.

وذهاب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم مقترن بالأعمال، وذكر منها ، الصلاة، والجهاد، والزيادة التي تناسب حالهم، أنهم ينفقون من فضول أموالهم. وعُوض الفقراء -فضلاً من الله- بإمكانية اللحاق بهم بشيء يستطيعونه -كذلك- في هذا الذكر.

فالغنى والفقر -إذًا- ليسا مادة تفضيل بإطلاق، بل بما يصحبهما من قرائن، ولا شك أن من يملك أكثر يستطيع أن يعمل أكثر.

ولذلك فإن أهل الدثور يستطيعون -أيضًا- مشاركة الفقراء في الأذكار بعد الصلاة، ويكون ذلك من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء.

وفي الكتاب نفسه في باب "دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر، وبكثرة ماله" نجد حديث أنس رضي الله عنه قال: قالت أمي : يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له، قال: "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته ".

فأم أنس وهي الرميصاء الأنصارية المشهورة بأم سليم رضي الله عنها، تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعوا لأنس، فيدعو له النبي صلى الله عليه وسلم بما هو محبوب للناس من تكثير المال، والولد، والبركة فيما يعطي الله سبحانه، يقول الكرماني: وقد استجاب الله دعاءه، فيه بحيث صار أكثر أصحابه مالاً فكان له بستان يثمر في كل سنة مرتين، وأكثر ولدًا، فكان يطوف بالبيت، ومعه أكثر من سبعين نفسًا من نسله.

ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم دليل على محبة هذا المدعو به عند الله وعند رسوله؛ عندما يكون لمثل أنس رضي الله عنه.

ومما يدعم كذلك وجهتنا في النظر إلى الغنى والفقر، وأن المدح والذم يرتبط بالقرائن، ما أورده الإمام البخاري في كتاب الدعوات - كذلك - وفي باب التعوذ من المأثم والمغرم.

فقد أخرج عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل، والهرم، والمأثم، والمغرم؛ ومن فتنة القبر، وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ".

فالاستعاذة في هذا من شر فتنة الغنى، ومن فتنة الفقر، فإذا كانت الفتنة في الغنى أو الفقر فهي مما يستعاذ بالله منها، وهذا تأكيد لهذه القرينة فيذم الغنى بها، وكذلك الفقر.

كما جعل الإمام البخاري رحمه الله باباً ترجم له بقوله: "الاستعاذة من فتنة الغنى" وأتبعه بباب آخر في "التعوذ من فتنة الفقر" أورد في الأول عن هشام عن أبيه عن خاله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، ومن عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة القبر، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ".

كما يورد في الباب الثاني حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد سبق ذكره وفيه: "وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر".

كما يكرر الإمام البخاري رحمه الله بابًا ذكره من قبل، ولكن برز في ترجمته -هنا- المعنى المراد فيقول "باب الدعاء بكثرة المال مع البركة". ويورد فيه حديث أم سليم رضي الله عنها ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأنس رضي الله عنه بكثرة المال والولد والبركة".

وأما في كتاب الرقاق فقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله لأبواب كثيرة تؤدي إلى المعنى نفسه، وهو التحذير من الاغترار بكثرة المال، وليس الذم المجرد له، وقد ذكرنا بعضها في المباحث السابقة، ونذكر ما لم يرد من قبل،فمن ذلك:

باب (مثل الدنيا في الآخرة) وقوله تعالى: (اعلموا أنّما الحياة الدنيا لعب ولهوُ وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيثٍ أعجب الكُفارَ نباتُه ثم يهيج فتراه مصفرًّا ثم يكون حطامًا، وفي الآخرة عذابٌ شديد ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ، وما الحياة الدنيا إلا متاعُ الغرو ر)(الحديد:20).

وفي باب "ما يُحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها" يورد أحاديث منها: عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا ).

فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه يُنْزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه فقال: أين السائل، قال: أنا. قال أبو سعيد: لقد حمدناه حين طلع ذلك، قال: لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضرةٌ حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا، أو يُلم إلا آكلة الخضرة أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت وثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت، وإن هذا المال حلوة من أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونةُ هو، ومن أخذه بغير حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع".

فالتحذير -هنا- من التنافس في التكاثر مع عدم الحذر، وكان هذا المعنى في بيان الخوف مما يخرج من بركات الأرض، ووصف هذا بأنه خير، وكان سؤال الصحابي: وهل يأتي الخير بالشر؛ أي هل تصير النعمة عقوبة، وكان سؤال السائل سببًا في هذه الإفادة، فكان السائل في موضع الحمد، بعد أن خشي الصحابة أن يكون صمت النبي صلى الله عليه وسلم دليلا على مذمة السؤال.

وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم : أن الخير لا يأتي إلا بالخير، وما قضى الله أن يكون خيرًا، لا بد أن يكون ، والذي يخاف عليه هو التصرف فيه زائدًا على الكفاية، ولا يتعلق ذلك بالنعمة نفسها، وضرب لذلك المثل: "إن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا". والمعنى: أن نبات الربيع وخضره يقتل حبطا بالتخمة وانتفاخ البطن لكثرة الأكل، أو يقارب القتل، إلا إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو إليه الحاجة، وتحصل به الكفاية المقتصدة؛ فإنه لا يضره.

وهكذا "المال" هو كنبات الربيع، مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه، فمنهم: من يستكثر منه، ويستغرق فيه، غير صارف له في وجوهه، فهذا يهلكه، أو يقارب إهلاكه.

ومنهم: من يقتصد فيه فلا يأخذ إلا يسيرًا، وإن أخذ كثيرًا فرقه في وجوهه، كما تثلط الدابة فهذا لا يضره.

فمن يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع.

قال الأزهري: فيه مثلان:

أحدهما: للمكثر من الجمع، المانع من الحق، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : "إن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا "؛ لأن الربيع ينبت أجرار البقول، فتستكثر منه الدابة حتى تهلك.

والثاني : للمقتصد، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : "إلا آكلة الخضر " لأن الخضر ليس من أجرار البقول.

وقال عياض: ضرب صلى الله عليه وسلم مثلاً بحالتي المقتصد والمكثر، فكأنه قال صلى الله عليه وسلم: أنتم تقولون : إن نبات الربيع خير، وبه قوام الحيوان، وليس هو كذلك مطلقًا، بل منه ما يقتل، أو يقارب القتل، فحالة المبطون المتخوم، كحالة من يجمع المال، ولا يصرفه في وجوهه، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الاعتدال، والتوسط في الجمع أحسن.

