منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   النقد الأدبي والفني (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=107)
-   -   دَور التجربة الصّوفيّة في إغناء الفكر والأدب (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=6666)

B-happy 10 - 5 - 2010 01:07 AM

دَور التجربة الصّوفيّة في إغناء الفكر والأدب
 
دَور التجربة الصّوفيّة في إغناء الفكر والأدب ـــ نهاد خياطة
-1-‏
كان للتجربة الصوفية أثر كبير في إغناء الفكر الديني وآدابه الناتجة عن تلاقح إبداعي بين الشريعة والحقيقة، أو بين علم الظاهر وعلم الباطن، فالشريعة أعطت الصوفي إشارة البدء لقرع باب الحقيقة والغوص في أعماقها، والحقيقة أغنت الشريعة بما عمقته في نفس الصوفي من مفاهيمها ومنطلقاتها الأساسية وتطبيقاتها الفرعية، فارتقت نفسه إلى مستويات أعلى من مستوى التدين العامي، الذي يقف بصاحبه عند مطامح جر مغنم الجنة ودفع مغرم النار، حتى بلغت به منزلة سامقة جعلت من التجربة الدينية فعل جمال، لا يبتغي صاحبها من وراءها منفعة من أي نوع حتى ولو كانت وقوفاً عند الجمال نفسه لتملي مباهجه، أو وصولاً إلى رحاب القرب للتنعم بلقاء الجمال، أو جمال اللقاء، نكران مطلق للذات!‏
"إذا عرف الجزء نفسه أدرك أنه الكل وأن الجزء لا وجود له". وهيهات أن يعرف الجزء نفسه إلا بالموت، وبين المعرفة والموت جسر من الحب، وهذه الأمور الثلاثة هي محور التجربة الصوفية: أن تعرف هو أن تحب، وأن تحب هو أن تموت، وأن تموت فيمن تحب هو أن تحيا به، أي أن توجد، وفي وحدة الجذر العربي بين الوجد والوجود ما يدل على وجود الوجد بواسطة وجد الوجود. جاء في التنزيل الكريم: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي(. إنها الحياة الجديدة بالإيمان، كدودة الحرير تنسلخ عن دوديتها لكي تطير فراشة، أو الفراشة تتهافت على النور لتحترق، أو الحطبة تحيا النار كجمرة!‏
هذا التحول نحو الأعلى والأجمل والأفضل هو محور التجربة الصوفية!‏
-2-‏
من أبرز أشكال الإنتاج الإبداعي الذي أعطته التجربة الصوفية الإشارات أو الخواطر، من هذه الإشارات ما هو صوتي ويسمى هاتفاً، ومنها ما هو بصري ويسمى كشفاً أو رؤيا، ومنها ما يحدث في اليقظة، ومنها ما يحدث في النوم.‏
وتتميز هذه الخواطر من حيث مصدرها: فمنها ما يأتي من الملك ويسمى إلهاماً، ومنها ما يكون من قبل النفس ويسمى هاجساً، ومنها ما يكون من الشيطان ويسمى وسواساً، وإذا كان الخاطر من قبل الله فهو خاطر حق –وهذا مدار بحثنا في هذا المقال‏
ولكي يستطيع الصوفي أن يميز بين خاطر الشيطان وخاطر الملك، أو بين خاطر الله وخاطر النفس، يضع الإمام القشيري المعيارات التالية:‏
أولاً-إذا كان الخاطر من قبل الملك فإنما يعلم صدقه بموافقة العلم، أي الكتاب والسنة. ولهذا قالوا: كل خاطر لا يشهد له ظاهر فهو باطل.‏
ثانياً- وإذا كان من قبل الشيطان فأكثره يدعو إلى المعاصي.‏
ثالثاً- وإذا كان من قبل النفس فأكثره يدعو إلى إتباع شهوة أو استشعار كبر، أو ما هو من أوصاف النفس، وأجمع الشيوخ على أن النفس لا تصدق وأن القلب لا يكذب.‏
رابعاً- أما إذا كان الخاطر من الحق فلا يحصل خلاف من العبد، أي أنه لا يحق للعبد أن يخالفه لأنه إن عصاه فقد عصى الله، كما يؤكد ذلك أبو طالب المكي‏
-3-‏
وقد اصطلحنا على تسمية خاطر الحق بالإشارة القلبية المباشرة، فهي الإشارة الصوفية بامتياز، لأنه يتلقاها مباشرة عن الله تعالى. يقول الصوفي أن الحق –سبحانه وتعالى- يقذف في قلبه مضموناً ما سرعان ما يجد سبيله إلى لسانه فيعبر عنه بصورة عفوية دون أن يكون للواعية أي تدخل في إيجادها. يقول أبو طالب المكي:‏
"وليس يكاد علم اليقين يقدح في معدن العقل، لأن علوم العقل مخلوقات، ولا يكاد ينتجه الفكر، ولا يخرجه التدبر، فما أنتجته الأفكار، واستخرجته القطرة، من الخواطر والعلوم، فتلك علوم العقل، وهي كشوف المؤمنين، ومحمودات لأهل الدين. فأما خاطر اليقين فإنه يظهر من عين اليقين، ينادى به العبد مناداة. ويبغته مفاجأة"‏
وعلى هذا كان اختلاف المعرفة الصوفية المتأتية عن طريق الإشارة عن المعرفة العقلية من عدة أوجه نبينها فيما يلي:‏
أولاً- المعرفة الصوفية معرفة مباشرة، بينما المعرفة العقلية معرفة غير مباشرة لأنها مستمدة من الحواس التي تكيف المحسوسات وتعدل فيها بما يسمح انتقال آثارها إلى الدماغ‏
ثانياً-المعرفة الصوفية- بالمعنى المتقدم- مصدرها الحق تعالى، بينما المعرفة العقلية مصدرها العالم الخارجي.‏
ثالثاً-المعرفة الصوفية عفوية، بينما المعرفة العقلية إرادية نسبياً.‏
رابعاً-المعرفة الصوفية القديمة بما هي من الحق تعالى، بينما المعرفة العقلية مخلوقة محدثة.‏
خامساً-ونضيف وجهاً آخر هو انتفاء المنفعة في المعرفة الصوفية، على حين لا تخلو المعرفة العقلية من فكرة الحصول على منفعة أو من دفع مضرة.‏
-4-‏
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال عن الفرق بين الوحي النبوي والمعرفة الصوفية ما دام كلاهما من الله تعالى. يأتينا الجواب حاسماً من قبل عبد القادر الجيلاني، مؤسس الطريقة المعروفة باسمه، بكل ما عرف عنه من جرأة لا مجال بعدها لأي تردد حول هذا الموضوع البالغ الخطورة. يقول الجيلاني:‏
"آحاد أفراد من الخلق يوحى إليهم، يقذف إليها (إليهم) كلمات يخصها (يخصهم بها)، يعرفون الخير ويوقفون عليه. كيف لا يكون كذلك، وهم على متابعة الرسول في أقواله وأفعاله. وهو –عليه الصلاة والسلام- أوحي إليه ظاهراً، وهم يوحى إلى قلوبهم باطناً، لأنهم ورَّاثه وأتباعه في جميع ما أمرهم به"‏
وفي موضع آخر من "الفتح الرباني" يقول الجيلاني مخاطباً تلامذته ومريديه:‏
"عليكم بدلالات التوحيد، والإصغاء إلى كلمات الصديقين والأولياء: كلامهم كالوحي من الله عز وجل، ينطقون عنه و بأمره من وراء مأمور العوام والطغام"‏
وفي موضع ثالث من الكتاب المشار إليه يقول الجيلاني صراحة:‏
"روى قلبي عن ربي: اجعل لخلوتك بابين، باباً إلى الخلق، وباباً إلى الحق، تؤد حقوق الحق. اصحب الخلق للحق تكف شر الخلق، ويدم لك قرب الحق
يستخلص مما تقدم أن الأولياء يوحى إليهم من الله تعالى كما يوحى إلى الأنبياء، لكن مع التحفظات التي نبينها فيما يلي:‏
أولاً-وحي النبي هو وحي الظاهر –أي وحي الشريعة، بينما وحي الولي هو وحي الباطن- أي وحي الحقيقة، أو وحي المعرفة.‏
ثانياً- وحي النبي لفظه ومعناه من الله تعالى، بينما وحي الولي معناه من الله، أما لفظه فمن الولي، وهذا مما يتفق مع الأحاديث القدسية.‏
ثالثاً- لا يجوز لوحي الولي أن يخالف وحي النبي.‏
-5-‏
نقل ابن عباد الرندي في شرحه على "الحكم العطائية" هذه الإشارة الجميلة بما تضمنته من معاني إخلاص التوحيد الذي يصعب أن نجد له مثيلاً في أي تصوف آخر غير التصوف الإسلامي، نقدمها نموذجاً على الإشارة القلبية المباشرة ولعلها للنفَّري):‏
"لا تركنن إلى شيء دوننا، فإنه وبال عليك وقاتل لك: فإن ركنت إلى العلم تتبعناه عليك، وإن أويت إلى العلم رددناه عليك، وإن وثقت بالحال وقفناك معه، وإن أنست بالوجد استدرجناك فيه، وإن لحظت إلى الخلق وكلناك إليهم، وإن اغتررت بالمعرفة نكرَّناها عليك. فأي حيلة لك؟ وأي قوة معك؟ فأرضنا لك رباً نرضك لنا عبداً"‏
أقول: إن هذا لهو التوحيد في أرفع درجات الإخلاص الذي يقتضي عدم الركون إلى ما دون الله: فلا علم يصح الركون إليه، لأنه شرك، ولا حال يجب الوثوق به، لأنه شرك، ولا وجد ينبغي الاستئناس به، لأنه شرك، ولا معرفة يقتضي الاغترار بها أو الاعتماد عليها، لأنه شرك. هذا الشرك هو الشرك الخفي الذي قيل عنه في الخبر أنه "يدب دبيب النملة السوداء على الصخرة الملساء في الليلة الظلماء".‏
إن توحيد الصوفي يتميز من توحيد عامة المؤمنين بكونه نابعاً من تجربته الذاتية، أما توحيد غيره فيقوم على مجرد الإيمان أو الاعتقاد دون الغوص في أعماقه واجتلاء أبعاده.‏
يقول أبو طالب المكي:‏
"فإخلاص العبودية للوحدانية عند العلماء الموحدين أشد من الإخلاص في المعاملة عند العاملين، وبذلك رفعوا إلى مقامات القرب، وذلك أنه لا يكون عندهم عبداً حتى يكون مما سوى الله –عز وجل- حراً. فكيف يكون عبد رب وهو عبد عبداً لأن ما قاده إليه فهو إلهه، وما تربب عليه فهو ربه، وهذا شرك في الإلهية عند المتألهين، ومرج بالربوبية عند الربانيين، فهو متعوس منكوس بدعاء الرسول -(- إذ يقول: تعس عبد الدينار‍! تعس عبد الدرهم! تعس عبد الزوجة! تعس عبد الحلة!".‏
-6-‏
ونقل ابن عباد أيضاً رواية عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال:‏
"إذا عمل العبد حسنة وقال: يا رب، أنت بفضلك استعملت، وأنت أعنت، وأنت سهلت، شكر الله تعالى له ذلك، وقال له: يا عبدي، بل أنت أطعت، وأنت تقربت!‏
"وإذا نظر إلى نفسه وقال: أنا عملت، وأنا أطعت، وأنا تقربت، أعرض الله تعالى عنه وقال: يا عبدي، أنا وفقت، وأنا أعنت، وأنا سهَّلت!‏
"وإذا عمل سيئة وقال: يا رب، أنت قدرت، وأنت قضيت، وأنت حكمت، غضب المولى –جلت قدرته- وقال له:‏
يا عبدي، بل أنت أسأت، وأنت جهلت، وأنت عصيت!‏
"وإذا قال: يا رب، أنا ظلمت نفسي، وأنا أسأت، وأنا جهلت، أقبل المولى-جلت قدرته- وقال: يا عبدي، أنا قضيت، وأنا قدرت، وقد غفرت، وحلمت، وسترت!"‏
هنا تتجلى جدلية القضاء والقدر بين قدرة الله وفعل الإنسان في أدق معانيها وأخفى أسرارها، يتناولها التستري ببراعة فائقة ربما لا نجدها عند المتكلمين. ومدار هذه العلاقة قدرة القدير الواهب القدرة للإنسان منَّاً منه وتفضلاً، وفعل الإنسان في عالم التكليف القائم على الأمر والنهي، القدرة لله والفعل من الإنسان بقدرة الله، فإذا ادعى الإنسان القدرة لنفسه في عمل الخير سلبه الله ثوابه، وإذا نفى القدرة عن نفسه في فعل الشر أنزل الله تعالى به عقابه. فمقتضى الأدب مع الله تعالى أن لا يدعي الإنسان ما ليس له، وأن لا يتصل مما عليه.‏
-7-‏
ولكن أين موقع الشطح من الإشارات والخواطر الصوفية؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب الرجوع إلى معرفة الشطح ما هو. يقول الجرجاني في "تعريفاته":‏
"الشطح عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى، وهو من زلات المحققين، فإنه دعوى بحق يفصح بها العارف من غير إذن إلهي بطريق يشعر بالنباهة
ومن أمثلة الشطح نتناول شطحتين شهيرتين: إحداهما منسوبة لأبي يزيد البسطامي في قوله "سبحانه ما أعظم شأني!"، والثانية للحسين بن منصور الحلاج في قوله: أنا الحق!".‏
القولتان في ظاهر الأمر، تتنافيان مع ظاهر الشرع لما تنطويان عليه من ادعاء الألوهية، وهذا ما يريده الجرجاني بقوله: "كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى". لكن المحققين من أهل التصوف يذهبون إلى أن الشطح وإن كان في الظاهر يتناقض مع ما جاء به الشرع، إلا أنه في حقيقة الأمر لا يتناقض مع حقيقته، ولكنهم يقيدون إجازته بقابليته للتأويل، فإن وجدوا له وجهاً أجازوه، وإن لم يجدوا طووه.‏
في صدد تسويغ شطحة البسطامي يروون عنه أنه قال:‏
"قلت يوماً: سبحان الله! فناداني الخالق في سري: هل فيَّ عيب تنزهني عنه؟ قلت: لا يا رب! قال: فنفسك نزه عن ارتكاب الرذائل! فأقبلت على نفسي بالرياضة حتى تنزهت عن الرذائل وتحلت بالفضائل، فصرت أقول: سبحاني ما أعظم شأني! من باب التحديث بالنعمة"‏
وفي صدد تسويغ قولة الحلاج "أنا الحق" يبين لنا العز بن عبد السلام تسويغه لها في مقطع من أجمل ما أعطاه الأدب العربي:‏
"فنادى لسان حاله: يا حلاج، كيف رأيت المحبة؟ قال: رأيت حبة قد نصبت على فخ جمالية المحبوب، فطارت إليها عصافير القلوب، فلما سقطوا ليلتقطوا انقلبت عليهم حبة الفخ فاختبطوا، فحدّقوا إلى حقيقة تلك المحبة فإذا هي نقطة باء المحبة قد قلبتها الفتنة، فانقلبت المحبة محنة.‏
"يا حلاَّج، فأنت تحت رقه تحترق، وبحبل عشقه تختنق، فمتى تتفرغ من الخنق، حتى تقول: أنا الحق؟ فلو كان لك في البقائية، ما شربت بكأس الأنية، فقال:‏
"يا قوم، لما أخذني مني، وسلبني عني، تلاشت أوصاف حديثي لما ظهر سلطان قدمه، فكان الحدث كأن لم يكن، وبقي القدم كأن لم يزل، ثم فنيت أنيَّتي في أنيَّته، وذهبت هويَّتي في هويَّته، وتلاشت ناسوتيتي في لاهوتيته.‏
ثم نظرت منه إليه فلم أر إلا هو، وسمعت منه عنه فلم أسمع إلا هو، ونطقت به فلم أذكر إلا هو، فعلمت أن ليس هو إلا هو، فقلت: أنا هو!‏
"ولئن قلت (أنا الحق)، فما عدلت عن الحق، لأني أنا الحق في محبته، وهو الحق في مملكته، ولئن كان سكري نمّ على سري، فقد عربد وجدي على وجودي، وجعل حدي محو حدودي!"
-8-‏
وقبل أن نختتم مقالنا نجد لزاماً علينا أن نشير إلى أن "المواقف والمخاطبات" لمحمد بن عبد الجبار النفري هي جميعها من قبيل الإشارات الصوفية التي تعد في الذروة مما أمدتنا به التجربة الصوفية الإسلامية على مختلف العصور.‏
ثم لا يفوتنا أن نلفت الأنظار إلى الصلة الوثيقة بين الإشارات الصوفية وبين المغامرة السريالية التي تستهدف التعبير عن الوظيفة الحقيقية للفكر في معزل عن رقابة العقل وعن أي معيار جمالي أو أخلاقي.‏


أزهار 10 - 5 - 2010 02:13 AM

كانت هذه قراءة ثقيلة كعادة الكتابات الصوفية, تحتاج الى تمعن و دراية بمختلف المصطلحات المستخدمة.
شكرا جزيلا


الساعة الآن 07:33 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى