[جمال جرار]

رائحة كعك القدس!
/ د. عايدة النجار

ما أن يسألني قريب أو صديق ذاهب الى القدس عما أريده من هناك الا ويكون طلبي (كعك بالسمسم) وكما لبى طلبي الدكتور حازم نسيبة ابن القدس في زيارته الاخيرة لها. وكنت أعتقد أنني الوحيدة التي أطلب مثل هذا الطلب الذي يبدو غريبا الا أنني تيقنت أن الكثيرين مثلي يحنون (لكعك القدس) فعندما ذهبت لاستلام هديتي منه ، وجدت زوجته (قدر المصري) قد أعدت كيسا صغيرا لكل صديق يحن مثلي للكعك المقدسي. لا أظن أن هذا الطلب يحتاج للكثير من التحليل والدراسة لمعرفة مصدره ، ولا أعتقد أن لهذا علاقة مع" الفجع أو النهم" للناس المولعين بالطعام اللذيذ.،؟

مثل هذه المشاعر تتجدد لارتباطها نفسيا بأكثر من معنى ورمز ، فهذه" الكعكة "الأكثر شهرة في مدينة القدس لها خصوصية لا لأنها مصنوعة من الطحين والسمسم فهناك مثلها في الخليل وغزة وجنين ونابلس ورام الله والمدن الأخرى المحتلة. وتأتي خصوصيتها من المكان الذي يجبل فيه الطحين بالماء ويختلط برائحة القدس المميزة عن بقية المدن التي روائحها ذكية أيضا. ويأتي أيضا من الأمكنة والحارات والأزقة التي يقف فيها بائع الكعك ينادي بصوته العالي وكأنه عاشق دائم والتغزل بحب عتيق يجدد فتح الجروح بشكل مستمر. هذه الأمكنة أهمها : باب العامود باب الساهرة وباب الخليل وباب السباط وباب المغاربة وبقية أبواب القدس القديمة التي تحافظ على المدينة المميزة من العدو الذي يزعزع أحجارها غيظا من صمود أهلها كل يوم.

الحنين للمكان ينشّط ما يرتبط بها من رموز كشكل ورائحة الكعك بالسمسم التي تستفز الانسان على مواصلة التذوق والمضغ والبحث عن اللقمة التالية بشهية بل بنهم يبرره الوجدان والذاكرة الانسانية. هذا الحنين الذي يسكن من سكن أو زار القدس وأكنافها يتصاعد هذه الأيام خوفا على القدس وخصوصيتها للانسان الفلسطيني والعربي المسلم والمسيحي الذي يعرف المكان ورائحة كعكه وخبزه. ففي هذه الأيام يزداد الخوف على القدس التي تقوم اسرائيل بتهويدها جملة وتفصيلا والعالم يتفرج على الاستعمار الجديد يأكل الحجر والشجر بنهم كبير.

اسرائيل تقوم بالاعتداء على مقبرة مأمن الله في القدس التاريخية إحدى الوثائق والشواهد على أن القدس عربية بأهلها اليوم والاجداد في القبور. تسرق المقبرة وتحطم العظام لتتلف الشاهد على التاريخ أن هناك قرب باب الخليل مقبرة تضم رفات 70 ألف شهيد وعالم وصحابي. بالاضافة تتجد ذاكرة المكان وما يرتبط بها من رموز تزيد الحقد والغضب على العدو وهي ماضية في التهويد وتكريس ضمها لما سرقته من القدس. وتحاول بذلك تطفيش وجلاء ما تبقى من العرب المنزرعين فيها وعددهم اليوم375 الف فلسطيني ويشكلون %34 من القدس بشطريها. تطرد العائلات من بيوتها لتسكين المستوطنين وتخترع الادعاءات بحقها بذلك كما فعلت مع عائلة الكرد في الشيخ جراح مؤخرا. وتقوم اسرائيل دون ورع أو خوف من أي رادع من القوانين الدولية وحقوق الانسان وحق الفلسطينيين بأرضهم لإرغامهم على الخروج من القدس وتركها لهم. وتقوم اسرائيل بوقاحة المستعمر ببناء الكنس داخل البلدة القديمة قرب الحرم الشريف و قد بنوا كنيسا يغطي علوه قبة الصخرة وكأنهم يرفعون الصوت أن القدس لهم.

القدس وأهلها يعانون من التعسف الاسرائيلي لتهويد القدس بشكل صريح منذ عام 1967 وعلى أثر الاحتلال الذي تكرسه اسرائيل كل يوم. انها تهدم بيوت العرب لتبني على آثارها هياكل خرافاتها اللاهوتية ، فقد هدمت بيتين في حيّ سلوان في محاولة لتنفيذ المخطط الذي وضعته لما تسميه (عير دافيد).

يتم كل هذا وأكثر والعالم يتفرج ، بل يشارك في الجريمة كما بعض المؤسسات الامريكية التي تمّول مشروعات التهويد كما هو الحال في تحويل مقبرة مأمن الله الى متحف يزّور التاريخ والجغرافيا لهذة المدينة المقدسة. وكل ما تقوم به الدول الاجنبية والعربية والمسلمة هو الاعراب عن هذه الانتهاكات وكأنها لتسكين الجرح الفلسطيني الذي يزداد كل يوم ، ويزداد عمقا بازدياد الحفريات العميقة في القدس الشرقية التي لم تفقد لليوم اصرار أهل القدس ومدنها وقراها بالحفاظ على هذه المدينة.

لم تستطع اسرائيل تهويدها كليا لليوم ، وتحاول الالتفاف على اضفاء الشرعية على تهويدها وذلك بتشجيع أهل القدس على الاشتراك في انتخابات البلدية 2008 ، التي يقاطعها العرب. نعم يجب مقاطعتها للتعبير عن رفضهم العملي في المشاركة في تهويد شرعي تؤيده أصوات مقدسية. يظل الفلسطينيون حريصون على الحفاظ على حقهم بالمدينة التي يعملون على ابقائها عربية لها خصوصيتها وطابعها التراثي والتاريخي العريق بما فيه الكعك بالسمسم ورائحته الذكية التي تحرسها أبواب القدس وبائعيها الذين ينادون كل صباح على الناس لبدء يومهم بأخذ جرعة حياة من الكعك والزعتر والبيض المشوي الذي تحاول اسرائيل سرقته كما سرقت الالبسة المطرزة وبقية الاطعمة التي لها طعم فلسطيني خاص ومميز فيه حنين للأموات والاحياء الذين أحبوا القدس،
صحيفة الدستور