ثم ضرب مثلاً لمن ينفعه إكثاره، وهو التشبيه بآكلة الخضر وهذا التشبيه لمن صرفه في وجوهه الشرعية. ووجه الشبه: أن هذه الدابة تأكل من الخضر حتى تمتلئ خاصرتها ثم تثلط. وهكذا من يجمعه ثم يصرفه والله أعلم.

وفي باب (ما يتقى من فتنة المال) وقوله تعالى: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة )( الأنفال: 28) يورد الإمام البخاري رحمه الله ما يؤكد أن الذم لا يكون إلا بالخروج عن الحق مع المال، فإذا كان الأصل في علاقة الإنسان بالمال أن يستخدمه، وأن ينتفع به، فإن المذمة عند انقلاب الحال، فيستعبد المال صاحبه، وعندئذ تكون تعاسته بالمال.

فيروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط لم يرض ".

والتعاسة بمعنى الهلاك والسقوط، وعبد الدينار: أي خادمه وطالبه؛ كأنه عبد له، والقطيفة هي الدثار المخمل، والخميصة هي الكساء الأسود المربع، ومعنى ذلك أن الفتنة بالمال أخذت عليه حواسه، وصار خادمًا للمال في صورته النقدية، أو في مظاهره الأخرى ومنها الملبوسات.

وفي ظل هذه العبودية للمال يهلك الإنسان نفسه، حيث لا يرضى إن لم يعط كما في هذا الحديث،وإن أعطي كذلك لم يرض، ولم يشبع، كما سيأتي في الحديث الآتي من الباب نفسه.

والذي رواه البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب ".

كما يبين البخاري رحمه الله موقف صحابي جليل كعمر رضي الله عنه من المال وزينته. وأن الإنسان لا يستطيع إلا أن يفرح بما زينه الله لنا، والمحمود من يجعل الفرحة صحيحة بالتعامل الصحيح مع المال، ويدعو الله أن يحقق له ذلك.

فيروى في باب "قول النبي صلى الله عليه وسلم: هذا المال خضرة حلوة "، وقال الله تعالى: (زُين للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذَّهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ) قال عمر: "اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه".

وفي ارتباط ما يشعر بذم الإكثار بالقرائن من الأعمال نجد - كذلك - في كتاب "الرقاق" باب " المكثرون هم المقلون" وقوله تعالى: (من كان يُريد الحياة الدنيا وزينتها نُوفّ إليهم أعمالهم فيها، وهم فيها لا يُبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون )(هود:15،16). يروي الإمام البخاري رحمه الله حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، وليس معه إنسان. قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني فقال: من هذا؟. قلت: أبو ذر جعلني الله فداءك، قال: يا أبا ذر تَعَالَه، قال: فمشيت معه ساعة فقال: إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرًا فنفح فيه يمينه وشماله، وبين يديه، ووراءه، وعمل فيه خيرًا… ".

بل نجد من روايات البخاري في كتاب الرقاق باب "قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحب أن لي مثل أحد ذهبًا" ما يؤكد أنه لا مذمة في الغنى وحده، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكره، أو يُشعر بمذمة من يكون له مثل أحد ذهبًا، وهذا مال كثير، ما دام سيفعل مثلما جاء في الحديث الذي يرويه أبو ذر- أيضًا- رضي الله عنه قال: "كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة فاستقبلنا أُحُــدٌ، فقال يا أبا ذر قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا، تمضي علي ثالثة وعندي منه دينارُ، إلا شيئًا أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم مشى، فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله، ومن خلفه، وقليل ما هم… ".

ولا يخفى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على التزام ما يأمر الله به نحو هذا المال، ومداومة التذكير والتحذير من الفتنة بالمال عند كثرته وتضييع ما يرتبط به من حقوق الله في الزكاة والصدقات، وفي حقوق العباد من ديون، فالغنى -إذن- ما دام بحقه في كل مجالاته، وما دام مقترنًا بما لا يخرجه عن حقه، فهو في موضع المحمدة وليس المذمة.

ولذلك يجمع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للأمة بين الغنى الحسي المادي، والغنى النفسي، الذي يعين على صيانة الحق مع الغنى، ويجعل الإمام البخاري رحمه الله بابًا لذلك في كتاب الرقاق بعنوان: "الغنى غنى النفس" وقول الله تعالى: (أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين ) إلى قوله تعالى: (من دون ذلك هُم لها عاملون )(المؤمنون:55-63) قال ابن عيينة: لم يعملوها، لا بد من أن يعملوها":

يقول الكرماني: غرض البخاري من ذكر الآية أن المال مطلقًا ليس خيرًا، وأما كلام سفيان بن عيينة، فهو تفسير لقوله تعالى: "ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ". يروي البخاري رحمه الله في هذا الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ".

والعرض -بفتح الراء- حطام الدنيا، وبالسكون: المتاع، يعني: ليس الغنى الحقيقي المعتبر هو من كثرة المال، بل هو من استغناء النفس وعدم الحرص على الدنيا، ولهذا ترى كثيرًا من المتموّلين فقير النفس مجتهدًا في الزيادة، فهو لشدة شرهه، وشدة حرصه على جمعه كأنه فقير، وأما غنى النفس فهو من باب الرضا بقضاء الله تعالى لعلمه أن ما عند الله لا ينفد وهو خير له؛ لأن ما قضى به لأوليائه فهو الخيار.

وبعد تتبعنا لأبواب الإمام البخاري، فيما يتصل بالغنى والفقرة، نرى من حسن صنيع البخاري رحمه الله، أن يورد الأحاديث في أبواب متعددة مقترنة بالترجمة التي تعين على فهم المراد منها، إلا أنه ينبغي أن تجمع هذه الروايات في الموضوع الواحد حتى يتسق الفهم لها.

ظهر لنا ذلك من إمساكنا في بداية الأمر بباب "فضل الفقر" وتبين لنا -بعد الجمع- المراد من هذا، وأنه ليس من قبيل المدح المطلق للفقر، وإنما يقترن بالفقر أحوال، تجعل المبتلى به في موضع الفضل، والحال نفسه مع الغنى، فيمكن أن نقول: "فضل الغنى" ولكن ليس بإطلاق -أيضًا- أي إذا اقترن بالغنى ما يجعل المبتلى به في موضع الحمد.

وهكذا يزول ما يشعر بالتعارض بين الأحاديث عند جمعها، والنظر فيها مجتمعة.

وقد قدمنا ما يدعم هذا في صحيح الإمام البخاري رحمه الله.

وأما ما جاء في كتب السنة الأخرى فكثير، وفيه ما يشعر بمدح الفقراء، وذم الأغنياء والبعد عنهم.

وهذا يحتاج إلى تدبر النصوص الواردة في ذلك؛ لأن كل رواية فيها ما ينسجم مع النتيجة التي توصلنا إليها من تتبع أبواب البخاري رحمه الله، فإذا ما جمعت زاد الأمر وضوحًا.

فمثلاً توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالكفاف، وعدم مجالسة الأغنياء، من باب استمرار القدوة في بيت النبوة، والذي يشهد المال الكثير، ويتحقق فيه معنى الغنى، ولكن لا يبقي شيئًا من المال، لأنه يجد طريقه إلى الناس، ويبقى البيت قدوة للفقراء في الصبر والرضى، وقد وجه القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كُنتن تُردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرِّحكن سراحًا جميلاً * وإن كُنتن تُرِدن اللهَ ورسولهَ والدارَ الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا )(الأحزاب:28-29). واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وكن على هذه الحالة التي ترضي الله ورسوله.

فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن سرك اللحوق بي، فليكفك من الدنيا كزاد الراكب. وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستخلقي ثوبًا حتى تُرقِّعيه " أخرجه الترمذي، وزاد رزين: قال عروة: فما كانت عائشة تستجدّ ثوبًا حتى ترقع ثوبها وتنكسه، ولقد جاءها يومًا من عند معاوية ثمانون ألفًا فما أمسى عندها درهم، فقالت جاريتها: فهلاً اشتريت لنا منه بدرهم لحما؟ فقالت: لو ذكرتيني لفعلت".

فهذا صنيع بيت النبوة الذي يملك، ولا يبقي لنفسه شيئًا مما يملك، بل يخرجه للمحتاجين.

وهذا ما اختاره الرسول الكريم لنفسه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا، وفي أخرى "كفافًا" أخرجه الشيخان والترمذي. و "الكفاف" الذي لا يفضل عن الحاجة.

وهذا يفسر لنا معنى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، والتي رواها أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم أحييني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة. قالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: إنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء أربعين خريفًا. يا عائشة! لا تردي المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة أحبي المساكين وقربيهم، فإن الله يقربك يوم القيامة ". والمراد بالخريف السنة، وفي حديث آخر خمسمائة عام. والجمع بينهما: أن المراد بالأربعين تقدم الفقير الحريص على الغني الحريص، وبالخمسمائة تقدم الفقير الزاهد على الغني الراغب، فكان الفقير الحريص على درجتين من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد، وهذا نسبة الأربعين إلى خمسمائة.

يقول ابن الأثير: وهذا التقدير وأمثاله لا يجري على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم جُزافًا ولا اتفاقًا، بل لسر أدركه، ونسبة أحاط بها علمه، فإنه لا ينطق عن الهوى. فهذه الدعوة -إذن- من باب القدوة، ومن باب جبر القلوب، وإعانة أهل البلاء بالفقر على الصبر والرضى والسعي الجميل والتعفف. وأما الإخبار بالسبق فالاستواء في القرائن الصالحة، والتي نبه إليها ابن الأثير في الجمع بين الأربعين والخمسمائة، فيكون الزائد من الفقير صبره، والمناسب للغنى كثرة حسابه على كثرة ماله.

وإن كان أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي قد وجه المسكنة توجيهًا آخر نفى فيه أن يكون المراد بالمسكنة الفقر فقال في ذلك: "قرأ بعضهم الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري والطبراني عن عبادة بن الصامت: "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين ".

ففهم من المسكنة الفقر من المال، والحاجة إلى الناس، وهذا ينافي استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة الفقر، وسؤاله من الله تعالى العفاف والغنى، وقوله لسعد: "إن الله يحب العبد الغني التقي الحفي " وقوله لعمرو بن العاص: "نعم المال الصالح للمرء الصالح ".

ومن أجل ذلك رد الحديث المذكور، والحق أن المسكنة - هنا - لا يراد بها الفقر، كيف وقد استعاذ بالله منه وقرنه بالكفر: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر "، وقد امتن ربه عليه بالغنى فقال: "ووجدك عائلاً فأغنى ".

إنما المراد بها التواضع وخفض الجناح، قال العلامة ابن الأثير: أراد به التواضع والإخبات، وألا يكون من الجبارين المتكبرين. وهكذا عاش صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن حياة المستكبرين".

وإذا كان ظاهر الرواية التي ذكرتها تعني الفقراء، فيبقى التوجيه الذي استخلصناه من دراسة الأحاديث مجتمعة في ارتباط الأمر بالقرائن من ناحية، وفي استمرار تهذيب النفس، حتى لا تطغى بالمال من ناحية أخرى، وفي تسلية الفقراء من ناحية ثالثة.

قال الحافظ المنذري: "وقد ورد من غير ما وجه، ومن حديث جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يدخل الجنة حبوًا لكثرة ماله" ولا يسلم أجودها من مقال، ولا يبلغ منها شيء بانفراده درجة الحسن، ولقد كان ماله بالصفة التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح ". فأنَّى تنقص درجاته في الآخرة، أو يقصر به دون غيره من أغنياء هذه الأمة؟ فإنه لم يرد هذا في حق غيره، إنما صح سبق فقراء هذه الأمة أغنياءهم على الإطلاق، والله أعلم".

والسبق الذي ذكره الحافظ المنذري لمن تساووا في النسبة إلى هذه الأمة، ويبقى المعنى الذي ذكرناه في السبق مع الاستواء في كثرة الحساب الناشئ عن كثرة المال.

فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أُمر بهم إلى النار. وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء" أخرجه الشيخان.

ومما يدعم ما ذهبنا إليه كذلك من اعتبار القرائن، ما جاء في رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم أحيني مسكينًا، وتوفني مسكينًا،واحشرني في زمرة المساكين، وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة" رواه ابن ماجة إلى قوله: المساكين، والحاكم بتمامه،وقال: صحيح الإسناد.

فقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الفقر وحده ليس محمدة فأشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة؛ لأنه لم يكن على ما يرضي الله من أحوال.

ولتسلية الفقراء وتشجيعهم على الصبر والرضا بقضاء الله، تأتي كثير من الأحاديث التي قد يفهم منها الثناء على الفقر.

ففي حديث عائذ بن عمرو رضي الله عنه، أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأجاره، فقال: "يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك" فأتاهم أبو بكر، فقال: "يا أخوتاه أغضبتكم؟" قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي " رواه مسلم، وغيره.

وفي هذا المعنى -أيضًا- رواية أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير: أوصاني أن لا أنظر إلى من هو فوقي، وأنظر إلى من هو دوني، وأوصاني بحب المساكين، والدنوّ منهم، وأوصاني أن أصل رحمي، وإن أدبرت" الحديث رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه.

وفي حديث مصعب بن سعد قال: رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلاً على من دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " رواه البخاري، والنسائي وغيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما تنصر هذه الأمة بضعفائها: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم ".

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ابغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم " رواه أبو داود، والترمذي والنسائي.

وعن علي رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ طلع علينا مصعب بن عمير رضي الله عنه ، ما عليه إلا بُرْدة مُرقّعة بفرو ، فلما رآه صلى الله عليه وسلم ، بكى للذي كان فيه من النعمة، ثم قال: كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في أخرى ووضعت بين يديه صَحْفَة ورفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟ قالوا: يا رسول الله نحن يومئذ خير منا اليوم، نكفي المؤنة ونتفرغ للعبادة. فقال: بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ. أخرجه الترمذي.

وهكذا -رأينا- أن الأحاديث الواردة في الفقر والغنى تبين أن الإنسان مبتلى بهما، والذي يكون في موضع المحمدة منهما، هو من يفلح في الاختبار، وعلى ذلك فإن الفقر والغنى يرتبطان بأسباب المدح والذم.

وأن ما يرد من الثناء على الفقر والفقراء فهو لبيان منزلة الصبر على الفقر، وعدم الطغيان بالغنى، والحب والاحترام المتبادل بين الأغنياء والفقراء، وتحقيق التكافل في الأمة.

وما يكون من التحذير من الغنى فلحماية الإنسان من الطغيان بالمال والتنبيه إلى شدة الحساب وكثرته.

ونختم هذا المبحث بما يدل على ذلك فيما رواه محمود بن لبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان يكرههما ابن آدم: الموت، والموت خير من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب".

ميارى 1 - 8 - 2010 02:37 AM

الجمع بين أحاديث ترك التزين والتزين

ويرتبط بهذا الموضوع ما ورد في "ترك التزين" وفي "التزين" مما يشعر بالاختلاف، ولكن يزول بجمع الأحاديث وتأملها وتوجيه المعاني فيها. ففي تيسير الوصول نجد عنوانين في كتاب اللباس: أحدهما "ترك الزينة" والآخر يليه "التزين". ووضع العنوان "ترك الزينة" يتعارض مع الآية الكريمة "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده" فكيف لا يكون متعارضًا مع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الزينة. إلا أن المتأمل في أحاديث ترك الزينة يرى أن الترك إنما يعود إلى أسباب أخرجت الزينة وصاحبها من منزلة الحلال إلى الحرام.

فمثلاً نجد رواية معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك اللباس متواضعًا، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها ). فهذا الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن. إلا أن في إسناده عبد الرحيم بن ميمون، وقد ضعفه ابن معين، وفيه أيضًا سهل بن معاذ، وضعفه كذلك ابن معين. ولكن مع افتراض حسنه، فإن المعنى فيه: أن من كان لديه دواعي الكبر في الملبس وتغلب على نفسه وهواها، وترك اللباس إخضاعًا لنفسه وكسرًا لمظاهر الكبر فيها، فإن جزاء هذه المجاهدة أن يُدعى من قبل الله سبحانه على رءوس الخلائق، وفي هذا دلالة على أنه تغلب على شهوة الكبر على الخلائق ورغبة الظهور عليهم في الدنيا، فأبدله الله عزًّا وكرامة أمامهم في الآخرة. وإذا كان قد ترك ثوب شهرة وخيلاء تواضعًا لله، فإن الله سبحانه يخيره من أي الحلل شاء.

ويتضح هذا المعنى، ويذكر بالتصريح في الروايتين الباقيتين تحت هذا العنوان فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة ". وفي رواية: (ألبسه الله إياه يوم القيامة، ثم ألهب فيه النار ). أخرج الرواية الأولى أبو داود، والثانية رزين، وهي -أيضًا- في أبي داود.

وثوب الشهرة: هو الذي إذا لبسه الإنسان افتضح به واشتهر بين الناس، والمراد به ما لا يجوز للرجال لبسه شرعًا ولا عرفًا. فترك الزينة - إذًا - مقيد بوجود المخالفة الشرعية فيها، وإلا فإن التزين هو الأصل، وقد أمرنا به في القرآن الكريم في أطهر الأماكن "خذوا زينتكم عند كل مسجد " (الأعراف:31).

وجاء التحريض عليه في أحاديث النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنها: عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وعليّ ثوب دونٍ فقال: ألك مال؟ قلت: نعم.

قال: من أي المال؟ قلت: من كل المال قد أعطاني الله تعالى.

قال: فإذا آتاك الله تعالى مالاً فليُر أثر نعمة الله عليك وكرامته".

فعدم التزين من الرجل مع وجود المقدرة المالية عنده كان سبب هذا التوجيه الذي يأخذ أمرًا عامًا في نعم الله كلها، وأن الله سبحانه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. وهذا يرد على الذين يكتمون نعمة الله خشية الحسد، فالمؤمن يرى كالشامة وإن خشي شيئًا فليستعذ بالله من شره.

وعن محمد بن يحيى بن حيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبي مهنته ". وهذا التخصيص ليكون المؤمن في أحسن زينة، وهو يلتقي بإخوانه في يوم الجمعة، فما يلبسه في عمله قد يصيبه من أثر العمل ما ينقص من جماله ونظافته.

وعن جابر رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحب لنا يرعى ظهرًا لنا وعليه بُردان قد أخلقا. فقال: أما له غير هذين؟ قلت: بلى له ثوبان في العيبة كسوته إياهما، فقال: ادعه، فليلبسهما، فلبسهما. فلما ولّى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما له ، ضرب الله عنقه. أليس هذا خيرًا؟ فسمعه الرجل، فقال : في سبيل الله يا رسول الله. فقال: في سبيل الله. فقتل الرجل في سبيل الله.

فالرسول الكريم لم يكتف في هذا الحديث بالتوجيه فحسب، وإنما دعا إلى التنفيذ، وأن يلبس الثوبين، ولبسهما، وقارن الرسول الكريم بين الحالتين مستحسنًا التزين.

ويختم هذا العنوان ببيان المنهج الوسط الذي يتزين فيه المرء بلا إسراف، وبلا تقتير.

فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هاتين اللبستين: المرتفعة والدّون.

ومن هذا يتضح لنا أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها اختلاف، وإنما يحتاج الأمر إلى جمعها في الموضوع الواحد حتى نحسن فهمها وتوجيهها، دون أن نضرب بعض الأحاديث ببعض.

وعلى ذلك فإن الإنسان في جملة النصوص يقبل على رزق الله، وهو واثق فيما عند الله، يطلبه بما أحل الله، فإذا وصله لم يفتن به، بل تعامل فيه بمنطق إيمانه، لا يفرح بما أوتي، ولا يحزن على ما فات، ولا بأس أن يصل في الجلال إلى ما شاء الله، وإن ضيق عليه في الرزق فهذا قضاء الله، وعليه أن يصبر، وأن يسعى سعيًا حميدًا للخروج من الفقر، كما أن أثر النعمة يُرى عليه.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك ".

وهكذا تصحب وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن في أحواله كلها ليكون سعيدًا في غناه، وفي فقره، لا يطغيه غناه، ولا يجزع في فقره، بل يتقلب في حياته بين الشكر والصبر والرضى، يجد حلاوة القليل، كما يعم غيره بسرور غناه.

وتتابع مثل هذه التوجيهات في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لترسخ هذا المعنى:

فعن عبيد الله بن مُحصّن الخطمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيره ا". فالأمن النفسي مع المعافاة في البدن، ولو كان يحوز قوت اليوم فحسب يحقق للمؤمن الشعور بأنه يملك الدنيا بأسرها.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سأل ناس من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ما سألوه، ثم سألوه، فأعطاهم ما سألوه، ثم سألوه، فأعطاهم ما سألوه، حتى إذا نفد ما عنده. قال: "ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم. ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله. ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هو خير له أوسع من الصبر ".

فتعليق النبي صلى الله عليه وسلم على موقف هؤلاء الناس مع عطائه لهم ثلاث مرات حتى نفد ما عنده يوجه نحو القناعة والرضى، وأن الذي يطلب ذلك من الله يحققه له.

وقد مر بنا كيف سمي المال بالخير، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالخير كذلك: "ما يكون عندي من خير" أي من مال.

وفي تحقيق هذا الرضا يروى أبو هريرة رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا نظر أحدكم إلى من فُضّل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه، فذلك أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" أخرجه الشيخان والترمذي. وزاد رزين في رواية : قال عون بن عبد الله بن عتبة رحمه الله: كنت أصحب الأغنياء، فما كان أحد أكثر همًا مني. كنت أرى دابة خيرًا من دابتي، وثوبًا خيرًا من ثوبي. فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت ".

وقد مر بنا كيف حقق الرسول الكريم في حياته المباركة ما يجعل منها مواساة للفقراء ورضا بالقضاء، وإشعارًا للأغنياء باحترام الفقراء وعدم الكبر عليهم، كما ينبه إلى عدم التعلق بزخارف الحياة، والتفكير في المصير تفكيرًا يجمع بين عمارة الحياة الدنيا والفوز بالآخرة.

فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نام على رمال حصير، وقد أثر في جنبه، فقلت: يا رسول الله ! لو اتخذنا لك وطاءً نجعله بينك وبين الحصير يقيك منه؟ فقال: "ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركه ا".

وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء ".

وعن علي رضي الله عنه قال: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة ! وإن لكل واحدة منهما بنين فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا. فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.

فالبنوة للآخرة تعني الجمع بين الدنيا والآخرة؛ أي بين العمل الصالح الذي تعمر به الحياة، والحساب الذي يجازى فيه على الصالحات في الآخرة.


ميارى 1 - 8 - 2010 02:39 AM

النسخ

فإذا تعذر الجمع بين الروايات، أو كان متكلفًا صرنا إلى النسخ، أي إلى تحديد السابق واللاحق من الروايات، فإذا علم التاريخ فإن المتأخر منها ينسخ المتقدم.

وقد تكون ألفاظ الروايات مصرحة بتحديد المتقدم والمتأخر كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ".

فالنهي عن الزيارة كان أولاً، ثم الأمر بالزيارة كان آخرًا، وعلى ذلك يكون العمل المتبع الزيارة لما لها من المنافع المذكورة في الروايات من رقة القلب وتذكر الآخرة والدعاء للموتى وغير ذلك.

وقد يكون لفظ الصحابي ناطقًا بهذا التحديد للسابق واللاحق كما جاء في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس.

وعن عبادة بن الصامت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتَّبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد فعرض له حبر من اليهود فقال له: إنا هكذا نصنع يا محمد. فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم : "خالفوهم واجلسوا ".

وقد يكون التاريخ معلومًا من حكاية الصحابة رضوان الله عليهم - كذلك - نحو ما رواه أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إذا جامع أحدنا فأكسل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يغسل ما مس المرأة منه وليتوضأ ثم ليصل ". فهذا حديث يدل على أنه لا غسل مع الإكسال، وأن موجب الغسل الإنزال.

يقول أبو بكر الحازمي: ثم لما استقرينا طرق الحديث أفادنا بعض الطرق أن شرعية هذا كان في مبدأ الإسلام، واستمر ذلك إلى بعد الهجرة بزمان، ثم وجدنا الزهري قد سأل عروة عن ذلك فأجابه عروة أن عائشة رضي الله عنها حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولا يغتسل، وذلك قبل فتح مكة ثم اغتسل بعد ذلك وأمر الناس بالغسل".

وفي رواية الترمذي عن أبي بن كعب: "إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها".

وقد يكون تحديد السابق واللاحق استنباطًا من فهم الروايات.

مثال ذلك ما ورد في أحاديث النهي عن الكتابة والأمر بها، فلدينا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النا ر".

فهذا هو الحديث الوحيد الذي يتضمن النهي عن الكتابة، أما ما ورد وفيه أمر بالكتابة فكثير منه:

- ما ورد عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق ".

ويشهد الصحابي أبو هريرة رضي الله عنه لعبد الله بن عمرو بأنه استمر في الكتابة، فيقول: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب".

- رورى البخاري ومسلم وغيرهما أنه "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خطب فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم : اكتبوا لأبي فلان" قال ابن حجر هو أبو شاه، وقيل للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي ، قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

- وروى البخاري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتد وجعه قال: "ائتوني بكتاب، اكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده…".

فهذه أحاديث الأمر بالكتابة، وبالنظر إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وهو الوحيد في النهي - كما أشرنا - قد ذكر فيه ما يعين على تحديد السابق منها واللاحق، فقد ذكر النهي مقترنًا بذكر القرآن الكريم.

فالنهي - في الحديث - عن الكتابة مع القرآن في صحيفة واحدة، أو مطلقًا خشية وقوع الخلط واللبس بين القرآن الكريم والحديث الشريف.

وخشية الخلط بين الأسلوبين لا تكون إلا في بداية الأمر، فإذا ألف الناس أسلوب القرآن الكريم، وأسلوب النبي صلى الله عليه وسلم أمنوا من الوقوع في الخلط، وعلى ذلك فإن مضمون الحديث حدد لنا السابق واللاحق في أحاديث الأمر بالكتابة والنهي عنها، فالنهي أولاً، والأمر بالكتابة آخرًا.

وتكون أحاديث الأمر بالكتابة قد نسخت حديث النهي عنها.


ميارى 1 - 8 - 2010 02:40 AM


الترجيح

فإذا تعذر الجمع بين الروايات، أو كان متكلفًا، وإذا لم نستطع إعمال قاعدة النسخ لتعذر تحديد السابق منها واللاحق صرنا إلى الترجيح، وللترجيح وجوه كثيرة تتسع باتساع علم المرجّح، وحسن النظر إلى المرجحات وتطبيقها على الروايات، ولذلك ليس للمرجحات حصر دقيق فقد عدّ الحازمي منها في كتابه "الاعتبار" خمسين وجهًا ثم قال: فهذا القدر كاف في ذكر الترجيحات، وثم وجوه كثيرة أضربنا عن ذكرها كيلا يطول به هذا المختصر. وفي تدريب الراوي (وهو يتكلم عن ترجيحات الحازمي): ووصلها غيره إلى أكثر من مائة، كما استوفى ذلك العراقي في نكته، وقد رأيتها منقسمة إلى سبعة أقسام:

الأول: الترجيح بحال الراوي:

وذلك بوجوه: أحدها كثرة الرواة؛ لأن احتمال الكذب والوهم على الأكثر أبعد من احتماله على الأقل.

ثانيها: قلة الوسائط، أي علو الإسناد حيث الرجال الثقات؛ لأن احتمال الكذب والوهم فيه أقل.

ثالثها: فقه الراوي؛ سواء كان الحديث مرويًا بالمعنى أو اللفظ؛ لأن الفقيه إذا سمع ما يمتنع حمْلُه على ظاهره بحث عنه حتى يطّلع على ما يزول به الإشكال، بخلاف العامي.

رابعها: علمه بالنحو؛ لأن العالم به يتمكن من التحفظ عن مواقع الزلل ما لا يتمكن منه غيره.

خامسها: علمه باللغة.

سادسها: حفظه، بخلاف من يعتمد على كتابه.

سابعها: أفضليته في أحد الثلاثة، بأن يكونا فقيهين، أو نحويين، أو حافظين، وأحدهما في ذلك أفضل من الآخر.

ثامنها: زيادة ضبطه، أي اعتناؤه بالحديث واهتمامه به.

تاسعها: شهرته، لأن الشهرة تمنع الشخص من الكذب كما تمنعه من ذلك التقوى.

عاشرها إلى العشرين:

كونه ورعًا، أو حسن الاعتقاد، أي غير مبتدع، أو جليسًا لأهل الحديث، أو غيرهم من العلماء، أو أكثر مجالسة لهم، أو ذكرًا، أو مشهور النسب، أو لا لبس في اسمه بحيث يشاركه فيه ضعيف، وصعب التمييز بينهما، أو له اسم واحد، ولذلك أكثر ولم يختلط، أو له كتاب يرجع إليه.

حادي عشريها: أن تثبت عدالته بالإخبار بخلاف من تثبت بالتزكية أو العمل بروايته، أو الرواية عنه إن قلنا بهما.

ثاني عشريها إلى سابع عشريها:

أن يعمل بخبره من زكاه، ومعارضه لم يعمل به من زكاه، أو يتفق على عدالته، أو يذكر سبب تعديله، أو يكثر مزكوه؛ أو يكونوا علماء، أو كثيري الفحص عن أحوال الناس.

ثامن عشريها:

أن يكون صاحب القصة، كتقديم خبر أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم لمن أصبح جنبًا على خبر الفضل بن العباس في منعه؛ لأنها أعلم منه.

أورد الإمام الطحاوي رواية أبي بكر بن عبد الرحمن يقول: كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة، فذكر أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول: "من أصبح جنبًا أفطر ذلك اليوم".

فقال مروان: أقسمت عليك لتذهبن إلى أمّي المؤمنين، عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، فتسألهما عن ذلك.

قال : فذهب عبد الرحمن، وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة رضي الله عنها ، فسلم عليها عبد الرحمن ثم قال: " يا أم المؤمنين، إنا كنا عند مروان، فذُكر له أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول: "من أصبح جنبًا أفطر ذلك اليوم". فقالت عائشة رضي الله عنها: "بئس ما قال أبو هريرة، يا عبد الرحمن، أترغب عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل؟".

فقال: لا والله.

قالت: "فأشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبًا من جماع غير احتلام، ثم يصوم ذلك اليوم".

قال: ثم خرجنا حتى دخلنا على أم سلمة رضي الله عنها فسألها عن ذلك فقالت كما قالت عائشة رضي الله عنها فخرجنا حتى جئنا إلى مروان، فذكر له عبد الرحمن ما قالتا..

فقال مروان: أقسمت عليك يا أبا محمد، لتركبنّ دابتي، فإنها بالباب، فلتذهبن إلى أبي هريرة رضي الله عنه، فتحدث معه عبد الرحمن ساعة، ثم ذكر ذلك له.

فقال أبو هريرة رضي الله عنه : "لا علم لي بذلك إنما أخبرنيه مخبر".

وفي رواية أخرى عن يعلى بن عقبة قال: أصبحت جنبًا وأنا أريد الصوم، فأتيت أبا هريرة رضي الله عنه فسألته فقال لي "أفطر".

فأتيت مروان فسألته وأخبرته بقول أبي هريرة رضي الله عنه فبعث عبد الرحمن بن الحارث إلى عائشة رضي الله عنها فسألها فقالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج لصلاة الفجر، ورأسه يقطر من جماع، ثم يصوم ذلك اليوم".

فرجع إلى مروان فأخبره فقال: إيت أبا هريرة رضي الله عنه فأخبره، فأتاه فأخبره فقال: "أما إني لم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إنما حدثنيه الفضل، عن النبي صلى الله عليه وسلم ".

فموقف أبي هريرة رضي الله عنه موقف المرجح لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأم ا لمؤمنين أم سلمة رضي الله عنهما فهما أعلم.

ونسب السماع إلى الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا ما جعل البزار يعلق على رجوع أبي هريرة عما كان يقول من ذلك بقوله في مسنده: "ولا نعلم روى أبو هريرة عن الفضل بن العباس إلا هذا الحديث الواحد".

وقال البيهقي: ورواه البخاري مدرجًا في روايته عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن، إلا أنه قال في حديثه: "فقال: كذلك حدثني الفضل بن عباس وهو أعلم". وروى أنه قال: "أخبرني بذلك أسامة بن زيد". وقد صحّ رجوعه عن ذلك صريحًا.

وأخرج البيهقي في سننه عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن ابن المسيب: "أن أبا هريرة رجع عن قوله قبل موته" وروى مثله عن عطاء ثم قال: قال ابن المنذر: أحسن ما سمعت في هذا أن يكون ذلك محمولاً على النسخ، وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرمًا على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل، أن يصوم ذلك اليوم لارتفاع الحظر، وكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع من عائشة وأم سلمة صار إليه".

فهذا كان منهج الصحابة في الرواية والفتوى؛ الدقة في نسبة القول إلى سامعه، والرجوع إلى الصواب في الفتوى دون الاستبداد في الرأي لأنّ الوصول إلى الحق غايتهم.

وأجيب بجواب ثان على رواية أبي هريرة وفتواه، وهو حمله على من طلع الفجر عليه وهو يجامع فاستدام.

وجواب ثالث: أنه إرشاد إلى الأفضل وهو الاغتسال قبل الفجر، وتركه عليه الصلاة والسلام لذلك في حديث السيدة عائشة والسيدة أم سلمة لبيان الجواز.

يقول الإمام الزركشي: "واعلم أنه وقع خلاف في ذلك للسلف - أيضا - ثم استقر الإجماع على صحة صومه كما نقله ابن المنذر، وكذلك الماوردي في الاحتلام.

ونظر الإمام الطحاوي إلى رواية أبي هريرة والروايات الأخرى ومنها عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما والسيدة أم سلمة رضي الله عنها وقال: "فذهب ذاهبون إلى ما روى أبو هريرة رضي الله عنه من ذلك عن الفضل، عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا به وقلدوه.

وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: يغتسل ويصوم يومه ذلك.

وذهبوا في ذلك إلى ما رويناه عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومنه: رواية أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يحدث عن أبيه قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبًا، ثم يغتسل، ثم يغدو إلى المسجد ورأسه يقطر، ثم يصوم ذلك اليوم.

فأخبرته مروان، فقال: إيت أبا هريرة رضي الله عنه فأخبره بذلك.

فقلت: إنه لي صديق، فاعفني، فقال: عزمت عليك لتأتينه.

فانطلقت أنا وأبي إلى أبي هريرة رضي الله عنه فأخبرت بذلك.

فقال أبو هريرة رضي الله عنه : عائشة رضي الله عنها أعلم مني.

وقال شعبة: وفي الصحيفة: "أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني".

وبعد أن يستقصي الإمام الطحاوي الروايات بطرقها المتعددة عن أمّي المؤمنين السيدة عائشة والسيدة أم سلمة يقول:

"قالوا: فلما تواترت الآثار بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز لنا خلاف ذلك إلى غيره.

فكان من حجة أهل المقالة الأولى عليهم في ذلك أن قالوا: هذا الذي روته أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما إنما أخبرتا به عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبر الفضل في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قد خالف ذلك.

فقد يجوز أن يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك على ما ذكرت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما في حديثهما، ويكون حكم سائر الناس على ما ذكره الفضل، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيكون الخبران غير متضادين على ما يخرج عليه معاني الآثار.

فكان من الحجة للآخرين عليهم أن أبا هريرة رضي الله عنه هو الذي روى حديث الفضل، وقد رجع فتياه إلى قول عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، وعُدّ ذلك أولى مما حدثه الفضل، عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا حجة في هذا الباب.

وحجة أخرى: أنا قد وجدنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على حكم الناس في ذلك -أيضًا- كحكمه.

فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الباب وأنا أسمع " يا رسول الله، إني أصبح جنبًا وأنا أريد الصوم".

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وأنا أصبح جنبًا، وأنا أريد الصوم، فأغتسل وأصوم".

فقال: يا رسول الله، إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي" .

فلما كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك السائل هو إخباره عن فعل نفسه في ذلك ثبت بذلك أن حكمه في ذلك وحكم غيره سواء.

فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار.

وأما وجهه من طريق النظر في ذلك، فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن صائمًا لو نام نهارًا فأجنب أن ذلك لا يخرجه عن صومه.

فأردنا أن ننظر أنه هل يكون داخلاً في الصوم وهو كذلك؟ أو يكون حكم الجنابة إذا طرأت على الصوم خلاف حكم الصوم إذا طرأ عليها؟.

فرأينا الأشياء التي تمنع من الدخول في الصوم، من الحيض والنفاس، إذا طرأ ذلك على الصوم، أو طرأ عليه الصوم، فهو سواء.

ألا ترى أنه ليس لحائض أن تدخل في الصوم وهي حائض، وأنها لو دخلت في الصوم طاهرًا، ثم طرأ عليها الحيض في ذلك اليوم، أنها بذلك خارجة من الصوم.

فكانت الأشياء التي تمنع من الدخول في الصوم، هي الأشياء التي إذا طرأت على الصوم أبطلته.

وكانت الجنابة إذا طرأت على الصوم باتفاقهم جميعًا، لم تبطله.

فالنظر على ما ذكرنا أن يكون كذلك إذا طرأ عليها الصوم لم تمنع من الدخول فيه، فثبت بذلك ما قد وافق ما روته أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى.

تاسع عشريها: أن يباشر ما رواه.

الثلاثون: تأخر إسلامه، وقيل عكسه؛ لقوة أصالة المتقدم ومعرفته.

وقيل: إن تأخر موته إلى إسلام المتأخر لم يرجح بالتأخير؛ لاحتمال تأخر روايته عنه، وإن تقدم أو علم أن أكثر رواياته متقدمة على رواية المتأخر رجح.

الحادي والثلاثون إلى الأربعين:

كونه أحسن سياقًا واستقصاءً لحديثه. أو أقرب مكانًا. أو أكثر ملازمة لشيخه، أو سمع من مشايخ بلده، أو مشافها مشاهدًا لشيخه حال الأخذ. أو لا يجيز الرواية بالمعنى. أو الصحابي من أكابرهم، أو على رضي الله تعالى عنه وهو في الأقضية، أو معاذ وهو في الحلال والحرام، أو زيد وهو في الفرائض، أو الإسناد حجازي، أو من بلد لا يرضون التدليس.

- القسم الثاني : الترجيح بالتحمل، وذلك بوجوه:


أحدها: الوقت. فيرجح منهم من لم يتحمل بحديث إلا بعد البلوغ على من كان بعض تحمله قبله، أو بعضه بعده؛ لاحتمال أن يكون هذا مما قبله. والمتحمل بعده أقوى لتأهله للضبط.

ثانيها وثالثها: أن يتحمل بحدثنا والآخر عرضًا، أو عرضًا والآخر كتابة، أو مناولة أو وجادة.

- القسم الثالث : الترجيح بكيفية الرواية، وذلك بوجوه:


أحدها: تقديم المحكي بلفظه على المحكي بمعناه؛ والمشكوك فيه على ما عرف أنه مروي بالمعنى.

ثانيها: ما ذكر فيه سبب وروده على ما لم يذكر فيه؛ لدلالته على اهتمام الراوي به حيث عرف سببه، وهذا سيتضح تفصيلاً في هذه الدراسة.

ثالثها: أن لا ينكره راويه ولا يتردد فيه.

رابعها إلى عاشرها: أن تكون ألفاظه دالة على الاتصال؛ كحدثنا وسمعت، أو اتفق على رفعه أو وصله، أو لم يختلف في إسناده، أو لم يضطرب لفظه، أو روي بالإسناد وعزى ذلك لكتاب معروف، أو عزيز والآخر مشهود.

- القسم الرابع : الترجيح بوقت الورود وذلك بوجوه:

أحدها وثانيها: بتقديم المدني على المكي، والدال على علو شأن المصطفى عليه الصلاة والسلام على الدال على الضعف كبدأ الإسلام غريبًا، ثم شهرته، فيكون الدال على العلو متأخرًا.

ثالثها: ترجيح المتضمن للخفيف لدلالته على التأخر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يغلظ في أول أمره زجرًا عن عادات الجاهلية، ثم مال للتخفيف، كذلك قال صاحب المنهاج، ورجح الآمدي وابن الحاجب وغيرهما عكسه وهو تقديم المتضمن للتغليظ وهو الحق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جاء أولاً بالإسلام فقط، ثم شرعت العبادات شيئًا فشيئًا.

رابعها: ترجيح ما تحمل بعد الإسلام على ما تحمل قبله، أو شك؛ لأنه أظهر تأخرًا.

خامسها وسادسها: ترجيح غير المؤرخ على المؤرخ بتاريخ متقدم، وترجيح المؤرخ بمقارب بوفاته صلى الله عليه وسلم على غير المؤرخ، قال الرازي : والترجيح بهذه السنة، أي إفادتها للرجحان غير قوية.

- القسم الخامس : الترجيح بلفظ الخبر، وذلك بوجوه:


أحدها إلى الخامس والثلاثين: ترجيح الخاص على العام، والعام الذي لم يخصص على المخصص لضعف دلالته بعد التخصيص على باقي أفراده، والمطلق على ما ورد على سبب، والحقيقة على المجاز، والمجاز المشبه للحقيقة على غيره، والشرعية على غيرها، والعرفية على اللغوية، والمستغنى على الإضمار، وما يقل فيه اللبس، وما اتفق على وضعه لمسماه، والمومي للعلة، والمنطوق، ومفهوم الموافقة على المخالفة، والمنصوص على حكمه مع تشبيهه بمحل آخر، والمستفاد عمومه من الشرط والجزاء، على النكرة المنفية. أو من الجمع المعرف على "من" و "ما"، أو من الكل وذلك من الجنس المعرف، وما خطابه تكليفي على الوضعي، وما حكمه معقول المعنى، وما قدم فيه ذكر العلة، أو دل الاشتقاق على حكمه، والمقارن للتهديد، وما تهديده أشد، والمؤكد بالتكرار، والفصيح وما بلغة قريش، وما دل على المعنى المراد، بوجهين فأكثر وبغير واسطة، وما ذكر من معارضه كـ "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". والنص والقول، وقول قارنه العمل، أو تفسير الراوي، وما قرن حكمه بصفة على ما قرن باسم، وما فيه زيادة.

القسم السادس : الترجيح بالحكم، وذلك بوجوه:

أحدها : تقديم الناقل على البراءة الأصلية على المقرر لها، وقيل عكسه.

ثانيها: تقديم الدال على التحريم على الدال على الإباحة. والوجوب.

ثالثها : تقديم الأحوط.

رابعها: تقديم الدال على نفي الحد.

- القسم السابع : الترجيح بأمر خارجي:

كتقديم ما وافقه ظاهر القرآن، أو سنة أخرى، أو ما قبل الشرع، أو القياس، أو عمل الأمة، أو الخلفاء الراشدين، أو معه مرسل آخر، أو منقطع، أو لم يشعر بنوع قدح في الصحابة، أو له نظير متفق على حكمه، أو اتفق على إخراجه الشيخان.

فهذه أكثر من مائة مرجح، وثم مرجحات أخر لا تنحصر ومثارها غلبة الظن.

ولذلك فإن حسن الفهم للنصوص والأمن من الزلل في التعامل معها يقتضي هذه السعة العلمية التي تضرب في كل اتجاه؛ولذلك قال الإمام النووي في النوع السادس والثلاثين من أنواع علوم الحديث وهو معرفة مختلف الحديث وحكمه: هذا من أهم الأنواع ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف، وهو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرًا فيوفق بينهما، أو يرجح أحدهما، وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه، والأصوليون الغواصون على المعاني، وصنف فيه الإمام الشافعي، ولم يقصد رحمه الله استيفاءه، بل ذكر جملة ينبه بها على طريقه، ثم صنف فيه ابن قتيبة فأتى بأشياء حسنة وأشياء غير حسنة، لكون غيرها أقوى وأولى، وترك معظم المختلف، ومن جمع ما ذكرنا لا يشكل عليه إلا النادر في الأحيان.



الساعة الآن 02:10 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى