![]() |
الخبر عن ملوك التبابعة من حمير وأوليتهم باليمن ومصاير أمورهم
هؤلاء الملوك من ولد عبد شمس بن واثل بن الغوث باتفاق من النسابين وقد مر نسبه إلى حمير وكانت مدائن ملكهم صنعاء ومأرب على ثلاث مراحل منها. وكان بها السد ضربته بلقيس ملكة من ملوكهم سدا ما بين جبلين بالصخر والقار فحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خروقا على قدر ما يحتاجون إليه في سقيهم وهو الذي يسمى العرم والسكر وهو جمع لا واحد له من لفظه قال الجعدي: من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيله العرما ففي ذلك للمؤتسي أسوة مأرب غطى عليه العرم رخام بناه لهم حمير إذا جاء من رامه لم يرم وقيل بناه لقمان الأكبر ابن عاد كما قاله المسعودي وقال جعله فرسخا في فرسخ وجعل له ثلاثين شعبا وقيل: وهو الأليق والأصوب إنه من بناء سبا بن يشجب وإنه ساق إليه سبعين واديا ومات قبل إتمامه فأتمه حمير من بعده وإنما رجحناه لأن المباني العظيمة والهياكل الشامخة لا يستقل بها الواحد كما قدمنا في الكتاب الأول فأقاموا في جناته عن اليمين والشمال كما وصف القرآن. ودولتهم يومئذ في جناته عن اليمين والشمال كما وصف القرآن. ودولتهم يومئذ أوفر ما كانت وأترف وأبذخ وأعلى يدا وأظهر فلما طغوا وأعرضوا سلط الله عليهم الخلد وهو الجرذ فنقبه من أسفله فأحجفهم السيل وأغرق جناتهم وخربت أرضهم وتمزق ملكهم وصاروا أحاديث. وكان هؤلاء التبابعة ملوكا عدة في عصور متعاقبة وأحقاب متطاولة ولم يضبطهم الحصر ولا تقيدت منهم الشوارد. وربما كانوا يتجاوزون ملك اليمن إلى ما بعد عنهم من العراق والهند والمغرب تارة ويقتصرون على يمنهم أخرى فاختلفت أحوالهم ودولهم فلنأت بما صح منها متحريا جهد الاستطاعة عن طموس من الفكر واقتفاء التقاليد المرجوع إليها والأصول المعتمد على نقلها وعدم الوقوف على أخبارهم مدونة في كتاب واحد والله قال السهيلي: معنى تبع الملك المتبع وقال صاحب المحكم: التبابعة ملوك اليمن وأحدهم تبع لأنهم يتبع بعضهم بعضا كلما هلك واحد قام آخر تابعا له في سيرته وزادوا الباء في التبابعة لإرادة النسب. قال الزمخشري: قيل لملوك اليمن التبابعة لأنهم يتبعون كما قيل الأقيال لأنهم يتقيلون. قال المسعودي: ولم يكونوا يسمون الملك منهم تبعا حتى يملك اليمن والشحر وحضرموت وقيل حتى يتبعه بنو جشم بن عبد شمس ومن لم يكن له شيء من الأمرين فيسمى ملكا ولا يقال له تبع. وأول ملوك التبابعة باتفاق من المؤرخين الحرث الرائش وإنما سمي الرائش لأنه راش الناس بالعطاء واختلف الناس في نسبه بعد اتفاقهم على أنه من ولد واثل بن الغوث بن حيران بن قطن بن عريب بن زهير بن أبين بن الهميسع بن حمير. فقال ابن إسحق: وأبو المنذر بن الكلبي أن قيسا بن معاوية بن جشم. فابن إسحق يقول في نسبه إلى سبا الحرث بن عدي بن صيفي: وابن الكلبي يقول: الحرث بن قيس بن صيفي. وقال السهيلي: هو الحرث بن همال بن ذي سدد بن الملطاط بن عمرو بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن ذي سدد بن الملطاط بن عمرو بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن واثل. وجشم جد سبا هو ابن عبد شمس. هذا عند المسعودي وعند بعضهم أنه أخوه وأنهما معا ابنا وائل. وذكر المسعودي عن عبيد بن شرية الجرهمي وقد سأله معاوية عن ملوك اليمن في خبر طويل ونسب الحرث منهم فقال: هو الحرث بن شدد بن الملطاط بن عمرو. وأما عند الطبري فاختلف نسبه في نسب الحرث فمرة قال: وبيت ملك التبابعة في سبا الأصغر ونسبه كما مر. وقال في موضع آخر: والحرث بن ذي شدد هو الرائش جد الملوك التبابعة فجعله إلى شدد ولم ينسبه إلى قيس ولا عدي من ولد سبا. وكذلك اضطرب أبو محمد بن حزم في نسبه في الجمهرة مرة إلى الملطاط ومرة إلى سبا الأصغر والظاهر أنه تبع في ذلك الطبري والله أعلم. وملك الحرث الرائش فيما قالوا مائة وخمسا وعشرين سنة وكان يسمى تبعا وكان مؤمنا فيما قال السهيلي. ثم ملك بعده ابنه أبرهة ذو المنار مائة وثمانين سنة. قال المسعودي: وقال ابن هشام: أبرهة ذو المنار هو ابن الصعب بن ذي مداثر بن الملطاط وسمي ذا المنار لأنه رفع المنار ليهتدي به. ثم ملك من بعده أفريقش بن أبرهة مائة وستين سنة. وقال ابن حزم: هو أفريقش بن قيس بن أبرهة مائة وستين سنة. وقال ابن حزم: هو أفريقش بن قيس بن صيفي أخو الحرث الرائش وهو الذي ذهب بقبائل العرب إلى أفريقية وبه سميت وساق البربر إليها من أرض كنعان مر بها عندما غلبهم يوشع وقتلهم فاحتمل الفل منهم وساقهم إلى أفريقية فأنزلهم بها وقتل ملكها جرجير ويقال إنه الذي سمي البرابرة بهذا الاسم لأنه لما افتتح المغرب وسمع رطانتهم قال: ما أكثر بربرتهم فسفوا البرابرة والبربرة في لغة ولما رجع من غزو المغرب ترك هنالك من قبائل حمير صنهاجة وكتامة فهم إلى الآن بها وليسوا في نسب البربر قاله الطبري والجرجاني والمسعودي وابن الكلبي والسهيلي وجميع النسابين. ثم ملك من بعد أفريقش أخوه العبد بن أبرهة وهو ذو الأذعار عند المسعودي قال: سمي بذلك لكثرة ذعر الناس من جوره وملك خمسا وعشرين سنة وكان على عهد سليمان بن داود وقبله بقليل وغزا ديار المغرب وسار إليه كيقاوس بن كنعان ملك فارس فبارزه وانهزم كيقاوس وأسره ذو الأذعار حتى استنقذه بعد حين من يديه وزيره رستم زحف إليه بجموع فارس إلى اليمن وحارب ذو الأذعار فغلبه واستخلص كيقاوس من أسره كما نذكره في أخبار ملوك فارس. وقال الطبري أن ذا الأذعار اسمه عمرو بن أبرهة ذي المنار بن الحرث الرائش بن قيس بن صيفي بن سبا الأصغر انتهى. وكان مهلك ذي الأذعار فيما ذكر ابن هشام مسموما على يد الملكة بلقيس. وملك من بعده الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن ذي الأذعار وهو ذو الصرح وملك ستا أو عشرا فيما قال المسعودي. وملكت بعده ابنته بلقيس سبع سنين. وقال الطبري: إن اسم بلقيس بنت اليشرح بن الحرث بن قيس انتهى. ثم غلبهم سليمان عليه السلام على اليمن كما وقع في القرآن فيقال تزوجها ويقال بل عزلها في التأيم فتزوجت سدد بن زرعة بن سبا وأقاموا في ملك سليمان وابنه أربعا وعشرين سنة. ثم قام بملكهم ناشر بن عمرو ذي الاذعار ويعرف بناشر النعم لفظين مركبين جعلا اسما واحدا كذا ضبطه الجرجاني. وقال السهيلي: ناشر بن عمرو ثم قال: ويقال ناشر النعم. وفي كتاب المسعودي نافس بن عمرو ولعله تصحيف ونسبه إلى عمرو ذي الأذعار وليس يتحقق في هذه الأنساب كلها أنها للصلب فإن الآماد طويلة والأحقاق بعيدة وقد يكون بين اثنين منهما عدد من الآباء وقد يكون ملصقا به. وقال هشام بن الكلبي: أن ملك اليمن صار بعد بلقيس إلى ناشر بن عمرو بن يعفر الذي يقال له ياسر أنعم لإنعامه عليهم بما جمع من أمرهم وقوي من ملكهم. وزعم أهل اليمن أنه سار غازيا إلى المغرب فبلغ وادي الرمل ولم يبلغه أحد ولم يجد فيه مجازا لكثرة الرمل وعبر بعض أصحابه فلم يرجعوا فأمر بصنم من نحاس نصب على شفير الوادي وكتب في صدره بالخط المسند: هذا الصنم لياسر أنعم الحميري ليس وراءه مذهب فلا يتكلف أحد ذلك فيعطب انتهى. ثم ملك بعد ياسر هذا ابنه شمر مرعش سمي بذلك لارتعاش كان به ويقال أنه وطىء أرض العراق وفارس وخراسان وافتتح مدائنها وخرب مدينة الصغد وراء جيحون فقالت العجم: شمر كنداي شمر خرب. وبنى مدينة هنالك فسميت باسمه هذا وعربته العرب فصار سمرقند. ويقال أنه الذي قاتل قباذ ملك الفرس وأسره وأنه الذي حير الجيرة وكان ملكه مائة وستين سنة. وذكر بعض الإخباريين أنه مل بلاد الروم وأنه الذي استعمل عليهم ماهان قيصر فهلك وملك بعده ابنه دقيوس. وقال السهيلي في شمر مرعش الذي سميت به سمرقند أنه شمر بن مالك ومالك هو الأملوك الذي قيل فيه: فنقب عن الأملوك واهتف بذكره وعش دار عز لايغالبه الدهر وهذا غلط من السهيلي فانهم مجمعون على أن الأملوك كان لعهد موسى صلوات الله عليه وشمر من أعقاب ذي الأذعار الذي كان على عهد سليمان فلا يصح ذلك إلى أن يكون شمر أبرهة ويكون أول دولة التبابعة. ثم ملك على التبابعة بعد شمر مرعش تبع الاقرن واسمه زيد. قال السهيلي: وهو ابن شمر مرعش وقال الطبري إنه ابن عمرو ذي الأذعار. وقال السهيلي: إنما الأقرن لشامة كانت في قرنه وملك ثلاثا وخمسين سنة. وقال المسعودي: ثلاثا وستين. ثم ملك من بعده ابنه كلكيكرب وكان مضعفا ولم يغز قط إلى أن مات وملك بعده ابنه تبان أسعد أبو كرب ويقال هو تبع الآخر وهو المشهور من ملوك التبابعة. وعند الطبري أن الذي بعد ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار تبع الأقرن أخوه. ثم بعد تبع الأقرن شمر مرعش بن ياسر ينعم ثم من بعده تبع الأصغر وهو تبان أسعد أبو كرب هذا هو تبع الآخر وهو المشهور من ملوك التبابعة. وقال الطبري: ويقال له الرائد وكان على عهد يستاسب وحافده أردشير يمن وإنه شخص من اليمن غازيا ومر بالجيرة فتحير عسكره هنالك فسميت الحيرة وخلف قوما من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة فأقاموا هنالك وبنوا الأطام. واجتمع إليهم ناس من طيرة وكلب والسكون وأياد والحرث بن كعب. ثم توجه الأنبار ثم الموصل ثم أذربيجان ولقي الترك فهزمهم وقتل وسبى ثم رجع إلى اليمن وهابته الملوك وهادنه ملوك الهند ثم رجع لغزو الترك وبعث ابنه حسان إلى الصغد وابنه يعفر إلى الروم وابن أخيه شمر ذي الجناح إلى الفرس وأن شمر لقي كيقباذ ملك الفرس فهزمه وملك سمرقند وقتله وجاز إلى الصين فوجد أخاه حسان قد سبقه إليها فأثخنا في القتل والسبي وانصرفا بما معهما من الغنائم إلى أبيهما. وبعث ابنه يعفر إلى القسطنطينية فتلقوه بالجزية والأتاوة فسار إلى رومة وحصرها ووقع الطاعون في عسكره فاستضعفهم الروم ووثبوا عليهم فقتلوهم ولم يفلت منهم أحد. ثم رجع إلى اليمن ويقال إنه ترك ببلاد الصين قوما من حمير وأنهم بها لهذا العهد وأنه ترك ضعفاء الناس بظاهر الكوفة فتحيروا هنالك وأقاموا معهم من كل قبائل العرب. وقال ابن إسحق: إن الذي سار إلى المشرق من التبابعة تبع الآخر وهو تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب بن زيد الأقرن بن عمرو ذي الأذعار وتبان أسعد هو حسان تبع وهو - فيما يقال - أول من كسا الكعبة. وذكر ابن إسحق الملاء والوصائل وأوصى ولاته من جرهم بتطهيرها وجعل لها بابا ومفتاحا. وذكر ابن إسحق أنه أخذ بدين اليهودية. وذكر في سبب تهوده أنه لما غزا إلى المشرق مر بالمدينة يثرب فملكها وخلف ابنه فيهم فعدوا عليه وقتلوه غيلة. ورئيسهم يومئذ عمرو بن الطلة من بني النجار. فلما أقبل من المشرق وجعل طريقه على المدينة مجمعا على خرابها فجمع هذا الحي من أبناء قيلة لقتاله فقاتلهم. وبينما هم على ذلك جاءه حبران من أحبار يهود من بني قريظة وقالا له: لا تفعل فإنك لن تقدر وأنها مهاجر نبي قرشي يخرج آخر الزمان فتكون قرارا له. وأنه أعجب بهما واتبعهما على دينهما ثم مضى لوجهه. ولقيه دون مكة نفر من هذيل وأغروه بمال الكعبة وما فيها من الجواهر والكنوز فنهاه الحبران عن ذلك وقالا له: إنما أراد هؤلاء هلاكك فقتل النفر من الهذليين وقدم مكة فأمره الحبران بالطواف بهما والخضوع ثم كساها كما تقدم. وأمر ولاتها من جرهم بتطهيرها من الدماء والحيض وسائر النجاسات وجعل لها بابا ومفتاحا. ثم سار اليمن وقد ذكر قومه ما أخذ به من دين اليهودية وكانوا يعبدون الأوثان فتعرضوا لمنعه ثم حاكموه إلى النار التي كانوا يحاكمون إليها فتأكل الظالم وتدع المظلوم. وجاؤوا بأوثانهم وخرج الحبران متقلدين المصاحف ودخل الحميريون فأكلتهم وأوثانهم. وخرجا منها ترشح وجوههم وجباههم عرقا. فآمنت حمير عند ونقل السهيلي عن ابن قتيبة في هذه الحكاية: أن غزاة تبع هذه إنما هي استصراخة أبناء قيلة على اليهود فإنهم كانوا نزلوا مع اليهود حين أخرجوهم من اليمن على شروط فنقضت عليهم اليهود فاستغاثوا بتبع فعند ذلك قدمها. وقد قيل: إن الذي استصرخه أبناء قيلة على اليهود إنما هو أبو جبلة من ملوك غسان بالشام جاء به مالك بن عجلان فقتل اليهود بالمدينة. وكان من الخزرج كما نذكر بعد. ويعضد هذا أن مالك بن عجلان بعيد عن عهد تبع بكثير. يقال أنه كان قبل الإسلام بسبعمائة سنة ذكره ابن قتيبة. وحكى المسعودي في أخبار تبع هذا أن أسعد أبا كرب سار في الأرض ووطأ الممالك وذللها ووطيء أرض العراق في ملك الطوائف وعميد الطوائف يومئذ خرداد بن سابور فلقي ملكا من ملوك الطوائف اسمه قباذ وليس قباذ بن فيروز فانهزم قباذ وملك أبو كرب العراق والشام والحجاز وفي ذلك يقول تبع أبو كرب: إذا حسينا جيادنا من دماء ثم سرنا بها مسيرا بعيدا واستبحنا بالخيل خيل قباذ وابن إقليد جاءنا مصفودا وكسونا البيت الذي حرم الله ملاء منضداص وبرودا أقمنا به من الشهر عشرا وجعلنا لبابه إقليدا وقال أيضاً: أو تؤدي ربيعة الخرج قسرا لم يعقها عوائق العواق وقد كانت لكندة معه وقائع وحروب حتى غلبهم حجر بن عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة من ملوك كهلان فدانوا له ورجع أبو كرب إلى اليمن فقتله حمير وكان ملكه ثلثمائة وعشرين سنة. ثم ملك من بعد أبي كرب هذا فيما قال ابن إسحق ربيعة بن نصر بن الحرث بن نمارة بن لخم ولخم أخو جذام. وقال ابن هشام: ويقال ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر. كان أبو حارثة تخلف باليمن بحد خروج أبيه وأقام ربيعة بن نصر ملكا على اليمن بعد هؤلاء التبابعة الذين تقدم ذكرهم ووقع له شأن الرؤيا المشهورة. قال الطبري عن ابن إسحق عن بعض أهل العلم أن ربيعة بن نصر رأى رؤيا هالته وفظع بها وبعث في أهل مملكته في الكهنة والسحرة والمنجمين وأهل العيافة فأشاروا عليه باستحضار الكاهنين المشهورين لذلك العهد في إياد وغسان وهما شق وسطيح. قال الطبري: شق هو أبو صعب شكر بن وهب بن أمول بن يزيد بن قيس عبقر بن أنمار. وسطيح هو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذيب بن عدي بن مازن بن غسان. ولوقوع اسم ذيب في نسبه كان يعرف بالذيبي. فأحضرهما وقص عليهما رؤياه وأخبراه بتأويلها أن الحبشة يملكون بلاد اليمن من بعد ربيعة وقحطان بسبعين سنة ثم يخرج عليهما ابن ذي يزن من عدن فيخرجهم ويملك عليهم اليمن ثم تكون النبوة في قريش في بني غالب بن فهر. ووقع في نفس ربيعة أن الذي حدثه الكاهنان من أمر الحبشة كائن فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم وكتب إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرداذ فأسكنهم الحيرة. ومن بيت ربيعة بن نصر كان النعمان ملك الحيرة وهو النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر. قاله ابن إسحق: ولما هلك ربيعة بن نصر اجتمع ملك اليمن لحسان بن تبان أسعد أبي كرب. قال السهيلي: وهو الذي استباح طسما كما ذكرناه وبعث على المقدمة عبد كهلان بن يثرب بن ذي حرب بن حارث بن ملك بن عبدان بن حجر بن ذي رعين. واسم ذي رعين يريم وهو ابن زيد الجمهور وقد مر نسبه إلى سبا الأصغر. وقال السهيلي: في أيام حسان تبع كان خروج عمرو بن مزيقيا من اليمن بالأزد وهو غلط من السهيلي لأن أبا كرب أباه إنما غزا المدينة فيما هو صريخا للأوس على اليهود وهو من غسان ونسبه إلى مزيقيا. فعلم هذا يكون الذي استصرخه الأوس والخزرج على اليهود إنما هو من ملوك غسان كما يأتي في أخبارهم. قال ابن إسحق: ولما ملك حسان بن تبع بن تبان أسعد سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب والعجم كما كانت التبابعة تفعل فكرهت حمير وقبائل اليمن السير معه وأرادوا الرجوع إلى بلادهم فكلموا أخا له كان معهم في العسكر يقال له عمرو وقالوا له اقتل أخاك نملكك وترجع إلينا إلى بلادنا فتابعهم على ذلك وخالفه ذو رعين في ذلك ونهى عمرا عن ذلك فلم يقبل وكتب في صفيحة وأودعها عنده: ألا من يشتري سهراً بنوم سعيد من يبيت قرير عين فإما حمير غدرت وخانت فمعذرة الإله لذي رعين ثم قتل عمرو أخاه بعرصة لخم وهي رحبة مالك بن طوق ورجع حمير إلى اليمن فمنع النوم عليه السهر وأجهمه ذلك فشكى إلى الأطباء عدم نومه والكهان والعرافين فقالوا ما قتل رجل أخاه إلا سلط عليه السهر فجعل يقتل كل من أشار عليه بقتل أخيه ولم يغنه ذلك شيئا وهم بذي رعين فذكره شعره فكانت فيه معذرته ونجاته. وكان عمرو هذا يسمى موثبان. قال الطبري: لوثوبه على أخيه. وقال ابن قتيبة: لقلة غزوه ولزومه الوثب على الفراش. وهلك عمرو هذا لثلاث وستين سنة من ملكه. قال الجرجاني الطبري: ثم مرج أمر حمير من بعده وتفرقوا. وكان ولد حسان تبع صغارا لا يصلحون للملك وكان أكبرهم قد استهوته الجن فوثب على ملك التبابعة عند كلال موثباً فملك عليهم أربعاً وتسعين سنة وكان يدين بالنصرانية ثم رجع ابن حسان تبع من استهواء الجن فملك على التبابعة. قال الجرجاني: ملك ثلاثا وسبعين سنة وهو تبع الأصغر ذو المغازي والآثار البعيدة. قال الطبري: وكان أبوه حسان تبع قد زوج بنته من عمرو بن حجر آكل المرار ابن عمرو بن معاوية من ملوك كندة فولدت له ابنه الحرث بن عمرو فكان ابن تبع بن حسان هذا فبعثه على بلاد معد وملك على العرب بالحيرة مكان آل نصر بن ربيعة. قال وانعقد الصلح بينه وبين كيقباد ملك فارس على أن يكون الفرات حدا بينهم. ثم أغارت العرب بشرقي الفرات فعاتبه على ذلك فقال لا أقدر على ضبط العرب إلا بالمال والجند فأقطعه بلادا من السواد وكتب الحرث إلى تبع يغريه بملك الفرس وتضعيف أمر كيقباد فغزاهم. وقيل إن الذي فعل ذلك هو عمرو بن حجر أبوه الذي ولاه تبع أبو كرب وأنه أغراه بالفرس واستقدمه إلى الحيرة فبعث عساكره مع ولده الثلاثة إلى الصغد والصين والروم وقد تقدم ذكر ذلك. قال الجرجاني: ثم ملك بعد تبع بن حسان تبع أخوه لأمه وهو مدثر بن عبد كلال فملك إحدى وأربعين سنة ثم ملك من بعده ابنه وليعة بن مدثر سبعا وثلاثين سنة ثم ملك من بعده أبرهة بن الصباح بن لهيعة بن شيبة بن مدثر قيلف بن يعلق بن معد يكرب بن عبد الله بن عمرو بن ذي أصبح الحرث بن مالك أخو ذي رعين وكعب أبو سبا الأصغر. قال الجرجاني: وبعض الناس يزعم أن أبرهة بن الصباح إنما ملك تهامة فقط. قال ثم ملك من بعده حسان بن عمرو بن تبع بن كلكيكرب سبعا وخمسين سنة. ثم ملك لخيتعة ولم يكن من أهل بيت المملكة. قال ابن إسحق: ولما ملك لخيتعة غلب عليهم وقتل خيارهم وعبث برجالات بيوت المملكة منهم. قيل إنه كان ينكح ولدان حمير يريد بذلك أن لا يملكوا عليهم وكانوا لا يملكون عليهم من نكح. نقله ابن إسحق. وقال أقام عليهم مملكا سبعا وعشرين سنة ثم وثب عليه ذو نواس زرعة تبع بن تبان أسعد أبي كرب وهو حسان أبي ذي معاهر فيما قال ابن إسحق وكان صبيا حين قتل حسان. ثم شب غلاما جميلا ذا هيئة وفضل ووضاءة ففتك بلخيتعة في خلوة أراده فيها على مثل فعلاته القبيحة. وعلمت به حمير وقبائل اليمن فملكوه واجتمعوا عليه وجدد ملك التبابعة. وتسمى يوسف وتعصب لدين اليهودية فكانت مدته - فيما قال ابن إسحق - ثمانية وستين سنة. إلى هنا ترتيب أبي الحسن الجرجاني ثم قال: وقال آخرون ملك بعد أفريقش بن أبرهة قيس بن صيفي وبعده الحرث بن قيس بن مياس ثم ماء السماء بن ممروه ثم شرحبيل وهو يصحب بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف بن علي بن الهمال بن المنثلم بن جهيم ثم الصعب بن قرين بن الهمال بن المنثلم ثم زيد بن الهمال ثم ياسر بن الحرث بن عمرو بن يعفر ثم زهير بن عبد شمس أحد بني صيفي بن سبا الأصغر وكان فاسقا مجرما يفتض أبكار حمير حتى نشأت بلقيس بنت اليشرح بن ذي جدن بن اليشرح بن الحرث بن قيس بن صيفي فقتلته غيلة ثم ملكت. ولما أخذها سليمان ملك لمك بن شرحبيل ثم ملك ذو وداع فقتله ملكيكرب بن تبع بن الأقرن وهو أبو ملك. ثم هلك فملك أسعد بن قيس بن زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبا وهو أبو كرب ثم ملك حسان ابنه فقتله عمرو أخوه ووقع الاختلاف في حمير. ووثب على عمر لخيتعة ينوف ذو الشناتر وملك ثم قتله ذو نواس بن تبع وملك كلام الجرجاني. وزعم ابن سعيد ونقله من كتب مؤرخي المشرق: أن الحرث الرايش هو ابن ذي سدد ويعرف بذي مداثر وأن الذي ملك بعده ابنه الصعب وهو ذو القرنين ثم ابنه أبرهة بن الصعب وهو ذو المنار ثم العبد ذو الأشفار بن أبرهة بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ثم قتلته بلقيس. قال في التيجان: إن حمير خلعوه وملكوا شرحبيل بن غالب بن المنتاب بن زيد بن يعفر بن السكسك بن واثل وكان بمأرب فجاز به ذو الأذعار وحارب ابنه الهدهاد بن شرحبيل من بعده وابنته بلقيس بنت الهدهاد الملكة من بعده فصالحته على التزويج وقتلته وغلبها سليمان عليه السلام على اليمن إلى أن هلك وابنه رحبعم من بعده. واجتمعت حمير من بعده على مالك بن عمرو بن يعفر بن عمرو بن حمير بن المنتاب بن عمرو بن يزيد بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير. من بعده على مالك بن عمرو بن يعفر بن عمرو بن حمير بن المنتاب بن عمرو بن يزيد بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير. وملك بعده ابنه شمر يرعش وهو الذي خرب سمرقند وملك بعده ابنه صيفي بن شمر على اليمن وسار أخوه أفريقش بن شمر إلى أفريقية بالبربر وكنعان فملكها. ثم انتقل الملك إلى كهلان وقام به عمران بن عامر ماء السماء بن حارثة امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد وكان كاهنا. ولما احتضر عهد إلى أخيه عمرو بن عامر المعروف بمزيقيا وأعلمه بخراب سد مأرب وهلاك اليمن بالسيل فخرج من اليمن بقومه. وأصاب اليمن سيل العرم فلم ينتظم لبني قحطان بيعته واستولى على قصر مأرب من بعده ربيعة بن نصر. ثم رأى رؤيا ونفر بملك الحبشة وبعث ولده إلى العراق وكتب إلى سابور الأشعاني فأسكنهم الحيرة وكثرت الخوارج باليمن. فاجتمعت حمير على أن تكون لأبي كرب أسعد بن عدي بن صيفي فخرج من ظفار وغلب ملوك الطوائف باليمن ودوخ جزيرة العرب وحاصر الأوس والخزرج بالمدينة وحمل حمير على اليهودية وطالت مدته وقتلته حمير. وملك بعده ابنه حسان الذي أباد طسما ثم قتله أخوه عمرو بمداخلة حمير وهلك عمرو فملك بعده أخوه لأبيه عبد كلال بن منوب وفي أيامه خلع سابور أكتاف العرب وملك بعده تبع بن حسان وهو الذي بعث ابن أخيه الحرث بن عمرو الكندي إلى أرض بني معد بن عدنان بالحجاز فملك عليهم. وملك بعده مرثد بن عبد كلال ثم ابنه وليعة وكثرت الخوارج عليه وغلب أبرهة الصباح على تهامة اليمن. وكان في ظفار ذو شناتر وقتله ذو نواس كما مر. هذا ترتيب ابن سعيد في ملوكهم. وعند المسعودي أنه لما هلك كليكرب بن تبع المعروف بالأقرن وقال هو الذي سار قومه نحو خراسان والصغد والصين. وولي بعده حسان بن تبع فاستقام له الأمر خمسا وعشرين سنة ثم قتله أخوه عمرو بن تبع وملك أربعا وستين سنة ثم تبع أبو كرب وهو الذي غزا يثرب وكسا الكعبة بعد أن أراد هدمها ومنعه الحبران من اليهود وتهود وملك مائة سنة. ثم بعده عمرو بن تبع أبي كرب وخلع وملكوا مرثد بن عبد كلال. واتصلت الفتن باليمن أربعين سنة ومن بعده وليعة بن مرثد تسعا وثلاثين سنة. ومن بعده أبرهة بن الصباح بن وليعة بن مرثد ويدعى شيبة الحمد ثلاثا وتسعين سنة. وكانت له سير وقصص ومن بعده عمرو بن قيفان تسع عشرة سنة ومن بعده لخيتعة ذو شناتر ومن بعده ذو نواس. وأما ابن الكلبي والطبري وابن حزم فعندهم أن تبع أسعد أبي كرب هو ابن كليكرب ابن زيد الأقرن بن عمرو بن ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار الرايش بن قيس بن صيفي بن سبا الأصغر. وقال السهيلي: أنه أسقط أسماء كثيرة وملوكا. وقال ابن الكلبي وابن حزم: ومن ملوك التبابعة أفريقش بن صيفي ومنهم شمر يرعش بن ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار ومنهم بلقيس ابنة اليشرح بن ذي جدن بن اليشرح بن الحرث الرايش بن قيس بن صيفي. ثم قال ابن حزم بعد ذكر هؤلاء من التبابعة: وفي أنسابهم اختلاف وتخليط وتقديم وتأخير ونقصان وزيادة. ولا يصح من كتب أخبار التبابعة وأنسابهم إلا طرف يسير لاختلاف رواتهم وبعد العهد. وقال الطبري: لم يكن لملوك اليمن نظام وإنما كان الرئيس منهم يكون ملكا على مخلافه لا يتجاوزه وإن تجاوز بعضهم عن مخلافه بمسافة يسيرة من غير أن يرث ذلك الملك عن آبائه ولا يرثه أبناؤه عنه إنما هو شأن شداد المتلصصة يغيرون على النواحي باستغفال أهلها فإذا قصدهم الطلب لم يكن لهم ثبات. وكذلك كان أمر ملوك اليمن يخرج أحدهم من مخلافه بعض الأحيان ويبعد في الغزو والإغارة فيصيب ما يمر به ثم يتشمر عند خوف الطلب زاحفا إلى مكانه من غير أن يدين له أحد من غير مخلافه بالطاعة أو يؤدي إليه خراجا. وأما الخبر عن ذي نواس وما بعده فاتفق أهل الأخبار كلهم أن ذا نواس هو ابن تبان أسعد واسمه زرعة وأنه لما تغلب على ملك آبائه التبابعة تسمى يوسف وتعصب لدين اليهودية وحمل عليه قبائل اليمن وأراد أهل نجران عليها وكانوا من بين العرب يدينون بالنصرانية ولهم فضل في الدين واستقامة. وكان رئيسهم في ذلك يسمى عبد الله بن الثامر وكان هذا الدين وقع إليهم قديما من بقية أصحاب الحواريين من رجل سقط لهم من ملك التبعية يقال له ميمون نزل فيهم وكان مجتهدا في العبادة مجاب الدعوة ظهرت على يده الكرامات في شفاء المرضى وكان يطلب الخفاء عن الناس جهده. وتبعه على دينه رجل من أهل الشام اسمه صالح وخرجا فارين بأنفسهما فلما وطئا بلاد العرب اختطفتهما سيارة فباعوهما بنجران. وهم يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم ويعلقون عليها في الأعياد من حليهم وثيابهم ويعكفون عليها أياما. وافترقا في الدير على رجلين من أهل نجران وأعجب سيد ميمون صلاته ودينه وسأله عن شأنه فدعاه إلى الدين وعبادة الله وأن عبادة النخلة باطل وأنه لو دعا معبوده عليها هلكت. فقال له سيده إن فعلت دخلنا في دينك: فدعا ميمون فأرسل الله ريحا فجعفت النخلة من أصلها وأطبق أهل نجران على أتباع دين عيسى صلوات الله عليه. ومن رواية ابن إسحق أن ميمون نزل بقرية من قرى نجران وكان يمر به غلمان أهل نجران يتعلمون من ساحر كان بتلك القرية وفي أولئك الغلمان عبد الله بن الثامر فكان يجلس إلى ميمون ويسمع منه فآمن به واتبعه وحصل على معرفة اسم الله الأعظم فكان مجاب الدعوة لذلك واتبعه الناس على دينه وأنكر عليه ملك نجران وهم بقتله. فقال له: لن تطيق حتى تؤمن وتوحد فآمن ثم قتله فهلك ذلك الملك مكانه. واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر وأقام أهل نجران على دين عيسى صلوات الله عليه حتى دخلت عليهم في دينهم الأحداث. ودعاهم ذو نواس إلى دين اليهودية فأبوا فسار إليهم في أهل اليمن وعرض عليهم القتل فلم يزدهم إلا جماحا فخدد لهم الأخاديد وقتل وحرق حتى أهلك منهم - فيما قال ابن إسحق - عشرين ألفا أو يزيدون. وأفلت منهم رجل من سبا يقال له دوس ذو ثعلبان فسلك الرمل على فرسه وأعجزهم. ملك الحبشة اليمن قال هشام بن محمد الكلبي في سبب غزو ذي نواس أهل نجران: إن يهوديا كان بنجران فعدا أهلها على ابنين له فقتلوهما ظلما فرفع أمره إلى ذي نواس. وتوسل له باليهودية واستنصره على أهل نجران وهم نصارى فحمى له ولدينه وغزاهم. ولما أفلت دوس ذو ثعلبان فقدم على قيصر صاحب الروم يستنصره على ذي نواس وأعلمه بما ركب منه وأراه الإنجيل قد احترق بعضه بالنار فكتب له إلى النجاشي يأمره بنصره ويطلب بثأره وبعث معه النجاشي سبعين ألفا من الحبشة. وقيل: أن صريخ دوس كان أولا للنجاشي وأنه اعتذر إليه بقلة السفن لركوب البحر. وكتب إلى قيصر وبعث إليه بالإنجيل المحرق فجاءته السفن وأجاز فيها العساكر من الحبشة وأمر عليهم أرباطا رجلا منهم وعهد إليه بقتلهم وسبيهم وخراب بلادهم فخرج أرباط لذلك ومعه أبرهة الأشرم فركبوا البحر ونزلوا ساحل اليمن. وجمع ذو نواس حمير ومن أطاعه من أهل اليمن على افتراق واختلاف في الأهواء. فلم يكن كبير حرب وانهزموا. فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه بفرسه إلى البحر ثم ضربه فدخل فيه وخاض ضحضاح البحر ثم أفضى به إلى غمرة فأقدمه فيه فكان آخر العهد به. ووطىء أرباط اليمن بالحبشة وبعث إلى النجاشي بثلث السبي كما عهد له ثم أقام بها فضبطها وأذل رجالات حمير وهدم حصون الملك بها مثل سلجيق وسون وغمدان. وقال ذو يزن يرثي حمير وقصور الملك باليمن: هونك ليس يرد الدمع ما فاتا لاتهلكن أسفا في إثر من ماتا أبعد سون فلا عين ولا أثر وبعد سلجيق يبني الناس أبياتا و في رواية هشام بن محمد الكلبي أن السفن قدمت علي النجاشي من قيصر فحمل فيها الحبش ونزلوا بساحل اليمن واستجاش ذو نواس بأقيال حمير فامتنعوا من صريخه وقالوا: كل أحد يقاتل عن ناحيته. فألقى ذو نواس باليد ولم يكن قتال. وأنه سار بهم إلى صنعاء وبعث عماله في النواحي لقبض الأموال وعهد بقتلهم في كل ناحية فقتلوا وبلغ ذلك النجاشي فجهز إلى اليمن سبعين ألفا وعليهم أبرهة فغلبوا صنعاء وهرب ذو نواس واعترض البحر فكان آخر العهد به. وملك أبرهة اليمن ولم يبعث إلى النجاشي بشيء وذكر له أنه خلع طاعته. فوجه جيشا من أصحابه عليهم أرباط. ولما حل بساحته دعاه إلى النصفة والنزال فتبارزا وخدعه أبرهة وأكمن عبدا له في موضع المبارزة فلما التقيا ضربه أرباط فشرم أنفه وسمي الأشرم. وخالفه العبد من الكمين فضرب أرباطا فأنقذه وبلغ النجاشي خبر أرباط فحلف ليريقن دمه. ثم كتب إليه أبرهة واسترضاه فرضي عليه وأقره على عمله. وقال ابن إسحق أن أرباط هو الذي قدم اليمن أولا وملكه وانتقض عليه أبرهة من بعد ذلك فكان ما ذكرنا من الحرب بينهما وقتل أرباط. وغضب النجاشي لذلك ثم أرضاه واستبد أبرهة بملك اليمن. ويقال أن الحبشة لما ملكوا اليمن أمر أبرهة بن الصباح وأقاموا في خدمته قاله ابن سلام. وقيل: إن ملك حمير لما انقرض أمر التبابعة صار متفرقا في الأذواء من ولد زيد الجمهور وقام بملك اليمن منهم ذو يزن من ولد مالك بن زيد. قال ابن حزم: واسمه علس بن زيد بن الحرث بن زيد الجمهور. وقال ابن الكلبي وأبو الفرج الأصبهاني: هو علس بن الحرث بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور. قالوا كلهم: ولما ملك ذو يزن بعد مهلك ذي نواس واستبد أمر الحبشة على أهل اليمن طالبوهم بدم النصارى الذين في أهل نجران فساروا إليه وعليهم أرباط ولقيهم فيمن معه فانهزم واعترض البحر فأقحم فرسه وغرق فهلك بعد ذي نواس وولى ابنه مرثد بن ذي يزن مكانه وهو الذي استجاشه امرؤ القيس على بني أسد وكان من عقب ذي يزن أيضاً من هؤلاء الأذواء علقمة ذو قيفال بن شراحيل بن ذي يزن وملك مدينة الهون فقتله أهلها من ولما استقر أبرهة في ملك اليمن أساء السير في حمير ورؤسائهم وبعث في ريحانة بنت علقمة بن مالك بن زيد بن كهلان فانتزعها من زوجها أبي مرة بن ذي يزن وقد كانت ولدت منه ابنه معد يكرب. وهرب أبو مرة ولحق بأطراف اليمن واصطفى أبرهة ريحانة فولدت له مسروق بن أبرهة ريحانة وأخته بسباسة. وكان لأبرهة غلام يسمى عمددة وكان قد ولاه الكثير من أمره فكان يفعل الأفاعيل حتى عدى عليه رجل من حمير أو خثعم فقتله وكان حليما فأهدر دمه. غزو الحبشة الكعبة ثم إن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء تسمى القليس لم ير مثلها وكتب إلى النجاشي بذلك وإلى قيصر في الصناع والرخام والفسيسفاء وقال: لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب. وتحدث العرب بذلك فغضب رجل من السادة أحد بني فقيم ثم أحد بني مالك وخرج حتى أتى القليس فقعد فيها ولحق بأرضه. وبلغ أبرهة وقيل له: الرجل من البيت الذي يحج إليه العرب فحلف ليسيرن إليه يهدمه. ثم بعث في الناس يدعوهم إلى حج القليس فضرب الداعي في بلاد كنانة بسهم فقتل. وأجمع أبرهة على غزو البيت وهدمه فخرج سائرا بالحبشة ومعه الفيل فلقيه ذو نفر الحميري وقاتله فهزمه وأسره واستبقاه دليلا في أرض العرب. قال ابن إسحق: ولما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف فأتوه بالطاعة وبعثوا معه أبا رغال دليلا فأنزله المغمس بين الطائف ومكة فهلك هنالك ورجمت العرب قبره من بعد ذلك قال جرير: إذا مات الفرزدق فارجموه كما ترمون قبر أبي رغال ثم بعث أبرهة خيلا من الحبشة فانتهوا إلى مكة واستاقوا أموال أهلها وفيها مائتا بعير لعبد المطلب وهو يومئذ سيد قريش فهموا بقتاله ثم علموا أن لاطاقة لهم به فاقصروا. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة يعلمهم بمقدمه من هدم البيت ويؤذنهم بالحرب إن اعترضوا دون ذلك. وأخبر عبد المطلب بذلك عن أبرهة فقال له: والله ما نريد حربه. وهذا بيت الله فإن يمنعه فهو بيته وإن يخلي عنه فما لنا نحن من دافع. ثم انطلق به إلى أبرهة ومر بذي نفر وهو أسير فبعث معه إلى سائس الفيل وكان صديقا لذي نفر فاستأذن له على أبرهة فلما رآه أجله ونزل عن سريره فجلس معه على بساطه وسأله عبد المطلب في الإبل. فقال له أبرهة: هلا سألت في البيت الذي هو دينك ودين آبائك وتركت البعير فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه فرد عليه إبله. قال الطبري: وكان فيما زعموا قد ذهب مع عبد المطلب عمرو بن لعابة بن عدي بن الرمل سيد كنانة وخويلد بن واثلة سيد هذيل وعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة ويرجع عن هدم البيت فأبى عليهم فانصرفوا. وجاء عبد المطلب وأمر قريشا بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب للتحرز فيها. ثم قام عند الكعبة ممسكا بحلقة الباب ومعه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه وعبد المطلب ينشد ويقول: لاهم إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك في أبيات معروفة ثم أرسل الله عليهم الطير الأبابيل من البحر ترميهم بالحجارة فلا تصيب أحدا منهم إلا هلك مكانه وأصابه في موضع الحجر من جسده كالجدري والحصبة فهلك. وأصيب أبرهة في جسده بمثل ذلك وسقطت أعضاؤه عضواً عضواً وبعثوا بالفيل ليقدم على مكة فربض ولم يتحرك فنجا وأقدم فيل آخر فحصب وبعث الله سيلا مجحفا فذهب بهم وألقاهم في البحر. ورجع أبرهة إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فانصدع صدره عن قلبه ومات. ولما هلك أبرهة ملك مكانه ابنه يكسوم وبه كان يكنى واستفحل ملكه وأذل حمير وقبائل اليمن ووطئتهم الحبشة فقتلوا رجالهم ونكحوا نساءهم واستخدموا أبناءهم. ثم هلك يكسوم بن أبرهة فملك مكانه أخوه مسروق وساءت سيرته وكثر عسف الحبشة باليمن فخرج ابن ذي يزن واستجاش عليهم بكسرى وقدم اليمن بعساكر الفرس وقتل مسروقا وذهب أمر الحبشة بعد أن توارث ملك اليمن منهم أربعة في اثنتين وسبعين سنة أولهم أرباط ثم أبرهة ثم ابنه يكسوم ثم أخوه مسروق بن أبرهة. |
قصة سيف بن ذي يزن وملك الفرس على اليمن
ولما طال البلاء من الحبشة على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري من الأذواء بقية ذلك السلف وعقب أولئك الملوك وديال الدولة المفوض للخمود. وقد كان أبرهة انتزع منه زوجته ريحانة وبعد أن ولدت منه ابنه معد يكرب كما مر. نسبه فيما قال الكلبي: سيف بن ذي يزن بن عافر بن أسلم بن زيد بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور. هكذا نسبه ابن الكلبي ومالك بن زيد هو أبو الأذواء. فخرج سيف وقدم على قيصر ملك الروم وشكى إليه أمر الحبشة وطلب أن يخرجهم ويبعث على اليمن من شاء من الروم فلم يسعفه عن الحبشة وقال: الحبشة على دين النصارى. فرجع إلى كسرى وقدم الحيرة على النعمان بن المنذر عامل فارس على الحيرة وما يليها من أرض العرب فشكى إليه واستمهله النعمان إلى حين وفادته على كسرى وأوفد معه وسأله النصر على الحبشة وأن يكون ملك اليمن له. فقال: بعدت أرضك عن أرضنا أو هي قليلة الخير إنما هي شاء وبعير ولا حاجة لنا بذلك ثم كساه وأجازه فنثر دنانير الإجازة ونهبها الناس يوهم الغنى. نها بما في أرضه فأنكر عليه كسرى ذلك فقال: جبال أرضي ذهب وفضة وإنما جئت لتمنعني من الظلم فرغب كسرى في ذلك وأمهله للنظر في أمره وشاور أهل دولته. فقالوا في سجونك رجال حبستهم للقتل ابعثهم معه فإن هلكوا كان الذي أردت بهم وإن ملكوا كان ملكاً أزددته إلى ملكك وأحصوا ثمانمائة وقدم عليهم أفضلهم وأعظمهم بيتا وأكبرهم سنا وكان وهزر الديلمي. وعند المسعودي وهشام بن محمد السهيلي: أن كسرى وعده بالنصر ولم ينصره وشغل بحرب الروم وهلك سيف بن ذي يزن عنده وكبر ابنه ابن ريحانة وهو معد يكرب وعرفته أمه بأبيه فخرج ووفد على كسرى يستنجزه في النصرة التي وعد بها أباه. وقال له: أنا ابن الشيخ اليمني الذي وعدته فوهبه الدنانير ونثرها إلى آخر القصة. وقيل إن الذي وفد على كسرى وأباد الحبشة هو النعمان بن قيس بن عبيد بن سيف بن في يزن. قالوا: ولما كتبت الفرس مع وهزر وكانوا ثمانمائة وقال ابن قتيبة كانوا سبعة آلاف وخمسمائة. وقال ابن حزم: كان وهزر من عقب جاماسب عم أنو شروان فأمره على أصحابه وركبوا البحر ثمان سفائن فغرقت منها سفينتان وخلصت ستة إلى ساحل عدن. فلما نزلوا بأرض اليمن قال وهزر لسيف: ما عندك قال: ما شئت من قوس عربي ورجلي مع رجلك حتى نظفر أو نموت. قال أنصفت: وجمع ابن ذي يزن من استطاع من قومه وسار إليه مسروق بن أبرهة في مائة ألف من الحبشة وأوباش اليمن فتوافقوا للحرب وأمر وهزر ابنه أن يناوشهم للقتال فقتلوه وأحفظه ذلك. وقال أروني ملككم فأروه إياه على الفيل عليه تاج وبين عينيه ياقوتة حمراء. ثم نزل عن الفيل إلى الفرس ثم إلى البغلة. فقال وهزر ركب بنت الحمار ذل وذل ملكه. ثم رماه بسهم فصك الياقوتة بين عينيه وتغلغل في دماه وتنكس على دابته وداروا به فحمل القوم عليهم وانهزم الحبشة في كل وجه. وأقبل وهزر إلى صنعاء ولما أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكوسة فهدم الباب ودخل ناصبا رايته فملك اليمن ونفى عنها الحبشة. وكتب بذلك إلى كسرى وبعث إليه بالأموال. فكتب إليه أن يملك سيف بن ذي يزن على اليمن على فريضة يؤديها كل عام ففعل وانصرف وهزر إلى كسرى وملك سيف اليمن وكان أبوه من ملوكها. وخلف وهزر نائبا على اليمن في جماعة من الفرس ضمهم إليه وجعله لنظر ابن ذي يزن وأنزله بصنعاء. وانفرد ابن ذي يزن بسلطانه ونزل قصر الملك وهو رأس غمدان يقال إن الضحاك بناه على اسم الزهرة وهو أحد البيوت السبعة الموضوعة على أسماء الكواكب ورحانيتها خرب في خلافة عثمان. قاله المسعودي. وقال السهيلي: كانت صنعاء تسمى أوال وصنعاء اسم بانيها صنعاء بن أوال بن عمير بن عابر بن شالخ. ولما استقل ابن ذي يزن بملك اليمن وفدت العرب عليه يهنوه بالملك لما رجع من سلطان قومه وأباد من عدوهم وكان فيمن وفد عليه مشيخة قريش وعظماء العرب لعهدهم من أبناء إسماعيل وأهل بيتهم المنصوب لحجهم فوفدوا في عشرة من رؤسائهم فيهم عبد المطلب فأعظمهم سيف وأجلهم وأوجب لهم حقهم ووفر من ذلك قسم عبد المطلب من بينهم. وسأله عن بنيه حتى ذكر له شأن النبي صلى الله عليه وسلم وكفالته إياه بعد موت عبد الله أبيه عاشر ولد عبد المطلب فأوصاه به وحضه على الإبلاغ في القيام عليه والتحفظ به من اليهود وغيرهم. وأسر إليه البشرى بنبوته وظهور قريش قومهم على جميع العرب. وأسنى جوائز هذا الوفد بما يدل على شرف الدولة وعظمها لبعد غايتها في الهمة وعلو نظرها في كرامة الوفد وبقاء آثار الترف في الصبابة شاهد لشرافة الحال في الأول. ذكر صاحب الأعلام وغيره أنه أجاز سائر الوفد بمائة من الإبل وعشرة أعبد وعشرة وصائف وعشرة أرطال من الورق والذهب وكرش ملىء من العنبر وأضعاف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب. قال ابن إسحق: ولما انصرف وهزر إلى كسرى غزا سيف على الحبشة وجعل يقتل ويبقر بطون النساء حتى إذا لم يبق إلا القليل جعلهم خولا واتخذ منهم طوابير يسعون بين يديه بالحراب وعظم خوفهم منه. فخرج يوما وهم يسعون بين يديه فلما توسطهم وقد انفردوا به عن الناس رموه بالحراب فقتلوه ووثب رجل منهم على الملك. وقيل ركب خليفة وهزر فيمن معه من المسلحة واستلحم الحبشة وبلغ ذلك كسرى فبعث وهزر في أربعة آلاف من الفرس وأمره بقتل كل أسود أو منتسب إلى أسود ولو جعدا قططا ففعل. وقتل الحبشة حيث كانوا. وكتب بذلك إلى كسرى فأمره على اليمن فكان يجيبه له حتى هلك. واستضافت حشابة ملك الحميريين بعد مهلك ابن ذي يزن وأهل بيته إلى الفرس وورثوا ملك العرب وسلطان حمير باليمن بعد أن كانوا يزاحمونهم بالمناكب في عراقهم ويجوسونهم بالغزو خلال ديارهم. ولم يبق للعرب في الملك رسم ولأطلل إلا أقيالاً من حمير وقحطان رؤساء في أحيائهم بالبدو لا تعرف لهم طاعة ولا ينفذ لهم في غير ذاتهم أمر إلا ما كان لكهلان إخوتهم بأرض العرب من ملك آل المنذر من لخم على الحيرة والعراق بتولية فارس وملك آل جفنة من غسان على الشام بتولية آل قيصر كما يأتي في أخبارهم. وقال الطبري: لما كانت اليمن لكسرى بعث إلى سرنديب من الهند قائدا من قواده ركب البحر إليها في جند كثيف فقتل ملكها واستولى عليها وحمل إلى كسرى منها أموالا عظيمة وجواهر. وكان وهزر يبعث العير إلى كسرى بالأموال والطيوب فتمر على طريق البحرين تارة وعلى أرض الحجاز أخرى. وعدا بنو تميم في بعض الأيام على عيره بطريق البحرين فكتب إلى عامله بالانتقام منهم فقتل منهم خلقا كما يأتي في أخبار كسرى. وعدا بنو كنانة على عيره بطريق الحجاز حين مرت بهم وكانت في جوار رجل من أشراف العرب من قيس فكانت حرب الفجار بين قيس وكنانة بسبب ذلك. وشهدها النبي صلى الله عليه وسلم وكان ينبل فيها على أعمامه أي يجمع لهم النبل. قال الطبري: ولما هلك وهزر أمر كسرى من بعده على اليمن ابنه المرزبان ثم هلك فأمر حافده خرخسرو بن التيجان بن المرزبان. ثم سخط إليه وحمل إليه مقيدا ثم أجاره ابن كسرى وخلى سبيله فعزله كسرى وولى باذان فلم يزل إلى أن كانت البعثة وأسلم باذان وفشا الإسلام باليمن كما نذكره عند ذكر الهجرة وأخبار الإسلام باليمن. هذا آخر الخبر عن ملوك التبابعة من اليمن ومن ملك بعدهم من الفرس. وكان عدد ملوكهم فيما قال المسعودي سبعة وثلاثين ملكا في مدة ثلاث آلاف ومائتي سنة إلا عشرا. وقيل أقل من ذلك. فكانوا ينزلون مدينة ظفار قال السهيلي: زمار وظفار اسمان لمدينة واحدة يقال بناها مالك بن أبرهة وهو الأملوك ويسمى مالك وهو ابن ذي المنار وكان على بابها مكتوب بالقلم الأول في حجر أسود: يوم شيدت ظفار فقيل لمن أنت فقالت لخير الأخيار ثم سيلت من بعد ذلك قالت إن ملكي لفارس الأحرار ثم سيلت من بعد ذلك قالت إن ملكي لقريش التجار ثم سيلت من بعد ذلك قالت إن ملكي لخير سنجار وقليلا ما يلبث القوم فيها غير تشييدها لحامي البوار من أسود يلقيهم البحر فيها تشعل النار في أعالي الجدار ولم تزل مدينة ظفار هذه منزلا للملوك وكذلك في الإسلام صدر الدولتين وكانت اليمن من أرفع الولايات عندهم بما كانت منازل العرب العاربة ودار الملوك العظماء من التبابعة والأقيال والعباهلة. ولما انقضى الكلام في أخبار حمير وملوكهم باليمن من العرب استدعى الكلام ذكر معاصريهم من العجم على شرط كتابنا لنستوعب أخبار الخليقة ونميز حال هذا الجيل العربي من جميع جهاته والأمم المشاهير من العجم الذين كانت لهم الدول العظيمة لعهد الطبقة الأولى والثانية من العرب وهم النبط والسريانيون أهل بابل ثم الجرامقة أهل الموصل ثم القبط ثم بنو إسرائيل والفرس ويونان والروم فلنأت الآن بما كان لهم من الملك والدولة وبعض أخبارهم على اختصار. والله ولي العون والتوفيق لا رب غيره ولا مأمول إلا خيره. الخبر عن ملوك بابل من القبط والسريانيين وملوك الموصل ونينوى من الجرامقة قد تقدم لنا أن ملك الأرض بعد نوح عليه السلام كان لكنعان بن كوش بن حام. ثم لابنه النمروذ من بعده. وأنه كان على بدعة الصابئة وأن بني سام كانوا حنفاء ينتحلون التوحيد الذي عليه الكلدانيون من قبلهم. قال ابن سعيد: ومعنى الكلدانيين الموحدين. ووقع ذكر النمروذ في التوراة منسوبا إلى كوش بن حام ولم يقع فيها ذكر لكنعان بن كوش فالله أعلم بذلك. وقال ابن سعيد أيضاً: وخرج عابر بن شالخ ابن أرفخشذ فغلبه وسار من كوثا إلى أرض الجزيرة والموصل فبنى مدينة مجدل هناك وأقام بها إلى أن هلك. وورث أمره ابنه فالغ من بعده وأصاب النمروذ وقومه على عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام ما أصابهم في الصرح وكانت البلبلة وهي المشهورة وقد وقع ذكرها في التوراة ولا أدري معناها. والقول بأن الناس أجمعين كانوا على لغة واحدة فباتوا عليها ثم أصبحوا وقد افترقت لغاتهم قول بعيد في العادة إلا أن يكون من خوارق الأنبياء فهو معجزة حينئذ ولم ينقلوه كذلك. والذي يظهر أنه إشارة إلى التقدير الإلهي في خرق أول العادة وافتراقها وكونها من آياته كما وقع في القرآن الكريم. ولا يعقل في أمر البلبلة غير ذلك. وقال ابن سعيد: سوريان بن نبيط ولاه فالغ على بابل فانتقض عليه وحاربه ولما هلك فالغ قام بأمره بعده ابنه ملكان فغلبه سوريان على الجزيرة وملكها هؤلاء الجرامقة إخوانه في النسب بنو جرموق بن أشوذ بن سام وكانت مواطنهم بالجزيرة. وكان ابن أخت سوريان منهم الموصل بن جرموق فولاه سوريان على الجزيرة وأخرج بني عابر منها ولحق ملكان منها بالجبال فأقام هنالك. ويقال: إن الخضر من عقبه. واستبد الموصل على خاله سوريان بن نبيط ملك بابل وامتازت مملكة الجرامقة من مملكة النبط. وملك بعد الموصل ابنه راتق وكانت له حروب مع النبط وملك من بعده ابنه أثور وبقي ملكها في عقبه وهو مذكور في التوراة. وملك بعده ابنه نينوى وبنى المدينة المقابلة للموصل من عدوة دجلة المعروفة باسمه. ثم كان من عقبه سنجاريف بن أثور بن نينوى بن أثور وهو الذي بنى مدينة سنجار وغزا بني إسرائيل فصلبوه على بيت المقدس. وقال البيهقي: إن الجزيرة ملكها بعد مقتل سنجاريف أخوه ساطرون وهو الذي بنى مدينة الخضر في برية سنجار على نهر الترتار لتولعه بصيد الأسود في غيضاتها. وملك من بعده ابنه زان وكان يدين بالصابئة ويقال: إن يونس بن متى بعث إليه ويونس من الجرامقة من سبط بنيامين بن إسرائيل من ابنه فآمن به زان بن ساطرون بعد الذي قصه القرآن من شأنه معهم. ثم أن بختنصر لما غلب على بابل زحف إليه ودعاه إلى دين الصابئة وشرط له أن يبقيه في ملكه فأجاب. ولم يزل على الجزيرة حتى زحف إليه جيوش من الفرس مع أرتاق فضمن القيام بالمجوسية على أن يبقوه في ملكه وكتب بذلك أرتاق إلى بهمن ليضمن له. فأجابه بأن هذا رجل متلاعب بالأديان فاقتله فقتله أرتاق وانقرض ملكه بعد ألف وثلاثمائة سنة فيما قال البيهقي. وفي أربعين ملكا منهم وصارت الجزيرة لملوك الفرس. والذي عند الإسرائيليين سنجاريف من ملوك نينوى وهم أولاد موصل بن أشوذ بن سام. وأنه كان قبله بالموصل ملوك منهم وهم فول وتلفات وبلناص وأنهم ملكوا بلد الأسباط العشرة وهي شورون المعروفة بالسامرة وأنه غرب الأسباط الذين كانوا فيها إلى نواحي أصبهان وخراسان وأسكن أهل كومة وهي الكوفة في شمورون هذه فسلط الله عليهم السباع يفترسونهم في كل ناحية. فشكوا ذلك إلى سنجاريف وسألوه أن يخبرهم عن بلد شمورون في قسمة أي كوكب هي كي يتوجهوا إليه ويستنزلوا روحانيته على طريق الصابئة فأعرض عن ذلك. وبعث كاهنان إليهم من اليهود فعلموهم دين اليهودية وأخذوا به وهؤلاء عند اليهود هم الشمرة نسبة إلى شمر وهي شمورون. وليس الشمرة عندهم من بني إسرائيل ولا دينهم صحيح في اليهودية. وزحف سنجاريف عندهم إلى بيت المقدس بعد استيلائه على شمورون فحاصرها وداخله العجب بكثرة عساكره. فقال لبني إسرائيل: من الذي خلصه إلهه من يدي حتى يخلصكم إلهكم وفزع ملك بني إسرائيل إلى نبيهم مدليلا وسأله الدعاء فدعا له وأمنه من شر سنجاريف ونزلت بعسكره في بعض لياليهم آفة سماوية فأصبحوا كلهم قتلى. يقال أحصى قتلاهم فكانوا مائة وخمسة وثمانين ألفا ورجع سنجاريف إلى نينوى ثم قتله أولاده في سجوده لمعبوده من الكواكب وولى ابنه أيسرحدون ثم استولى عليهم بعد ذلك بختنصر كما سنذكره في خبره. وأما ملوك بابل فهم النبط بنو نبيط بن أشوذ بن سام. وقال المسعودي: نبيط بن ماش بن إرم وكانوا موطنين بأرض بابل وملك منهم سوريان بن نبيط. وقال المسعودي: هو أحد نبيط بن ماش ملك أرض بابل بولاية من فالغ فلما مات فالغ أظهر بدعة الصابئة وانتحلها بعده أبنه كنعان ويلقب بالنمروذ. وملك بعده ابنه كوش وهو نمروذ إبراهيم عليه السلام وهو الذي لدم أباه آزر فاصطفاه هاجر على بيت الأصنام لأن أرعو بن فالغ لما هلك أبوه فالغ وكان على دين التوحيد الذي دعاه إليه أبوه عابر رجع حينئذ أرعو إلى كوثا ودخل مع النمارذة في دين الصابئة وتوارثها بنوه إلى آزر بن ناحور فاصطفاه هاجر بن كوش وقدمه على بيت الأصنام وولد له إبراهيم عليه السلام. وكان من أمره ما ذكرناه فيما نصه التنزيل ونقله الثقات. ثم توالت ملوك النمارذة ببابل وكان منهم بختنصر على ما ذهب إليه بعضهم. ويقال إن الجرامقة وهم أهل نينوى غلبوا على بابل وملكها سنجاريف منهم. واستعملها فيها بختنصر من ملوكها. ثم انتقض عليه بالجزا والطاعة وغزا بني إسرائيل ببيت المقدس فاقتحمها عليه بعد الحصار وأثخن فيهم بالقتل والأسر وقتل ملكهم وخرب مسجدهم وتجاوزهم إلى مصر فملكها. ولما هلك بختنصر ملك من بعده فيما ذكروه ابنه نشبت نصر. ثم من بعده بنصر وغزاه أرتاق مرزبان كسرى من ملوك الكينية فقتله وملك بابل وأعماله وصار النبط والجرامقة رعية للفرس وانقرضت دوله النمارذة ببابل. هكذا ذكر ابن له سعيد ونقله عن داهر مؤرخ دولة الفرس وجعل السريانيين والنبط أمة واحدة وهما دولة واحدة وأما المسعودي فجعلهما دولتين. وأما السريانيون فقال هم أول ملوك بعد الأرض الطوفان وسمى من ملوكهم تسعة متعاقبين في مائة سنة أو فوقها بأسماء أعجمية لا فائدة في نقلها لقلة الوثوق بالأصول التي بأيدينا من كتبه وكثرة التغيير في الأسماء الأعجمية. نعم ذكر أن شوشان بشينين معجمتين وأنه أول من وضع التاج على رأسه. والرابع منهم أنه الذي كور الكور ومدن المدن وأن ملك الهند لعهده كان اسمه رتبيل وأنه استولى على ملكه واستولى على السريانيين. وأن بعض ملوك المغرب ظاهرهم عليه وانتزع لهم ملكهم من ورعه عليهم. وسمى الثامن منهم ماروت. وأشار في آخر كلامه إلى أنهم كانوا مستولين على بابل وعلى الموصل وأن ملوك اليمن ربما غلبوهم على أمرهم بعض وذكر في التاسع أنه كان غير مستقل بأمره وأن أخاه كان مقاسمه في سلطانه وأن أول من اتخذ الخمر فلان وأول من ملك فلان وأول من لعب بالصقور والشطرنج فلان: مزاعم كلها بعيدة من الصحة. إنما وجهه أن السريانيين لما كانوا أقدم في الخليقة نسب إليهم كل قديم من الأشياء أو طبيعي كالخط واللغة والسحر والله أعلم. وأما النبط فعند المسعودي أنهم من أهل بابل لقوله في ترجمتهم ذكر ملوك بابل والنبط وغيرهم المعروفين بالكدانيين. وذكر أن أولهم نمروذ الجبار ونسبه إلى ماش بن إرم بن سام. وذكر أنه الذي بنى الصرح ببابل واحتفر نهر الكوفة ونسب النمروذ في موضع آخر إلى كوش بن حام لا أدري هو أو غيره. ثم عد ملوكهم بعد النمروذ ستا وأربعين أو نحوها في ألف وأربعمائة من السنين بأسماء أعجمية متعذر ضبطها فتركت نقلها. إلا أنه ذكر في الموفى منهم عدد العشرين وبعد التسعمائة من سنيهم أنه الذي غزت فارس لعهده مدينة بابل. وذكر في الموفى عدد ثلاثة وثلاثين منهم وعند الألف والأربعمائة من سنيهم أنه سنجاريف الذي حارب بني إسرائيل وحاصرهم ببيت المقدس حتى أخذ الجزية منهم. وأن آخر ملوكهم دارينوش وهو دارا الذي قتله الإسكندر لما ملك بابل. هذا ما ذكره المسعودي. ولم يذكر منهم نمروذ الخليل عليه السلام. وذكر أن مدينتهم بابل وأن الذي اختطها اسمه نيز واسم امرأته شمر أم ملوك السريانيين اسمان أعجميان لا وثوق لنا بضبطها. وقال الطبري: نمروذ بن كوش بن كنعان بن حام صاحب إبراهيم الخليل عليه السلام وكان يقال عاد إرم فلما هلكوا قيل ثمود إرم فلما هلكوا قيل نمروذ إرم فلما هلك قيل لسائر ولد إرم إرمان فهم النبط. وكانوا على الإسلام ببابل حتى ملكهم نمروذ فدعاهم إلى عبادة الأوثان فعبدوها. انتهى كلام الطبري. وقال هروشيوش مؤرخ الروم: إنه نمروذ الجسيم وأن بابل كانت مربعة الشكل وكان سورها في دور ثمانين ميلا وارتفاعه مائتا ذراع وعرضه خمسون ذراعا وهو كله مبني بالآجر والرصاص وفيه مائة باب من النحاس وفي أعلاه مساكن الحراس والمقاتلة تبيت على الجانبين في سائر دورة الطريق بينهما. وحول هذا السور خندق بعيد المهوى أجري فيه الماء وأن الفرس هدموه ولما تغلبوا على ملك بابل تولى ذلك منهم جيرش وهو كسرى الأول. انتهى كلام هروشيوش. ويظهر من كلام هؤلاء أن اسم النمروذ سمة من ملك بابل لوقوعه في أهل أنساب مختلفة مرة إلى سام ومرة إلى حام. وزعم بعض المؤرخين أن نمروذ الخليل عليه السلام هو النمروذ بن كنعان بن سنجاريف بن النمروذ الأكبر. وان بختنصر من عقبه وهو ابن برزاد بن سنجاريف بن النمروذ وأن الفرس الكينية غلبوا بختنصر على بابل ثم أبقوه واستعملوه عليها وأن كسرى الأول من بني ساسان خرب مدينة بابل. وعند الإسرائيليين وينقلونه عن كتاب دانيال وأرميا من أنبيائهم وضبط هذا الاسم يرميا: أن بختنصر من عقب كاسد بن حاور وهو أخو إبراهيم الخليل. وبنو كاسد هؤلاء من ملوك بابل ويعرفون بالكسدانيين نسبة إليه. وأن بختنصر منهم ملك أكثر المعمور وغلب على بني إسرائيل وأزال دولتهم وخرب بيت المقدس وانتهى ملكه إلى مصر وما وراءها وكان ملكه خمسا وأربعين. وملك بعده ابنه أوبل مرود ثلاثا وعشرين سنة ومن بعده بلينصر ثلاث سنين. ثم زحف إليه دارا من ملوك الفرس وصهره كورش فحاصروه بمدينة بابل. وقال بعض الإسرئيليين: إن بختنصر وملوك بابل من كسديم وكسديم من عيلام بن سام وهو أخو أشوذ ومن أشوذ ملوك الموصل انتهى الكلام في ملوك الموصل وملوك بابل. وهذا غاية ما أدى إليه البحث من أخبارهم وأنسابهم. وكان من هؤلاء والكلدانيين دين الصابئة وهو عبادة الكواكب واستجلاب روحانيتها. يذكر أنهم كانوا لذلك أهل عناية بأرصاد الكواكب ومعرفة طبائعها وخلاص المولدات وما يشابه ذلك من علوم النجوم والطلسمات والسحر. وأنهم نهجوا ذلك لأهل الربع الغربي من الأرض. وقد يشهد لذلك قراءة من قرأ: " وما أنزل على الملكين " بكسر اللام مشيرا إلى أن هاروت وماروت من ملوك السريانيين وهم أول ملوك بابل وعلى القراءة المشهورة وأنهما من الملائكة فيكون اختصاص هذه الفتنة والابتلاء ببابل من بين أقطار الأرض دليلا على وفور قسطهما من صناعة السحر الذي وقع الابتلاء به ومما شهد لانتحالهم السحر وفنونه من النجوم وغيرها أن هذه العلوم وجدناها من منتحل أهل مصر المجاورين لهم وكان لملوكها عناية شديدة بذلك حتى كان من مباهاتهم موسى بذلك وحضر السحرة له ما كان. وبقايا الآثار السحرية في برابي أخميم من صعيد مصر ما يشهد لذلك أيضاً والله أعلم. |
الخبر عن القبط وأولية ملكهم ودولهم وتصاريف أحوالهم والإلمام بنسبهم هذه الأمة
أقدم أمم العالم وأطولهم أمدا في الملك واختصوا بملك مصر وما إليها ملوكها من لدن الخليقة إلى أن صبحهم الإسلام بها فانتزعها المسلمون من أيديهم. ولعدههم كان الفتح وربما غلب عليهم جميع ما عاصرهم من الأمم حين يستفحل أمرهم مثل العمالقة والفرس والروم واليونان فيستولون على مصر من أيديهم. ثم يتقلص ظلهم فراجع القبط ملكهم هكذا إلى أن انقرضوا في مملكة الإسلام. وكانوا يسمون الفراعنة سمة لملوك مصر في اللغة القديمة. ثم تغيرت اللغة وبقي هذا الاسم مجهول المعنى كما تغيرت الحميرية إلى المضرية والسريانية إلى الرومية. ونسبهم في المشهور إلى حام بن نوح. وعند المسعودي إلى بنصر بن حام. وليس في التوراة ذكر لبنصر بن حام وإنما ذكر مصرايم وكوش وكنعان وقوط. وقال السهيلي: إنهم من ولد كنعان بن حام لأنه لما نسب مصر قال فيه: مصر بن النبيط أو ابن قبط بن النبيط من ولد كوش بن كنعان. وقال أهروشيوش: أن القبط من ولد قبط بن لايق بن مصر. وعند الإسرائليين أنهم من قوط ابن حام وعند بعضهم أنهم من كفتوريم قبطقايين ومعناه القبط. وقال المسعودي: اختص بنصر بن حام أيام النمروذ ابن أخيه كنعان بولاية أرض مصر واستبد بها وأوصى بالملك لابنه مصر فاستفحل ملكه ما بين أسوان واليمن والعريش وأيلية وفرسية فسميت كلها أرض مصر نسبة إليه وفي قبليها النوبة وفي شرقيها الشام وفي شمالها بحر الزقاق وفي غربها برقة والنيل من دونها. وطال عمر مصر وكبر ولده وأوصى بالملك لأكبرهم وهو قبط بن مصر أبو الأقباط فطال أمد ملكه وكان له بنون أربع: قبط بن مصر وأن مصر هو الذي قسم الأرض وعهد إلى أكبرهم بالملك وهو قبط فغلب عليهم فأضيفوا إليه لمكان الملك والسن. وملك بعد قبط بن مصر أشمون بن مصر ثم من بعده صاثم أخوهما أتريب. ثم عد ملوكا بأسماء أعجمية بعيدة عن الضبط لعجمتها وفساد الأصول التي بين أيدينا من كتبته. ثم لما ذكر ستة منهم بعد أتريب قال: فكثر ولد بنصر بن حام وتشاغبوا وملك عليهم النساء فسار إليهم ملك الشام من العمالقة الوليد بن دومع فملكهم وانقادوا إليه. وأما ابن سعيد فيما نقل من كتب المشارقة فقال: ملك مصر ابنه قبط ثم من بعده أخوه أتريب. قال: وفي أيام قبط زحف شداد بن مداد بن شداد بن عاد إلى مصر وغلب على أسافلها ومات قبط في حروبه. ثم جمع أتريب قومه واستظهر بالبربر والسودان على العرب حتى أخرجهم إلى الشام واستبد أتريب بملك مصر وبنى المدينة المنسوبة إليه ومدينة عين شمس وملك بعده ابن أخيه البودشير بن قبط وهو الذي بعث هرمساً المصري إلى جبل القمر حتى ركب جرية النيل من هنالك. وعدل البطيحة الكبرى التي تنصب إليها عيون النيل. وعمر بلاد الواحات وحول إليها جمعا من أهل بيته. ثم ملك من بعده عديم بن البودشير ثم ابنه شدات بن عديم ثم ابنه منذوش بن شدات وجدد مدينة عين شمس وكان لهم في السحر آثار عجيبة. ثم ملك بعده ابنه مقناوش بن مقناوش وعبد البقر وصورها من الذهب. ثم هلك وخلف ابنه مرقيش فغلب عليه عمه أشمون بن قبط وبنى مدينة الأشمون. وملك بعد ابنه أشاد بن أشمون ثم من بعده عمه صا بن قبط وبنى مدينة باسمه. وملك بعده ابنه ندراس وكان حكيماً وهو الذي بنى هيكل الزهرة الذي هدمه بختنصر. وملك بعده ابنه ماليق بن ندراس فرفض الصابئة ودان بالتوحيد ودوخ بلاد البربر والأندلس وحارب الإفرنج. وملك بعده ابنه حربيا بن ماليق فرجع عن التوحيد إلى الصابئة وغزا بلاد الهند والسودان والشام. وملك بعده ابنه كلكي بن حربيا وهو الذي تسميه القبط حكيم الملوك واتخذ هيكل زحل وعهد إلى أخيه ماليا بن حربيا واشتغل باللهو فقتله ابنه خرطيش وكان سفاكا للدماء. والقبط تزعم أنه فرعون الخليل عليه السلام وأنه أول الفراعنة. ولما تعدى بالقتل إلى أقاربه سمته ابنته حوريا وملكت القبط من بعده فنازعها أبراحس من ولد عمها أتريب وحاربته فكان لها الغلب. وانهزم أبراحس إلى الشام فاستظهر بالكنعانين وبعث ملكهم قائده جيرون فلما قرب مصر استقبلته حوريا وأطمعته في زواجها على أن يقتل أبراحس ويبني مدينة الإسكندرية ففعل ثم قتلته آخرا مسموما. واستقام لها الأمر وبنت منارة الإسكندرية وعهده بأمرها لدليقية ابنة عمها باقوم فخرج عليها أيمن من نسل أتريب طالبا بثأر قريبه أبراحس ولحق بملك العمالقة يومئذ وهو الوليد بن دومع الذي ذكرناه عند ذكر العمالقة فاستنصر به وجاء معه وملك ديار مصر. واستبد بالقبط نقراوس فاشتغل باللذات واستكفى من بنيه أطفير وهو العزيز فكفاه وقام بأمره ودبر ليوسف الفيوم بالوحي والهندسة وكانت أرضها مغايض للماء فأخرجه وعمر القرى مكانه على عدد أيام السنة فجعله على خزائنه. وملك بعده دارم بن الريان وسمته القبط ويموص. وكان يوسف مدبر أمره بوصية أبيه. ومات لعهده فأساء السيرة وهلك غريقا في النيل. وملك بعده ابنه معدانوس بن دارم فترهب واستخلف ابنه كاشم فاستعبد بني إسرائيل للقبط وقتله حاجبه ونصب بعده ابنه لاطش فاشتغل باللهو فخلعه ونصب آخر من نسل ندراس اسمه لهوب فتجبر وتذكر القبط أنه فرعون موسى عليه السلام. وأهل الأثر يقولون: إنه الوليد بن مصعب وأنه كان نجارا تقلب حاله إلى عرافة الحرس ثم تطور إلى الوزارة ثم إلى الاستبداد. وهذا بعيد لما قدمناه في الكتاب الأول. وقال المسعودي: بل كان فرعون موسى من الأقباط. ثم هلك فرعون موسى وخشي القبط من ملوك الشام فملكوا عليهم دلوكة من بيت الملك وهي التي بنت الحائط على أرض مصر ويعرف بحائط العجوز لأنها طال عمرها حتى كبرت واتخذت البرابي ومقاييس النيل. ثم سمى المسعودي من بعد دلوكة ثمانية من ملوكهم على ذلك النحو من عجمة الأسماء. وقال في الثامن أنه فرعون الأعرج الذي اعتصم به بنو إسرائيل من بختنصر فدخل عليه مصر وقتله وهدم هياكل الصابئة ووضع بيوت النيران له ولولده. وذكر في تواريخهم قال: قال ابن عبد الحكيم: وهذه العجوز دلوكة هي التي جددت البرابي بمصر أرسلت إلى امرأة ساحرة كانت لعهدها اسمها ترورة وكانت السحرة تعظمها فعملت بربى من حجارة وسط مدينة منف وصورت فيها صور الحيوانات من ناطق وأعجم فلا يقع شيء بتلك الصورة إلا وقع بمثالها في الخارج. وكانت لهم بذلك امتناع ممن يقصدهم من الأمم لأنهم كانوا أعلم الناس بالسحر وأقامت عليهم عشرين سنة حتى بلغ صبي من أبنائهم اسمه دركون بطلوس فملكوه وأقامت معه على ذلك أربعمائة سنة ثم مات فولوا ابنه يرديس بن دركون ومن بعده أخاه يقاس بن نقراس ومن بعده مرينا بن مرينوس ثم ابنه استمارس بن مرينا فطغى عليهم وخلعوه وقتلوه. وولوا عليهم من أشرافهم بلوطيس بن مناكيل أربعين سنة ثم استخلف مالوس بن بلوطيس ومات فاستخلف أخاه مناكيل بن بلوطيس ثم توفي فاستخلف ابنه بركة بن مناكيل فملكهم مائة وعشرين سنة. وهو فرعون الأعرج الذي سبى أهل بيت المقدس. ويقال أنه خلع. وقال ابن عبد الحكم: وولي من بعده ابنه مرينوس بن بركة فاستخلف ابنه فرقون بن مرينوس فملكهم ستين سنة ثم هلك واستخلف أخاه نقاس بن مرينوس. وكانت البراري كلها إذا فسد منها شيء لا يصلحه إلا رجل من ذرية تلك العجوز الساحرة التي وضعتها. ثم انقطعت ذريتها ففسدت البرابي أيام نقاس هذا وتجاسر الناس على طلب الملك الذي في أيديهم وهلك نقاس واستخلف ابنه قومس بن نقاس فملكهم دهرا ثم ملك بختنصر بيت المقدس واستلحم بني إسرائيل وفرقهم وقتل وخرب ولحقوا بمصر فأجارهم قومس ملكها وبعث فيهم بختنصر فمنعهم وزحف إليه وغلب عليه فقتله وخرب مدينة منف. وبقيت مصر أربعين سنة خرابا. وسكنها أرميا مدة ثم بعث إليه بختنصر فلحق به ثم رد أهل مصر إلى موضعهم. وأقاموا كذلك ما شاء الله إلى أن غلب الفرس والروم على الأمم وقاتل أهل مصر إلى أن وضعوا عليهم الجزى ثم تقاسمها فارس والروم. ثم تداولوا ملكها فتوالت عليها نواب الفرس ثم ملكها الإسكندر اليوناني وجدد الإسكندرية والآثار التي خارجها مثل عمود السواري ورواق الحكمة. ثم غلب الروم على مصر والشام وأبقوا القبط في ملكها وصرفوهم في الولاية بمصر إلى أن جاء الله بالإسلام وصاحب القبط بمصر والإسكندرين المقوقس واسمه جريج بن مينا فيما نقله السهيلي فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب ابن أبي بلتعة وجبر مولى أبي رهم الغفاري فقارب الإسلام وأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته المعروفة ذكرها أهل السير كان فيها البغلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركبها وتسمى دلدل والحمار الذي يسمى يعفور ومارية القبطية أم ولده إبراهيم وأمها وأختها سيرين وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن وقدح من قوارير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب فيه وعسل استظرفه له من بنها إحدى قرى مصر معروفة بالعسل الطيب. ويقال: إن هرقل لما بلغه شأن هذه الهدية اتهمه بالميل إلى الإسلام فعزله عن رياسة القبط. وخرّج مسلم في صحيحه من رواية أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا افتتحتم مصر أو إنكم مستفتحون مصر فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورجما أو صهرا. ورواه ابن إسحق عن الزهرقي وقال: قلت للزهري ما الرحم التي ذكر قال كانت هاجر أم إسماعيل منهم. ولبعض رواة الحديث في تفسير الصهر أن مارية أم إبراهيم منهم أهداها له المقوقس وكانت من كورة حفن من عمل أنصناء. وقال الطبري: إن عمرو بن العاص لما ملك مصر أخبرهم بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بهم فقال هذا نسب لا يحفظ حقه إلا نبي لأنه نسب بعيد. وذكروا له أن هاجر كانت امرأة لملك من ملوكنا ووقعت بيننا وبين أهل عين شمس حروب كانت لهم في بعضها دولة فقتلوا الملك وسبوها. ومن هنالك تسيرت إلى أبيكم إبراهيم ولما كمل فتح مصر والإسكندرية وارتحل الروم إلى القسطنطينية أقام المقوقس والقبط على الصلح الذي عقده لهم عمرو بن العاص وعلى الجزى وأبقوه على رياسة قومه وكانوا يشاورونه فيما ينزل من المهمات إلى أن هلك. وكان ينزل الإسكندرية وفي بعض الأوقات ينزل منف من أعمال مصر. واختط عمرو بن العاص الفسطاط بموضع خيامة التي كان يحاصر منها مصر. فنزل بها المسلمون وهجروا المدينة التي كان بها المقوقس إلى أن خربت. وكان في خرابها ومهلك المقوقس انقراض أمرهم. وبقي أعقابهم إلى هذا الزمان يستعملهم أهل الدول الإسلامية في حسابات الخراج وجبايات الأموال لقيامهم عليها وغنائهم فيها وكفايتهم في ضبطها وتنميتها. وقد يهاجر بعضهم إلى الإسلام فترتفع رتبتهم عند السلطان في الوظائف المالية التي أعلاها في الديار المصرية رتبة الوزارة فيقلدونهم إياها ليحصل لهم بذلك قرب من السلطان وحظ عظيم في الدولة وبسطة يد في الجاه تعددت منهم في ذلك رجال وتعينت لهم بيوت قصر السلطان نظره على الاختيار منها لهذا العهد. وعامتهم يقيم على دين النصرانية الذين كانوا عليها لهذا العهد وأكثرهم بنواحي الصعيد وسائر الأعمال متحرفون بالفلح والله غالب على أمره. وأما إقليم مصر فكان في أيام القبط والفراعنة جسورا كله بتقدير وتدبير يحبسونه ويرسلونه كيف شاؤوا والجنات حفاف النيل من أعلاه إلى أسفله ما بين أسوان ورشيد. وكانت مدينة منف وعين شمس يجري الماء تحت منازلها وأفنيتها بتقدير معلوم. ذكر ذلك كله عبد الرحمن بن شماسة وهو من خيار التابعين يرويه عن أشياخ مصر. قالوا: ومدينة عين شمس كانت هيكل الشمس وكان فيها من الأبنية والأعمدة والملاعب ما ليس في بلد. قلت: وفي مكانها لهذا العهد ضيعة متصلة بالقاهرة يسكنها نصارى من القبط وتسمى المطرية. قالوا: ومدينة منف مدينة الملوك قبل الفراعنة وبعدهم إلى أن خربها بختنصر كما تقدم في دولة قومس بن نقاس. وكان فرعون ينزل مدينة منف وكان لها سبعون بابا وبنى حيطانها بالحديد والصفر. وكانت أربعة أنهار تجري تحت سريره. زكره أبو القاسم بن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك. قال: وكان طولها اثني عشر جميلا وكانت جباية مصر تسعين ألف ألف دينار مكرره مرتين بالدينار الفرعوني وهو ثلاثة مثاقيل. وإنما سميت مصر بمصر بن بيصر بن حام. ويقال إنه كان مع نوح في السفينة فدعا له فأسكنه الله هذه الأرض الطيبة وجعل البركة في ولده. وحدها طولا من برقة إلى أيلة وعرضا من أسوان إلى رشيد وكان أهلها صابئة. ثم حملهم الروم لما ملكوها بعد قسطنطين على النصرانية عندما حملوا على الأمم المجاورة لهم من الجلالقة والصقالبة وبرجان والروس والقبط والحبشة والنوبة. فدانوا كلهم بذلك ورجعوا عن دين الصابئة في تعظيم الهياكل وعبادة الأوثان. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. |
الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم علي الأرض المقدسة بالشام
وكيف تجددت دولتهم بعد الانقراض وما اكتنف ذلك من الأحوال قد ذكرنا عند ذكر إبراهيم وبنيه صلوات الله وسلامه عليهم ما كان من شأن يعقوب بن إسحق واستقراره بمصر مع بنيه الأسباط وفي التوراة أن الله سماه إسرائيل. وإيل عندهم كلمة مرادفة لعبد وما قبلها من أسماء الله عز وجل وصفاته والمضاف أبدا متأخر في لسان العجم. فلذلك كان إيل هو آخر الكلمة وهو المضاف. ثم قبض الله نبيه يعقوب بمصر لمائة وسبع وثمانين سنة من عمره وأوصى أن يدفن عند أبيه فطلب يوسف من فرعون أن يطلقه لذلك فأذن له وأمر أهل دولته بالانطلاق معه فانطلقوا وحملوه إلى فلسطين فدفنوه بمقبرة آبائه وهي التي اشتراها إبراهيم من الكنعانيين. ورجع يوسف إلى مصر وأقام بها إلى أن توفي لمائة وعشرين سنة من عمره ودفن بمصر وأوصى أن يحملوا شلوه معهم إذا خرجوا إلى أرض الميعاد وهي الأرض المقدسة. وأقام الأسباط بمصر وتناسلوا وكثروا حتى ارتاب القبط بكثرتهم واستعبدوهم. وفي التوراة أن ملكا من الفراعنة جاء بعد يوسف لم يعرف شأنه ولا مقامه في دولة آبائه فاسترق بني إسرائيل واستعبدهم. ثم تحدث الكهان من أهل دولتهم بأن نبوة تظهر في بني إسرائيل وأن ملكك كائن لهم مع ما كان معلوما من بشارة آبائهم لهم بالملك. فعمد الفراعنة إلى قطع نسلهم بذبح الذكور من ذريتهم. فلم يزالوا على ذلك مدة من الزمان حتى ولد موسى. وهو موسى بن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب وأمه يوحانذ بنت لاوى عمة عمران. وكان قاهث بن لاوى من القادمين إلى مصر مع يعقوب عليه السلام وولد عمران بمصر وولد هارون لثلاث وسبعين من عمره وموسى لثمانين فجعلته أمه في تابوت وألقته في ضحضاح اليم وأرصدت أخته على بعد لتنظر من يلتقطه فتعرفه. فجاءت ابنة فرعون إلى البحر مع جواريها فرأته واستخرجته من التابوت فرحمته. وقالت هذا من العبرانيين فمن لنا بظئر ترضعه فقالت لها أخته أنا آتيكم بها! وجاءت بأمه فاسترضعتها له ابنة فرعون إلى أن فصل فأتت به إلى ابنة فرعون وسمته موسى وأسلمته لها. ونشأ عندها ثم شب وخرج يوما يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربي والرضاع فهم لذلك أخواله. فرأى عبرانيا يضربه مصري فقتل المصري الذي ضربه ودفنه. وخرج يوما آخر فإذا هو برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر فزجره فقال له: ومن جعل لك هذا أتريد أن تقتلني كما قتلت الآخر بالأمس ونمي الخبر إلى فرعون فطلبه وهرب موسى إلى أرض مدين عند عقبة أيلة وبنو مدين أمة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام كانوا ساكنين هناك. وكان ذلك لأربعين سنة من عمره فلقي عند مائهم بنتين لعظيم من عظمائهم فسقى لهما وجاءتا به فزوجه بإحداهما كما نوفل بن عيقا بن مدين وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الطبري: الذي استأجر موسى وزوجه بنته رعويل وهو بيتر حبر مدين أي عالمهم وأن رعويل هو الذي زوجه البنت وأن اسمه يبتر. وعن الحسن البصري أنه شعيب رئيس بني مدين. وقيل إنه ابن أخي شعيب وقيل ابن عمه. فأقام عند شعيب صهره مقبلا على عبادة ربه إلى أن جاءه الوحي وهو ابن ثمانين سنة. وأوحى إلى أخيه هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة. فأوحى الله إليهما بأن يأتيا فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذانهم من مملكة القبط وجور الفراعنة ويخرجون إلى الأرض المقدسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فخرجا إليه وبلغا بني إسرائيل الرسالة فآمنوا به واشبعوه. ثم حضرا إلى فرعون وبلغاه أمر الله له بأن يبعث معهما بني إسرائيل وأراه موسى عليه السلام معجزة العصا فكان من تكذيبه وامتناعه وإحضار السحرة لما رأى من موسى في معجزته ثم إسلامهم ما نصه القرآن العظيم. ثم تمادى فرعون في تكذيبه ومناصبته واشتد جوره على بني إسرائيل واستعبادهم واتخاذهم سخرياً في مهنة الأعمال. فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشرة واحدة بعد أخرى يسالمهم عند وقوعها ويتضرع إلى موسى في الدعاء بانجلائها إلى أن أوحى الله إلى موسى بخروج بني ففي التوراة أنهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم إن كان كفايتهم أو يشتركون مع جيرانهم إن كان أكثر وأن ينضحوا دمه على أبوابهم لتكون علامة وأن يأكلوه سواء برأسه وأطرافه ومعناه لا يكسرون له عظما ولا يدعون شيئا خارج البيوت وليكن خبزهم فطيرا ذلك اليوم وسبعة أيام بعده. وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل الربيع وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة وخفافهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم ويخرجوا ليلا وما فضل من عشائهم ذلك يحرقوه بالنار. وشرع هذا عيدا لهم ولأعقابهم ويسمى عيد الفصح. وفي التوراة أيضاً أنه قتل في تلك الليلة أبكار النساء من القبط ودوابهم ومواشيهم ليكون لهم بذلك ثقل عن بني إسرائيل. وأنهم أمروا أن يستعير منهم حليا كثيرا يخرجون به فاستعاروه وخرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام وكانوا ستمائة ألف أو يزيدون وشغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم. وأخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام استخرجه موسى صلوات الله عليه من المدفن الذي كان به بإلهام من الله تعالى. وساروا لوجههم حتى انتهوا إلى ساحل البحر بجانب الطور. وأدركهم فرعون وجنوده وأمر موسى بأن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه فضربه فانفلق طرقا. وسار فيه بنو إسرائيل وفرعون وجنوده في اتباعه ونزل بنو إسرائيل بجانب الطور وسبحوا مع موسى بالتسبيح المنقول عندهم وهو: نسبح الرب البهي الذي قهر الجنود ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود إلى آخره. وقالوا: وكانت مريم أخت موسى وهارون صلوات الله عليهما تأخذ الدف بيدها ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف والطبول وهي ترتل لهن التسبيح سبحان الرب القهار الذي قهر الخيول وركبانها ألقاها في البحر وهو المعنى الأول. ثم كانت المناجاة على جبل الطور وكلام الله لموسى والمعجزات المتتالية ونزول الألواح. ويزعم بنو إسرائيل أنها كانت لوحين فيها الكلمات العشر وهي: كلمة التوحيد والمحافظة على السبت بترك الأعمال فيه وبر الوالدين ليطول العمر والنهي عن القتل والزنا والسرقة وشهادة الزور ولا تمتد عين إلى بيت صاحبه أو امرأته أو لشيء من متاعه. هذه الكلمات العشرة التي تضمنتها الألواح. وكان سبب نزول الألواح أن بنى إسرائيل لما نجوا ونزلوا حول طور سيناء صعد موسى إلى الجبل فكلمه ربه وأمره أن يذكر بني إسرائيل بالنعمة عليهم في نجاتهم من فرعون وأن يتطهروا ويغسلوا ثيابهم ثلاثة أيام ويجتمعوا في اليوم الثالث حول الجبل من بعد ففعلوا. وظلت الجبل غمامة عظيمة ذات بروق ورعود ففزعوا وقاموا في سفح الجبل دهشين. ثم غشى الجبل دخان في وسطه عمود نور تزلزل له الجبل زلزلة عظيمة شديدة واشتد صوت الرعد الذي كانوا يسمعونه. وأمر موسى صلوات الله عليه بأن يقرب بني إسرائيل لسماع الوصايا والتكاليف قال فلم يطيقوا فأمر بحضور هارون وتكون العلماء غير بعيدة ففعل وجاءهم بالألواح. ثم سار بعد ذلك إلى ميعاد الله بعد أربعين ليلة. فكلمه ربه وسأله الرؤية فمنعها فكان الصعق وساخ الجبل وتلقى كثيرا من أحكام التوراة في المواعظ والتحليل والتحريم. وكان حين سار إلى الميعاد استخلف أخاه هارون على بني إسرائيل واستبطأوا موسى وكان هارون قد أخبرهم بأن الحلي الذي أخذوه للقبط محرم عليهم. فأرادوا حرقه وأوقدوا عليه النار. وجاء السامري في شيعة له من بني إسرائيل وألقى عليه شيئا كان عنده من أثر الرسول فصار عجلا وقيل عجلا حيوانا. وعبده بنو إسرائيل وسكت عنهم هارون خوفا من افتراقهم. وجاء موسى صلوات الله عليه من المناجاة وقد أخبر بذلك في مناجاته. فلما رآهم على ذلك ألقى الألواح ويقال كسرها وأبدل غيرها من الحجارة. وعند بني إسرائيل أنهما اثنان. وظاهر القرآن أنها أكثر مع أنه لا يبعد استعمال الجمع في الاثنين. ثم أخذ برأس أخيه ووبخه واعتذر له بما اعتذر ثم حرق العجل وقيل برده بالمبرد وألقاه في البحر. وكان موسى صلوات الله عليه لما نجا ببني إسرائيل إلى الطور بلغ خبره إلى بيثر صهره من بني مدين فجاء ومعه بنته صفورا زوجة موسى عليه السلام التي زوجها بها أبوها رعويل كما تقدم. ومعها ابناها من موسى وهما جرشون وعازر. فتلقاها موسى صلوات الله عليه بالبر والكرامة وعظمه بنو إسرائيل ورأى كثرة الخصومات على موسى فأشار عليه بأن يتخذ النقباء على كل مائة أوخمسين أو عشرة فيفصلوا بين الناس وتفصل أنت فيما أهم وأشكل ففعل ذلك. ثم أمر الله ببناء قبة للعبادة والوحي من خشب الشمشاد ويقال هو السنط وجلود الأنعام وشعر الأغنام. وأمر بتزيينها بالحرير والمصبغ والذهب والفضة على أركانها. صور منها صور الملائكة الكروبيين على كيفيات مفصلة في التوراة في ذلك كله ولها عشر سرادقات مقدرة الطول والعرض وأربعة أبواب وأطناب من حرير منقوش مصبغ وفيها دفوف وصفائح من ذهب وفضة. وفي كل زاوية بابان وأبواب وستور من حرير وغير ذلك مما هو مشروح في التوراة. وبعمل تابوت من خشب الشمشاد طول ذراعين ونصف في عرض ذراعين في ارتفاع ذراع ونصف مصفحا بالذهب الخالص من داخل وخارج. وله أربع حلق في أربع زوايا وعلى حافته كروبيان من ذهب يعنون مثالي ملكين بأجنحة ويكونان متقابلين. وأن يصنع ذلك كله فلان شخص معروف في بني إسرائيل. وأن يعمل مائدة من خشب الشمشاد طول ذراعين في عرض ذراع ونصف بطناب ذهب وإكليل ذهب بحافة مرتفعة بإكليل ذهب وأربع حلق ذهب في أربع نواحيها مغروزة في مثل الرمانة من خشب ملبس ذهبا وصحافا ومصافي وقصاعا على المائدة كلها من ذهب. وأن يعمل منارة من ذهب بست قصبات من كل جانب ثلاث. وعلى كل قصبة ثلاث سرج وليكن في المنارة أربعة قناديل ولتكن هي وجميع آلاتها من قنطار من ذهب وأن يعمل مذبحا للقربان. ووصف ذلك كله في التوراة بأتم وصف ونصبت هذه القبلة أول يوم من فصل الربيع ونصب فيها تابوت الشهادة وتضمن هذا الفصل في التوراة من الأحكام والشرائع في القربان والنحور وأحوال هذه القبة كثيرا. وفيها أن قبة القربان كانت موجودة قبل عبادة أهل العجل وأنها كانت كالكعبة يصلون إليها وفيها ويتقربون عندها وأن أحوال القربان كانت كلها راجعة إلى هارون عليه السلام بعهد الله إلى موسى بذلك وأن موسى صلوات الله عليه كان إذا دخلها يقفون حولها وينزل عمود الغمام على بابها فيخرون عند ذلك سجدا لله عز وجل. ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام الذي هو نور ويخاطبه ويناجيه وينهاه وهو واقف عند التابوت صامد لما بين ذينك الكروبيين. فإذا فصل الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه إليه من الأوامر والنواهي. وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه بشيء يجيء إلى قبة القربان ويقف عند التابوت ويصمد لما بين ذينك الكروبيين فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك ولما نجا بنو إسرائيل ودخلوا البرية عند سينا أول المصيف لثلاثة أشهر من خروجهم من مصر وواجهوا جبال الشام وبلاد بيت المقدس التي وعدوا بها أن تكون ملكا لهم على لسان إبراهيم وإسحق ويعقوب صلوات الله عليهم بمسيرهم إليها وأتوه بإحصاء بني إسرائيل من يطيق حمل السلاح منهم من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون وضرب عليهم الغزو ورتب المصاف والميمنة والميسرة وعين مكان كل سبط في التعبية وجعل فيه التابوت والمذبح في القلب وعين لخدمتها بني لاوى من أسباطهم وأسقط عنهم القتال لخدمة القبة وسار على التعبية سالكا على برية فاران وبعثوا منهم اثني عشر نقيبا من جميع الأسباط فأتوهم بالخبر عن الجبارين. كان منهم كالب بن يوفنا بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن يعقوب ويوشع بن نون بن أليشامع بن عميهون بن بارص بن لعدان بن تاحن بن تالح بن أراشف بن رافح بن بريعا بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب. فاستطابوا البلاد واستعظموا العدو من الكنعانيين والعمالقة ورجعوا إلى قومهم يخبرونهم الخبر وخذلوهم إلا يوشع وكالب فقالا لهم ما قالا: وهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما. وخامر بنو إسرائيل عن اللقا وأبوا من السير إلى عدوهم والأرض التي ملكهم الله إلى أن يهلك الله عدوهم على غير أيديهم. فسخط الله ذلك منهم وعاقبهم بأن لا يدخل الأرض فأقاموا كذلك أربعين سنة في برية سينا وفاران يترددون حوالي جبال السراة وأرض ساعير وأرض بلاد الكرك والشوبك. وموسى صلوات الله عليه بين ظهرانيهم يسأل الله لطفه بهم ومغفرته ويدفع عنهم مهالك سخطه وشكوا الجوع. فبعث الله لهم المن حبات بيض منتشرة على الأرض مثل ذرير الكزبرة فكانوا يطحنونه ويتخذون منه الخبز كلهم. ثم قرموا إلى اللحم فبعث لهم السلوى طيرا يخرج من البحر وهو طير السماني فيأكلون منه ويدخرون. ثم طلبوا الماء فأمر أن يضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. وأقاموا على ذلك ثم ارتاب واحد منهم اسمه فودح بن إيصهر بن قاهث وهو ابن عم موسى بن عمران بن قاهث. فارتاب هو وجماعة منهم من بني إسرائيل بشأن موسى واعتمدوا مناصبته فأصابتهم قارعة وخسفت بهم وبه الأرض وأصبحو عبرة للمعتبرين. واعتزم بنو إسرائيل على الاستقالة مما فعلوه والزحف إلى العدو ونهاهم موسى عن ذلك فلم ينتهوا وصعدوا جبل العمالقة فحاربهم أهل ذلك الجبل فهزموهم وقاتلوهم في كل وجه. فأمسكوا وأقام موسى على الاستغفار لهم فأرسل إلى ملك أدوم يطلب الجواز عليه إلى الأرض المقدسة فمنعهم وحال دون ذلك. ثم قبض هارون صلوات الله عليه لمائة وثلاثة وعشرين سنة من عمره ولأربعين سنة من يوم خروجهم من مصر وحزن له بنو إسرائيل لأنه كان شديد الشفقة عليهم وقام بأمره الذي كان يقوم به ابنه العيزار. ثم زحف بنو إسرائيل إلى بعض ملوك كنعان فهزموهم وقتلوهم وغنموا ما أصابوا منهم وبعثوا إلى سيحون ملك العموريين من كنعان في الجواز في أرضه إلى الأرض المقدسة فمنعهم وجمع قومه وغزا بني إسرائيل في البرية فحاربوه وهزموه وملكوا بلاده إلى حد بني عمون ونزلوا مدينته وكانت لبني مؤاب. وتغلب عليها سيحون. ثم قاتلوا عوجا وقومه من كنعان وهو المشهور بعوج بن عوق وكان شديد البأس فهزموه وقاتلوه وبنيه وأثخنوا في أرضه. وورثوا أرضهم إلى الأردن بناحية أريحا وخشي ملك بني مؤاب من بني إسرائيل واستجاش بمن يجاوره من بني مدين وجمعهم ثم أرسل إلى بلعام بن باعورا وكان ينزل في التخم بين بلاد بني عمون وبني مؤاب. وكان مجاب الدعوة معبرا للأحلام. واستدعاه ليستعين بدعائه وأتاه الوحي بالنهي عن الدعاء وألح عليه ذلك الملك وأصعده إلى الأماكن الشاهقة وأراه معسكر بني إسرائيل منها فدعا لهم وأنطقه الله بظهورهم وأنهم يملكون إلى الموصل. ثم تخرج أمة من أرض الروم فيغلبون عليهم فغضب الملك وانصرف بلعام إلى بلاده. وفشا في بني إسرائيل الزنا ببنات مؤاب ومدين فأصابهم الموتان فهلك منهم أربعة وعشرون ألفا. ودخل فنحاص بن لعزرا على رجل من بني إسرائيل في خيمته ومعه امرأة من بني مدين قد أدخلها للزنا بمرأى من بني إسرائيل فطعنها برمحه وانتظمها وارتفع الموتان عن بني إسرائيل. ثم أمر الله موسى والعازر بن هارون بإحصاء بني إسرائيل بعد فناء الجيل الذي أحصاهم موسى وهارون ببرية سينا وانقضاء الأربعين سنة التي حرم الله عليهم فيها دخول تلك الأرض. وأن يبعث بعثا من بني إسرائيل إلى مدين الذي أعانوا بني مؤاب. فبعث اثني عشر ألفا من بني إسرائيل وعليهم فنحاص بن ألعيزز بن العزر بن هارون. فحاربوا بني مدين وقتلوا ملوكهم وسبوا نساءهم وملكوا أموالهم وقسم ذلك في بني إسرائيل بعد أن أخذ منه لله وكان فيمن قتل بلعام بن باعورا. ثم قسم الأرض التي ملك من بني مدين والعموريين وبني عمون وبني مؤاب. ثم ارتحل بنو إسرائيل ونزلوا شاطىء الأردن. وقال الله قد ملكتكم ما بين الأردن والفرات كما وعدت آباءكم ونهوا عن قتال عيصو الساكنين ساعير وبني عمون وعن أرضهم. وأكمل الله الشريعة والأحكام والوصايا لموسى عليه السلام وقبضه إليه لمائة وعشرين سنة من عمره بعد أن عهد إلى فتاه يوشع أن يدخل ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة ليسكنوها ويعملوا بالشريعة التي فرضت عليهم فيها ودفن بالوادي في أرض مؤاب ولم يعرف قبره لهذا العهد. وقال الطبري مدة عمر موسى صلوات الله عليه مائة وعشرون سنة منها في أيام أفريدون عشرون ومنها في أيام منوجهر مائة. قال: ثم سار يوشع من بعد موسى إلى أريحا فهزم الجبارين ودخلها عليهم. وقال السدي: إن يوشع تنبأ بعد موسى وسار إلى أريحا فهزم الجبارين ودخلها عليهم وأن بلعام بن باعور كان مع الجبارين يدعو على يوشع فلم يستجب له. وصرف دعاؤه على الجبارين. وكان بلعام من قرى البلقاء وكان عنده الأسم الأعظم. فطلبه الكنعانيون في الدعاء على بني إسرائيل فامتنع وألحوا عليه فأجاب ودعا فصرف دعاؤه وكان قيامه للدعاء على جبل حسان مطلا على عسكر بني إسرائيل. هذا خبر السدي في أن دعاء بلعام كان لعهد يوشع والذي في التوراة أنه كان لعهد موسى وأن بلعام قتل لعهد موسى كما مر في خبر الطبري. وقال السدي: إن يوشع بعد وفاة موسى صلوات الله عليه أمر أن يعبر فسار ومعه التابوت تابوت الميثاق حتى عبر الأردن وقاتل الكنعانيين فهزمهم وأن الشمس جنحت للغروب يوم قتالهم ودعا الله يوشع فوقفت الشمس حتى تمت عليهم الهزيمة. ثم نازل أريحا ستة أشهر وفي السابع نفخوا في القرون وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة فاستباحوها وأحرقوها وكمل الفتح واقتسموا بلاد الكنعانيين كما أمرهم الله. هذا مساق الخبر عن سيرة موسى صلوات الله عليه وبني إسرائيل أيام حياته وبعد مماته حتى ملكوا أريحا. وفي كتب الإخباريين: أن العمالقة الذين كانوا بالشام قاتلهم يوشع فهزمهم وقتل آخر ملوكهم وهو السميدع بن هوبر بن مالك وكان لقاؤهم إياه مع بني مدين في أرضهم وفي ذلك يقول عوف بن سعد الجرهمي: ألم تر أن العلقمي بن هوبر بأيلة أمسى لحمه قد تمزعا ترامت عليه من يهود جحافل ثمانون ألفا حاسرين ودرعا ذكره المسعودي وقد تقدم لنا خلاف النسابة في هؤلاء العمالقة وأنهم لعمليق بن لاوذ أو لعمالق بن أليفاز بن عيصو الثاني لنسابة بني إسرائيل سار إليه علماء العرب. أما الأمم الذين كانوا بالشام لذلك العهد فأكثرهم لبني كنعان وقد تقدمت شعوبهم وبنو أروم أبناء عمون وبنو مؤاب أبناء لوط وثلاثتهم أهل يسعير وجبال الشراة وهي بلاد الكرك والشوبك والبلقا ثم بنو فلسطين من بني حام. ويسمى ملكهم جالوت وهو من الكنعانيين منهم. ثم بنو مدين ثم العمالقة. ولم يؤذن لبني إسرائيل في غير بلاد الكنعانيين فهي التي اقتسموها وملكوها وصارت لهم تراثا. وأما غيرهم فلم يكن لهم فيها إلا الطاعة والمغارم الشرعية من صدقة وغيرها. وفي كتب الإخباريين أن بني إسرائيل بعد ملكهم الشام بعثوا بعوثهم إلى الحجاز وهنالك يومئذ أمة من العمالقة يسمون جاسم وكان اسم ملكهم الإرم بن الأرقم وكان أوصاهم أن لا يستبقوا منهم من بلغ الحلم. فلما ظهروا على العمالقة وقتلوا الأرقم استبقوا ابنه وضنوا به عن القتل لوضاءته. ولما رجعوا من بعد الفتح وبخهم إخوانهم ومنعوهم دخول الشام وأرجعوهم إلى الحجاز وما تملكوا من أرض يثرب فنزلوها واستتم لهم فتح في نواحيها. ومن بقاياهم يهود خيبر وقريظة والنضير. قال ابن إسحق: قريظة والنضير والتحام وعمرو هو هزل من الخزرج. وقال ابن الصريح بن التومان بن السبط بن إليسع بن سعد بن لاوى بن النمام بن يتحوم بن عازر بن عزر بن هارون عليه السلام. واليهود لا يعرفون هذه القصة وبعضهم يقول كان ذلك لعهد طالوت والله أعلم. |
الخبر عن حكام بني إسرائيل بعد يوشع إلى أن صار أمرهم إلى الملك وملك عليهم طالوت
ولما قبض يوشع صلوات الله عليه بعد استكمال الفتح وتمهيد الأمر ضيع بنو إسرائيل الشريعة وما أوصاهم به وحذرهم من خلافه فاستطالت عليهم الأمم الذين كانوا بالشام وطمعوا فيهم من كل ناحية. وكان أمرهم شورى فيختارون للحكم في عامتهم من شاؤوا ويدفعون للحرب من يقوم بها من أسباطهم ولهم الخيار مع ذلك على من يلي شيئاً من أمرهم. وتارة يكون نبيا يدبرهم بالوحي. وأقاموا على ذلك نحوا من ثلثمائة سنة لم يكن لهم فيها ملك مستفحل والملوك تناوشهم من كل جهة إلى أن طلبوا من نبيهم شمويل أن يبعث عليهم ملكا فكان طالوت ومن بعده داود فاستفحل ملكهم يومئذ وقهروا أعداءهم على ما يأتي ذكره بعد. وتسمى هذه المدة بين يوشع وطالوت مدة الحكام ومدة الشيوخ. وأنا الآن أذكر من كان فيها من الحكام على التتابع معتمدا على الصحيح منه على ما وقع في كتاب الطبري والمسعودي ومقابلا به ما نقله صاحب حماة من بني أيوب في تاريخه عن سفر الحكام والملوك من الإسرائيليات وما نقله أيضاً هروشيوش مؤرخ الروم في كتابه الذي ترجمه للحكم المستنصر من بني أمية قاضي النصارى وترجمانهم بقرطبة وقاسم بن أصبغ. قالوا كلهم: لما فتح يوشع مدينة أريحا سار إلى نابلس فملكها ودفن هنالك شلو يوسف عليه السلام وكانوا حملوه معهم عند خروجهم من مصر. وقد ذكرنا أنه كان أوصى بذلك عند موته. وقال الطبري: أنه بعد فتح أريحا نهض إلى بلد عاي من ملوك كنعان فقتل الملك وأحرق المدينة وتلقاه خيقون ملك عمان وبارق ملك أورشليم بالجزى واستذموا بأمانه فأمنهم وزحف إلى خيقون ملك الأرمانيين من نواحي دمشق فاستنجد بيوشع فهزم يوشع ملك الأرمن إلى حوران واستلحمهم وصلب ملوكهم وتتبع سائر الملوك بالشام فاستباح منهم واحدا وثلاثين ملكا وملك قيسارية وقسم الأرض التي ملكها بين بني إسرائيل. وأعطى جبل المقدس لكالب بن يوفنا فسكن مدينة أورشليم وأقام مع بني يهودا ووضع القبة التي فيها تابوت العهد والمذبح والمائدة والمنارة على الصخرة التي في بيت المقدس. وأما بنو أفرايم فكانوا يأخذون الجزية من الكنعانيين. ثم قبض يوشع في سفر الحكام أنه قبض لثمان وعشرين سنة من ملكه وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقال الطبري: ابن مائة وستة وعشرين سنة. والأول أصح. قال: وكان تدبير يوشع لبني إسرائيل في زمن منوشهر عشرين سنة وفي زمن أفراسياب سبع سنين. وقال أيضاً أن ملك اليمن شمر بن الأملوك من حمير كان لعهد موسى وبني ظفار وأخرج منها العمالقة. ويقال أيضاً كان من عمال الفرس على المين. وزعم هشام بن محمد الكلبي أن الفل من الكنعانيين بعد يوشع احتملهم أفريقش بن قيس بن صيفي من سواحل الشام في غزاته إلى المغرب التي قتل فيها جرجيس الملك وأنه أنزلهم بأفريقية فمنهم البربر وترك معهم صنهاجة وكتامة من قبائل حمير انتهى. وقام بأمر بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوفنا بن حصرون بن بارص بن يهودا وقد مر نسبه وكان فنحاص بن ألعيزر بن هارون كوهنا يتولى أمر صلاتهم وقربانهم. ثم تنبئأ وتنبأ أبوه ألعيزر وكان كالب مضعفا فأقاما كذلك سبع عشرة سنة. وقال الطبري كان مع كالب في تدبيرهم حزقيل بن يودي ويقال له ولد العجوز لأنه ولد وحدث عن وهب بن منبه: أن جرقيل هذا دبرهم بعد كالب ولم يقع لهذا ذكر في سفر الحكام ثم بعد يوشع اجتمع بنو يهودا وبنو شمعون لحرب الكنعانيين فغلبوهم وقتلوهم وفتحوا أورشليم وقتلوا ملكها ثم فتحوا غزة وعسقلان وملكوا الجبل كله ولم يقتلوا الغور. وأما سبط بنيامين فكان في قسمهم بلد اليونانيين في أرضهم وأخذوا منهم الخراج واختلطوا بهم وعبدوا آلهتهم. فسقط الله عليهم ملك الجزيرة واسمه كوشان شقنائم ومعناه أظلم الظالمين. ويقال إنه ملك الأرمن في الجزيرة ودمشق وملك حوران وصيدا وحران ويقال والبحرين ويقال أنه من أروم. وقال الطبري: من نسل لوط فاستعبد بني إسرائيل ثمان سنين بعد وفاة كالب بن يوفنا ثم ولي الحكم فيهم غثينئال ابن أخيه قناز بن يوفنا فحاربهم كوشان هذا وأزال ملكته عن بني إسرائيل ثم حاربه فقتله. وكان له بعد ذلك حروب سائر أيامه مع بني مؤاب وبني عمون أسباط لوط ومع العماليق إلى أن هلك لأربعين سنة من دولته. ثم عبد بنو إسرائيل الأوثان من بعده فسلط الله عليهم ملك بني مؤاب واسمه عفلون بعين مهملة ومعجمة ساكنة ولام مضمومة تجلب واوا ساكنة ونون بعدها فاستعبدهم ثماني عشرة سنة. ثم قام بتدبيرهم أيهوذ بن كارا من سبط أفرايم. وقال ابن حزم: من بنيامين. وضبطه بهمزة ممالة تجلب ياء ثم هاء مضمومة تجلب واوا ثم ذال معجمة فتنقذهم من يد بني مؤاب وقتل ملكهم عفلون بحيلة تمت لهم في ذلك. وهو أنه جاء رسولا عن بني إسرائيل متنكرا بهدايا وتحف منهم حتى إذا خلا به طعنه فأنفذه ولحق بمكانه من جبل أفرايم. ثم اجتمعوا ونزلوا فقتلوا من الحرس نحوا من عشرة آلاف وغلب ببني إسرإئيل بني مؤاب واستلحمهم وهلك لثمانين سنة من دولته. وقام بتدبيرهم بعده شمكار بن عناث من سبط كاد وضبطه بفتح الشين المثلثة بعدها ميم ساكنة وكاف تقرب من مخرج الجيم ويجلب فتحها ألفا وبعدها راء مهملة. ومات لسنة من ولايته. وبنو إسرائيل على حيالهم من المخالفة فسلط الله عليهم ملك كنعان واسمه يافين بفاء شفوية تقرب من الباء فسرح إليهم قائده سميرا فملك عليهم أمرهم واستعبدهم عشرين سنة. وكانت فيهم كوهنة إمرأة متنبئة سامها دافورا بفاء هوائية تقرب من الباء وهي من سبط نفطالي وقيل من سبط أفرايم وقيل كان زوجها بارق ابن أبي نوعم من سبط نفطالي واسمه البيدوق. فدعته إلى حرب سميرا فأبى إلا أن تكون معه فخرجت ببني إسرائيل وهزموا الكنعانيين وقتل قائدهم سميراً وقامت بتدبيرهم أربعين سنة يرادفها زوجها بارق ابن أبي نوعم. قال هروشيوش: وعلى عهدها كان أول ملوك الروم اللطينيين بأنطاكية بنقش بن شطونش وهو أبو القياصرة ثم توفيت دافورا وبقي بنو إسرائيل فوضى وعادوا إلى كفرهم فسلط الله قال الطبري: وبنو لوط الذين بتخوم الحجاز قهروهم سبع سنين ثم تنبأ فيهم من سبط منشى بن يوسف كدعون بن يواش وضبطه بفتح الكاف القريبة من الجيم وسكون الدال المهملة بعدها وعين مهملة مضمومة تجلب واوا وبعدها نون فقام بتدبيرهم. وقد كان لمدين ملكان أحدهما اسمه رابح والآخر صلمناع. فبعث إلى بني إسرائيل عساكره مع قائدين عوديف وزديف وأهم بني إسرائيل شأنهم فخرج بهم كدعون فهزموا بني مدين وغنموا منهم أموالاً جمة ومكثوا أيام كدعون هذا على استقامة في دينهم وغلب لأعدائهم أربعين سنة. وكان له من الولد سبعون ولدا وعلى عهده بنيت مدينة طرسوس. وقال جرجيس بن العميد: وملطية أيضاً. ولما هلك قام بتدبيرهم ولده أبو مليخ وكانت أمه من بني سخام بن منشى بن يوسف من أهل نابلس فأنجدوه بالمال وقتل بني أبيب كلهم ثم نازعوه بنو سخام أخواله الأمر وطالت حروبه معهم وهلك محاصرا لبعض حصونهم بحجر طرحته عليه امرأة من السور فشدخه. فقال لصاحب سلاحه أجهز علي لئلا يقال قتلته إمرأة. وذلك لثلاث سنين من ولايته. ثم دبر أمرهم بعده طولاع بن فوا بن داود من سبط يساخر وضبه بطاء قريبة من التاء تجلب ضمتها واو ثم لام ألف ثم عين. وقال الطبري: هو ابن خال أبي مليخ وابن عمه. قلت: والظاهر أنه ابن خاله لأن سبط هذا غير سبط ذاك. وقال ابن العميد هو من سبط يسايخر إلا أنه كان نازلاً في سائر من جبل أفراييم فمن هنا والله أعلم وقع اللبس في نسبه ودبرهم ثلاثاً وعشرين سنة. قال هروشيوش: وعلى عهده كان بمدينة طرونية من ملوك الروم اللطينيين برمامش بن بنقش. وملك ثلاثين سنة وقد مضى ذكره. ولما هلك طولاع قام بتدبيرهم بعده يائير بن كلعاد من سبط منشى بن يوسف وضبطه بياء مثناة تحتية مفتوحة وألف ثم همزة مكسورة بعدها ياء أخرى ثم راء مهملة وقام في تدبيرهم اثنتين وعشرين سنة. ونصب أولاده كلهم حكاما في بني إسرائيل. وكانوا نحوا من ثلاثين. فلما هلك طغوا وعبدوا الأصنام فسلط الله عليهم بني فلسطين وبني عمون فقهرهم ثماني عشرة سنة وقام بتدبيرهم يفتاح من سبط منشى وضبطه بياء مثناة تحتانية وفاء ساكنة وتاء مثناة من فوق بفتحة تجلب الفاء ثم حاء مهملة. فلما قام بأمرهم طلب ضريبة النحل من بني عمون فامتنعوا من إعطائها وكانوا ملوكاً منذ ثلثمائة سنة فقاتلهم وغلبهم عليها وعلى اثنتين وعشرين قرية معها. ثم حارب سبط أفراييم وكانوا مستبدين وحدهم عن بني إسرائيل. فأرادهم على اتفاق الكلمة والدخول في الجماعة حتى استقاموا على ذلك وأقام في تدبيرهم ست سنين. وعلى عهده أصابت بلاد اليونان المجاعة العظيمة التي هلك فيها أكثرهم. ولما هلك قام بتدبيرهم أبصان من سبط يهودا من بيت لحم وضبطه بهمزة مفتوحة وباء موحدة ساكنة وصاد مهملة بفتحة نجلب ألفاً بعدها نون. ويقال أنه جد داود عليه السلام يوعز بن سلمون بن نخشون بن عمينا ذاب بن رم بن حصرون بن بارص بن يهودا. وحصرون هذا هو جد كالب بن يوفنا الذي دبرهم بعد يوشع. ونحشون كان سيد بني يهودا لعهد خروجهم من مصر مع موسى عليه السلام وهلك في التيه. ودخل ابنه سلمون أريحا مع يوشع ونزل بيت لحم على أربعة أميال من بيت المقدس. قال هروشيوش في أيام أبصان هذا كان انقراض ملك السريانيين وخروج القوط وحروبهم مع النبط وأقام أبصان في تدبير بني إسرائيل سبع سنين ثم هلك فقام بتدبيرهم إيلون من سبط زبولون وضبطه بهمزة مكسورة تجلب ياء ثم لام مضمومة تجلب واوا ثم نون فدبرهم عشر سنين ثم هلك فدبرهم عبدون بن هلال من سبط أفراييم ثمان سنين. وقال ابن العميد اسمه عكرون بن هليان وكان له أربعون ابناً وثلاثون حافداً. قال هروشيوش: وفي أيامه خربت مدينة طرونة قاعدة الروم اللطينيين خربها الروم الغريقيون في فتنة بينهم. ولما هلك عبدون دفن بأرض أفراييم في جبال العمالقة. واختلف بنو إسرائيل بعده وعبدوا الأصنام وسلط الله عليهم بني فلسطين فقهروهم أربعين سنة. ثم تخلصهم من أيديهم شمشون بن مانوح من سبط دان ويعرف بشمشون القوي لفضل قوة كانت في يده ويعرف أيضاً بالجبار وكان عظيم سبطه. ودبر بني إسرائيل عشر سنين بل عشرين سنة وكثرت حروبه مع بني فلسطين وأثخن فيهم وأتيح لهم عليه في بعض الأيام فأسروه ثم حملوه وحبسوه واستدعاه ملكهم في بعض الأيام إلى بيت آلهتهم ليكلمه فأمسك عمود البيت وهزه بيده فسقط البيت على من فيه وماتوا جميعا. ولما هلك اضطربت بنو إسرائيل وافترقت كلمتهم وانفرد كل سبط بحاكم يولونه منهم والكهنونية فيهم جميعا في عقب ألعيزار بن هارون من لدن وفاة هارون عليه السلام بتوليته موسى صلوات الله عليه بالوحي ومعنى الكهنونية إقامة القرابين من الذبح والبخور على شروطها وأحكامها الشرعية عندهم. وقال ابن العميد: إنه ولي تدبيرهم بعد شمشون حاكم آخر اسمه ميخائيل بن راعيل دبرهم ثمان سنين ولم تكن طاعته فيهم مستحكمة وأن الفتنة وقعت بين بني إسرائيل ففني فيها سبط بنيامين عن آخرهم. ثم سكنت الفتنة وكان الكوهن فيهم لذلك العهد عالي بن بيطانت بن حاصاب بن إليان بن فنحاص بن ألعيزار بن هارون. وقيل من ولد إيتامار بن هارون وضبطه بعين مهملة مفتوحة تجلب ألفا ثم لام مكسورة تجلب ياء تحتانية. فلما سكنت الفتنة كانوا يرجعون إليه في أحكامهم وحروبهم. وكان له ابنان عاصيان فدفعهما إلى ذلك وكثر لعهده قتال بني فلسطين وفشا المنكر من ولديه وأمر بدفعهم عن ذلك فلم يزدادوا إلا عتوا وطغيانا وأنذر الأنبياء بذهاب الأمر عنه وعن ولده ثم هزمهم بنو فلسطين في بعض أيامهم وأصابوا منهم فتذامر بنو إسرائيل واحتشدوا وحملوا معهم تابوت العهد ولقيهم بنو فلسطين. فانهزم بنو إسرائيل أمامهم وقتلوا أبناء عالي كوهن كما أنذر به أبوهما وشمويل. وبلغ أباهما الكوهن خبر مقتلهما فمات أسفا لأربعين سنة من دولته. وغنم بنو فلسطين التابوت فيما غنموه واحتملوه إلى بلادهم بعسقلان وغزة وضربوا الجزية على بني إسرائيل. ولما مضى القوم بالتابوت فيما حكى الطبري وضعوه عند آلهتهم فقلاها مرارا فأخرجوه إلى ناحية من القرية فأصيبوا فتبادروا بإخراجه وحملوه على بقرتين لهما تبيعان ووضعتاه عند أرض بني إسرائيل ورجعتا إلى ولديهما. وأقبل إليه بنو إسرائيل فكان لا يدنو منه أحد إلا مات حتى أذن شمويل لرجلين منهم حملاه إلى بيت أمهما وهي أرملة فكان هنالك حتى ملك طالوت. وكان ردهم التابوت لسبعة أشهر من يوم حملوه وكان عالي الكوهن قد كفل ابن عمه شمويل بن الكنا بن يوام بن إلياهد بن ياوبن سوف وسوف هو أخو حاصاب بن البلى بن يحاص. وقيل إن شمويل من عقب فورح وهو قارون بن يصهار بن قاهاث بن لاوي. ونسبه إليه شمويل بن القنا بن يروحام بن أليهوذ بن يوحا بن صوب بن إلقانا بن يويل بن عزير بن ضيعينا بن تاحث بن أسر بن ألقانا بن النشاسات بن قاوون. وكانت أمه نذرت أن تجعله خادما في المسجد وألقته هنالك فكفله عالي وأوصى له بالكهنونية. ثم أكرمه الله بالنبوة وولاه بنو إسرائيل أحكامهم فدبرهم عشر سنين. وقال جرجيس بن العميد عشرين سنة ونهاهم عن عبادة الأوثان فانتهوا وحاربوا أهل فلسطين واستردوا ما كانوا أخذوا لهم من القرى والبلاد واستقام أمرهم ثم دفع الأمر إلى ابنيه يؤال وأبيا. وكانت سيرتهما سيئة. فاجتمع بنو إسرائيل إلى شمويل وطلبوه أن يسأل الله في ولاية ملك عليهم فجاء الوحي بولاية طالوت فولاه وصار أمر بني إسرائيل ملكا بعد أن كان مشيخة والله معقب الأمر بحكمته لارب غيره. |
الخبر عن ملوك بني إسرائيل بع الحكام ثم افتراق أمرهم
والخبر عن دولة بني سليمان بن داود على السبطين يهوغا وبنيامين بالقدس إلى انقراضها. لما نقم بنو إسرائيل على يوال وأبيا ابني شمويل مما نقموا من أمورهم واجتمعوا إلى شمويل وسألوه من الله أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه أعداءهم ويجمع نشرهم ويدفع الذل عنهم فجاء الوحي بأن يولي الله طالوت ميدهنه بدهن القدس فأبوا بعد أن أمر شمويل بأن يستهموا عليه فاستهموا على بني آبائهم فخرج السهم على طالوت وكان أعظمهم جسما فولوه. واسمه عند بني إسرائيل شاول بن قيس بن أفيل بالفاء الهوائية القريبة من الباء ابن صار وابن نحورت بن أفياح. فقام بملكهم واستوزر أفنين ابن عمه نير بن أفيل. وكان لطالوت من الولد يهوناتان وملكيشوع وتشبهات وأنبياداف. وقام طالوت بملك بني إسرائيل وحارب أعداءهم من بني فلسطين وعمون ومؤاب والعمالقة ومدين فغلب جميعهم. ونصر بنو إسرائيل نصرا لا كفاء له. وأول من زحف إليهم ملك بني عمون ونازل قرية بلقاء فهجم عليهم طالوت وهو في ثلثمائة ألف من بني إسرائيل فهزمهم واستلحمهم. ثم أغزى ابنه في عساكر بني إسرائيل إلى فلسطين فنال منهم واجتمعوا لحرب بني إسرائيل فزحف إليهم طالوت وشمويل فانهزموا واستلحمهم بنو إسرائيل وأمر شمويل أن يسير إلى العمالقة وأن يقتلهم ودوابهم ففعل واستبقى ملكهم أعاع مع بعض الأنام فجاء الوحي إلى شمويل بأن الله قد سخطه وسلبه الملك فخبره بذلك وهره شمويل فلم يره بعد. وأمر شمويل أن يقدس داود وبعث له بعلامته فسار إلى بني يهوذا في بيت لحم وجاء به أبوه إيشا فمسحه شمويل وسلب طالوت روح الجسد وحزن لذل ثم قبض شمويل وزحف جالوت وبنو فلسطين إلى بني إسرائيل فبرز إليهم طالوت في العساكر وفيهم داود بن إيشا من سبط يهوذا وكان صغيرا يرعى الغنم لأبيه. وكان يقذف بالحجارة في مخلاته فلا تكاد تخطىء. قال الطبري: وكان شمويل قد أخبر طالوت بقتل جالوت وأعطاه علامة قاتله فاعترض بني إسرائيل حتى رأى العلامة فيه فسلحه وأقام في المصاف وقد احتمل الحجارة في مخلاته فلما عاين جالوت قذفه بحجارة فصكه في رأسه ومات. وانهزم بنو فلسطين وحصل النصر فاستخلص طالوت حينئذ داود وزوجه ابنته وجعله صاحب سلاحه. ثم ولاه على الحروب فاستكفى به وكان عمره حينئذ فيما قال الطبري ثلاثين سنة. وأحبه بنو إسرائيل واشتملوا عليه. وابتلي طالوت وبنوه بالغيرة منه وهم بقتله ونفذ لذلك مرارا ثم حمل ابنه يهونتان على قتله فلم يفعل لخلة ومصافاة كانت بينهما ودس إلى داود بدخيلة أبيه فيه. فلحق بفلسطين وأقام فيها أياما ثم إلى بني مؤاب كذلك ثم رجع إلى سبطة يهوذا بنواحي بيت المقدس فأقام فيهم يقاتل معهم بني فلسطين في سائر حروبهم حتى إذا شعر به طالوت طلب بني يهوذا بإسلامه إليه فأبوا فزحف إليهم فأخرجوه عنهم ولحق ببني فلسطين وقاتلهم طالوت في بعض الأيام فهزموه واتبعوه وأولاده يقاتلون دونه حتى قتل يهونتان ومشوى وملكيشوع وبنو فلسطين في اتباعه حتى إذا أيقن بالهلكة قتل نفسه بنفسه. وذلك فيما قال الطبري لأربعين سنة من ملكه. ثم جاء داود إلى بني يهوذا فملكوه عليهم وهو داود بن إيشا بن عوفذ. بالفاء الهوائية بن بوغر واسمه أفصان بالفاء الهوائية والصاد المشمة. وقد قدمنا ذكره في حكام بني إسرائيل بن سلمون الذي نزل بيت لحم لأول الفتح ابن نحشون سيد بني يهوذا عند الخروج من مصر ابن عميناذاب نسبه في كتاب اليهود والنصارى وأنكره ابن حزم قال: لأن نحشون مات بالتيه وإنما دخل القدس ابنه سلمون. وبين خروج بني إسرائيل من مصر وملك داود ستمائة سنة باتفاق منهم. والذي بين داود ونخشون أربعة آباء فإذا قسمت الستمائة عليهم يكون كل واحد منهم إنما ولد له بعد المائة والثلاثين سنة وهو بعيد. ولما ملك داود على بني يهوذا نزل مدينتهم حفرون بالفاء الهوائية وهي قرية الخليل عليه السلام لهذا العهد واجتمع الأسباط كلهم إلى يشوشات بن طالوت فملكه في أورشليم وقام بأمره وزير أبيه أفيند وقد مر نسبه. وفي كتاب أسفار الملوك من الإسرائيليات: أن رجلا جاء لداود بعد وفاة طالوت فأخبره بمهلكه ومهلك أولاده في هزيمتهم أمام بني فلسطين وأمر هذا الرجل أن يقتله لما أدركوه فقتله وجاء بتاجه ودملجه إلى داود وانتسب إلى العمالقة فقتله داود بقتله. وبكى على طالوت وذهب إلى سبط يهوذا بأرض حفرون بالفاء القريبة من الباء وهي قرية الخليل لهذا العهد. وأقام شيوشيات بن طالوت في أورشليم الأسباط كلهم مجتمعون عليه وأقامت الحرب بينهم وبين داود أكثر من سنتين. ثم وقع الصلح بينهم والمهادنة وأذعن الأسباط إلى داود وتركوه. ثم اغتاله بعض قواده وجاء برأسه إلى داود فقتله به وأظهر عليه الحزن والأسف وكفل إخواته وبنيه أحسن كفالة. واستبد داود بملك بني إسرائيل لثلاثين سنة من عمره وقاتل بني كنعان وغلبهم ثم طالت حروبه مع بني فلسطين واستولى على كثير من بلادهم ورتب عليهم الخراج. ثم حارب أهل مؤاب وعمون وأهل أدوم وظفر بهم وضرب عليهم الجزية. ثم خرب بلادهم بعد ذلك وضرب الجزية على الأرمن بدمشق وحلب وبعث العمال لقبضها. وصانعه ملك أنطاكية بالهدايا والتحف واختط مدينة صهيون وسكنها واعتزم على بناء مسجد في مكان القبة التي كانوا يضعون بها تابوت العهد ويصلون إليها. فأوحى الله إلى دانيال نبي على عهده أن داود لا يبني وإنما يبنيه ابنه ويدوم ملكه فسر داود بذلك. ثم انتقض عليه ابنه أبشلوم وقتل أخاه أمون غيرة منه على شقيقه بامان وهرب. ثم استماله داود ورده وأهدر دم أخيه وصير له الحكم بين الناس. ثم رجع ثانيا لأربع سنين بعدها وخرج معه سائر الأسباط ولحق داود بأطراف الشام وقيل لحق بخيبر وما إليها من بلاد الحجاز ثم تراجع للحرب فهزمه داود وأدركه مؤاب وزير داود وقد تعلق بشجرة فقتله. وقتل في الهزيمة عشرون ألفا من بني إسرائيل. وسيق رأس قشلوط لولي أبيه داود فبكى عليه وحزن طويلا واستألف الأسباط ورضي عنهم ورضوا عنه. ثم أحصى بني إسرائيل فكانوا ألف ألف ومائة ألف وسبط يهوذا أزيد من أربعمائة ألف. وعوتب في الوحي لأنه أحصاهم بغير إذن وأخبره وأقام داود صلوات الله عليه في ملكه والوحي يتتابع عليه وسور الزبور تنزل. وكان يسبح بالأوتار والمزامير. وأكثر المزامير المنسوبة إليه في ذكر التسبيح وشأنه. وفرض على الكهنونية من سبط لاوى التسبيح بالمزامير قدام تابوت العهد اثني عشر كوهناً لكل ساعة. ثم عهد تمام أربعين سنة من دولته لابنه سليمان صلوات الله عليهما ومسحه مابان النبي وصادوق الحبر مسحة التقديس وأوصى ببناء بيت المقدس. ثم قبض صلوات الله عليه ودفن في بيت لحم وكان لعهده من الأنبياء نامان وكاد وآصاف. وكان الكهنون الأعظم أفيثار بن أحيلج من عقب عالي الكوهن الذي ذكرناه في الحكام. وكان من بعده صادوق. ثم قام بالملك من بعده في بني إسرائيل ابنه سليمان صلوات الله عليه وهو ابن اثنتين وعشرين سنة. فاستفحل ملكه وغالب الأمم وضرب الجزية على جميع ملوك الشام. مثل فلسطين وعمون وكنعان ومؤاب وأدوم والأرمن. وأصهر إليه الملوك من كل ناحية ببناتهم وكان ممن تزوج بنت فرعون بصر وكان وزيره يؤاب بن نيثر وهو ابن أخت داود اسمها صوريا. وكان وزيرا لداود. فلما ولي سليمان استوزره فقام بدولته ثم قتله بعد ذلك واستوزر يشوع بن شيداح. ولأربع سنين من ملكه شرع في بيت المقدس بعهد أبيه إليه بذلك فلم يزل إلى آخر دولته بعد أن هدم مدينة أنطاكية وبنى مدينة تدمر في البرية وبعث إلى ملك صور ليعينه في قطع الخشب من لبنان. وأجرى على الفعلة فيه كل عام عشرين ألف كر من الطعام ومثلها من الزيت ومثلها من الخمر. وكان الفعلة في لبنان سبعين ألفا ولنحت الحجارة ثمانين ألفا وخدمة المناولة سبعون ألفا. وكان الوكلاء والعرفاء على ذلك العمل ثلاثة آلاف وثلثمائة رجل. ثم بنى الهيكل وجعل ارتفاعه مائة ذراع في طول ستين وعرض عشرين. وجعل بدائره كله أروقة وفوقها مناظر وجعل بدائر البيت أبريدا من خارج ونمقه وجعل الظهر مقورا ليودع فيه تابوت العهد. وصفح البيت من داخله وسقفه بالذهب وصنع في البيت كروبيين من الخشب مصفحتين بالذهب وهما تمثالان للملائكة الكروبيين. وجعل للبيت أبوابا من خشب الصنوبر ونقش عليها تماثيل من الكروبيين والنرجس والنخل والسوسن وغشاها كلها بالذهب. وأتم بناء الهيكل في سبع سنين وجعل لها بابا من ذهب ثم بنى بيتا لسلاحه أقامه على أربعة صفوف من العمد من خشب الصنوبر في كل صف خمسة عشر عمودا ووضع فيه مائتي ترس من الذهب في كل ترس ستمائة من حجر الجوهر والزمرد وثلثمائة درقة من الذهب في كل درقة ثلثمائة من حجر الياقوت. وسمى هذا البيت غيضة لبنان. وصنع منبرا لجلوسه تحت رواق وكراسي كثيرة كلها من العاج ملبسة من الذهب. لسائر ما يحتاج إليه في البيت واسترضى الصناع لذلك من مدينة صور. وعمل مذبح القربان بالبيت من الذهب ومائدة الخبز الوجوه من الذهب وخمس منابر عن يمين الهيكل وخمسا عن يساره بجميع آلاتها من الذهب ومجامر من الذهب. وأحضر موروث أبيه من الذهب والفضة والأوعية الحسنة فأدخلها إلى البيت وبعث إلى تابوت العهد من صهيون قرية داود إلى البيت الذي بناه له فحمله رؤساء الأسباط والكهنونية بالمسجد. وكان في التابوت اللوحان من الحجارة اللذان صنعهما موسى عليه السلام بدل الألواح المنكسرة وحملوا مع تابوت العهد قبة القربان وأوعيتها إلى المسجد. وأقام سليمان أمام المذبح يدعو في يوم مشهود اتخذ فيه وليمة لذلك ذبح فيها اثنين وعشرين ألفا من البقر. ثم كان يقرب ثلاث مرات في قرابين وذبائح كاملة ويبخر البخور وجميع الأوعية لذلك كلها ذهب. وكانت جبايته في كل سنة ستمائة قنطار وستة وستين قنطارا من الذهب غير الهدايا والقربان إلى بيت المقدس. وكانت له سفن بحر الهند تجلب الذهب والفضة والبضائع والفيلة والقرود والطواويس وكانت له خيل مرتبة كثيرة تجلب من مصر وغيرها تبلغ ألفا وستمائة فرس معدة كلها للحرب. وكانت له ألف امرأة لفراشه ما بين حرة وسرية منها ثلثمائة سرية. وفي الأخبار للمؤرخين أنه تجهز للحج فوافى الحرم وأقام فيه ما شاء الله. وكان يقرب كل يوم خمسة آلاف بدنة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة. ثم سما إلى ملك اليمن وسار إليه فوافى صنعاء من يومه. وطلب الهدهد لالتماس الوضوء وكان قناقه أي ملتمس الوضوء له في الأرض فافتقده ورجع إليه بخبر بلقيس كما قصه القرآن. ودافعته بالهدية فلم يقبلها فلاذت بطاعته ودخلت في دينه وطاعته. وملكته أمرها ووافته بملك اليمن. وأمرها بأن تتزوج فنكرت ذلك لمكان الملك فقال: لا بد في الدين من ذلك. فقالت زوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه وملكه على اليمن واستعملها فيه ورجع إلى الشام. وقيل تزوجها وأمر الجن فبنوا لها سليمين وغمدان. وكان يزورها في الشهر مرة يقيم عندها ثلاثا. وعلماء بني إسرائيل ينكرون وصوله إلى الحجاز واليمن. وإنما ملك اليمن عندهم بمراسلة ملكة سبأ وأنها وفدت عليه في يروشالم وأهدت إليه مائة وعشرين قنطاراً من الذهب ولؤلؤاً وجوهراً وأصنافاً من الطيب والمسك والعنبر فأجازها وأحسن إليها وانصرفت. هكذا في كتاب الأنساب من كتبهم. ثم انتقض على سليمان آخر أيامه هدرور ملك الأرمن بدمشق وهداد ملك أدوم وكان قد ولى على ضواحي بيت المقدس وجميع أعماله يربعان بن نباط من سبط أفرايم واستكفى به في ذلك وكان جبارا فعوتب بالوحي على لسان أخيا النبي في توليته فأراد قتله وشعر بذلك يربعان فهرب إلى مصر فأنكحه فرعون ابنته وولدت له ابنه ناباط وأقام بمصر. وقبض سليمان صلوات الله عليه لأربعين سنة من ملكه وقيل لاثنتين وخمسين ودفن عند أبيه داود صلوات الله عليهما. وافترق ملك بني إسرائيل من بعده كما نذكره إن شاء الله تعالى. |
الخبر عن افتراق بني إسرائيل منهم بيت المقدس على سبط يهوذا وبنيمامين إلى انقراضه
لما قبض سليمان صلوات الله عليه وسلامه ولى ابنه رحبعم وضبطه براء مهملة وهاء مهملة مضمومتين وباء موحدة ساكنة وعين مهملة مضمومة وميم فقام بأمره وزاد في عمارة بيت لحم وغزة وصور وأيلة واشتد على بني إسرائيل وطلبوا منه تخفيف الضرائب فامتنع وطالبهم بالوظائف وأخذ فيهم برأي الغواة من بطانته فنقموا عليه ذلك وانتقضوا. وجاءهم يربعم بن نباط من مصر فبايعوه وولوه عليهم واجتمع عليه سائر الأسباط العشرة من بني إسرائيل ما عدا أسبط يهوذا وبنيامين وتزاحفوا للحرب. ثم دعاهم بعض أنبيائهم للصلح فتواضعوا واصطلحوا. وفي السنة الخامسة من ملك رحبعم زحف شيشاق ملك مصر إلى بيت المقدس فهرب رحبعم واستباحها شيشاق ورجع وضرب عليهم الجزية ثم دفعوه ومنعوه. فأقام بنو داود في سلطانهم على بني يهوذا وبنيامين ببيت المقدس وعسقلان وغزة ودمشق وحلب وحمص وحماة وما إلى ذلك من أرض الحجاز وملك الأسباط العشرة بنواحي نابلس وفلسطين. ثم نزلوا مدينة شومرون وهي شمر وسامرة في الناحية الشرقية الشمالية من الشام مما يلي الفرات والجزيرة واتخذوها كرسيا لملكهم ذلك. وأقاموا على هذا الافتراق إلى حين انقراض أمرهم ووقعوا في الجلاء الذي كتب الله عليهم كما نذكره. ثم هلك رحبعم لسبع عشرة سنة من دولته وولي بعده على سبط يهوذا وبنيامين بأرض القدس ابنه أفيا وضبطه بهمزة مفتوحة ومتوسطة بين الفاء والذال من لغتهم وياء مثناة من تحت مشددة وألف وكان على مثل سيرة أبيه. وكان عابدا صواما وكانت أيامه كلها حربا مع يربعم بن نباط وبني إسرائيل. وهلك لثلاث سنين وولي بعده ابنه أسا بضم الهمزة وفتح السين المهملة وألف بعدها ابن أفيا. وطال أمد ملكه وكان رجلا صالحا وكان على مثل سيرة جده داود صلوات الله عليه وتعدت الأنبياء في بني إسرائيل على عهده ومات يربعم بن نباط لسنتين من ملكه. وملك بعده ابنه ناداب وقتله يعشا بن أحيا كما نذكر في أخبارهم. ثم وقعت بينه وبين أسا حروب واستبد أسا بملك دمشق فزحف معه وكان يعشا ملك السامرة في ناجية يثرب لبنائها فهرب وترك آلات البناء فنقلها أسا ملك القدس وبنى بها الحصون. ثم خرج عليهم زادح ملك الكوش في ألف ألف مقاتل ولقيهم أسا فهزمهم واثخن فيهم. ولم تزل الحرب قائمة بين أسا وبين الأسباط بالسامرة سائر أيامه. وعلى عهده اختطت السامرة كما نذكره بعد. ثم هلك أسا بن أفيا لإحدى وأربعين سنة من ملكه. ولي بعده ابنه يهوشافاط بياء مفتوحة مثناة تحتانية وهاء مضمومة وواو ساكنة وشين معجمة بعدها ألف ثم فاء بعدها ألف وطاء فكان على مثل سيرة أبيه. وكانت أيامه مع أهل السامرة وملوكهم سلما. واجتمع ملوك العمالقة ويقال أدوم وخرج لحربهم فهزمهم وغنم أموالهم. وكان لعهده من الأنبياء إلياس بن شوياق وإليسع بن شوبوات. وقال ابن العميد: إيليا ومنحيا وعبوديا وكانت له سفن في البحر يجلب له فيها بضائع الهند فأصابها قاصف الريح فتكسرت وغرقت. ثم هلك لخمسة وعشرين سنة من ملكه وولي ابنه يهورام بفتح المثناة التحتانية ثم هاء مضمومة تجلب واوا ثم راء مفتوحة تجلب ألفا وبعدها ميم وانتقض عليه أدوم وولوا عليهم ملكاً: ألنهم. فزحف فيهم ووقع بهم في سفيرا أوسط بلادهم وأثخن فيهم بالسبي والقتل. ثم رجع عنهم وأقاموا في عصيانهم وعلى عهده زحف ملك الموصل إلى الأسباط بالسامرة فكانت بينه وبينهم حروب كما نذكر. وقال ابن العميد: كانت على بني مؤاب جزية مضروبة لبني يهوذا: مائتان من الغنم كل سنة فمنعوها واجتمع ملوك القدس والساقية لحربهم وحاصروهم سبعة أيام وفقدوا الماء فاستسقى لهم إليسع وجرى الوادي. فخرج أهل مؤاب فظنوه ماء فقتلهم بنو إسرائيل وأثخنوا وفي أيام يهورام رفع إيليا النبي وانتقل سره إلى إليسع وكان على عهده من الأنبياء أيضاً عبودياً ثم هلك يورام لثمان سنين من ملكه ودفن عند جده داود وولي بعده ابنه أحزياهو بهمزة مفتوحة وحاء مهملة مضمومة وزاي معجمة ساكنة ثم ياء مثناة تحتية تجلب ألفا ثم هاء مضمومة تجلب واوا وأمة عثليا بنت عمري أخت أخاب وسار سيرة خاله وملك سنة واحدة وقيل سنتين وخرج لقتال ملك الجزيرة والموصل واستنفر معه صاحب السامرة يورام ابن خاله أخاب فاقتتلوا معه ثم انصرفوا وابن خاله جريح. وجاءه أحزياهو في بعض الأيام يعوده. وكان ابن يهوشافاط ابن منشي من سبط منشا بن يوسف يترصد قتل يورام بن أخاب ملك السامرة فأصاب فرصة في ذلك الوقت فقتلهما جميعا. وقال ابن العميد: إن يورام بن أخاب ملك السامرة خرج لحرب أدوم في رواية كلعاد وخرج معه أحزياهو فقتلا في تلك الحرب. قال: وقيل أن ياهوعشا رمى بسهم فأصاب يورام بن أخاب وكان لعصره من الأنبياء إليسع وعامور وفنحاء. ثم ملك بعد أحزيا أمه غثليا بنت عمري كذا وقع اسمها في كتاب الطبري. وفي كتاب الإسرائيليات اسمها أضالية. ويقال كانت من جواري سليمان ثم استفحل ملكها بالقدح وقتلت بني داود كلهم وأغفلت ابنا رضيعا من ولد أبيها أحزياهو اسمه يؤاش بضم الياء المثناة التحتية ثم همزة مفتوحة تجلب ألفا ثم شين معجمة أخفته عمته يهوشيع بنت يهورام في بعض زوايا القدس وعلم بمكانه زوجها يهوديادع وهو يومئذ الكوهن الأعظم. حتى إذا كملت له سبع سنين ونقم بنو يهوذا سيرة عثليا اجتمعوا إلى يهوديادع الكوهن فأخرج لهم يؤاش بن أحزياهو من مكانه واستحلفهم فبايعوا له وقتلوا جدته غثليا ومن معها لسبع سنين من ملكها. وقام يؤاش بملكه في تدبير يهوديادع الكوهن ثم أراد عبادة الأصنام فمنعه زكريا النبي فقتله. وكان لعهده من الأنبياء إليسع وعوفريا وزكريا بن يهوديادع. وهلك يهوديادع لثلاث وعشرين سنة من ملك يؤاش بعد أن جدد يؤاش بيت المقدس ولثمان وثلاثين من ملكه قبض إليسع النبي صلوات الله عليه. وعلى عهده زحف شريال ملك الكسدانيين ببابل إلى بيت المقدس ويقال ملك نينوى والموصل وقال ابن العميد: ملك الشام فأعطاهم جميع ما في خزائن الملك وبيت المقدس من الأموال ودخل في طاعتهم إلى أن قتله وزراؤه وأهل دولته لأربعين سنة من ملكه وولوا مكانه ابنه أمصياهو بفتح الهمزة والميم وسكون الصاد المشمة بالزاي بعدها ياء مثناة تحتانية بفتحة تجلب ألفا ثم هاء مضمومة تجلب واوا واستبدوا عليه ثم ثار عليهم بأمه وقتلهم أجمعين. وسار إلى أدوم فظفر بهم وقتل منهم نحوا من عشرين ألفا. ثم زحف إليه ملك الأسباط بالسامرة ولقيه فهزمه وحصل في أسره. وسار إلى بيت المقدس فحاصرها وهدم من سورها نحوا من أربعمائة ذراع واقتحمها فغنم ما في خزائن بيت السلطان وبيت الهيكل من الأموال والأواني والذخائر ورجع إلى السامرة فأطلق أمصياهو ملك القدس فرجع إلى قومه ورم ما تثلم من سورها. ولم يزل مملكا حتى نقموا عليه أفعاله فقتلوه لسبع وعشرين سنة من ملكه. وكان لعهده من الأنبياء يونان وناحوم وتنبأ لعصره عاموص. ولما قتلوا أمصياهو ولوا ابنه عزياهو بعين مهملة مضمومة وزاي معجمة مكسورة مشددة وياء مثناة تحتانية تجلب ألفا وهاء تجلب واوا وطالت مدته ثلاثا وعشرين سنة واختلفت فيها أحواله. قال ابن العميد: ولخمس من ملكه كان ابتداء وضع سني الكبس التي هي سنة بعد أربع تزيد يوما على الماضية بحساب ربع يوم في كل سنة الذي أقتضاه حساب مسير الشمس عندهم. قال: ولست من ملكه انقرض ملك الأرمانيين من الموصل وصارت إلى بابل. ولاثنتين وعشرين من ملكه غزا ملك بابل واسمه فول مدينة السامرة فاقتحمها وأعطاه ملكها بدرة من المال فرجع عنه. قال: ولعهده ملك علي بابل رينوس ويلقب قطب الملك ولعهده ملك على اليونانيين ملكهم الأول من مدينة أنقياس لثلاث وعشرين سنة من تملك عزياهو. قال: ولإحدى وخمسين من ملكه ملك ببابل بختنصر الأول. قال: ولعهده أيضاً كان الملك الأول من الروم المقدويس ويسمى قال ابن العميد: وانتهت عساكر عزياهو إلى ثلثمائة ألف وأصابه البرص بدعاء الكوهن لما أراد أن يخالف التوراة في استعمال البخور وهو محرم على سبط لاوي فبرص ولزم بيته سنة. وصار ابنه يؤام ينظر في أمر الملك إلى أن تغلب على أبيه. قال هروشيوش: وعلى عهده أيضاً قتل شرديال آخر ملوك بابل من الكلدانيين على يد قائده أرباط بن ألمادس. واستبد بملك بابل وأصاره إلى قومه بعد حروب طويلة. ثم زحف إلى القرط والعرب من قضاعة فحاربهم طويلا وانصرف عنهم. ثم هلك عزياهو لثلاث وخمسين سنة من ملكه وملك بعده ابنه يؤاب وكان صالحا تقيا. وكان لعهده من الأنبياء هوسيع وأشعيا ويوئيل وعوفد. وفي أيامه استبد أغلب ملوك الجزيرة على اليهود وكانوا يعرفون بالسوريانيين. ثم هلك يوآب لست عشرة سنة من ملكه وملك ابنه أحاز بهمزة مفتوحة ممالة وحاء مهملة تجلب ألفا وزاي معجمة فخالف سنة آبائه. وعبد بنو إسرائيل الأوثان في أيامه وحارب الأرمن واستجاش عليهم بملك الموصل فزحف معه وحاصر دمشق وملكها منهم واستباحها ورجع إلى بلاده. ثم خرج أحاز لحربهم فهزموه وقتلوا من اليهود مائة وعشرين ألفا ونحوها وارجعوا أحاز إلى دمشق أسيرا. قال هروشيوش: وعلى عهد أحاز كان إنقراض ملك ألماريس على يد كيرش ملك الفرس ورجعت أعمالهم إليه ويقال: إن آخر ملوكهم هو أشتانيش وكان جد كيرش لأمه وكفله صغيرا فلما شب وملك حارب جده فقتله وانتزع ملكه. وقال ابن العميد عن المسبحي: ولذلك العهد ملك على الروم الفرنجة غير اليونان الأخوان روملس ورومانس واختط مدينة رومة. وقال هروشيوش: ولعهده ملك على الروم اللطينيين بأرض أنطاكية روملس ثم مركة وبنى مدينة رومة. ثم هلك آحاز لست عشرة من ملكه وولى ابنه حزقياهو بحاء مهملة مكسورة وزاي معجمة ساكنة وقاف مكسورة وياي مثناة تحتانية مشددة تجلب ألفا وهاء مضمومة تجلب واوا فقطع عبادة الأوثان وسار سيرة جده داود ولم يكن في ملوك بني يهوذا مثله. وعصى على ملك الموصل وبابل وتوريش وهزم فلسطين وخرب قراهم. وفي أيامه وأيام أبيه سار شليشار ملك الجزيرة والموصل إلى الأسباط بالسامرة فضرب عليهم الجزية ثم سار في أيامه فأزال ملكهم. ولأربع من ملكه زحف إليه رضين ملك دمشق ورجع عنه من غير قتال. ولأربع عشرة من ملكه زحف إليه سنجاريف ملك الموصل بعد فتح المسرة فافتتح أكثر مدائن يهوذا وحاصرهم ببيت المقدس. وصانعه حزقياهو بثلثمائة قنطار من الفضة وثلاثين من الذهب أخرج فيها ما كان في الهيكل وبيت الملك من المال ونثر الذهب من أبواب المسجد دفع ذلك له ورجع عنه. ثم فسد ما بينهما وزحف إليه سنجاريف ثانياً وحاصره وامتنع من قبول مصانعته. وقال من ذا الذي خلصه إلهه من يدي حتى يخلصكم أنتم إلهكم فخافوا منه وفزعوا إلى النبي شعياء في الدعاء فأمنهم منه ودعا عليه فوقع الطاعون في عسكره. ثم تواقعوا في بعض الليالي فبلغ قتلاهم مائة وعشرين ألفا ورجع سنجاريف إلى نينوى والموصل فقتله أبناؤه وهربوا إلى بيت المقدس وملك ابنه السرمعون. وقال الطبري: إن ملك بني إسرائيل أسر سنجاريف وأوحى الله إلى شعياء أن يطلقه فأطلقه قال: وقيل إن الذي سار إليه سنجاريف من ملوك بني إسرائيل كان أعرج وأن سنجاريف لعهد ملك أذربيجان وكان يدعى سليمان الأعسر. فلما نزل بيت المقدس صار بينهما أحقاد كامنة فتواقعوا وهلك عامة عسكرهما وصار ما معهما غنيمة لبني إسرائيل. وبعث ملك بابل إلى حزقيا ملك الفرس بالهدايا والتحف فأعظم موصلها وبالغ في كرامة الوفد وفخر عليهم بخزانته وطوفهم عليها فنكر ذلك عليه شعياء النبي وأنذره بأن ملوك بابل يغنمون جميع هذه الخزائن ويكون من أبنائك خصيان في قصرهم. ثم هلك حزقياهو لتسع وعشرين سنة من ملكه وولى ابنه منشا بميم مكسورة ونون مفتوحة وشين معجمة مشددة وألف وكان عاصيا قبيح السيرة وكانت آثاره في الدين شنيعة. وأنكر عليه شعيا النبي أفعاله فقتله نشرا بالمناشير من رأسه إلى مفرق ساقيه وقتل جماعة من الصالحين معه. وفي تاسعة وثلاثين من ملكه ملك سنجاريف الصغير مملكته الموصل. قاله ابن الحميد: وفي الثانية والخمسين بنيت بوزنطية بناها بورس الملك وهي التي جددها قسطنطين وسماها باسمه. وفي أيامه ملك برومة قنوقرسوس الملك. وفي الحادية والخمسين من ملكه زحف سنجاريف ملك الموصل إلى القدس فحاصرها ثلاث سنين وافتتحها في الرابعة والخمسين من ملكه وولى بعده ابنه أمون بهمزة قريبة من العين والميم مضمومة تجلب واوا ثم نون وكانت حاله مثل حال أبيه فملك سنتين وقيل اثنتي عشرة ثم اغتاله عبيده فقتلوه. واجتمع بنو يهوذا فقتلوا أولئك العبيد وأقاموا ابنه يوشيا مكانه وضبطه بياء مثناة تحتية مضمومة تجلب واوا بعدها شين معجمة مكسورة ثم ياء مثناة تحتية بفتحة تجلب ألفا. فلما ملك أحسن السيرة وهدم الأوثان وكان صالح الطريقة مستقيم الدين. وقتل كهنة الأصنام وهدم البيوت والمذابح التي بناها يربعام بن نباط بالبرابرة. وكان في أيامه من الأنبياء صفونا وكلدي إمراة شالوم وناحوم. وتنبأ لعهده أرميا بن ألحيا من نسل هارون وأخبرهم بالجلاء إلى بابل سبعين سنة. فأخذ يوشيا قبة القربان وتابوت العهد وأطبق عليهما في مغارة فلم يعرف مكانهما من بعد ذلك. وفي أيامه ملك المجوس بابل ولإحدى وثلاثين من دولته ملك فرعون الأعرج مصر وزحف لقتال مسبح بالفرات فخرج يوشيا لحربه وانهزم يوشيا فهلك بسهم أصابه لاثنتين وثلاثين من دولته وولي بعده ابنه يوآش ويقال اسمه يهوياحاز فعطل أحكام التوراة وأساء السيرة فزحف اليه فرعون الأعرج وأأخذه ورجع به الى مصر فمات هنالك. وضرب على أرضهم الخراج مائة قنطار فضة وعشرة ذهبا. وكانت ولايته ثلاثة أشهر وولوا مكانه أخاه ألياقيم بن يوشيا بهمزة مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتانية يجلب فتحها ألفا وقاف مكسورة تجلب ياء ثم ميم وكان عاصيا كافرا وكان يأخذ الخراج لفرعون من بني يهوذا على قدر أحوالهم. ثم زحف إليه بختنصر ملك بابل لسبع من ولاية ألياقيم فملك الجزيرة وسار إلى بيت المقدس فضرب عليهم الجزية أولا ودخل ألياقيم في طاعته ثلاث سنين. وسلط الله عليه أدوم - وعمون - وموآب والكلدانيين. ثم انتقض عليه فسرح الجيوش إليه فقبضوا عليه واحتملوه إلى بابل فهلك في طريقه لإحدى عشرة سنة من ملكه. وولى بختنصر مكانه ابنه يخنيو بفتح الياء المثناء التحتانية بعدها خاء معجمة مضمومة ثم نون ساكنة وبعدها ياء تحتانية تجلب ضمتها واوا فأقام ثلاثة أشهر ثم زحف إليه وحاصره وأخرج إليه أمه وأشراف مملكته فأشخصهم إلى بلده وجمع أهله ورجال دولته وسائر بني إسرائيل نحوا من عشرة آلاف واحتملهم أسارى إلى بابل. وغنم جميع ما كان في الهيكل والخزائن من الأموال وجميع الأواني التي صنعها سليمان للمسجد. ولم يترك بمدينة القدس إلا الفقراء والضعفاء وبقي يخنيو ملك بني إسرائيل محبوسا سبعا وثلاثين سنة. وقال ابن العميد: إن بختنصر سار إلى القدس في الثالثة من مملكة ألياقيم وسبى طائفة منها وانتهب جميع ما في بيت الهيكل. وكان في سنة دانيا وخاينا وعزاريا وميصائل. وإن في السنة الخامسة من ملكه قاتل بختنصر فرعون الأعرج ملك مصر. وفي الثانية من ملك ألياقيم غزا بختنضر القدس ووضع عليهم الخراج وأبقى ألياقيم في ملكه وهلك لثلاث سنين بعد ذلك. وملك ابنه يخنيو. وكان لعهده من الأنبياء إرميا وأوريا بن شعيا وموري والد حزقيا. وفي أيامه تنبأ دانيال. ثم سار بختنصر ليخنيو فأشخصه إلى بابل كما مر. وقال الطبري ووافقه نقل هروشيوش: إن بختنصر ولى مكان يخنيو بن ألياقيم عمه متنيا بميم مفتوحة وتاء مثناة فوقانية مفتوحة مشددة ونون ساكنة وياء مثناة تحتانية تجلب ألفا ويسمى صدقياهو وكان عاصيا قبيح السيرة. ولتسع سنين من ولايته أنتقض على بختنصر فزحف إليه في العساكر وحاصر بيت المقدس وبنى عليها المدر للحصار وأقام ثلاث سنين واشتد الحصار بهم فخرجوا هاربين منها الى الصحراء. وأتبعتهم العساكر من الكلدانيين وأدركوهم في أريحا فقبض على ملكهم صدقياهو وأتى به أسيرا فسمل عينيه. وقال الطبري: وذبح ولده بمرأى منه ثم أعتقله ببابل إلى أن مات ولحق بعض من بني إسرائيل بالحجاز فأقاموا مع العرب. وكان لعهده من الأنبياء أرميا وحبقون وباروح. وبعث بختنصر قائده نبوزراذون بنون مفتوحة وباء موحدة مضمومة تجلب واوا بعدها زاي وراء مفتوحة تجلب ألفا وذال مضمومة تجلب واوا بعدها نون بعثه إلى مدينة القدس وكانوا يدعونها مدينة أورشليم فخربها وخرب الهيكل وكسر عمد الصفر التي نصبها سليمان في المسجد طول كل عمود منها ثمانية عشر ذراعا وطول رؤوسها ثلاثة أذرع. وكسر صرح الزجاج وسائر ما كان بها من آثار الدين والملك واحتمل بقية الأواني وما كان وجده من المتاع وسبى الكوهن سارية والحبر منشا وخدمة الهيكل إلى بابل. قال هروشيوش: وأبقى صدقياهو محبوسا ببابل إلى أن أطلقه بزداق قائد بهمن ملك الفرس حين غلبوا على بابل فأطلقه ووصله وأقطعه. وقال مؤرخ حماة ووافقه المسعودي: إن بختنصر بعد تخريب القدس هرب منه بعض ملوك بني إسرائيل إلى مصر وبها فرعون الأعرج وطلبه بختنصر فأجاره فرعون وسار إليه بختنصر فقتله وملك مصر. وافتتح من المغرب مدائن وبث فيها دعاته وكان إرميا نبي بني إسرائيل من سبط لاوي ويقال اسمه إرمياء بن خلقيا. وكان على عهده صدقياهو ووجده بختنصر في محبسهم فأطلقه واحتمله معه في السبي إلى بابل. وقيل: إنه مات في محبسه ولم يدركه بختنصر. وكذلك احتمل معهم دانيال بن وقال ابن العميد: وولي جدليا بن أحان على من بقي من ضعفاء اليهود بالقدس ولسبعة أشهر من ولايته قام إسماعيل بن متنيا بن إسماعيل من بيت الملك فقتل جدليا واليهود والكلدانيين الذي معهم. ثم هرب إلى مصر وهرب معه إرميا وهرب حبقون إلى الحجاز فمات وكان قيما ولحقهم بمصر. وتنبأ إرميا في مصر وبابل وأورشليم وصور وصيدا وعمون ثمانية وثلاثين سنة ورجمه أهل الحجاز فمات. وكان فيما أخبرهم به مسير بختنصر إلى مصر وتخريبه هياكلها وقتله أهلها. ولما دخل بختنصر مصر نقل جسده إلى اسكندرية ودفنه بها وقيل دفن بالقدس لوصيته. وأما حزقياهو فقتله اليهود في السبي. قال الطبري: وافترقت جالية بني إسرائيل في نواحي العراق إلى أن ردهم ملوك الفرس إلى القدس فعمروه وبنو مسجده. وكان لهم فيه ملك في دولتين متصلتين إلى أن وقع بهم الخراب الثاني والجلوة الكبرى على يد طيطش من ملوك القياصرة كما نذكر بعد. ولنذكر هنا ما وقع من الخلاف في نسب بختنصر هذا وإلى من يرجع من الأمم فقد ذهب قوم إلى أنه من عقب سنجاريف ملك الموصل الذي كان يقاتل بني إسرائيل والسامرة بالقدس. قال هشام بن محمد الكلبي فيما نقل الطبري: هو بختنصر بن نبوزراذون بن سنجاريف. ثم نسب سنجاريف الى نمروذ بن كوش بن حام الذي وقع ذكره في التوراة في ولد كوش وعد بين سنجاريف والنمروذ ستة عشر أبا أو نحوها أولهم داريوش بن فالغ وعصا بن نمروذ أسماء غير مضبوطة يغلب علي الظن تصحيفها لعدم دراية الأصول وقلة الوثوق بضبطها. وقيل إن بختنصر من نسل أشوذ بن سام ولم يقع إلينا رفع هذا النسب ولعله أصح من الأول لأنه قد تقدم نسب سنجاريف في الجرامقة ثم في الموصل منهم وهم من ولد أشوذ باتفاق من أهل فارس. نقله أيضاً الطبري عن ابن الكلبي وأن اسمه بختمرسه فسمي بختنصر وكان يملك ما بين الأهواز والروم من غربي دجلة أيام هراسب ويستاسب وبهمن من ملوك الفرس. وأنه افتتح ما يليه من بلاد بابل والشام ثم سار إلى القدس فافتتحها كما تقدم. وقيل إن بهمن بعث رسله إلى القدس في من طلب الطاعة منهم فقتلوه فبعث بهمن أصبهبذا للناحية القريبة في مملكته وبعث معه داريوس من ملوك مارى بن نابت وكيرش بن كيكوس من ملوك بني غليم بن سام وأحشوراش بن كيرش بن جاماهن من قرابته. وسار معهم بختنصر بن نبوزراذون بن سنجاريف صاحب الموصل الذي لقومه البراآت في أهل المقدس فكان ما وقع من الفتح. وقيل كان بختنصر صاحب الموصل في مقدمتهم وكان الفتح على يده. وأما بنو إسرائيل فيزعمون أن بختنصر من الكلدانيين وهو ولد ناحور بن آزر أبي إبراهيم عليه السلام. وكان لهم الملك ببابل وكان بختنصر هذا من أعقابهم وكان مدة دولته خمسا وأربعين سنة. وكان فتحه المقدس لثمانية عشر من دولته. وملك بعده أويل مروماخ ثلاثاً وعشرين سنة. ثم بعده ابنه فيلسنصر بن أويل ثلاث سنين. ثم غلب عليهم كوروش وأزال ملكهم. وهو الذي رد بني إسرائيل الى بيت المقدس فعمروه وجددوا به ملكا كما نذكره. وقد اختلف في كيرش الذي رد بني إسرائيل إلى المقدس من هو بعد اتفاقهم على أنه من الفرس: فقيل هو يستاسب ولم يكن ملكاً وإنما كان مملكاً على خوزستان وأعمالها من قبل كيقوس وبنجسون بن سياوش ولهراسب من بعدهما وكان عظيم الشأن ولم يكن ملكاً. وقيل: إن كيرش هو ابن أحشوارش بن جاماسب بن لهراسب وأبوه أحشوارش هذا الذي بعثة بهمن. ولما رجع من ذلك الفتح بعثه إلى ناحية الهند والسند وانصرف إلى حصن الأبر فولاه بابل وتزوج من سبي بني إسرائيل ابنة أبي حاويل الرحا وأخت مردخاي من الرضاع وهو من أنبياء بني إسرائيل. فتزعم النصارى أنها ولدت عند حيراحوارس إلى بابل ابنه كيرش هذا. فحضنه مردخاي ولقنه دين اليهودية ولزم سائر أنبيائهم مثل متنيا وعازريا وميثائل وعزيز. وولى دانيال أحكام دولته. وجعل إليه أمره وأذن له أن يخرج ما في الخزائن من السبي والذخائر والآنية ويرده إلى مكانه ويقوم في بناء القدس فعمره. وراجعه بنو إسرائيل وسأله هؤلاء الأنبياء أن يرجعوا إلى بيت المقدس فمنعهم إغتباطاً بمكانهم. وقيل: إن كيرش هو كيرش بن كيكو بن غليم بن سام وهو الذي كنا قدمنا أن بهمن بعثه مع قائده بختنصر إلى فتح بيت المقدس وأن بختمرس ملكه بهمن على بابل وكان يسمى بختمرسي كما ذكرن فملكها وملك ابنه من بعده ثلاثاً وعشرين سنة ثم ابنه بلتنصر سنة واحدة ثم بلغ بهمن من سوء سيرته فعزله وولى على بابل داريوش ألماذة بن ماداي ثم عزله وولى كيرش بن كيكو وكتب إليه بهمن بأن يرفق ببني إسرائيل ويحسن ملكتهم وأن يردهم إلى أرضهم ويولي عليهم من يختارونه ففعل. فاختاروا دانيال من أنبيائهم فولاه وقيل: وهو لعلماء بني إسرائيل أن بلتنصر حافد بختنصر وهو ملك بابل والكلدانيين وأن دارا ويسمى داريوش ملك مازي وكورش وهو كيرش ملك فارس كان في طاعته فانتقضا عليه وخرج إليهم في العساكر فانهزم أولا ثم بعث عساكره وقواده إليهم فهزمهم. ثم قتله خادمه على فراشه ولحق بداريوش وكورش وزحفا إلى بابل فغلبا الكلدانيين عليها واختص دارا وقومه مادي وأظنهم الديلم ببابل ونواحيها. واختص كورش وقومه فارس بسائر الأعمال والكور. وكان كورش نذر ببناء بيت المقدس وإطلاق الجالية ورد الآنية. ثم هلك دارا وانفرد كورش بالملك على فارس ومادي ووفى بنذره. هذا محصل الخلاف في بختنصر وكيرش والله أعلم. |
الخبر عن دولة الأسباط العشرة وملوكهم إلى حين انقراض أمرهم
واليا لسليمان على جميع نواحي يورشليم وهي بيت المقدس وقيل إنما كان واليا على عمل بني يوسف بنابلس وما إليها وكان جبارا وأن سليمان عوتب على ولايته من الله وانتقض ولحق بمصر. فلما قبض سليمان وولي ابنه رحبعم واختلف عليه بنو إسرائيل بما بلوا من سوء ملكته. والزيادة في الضرائب عليهم واجتمع الأسباط العشرة ما عدا يهوذا وبنيامين فاستقدموا يربعام بن نباط من مصر فبايعوا له وولوه الملك عليهم وحاربوا رحبعم ومن في طاعته وهم سبط يهوذا وبنيامين فامتنعوا عليهم بمدينة يروشليم ثم انحازوا إلى جهة فلسطين في عمل بني يوسف. ونزل يربعم مدينة نابلس بملك الأسباط العشرة ومنعهم من الدخول الى بيت المقدس والقربان فيه وكان عاصيا مسخوط السيرة. ولم يزل بينه وبين رحبعم بن سليمان وابنه أبيا من بعده واثنين من ملك أشا بن أبيا وكان أبياً ظاهراً إليه في حروبه. ثم هلك يربعام بن نباط لسنتين من ملك أبيا ولثلاث وعشرين من ملكه فولي مكانه على الأسباط يوناداب وكان على مثل سيرة أبيه من الجور وعبدة الأصنام فسلط الله عليه بعشا بن أحيا فقتله وجميع أهل بيته لسنتين من ملكه وقام بملك الأسباط فلم يزل يحارب أسا بن أبيا وأهل القدس سائر أيامه. وكان أسا يستمد عليه بملك دمشق من الأرمن. وسار معه إليه مرة وكان أعشا بن أحيا نبي يثرب فأجفل أمامهم وترك الآلات فأخذها أسا وبنى بها الحصون. وهلك أعشا بن أحيا لأربع وعشرين سنة من ملكه ودفن في برصا مدينة ملكهم بعد أن أنذره بالهلاك نبيهم فاهو. ولما هلك ولي بعده ابنه إيليا ويقال إيلهوا في السادسة والعشرين من ملك أسا فأقام سنين ثم بعث عساكر بني إسرائيل إلى محاصرة بعض المدن بفلسطين فوثب عليه سبط من الأسباط من عقب كان يعرف زمري صاحب المراكب ويقال ابن إليافا فقتله وجميع أهل بيته وقام بالملك. ومكث أياما يسيرة خلال ما بلغ الخبر لبني إسرائيل بمكانهم من حصار فلسطين فلم يرضوه وملكوا عليهم صي بن كسات من سبطه ورجعوا إلى زمري المتوثب على الملك فحاصروه فلما أحيط به دخل مجلس الملك وأوقد نارا لتحرقه فاحترق فيه لسبعة أيام من فورتهم. وكان عمري بن ناداب من سبط أفرايم ويلقب صاحب الحربة يرادف صي في الملك فقتله واستبد. وذلك في الحادية والثلاثين من ملك أسا. ثم اختلف عليه بنو إسرائيل ونصب بعضهم بنيامين فنال من سبط يساخر وحاربهم عمري فغلبهم. وكان ينزل مدينة برصا ولست سنين من ملكه اختط مدينة السامرية ابتاع لها جبل شمران من رجل اسمه سامر بقنطار قضة وبنى فيه قصوره وسميت سبسطية. ثم غلبت عليها النسبة إلى البائع. ويقال أن الاسم كان شومرون ثم هلك عمري لاثنتي عشرة سنة من ولايته ودفن في نابلس وقام بملك الأسباط من بعده ابنه أحاب وكان على مذهبه ومذهب سلفه منهم من الكفر والعصيان وتزوج بنت ملك صيدا وبنى هيكلا بسامرة وجعل فيه صنماً يسجد له وأفحش في قتل الأنبياء وبنى قرية أريحاء ودعا عليه إيليا النبي فقحطوا ثلاث سنين خرج فيها إيليا إلى البرية فسكنها. ثم رجع فدعا وأنزل الله المطر وذبح الذين حملوا أحاب على عبادة الأصنام هكذا قال ابن العميد. والذي قاله الطبري: أن هذا النبي الذي دعا عليهم هو إلياس بن سين وقيل ابن ياسين من نسل فنحاص بن ألعازار. وكان بعث إلى أهل بعلبك وإلى أحاب وقومه. وقال الطبري: فكذبوه فأصابهم القحط ثلاثاً ففزعوا إليه في الدعاء وباهلهم في أصنامهم فلم تغن شيء فدعا لهم فمطروا. ثم أنهم أقاموا على ما كانوا عليه من الكفر والعصيان. وكان أحاب شديدا عليه ودعا عليه إلياس ثم طلب من الله أن يتوفاه بعد أن أنذر الناس بهلاكه وهلاك قومه بل عقبه. وتنبا بعده اليسع بن أخطوب من سبط أفرايم وقيل ابن عم الياس. قال ابن عساكر: اسمه أسباط بن عدي بن شوليم بن أفرائيم. قال الطبري: كان مستخفاً مع الياس بجبل قاسيون من ملك بعلبك. ثم خلفه في قريته انتهى كلام الطبري. وقال ابن العميد: في أيام أحاب أوحى الله إلى إيليا أن يبارك على إلياس بن بغسا ففعل ذلك وأن يبارك على أدوم بدمشق وعلى ياهو ملكاً على بني إسرائيل ففعل ذلك وهو أيضاً على عهد أحاب. فجاء سنداب ملك سورية فحاصر أحاب بن عمري والأسباط العشرة في السامرة وخرجوا إليه فهزموه واستلحموا عامة عسكره. ثم رجع إليهم من العام القابل فخرجوا إليه وهزموه ثانياً وقتلوا من عسكره نحواً من مائة ألف ومروا في أتباعهم وامتنع سنذاب في بعض حصونه وأحاطوا به فخرج إليهم ملقياً بنفسه على ملكهم أحاب فعفا عنه ورده إلى ملكه وسخط ذلك النبي من فعله وأنذره بعذاب يصيب ولده عقوبة من الله تعالى على إبقائه عليهم. ثم خرج أحاب من ملك الأسباط مع يهوشافاط ملك يهوذا المقدس لمحاربة ملك سورية فأصابه سهم هلك فيه ودفن بسامرة لاثنتين وعشرين سنة من ملكه. قال ابن العميد: وقيل لثمان عشرة وقال إنما خرج لحرب كلعاد ملك أدوم فانهزم وقتل. ولما هلك ملك من بعده ابنه أحزيا ويقال أمشيا وكان عاصياً سيء السيرة قتل عاموص النبي وعبد بعلا الصنم وهلك لسنتين فملك أخوه يوآم. وقيل إه لتسع عشرة من ملك يهوشافاط ملك الفرس فملك يوآم على الأسباط اثنتي عشرة سنة زحف فيها أولاً إلى موآب لما منعوه الجزية التي كانت عليهم للأسباط مائتين من الغنم في كل سنة. واستنجد ملك يهوذا لحربهم فحاصرهم سبعة أيام وفقدوا الماء فاستسقى لهم اليسع وجرى الوادي وخرج أهل مؤاب يظنونه دماً فقتلهم بنو إسرائيل. وجمع هداد ملك أدوم لحصار سامرة ونازلها ثلاث سنين ثم دعا عليهم اليسع فأجفلوا ورجعوا إلى بلادهم. وفي الثانية عشرة من يؤم ملك الأسباط ثار عليه ياهوشافاط بن يشا من سبط منشا بن يوسف وذلك عند منصرفه من محاربة ملوك الجزيرة وأدوم مع أحزيا بن يهورام ملك القدس وكان جريحاً فعاده أحزيا. وكان هذا الفتى ياهو يترصد قتل يوآم فأمكنه الفرصة فيه تلك الساعة فقتله وقتل معه أحزيا ملك القدس وبني يهوذا وملك على الأسباط. وقال ابن العميد: خرج يؤام بن أحاب ملك الأسباط لحرب أدوم ومعه أحزيا ملك القدس فقتلا جميعا في تلك الحرب. وقيل: إن ياهو بن منشا رمى بسهم فأصاب يؤام بن أحاب فمات. ولما ملك ياهو على الأسباط قتل بني أحاب كلهم كما أمره اليسع وهلك لخمس وثلاثين من ملكه. وولى ابنه يوآص وقيل يهوذا ولثمان وعشرين من دولة يوآص بن أحزيا ملك يهوذا القدس وكان قبيح السيرة عباداً للأصنام وعمل مذبحاً بسامرة وهلك لسبع عشرة من ملكه وولي بعده ابنه يوآش لسبع وثلاثين من دولة يوآص بالقدس. وزحف إلى القدس فملكها من يد أمصيا ملك يهوذا وهدم من سورها أربعمائة ذراع وسبى أهل المقدس وسبى أهل عزريا الكوهن وأخذ جميع ما في المسجد ورجع إلى سامرة. ومرض إليسع فعاده يوآش فوعده بأنه يهلك أدوم ويظفر بهم ثلاث مرات فكان كذلك. وهلك لثلاث عشرة سنة من ملكه وولي من بعده ابنه يربعام وكان سيىء السيرة وزحف إلى أمصيا ملك يهوذا. وقيل: إن الذي زحف إلى أمصيا إنما هو يؤاش أبوه فهزمه وأخذه أسيراً وسار به إلى القدس فاقتحمها عنوة وغنم جميع ما في خزانتها وسبى بني عزريا الكوهن ورجع إلى السامرة فأطلق أمصيا. ثم لإحدى وأربعين سنة من ملكه ولسبع وعشرين من ملك عزياهو بن أمصيا ملك القدس. قال ابن العميد: وبقي بنو إسرائيل بالسامرة فوضى إحدى عشرة سنة ثم ملكوا ابنه زكريا في الثامنة والثلاثين من ملك عزياهو فملك ستة أشهر. وقال ابن العميد: شهراً ثم وثب به مناخيم بن كاد من سبط زبلون من أهل برصا فقتله وملك مكانه اثنتي عشرة سنة وقال ابن العميد عشر سنين. قال: وفي التاسعة والثلاثين من ملك عزياهو خرج إلى مدينة برصا ففتحها عنوة واستباحها وزحف إليه فول ملك الموصل فصانعه بألف قنطار من الفضة ورجع عنه وكانت سيرته رديئة ولما هلك مناخيم ملك ابنه بقحيا لأربعين من دولة عزيا ملك القدس فأقام فيهم اثنتي عشرة سنة وقال ابن العميد سنتين. ثم ثار عليه من عماله باقح بن رسليا وكان على طريقة من تقدمه في الضلال فأقام ملكاً على الأسباط بالسامرة عشر سنين وهلك لدولته عزيا بن أمصيا ملك يهوذا بالقدس وأقام باقح بن رسليا على سوء السيرة وعبادة الأصنام إلى أن قتله هويشيع بن إيليا من سبط جاد في الثالثة من ملك يؤاب ملك القدس. وبقي الأسباط بعده فوضى عشر سنين ثم ملكوا قاتله هويشيع بن إليا المذكور فأقام مملكاً عليهم سبع سنين. وفي أيامه زحف إليه ملك أثور والموصل فصير الأسباط في دولته وأدوا إليه الخراج. ثم إن هويشيع راسل ملك مصر في الإستعانة به والرجوع إلى طاعته فلما بلغ ذلك إلى ملك الموصل زحف إليه وحاصره في مدينة السامرة ثلاث سنين واقتحمها في الرابعة. وتقبض على هويشيع لتسع سنين من ملكه ونقله مع الأسباط كلهم إلى الموصل. ثم بعثهم إلى قرى أصبهان وأنزلهم بها. وقطع ملك بني إسرائيل من السامرة وبقي ملك يهوذا وبنيامين بالقدس وكان ذلك لعهد أحزيا بن أحاز من ملوكهم لسنة من دولته. وتعاقبت ملوكهم بعد ذلك بالقدس إلى أن انقرضوا وجمع ملك الموصل من كوره غاراً وحماة وصفرارام ويقال ومركتا وأسكنهم بالسامرة. قال ابن العميد: وتفسيرها حفيظة ويوآطر. قالوا وسلط الله عليهم السباع يفترسونهم فبعثوا إلى ملك الموصل أن يعرفهم بصاحب قسمة السامرية من الكواكب ليتوجهوا إليه بما يناسبه على طريقة الصابئة فقيل أن العشرية التي رسخت فيها وهي دين اليهودية تمنع من ذلك ومن ظهور أثره فبعث إليهم كوهنين من عامة اليهود يعلمانهم اليهودية فتلقوها عنهما. فهذا أصل السامرة في فرق اليهود وليسوا منهم عند أهل ملتهم لا في نسهم ولا في دينهم والله مالك الأمور لا رب غيره ولا معبود سواه سبحانه وتعالى. الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأول وما كان لبني إسرائيل فيها من الملك في الدولتين لبني حشمناي وبني هيرودوس إلى حين الخراب الثاني والجلوة الكبرى هذه الأخبار التي كانت لليهود ببيت المقدس والملك الذي لهم في العمارة بعد جلاء بختنصر وأمر الدولتين اللتين كانتا لهم في تلك المدة لم يكتب فيها أحد من الأئمة ولا وقفت في كتب التواريخ مع كثرتها واتساعها على ما يلم بشيء من ذلك. ووقع بيدي وأنا بمصر تأليف لبعض علماء بني إسرائيل من أهل ذلك العصر في أخبار البيت والدولتين اللتين كانتا بها ما بين خراب بختنصر الأول وخراب طيطس الثاني الذي كانت عنده الجلوة الكبرى استوفى فيه أخبار تلك المدة بزعمه. ومؤلف الكتاب يسمى يوسف بن كريون وزعم أنه كان من عظماء اليهود وقوادهم عند زحف الروم إليهم وأنه على صولة فحاصره أسبيانوس أبو طيطش واقتحمها عليه عنوة وفر يوسف إلى بعض الشعاب وكمن فيها ثم حصل في قبضته بعد ذلك واستبقاه ومن عليه وبقي في جملته. وكانت له تلك وسيلة إلى ابنه طيطش عندما أجلى بني إسرائيل على البيت فتركه بها للعبادة كما يأتي في أخباره. هذا هو التعريف بالمؤلف. وأما الكتاب فاستوعب فيه أخبار البيت واليهود بتلك المدة وأخبار الدولتين اللتين كانتا بها لبني حشمناي وبني هيردوس من اليهود وما حدث في ذلك من الأحداث فلخصتها هنا كما وجدتها فيه لأني لم أقف على شيء فيها لسواه. والقوم أعلم بأخبارهم إذا لم يعارضها ما يقدم عليها. وكما قال صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب. فقد قال ولا تكذبوهم " مع أن ذلك إنما هو راجع إلى أخبار اليهود وقصص الأنبياء التي كان فيها التنزيل من عند الله. لقوله بعد ذلك: " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ". وأما الخبر عن الواقعات المستندة إلى الحسن فخبر الواحد كافي فيه إذا غلب على الظن صحته فينبغي أن نلحق هذه الأخبار بما تقدم من أخبارهم لتكمل لنا أحوالهم من أول أمرهم إلى آخره. والله أعلم. ولم التزم صدقه من كذبه والله المستعان. قال الطبري وغيره من الأئمة: كان يرميا ويقال أرميا بن خلقيا من أنبياء بني إسرائيل ومن سبط لاوي وكان لعهد صدقيا هو آخر ملوك بني يهوذا ببيت المقدس. ولما توغلوا في الكفر والعصيان أنذرهم بالهلاك على يد بختنصر وسأه عنه وأطلقه واحتمله معه في السبي وكان فيما يقوله أرميا أنهم يرجعون إلى بيت المقدس بعد سبعين سنة. يملك فيها بختنصر وابنه وابن ابنه ويهلكون وإذا فرغت مملكة الكلدانيين بعد السبعين يفتقدكم يخاطب بذلك بني إسرائيل في نص آخر له عند كمال سبعين لخراب المقدس. وكان شعيا بن أمصيا من أنبيائهم أخبرهم بأنهم يرجعون إلى بيت المقدس على يد كورش من ملوك الفرس ولم يكن وجد لذلك العهد. فلما استولى كورش على بابل وأزال مملكة الكلدانيين أذن لبني إسرائيل في الرجوع إلى بيت المقدس وعمارة مسجدها. ونادى في الناس أن الله أوصاني أن ابني بيتاً فمن كان لله وسعيه لله فليمض إلى بنائه. فمضى بنو إسرائيل في اثنين وأربعين ألفاً وعليهم زير يافيل بالفاء الهوائية بن شالتهيل بن يوخنيا آخر ملوكهم بالقدس الذي حبسه بختنصر وقد مر ذكره. وقد مضى مهم عزير النبي من عقب أشيوع بن فنحاص بن ألعازر بن هارون وبينه وبين أشيوع ستة آباء. لم أثق بنقلها لغلبة الظن بأنها مصحفة. ورد عليهم كورش الأواني وكانت لا يعبر عنها من الكثرة. قال ابن العميد: كانت خمسة آلاف وأربعمائة قصعة ذهباً وفضة فمضوا إلى بيت المقدس وشرعوا في العمارة وشرع كورش وسعى عليهم في أبطال ذلك بعض أعدائهم من السامرة ولم يكن أمد السبعين التي وعدهم بها انقضى لأن الخراب كان لثمان عشرة من ملك بختنصر وكانت دولته خمسة وأربعين ومدة ابنه وابن ابنه خمس وعشرون فبقيت من السبعين ثمانية عشر التي نفذت من ملك بختنصر قبل الخراب فمنعوا من العمارة بسعاية السامرية إلى أن انقضت الثمان عشرة. وجاءت دولة دارا من ملوك الفرس فأذن لهم في العمارة وعاد السامرة لسعايتهم في إبطال ذلك عند دارا فأخبره أهل في دولته أن كورش أذن لهم في ذلك فخفى سبيلهم وعمروا بيت المقدس في الثانية من ملك دارا الأول وهو أرفخشد والكوهن يومئذ عزير. وجدد لهم التوراة بعد سنتين من رجوعهم إلى البيت. ثم هلك في زيريافيل وخلفه فيهم بهشمياس. وقبض العزيز وخلفه شمعون الصفا من بني هارون أيضاً. وقال يوسف بن كريون أن بختنصر لما رجع إلى بابل أقام ملكاً سبعاً وعشرين سنة. وملك بعده ابنه بلتنصر ثلاث سنين وانتقض عليه داريوش ملك ماذي وأظنهم الديلم وكيرش ملك فارس. وهزمتهم عساكره كما مر فعمل في بعض أيامه صنيعاً لقواده سروراً بالواقع وسقاهم في أواني بيت المقدس التي احتملها جده من الهيكل. فسخط الله لذلك ورأى تلك الساعة كان يداً خرجت من الحائط تومي بكتابة كلمات بالخط الكلداني والكلمات عبراينة. وهي أحصى وزن نفذ. فارتع لذلك هو والحاضرون وفزع إلى دانيال النبي في قال وهب بن منبه: هو من أعقاب حزقيل الأصغر وكان خلفاً من دانيال الأكبر. فقال له دانيال: هذه الكلمات تنذر بزوال ملكك ومعناها أن الله أحصى مدة ملكك ووزن أعمالك ونفذ قضاؤه بزوال ملكك عنك وعن قومك. وقتل تلك الليلة بلتنصر. وكان ما قدسناه من استقلال كورش وقومه فارس بالملك ورد الجالية إلى بيت المقدس وأطلق لهم المال لعمارتها شكراً على الظفر بالكلدانيين. ومضى بنو إسرائيل ومعهم غزرا الكاهن ونجمياً مردخاي وجميع رؤساء الجالية يبنون البيت والمذبح على حدودها وقربوا القرابين. وكان كورش بعد ذلك يطلق لهم في كل سنة من الحنطة والزيت والبقر والغنم والخمر ما يحتاجون إليه في خدمة البيت ويطلق لهم جراية واسعة. وجرى ملوك الفرس بعده على سنته في ذلك إلا قليلاً في أيام أخشويروش منهم كان وزيره هامان وكان من العمالقة. وكان طالوت قد استخلفهم بأمر الله. فكان هامان يعاديهم لذلك وعظمت سعايته فيهم وحمله على قتلهم. وكان مردخاي من رؤسائهم قد زوج أخته من الرضاع لأخشويروش فدس إليها مردخاي أن تشفع إلى الملك في قومها فقبلها وعطف عليهم وأعادهم إلى أن انقرضت دولة الفرس. بمهلك دارا واستولى بنو يونان بمهلك دارا على ملك فارس وملك الإسكندر بن فيفلوس ودوخ الأرض وفتح سواحل الشام وسار إلى بيت المقدس لأنها من طاعة دارا وخاف الكهنة من ورأى في بعض تمثال رجلاً فقال: أنا رجل أرسلت لمعونتك ونهاه عن أذية المقدس وأوصاه بامتثال إشارتهم. فلما وصل إلى البيت لقيه الكوهن فبالغ في تعظيمه ودخل معه إلى الهيكل وبارك عليه ورغب إليه الإسكندر أن يضع هنالك تمثاله من الذهب ليذكر به فقال هذا حرام لكن تصرف همتك في مصالح الكهنة والمصلين ويجعل لك من الذكر دعاؤهم له وأن يسمى كل مولود لبني إسرائيل في هذه السنة بالإسكندر. فرضي الإسكندر وحمل لهم المال وأجزل عطية الكوهن وسأله أن يستخير الله في حرب دارا فقال له: امض والله مظفرك. وحض دانيال وقص عليه الإسكندر رؤيا رأها فأولها له بأنه يظفر بدارا. ثم انصرف الإسكندر وسار في نواحي بيت المقدس ومر بنابلس ولقيه سنبلاط السامري وكان أهل المقدس أخرجوه عنهم فأضافه وأهدى له أموالاً وأمتعة واستأذنه في بناء هيكل في طول بريد فأذن له فبناه وأقام صهره منشا كوهناًً فيه وزعم أنه المراد بقوله في التوراة: اجعل البركة على جبل كريدم فقصده اليهود في الأعياد وحملوا إليه القرابين وعظم أمره وغص بشأنه أهل بيت المقدس إلى أن خربه هرمايوس بن شمعون أول ملوك بني حشمناي كما يأتي ذكره. ثم هلك الإسكندر ببابل بعد استيفاء مدته لاثنتين وثلاثين من ملكه وكان قد قسم ملكه بين عظماء دولته فكان سلياقوس بعد الإسكندر وكان عظيم أصحابه. فأكرم اليهود وحمل المال إلى فقراء البيت ثم سعى عنده بأن في الهيكل أموالاً وذخائر نفيسة ورغبوه في ذلك فبعث عظيماً من قواده اسمه أردوس ليقبض ذلك المال فحضر بالبيت وأنكر الكاهن حنينان أن يكون بالبيت إلا بقية الصدقات من فارس ويونان وما أعطاهم سلياقوس آنفاً فلم يقبل ووكل بهم في الهيكل فتوجهوا بالدعاء وجاء أردوس ليقبض المال فصدع في طريقه وجاء أصحابه إلى الكوهن حنينا وجماعة الكهنة يسألون الإقالة والدعاء لأردوس فدعوا له وعوفي وارتحل وازداد الملك سلياقوس إعظاماً للبيت وحمل ما كان يحمل إليهم مضاعفاً. قال ابن كريون: ثم ترجمت التوراة لليونانيين وكان من خبرها أن تلماي ملك مصر من اليونانيين بعد الإسكندر وكان من أهل مقدونية وكان محباً للعلوم ومشغوفاً بالحكمة والكتب الإلهية. وذكرت له كتب اليهود الأربعة والعشرون سفراً فتاقت نفسه للوقوف عليها. وكتب إلى كهنون القدس في ذلك وأهدى له فأختار سبعين من أحبار اليهود وعلمائهم وفيهم كوهن عظيم اسمه ألعازر وبعثهم إليهم ومعهم الأسفار فتلقاهم بالكرامة وأوسع لهم النزول ورتب مع كل واحد كاتباً يملىء عليه ما يترجم له حتى ترجم الأسفار من العبرانية إلى اليونانية وصححها وأجاز الأحبار وأطلق لهم من كان بمصر من سبي اليهود نحواً من مائة ألف وصنع مائدة من الذهب نقشت عليها صورة أرض ثم هلك تلقاي صاحب مصر واستولى بعده أنطيوخوس صاحب مقدونية على أنطاكية ثم على مصر وأطاعه ملوك الطوائف بأرض العراق واستفحل ملكه وعظم طغيانه وأمر الأمم بعبادة الأصنام. وعمل أصناماً على صورته فامتنع اليهود من قبولها وسعى بهم عند بعض شرارهم وكانوا أهل نجدة وشوكة فسار انطيوخوس إليهم واثخن فيهم بالقتل والسبي وفروا إلى الجبال والبراري فرجع واستخلف على بيت المقدس قائده فليلقوس وأمره أن يحملهم على بيت المقدس قائده فليلقوس وأمره أن يحملهم على السجود لأصنامه وعلى أكل الخنزير وترك السبت والختان. ويقتل من يخالفه ففعل ذلك أشد ما يكون وبسط على اليهود أيدي أولئك الأشرار الساعين. وقتل ألعازر والكوهن الذي ترجم لهم التوراة لما امتنع من السجود لصنمه وأكل قربانه. وكان فيمن هرب إلى الجبال والبراري متيتيا بن يوحنا بن شمعون الكوهن الأعظم ويعرف بحشمناي بن حونيا من بني نوذاب من نسل هارون عليه السلام وكان رجلاً صالحاً خيراً شجاعاً. وأقام بالبرية وحزن لما نزل بقومه. فلما أبعد أنطيخوس الرحلة عن القدس بعث متيتيا إلى اليهود يعرفهم بمكانه وينمعض لهم ويحرضهم على الثورة على اليونانيين فأجابوه وتراسلوا في ذلك. وبلغ الخبر فليلقوس قائد أنطيخوس فسار في عسكره إلى البرية طالباً متيتيا أصحابه. فلما وصل إليهم حاربهم فغلبوه وانهزم في عساكره وقوي اليهود على الخلاف وهلك متيتيا خلال ذلك وقام بأمره ابنه يهوذا فهزم عساكر فليلقوس ثانية وشغل أنطيخوس بحروب الفرس فزحف إليهم من مقدونية واستخلف عليهم ابنه أفظر وضم إليه عظيماً من قومه اسمه لشاوش وأمرهم أن يبعثوا العساكر إلى اليهود فبعثوا ثلاثاً من قوادهم وهم نيقانور وتلمياس وصردوس وعهد إليهم بإبادة اليهود حيث كانوا. فسارت عساكر واستنفروا سائر الأرمن من نواحي دمشق وحلب وأعداء اليهود من فلسطين وغيرهم. وزحف يهوذا بن متيتيا مقدم اليهود للقائهم بعد أن تضرعوا إلى الله وطافوا بالبيت وتمسحوا به ولقيهم عسكر نيقانور فهزموه واثخنوا فيه بالقتل وغنموا ما معهم. ثم لقيهم عسكر القائد ابن تلمياس وهيرودوس ثانياً فهزموهما كذلك وقبضوا على فليلقوس القائد الأول لأنطيخوس فأحرقوه بالنار ورجع نيقانور إلى مقدونية فدخلها وخبر ليشاوش وأفطر ابن الملك بالهزيمة فجزعوا لها. ثم جاءهم الخبر بهزيمة أنطيخوس أمام الفرس ثم وصل إلى مقدونية واشتد غيظه على اليهود وجمع لغزوهم فهلك دون ذلك بطاعون في جسده ودفن في طريقه. وملك أفظر وسموه أنطيخوس باسم أبيه. ورجع يهوذا بن متيتيا إلى القدس فهدم جميع ما بناه أنطيخوس من المذابح وأزال ما نصبه من الأصنام وطهر المسجد وبنى مذبحاً جديداً للقربان فوضع فيه الحطب ودعا الله أن يريهم آية في اشتعاله من غير نار فاشتغل كذلك ولم ينطف إلى الخراب الثاني أيام الجلوة واتخذوا ذلك اليوم عيداً سموه عيد العساكر. ونازل ليشاوش فزحف إليه يهوذا بن متيتيا في عسكر اليهود وثبت عسكر ليشاوش فانهزموا ولجأ إلى بعض الحصون وطلب النزول على الأمان على أن لا يعود إلى حربهم. فأجابه يهوذا على أن يدخل أفظر معه في العقد وكان ذلك. وتم الصلح وعاهد أفظر اليهود على أن لا يسير إليهم وشغل يهوذا بالنظر في مصالح قومه. قال ابن كريون: وكان لذلك العهد ابتداء أمر الكيتم وهم الروم وكانوا برومية وكان أمرهم شورى بين ثلثمائة وعشرين رئيساً ورئيس واحد عليهم يسمونه الشيخ يدبر أمرهم ويدفعون للحروب من يثقون بغنائه وكفايته منهم أو من سواهم. هكذا كان شأنهم لذلك العهد وكانوا قد غلبوا اليونانيين واستولوا على ملكهم وجازوا البحر إلى أفريقية فملكوها كما يأتي في أخبارهم. فاجمعوا السير إلى أنطيخوس أفظر وابن عمه ليشاوش بقية ملوك يونان بإنطاكية وكاتبوا يهوذا ملك بني إسرائيل بالقدس يستميلونهم عن طاعة أنيطخوس واليونانيين فأجابوهم إلى ذلك. وبلغ ذلك أنطيخوس فنبذ إلى اليهود عهدهم وسار إلى حربهم فهزموه ونالوا منه. ثم راسلهم في الصلح وأن يقيموا على عهدهم معه ويحمل لبيت المقدس بما كان يحمله من المال وأن يقتل من عنده من شرار اليهود الساعين عليهم فتم العهد بينهم على ذلك. وقتل شملاوش من الساعين على اليهود ثم جهز أهل رومة قائد حروبهم دمترياس بن سلياقوس إلى أنطاكية ولقيه أنطيخوس أفظر فانهزم أنطيخوس وقتل هو وابن عمه ليشاوش وملك الروم أنطاكية ونزلها قائدهم دمترياس. وكان ألقيموس الكوهن من شرار اليهود عند أنطيخوس. فلما ملك دمترياس قائد الروم فسعى عنده في إليهود ورغبه في ملك القدس والإستيلاء على أمواله فبعث قائده نيقانور لذلك وخرج يهوذا ملك القدس لتلقيه وطاعته وقدم بين يديه الهدايا والتحف فمال نيقانور إلى مسالمة اليهود وحسن رأيه وأكد بينه وبينهم العهد ورجع. وبادر ألقيموس الكوهن إلى دمترياس وأخبره بميل قائده نيقانور إلى اليهود وزاد في إغرائه. فبعث إلى قائده ينكر عليه ويستحثه لإنفاذ أمره أن يحمل يهوذا مقيداً. وبلغ ذلك يهوذا فلحق بمدينة السامرة صبصطية واتبعه نيقانور في العساكر فكر عليه يهوذا وهزمه وقتل أكثر عساكر الروم الذين معه ثم ظفر به فصلبه على الهيكل ببيت المقدس. واتخذ اليهود ذلك اليوم عيداً وهو ثالث عشر آذار. ثم بعث قائد الروم دمترياس من قابل الآخر يعتروس في ثلاثين ألفاً من الروم لمحاربة اليهود وخرجت عساكرهم من المقدس وفروا عن ملكهم يهوذا وافترقوا في الشعاب وأقام معه منهم فل قليل واتبعهم يعتروس فلقيه يهوذا وأكمن له فانهزم اليهود. وخرج عليهم كمين الروم فقتل يهوذا في كثير من ولايته ودفن إلى جانب أبيه متيتيا. ولحق أخوه يوناثال فيمن بقي من اليهود بنواحي الأردن وتحصنوا ببئر سبع فحاصرهم يعتروس هنالك أياماً ثم بيتوه فهزموه. وخرج يوناثال واليهود في اتباعه فقبضوا عليه ثم أطلقوه على مسالمة اليهود وأن لا يسير إلى حربهم. فهلك يوناثال أثر ذلك وقام بأمر اليهود أخوهما الثالث شمعون فاجتمع إليه اليهود من كل ناحية وعظمت عساكره وغزا جميع أعدائهم ومن ظاهر عليهم من سائر الأمم وزحف إليه دمترياس قائد الروم بأنطاكية فهزمه شمعون وقتل غالب عسكره ولم تعاودهم الروم بعدها بالحرب إلى أن هلك شمعون. وثب عليه صهره تلماي زوج أخته فقتله وتقبض على بنيه وامرأته وهرب ابنه الأكبر قانوس بن شمعون إلى غزة فامتنع بها. وكان اسمه يوحان وكان شجاعاً قتل في بعض الحروب شجاعاً اسمه هرقانوس فسماه أبوه باسمه. ثم اجتمع عليه اليهود وملكوه وسار إلى بيت المقدس وفر تلماي المتوثب على أبيه إلى حصن داخون فامتنع به وسار هرقانوس إلى محاربته وضيق عليه. وأشرف تلماي في بعض الأيام من فوق السور بأم هرقانوس وأخته يتهددهما بقتلهما فكف عن الحرب وانصرف لحضور عبد المظال ببيت المقدس فقتل تلماي أخته وأمه وفر من الحصن. قال ابن كريون: ثم زحف دمترياس ابن سلياقوس قائد الروم إلى القدس وحاصر اليهود فامتنعوا وثلم السور وراسلوه في تأخير الحرب إلى انقضاء عيدهم ففعل على أن يكون له نصيب في القربان ووقعت في نفسه صاغية لهم وأهدى تماثيل للبيت فحسن موقعها عندهم وراسلوه في الصلح على المسالمة والمظاهرة لبعض فأجاب وخرج إليه هرقانوس ملك اليهود وأعطاه ثلثمائة بدرة من الذهب استخرجها من بعض قبور داود. ورحل عنهم الروم وشغل هرقانوس في رم ما ثلم من السور وحدثت خلال ذلك فتنة بين الفرس والروم فسار إليهما دمترياس في جموع الروم وبينما أبطأ هرقانوس ملك اليهود لحضور عيدهم إذ جاءه الخبر بأن الفرس هزموا دمترياس فنهز الفرصة وزحف إلى إعدائه من أهل الشام وفتح نابلس وحصون أدوم التي بجبل الشراة وقتل منهم خلقاً ووضع عليهم الجزية وأخذهم بالختان والتزام أحكام التوراة وخرب الهيكل الذي بناه سنبلاط السامري في طول بريد بإذن الإسكندر وقهر جميع الأمم المجاورين لهم. ثم بعث وجوه اليهود وأعيانهم إلى الأشياخ والمدبرين برومة يسأل تجديد العهد وأن يردوا على اليهود ما أخذ أنطيخوس ويونان من بلادهم التي صارت في مملكة الروم فأجابوا وكتبوا له العهد بذلك وخاطبوه بملك اليهود. وإنما كان يسمى من سلف قبله من آبائه بالكوهن فسمى نفسه من يومئذ بالملك وجميع بين منزلة الكهنونة ومنزلة الملك. وكان أول ملوك بني حشمناي. ثم سار إلى مدينة السامرة صبصطية ففتحها وخربها وقتل أهلها. قال ابن كريون: وكان اليهود في دينهم ثلاث فرق: فرقة الفقهاء وأهل القيافة ويسمونهم الفروشيم وهم الربانيون وفرقة الظاهرية المتعلقين بظواهر الألفاظ من كتابهم ويسمونهم الصدوقية وهم القراوون وفرقة العباد المنقطعين إلى العبادة والتسبيح والزهاد فيما سوى ذلك ويسمونهم الحيسيد. وكان هرقانوس وآباوه من اليونانيين ففارق مذهبهم إلى القرائين لأنه جمع اليهود يوماً عندما تمهد أمره وأخذ بمذاهب الملك ولقي به في صنيع احتفل به وألان لهم جانبه وخضع في قوله وقال أريد منكم النصيحة. فطمع بعض الربانيين فيه قال: إن النصيحة أن تنزل عن الكهنونة وتقتصر على الملك وقد فاتك شرطها لأن أمك كانت سبية من أيام أنطيخوس فغضب لذلك وقال للربانيين: قد حكمتكم في صاحبكم فأخذوا في تأديبه بالضرب فتنمر لهم من أجل ذلك وفارق مذهبهم إلى مذهب القرائين وقتل من الربانيين خلقاً كثيراً ونشأت الفتنة بين هاتين الطائفتين من اليهود واتصلت بينهم الحرب إلى هذا العهد. وهلك هرقانوس لإحدى وثلاثين سنة من دولته وملك بعهده ابنه أرستبلوس وكان كبيرهم وكان له ولدان آخران وهما أنطيوخس ويحب الملك له ويبغض الإسكندر فأبعده إلى جبل الخليل فلما ملك أرستبلوس أخذ من إخوته بمذهب أبيهم وقبض على الإسكندر وأمه واستخلص أنطيوخس وقدمه على العساكر واكتفى به في الحروب ترفع عن تاج الكهنونة ولبس تاج الملك. وخرج أنطقنوس إلى الأمم المجاورين الخارجين عن طاعتهم فردهم إلى الطاعة وكثرت السعاية فيه عند أخيه من البطانة وأغروه به فلما قدم أنطقنوس من مغيبه وافق عيد المظال وكان أخوه ملتزماً بيته لمرض طرقه فعدل أنطقنوس عن بيته إلى الهيكل للتبرك فأوهموا الملك أنه إنما فعل ذلك لاستمالة الكهنونية والعامة وأنه يروم قتل أخيه وعلامة ذلك أنه جاء بسلاحه. فعهد أرستبلوس إلى حشمانه وغلمان قصره إن جاء متسلحاً أن يقتلوه وكان ذلك وتمت حيلة البطانة وسعايتهم عليه. وعلم أرستبلوس أن قد خدع في أخيه فندم وأغتم ولطم صدره حتى قذف الدم من فيه وأقام عليلاً بعده حولاً كاملاً ثم هلك. فأفرجوا عن أخيه الإسكندر من محبسه وبايعوا له بالملك واستقام له الأمر. ثم انتقض عليه أهل عكا وأهل صيدا وأهل غزة بعثوا إلى قبرص. وسار الإسكندر إلى عكا فحاصرها وكانت كلوبطرة ملكة من بقية اليونان قد انتقض عليها ابنها واسمه ألظيرو وجاز البحر إلى جزيرة قبرص فملكها فبعث أهل عكا أنهم يملكونه وجاز إليهم في ثلاثين ألف مقاتل حتى إذا أفرج الإسكندر عن حصارهم راجعوا أمرهم ومنعوا ألظيرو من الدخول إليهم فسار في بلاد الإسكندر ونزل على جبل الخليل فقتل منه خلقاً ونزل على الأردن. وفي خلال ذلك زحف الإسكندر إلى صيدا ففتحها عنوة واستباحها وعاد إلى القدس وأطاعته البلاد وحسم داء المنتقضين عليه. ثم تجددت الفتنة بين اليهود بالقدس وذلك أنهم اجتمعوا في عيد المظال بالمسجد وحضر الإسكندر معهم فتلاعبوا بين يديه مراماة بما عندهم من مشموم ومأكول وأصاب الإسكندر رمية من الربانيين فغضب لها وشاتمهم القراؤون بما كانوا من شيعته فشتموا الإسكندر وقتلوا الشاتم وأصحابه فلم يغن عنهم وعظم فيهم الفتك وانفض الجمع. وعهد الإسكندر أن يستد المذبح والكهنة بحائط عن الناس ونفذ أمره بذلك. واتصلت الفتنة بين اليهود ست سنين قتل من الربانيين نحو من خمسين ألفاً والإسكندر يعين القرائين عليهم. وبعثوا إلى دمتريوس المسمى أنطيخوس وبذلوا له المال فسار معهم إلى نابلس ولقي الإسكندر فهزمه وقتل عامة أصحابه ورجع. فخرج الإسكندر إلى الربانيين وأثخن فيهم وظفر منهم بجماعة تزيد على ثلثمائة فقتلهم صبراً وقهر سائر اليهود. وسار إلى دمتريوس ففتح الكثير من بلاده وخرج فظفر به الإسكندر وقتله وعاد إلى بيت المقدس لثلاث سنين في محاربة فاستقام أمره وعظم سلطانه ثم طرقه المرض فقام عليلاً ثلاثاً آخرين وخرج بعدها لحصار بعض الحصون وانتقضوا عليه فمات هنالك وأوصى امرأته الإسكندرة بكتمان موته حتى يفتح الحصن وتسير بشلوه إلى القدس فتدفنه فيه وتصانع الربانيين على ولدها فتملكه لأن العامة إليهم أميل. ففعلت ذلك واستدعت من كان نافراً من الربانيين وجمعتهم وقدمتهم للشورى واستبدت بالملك. وكان لها ابنان من الإسكندر بن هرقانوس اسم الأكبر منهما هرقانوس والآخر أرستبلوس وكانا صغيرين عند موت أبيهما فلما كبرا عينت هرقانوس للكهنونة وقدمت أرستبلوس على العساكر والحروب وضمت إليه الربانيين وأخذت الرهن من جميع الأمم وسألها الربانيون في الأخذ بثأرهم من القرائين خلقاً كثيراً وجاء القراؤون إلى ابنها الكهنون ينكرون ذلك وأنه إذا فعل بهم ذلك وقد كانوا شيعاً لأبيه الإسكندر فقد تحدث النفرة من الناس وسألوه أن يلتمس لهم إذنها في الخروج عن القدس والبعد عن الربانيين فأذنت لهم رغبة في انقطاع الفتنة. وخرج معهم وجوه العسكر ثم ماتت خلال ذلك لتسع سنين من دولتها. ويقال إن ظهور عيسى صلوات الله عليه كان في أيامها. وكان ابنها أرستبلوس قائد العسكر لما شعر بموتها خرج إلى القرائين يستدعيهم إلى نصرته فأجازوه وتقبضت هي على ابنيه وامرأته واجتمعت عليه العساكر من النواحي وضرب البوق وزحف لحرب أخيه هرقانوس والربانيين وحاصرهم أرستبلوس ببيت المقدس وعزم على هدم الحصن فخرج إليه أعيان اليهود والكهنونية ساعين في الصلح بينهما وأجاب على أن يكون ملكاً ويبقي هرقانوس على الكهنونية فتم ذلك واستقر عليه أمره. |
ابتداء أمر انظفتر أبو هيردوس
ثم سعى في الفتنة بينهما أنطفتر أبو هيردوس وكان من عظماء بنى إسرائيل من الذين جمعوا مع العزير من بابل وكان ذا شجاعة وبأس وله يسار وقنية من الضياع والمواشي. وكان الإسكندر قد ولاه على بلاد أدوم وهي جبال الشراة. فأقام في ولايتها سنين وكثر ماله وأنكحوه منهم فكان له منها أربعة من الأبناء وهم: فسيلو وهيردوس وفرودا ويوسف وبنت اسمها سلومث. وقيل أن أنطفتر لم يكن من بني إسرائيل وإنما كان من أدوم وربي في جملة بني حشمناي وبيوتهم. فلما مات الإسكندر وملكت زوجته الإسكندرة عزلته عن جبال الشراة فأقام بالقدس. حتى إذا استبد بالأمر أرستبلوس وكان بين هرقانوس وأنظفتر مودة وصحبة. فغص أرستبلوس بمكانه من أخيه لما يعلم من مكر أنظفتر وهم بقتله فانفض عنه وأخذ في التدبير على أرستبلوس. وفشا في الناس تبغضه إليهم وينكر تغلبه ويذكر لهم أن هرقانوس أحق بالملك منه ثم حذر هرقانوس من أخيه وخيل إليه أنه يريد قتله. وبعث لشيعة هرقانوس المال على تخويفه من ذلك حتى تمكن منه الخوف. ثم أشار عليه بالخروج إلى ملك العرب هرثمة وكان يحب هرقانوس فعقد معه عهداً إلى ذلك. ولحق هرقانوس بهرثمة ومعه أنظفتر ثم دعوا قرثمة إلى حرب أرستبلوس فأجابهم بعد مراوغة. وتزاحفوا ونزع الكثير من عسكر أرستبلوس إلى هرقانوس فرجع هارباً إلى القدس. ونازلهم هرقانوس وهرثمة واتصلت الحرب وطال الحصار. وحضر عيد الفطير وافتقد اليهود القرابين فبعثوا إلى أصحاب هرقانوس فيها فاشتطوا في الثمن ثم أخذوه ولم يعطوهم شيئاً. وقتلوا بعض النساك طلبوه في الدعاء على أرستبلوس وأصحابه وامتنع فقتلوه ووقع فيهم الوباء فمات منهم أمم. قال ابن كريون: وكان الأرمن ببلاد دمشق وحمص وحلب وكانوا في طاعة الروم فانتقضوا عليهم في هذه المدة وحدثت عندهم صاغية إلى الفرس. فبعث الروم قائدهم فمقيوس فخرج لذلك من رومية. وقدم بين يديه قائده سكانوس فطوع الأرمن ولحق دمشق ثم لحقه فمقيوس ونزل بها. وتوجهت إليه وجوه اليهود في أثيرهم وبعث إليه أرستبلوس من القدس وهرقانوس من مكان حصاره كل واحد منهما يستنجده على أخيه. وبعثوا إليه بالأموال والهدايا فأعرض عنها وبعث إلى هرثمة ينهاه عن الدخول بينهما فرحل عن القدس ورحل معه هرقانوس وأنظفتر وأعاد أرستبلوس رسله وهداياه من بيت المقدس وألح في الطلب وجاء أنظفتر إلى فمقيوس بغير مال ولا هدية فنكث عنه فمقيوس فرجع إلى رغبته ومسح أعطافه وضمن له طاعة هرقانوس الذي هو الكهنوت الأعظم. ويحصل بعد ذلك إضعاف أرستبلوس فأجابه فمقيوس على أن يتحيل له في الباطن ويكون ظاهره مع أرستبلوس حتى يتم الأمر. وعلي أن يحملوا الخراج عند حصول أمرهم فضمن أنظفتر ذلك وحضر هرقانوس وأرستبلوس عند فمقيوس القائد يتظلم كل واحد من صاحبه فوعدهم بالنظر بينهم إذا حل بالقدس. وبعث أنظفتر في جميع الرعايا فجاؤوا شاكين من أرستبلوس فأمره فمقيوس من إنصافهم فغضب لذلك واستوحش وهرب من معسكر فمقيوس وتحصن في القدس. وسار فمقيوس في أثره فنزل أريحا ثم القدس وخرج أرستبلوس واستقال فأقاله وبذل له الأموال على أن يعينه على أخيه ويحمل له ما في الهيكل من الأموال والجواهر وبعث معه قائده لذلك فمنعهم الكهنونية وثارت بهم العامة وقتلوا بعض أصحاب القائد وأخرجوه فغضب فمقيوس وتقبض لحيته على أرستبلوس. وركب ليقتحم البلد فامتنعت عليه وقتل جماعة من أصحابه فرجع وأقام عليهم ووقعت الحرب بالمدينة بين شيع أرستبلوس وهرقانوس. وفتح بعض اليهود الباب لفمقيوس فدخل البلد وملك القصر وامتنع الهيكل عليه فأقام يحاصره أياماً وصنع آلة الحصار فهدم بعض أبراجه واقتحمه عنوة. ووجد الكهنونية على عبادتهم وقرباتهم مع تلك الحرب ووقف على الهيكل فاستعظمه ولم يمد يده إلى شيء من ذخائره. وملك عليهم هرقانوس وضرب عليهم الخراج يحمله كل سنة ورفع يد اليهود عن جميع الأمم الذين كانوا في طاعتهم ورد عليهم البلدان التي ملكها بنو حشمناي ورجع إلى رومة. واستخلف هرقانوس وأنظفتر على المقدس وأنزر معهما قائده سكانوس الذي قدمه لفتح دمشق وبلاد الأرمن عندما خرج من رومية وحمل أرستبلوس وابنيه مقيدين معه وهرب الثالث من بنيه وكان يسمى الإسكندر ولحقه فلم يظفر به. ولما بعد فمقيوس عن الشام ذاهباً إلى مكانه خرج هرقانوس وأنظفتر إلى العرب ليحملوهم على طاعة الروم فخالفهم الإسكندر بن أرستبلوس إلى المقدس وكان متغيباً بتلك النواحي منذ مغيب أبيه لم يبرح فدخل إلى المقدس وملكة اليهود عليهم وبنى ما هدمه فمقيوس من سور الهيكل واجتمع إليه خلق كثير ورجع هرقانوس وأنظفتر. فسار إليهم الإسكندر وهزمهم وأثخن في عساكرهم. وكان قائد الروم كينانوس قد جاء إلى بلاد الأرمن من بعد فمقيوس فلحق به واستنصره على الإسكندر فسار معه إلى القدس وخرج إليهم الإسكندر فهزموه ومضى إلى حصن له يسمى الإسكندرونة واعتصم به. وسار هرقانوس إلى القدس فاستولى على ملكه وسار كينانوس قائد الروم إلى الإسكندر فحاصره بحصنه واستأمن إليه وعفا عنه وأحسن إليه. وفي أثناء ذلك هرب أرستبلوس أخو هرقانوس من محبسه برومية وابنه أنطقنوس واجتمع إليه فحاربه كينانوس وهزمه وحصل في أسره فرده إلى محبسه برومية ولم يزل هنالك إلى أن تغلب قيصر على رومية واستحدث الملك في الروم وخرج فمقيوس من رومية إلى نواحي عمله وجمع العساكر لمحاربة قيصر فأطلق أرستبلوس من محبسه وأطلق معه قائدين في اثني عشر ألف مقاتل وسرحهم إلى الأرمن واليهود ليردوهم عن طاعة فمقيوس. وكتب فمقيوس إلى أنظفتر ببيت المقدس أن يكفيه أمر أرستبلوس فبعث قوماً من اليهود لقوه في بلاد الأرمن ودشوا له سماً في بعض شرابه كان فيه حتفه. وقد كان كينانوس كاتب الشيخ صاحب رومية في إطلاق من بقي من ولد أرستبلوس فأطلقهم. قال ابن كريون: وكان أهل مصر لذلك العهد انتقضوا علي ملكهم تلماي وطردوه وامتنعوا من حمل الخراج إلى الروم فسار إليهم واستنفر معه أنظفتر فغلبهم وقتلهم. ورد تلماي إلي ملكه واستقام أمر مصر ورجع كينانوس إلى بيت المقدس فجدد الملك لهرقانوس وقدم أنظفتر مدبر المملكة وسار إلى رومية. قال ابن كريون: ثم غضبت الفرس على الروم فندبوا إلى ذلك قائداً منهم يسمى عرنبوس وبعثوه لحربهم فمر بالقدس ودخل إلى الهيكل وطالب الكهنوت بما فيه من المال وكان يسمى ألعازر من صلحاء اليهود وفضلائهم. فقال له إن كينانوس وفمقيوس لم يفعلوا ذلك بتلك فاشتد عليه فقال: أعطيك ثلثمائة من الذهب وتتجافى عن الهيكل. ودفع إليه سبيكة ذهب على صورة خشبة كانت تلقى عليها الصور التي تنزل من الهيكل الذي تجدد. وكان وزنها ثلثمائة فأخذها ونقض القول وتعدى على الهيكل. وأخذ جميع ما فيه منذ عمارتها من الهدايا والغنائم وقربانات الملوك والأمم وجميع آلات القدس. وسار إلى لقاء الفرس فحاربوه وهزموه وأخذوا جميع ما كان معه وقتل واستولت الفرس على بلاد الأرمن: دقشق وحمص وحلب وما إليها. وبلغ الخبر إلى الروم فجهزوا قائداً عظيماً في عساكر جمة اسمه كسناو فدخل بلاد الأرمن الذين كانوا غلبوا عليها وساروا إلى القدس. فوجد اليهود يحاربون هرقانوس وأنظفتر فأعانهما حتى استقام ملك هرقانوس. ثم سار إلى الفرس في عساكره فغلبهم وحملهم على طاعة الروم ورد الملوك الذين كانوا عصوا عليهم إلى الطاعة وكانوا اثنين وعشرين ملكاً من قال ابن كريون: ثم ابتدأ أمر القياصرة وملك على الروم يولياس ولقبه قيصر لأن أمه ماتت حاملاً به عند مخاضها فشق بطنها عنه فلذلك سمي قيصر ومعناه بلغتهم القاطع. ويسمى أيضاً يولياس باسم الشهر الذي ولد فيه وهو يوليه خامس شهورهم ومعنى هذه اللفظة عندهم الخامس. وكان الثلثمائة والعشرون المدبرون أمر الروم والشيخ الذي عليهم قد أحكموا أمرهم مع جماعة الروم على أن لا يقدموا عليهم ملكاً وأنهم يعينون للحروب في الجهات قائداً بعد آخر. هذا ما اتفقوا عليه النقلة في الحكاية عن أمر الروم وابتداء ملك القياصرة. قالوا: ولما رأى قيصر هذا الشيخ الذي كان لذلك العهد كبر وشب على غاية من الشجاعة والإقدام فكانوا يبعثونه قائداً إلى العساكر إلى النواحي فأخرجوه مرة إلى المغرب فدوخ البلاد ورجع فسمت نفسه إلى الملك فامتنعوا له وأخبروه أن هذا سنة آبائهم منذ أحقاب وحدثوه بالسبب الذي فعلوا ذلك لأجله وهو أمر كيوس وأنه عهد لأولهم لا ينقض. وقد دوخ فمقيوس الشرق وطوع اليهود ولم يطمع في هذا. فوثب عليهم قيصر وقتلهم واستولى على ملك الروم منفرداً به وسمي قيصر. وسار إلى فمقيوس بمصر فظفر به وقتله. ورجع فوجد بتلك الجهات قواد فمقيوس فسار إليهم يولياس قيصر ومر ببلاد الأرمن فأطاعوه وكان عليهم ملك اسمه مترداث فبعثه قيصر إلى حربهم. فسار في الأرمن ولقيه هرقانوس ملك اليهود بعسقلان ونفر معه إلى مصر هو وأنظفتر ليمحوا بعض ما عرف منهم من موالاة فمقيوس. وساروا جميعاً إلى مصر ولقيتهم عساكرها واشتد الحرب فحصر بلادهم وكادت الأرمن أن ينهزموا فثبت أنظفتر وعساكر اليهود وكان لهم الظفر واستولوا على مصر. وبلغ الخبر إلى قيصر فشكر أنظفتر حسن بلائه واستدعاه فسار إليه مع ملك الأرمن مترداث فقبله وأحسن وعده. وكان أنطقنوس بن أرستبلوس قد اتصل بقيصر وشكا بأن هرقانوس قتل أباه حين بعثه أهل رومة لحرب فمقيوس فتحيل عليه هرقانوس وأنظفتر وقتلاه مسموماً. فأحسن أنظفتر العذر لقيصر بأنه إنما فعل ذلك في خدمة من ملك علينا من الروم وإنما كنت ناصحاً لقائدهم فمقيوس بالأمس وأنا اليوم أيها الملك لك أنصح وأحب فحسن موقع كلامه من قيصر ورفع منزلته وقدمه على عساكره لحرب الفرس. فسار إليه أنظفتر وأبلى في تلك الحروب ومناصحة قيصر فلما انقلبوا من بلاد الفرس أعادهم قيصر إلى ملك بيت المقدس على ما كانوا عليه. واستقام الملك لهرقانوس وكان خيراً إلا أنه كان ضعيفاً عن لقاء الحروب فتغلب عليه أنظفتر واستبد على الدولة وقدم ابنه فسيلو ناظراً في بيت المقدس وابنه هيردوس عاملاً على جبل الخليل. وكان كما بلغ الحلم واحتازوا الملك من أطرافه وامتلأ أهل الدولة منهم حسداً وكثرت السعاية فيهم. وكان في أطراف عملهم ثائر من اليهود يسمى حزقيا وكان شجاعاً صعلوكاً واجتمع إليه أمثاله فكانوا يغيرون على الأرمن وينالون منهم. وعظمت نكايتهم فيهم فشكا عامل بلاد الأرمن وهو سفيوس ابن عم قيصر إلى هيردوس وهو بجبل الخليل ما فعله حزقيا وأصحابه في بلادهم. فبعث هيردوس إليهم شيرئة فكبسوهم وقتل حزقيا وغيره منهم. وكتب بذلك إلى سفيوس فشكره وأهدى إليه. ونكر اليهود ذلك من فعل هيردوس وتظلموا عند هرقانوس وطلبوه في القصاص منه فأحضروه في مجلس الأحكام وأحضر السبعين شيخاً من اليهود وجاء هيردوس متسلحاً ودافع عن نفسه وعلم هرقانوس بغرض الأشياخ ففصلوا المجلس فنكروا ذلك على هرقانوس ولحق هيردوس ببلاد الأرمن فقدمه سفيوس على عمله. ثم أرسل هرقانوس إلى قيصر يسأل تجديد عهود الروم لهم فكتب له بذلك وأمر بأن يحمل أهل الساحل خراجهم إلى بيت المقدس ما بين صيدا وغزة ويحمل أهل صيدا إليها في كل سنة عشرين ألف وسق من القمح وأن يرد على اليهود سائر ما كان بأيديهم إلى الفرات واللاذقية وأعمالها وما كان بنو حشمناي فتحوه عنوة من عداوات الفرات لأن فمقيوس كان يتعدى عليهم في ذلك وكتب العهد بذلك في ألواح من نحاس بلسان الروم ويونان وعلقت في أسوار صور وصيدا واستقام أمر هرقانوس. قال ابن كريون: ثم قتل قيصر ملك الروم وأنظفتر وزير هرقانوس المستبد عليه. أما قيصر فوثب عليه كيساوس من قواد فمقيوس فقتله وملك وجمع العساكر وعبر البحر إلى بلاد أشيت ففتحها. ثم سار إلى القدس وطالبهم بسبعين بدرة من الذهب فجمع له أنظفتر وبنوه من اليهود ثم رجع كيساوس إلى مقدونية فأقام بها. وأما أنظفتر فإن اليهود داخلوا القائد ملكيا الذي كان بين أظهرهم من قبل كيساوس في قتل أنظفتر وزير هرقانوس فأجابهم إلى ذلك فدشوا إلى ساقيه سماً فقتله. وجاء ابنه هيردوس إلى القدس مجمعاً قتل هرقانوس فكفه فسيلو عن ذلك. وجاء كيساوس من مقدونية إلى صور ولقي هرقانوس وهيردوس وشكوا إليه ما فعله قائده ملكيا من مداخلة اليهود في قتل أنظفتر فأذن لهم في قتله فقتلوه. ثم زحف كينانوس ابن أخي قيصر وقائده أنطونيوس في العساكر لحرب كيساوس المتوثب على عمه قيصر فلقيهم قريباً من مقدونية فظفرا به وقتلاه وملك كينانوس مكان عمه وسمي أغسطس قيصر باسم عمه. فأرسل إليه هرقانوس ملك اليهود بهدية وفيها تاج من الذهب مرصع بالجواهر وسأل تجديد العهد لهم وأن يطلق السبي الذي سبي منهم أيام كيساوس وأن يرد اليهود إلى بلاد يونان وأثينة وأن يجري لهم ما كان رسم به عمه قيصر فأجابه إلى ذلك كله. وسار أنطيانوس وأغسطس إلى بلاد الأرمن بدمشق وحمص فلقته هنالك كلبطرة ملكة مصر وكانت ساحرة فأسأمته وتزوجها وحضر عند هرقانوس ملك اليهود. وجاء جماعة من اليهود فشكوا من هيردوس وأخيه فسيلو وتظلموا منهما وأكذبهم ملكهم هرقانوس وأبى عليها وأمر أنطيانوس بالقبض على أولئك الشاكين وقتل منهم. ورجع هيردوس وأخوه فسارا إلى مكانهما ومكان أبيهما من تدبير مملكة هرقانوس وسار أنطيانوس إلى بلاد الفرس فدوخها وعاث في نواحيها وقهر ملوكها وقفل إلى رومة. قال ابن كريون: وفي خلال ذلك لحق أنطقنوس وجماعة من اليهود بالفرس وضمنوا لملكهم أن يحملوا إليه بدرة من الذهب وثمانمائة جارية من بنات اليهود ورؤسائهم يسبيهن له على أن يملكه مكان عمه هرقانوس ويسلمه إليه ويقتل هيردوس وأخاه فسيلو فأجابهم ملك الفرس إلى ذلك وسار في العساكر وفتح بلاد الأرمن وقتل من وجد بها من قواد الروم ومقاتلتهم. وبعث قائده بعسكر من القدس مع أنطقنوس مورياً بالصلاة في بيت المقدس والتبرك بالهيكل. حتى إذا توسط المدينة ثار بها وأفحش في القتل وبادر هيردوس إلى قصر هرقانوس ليحفظه ومضى فسيلو إلى الحصن يضبطه وتورط من كان بالمدينة من الفرس قتلهم اليهود عن آخرهم وامتنعوا على القائد وفسد ما كان دبره في أمر أنطقنوس. فرجع إلى إستمالة هرقانوس وهيردوس وطلب الطاعة منهم للفرس وأنه يتلطف لهم عند الملك في إصلاح حالهم فصغى هرقانوس وفسيلو إلى قوله وخرجوا إليه وارتاب هيردوس وامتنع فارتحل بهما قائد الفرس حتى إذا بلغ الملك ببلاد الأرمن تقبض عليهما فمات فسيلو من ليلته وقيد هرقانوس واحتمله إلى بلاده وأشار أنطقنوس بقطع أذنه ليمنعه من الكهنونة. ولما وصل ملك الفرس إلى بلاده أطلق هرقانوس من الاعتقال وأحسن إليه إلى أن استدعاه هيردوس كما يأتي بعد. وبعث ملك الفرس قائده إلى اليهود مع أنطقنوس ليملك فخرج هيرودوس عن القدس إلى جبل الشراة فترك عياله بالحصن عند أخيه يوسف وسار إلى مصر يريد قيصر فأكرمته كالبطرة ملكة مصر وأركبته السفن إلى رومية. فدخل بها أنطيانوس إلى أوغسطس قيصر وخبره الخبر عن الفرس والقدس فملكه أوغسطس وألبسه التاج وأركبه في رومية في في زي الملك والهاتف بين يديه بأن أوغسطس ملكه. واحتفل أنطيانوس في صنيع له حضره الملك أوغسطس قيصر وشيوخ رومية وكتبوا له العهد في ألواح من نحاس ووضعوا ذلك اليوم التاريخ وهو أول ملك هيردوس. وسار أنطيانوس بالعسكر إلى الفرس ومعه هيردوس وفارقه من أنطاكية وركب البحر إلى القدس لحرب أنطقنوس فخرج أنطقنوس إلى جبال الشراة للإستيلاء على عيال هيردوس وأقام على حصار الحصن. وجاء هيردوس فحاربه وخرج يوسف من الحصن من ورائه فانهزم أنطقنوس إلى القدس وهلك أكثر عسكره. وحاصره هيردوس وبعث أنطقنوس بالأموال إلى قواد العسكر من الروم فلم يجيبوه وأقام هيرودوس على حصاره حتى جاءه الخبر عن أنطيانوس قائد قيصر أنه ظفر بملك الفرس وقتله ودوخ بلادهم. وإنه عاد ونزل الفرات. فترك هيردوس أخاه يوسف على حصار القدس مع قائد الروم سيساو ومن تبعهم من الأرمن وسار للقاء أنطيانوس وبلغه وهو بدمشق أن أخاه يوسف قتل في حصار القدس على يد قائده أنطقنوس وأن العساكر انفضت ورجعوا إلى دمشق وجاء سيساو منهزماً قائد أنطيانوس بالعساكر. وتقدم هيردوس وقد خرج أنطقنوس للقائه فهزمه وقتل عامة عسكره واتبعه إلى القدس. ووافاه سيساو قائد الروم فحاصروا القدس أياماً ثم اقتحموا البلد وتسللوا صاعدين إلى السور وقتلوا الحرس وملكوا المدينة وأفحش سياسو في قتل اليهود. فرغب إليه هيردوس في الإبقاء. وقال له: إذا قتلت قومي فعلى من تملكني فرفع القتل عنهم ورد ما نهب وقرب إلى البيت تاجاً من الذهب وضعت فيه وحمل إليه هيردوس أموالاً. ثم عثروا على أنطيانوس وقد كان سار من الشام إلى مصر فجاءه بانطقنوس هنالك ولحق بهم هيردوس وسأل من أنطيانوس قتل أنطقنوس فقتله واستبد هيردوس بملك اليهود وانقرض ملك بني حشمناي والبقاء لله وحده. انقراض ملك بني حشمناي وكان أول ما افتتح به ملكه أن بعث إلى هرقانوس الذي احتمله الفرس وقطعوا أذنه يستقدمه ليأمن على ملكه من ناحيته ورغبه في الكهنونية التي كان عليها فرغب وحذره ملك الفرس من هيردوس وعزله اليهود الذين معه وأراه أنها خديعة وأنه العيب الذي به يمنع الكهنونية فلم يقبل شيء من ذلك. وصغى إلى هيردوس وحسن ظنه به وسار إليه وتلقاه بالكرامة والأعطاء وكان يخاطبه بأبي في الجمع والخلوة. وكانت الإسكندرة بنت هرقانوس تحت الإسكندر وابن أخيه أرستبلوس. وكانت بنتها منه مريم تحت هيردوس فاطلعتا على ضمير هيردوس من محاولة قتله فخبرتاه بذلك وأشارتا عليه باللحاق بملك العرب ليكون في جواره فخاطبه هرقانوس في ذلك وأن يبعث إليه من رجالاتهم من يخرج ب إلى أحيائهم. وكان حامل الكتاب من اليهود مضغناًً على هرقانوس لأنه قتل أخاه وسلب ماله فوضع الكتاب في يد هيردوس فلما قرأه رده إليه وقال: أبلغه إلى ملك العرب وأرجع الجواب إلي. فجاءه بالجواب من ملك العرب إلى هرقانوس وأنه أسعف وبعث الرجال فألقاهم بوصلك إلي. فبعث هيردوس من يقبض على الرجال بالمكان الذي عينه وأحضرهم وأحضر حكام البلاد اليهود والسبعين شيخاً. وأحضر هرقانوس وقرأ عليه الكتاب بخطه فلم يحر جواباً وقامت عليه الحجة وقتله هيردوس لوقته لثمانين سنة من عمره وأربعين من ملكه وهو آخر ملوك بني حشمناي. وكان للإسكندر بن أرستبلوس ابن يسمى أرستبلوس وكان من أجمل الناس صورة وكان في كفالة أمه الإسكندرة وأخته يومئذ تحت هيردوس كما قلناه. وكان هيردوس يغص به وكانت أخته وأمهما يؤملاه أن يكون كوهناًً بالبيت مكان جده هرقانوس وهيردوس يريد نقل الكهنونية عن بني حشمناي وقدم لها رجلاً من عوام الكهنونية وجعله كبير الكهنونية. فشق ذلك على الإسكندرة بنت هرقانوس وبنتها مريم زوج هيردوس. وكان بين الإسكندرة وكلوبطرة ملكة مصر مواصلة ومهاداة وطلبت منها أن تشفع زوجها أنطيانوس في ذلك إلى هيردوس فاعتذر له هيردوس بأن الكواهن لا تعزل ولو أردنا ذلك فلا يمكننا أهل الدين من عزله. فبعثت بذلك الإسكندرة ودست الإسكندرة إلى الرسول الذي جاء من عند أنطيانوس وأتحفته بمال فضمن لهم أن أنطيانوس يعزم على هيردوس في بعث أرستبلوس إليه. ورجع إلى أنطيانوس فرغبه في ذلك. ووصف له من جماله وأغراه باستقدامه فبعث فيه أنطيانوس إلى هيردوس وهدده بالوحشة إن منعه فعلم أنه يريد منه القبيح فقدمه كهنوناً وعزل الأول واعتذر لأنطيانوس بأن الكوهن لا يمكن سفره واليهود تنكر ذلك. فأغفل أنطيانوس الأمر ولم يعاود فيه. ووكل هيردوس بالإسكندرة بنت هرقانوس عهدته من يراعي أفعالها فأطلع على كتبها إلى ساحل يافا وأن الإسكندرة صنعت تابوتين لتخرج فيهما هي وابنتها على هيئة الموتى فأرصد هيردوس من جاء بهما من المقابر في تابوتيهما فوبخهما ثم عفا عنهما. ثم بلغه أن أرستبلوس حضر في عيد المظال فصعد على المذبح وقد لبس ثياب القدس وازدحم الناس عليه وظهر من ميلهم إليه ومحبتهم ما لا يعبر عنه فغص بذلك وأعمل التدبير في قتله. فخرج في متنزه له باريحاء في نيسان واستدعى أصحابه وأحضر أرستبلوس فطعموا ولعبوا وانغمسوا في البرك يسبحون. وعمد غلمان هيردوس إلى أرستبلوس فغمسوه في الماء حتى شرق وفاض. فاغتم الناس لموته وبكى عليه هيردوس ودفنه. وكان موته لسبع عشرة سنة من عمره. وتأكدت البغضاء بين الإسكندرة وابنتها مريم زوج هيردوس أخت هذا الغريق وبين أم هيردوس وأخته وكثرت شكواهما إليه فلم يشكهما لمكان زوجته مريم وأمها منه. قال ابن كريون: ثم انتقض أنطيانوس على أوغسطس قيصر وذلك أنه تزوج كلوبطرة وملك مصر وكانت ساحرة فسحرته واستمالته وحملته على قتل ملوك كانوا في طاعة الروم وأخذ بلادهم وأموالهم وسبي نسائهم وأموالهم وأولادهم. وكان من جملتهم هيردوس وتوقف فيه خشية من أوغسطس قيصر لأنه كان يكرمه بسبب ما صنع في الآخرين. فحمله على الانتقاض والعصيان ففعل وجمع العسكر واستدعى هيردوس فجاءه وبعثه إلى قتال العرب وكانوا خالفوا عليه فمضى هيردوس لذلك ومعه أنيثاون قائد كلوبطرة وقد دست له أن يجر الهزيمة على هيردوس ليقتل ففعل. وثبت هيردوس وتخلص من المعترك بعد حروب صعبة هلك فيها بين الفريقين خلق كثير. ورجع هيردوس إلى بيت المقدس فصالح جميع الملوك والأمم المجاورين له وامتنع العرب من ذلك فسار إليهم وحاربهم ثم استباحهم بعد أيام ومواقف بذلوا وجمعوا له الأموال وفرض عليهم الخراج في كل سنة ورجع. وكان أنطيانوس لما بعثه إلى العرب سار هو إلى رومة وكانت بينه وبين أوغسطس قيصر حروب هزمه قيصر في آخرها وقتله وسار إلى مصر فخافه هيردوس على نفسه لما كان منه في طاعة أنطيانوس وموالاته ولم يمكنه التخلف عن لقائه. فأخرج خدمه من القدس فبعث بأمه وأخته إلى قلعة الشراة لنظر أخيه فرودا وبعث بزوجه مريم وأمه الإسكندرة إلى حصن الإسكندرونة لنظر زوج أخته يوسف ورجل آخر من خالصته من أهل صور اسمه سوما وعهد إليها بقتل زوجته وأمها أن قتله قيصر. ثم حمل معه الهدايا وسار إلى قيصر أوغسطس وكانت تحقد له صحبة أنطيانوس فلما حضر بين يديه عنفه وأزاح التاج عن رأسه وهم بعقابه. فتلطف هيردوس في الاعتذار وأن موالاته لأنطيانوس إنما كان لما أولى من الجميل في السعاية عند الملك وهي أعظم أياديه عندي ولم تكن موالاتي له في عداوتك ولا في حربك. ولو كان ذلك وأهلكت نفسي دونه كنت في ملوم فإن الوفاء شأن الكرام. فإن أزلت عني التاج فما أزلت عقلي ولا نظري وإن أبقيتني فأنا محل الصنيعة والشكر فانبسط أوغسطس لكلامه وتوجه كما كان وبعثه على مدمته إلى مصر فلما ملك مصر وقتل كلوبطرة وهب لهيردوس جميع ما كان أنطيانوس أعطاها إياه ونقل. فأعاد هيردوس إلى ملكه ببيت المقدس وسار إلى رومية. قال ابن كريون: ولما عاد هيردوس إلى بيت المقدس أعاد حرمه من أماكنهن فعادت زوجته مريم وأمها من حصن الإسكندرونة وفي خدمتها يوسف زوج أخته وسوما الصوري وقد كانا حدثا المرأة وأمها بما أسر إليهما هيرودس وقد كان سلف منه قتل هرقانوس وأرستبلوس فشكرتا له. وبينما هو آخذ في استمالة زوجته إذ رمتها أخته بالفاحشة مع سوما الصوري في ملاحات جرت بينهما ولم يصدق ذلك هيردوس للعداوة والثقة بعفة الزوجة. ثم جرى منها في بعض الأيام وهو في سبيل استمالتها عتاب فيما أسر إلى سوما وزوج أخته فقويت عنده الظنة بهم جميعاً. وإن مثل هذا السر لم يكن إلا لأمر مريب وأخذ في إخفائها وإقصائها ودست عليه أخته بعض النساء تحدثه بأن زوجته داخلته في أن تستحضر السم وأحضره فجرب وصح وقتل للحين صهره يوسف وصاحبه سوما. واعتقل زوجته ثم قتلها وندم علي ذلك ثم بلغه عن أمها الإسكندرة مثل ذلك فقتلها. وولى على أدوم مكان صهره رجلاً منهم اسمه كرسوس وزوجه أخته فسار إلى عمله وانحرف عن دين التوراة والإحسان الذي حملهم عليه هرقانوس وأباح لهم عبادة صنمهم وأجمع الخلاف وطلق أخت هيردوس فسعت به إلى أخيها وخبرته بأحواله وأنه آوى جماعة من بني حشمناي المرشحين للملك منذ اثنتي عشرة سنة. فقام هيردوس في ركائبه وبحث عنه فحضر وطالبه ببني حشمناي الذين عنده فأحضرهم فقتله وقتلهم وأرهف حده وقتل جماعة من كبار اليهود ومقدميهم اتهمهم بالإنكار عليه فأذعن له الناس واستفحل ملكه وأهمل المراعاة لوصاية التوراة وعمل في بيت المقدس سوراً واتخذ متنزه لعب وأطلق فيه السباع. ويحمل بعض الجهلة على مقابلتها فتفترسهم. فنكر الناس ذلك وأعمل أهل الدولة الحيلة في قتله فلم تتم لهم. وكان يمشي متنكراً للتجسس على أحوال الناس فعظمت هيبته في النفوس. وكان أعظم طوائف اليهود عنده الربانيون بما تقدم لهم في ولايته وكان لطائفة العباد من اليهود المسمى بالحيسيد مكانة عنده أيضاً. كان شيخهم مناحيم لذلك العهد محدثاً وكان حدثه وهو غلام بمصير الملك له وأخبره وهو ملك بطول مدته في الملك فدعا له ولقومه. وكان كلفاً ببناء المدن والحصون. ومدينة قيسارية من بنائه. ولما حدثت في أيامه المجاعة شمر لها وأخرج الزرع للناس وبثه فيهم بيعاً وهبة وصدقة. وأرسل في الميرة من سائر النواحي وأمر قيصر في سائر تخومه وفي مصر ورومة أن يحملوا الميرة إلى بيت المقدس فوصلت السفن بالزرع إلى ساحلها من كل جهة وأجرى على الشيوخ والأيتام والأرامل والمنقطعين كفايتهم من الخبز وعلى الفقراء والمساكين كفايتهم من الحنطة وفرق على خمسين ألفاً قصدوه من غير ملته فرفعت المجاعة وارتفع له الذكر والثناء الجميل. قال ابن كريون: ولما استفحل ملكه وعظم سلطانه أراد بناء البيت على ما بناه سليمان بن داود لأنهم لما رجعوا إلى القدس بإذن كورش عين لهم مقدار البيت لا يتجاوزونه فلم يتم على حدود سليمان. ولما اعتزم على ذلك ابتدأ أولاً بإحضار الآلات مستوفيات خشية أن يحصل الهدم وتطول المدة وتعرض القواطع والموانع. فأعد الآلات وأكمل جمعها في ست سنين ثم جمع الصناع للبناء وما يتعلق به فكانوا عشرة آلاف. وعين ألفاً من الكهنة يتولون القدس الأقدس الذي لا يدخله غيرهم. ولما تم له ذلك شرع في الهدم فحصل لأقرب وقت ثم بنى البيت على حدوده وهيئته أيام سليمان وزاد في بعض المواضع على ما أختاره ووقف عليه نظره فكمل في ثمان سنين ثم شرع في الشكر لله تعالى على ما هيأ له من ذلك فقرب القربان واحتفل في الولائم وإطعام الطعام. وتبعه الناس في ذلك أياماً فكانت من محاسن دولته. قتيلة السم أحدهما الإسكندر والآخر أرستبلوس وكانا عند قتل أمهما غائبين برومة يتعلمان خط الروم فلما وصلا وقد قتل أمهما حصلت بينه وبينهما الوحشة وكان له ولد آخر اسمه أنظفتر على اسم جده وكان قد أبعد أمه راسيس لمكان مريم فلما هلكت واستوحش من ولدها لطلب محل راسيس منه قدم ابنها أنظفتر وجعله ولي عهده وأخذ في السعاية على إخوته خشية منهما بأنهما يرومان قتل أبيهما فانحرف عنهما. واتفق أن سار إلى أوغسطس قيصر ومعه ابنه إسكندر فشكاه عنده وتبرأ الإسكندر وحلف على براءته فأصلح بينهما قيصر ورجع إلى القدس وقسم القدس بين ولده الثلاثة ووصاهم ووصى الناس بهم. وعهد أن لا يخالطوهم خشية مما يحدث عن ذلك. وأنظفتر مع ذلك متماد على سعايته بهما وقد داخل في ذلك عمه قدودا عمته سلومنت فأغروا أباه بأخويه المذكورين حتى اعتقلهما. وبلغ الخبر أرسلاوش ملك كفتور وكانت بنته تحت الإسكندر منهما فجاء إلى هيردوس مظهراً السخط على الإسكندر والإنحراف عنه. وتحيل في إظهار جراءتهما وأطلعه على جلية الحال وسعاية أخيه وأخته فانكشف له الأمر وصدقه وغضب على أخيه قدودا فجاء إلى أرسلاوش وأحضره عند هيردوس حتى أخبره بمصدوقية الحال ثم شفعه فيه. وأطلق ولديه ورضي عنهما وشكر لأرسلاوش من تلطفه في تلافي هذا الأمر وانصرف إلى بلده. ولم ينف وما زال يغري أباه ويدس له من يغريه حتى أسخطه عليهما ثانية واعتقلهما وأمضى بهما في بعض أسفاره مقيدين ونكر ذلك بعض أهل الدولة فدس أنظفتر إلى أبيه: المنكر علي من المدبر بن عليك وقد ضمن لحجامك الإسكندر مالاً على قتلك فأنزل هيرودس بهما العقاب ليتكشف الخبر ونما بأن ذلك الرجل معه ولدغه العقاب وأقر على نفسه وقتل هو وأبوه والحجام. ثم قتل هيردوس ولديه وصلبهما على مصطبة. وكان لابنه الإسكندر ولدان من بنت أرسلاوش ملك كفتور وهما كوبان والإسكندر ولابنه أرستبلوس ثلاثة من الولد: أعراباس وهيردوس وأستروبلوس. ثم ندم هيردوس على قتل ولديه وعطف على أولادهما فزوج كوبان بن الإسكندر بابنة أخيه قدودا وزوج ابنة ابنه أرستبلوس من ابن ابنه أنظفتر وأمر أخاه قدودا وابنه أنظفتر بكفالتهما والإحسان إليهما فكرها ذلك واتفقا على فسخه وقتل هيردوس متى أمكن. وبعث هيردوس ابنه أنظفتر إلى أوغسطس قيصر ونما الخبر إليه بأن أخاه قدودا يريد قتله فسخطه وأبعده وألزمه بيته. ثم مرض قدودا واستعد أخاه هيردوس ليعوده فعاد ثم مات. فحزن عليه ثم حزن باستكشاف ما نما إليه فعاقب جواريه. فأقرت إحداهما بأن أنظفتر وقدودا كانا يجتمعان عند رسيس أم أنظفتر يدبران على قتل هيردوس على يد خازن أنظفتر فأقر بمثل ذلك. وإنه بعث على السم من مصر وهو عند امرأة قدودا فأحضرت فأقرت بأن قدودا أمرها عند موته بإراقته وأنها أبقت منه قليلاً يشهد لها إن سئلت. فكتب هيردوس إلى ابنه أنظفتر بالقدوم فقدم مستريباً بعد أن أجمع على الهروب فمنعه خدم أبيه. ولما حضر جمع له الناس في مشهد وحضر رسول أوغسطس وقدم كاتبه نيقالوس. وكان يحب أولاد هيردوس المقتولين ويميل إليهما عن أنظفتر فدفع يخاصمه حتى قامت عليه الحجة وأحضر بقية السم وجرب في بعض الحيوانات فصدق فعله. فحبس هيردوس إبنه أنظفتر حتى مرض وأشرف على الموت وأسف على ما كان منه لأولاده فهم بقتل نفسه فمنعه جلساؤه وأهله وسمع من القصر البكاء والصراخ لذلك فهم أنظفتر بالخروج من محبسه ومنع وأخبر هيردوس بذلك وأمر بقتله في الوقت فقتل. ثم هلك بعده لخمسة أيام ولسبعين سنة من عمره وخمس وثلاثين من ملكه. وعهد بالملك لابن أركلاوش وخرج كاتبه نيقالوس فجمع الناس وقرأ عليهم العهد وأراهم خاتم هيردوس عليه فبايعوا له وحمل أباه إلى قبره على سرير من الذهب مرصع بالجواهر والياقوت وعليه ستور الديباج منسوجة بالذهب وأجلس مسنداً ظهره إلى الأرائك والناس أمامه من الأشراف والرؤساء ومن خلفه الخدم والغلمان وحواليه الجواري بأنواع الطيب إلى أن اندرج في وقام أركلاوش بملكه وتقرب إلى الناس بإطلاق المسجونين فاستقام أمره وانطلقت الألسنة بذم هيردوس والطعن عليه. ثم انتقضوا على أركلاوش بملكه بما وقع منه من القتل فيهم فساروا إلى قيصر شاكين بذلك وعابوه عنده بأنه ولى من غير أمره. وحضر أركلاوش وكاتبه نيقالوس بخصمهم ودفع دعاويهم وأشار عظماء الروم بإبقائه فملكه قيصر وأعاده إلى القدس. وأساء السيرة في اليهود وتزوج امرأة أخيه الإسكندر وكان له أولاد منها فماتت لوقتها. ووصلت شكاية اليهود بذلك كله إلى قيصر فبعث قائداً من الروم إلى المقدس فقيد أركلاوش وحمله إلى رومة لسبع سنين من دولته وولى على اليهود بالقدس أخاه أنطيفوس وكان شراً منه واغتصب امرأة أخيه فيلقوس وله منها ولدان ونكر ذلك عليه علماء اليهود والكهنونية. وكان لذلك العهد يوحنا بن زكريا فقتله في جماعة منهم. وهذا هو المعروف عند النصارى بالمعمدان الذي عمد عيسى أي طهره بماء المعمودية بزعمهم. وفي دولة أنطيفوس هذا مات قيصر أوغسطس فملك بعده طبريانوس وكان قبيح السيرة. وبعث قائده بعيلاس بصنم من ذهب على صورته ليسجد له اليهود فامتنعوا فقتل منهم جماعة فأذنوا بحربه وقاتلوه وهزموه. وبعث طبريانوس العساكر مع قائده إلى القدس فقبض على أنطيفس وحمله مقيداً. ثم عزله طبريانوس إلى الأندلس فمات بها وملك بعده على اليهود أغرباس ابن أخيه أرستبلوس المقتول. وهلك في أيامه طبريانوس قيصر وملك نيرون وكان أشر من جميع من تقدمه. وأمر أن يسمى إلاهو وبنى المذبح للقربان وقرب وأطاعته الناس إلا اليهود وبعثوا إليه في ذلك أفيلو الحكيم في جماعة فشتمهم وحبسهم وسخط اليهود. ثم قبحت أحواله وساءت أفعاله وثارت عليه دولته فقتلوه رموا شلوه في الطريق فأكلته الكلاب. ثم ملك بعده قلديوش قيصر وأطلق أفيلو والذين معه إلى بيت المقدس وهدم المذابح التي كان نيروش بناها. وكان أغرباس حسن السيرة معظماً عند القياصرة وهلك لثلاث وعشرين سنة من دولته. وملك بعده ابنه أغرباس بأمر اليهود وملك عشرين سنة وكثرت الحروب والفتن في أيامه في بلاد اليهود والأرمن وظهرت الخوارج والمتغلبون وانقطعت السبل وكثر الهرج داخل المدينة في القدس وكان الناس يقتل بعضهم بعضاً في الطرقات يحملون سكاكين صغاراً محدين لها فإذا ازدحم مع صاحبه في الطريق طعنه فأهواه حتى صاروا يلبسون الدروع لذلك وخرج كثير من الناس عن المدينة فراراً من القتل. وهلك ولد طبريوس قيصر ونيرون من بعده وملك على الروم فيلقوس قيصر فسعى بعض الشرار عنده بأن هؤلاء الذين خرجوا من القدس يذمون على الروم. فبعث إليهم من قتلهم وأسرهم واشتد البلاء على اليهود وطالت الفتن فيهم. وكان الكهنون الكبير فيهم لذلك العهد عناني. وكان له ابن اسمه ألعازار وكان ممن خرج من القدس وكان فاتكاً مصعلكاً. وانضم إليه جماعة من الأشرار وأقاموا يغيرون على بلاد اليهود والأرمن وينهبون ويقتلون وشكتهم الأرمن إلى فيلقوس قيصر فبعث من قيده وحمله وأصحابه إلى رومة. فلم يرجع إلى القدس إلا بعد حين. واشتد قائد الروم ببيت المقدس على اليهود وكثر ظلمه فيهم فأخرجوه عنهم بعد أن قتلوا جماعة من أصحابه ولحق بمصر فلقي هنالك أغرباس ملك اليهود راجعاً من رومية ومعه قائدان من الروم فشكى إليه فيلقوس بما وقع من اليهود ومضى إلى بيت المقدس فشكى إليه اليهود بما فعل فليقوس وأنهم عازمون على الخلاف. وتلطف لهم في الإمساك عن ذلك حتى تبلغ شكيتهم إلى قيصر ويعتذر منه فامتنع ألعازار بن عناني وأبى إلا المخالفة وأخرج القربان الذي كان بعثه معه نيرون قيصر من البيت ثم عمد إلى الروم الذين جاؤوا مع أغرباس فقتلهم حيث وجدوا وقتل القائدين ونكر ذلك أشياخ اليهود واجتمعوا لحرب ألعازار وبعثوا إلى أغرباس. وكان خارج القدس. فبعث إليهم بثلاثة آلاف مقاتل فكانت الحرب بينهم وبين ألعازار سجالاً ثم هزمهم وأخرجهم من المدينة وعاث في البلد وخرب قصور الملك ونهبها وأموالها وذخائرها. وبقي أغرباس والكهنونة والعلماء والشيوخ خارج المقدس وبلغهم أن الأرمن قتلوا من وجدوه من اليهود بدمشق ونواحيها وبقيسارية فساروا إلى بلادهم وقتلوا من وجدوه بنواحي دمشق من الأرمن. ثم سار أغرباس إلى قيرش قيصر وخبره الخبر فامتعض لذلك وبعث إلى كسنيناو قائده على الأرمن وقد كان مضى إلى حرب الفرس فدوخها وقهرهم وعاد إلى بلاد الأرمن فنزل دمشق فجاءه عهد قيصر بالمسير مع أغرباس ملك اليهود إلى القدس فجمع العساكر وسار وخرب كل ما مر عليه. ولقيه ألعازار الثائر بالقدس فانهزم ورجع ونزل كسنيناو قائد الروم فأثخن فيهم. وارتحل كسنيناو إلى قيسارية وخرج اليهود في أتباعهم فهزموهم ولحق كسنيناو أغرباس بقيصر قيرش فوافقوا وصول قائده الأعظم أسبسيانوس عن بلاد المغرب. وقد فتح الأندلس ودوخ أقطارها فعهد إليه قيرش قيصر بالمسير إلى بلاد اليهود وأمره أن يستأصلهم ويهدم حصونهم فسار ومعه ابنه طيطوش وأغرباس ملك اليهود وانتهوا إلى أنطاكية وتأهب اليهود لحربهم وانقسموا ثلاث فرق في ثلاث نواحي مع كل فرقة كهنون فكان عناني الكهنون الأعظم في دمشق ونواحيها وكان ابنه ألعازر كهنون في بلاد أدوم وما يليها إلى أيلة. وكان يوسف بن كريون كهنون طبيرية وجبل الخليل وما يتصل به. وجعلوا فيما بقي من البلاد من الأغوار إلى حدود مصر من يحفظها من بقية الكهنونية. وعمر كل منهم أسوار حصونه ورتب مقاتلته وسار أسبسيانوس بالعساكر من أنطاكية فتوسط في بلاد الأرمن وأقام. وخرج يوسف بن كريون من طبرية فحاصر بعض الحصون بناحية الأغرباس ففتحه واستولى عليه. وبعث أهل طبيرية من ورائه إلى الروم فاستامنوا إليهم فزحف يوسف فتابوأ وقتل من وجد فيها من الروم وقبل معذرة أهل طبرية وبلغه مثل ذلك عن جبل الخليل فسار إليهم وفعل فيهم فعله في طبرية فزحف إليه أسبسيانوس من عكا في أربعين ألف مقاتل من الروم ومعه أغيرتاس ملك اليهود. وسارت معهم الأمم من الأرمن وغيرهم إلا أدوم فإنهم كانوا حلفاء لليهود منذ أيام هرقانوس. ونزل أسبسيانوس بعساكره على يوسف بن كريون ومن معه بطبرية فدعاهم إلى الصلح فسألوا الإمهال إلى مشاورة الجماعة بالقدس. ثم امتنعوا وقاتلهم أسبنانوس بظاهر الحصن فاستلحمهم حتى قل عددهم وأغلقوا الحصن. فقطع عنهم الماء خمسين ليلة ثم بيتهم الروم فاقتحموا عليهم الحصن فاستلحموهم وأفلت يوسف بن كريون ومن معه من الغل فامتنعوا ببطن الأعراب وأعطاهم أسبسيانوس الأمان فمال إليه يوسف وأبى القوم إلا أن يقتلوا أنفسهم وهموا بقتله. فوافقهم على رأيهم إلى أن قتل بعضهم بعضاً ولم يبق من يخشاه فخرج إلى أسبسيانوس مطارحاً عليه. وحرضه اليهود على قتله فأبى واعتقله وخرب أعمال طبرية وقتل أهلها ورجع قال ابن كريون: وفي خلال ذلك حدثت الفتنة في القدس بين اليهود داخل المدينة. وذلك أنه كان في جبل الخليل بمدينة كوشالة يهودي اسمه يوحنان وكان مرتكباً للعظائم واجتمع إليه أشرار منهم فقوي بهم على قطع السابلة والنهب والقتل. فلما استولى الروم على كوشالة لحق بالقدس وتألف عليه أشرار اليهود من فل البلاد التي أخذها الروم. فتحكم على أهل المقدس وأخذ الأموال وزاحم عناني الكهنون الأعظم ثم عزله واستبدل به رجلاً من غواتهم وحمل الشيوخ على طاعته فامتنعوا فتغلب عليهم فقتلهتم. فاجتمع اليهود إلى عناني الكهنون وحاربهم يوحنان وتحصنوا في المقدس وراسله عناني في الصلح فأبى وبعث إلى أدوم يستجيشهم فبعثوا إليه بعشرين ألفاً منهم فأغلق العناني أبواب المدينة دونهم وحاط بهم من الأسوار ثم استغفلوه وكبسوا المدينة واجتمع معهم يوحنان فقتلوا من وجوه اليهود نحواً من خمسة آلاف وصادروا أهل النعم على أموالهم وبعثوا يوحنان إلى المدن الذين استأمنوا إلى الروم فغنم أموالهم وقتل من وجد منهم. وبعث أهل القدس في استدعاء اسبسيانوس وعساكره فزحف من قيسارية حتى إذا توسط الطريق خرج يوحنان من القدس وامتنع ببعض الشعاب فمال إليه اسبسيانوس بالعسكر وظفر بالكثير منهم فقتلوهم. ثم سار إلى بلاد أدوم ففتحها وسبسطية بلاد السامرة ففتحها أيضاً وعمر جميع ما فتح من البلاد ورجع إلى قيسارية ليزيح علله ويسير إلى القدس. ورجع يوحنان أثناء ذلك من الشعاب فغلب على المدينة وعاث فيهم بالقتل وتحكم في أموالهم وأفسد حريمهم. قال ابن كريون: وقد كان ثار بالمدينة في مغيب يوحنان ثائر آخر اسمه شمعون واجتمع إليه اللصوص والشرار حتى كثر جمعه وبلغوا نحواً من عشرين ألفاً وبعث إليه أهل أدوم عسكراً فهزمهم واستولى على الضياع ونهب الغلال وبعث إلى إليه المدينة فردها يوحنان من طريقها وقطع من وجد معها. ثم أسعفوه بامرأته وسار إلى أدوم فحاربهم وهزمهم وعاد إلى القدس فحاصرها وعظم الضرر على أهلها من شمعون خارج المدينة ويوحنان داخلها ولجأوا إلى الهيكل وحاربوا يوحنان فغلبهم وقتل منهم خلقاً فاستدعوا شمعون لينصرهم من يوحنان فدخل ونقض العهد وفعل أشر من يوحنان. قال ابن كريون: ثم ورد الخبر إلى اسبسيانوس وهو بمكانه من قيسارية بموت قيروش قيصر وأن الروم ملكوا عليهم مضعفاً اسمه نطاوس فغضب البطارقة الذي مع اسبسيانوس وملكوه وسار إلى رومة وخلف نصف العسكر مع ابنه طيطش وقدم بين يديه قائدين إلى رومة لمحاربة نطاوس الذي ملكه الروم فهزم وقتل. وسار ورجع طيطش إلى قيسارية إلى أن ينسلخ فصل الشتاء ويزيح العلل وعظمت الفتن والحروب بين اليهود داخل القدس وكثر القتل حتى سالت الدماء في الطرقات وقتل الكهنونية على المذبح وهم لا يقربون الصلاة في المسجد لكثرة الدماء وتعذر المشي في الطرقات من سقوط حجارة الرمي ومواقد النيران بالليل. وكان يوحنان أخبث القوم وأشرهم. ولما انسلخ الشتاء زحف طيطش في عساكر الروم إلى أن نزل على القدس وركب إلى باب البلد يتخير المكان لمعسكره ويدعوهم إلى السلم فصموا عنه وأكمنوا له بعض الخوارج في الطريق فقاتلوه وخلص منهم بشدته فعبى عسكره من الغد ونزل بجبل الزيتون شرقي المدينة ورتب العساكر والآلات للحصار. واتفق اليهود داخل المدينة ورفعوا الحرب بينهم وبرزوا إلى الروم فانهزموا ثم عاودوا فظهروا ثم انتقضوا بينهم وتحاربوا داخل يوحنان إلى القدس يوم الفطر فقتل جماعة من الكهنونة وقتل جماعة أخرى خارج المسجد. وزحف طيطش وبرزوا إليه فردوه إلى قرب معسكره وبعث إليهم قائده نيقانور في الصلح فأصابه سهم فقتله فغضب طيطش وصنع كبشاً وأبراجاً من الحديد توازي السور وشحنها بالمقاتلة فأحرق اليهود تلك الآلات ودفنوها وعادوا إلى الحرب بينهم. وكان يوحنان قد ملك القدس ومعه ستة آلاف أو يزيدون من المقاتلة ومع شمعون عشرة آلاف من اليهود وخمسة آلاف من أدوم وبقية اليهود بالمدينة مع ألعازر وأعاد طيطش الزحف بالآلات وثلم السور الأول وملكه إلى الثاني فاصطلم اليهود بينهم وتذامروا واشتد الحرب وباشرها طيطش بنفسه. ثم زحف بالآلات إلى السور الثاني فثلمه وتذامر اليهود فمنعوهم عنه ومكثوا كذلك أربعة أيام. وجاء المدد من الجهات إلى طيطش ولاذ اليهود بالأسوار وأغلقوا الأبواب ورفع طيطش الحرب ودعاهم إلى المسالمة فامتنعوا فجاء بنفسه في اليوم الخامس وخاطبهم ودعاهم وجاء معه يوسف بن كريون فوعظهم ورغبهم في أمنة الروم ووعدهم وأطلق طيطش أسراهم فجنح الكثير من اليهود إلى المسالمة ومنعهم هؤلاء الرؤساء الخوارج وقتلوا من يروم الخروج إلى الروم ولم يبق من المدينة ما يعصمهم إلا السور الثالث. وطال الحصار واشتد الجوع عليهم والقتل ومن وجد خارج المدينة لرعي العشب قتله الروم وصلبوه حتى رحمهم طيطش ورفع القتل عمن يخرج في ابتغاء العشب. ثم زحف طيطش إلى السور الثالث من أربعة جهاته ونصب الآلات وصبر اليهود على الحرب وتذامر اليهود وصعب الحرب وبلغ الجوع في الشدة غايته واستأمن متاي الكوهن إلى الروم وهو الذي خرج في استدعاء شمعون فقتله شمعون وقتل بنيه وقتل جماعة من الكهنونية والعلماء والأئمة ممن حذر منه أن يستأمن ونكر ذلك ألعازر بن عناني ولم يقدر على أكثر من الخروج عرت بيت المقدس وعظمت المجاعة فمات أكثر اليهود وأكلوا الجلود والخشاش والميتة ثم أكل بعضهم بعضاً. وعثر على امرأة تأكل ابنها فأصابت رؤساهم لذلك رحمة وأذنوا في الناس بالخروج فخرجت منهم أمم وهلك أكثرهم حين أكلوا الطعام. وابتلع بعضهم في خروجه ما كان له من ذهب أوجوهر ضنة به وشعر بهم الروم فكادوا يقتلونهم ويشقون عنهم بطونهم وشاع ذلك في توابع العسكر من العرب والأرمن فطردهم طيطش وطمع الروم في فتح المدينة وزحفوا إلى سورها الثالث بالآلات ولم يكن لليهود طاقة بدفعها وإحراقها فثلموا السور. وبنى اليهود خلف الثلمة فأصبحت منسدة وصدمها الروم بالكبش فسقطت من الحدة واستماتوا في تلك الحال إلى الليل. ثم بيت الروم المدينة وملكوا الأسوار عليهم وقاتلوهم من الغد فانهزموا إلى المسجد وقاتلوا في الحصن وهدم طيطش البناء ما بين الأسوار إلى المسجد ليتسع المجال. ووقف ابن كريون يدعوهم إلى الطاعة فلم يجيبوا وخرج جماعة من الكهنونية فأمنهم ومنع الرؤساء بقيتهم ثم باكرهم طيطش بالقتال من الغد فانهزموا الأقداس وملك الروم المسجد وصحنه واتصلت الحرب أياماً وهدمت الأسوار كلها وثلم سور الهيكل وأحاط العساكر بالمدينة حتى مات أكثرهم وفر كثير. ثم اقتحم عليهم الحصن فملكه ونصب الأصنام في الهيكل ومنع من تخريبه. ونكر رؤساء الروم ذلك ودسوا من أضرم النار في أبوابه وسقفه. وألقى الكهنونة أنفسهم جزعاً على دينهم وحزنوا واختفى شمعون ويوحنان في جبل صهيون وبعث إليهم طيطش بالأمان فامتنعوا وطرقوا القدس في بعض الليالي فقتلوا قائداً من قواد العسكر ورجعوا إلى مكان اختفائهم. ثم هرب عنهم أتباعهم وجاء يوحنان ملقياً بيده إلى طيطش فقيده وخرج إليه يوشع الكوهن بآلات من الذهب الخالص من آلات المسجد فيها منارتان ومائدتان. ثم قبض على فنحاس خازن الهيكل فأطلعه على خزائن كثيرة مملوءة دنانير ودرهم وطيباً فامتلأت يده منها ورحل عن بيت المقدس بالغنائم والأموال والأسرى. وأحصى الموتى في هذه الوقعة. قال ابن كريون: فكان عدد الموتى الذين خرجوا على الباب للدفن بأخبار مناحيم الموكل به مائة ألف وخمسة وعشرين ألفاً وثمانمائة وقال غير مناحيم كانت عدتهم ستمائة ألف دون من ألقي في الآبار أو طرح إلى خارج الحصن وقتل في الطرقات ولم يدفن. وقال غيره كان الذي أحصي من الموتى والقتلى ألف ألف ومائة ألف والسبي والأسارى مائة ألف. كان طيطش في كل منزلة يلقي منهم إلى السباع إلى أن فرغوا. وكان فيمن هلك شمعون أحد الخوارج الثلاثة. وأما الفرار بن عفان فقد كان خرج من القدس عندما قتل شمعون أمتاي الكوهن كما ذكرنا. فلما رحل طيطش عن القدس نزل في بعض القرى وحصنها واجتمع إليه فل اليهود واتصل الخبر بطيطش وهو في أنطاكية فبعث إليه عسكراً من الروم مع قائده سلياس فحاصرهم أياماً. ثم نهض الكهنونية وأولادهم وخرجوا إلى الروم مستميتين فقاتلوا إلى أن قتلوا عن آخرهم. وأما يوسف بن كريون فافتقد أهله وولده في هذه الوقائع ولم يقف لهم بعدها على خبر وأراده طيطش على السكنى عنده برومة فتضرع إليه في البقاء بأرض القدس فأجابه إلى ذلك وتركه وانقرضت دولة اليهود أجمع. والبقاء لله وحده سبحانه وتعالى لا انقضاء لملكه. عيسى ابن مريم الخبر عن شأن عيسى ابن مريم صلوات الله عليه في ولادته وبعثه ورفعه من الأرض والإلمام بشأن الحواريين بعده وكتبهم الأناجيل الأربعة وديانة النصارى بملته واجتماع الأقسة علي تدوين شريعته. كان بنو ماثان من ولد داود صلوات الله عليه كهنونية بيت المقدس. وهو ماثان بن ألعازر بن اليهود بن أخس بن رادوق بن عازور بن ألياقيم بن أيود بن زروقابل بن سالات بن يوحنانيا بن يوشيا السادس عشر من ملوك بني إسرائيل بن أمون بن عمون بن منشا بن حزقيا بن أحآز بن يوآش بن أحزيا بن يورام بن يهوشافاط بن أسا بن رحبعم بن سليمان بن داود صلوات الله عليهما. ويوحنانيا بن يوشيا السادس عشر من ملوك بني سليمان ولد في جلاء بابل. وهذا النسب نقلته من إنجيل متى. وكانت الكهنونية العظمى من بعد بني حشمناي لهم وكان كبيرهم قبل عصر هيردوس عمران أبو مريم ونسبه ابن إسحاق إلى أمون بن منشا الخامس عشر من ملوك بيت المقدس من لدن سليمان أبيهم. وقال فيه عمران بن ياشم بن أمون وهذا بعيد لأن الزمان بين عمون وعمران أبعد من أن يكون بينهما أب واحد فإن أمون كان قبيل الخراب الأول وعمران كان في دولة هيردوس قبيل الخراب الثاني قريب من أربعمائة سنة. ونقل ابن عساكر والظن أنه ينقل عن مسند أنه من ولد زريافيل الذي ولي على بني إسرائيل عند رجوعهم إلى بيت المقدس وهو ابن يخنيا آخر ملوكهم الذي حبسه بختنصر وولى عمه صدقياهو بعده كما مر. وقال فيه عمران بن ماثان بن فلان بن فلان إلى زرافيل. وعد نحواً من ثمانية آباء بأسماء عبرانية لا وثوق بضبطها وهو أقرب من الأول وفيه ذكر ماثان الذي هو شهرتهم ولم يذكره ابن إسحاق. وكان عمران أبو مريم كهنوناً في عصره. وكانت تحته حنة بنت فاقود بن فيل وكانت من العابدات وكانت أختها إيشاع ويقال خالتها تحت زكريا بن يوحنا. ونسبه ابن عساكر إلى يهوشافاط خامس ملوك المقدس من عهد سليمان أبيهم وعد ما بينه وبين يهوشافاط اثني عشر أباً أولهم يوحنا بأسماء عبرانية كما فعل في نسب عمران. ثم قال وهو أبو يحيى صلوات الله عليهما. ويقال بالمد والقصر من غير ألف وكان نبياً من بني إسرائيل صلوات الله عليهما. ونقلت من كتاب يعقوب بن يوسف النجار مثان يعني ماثان من سبط داود وكان له ولدان يعقوب ويؤاقيم ومات فتزوج أمهما بعده مطنان ومطنان بن لاوي من سبط سليمان بن داود وسمي ماثان فولدت هالي من مطنان. ثم تزوج ومات ولم يعقب فتزوج امرأته أخوه لأمه يعقوب بن ماثان فولدت منه يوسف خطيب مريم ونسب إلى هالي. لأن من أحكام التوراة إن مات من غير عقب فامرأته لأخيه وأول ولد منهما ينسب إلى الأول. فلهذا قيل فيه يوسف بن هالي بن مطنان. وإنما هو يوسف بن يعقوب بن ماثان وهو ابن عم مريم لحا. وكان ليوسف من البنين خمسة بنين وبنت وهم: يعقوب ويوشا وبيلوت وشمعون ويهوذا وأختهم مريم كانوا يسكنون بيت لحم. فارتحل بأهله ونزل ناصرة وسكن بها وتعلم النجارة حتى صار يلقب بالنجار. وتزوج يؤاقيم حنة أخت إيشاع العاقر امرأة زكريا بن يوحنا المعمدان وأقامت ثلاثين سنة لا يولد لها فدعوا الله وولد لها مريم. فهي بنت يؤاقيم موثان وهو مثان. وولدت إيشاع العاقر من زكريا ابنه يحيى. قلت: في التنزيل مريم ابنة عمران. فليعلم أن معنى عمران بالعبرانية يؤاقيم وكان له اسمان. وعن الطبري: وكانت حنة أم مريم لا تحبل فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها حبيساً ببيت المقدس على خدمته على عاداتهم في نذر مثله فلما حملت ووضعتها لفتها في خرقتها وجاءت بها إلى المسجد فدفعتها إلى عباده وهي ابنة إمامهم وكهنونهم فتنازعوا في كفالتها وأراد زكريا أن يستبد بها لأن زوجة إيشاع خالتها. ونازعوه في ذلك لمكان أبيها من إمامهم فاقترعوا فخرجت قرعة زكريا عليها فكفلها ووضعها في مكان شريف من المسجد لا يدخله سواها وهو المحراب فيما قيل. والظاهر أنها دفعتها إليهم بعد مدة إرضاعها فأقامت في المسجد تعبد الله وتقوم بسدانة البيت في نوبتها حتى كان يضرب بها المثل في عبادتها. وظهرت عليها الأحوال الشريفة والكرامات كما قصه القرآن. وكانت خالتها إيشاع زوج زكريا أيضاً عاقراً وطلب زكريا من الله ولداً فبشره بيحيى نبياً كما طلب لأنه قال يرثني ويرث من آل يعقوب وهم أنبياء فكان كذلك. وكان حاله في نشوئه وصباه عجباً وولد في دولة هيردوس ملك بني إسرائيل وكان يسكن القفار ويقتات الجراد ويلبس الصوف من وبر الإبل وولاه اليهود الكهنونية ببيت المقدس. ثم أكرمه الله بالنبوة كما قصه القرآن. وكان لعهده علي اليهود بالقدس أنطيقس بن هيردوس وكان يسمى هيردوس باسم أبيه وكان شريراً فاسقاً واغتصب امرأة أخيه وتزوجها ولها ولدان منه ولم يكن ذلك في شرعهم مباحاً فنكر ذلك عليه العلماء والكهنونية وفيهم يحيى بن زكريا المعروف بيوحنا ويعرفه النصارى بالمعدان فقتل جميع من نكر عليه ذلك وقتل فيهم يحيى صلوات الله عليه. وقد ذكر في قتله أسباب كثيرة وهذا أقربها إلى الصحة. وقد اختلف الناس هل كان أبوه حياً عند قتله فقيل: إنه لما قتل يحيى طلبه بنو إسرائيل ليقتلوه ففر أمامهم ودخل في بطن شجرة كرامة له فدلهم عليه طرف ردائه خارجاً منها فشقوها بالمنشار وشق زكريا فيها نصفين وقيل بل مات زكريا قبل هذا والمشقوق في الشجرة إنما هو شعيا النبي وقد مر ذكره. وكذلك اختلف في دفنه فقيل دفن ببيت المقدس وهو الصحيح. وقال أبو عبيد بسنده إلى سعيد بن المسيب أن بختنصر لما قدم دمشق وجد دم يحيى بن زكريا يغلي فقتل على دمه سبعين ألفاً فسكن دمه. ويشكل أن يحيى كان مع المسيح في عصر واحد باتفاق وأن ذلك كان بعد بختنصر بأحقاب متطاولة وفي هذا ما فيه. وفي الإسرائيليات من جاء المجوس للبحث عن إيشوع والإنذار به وأنه طلب ابنه يوحنا ليقتله مع من قتل من صبيان بيت لحم فهربت به أمه إلى الشقراء واختفت. فطالب به أباه زكريا وهو كهنون في الهيكل فقال لا علم لي هو مع أمه فتهدده وقتله. ثم قال: بعد قتل زكريا بسنة تولى كهنونية الهيكل يعقوب بن يوسف إلى أن مات هيردوس. وأما مريم سلام الله عليها فكانت بالمسجد على حالها من العبادة إلى أن أكرمها الله بالولاية وبين الناس في نبؤتها خلاف من أجل خطاب الملائكة لها. وعند أهل السنة أن النبوة مختصة بالرجل قاله أبو الحسن الأشعري وغيره وأدلة الفريقين في أماكنها. وبشرت الملائكة مريم باصطفاء الله لها وأنها تلد ولداً من غير أب يكون نبياً فعجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أن الله قادر على ما يشاء فاستكانت وعلمت أنها محنة بما تلقاه من كلام الناس فاحتسبت. وفي كتاب يعقوب بن يوسف النجار: أن أمها حنة توفيت لثمان سنين من عمر مريم وكان من سنتهم أنها إن لم تقبل التزويج يفرض لها من أرزاق الهيكل. فأوحى الله إليه أن يجمع أولاد هارون ويردها إليهم فمن ظهرت في عصاه آية تدفعها إليه تكون له شبه زوجة ولا يقربها. وحضر الجمع يوسف النجار فخرج من عصاه حمامة بيضاء ووقفت على رأسه فقال له زكريا: هذه عذراء الرب تكون لك شبه زوجة ولا تردها فاحتملها متكرهاً بنت اثنتي عشرة سنة إلى ناصرة فأقامت معه إلى أن خرجت يوماً تستسقي من العين فعرض لها الملاك أولاً وكلمها. ثم عاودها وبشرها بولادة عيسى كما نص القرآن فحملت وذهبت إلى زكريا ببيت المقدس فوجدته على الموت وهو يجود بنفسه فرجعت إلى ناصرة. ورأى يوسف الحمل فلطم وجهه وخشي الفضيحة مع الكهنونية فيما شرطوا عليه فأخبرته بقول الملاك فلم يصدق. وعرض له الملاك في نومه وأخبره أن الذي بها من روح القدس فاستيقظ وجاء إلى مريم فسجد لها وردها إلى بيتها. ويقال: إن زكريا حضر لذلك وأقام فيهما سنة اللعن الذي أوصى به موسى فلم يصبهما شيء وبرأهما الله. ووقع في إنجيل متى أن يوسف خطب مريم ووجدها حاملاً قبل أن يجتمعا فعزم على فراقها خوفاً من الفضيحة فأمر في نومه أن يقبلها. وأخبره الملاك بأن المولود منها من روح القدس. وكان يوسف صديقاً وولد على فراشه إيشوع انتهى. وقال الطبري: كانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمها وفي رواية عنه أنه ابن خالها وكانوا سدنة في بيت المقدس لا يخرجان منه إلا لحاجة الإنسان وإذا نفد ماؤهما فيملأن من أقرب المياه. فمضت مريم يوماً وتخلف عنها يوسف ودخلت المغارة التي كانت تعهد أنها للورد فتمثل لها جبريل بشراً. فذهبت لتجزع فقال لها: " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا " فاستسقاها. وعن وهب بن منبه أنه نفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت على عيسى فكان معها ذو قرابة يسمى يوسف النجار وكان في مسجد بجبل صهيون وكان لخدمته عندهم فضل وكانا يجمرانه ويقمانه وكانا صالحين مجتهدين في العبادة. ولما رأى ما بها من الحمل استعظمه وعجب منه لما يعلم من صلاحها وأنها لم تغب قط عنه. ثم سألها فردت الأمر إلى قدرة الله فسكت وقام بما ينوبها من الخدمة. فلما بان حملها أفضت بذلك إلى خالتها إيشاع وكانت أيضاً حبلى بيحيى فقالت لها: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. ثم أمرت بالخروج من بلدها خشية أن يعيرها قومها ويقتلوا ما في بطنها. فاحتملها يوسف إلى مصر وأخذها المخاض في طريقها فوضعته كما قصه القرآن واحتملته على الحمار وأقامت تكتم أمرها من الناس وتتحفظ به حتى بلغ اثنتي عشرة سنة. وظهرت عليه الكرامات وشاع خبره فأمرت أن ترجع به إلى إيلياء فرجعت وتتابعت عنه المعجزات وانثال الناس عليه يستشفون ويسألون عن الغيوب. قال الطبري: وفي خبر السدي أنها إنما خرجت من المسجد لحيض أصابها فكان نفخ الملاك وأن إيشاع خالتها التي سألتها عن الحمل وناظرتها فيه فحجتها بالقدرة وأن الوضع كان في شرقي بيت لحم قريباً من بيت المقدس وهو الذي بنى عليه بعض ملوك الروم البناء الهائل لهذا العهد. قال ابن العميد مؤرخ النصارى: ولد لثلاثة أشهر من ولادة يحيى بن زكريا ولإحدى وثلاثين من دولة هيردوس الأكبر ولاثنتين وأربعين من ملك أوغسطس قيصر. وفي الإنجيل أن يوسف تزوجها ومضى بها ليكتم أمرها في بيت لحم فوضعته هنالك ووضعته في مذود لأنها لم يكن لها موضع نزل. وأن جماعة من المجوس بعثهم ملك الفرس يسألون أين ولد الملك العظيم وجاؤوا إلى هيردوس يسألونه وقالوا جئنا لنسجد له. وحدثوه بما أخبر الكهان وعلماء النجوم من شأن ظهوره وأنه يولد ببيت لحم. وسمع أوغسطس قيصر بخبر المجوس فكتب إلى هيردوس يسأله فكتب له بمصدوقية خبره وأنه قتل فيمن قتل من الصبيان من ابن سنتين فما دونها وكان يوسف النجار قد أمر أن يخرج به إلى مصر فأقام هنالك اثنتي عشرة سنة وظهر عليه الكرامات. وهلك هيردوس الذي كان يطلبه وأمر بالرجوع إلى إيليا فرجعوا وظهر صدق شعيا النبي في قوله عنه: من مصر دعوتك. وفي كتاب يعقوب بن يوسف النجار حذراً من أن يكتب كما أمر أوغسطس في بعض أيامه فجاءها المخاض وهي في طريقها على حمار فصابرته إلى قرية بيت لحم وولدت في غار وسماه إيشوع. وأنه لما بلغ سنتين وكان من أمر المجوس ما قدمناه حذر هيردوس من شأنه وأمر أن يقتل الصبيان ببيت لحم. فخرج يوسف به وبأمه إلى مصر أمر بذلك في نومه وأقام بمصر سنتين حتى مات هيردوس ثم أمر بالرجوع فرجع إلى ناصرة وظهرت عليه الخوارق من إحياء الموتى وإبراء المعتوهين وخلق الطير وغير ذلك من خوارقه. حتى إذا بلغ ثماني سنين كف عن ذلك. ثم جاء يوحنان المعمدان من البرية وهو يحيى بن زكريا ونادى بالتوبة والدعاء إلى الدين وقد كان شعيا أخبر أنه يخرج أيام المسيح. وجاء المسيح من الناصرة ولقيه بالأردن فعمده يوحنان وهو ابن ثلاثين سنة. ثم خرج إلى البرية واجتهد في العبادة والصلاة والرهبانية. واختار تلامذته الاثني عشر: سمعان بطرس وأخوه أندراوس ويعقوب بن زبدي وأخوه يوحنا وفيلبس وبرتولوماوس وتوما ومتى العشار ويعقوب بن حلفا وتداوس وسمعان القناني يهوذا الإسخريوطي. وشرع في إظهار المعجزات ثم قبض هيردوس الصغير على يوحنان وهو يحيى بن زكريا لنكيره عليه في زوجة أخيه فقتله ودفن بنابلس. ثم شرع المسيح الشرائع من الصلاة والصوم وسائر القربات وحلل وحرم وانزل عليه الإنجيل وظهرت على يديه الخوارق والعجائب. وشاع ذكره في النواحي واتبعه الكثير من بني إسرائيل وخافه رؤساء اليهود على دينهم وتآمروا في قتله وجمع عيسى الحواريين فباتوا عنده ليلتين يطعمهم ويبالغ في خدمتهم بما استعظموه. قال: وإنما فعلته لتتأسوا به. وقال يعظهم: ليكفرن بي بعضكم قبل أن يصيح الديك ثلاثاً ويبيعني أحدكم بثمن بخس وتأكلوا ثمني. ثم افترقوا. وكان اليهود قد بعثوا العيون عليهم فأخذوا شمعون من الحواريين فتبرأ منهم وتركوه وجاء يهوذا الإسخريوطي وبايعهم على الدلالة عليه بثلاثين درهماً. وأراهم مكانه الذي كان يبيت فيه وأصبحوا به إلى فلاطش النبطي قائد قيصر على اليهود وحضر جماعة الكهنونية وقالوا: هذا يفسد ديننا ويحل نواميسنا ويدعي الملك فاقتله! وتوقف فصاحوا به وتوعدوه بإبلاغ الأمر إلى قيصر فأمر بقتله. وكان عيسى قد أبلغ الحواريين بأنه يشبه على اليهود في شأنه فقتل ذلك الشبه وصلب وأقام سبعاً وجاءت أمه تبكي عند الخشبة. فجاءها عيسى وقال: ما لك تبكي قالت عليك! قال إن الله رفعني ولم يصبني إلا خير وهذا شيء شبه لهم وقولي للحواريين يلقوني بمكان كذا. فانطلقوا إليه وأمرهم بتبليغ رسالته في النواحي كما عين لهم من قبل. وعند علماء النصارى أن الذي بعث من الحواريين إلى رومة بطرس ومعه بولس من الأتباع ولم يكن حوارياً وإلى أرض السودان والحبشة - ويعبرون عن هذه الناحية بالأرض التي تأكل أهلها والناس - متى العشار وأندراوس إلى أرض بابل والمشرق توماس وإلى أرض أفريقية فيلبس وإلى أفسوس قرية أصحاب الكهف يوحنا وإلى أورشليم وهي بيت المقدس يوحنا وإلى أرض العرب والحجاز برتلوماوس وإلى أرض برقة والبربر شمعون القناني. قال ابن إسحاق: ثم وثب اليهود على بقية الحواريين يعذبونهم ويفتنونهم. وسمع القيصر بذلك وكتب إليه فلاطش النبطي قائده بأخباره ومعجزاته وبغي اليهود عليه وعلى يوحنان قبله فأمرهم بالكف عن ذلك. ويقال قتل بعضهم. وانطلق الحواريون إلى الجهات التي بعثهم إليها عيسى فآمن به بعض وكذب بعض. ودخل يعقوب أخو يوحنان إلى رومة فقتله غاليوس قيصر وحبس شمعون ثم خلص وسار إلى أنطاكية ثم رجع إلى رومة أيام قلوديش قيصر بعد غاليوس وأتبعه كثير من الناس وآمن به بعض نساء القياصرة وأخبرها بخبر الصليب فدخلت إلى القدس وأخرجته من تحت الزبل والقمامات بمكان الصلب وغشته بالحرير والذهب وجاءت به إلى رومة. وأما بطرس كبير الحواريين وبولص اللذان بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة فإنهما مكثا هنالك يقيمان دين النصرانية ثم كتب بطرس الإنجيل بالرومية ونسبه إلى مرقص تلميذه وكتب متى إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس ونقله من بعد ذلك يوحنان بن زبدي إلى رومة. وكتب لوقا إنجيله بالرومية وبعثه إلى بعض أكابر الروم وكتب يوحنا بن زبدي إنجيله برومة ثم اجتمع الرسل الحواريون برومة ووضعوا القوانين الشرعية لدينهم صيروها بيد إقليمنطس تلميذ بطرس وكتبوا فيها عد الكتب التي يجب قبولها. فمن القديمة التوراة خمسة أسفار وكتاب يوشع بن نون وكتاب القضاة وكتاب راعوث وكتاب يهوذا وأسفار الملوك أربعة كتب وسفر بنيامين وسفر المقباسين ثلاثة كتب وكتاب عزرا الإمام وكتاب أشير وكتاب قصة هامان وكتاب أيوب الصديق ومزامير داود النبي وكتب ولده سليمان خمسة ونبوات الأنبياء الصغار والكبار ستة عشر كتاباً وكتاب يشوع بن شارخ. ومن الحديثة كتب الإنجيل الأربعة وكتب القتاليقون سبع رسائل وكتاب بولس أربع عشرة رسالة والإيركسيس وهو قصص الرسل ويسمى أفليمد ثمانية كتب تشتمل على كلام الرسل وما أمروا به ونهوا عنه. وكتاب النصارى الكبار إلى أساقفتهم الذين يسمون البطارقة ببلاد معينة يعلمون بها دين النصرانية فكان برومة بطرس الرسول الذي بعثه عيسى صلوات الله عليه وكان ببيت المقدس يعقوب النجار وكان بالإسكندرية مرقص تلميذ بطرس وكان بييزنطية وهي قسطنطيينة أندرواس الشيخ وكان بأنطاكية. وكان صاحب هذا الدين عندهم والمقيم لمراسمه يسمونه البطرك. وهو رئيس الملة وخليفة المسيح فيهم ويبعث نوابه وخلفاءه إلى من بعد عنهم من أمم النصرانية ويسمونه الأسقف أي نائب البطرك ويسمون القرا بالقسيس وصاحب الصلاة بالجاثليق وقومة المسجد بالشمامسة والمنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب والقاضي بالمطران ولم يكن بمصر لذلك العهد أسقف إلى أن جاء دهدس الحادي عشر من أساقفة إسكندرية وكان بطرك أساقفة بمصر وكان الأساقفة يسمون البطرك أباً والقسوس يسمون الأساقفة أباً فوقع الإشتراك في اسم الأب فاخترع اسم البابا لبطرك الإسكندرية ليتميز عن الأسقف في اصطلاح القسوس ومعناه أبو الآباء فاشتهر هذا الاسم ثم انتقل إلى بطرك رومة لأنه صاحب كرسي بطرس كبير الحواريين ورسول المسيح وأقام على ذلك لهذا العهد يسمى البابا. ثم جاء بعد قلوديش قيصر نيرون قيصر فقتل بطرس كبير الحواريين وبولص اللذين بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة وجعل مكان بطرس أرنوس برومة وقتل مرقص الإنجيلي تلميذ بطرس وكان بالإسكندرية يدعو إلى الدين سبع سنين ويبعثه في نواحي مصر وبرقة والمغرب. وقتله نيرون وولى بعده حنينيا وهو أول البطاركة عليها بعد الحواريين وثار اليهود في دولته على أسقف بيت المقدس وهو يعقوب النجار وهدموا البيعة ودفنوا الصليب إلى أن أظهرته هيلانة أم قسطنطين كما نذكره بعد. وجعل نيرون مكان يعقوب النجار ابن عمه شمعون بن كيافا. ثم اختلفت حال القياصرة من بعد ذلك في الأخذ بهذا الدين وتركه كما يأتي في أخبارهم إلى أن جاء قسطنطين بن قسطنطين باني المدينة المشهورة وكانت في مكانها قبله مدينة صغيرة تسمى بيزنطية. وكانت أم هيلانة صالحة فأخذت بدين المسيح لاثنتين وعشرين سنة من ملك قسطنطين ابنها. وجاءت إلى مكان الصليب فوقفت عليه وترحمت وسألت عن الخشبة التي صلب عليها بزعمهم فأخبرت بما فعل اليهود فيها وأنهم دفنوها وجعلوا مكانها مطرحاً للقمامة والنجاسة والجيف والقاذورات. فاستعظمت ذلك واستخرجت تلك الخشبة التي صلب عليها بزعمهم. وقيل من علامتها أن يمسها ذو العاهة فيعافى لوقته فطهرتها وطيبتها وغشتها بالذهب والحرير ورفعتها عندها للتبرك بها وأمرت ببناء كنيسة هائلة بمكان الخشبة تزعم أنها قبره وهي التي تسمى لهذا العهد قمامة. وخربت مسجد بني إسرائيل وأمرت بأن تلقى القاذورات والكناسات على الصخرة التي كانت عليها القبة التي هي قبلة اليهود إلى أن أزال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عند فتح بيت المقدس كما نذكره هنالك. وكان من ميلاد المسيح إلى وجود الصليب ثلثمائة وثمان وعشرون سنة. وأقام هؤلاء النصرانية بطاركتهم وأساقفتهم على إقامة دين المسيح على ما وضعه الحواريون من القوانين والعقائد والأحكام. ثم حدث بينهم اختلاف في العقائد وسائر ما ذهبوا إليه من الإيمان بالله وصفاته وحاش لله وللمسيح وللحواريين أن يذهبوا إليه وهو معتقدهم التثليث. وإنما حملهم عليه ظواهر من كلام المسيح في الإنجيل لم يهتدوا إلى تأويلها ولا وقفوا على فهم معانيها مثل قول المسيح حين صلب بزعمهم أذهب إلى أبي وأبيكم. وقال افعلوا كذا وكذا من البر لتكونوا أبناء أبيكم في السماء وتكونوا تامين. كما أن أباكم الذي في السماء تام. وقال له في الإنجيل: إنك أنت الابن الوحيد. وقال لشمعون الصفا أنك ابن الله حقاً فلما أثبتوا هذه الأبوة من ظاهر هذا اللفظ زعموا أن عيسى ابن مريم من أب قديم. وكان اتصاله بمريم تجسد كلمة منه مازجت جسد المسيح وتدرعت به فكان مجموع الكلمة والجسد ابناً وهو ناسوق كلي قديم أزلي. وولدت مريم إلهاً أزلياً والقتل والصلب وقع على الجسد والكلمة ويعبرون عنهما بالناسوت واللاهوت. وأقاموا على هذه العقيدة ووقع بينهم فيها اختلاف وظهرت مبتدعة من النصرانية اختلفت أقوالهم الكفرية كان من أشدهم ابن دنصان ودافعهم هؤلاء الأساقفة والبطاركة عن معتقدهم الذين كانوا يزعمونه حقاً وظهر يونس الشميصاتي بطرك أنطاكية بعد حين أيام أفلوديس قيصر فقال بالوحدانية ونفى الكلمة والروح وتبعه جماعة على ذلك. ثم مات فرد الأساقفة مقالته وهجروها ولم يزالوا على ذلك إلى أيام قسطنطين بن قسطنطين فتنصر ودخل في دينهم وكان باسكندرية أسكندروس البطرك وكان لعهده أريوس من الأساقفة وكان يذهب إلى حدوث الابن وأنه إنما خلق الخلق بتفويض الأب إليه في ذلك فمنعه إسكندروس الدخول إلى الكنيسة وأعلم أن إيمانه فاسد وكتب بذلك إلى سائر الأساقفة والبطاركة في النواحي. وفعل ذلك بأسقفين آخرين على مثل رأي أبي أريوس فدفعوا أمرهم إلى قسطنطين وأحضرهم جميعاً لتسع عشرة من دولته وتناظروا. ولما قال أريوس إن الابن حادث وأن الأب فوض إليه بالخلق. وقال الإسكندروس بالخلق استحق الألوهية فاستحسن قسطنطين قوله وأذن له أن يشيد بكفر أريوس. وطلب الإسكندروس باجتماع النصرانية لتحرير المعتقد الإيماني فجمعهم قسطنطين وكانوا ألفين وثلثمائة وأربعين أسقفاً وذلك في مدينة نيقية فسمى المجتمع مجتمع نيقية وكان رئيسهم الإسكندروس بطرك إسكندرية وأسطانس بطرك أنطاكية ومقاريوس أسقف بيت المقدس. وبعث سلطوس بطرك رومة بقسيس حضر معهم لذلك نيابة عنه فتفاوضوا وتناظروا واتفقوا عنهم بعد الاختلاف الكثير على ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً على رأي واحد فصار قسطنطين إلى قولهم وأعطى سيفه وخاتمه وباركوا عليه ووضعوا له قوانين الدين والملك ونفي أريوس وأشيد بكفره وكتبوا العقيدة التي اتفق عليها أهل ذلك المجمع ونصها عندهم على ما نقله ابن العميد من مؤرخيهم والشهرستاني في كتاب الملل والنحل وهو: نؤمن بالله الواحد الأحد الأب مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى وبالأبن الوحيد إيشوع المسيح ابن الله ذكر الخلائق كلها وليس بمصنوع إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وكل شيء الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا بعث العوالم وكل شيء الذي نزل من السماء وتجسد من روح القدس وولد من مريم البتول وصلب أيام فيلاطوس ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى بالقضاء بين الأحياء والأموات ونؤمن بروح الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة قدسية مسيحية جاثليقية وبقيام أبداننا بالحياة الدائمة أبد الآبدين انتهى. هذا هو اتفاق المجمع الأول الذي هو مجمع نيقية وفيه إشارة إلى حشر الأبدان ولا يتفق النصارى عليه وإنما يتفقون على حشر الأرواح ويسمون هذه العقيدة الأمانة. ووضعوا معها قوانين الشرائع ويسمونها الهيمايون. وتوفي الإسكندروس البطرك بعد هذا المجمع بخمسة أشهر ولما عمرت هلانة أم قسطنطين الكنائس وأحب الملك أن يقدسها ويجمع الأساقفة لذلك وبعث أوسانيوس بطرك القسطنطينية وحضر معهم أثناس بطرك الإسكندرية واجتمعوا في صور وكان أوسانيوس الذي أخرجه إسكندروس مع أريوس من كنيسة إسكندرية. وكان بسبب ذلك مجمع نيقية وكتاب الأمانة. ونفي أريوس حينئذ وأوسانيوس وصاحبهما ولعنوا. وجعله بطركاً بالقسطنطينية فلما اجتمعوا في صور وكان فيهم أومانيوس على رأي أريوس فأشار أوسانيوس بطرك القسطنطينية بأن يظاهر أثناس بطرك الإسكندرية عن مقالة أريوس فقال أرمانيوس: إن أريوس لم يقل إن المسيح خلق العالم: وإنما قال هو كلمة الله التي بها خلق كما وقع في الإنجيل. فقال أثناس بطرك الإسكندرية: وهذا الكلام أيضاً يقتضي أن الابن مخلوق وأنه خلق المخلوقات دون الأب. لأنه إذا كان يخلق به فالأب لم يخلق شيء لأنه مستعين بغيره والفاعل بغيره محتاج إلى ذلك المتمم فهو في ذاته خالق والله سبحانه منزه عن ذلك. وإن زعم أريوس أن الأب يريد الشيء والابن يكونه فقد جعل فعل الابن أتم لأن الأب إنما له الإرادة فقط وللابن الاختراع فهو أتم. فلما ظهر بطلان مقالة أريوس وثبوا على أرمانيوس المناظر عن مقالة أريوس وضربوه ضرباً وجيعاً وخلصه ابن أخت الملك ثم قدوا الكنائس وانفض الجمع وبلغ الخبر إلى قسطنطين فندم على بطركية أرمانيوس بالقسطنطينية وغضب عليه ومات لسنتين من رياسته. واجتمع بعد ذلك أصحاب أريوس إلى قسطنطين فحسنوا له تلك المقالة وأن جماعة نيقية ظلموا أريوس وبغوا عليه وصدوا عن الحق في قولهم إن الأب مساو للابن في الجوهرية وكاد الملك أن يقبل منهم. فكتب إليه كيراش أسقف بيت المقدس يحذره من مقالة أريوس فقبل ورجع. واختلف حال ملوك القياصرة بعد قسطنطين في الأخذ بالأمانة أو بمقالة أريوس وظهور إحدى الطائفتين متى كان الملك على دينهم. وأفحش بعض ملوك القياصرة في الحق على مخالفه فقال له بعض العلماء والحكماء: لا تنكر المخالفة فالحنفاء يختلفون أيضاً وإنما هم الخلق يحمدون الله ويصفونه بالصفات الكثيرة والله يحب ذلك فسكن بعض الشيء وكان بعضهم يعرض على الطائفتين ويخلي كل أحد ودينه. ثم كان المجمع الثاني بقسطنطينية بعد مجمع نيقية بمائتين وخمسين سنة. اجتمعوا للنظر في مقالة مقدونيوس وسليوس بأن جسد المسيح بغير ناسوت وأن اللاهوت أغناه عنها مستدلين بما وقع في الإنجيل أن الكلمة صار لحماً ولم يقل صار إنساناً وجعلا من الإله عظيماً وأعظم منه والأب أفضل عظماً. وقال: إن الأب غير محدود في القوة وفي الجوهر فأبطلوا هذه المقالة ولعنوهما وأشادوا بكفرهما وزادوا في الأمانة التي قررها جماعة نيقية ما نصه: ونؤمن بروح القدس المنتقى من الأب. ولعنوا من يزيد بعد ذلك على كلمة الأمانة أوينقص منها. ثم كان لهم بعد ذلك بأربعين سنة المجمع الثالث على نسطوريوس نوسق البطرك بالقسطنطينية لأنه كان يقول: إن مريم لم تلد إلهاً وإنما ولدت إنساناً وإنما اتحد به في المشيئة لا في الذات وليس هو إله حقيقة بل بالموهبة والكرامة. ويقول بجوهرين وأقنومين وهذا الرأي الذي أظهره نسطوريوس كان رأي تاودوس وديودس الأسقفين وكان من مقالتهما أن المولود من مريم هو المسيح والمولود من الأب هو الابن الأزلي والابن الأزلي حل في المسيح المحدث فسمي المسيح ابن الله بالموهبة والكرامة. وإنما الاتحاد بالمشيئة والإرادة فأثبتوا لله ولدين أحدهما بالجوهر والثاني بالنعمة. وبلغت مقالة نسطوريوس إلى كرلس بطرك إسكندرية فكتب إلى بطرك رومة وهو أكليمس وإلى يوحنا وهو بطرك أنطاكية وإلى يونالوس أسقف بيت المقدس فكتبوا إلى نسطوريوس ليدفعوه عن ذلك بالحجة فلم يرجع ولا التفت إلى قولهم. فاجتمعوا في مدينة أفسيس في مائتين أسقفاً للنظر في مقالته فقرروا إبطالها ولعنوه وأشادوا بكفره. ووجد عليهم يوحنا بطرك إنطاكية حيث لم ينتظروا حضوره فخالفهم ووافق نسطوريوس ثم أصلح بينهم باوداسوس من بعد مدة واتفقوا على نسطوريوس وكتب أساقفة المشارقة أمانتهم وبعثوا بها إلى كرلس فقبلها. ونفى نسطوريوس إلى صعيد مصر فنزل أخميم ومات بها لسبع سنين من نزولها وظهرت مقالته في نصارى المشرق وبفارس والعراق والجزيرة والموصل إلى الفرات. وكان بعد ذلك بإحدى وعشرين سنة المجمع الرابع بمدينة خلقدونية اجتمع فيه ستمائة وأربعة وثلاثون أسقفاً من فتيان قيصر للنظر في مقالة ديسقورس بطرك الإسكندرية لأنه كان يقول: المسيح جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين وطبيعة من طبيعتين ومشيئة من مشيئتين. وكانت الأساقفة والبطاركة لذلك العهد يقولون بجوهرين وطبيعتين ومشيئتين وأقنوم واحد فخالفهم ديسقورس في بعض الأساقفة وكتب خطه بذلك ولعن من يخالفه. فأراد مرقيان قيصر قتله فأشارت البطارقة بإحضاره وجمع الأساقفة لمناظرته فحضر بمجلس مرقيان قيصر وافتضح في مخاطبتهم ومناظرتهم. وخاطبته زوج الملك فأساء الرد فلطمته بيدها وتناوله الحاضرون بالضرب. وكتب مرقيان قيصر إلى أهل مملكته في جميع النواحي بأن مجمع خلقدونية هو الحق ومن لا يقبله يقتل. ومر ديسقوروس بالقدس وأرض فلسطين وهو مضروب منفي فاتبعوا رأيه وكذلك اتبعه أهل مصر والإسكندرية وولى وهو في النفي أساقفة كثيرة كلهم يعقوبية. قال ابن العميد: وإنما سمي أهل مذهب ديسقورس يعقوبية لأن اسمه كان في الغلمانية يعقوب وكان يكتب إلى المؤمنين من المسكين المنفي يعقوب. وقيل بل كان له تلميذ اسمه يعقوب فنسبوا إليه. وقيل بل كان شاويرش بطرك أنطاكية على رأي ديسقورس وكان له تلميذ اسمه يعقوب فكان شاويرش يبعث يعقوب إلى المؤمنين ليثبتوا على أمانة ديسقورس فنسبوا إليه. قال: ومن جمع خلقدونية افترقت الكنائس والأساقفة إلى يعقوبية وملكية ونسطورية. فاليعقوبية أهل مذهب ديسقورس الذي قررناه أنفاً. والملكية أهل الأمانة التي قررها جماعة نيقية وجماعة خلقدونية بعدهم وعليها جمهور النصرانية. والنسطورية أهل المجمع الثالث وأكثرهم بالمشرق. وبقي الملكية واليعقوبية يتعاقبون في الرياسة على الكراسي بحسب من يريدهم من القياصرة وما يختارونه من المذهبين. ثم كان بعد ذلك بمائة وثلاثين سنة أوثلاث وستين سنة المجمع الخامس بقسطنطينية في أيام يوسطانوس قيصر للنظر في مقالة أقفسح لأنه نقل عنه أنه يقول بالتناسخ وينكر البعث. ونقل عن أساقفة أنقرا والمصيصة والرها أنهم يقولون: إن جسد المسيح فنطايسا: فأحضر قيصر جمعهم بالقسطنطينية ليناظرهم البطرك بها. فقال البطرك: إن كان جسد المسيح فني فقوله وفعله كذلك. وقال الأسقف أقفسح: إنما قام المسيح من بين الأموات ليحقق البعث والقيامة فكيف تنكر ذلك أنت وجمع لهم مائة وعشرين أسقفاً فأشادوا بكفره وأوجبوا لعنتهم ولعنة من يقول بقولهم. واستقرت فرق النصارى على هذه الثلاثة. الفرس الخبرعن الفرس وذكر أيامهم ودولهم وتسمية ملوكهم وكيف كان مصير أمرهم إلى تمامه وانقراضه. هذه الأمة من أقدم أمم العالم وأشدهم قوة وآثاراً في الأرض وكانت لهم في العالم دولتان عظيمتان طويلتان الأولى منهما الكينية ويظهر أن مبتدأها ومبتدأ دولة التبابعة وبني إسرائيل واحد وأن الثلاثة متعاصرة. ودولة الكينية هذه هي التي غلب عليها الإسكندر والساسانية الكسراوية ويظهر أنها معاصرة لدولة الروم بالشام وهي التي غلب عليها المسلمون. وأما ما قبل هاتين الدولتين فبعيد وأخباره متعارضة. ونحن ذاكرون ما اشتهر من ذلك. وأما أنسابهم فلا خلاف بين المحققين أنهم من ولد سام بن نوح وأن جدهم الأعلى الذي ينتمون إليه هو فرس. والمشهور أنهم من ولد إيران بن أشوذ بن سام بن نوح وأرض إيران هي بلاد الفرس. ولما عربت قيل لها إعراق. هذا عند المحققين. وقيل: إنهم منسوبون إلى إيران بن إيران بن أشوذ. وقيل إلى غليم بن سام. ووقع في التوراة ذكر ملك الأهواز كردامر من بني غليم. فهذا أصل هذا القول والله أعلم. لان الأهواز من ممالك بلاد فارس. وقيل: إلى لاوذ بن إرم بن سام وقيل إلى أميم بن لاوذ وقيل إلى يوسف بن يعقوب بن إسحاق. ويقال إن الساسانية فقط من ولد إسحاق وأنه يسمى عندهم وترك وأن جدهم منوشهر بن منشحر بن فرهس بن وترك. هكذا نقل المسعودي هذه الأسماء وهي كما تراه غير مضبوطة. وفيما قيل: إن الفرس كلهم من ولد إيران بن أفريدون الآتي ذكره وأن من قبله لا يسمون بالفرس والله أعلم. وكان أول ما ملك إيران أرض فارس. فتوارث أعقابه الملك ثم صارت لهم خراسان ومملكة النبط والجرامقة. ثم اتسعت مملكتهم إلى الإسكندرية غرباً وباب الأبواب شمالاً. وفي الكتب أن أرض إيران هي أرض الترك وعند الإسرائيليين أنهم من ولد طيراس بن يافث وإخوتهم بنو مادي بن يافث وكانوا مملكة واحدة. فأما علماء الفرس ونسابتهم فيأبون من هذا كله وينسبون الفرس إلى كيومرث ولا يرفعون نسبه إلى ما فوقه. ومعنى هذا الاسم عندهم ابن الطين وهو عندهم أول ابن الطين وهو عندهم أول النسب. هذا رأيهم وأما مواطن الفرس فكانت أول أمرهم بأرض فارس وبهم سميت. ويجاورهم إخوانهم في نسب أشوذ بن سام وهم فيما قال البيهقي الكرد والديلم والخزر والنبط والجرامقة. ثم صارت لهم خراسان ومملكة النبط والجرامقة وسائر هؤلاء الأمم. ثم اتسعت ممالكهم إلى الإسكندرية. وفي هذا الجيل على ما اتفق عليه |
المؤرخون أربع طبقات
الطبقة الأولى تسمى البيشدانية والطبقة الثانية تسمى الكينية والطبقة الثالثة تسمى الأشكانية والطبقة الرابعة تسمى الساسانية ومدة ملكهم في العالم على ما نقل ابن سعيد عن كتاب تاريخ الأمم لعلي بن حمزة الأصبهاني وذلك من زمن كيومرث أبيهم إلى مهلك يزدجرد أيام عثمان أربعة آلاف سنة ومائتا سنة ونحو إحدى وثمانين سنة. وكيومرث عندهم هو أول ملك نصب في الأرض ويزعمون فيما قال المسعودي: أنه عاش ألف سنة وضبطه بكاف أول الاسم قبل الياء المثناة من أسفل والسهيلي ضبطه بجيم مكان الكاف والظاهر أن الحرف بين الجيم والكاف كما قدمناه. الطبقة الأولى من الفرس وهي البيشدانية m0 وذكر ملوكهم وما صار إليه في الخليقة أحوالهم الفرس كلهم متفقون على أن كيومرث هو آدم الذي هو أول الخليقة وكان له ابن اسمه منشا ولمنشا سيامك ولسيامك أفروال ومعه أربعة بنين وأربع بنات ومن أفروال كان نسل كيومرث والباقون انقرضوا فلا نعرف لهم عقب. قالوا وولد لأفروال أوشهنك بيشداد. فاللفظة الأولى حرفها الأخير بين الكاف والقاف والجيم واللفظة الأخرى معناها بلغتهم النور. قاله السهيلي وقال الطبري: أول حاكم بالعدل. وكان أفروال وارث ملك كيومرث وملك الأقاليم السبعة. قال الطبري عن ابن الكلبي إنه أوشهنك ابن عابر بن شالخ. قال والفرس تدعيه وتزعم أنه بعد آدم بمائتي سنة. قال وإنما كان نوح بعد آدم بمائتي سنة فصيره بعد آدم. وأنكره الطبري لأن شهرة أوشهنك تمنع من مثل هذا الغلط فيه. ويزعم بعض الفرس أن أوشهنك بيشداد هو مهلايل وأن أباه أفروال هو قينن وأن سيامك هو أنوش وأن منشا هو شيت وأن كيومرث هو آدم. بمائتي سنة. وقال بعض علماء الفرس: إن كيومرث هو كومر بن يافث بن نوح وأنه كان معمراً ونزل جبل دنباوند من جبال طبرستان وملكها ثم ملك فارس وعظم أمره وأمر بنيه حتى ملكوا بابل. وأن كيومرث هو الذي بنى المدن والحصون واتخذ الخيل تسمى بآدم وحمل الناس على دعائه بذلك. وأن الفرس من عقب ولده ماداي ولم يزل الملك في عقبهم في الكينية والكسروية إلى آخر أيامهم. وتقول الفرس أن أوشهنك وهو مهلايل ملك الهند. قالوا وملك بعد أوشهنك طهمورث بن أنوجهان بن أنكهد بن أسكهد بن أوشهنك وقيل مكان أسكهد فيشداد. وكلها أسماء أعجمية لا عهدة علينا في نقلها لعجمتها وانقطاع الرواية في الأصول التي نقلت منها. قال ابن الكلبي إن طهمورث أول ملوك بابل وأنه ملك الأقاليم كلها وكان محموداً في ملكه وفي أول سنة من ملكه ظهر بيوراسب ودعا إلى ملة الصابئة. وقال علماء الفرس: ملك بعد طهمورث جمشيد ومعناه الشجاع لجماعة وهو جم بن نوجهان أخو طهمورث وملك الأرض واستقام أمره. ثم بطر النعمة وساءت أحواله فخرج عليه قبل موته بسنة بيوراسب وظفر به فنشره بمنشار وأكله وشرط أمعاءه. وقيل إنه ادعى الربوبية فخرج عليه أولاً أخوه أستوير فاختفى. ثم خرج بيوراسب فانتزع الأمر من يده وملك سبعمائة سنة. وقال ابن الكلبي مثل ذلك قال الطبري بيوراسب هو الأزدهاك والعرب تسميه الضحاك وهو بصاد بين السين والزاي وحاء قريب من الهاء وكاف قريبة من القاف. وهو الذي عنى أبو نواس بقوله: وكان منا الضحاك تعبده الجامل والجن في محاربها لأن اليمن تدعيه. قال: وتقول العجم: إن جمشيد زوج أخته من بعض أهل بيته وملك على اليمن فولدت الضحاك. وتقول أهل اليمن في نسبه: الضحاك بن علوان بن عبيدة بن عويج وأنه بعث على مصر أخاه سنان بن علوان ملكاً وهو فرعون إبراهيم. قاله ابن الكلبي. وأما الفرس فينسبونه هكذا: بيوراسب بن رتيكان بن يدوشتك بن فارس بن أفروال ومنهم من خالف في هذا. ويزعمون أنه ملك الأقاليم كلها وكان ساحراً كافراً وقتل أباه وكان أكثر إقامته ببابل. وقال هشام: ملك الضحاك وهو نمرود الخليل بعد جمشيد وأنه التاسع منهم وكان مولده بدنباوند وأن الضحاك سار إلى الهند فخالفه أفريدون إلى بلاده فملكها. ورجع الضحاك فظفر به أفريدون وحبسه بجبال دنباوند واتخذ يوم ظفر به عيداً. وعند الفرس أن الملك إنما كان للبيت الذي وطنه أوشهنك وجمشيد وأن الضحاك هو بيوراسب خرج عليهم وبنى بابل وجعل النبط جنده وغلب أهل الأرض بسحره وخرج عليه رجل من عامة أصبهان اسمه عالي وبيده عصا علق فيها جراباً واتخذها راية ودعا الناس إلى حربه فأجابوا وغلبه فلم يدع الملك وأشار بتولية بني جمشيد لأنه من عقب أوشهنك ملكهم الأول بن أفروال فاستخرجوا أفريدون من مكان اختفائه فملكوه واتبع الضحاك فقتله. وقيل أسره بدنباوند. ويقال كان على عهد نوح وإليه بعث. ولهذا يقال: إن أفريدون هو نوح. والتحقيق عند نسابة الفرس على ما نقل هشام بن الكلبي أن أفريدون من ولد جمشيد بينهما تسعة آباء. وملك مائتي سنة. ورد غصوب الضحاك ومظالمة. وكان له ثلاثة بنين الأكبر سرم والثاني طوج والثالث إيرج. وإنه قسم الأرض بينهم: فكانت الروم وناحية المغرب لسرم والترك والصين والعراق لايرج وآثره بالتاج والسرير ولما مات قتله أخواه واقتسما الأرض بينهما ثلثمائة سنة. ويزعمون أن أفريدون وآباءه العشرة يلقبون كلهم أشكايان. وقيل في قسمته الأرض بين ولده غير هذا. وإن بابل كانت لإيرج الأصغر وكان يسمى خيارث ويقال كان لإيرج ابنان: وندان وأسطوبة وبنت اسمها خورك. وقتل الابنان مع أبيهما بعد مهلك أفريدون وأن أفريدون ملك خمسمائة سنة وأنه هو الذي محا آثار ثمود من النبط بالسواد وأنه أول من تسمى بكي فقيل كي أفريدون ومعناه التنزيه أي مخلص متصل بالروحانيات. وقيل معناه البهاء لأنه يغشاه نور من يوم قتل الضحاك وقيل معناه مدرك الثأر. وكان منوشهر الملك ابن منشحر بن إيرج من نسل أفريدون وكانت أمه من ولد إسحاق عليه السلام فكفلته حتى كبر فملك وثأر بأبيه إيرج من عمه بعد حروب كانت له معهما. ثم استبد ونزل بابل وحمل الفرس على دين إبراهيم عليه السلام وثار عليه أفراسياب ملك الترك فغلبه على بابل وملكها ثم اتبعه إلى غياض طبرستان فجهز العساكر لحصاره وسار إلى العراق فملكه. ويقال أفراسياب هذا منعقب طوج بن أفريدون ولحق ببلاد الترك عندما قتل منوشهر جد طوج فنشأ عندهم وظهر من بلادهم فلهذا نسب إليهم. وقال الطبري: لما هلك منوشهر بن منشحور غلب أفراسياب بن أشك بن رستم بن ترك على خيارات وهي بابل وأفسد مملكة فارس وحيرها. فثار عليه زومر بن طهمارست ويقال راسب بن طهمارست. وينسب إلى منوشهر في تسعة آباء وأن منوشهر غضب على طهمارست وكانوا يحاربون أفراسيات فهم بقتله وشفع فيه أهل الدولة فنفاه إلى بلاد الترك وتزوج منهم ثم عاد إلى أبيه وأعمل الحيلة في إخراج إمرأته من بلاد الترك وكانت ابنة وامن ملك الترك فولدت له زومر ابنه وقام بالملك بعد منوشهر وطرد أفراسيات عن مملكة فارس وقتل جده واقن في حروبه مع الترك. ولحق أفراسيات بتركستان واتخذ يوم ذلك الغلب عيداً ومهرجاناً وكان ثالث أعيادهم. وكان غلبه على بلاد فارس لاثنتي عشرة سنة من وفاة منوشهر جده وكان زومر بن طهمارست هذا محموداً في سيرته وأصلح ما أفسد أفراسيات بن خيارت من مملكة بابل وهو الذي حفر نهر الزاب بالسواد وبنى على حافته المدينة العتيقة وسماها الزواهي وعمل فيها البساتين وحمل إليها بزور الأشجار والرياحين. وكان معه الملك كرشاسب من ولده طوج بن أفريدون وقيل من ولد منوشهر. ويقال إنما كان رديفاً له وكان عظيم الشأن في أهل فارس ولم يملك وإنما كان الملك لزومر بن طهمارست وهلك لثلاث سنين من دولته. وفي أيامه خرج بنو إسرائيل من التيه وفتح يوشع مدينة أريحاء ودال الملك من بعده للكينية حسبما يذكر وأولهم كيقباذ. ويقال إن مدة الملك لهذه الطبقة كانت ألفين وأربعمائة وسبعين سنة فيما قال البيهقي والأصبهاني ولم يذكر من ملوكهم إلا هؤلاء التسعة الذين ذكرهم الطبري والله وارث الأرض ومن عليها. الطبقة الثانية من الفرس وهم الكينية وذكر ملوكهم وأيامهم إلى حين انقراضهم. هذه الطبقة الثانية من الفرس وملوكهم يعرفون بالكينية لأن اسم كل واحد مضاف إلى كي وقد تقدم معناه. والمضاف عند العجم متأخر عن المضاف إليه وأولهم فيما قالوا كيقباذ بن عقب منوشهر بينهما أربعة آباء وكان متزوجاً بامرأة من رؤوس الترك ولدت له خمسة من البنين: كي وافيا وكيكاوس وكي أرش وكي نية فاسمن وهؤلاء هم الجبابرة وآباء الجبابرة. قال الطبري: وقيل إن الملوك الكينية وأولادهم من نسله جرت بينه وبين الترك حروب وكان مقيماً بنهر بلخ يمانع الترك من طروق بلاده وملك مائة سنة انتهى. وملك بعده ابنه كيكاوس ابن كينية وطالت حروبه مع أفراسيات ملك الترك وهلك فيها ابنه سياوخش ويقال كان على عهد داود عمراً ذا الأذعار من ملوك التبابعة غزاه في بلاده فظفر به وحبسه عنده باليمن وسار وزيره رستم بن دستان بجنود فارس إلى غزو ذي الأذعار فقتله وتخلص كيكاوس إلى ملكه. وقال الطبري: كان كيكاوس عظيم السلطان والحماية وولد له ابنه سياوخش فدفعه إلى رستم الشديد بن دستان. وكان أصهر بسجستان حتى إذا كملت تربيته وفصاله رده إلى أبيه فرضيه وكفلت به امرأة أبيه فسخطه وبعثه لحرب أفراسيات وأمره بالمناهضة فراوده أفراسيات في الصلح وامتنع أبوه كيكاوس فخشي منه على نفسه ولحق بأفراسات فزوجه ابنته أم كي خسرو ثم خشيه أفراسيات على نفسه وأشار على ابنته بقتله فقتلته. وترك ابنة أفراسيات حاملاً بخسرو وولدته هنالك. وأعمل كيكاوس الحيلة في إخراجه فلحق به. ويقال: إنه لما بلغه قتل ابنه بعث عساكره مع قواده فوطئوا بلاد الترك وأثخنوا فيها وقتلوا بني أفراسيات فيمن قتلوه. قال الطبري: وإنه غزا بلاد اليمن ولقيه ذو الأذعار في حمير وقحطان فظفر به وأسره وحبسه في بئر وأطبق عليها. وإن رستم سار من سجستان فحارب ذا الأذعار ثم اصطلحا على أن يسلم إليه كيكاوس فأخذه ورجع إلى بابل وكافأه كيكاوس على ذلك بالعتق من عبودية الملك ونصب لجلوسه سريراً من فضة بقوائم من ذهب وتوجه بالذهب وأقطعه سجستان وأباستان وهلك لمائة وخمسين من دولته. وملك بعده فيما قال الطبري والمسعودي والبيهقي وجماعة من المؤرخين حافده كي خسرو ابن ابنه سياوخش. وقال السهيلي: إنه ملك كي خسرو بعد ثلاثة آخرين بينه وبين كيكاوس. فأولهم بعده كي كينة ثم من بعده ابنه أجو ابن كي كينة ثم عمه سباوخش بن كيكاوس. ثم بعد الثلاثة كي خسرو بن سباوخش وهو غريب فإنهم متفقون على أن سباوخش مات في حياة أبيه في حروب الترك. قال الطبري: وقد كان كيكاوس بن كي كينية بن كيقباذ ملك كي خسرو حين جاءه من بلاد الترك مع أمه وأسفاقدين بنت أفراسيات. قالوا ولما ملك بعث العساكر مع أجو إلى أصبهان لحرب أفراسيات ملك الترك للطلب بثأر أبيه سباوخش فزحفوا إلى الترك وكانت بينهم حروب شديدة انهزمت فيها عساكر الفرس فنهض كي خسرو بنفسه إلى بلخ قدم عساكره وكان قاتل سباوخش بن كي خسرو فيمن قتل منهم. وبعث أفراسيات ابنه وكان ساحراً إلى كيخسرو يستميله فعمد إلى القواد بمنعه وقتاله وقاتل فقتل. وزحف أفراسيات فلقيه كي خسرو وكانت بينهما حروب شديدة انجلت عن هزيمة أفراسيات والترك واتبعه كي خسرو فظفر به في أذرربيجان فذبحه وانصرف ظافراً. وكان فيمن حضر معه لهذا الفتح ملك فارس هو كي أوجن بن حينوش بن كيكاوس ابن كينية بن كيقباذ. وهو عند الطبري أبو كيهراسف الذي ملك بعد كيخسرو على ما نذكر. وملك على الترك بعد أفراسيات جوراسف ابن أخيه شراشف. ثم إن كي خسرو ترهب وتزهد في الملك واستخلف مكانه كيهراسف بن كي أوجن الذي قدمناه أنه أبوه عند الطبري ولد كيخسرو فقيل غاب في البرية وقيل مات وذلك لستين سنة من ملكه. ولما ملك كيهراسف اشتدت شوكة الترك فسكن لقتالهم مدينة بلخ على نهر جيحون وأقام في حروبهم عامة أيامه. وكان أصبهبذ ما بين الأهواز والروم من غربي دجلة في أيامه بختنرسي المشتهر ببختنصر وأضاف إليه كهراسف ملكاً عندما سار إليه وأذن له في فتح ما يليه. وسار إلى الشام معه ملوك الفرس وبختنصر ملك الموصل وله سنجاريف ففتح بيت المقدس وكان له الظهور على اليهود واستأصلهم كما مر في أخبارهم. وبختنصر هذا الذي غزا العرب وقاتلهم واستباحهم قال هشام بن محمد: أوحى الله إلى أرميا النبي عليه السلام وكان حافد في زريافيل الذي رجع بني إسرائيل إلى بيت المقدس بأمر بختنصر أن يفرق العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ويستبيحهم بالقتل ويعلمهم بكفرهم بالرسل واتخاذهم الآلهة. وفي كتاب الإسرائيليين: والوحي بذلك كان إلى يرميا بن خلقيا وقد مر ذكره. وإنه أمر أن يستخرج معد بن عدنان من بينهم ويكفله إلى انقضاء أمر الله فيهم انتهى. قال فوثب بختنصر على من وجده ببلاده من العرب للميرة فحبسهم ونادى بالغزو وجاءت منهم طوائف مستسلمين فقبلهم وأنزلهم بالأنبار والحيرة. وقال غير هشام: إن بختنصر غزا العرب بالجزيرة وما بين أيلة والأبلة وملأها عليهم خيلاً ورجالاً ولقيه بنو عدنان فهزمهم إلى حضورا واستلحمهم أجمعين. وإن الله أوحى إلى أرميا ويوحنا أن يستخرجا معد بن عدنان الذي من ولده محمد أختم به النبيين آخر الزمان وهو ابن اثنتي عشرة سنة. وردفه يوحنا على البراق وجاء به إلى حران وربي بين أنبياء بني إسرائيل. ورجع بختنصر إلى بابل وأنزل السبي بالأنبار فقيل أنبار العرب وسميت بهم. خالطهم النبط بعد ذلك. ولما قيد بختنصر خرج معد بن عدنان مع أنبياء بني إسرائيل إلى الحج فحجوا وبقي هنالك مع قومه وتزوج بعانة بنت الحارث بن مضاض الجرهمي فولدت له نزار بن معد. وأما كيهراسف فكان يحارب الترك عامة أيامه وهلك بحروبهم لمائة وعشرين سنة من ملكه وكان محمود السيرة وكانت الملوك شرقاً وغرباً يحملون إليه الأتاوة ويعظمونه. وقيل: إنه ولى ابنه كيستاسب على الملك وانقطع للعبادة. ولما ملك ابنه كيستاسب شغل بقتال الترك عامة أيامه ودفع لحروبهم ابنه أسفنديار فعظم عناؤه فيهم. وظهر في أيامه زرادشت الذي يزعم المجوس نبوته وكان فيما زعم أهل الكتاب من أهل فلسطين خادماً لبعض تلامذة إرميا النبي خالصة عنده فخانه في بعض أموره فدعا الله عليه فبرص ولحق بأذربيجان وشرع بها دين المجوسية. وتوجه إلى كيستاسف فعرض عليه دينه فأعجبه وحمل الناس على الدخول فيه وقتل من امتنع. وعند علماء الفرس أن زرادشت من نسل منوشهر الملك وأن نبياً من بني إسرائيل بعث إلي كيستاسف وهو ببلخ فكان زرادشت وجاماسب العالم وهو من نسل منوشهر أيضاً يكتبان بالفارسية ما يقول ذلك النبي بالعبرانية وكان جاماسب يعرف اللسان العربي ويترجمه لزرادشت وأن ذلك كان لثلاثين سنة من دولة كيهراسف. وقال علماء الفرس: إن زرادشت جاء بكتاب أدعاه وحياً كتب في اثني عشر ألف بعده نقشاً بالذهب وكان كيستاسف وضع ذلك في هيكل باصطخر ووكل به الهرابذة ومنع من تعليمه العامة. قال المسعودي: ويسمى ذلك الكتاب نسناه وهو كتاب الزمزمة ويدور على ستين حرفاً من حروف المعجم. وفسره زرادشت وسمى تفسيره زئذ ثم فسر التفسير ثانياً وسماه زندية. وهذه اللفظة هي التي عربتها العرب زنديق. وأقسام هذا الكتاب عندهم ثلاثة: قسم في أخبار الأمم الماضية وقسم في حدثان المستقبل وقسم في نواميسهم وشرائعهم. مثل أن المشرق قبلة وأن الصلوات في الطلوع والزوال والغروب وأنها ذات سجدات ودعوات. وجدد لهم زرادشت بيوت النيران التي كان منوشهر أخمدها ورتب لهم عيدين: النيروز في الاعتدال الربيعي والمهرجان في الاعتدال الخريفي وأمثال ذلك من نواميسهم. ولما انقرض ملك الفرس الأول أحرق الإسكندر هذه الكتب. ولما جاء أردشير جمع الفرس على قراءة سورة منها تسمى أسبا. قال المسعودي: وأخذ كيستاسف بدين المجوسية من زرادشت لخمس وثلاثين سنة من نبوته فيما زعموا ونصب كيستاسف مكانه جاماسب العالم من أهل أذربيجان وهو أول موبذان كان في الفرس انتهى. قال الطبري: وكان كيستاسب مهادناً أرجاماسب ملك الترك وقد اشترط عليه أن تكون دابة كيستاسف موقفة على بابه بمنزلة دواب الرؤساء عند أبواب الملوك فمنعه من ذلك زرادشت وأشار عليه بفتنة الترك فبعث إلى الدابة والموكل بها وصرفهما إليه. وبلغ الخبر إلى ملك الترك فبعث إليه بالعتاب والتهديد وأن يبعث بزرادشت إليه وإلا فيعزره. وأغلظ كيستاسف في الجواب وآذنه بالحرب وسار بعضهما إلى بعض واقتتلوا وقتل رزين بن كيستاسف وانهزم الترك وأثخن فيهم الفرس. وقتل ساحر الترك قيدوشق ورجع كيستاسف إلى بلخ. ثم سعى عنده بابنه أسفنديار فحبسه وقيده وسار إلى جبل بناحية كرمان وسجستان فانقطع به للعبادة ودراسة الدين. وخلف أباه كهراسف في بلخ شيخاً قد أبطله الكبر وترك خزائنه وأمواله فيها مع امرأته فغزاهم بها خدراسف وقدم أخاه جورا في جموع الترك وكان مرشحاً للملك فأثخن واستباح واستولى على بلخ وقتل كهراسف أباهم وغنموا الأموال وهدموا بيوت النيران وسبوا حمايي بنت كستاسف وأختها. وكان فيما غنموه العلم الأكبر الذي كانوا يسمونه زركش كاويان وهي راية الحداد الذي خرج على الضحاك وقتله. وولى أفريدون فسموا بتلك الراية ورصعوها بالجواهر ووضعوها في ذخائرهم يبسطوها في الحروب العظام. وكان لها ذكر في دولتهم وغنمها المسلمون يوم القادسية. ثم مضت خدراسف ملك الترك في جموعه إلى كستاسف وهو بجبال سجستان متعبداً فتحصن منه وبعث إلى ابنه اسفنديار مع جاماسب العالم وهو في الجبل فقلده الملك ومحاربة الترك فسار إليهم وأبلى في حروبهم فانهزموا وغنم ما معهم واسترد ما كانوا غنموه والراية زركش كاويان في جملته. ثم دخل أسفنديار إلى بلادهم في اتباعهم وفتح مدينتهم عنوة وقتل مهلكهم خدراسف وإخوته واستلحم مقاتلته واستباح أمواله ونساءه ودخل مدينة أفراسيات ودوخ البلاد وانتهى إلى بلاد صول والتبت وولى على كل ناحية من الترك وفرض الخراج وانصرف إلى بلخ وقد غص به أبوه. قال هشام بن محمد: فبعثه إلى رستم ملك سجستان الذي كان يستنفره كيقباذ جدهم من ملوك اليمن وأقطعه تلك الممالك جزاء لفعله. فسار إليه أسفنديار وقاتله وهلك كستاسف لمائة وعشرين سنة. ويقال أنه الذي رد بني إسرائيل إلى بلادهم وأن أمه كانت من بني طالوت. ويقال أن ذلك هو حافد بهمن وقيل أن الذي ردهم هو كورش من ملوك بابل أيام بهمن بأمره. ثم ملك بعد كستاسف حافده كي بهمن ويقال أردشير بهمن. قال الطبري: ويعرف بالطويل الباع لاستيلائه على الممالك والأقاليم. قال هشام بن محمد: ولما ملك سار إلى سجستان طالباً بثأر أبيه فكانت بينهما حروب فقتل فيها رستم بن دستان وأبوه وإخوته وأبناؤه. ثم غزا الروم وفرض عليهم الأتاوة وكان من أعظم ملوك الفرس وبنى مدناً بالسواد وكانت أمه من نسل طالوت لأربعة آباء من لدنه وكانت له أم ولد من سبي بني إسرائيل اسمها راسف وهي أخت زريافيل الذي ملكه على اليهود ببيت المقدس وجعل له رياسة الجالوت وملك الشام وملك ثمانين سنة. فملكت حماي ملكها الفرس لجمالها ولحسن أدبها وكمال معرفتها وفروسيتها وكانت بلغت شهرازاد. وقيل إنما ملكوها لأنها لما حملت من أبيها بدار الأكبر سألته أن يعقد له التاج في بطنها ففعل ذلك. وكان ابنه ساسان مرشحاً للملك فغضب ولحق بجبال إصطخر زاهداً يتولى ماشيته بنفسه فلما مات أبوه فقدوا ذكراً من أولاده فولوا حماي هذه وكانت مظفرة على الأعداء. ولما بلغ ابنها دارا الأشد سلمت إليه الملك وسارت إلى فارس واختطت مدينة ذارا بجرد. وردت الغزو إلى بلاد الروم وأعطيت الظفر فكثر سبيم عندها وملكت ثلاثين سنة. ولما ملك ابنها دارا نزل بابل وضبط ملكه وغزا الملوك وأدوا الخراج إليه. ويقال: إنه الذي رتب دواب البرد. وكان معجباً بابنه دارا حتى سماه باسمه وولاه عهده وهلك لاثنتي عشرة سنة وملك بعده ابنه دارا بهمن. وكان له مرب اسمه بيدلي قتله أبوه دارا بسعاية وزيره أرشيش محمود وندم على قتله. فلما ولي دارا جعل على كتابته أخا بيدلي ثم استوزره رعياً لمرباه مع أخيه. فاستفسده على أرشيش وزيره ووزير أبيه وعلى سائر أهل الدولة استوحشوا منه. وقال هشام بن محمد: وملك دارا بن دارا أربع عشرة سنة فأساء السيرة وقتل الرؤساء وأهلك الرعية. وغزاه الإسكندر بن فيلبس ملك بني يونان. وقد كانوا يسمونه. . . . فوثب عليه بعضهم وقتله ولحق بالإسكندر وتقرب بذلك إليه فقتله الإسكندر وقال: هذا جزاء من اجرأ على سلطانه وتزوج بنته روشنك كما نذكره في أخبار الإسكندر. وقال الطبري: قال بعض أهل العلم بأخبار الماضين كان لدارا من الولد يوم قتل أربع بنين: أسسك وبنودار وأرداشير وبنت اسمها روشنك. وهي التي تزوجها الإسكندر. قال وملك أربع عشرة سنة. هذه هي الأخبار المشهورة للفرس الأولى إلى ملكهم الأخير دارا. قال هروشيوش مؤرخ الروم في مبدأ دولة الفرس هؤلاء إنما كانت بعد دخول بني إسرائيل إلى الشام وعلى عهد عثنيئال بن قناز بن يوفنا وهو ابن أخي كالب بن يوفنا الذي دبر أمر بني إسرائيل بعد يوشع. قال: وفي ذلك الزمان خرج أبو الفرس من أرض الروم الغريقيين من بلاد آسيا واسمه بالعربية فارس وباليونانية يرشور وبالفارسية يرشيرش. فنزل بأهل بيته في ناحية وتغلب على أهل ذلك الموضع فنسبت إليه تلك الأمة واشتق اسمها من اسمه وما زال أمرهم ينمو إلى دولة كيرش الذي يقال فيه إنه كسرى الأول فغلب على القضاعيين ثم زحف إلى مدينة بابل وعرض له دونها النهر الثاني بعد الفرات وهو نهر دجلة فاحتفر له الجداول وقسمه فيها ثم زحف إلى المدينة وتغلب عليها وهدمها. ثم حارب السريانيين فهلك في حروبهم يبلاديشت وولي ابنه قنبيشاش بن كيرش فثأر منهم بأبيه وتخطاهم إلى أرض مصر فهدم أوثانهم ونقض شرائعهم فقتله السحرة وذلك لألف سنة من ابتداء دولتهم فولي أمر الفرس دارا وقتل السحرة بمصر ورد عمالة السريانيين إليهم ورجع بني إسرائيل إلى الشام في الثانية من أيامه وزحف إلى بلاد الروم الغريقيين طالباً ثأر كيرش ولم يزل في حروبهم إلى أن هلك لثلاث وعشرين من دولته ثار عليه أحد قواده فقتله وولى بعده ابنه أرتشخار أربعين سنة وولي بعده ابنه دارا أنوطو سبع عشرة سنة. ثم ولي بعده ابنه أرتشخار بعد أن نازعه كيرش بن نوطو فقتله أرتشخار واستولى على الأمر وسالم الروم الغريقيين. ثم انتقضوا عليه واستعانوا بأهل مصر فطالت الحرب ثم اصطلحوا ووقعت الهدنة. وهلك أرتشخار وذلك على عهد الإسكندر ملك اليونانيين وهو خال الإسكندر الأعظم وهلك لعهده فولي أبو الإسكندر الأعظم ببلد مقدونية وهو ملك فيلبس. وهلك أرتشخار أوقش لست وعشرين من دولته وولي من بعده ابنه شخشار أربع سنين وفي أيامه ولي على مقدونية واليونانيين وسائر الروم الغريقيين الإسكندر بن فيلبس ثم ولي بعده شخاردارا وعلى عهده تغلب الإسكندر على يهود بيت المقدس وعلى جميع الروم الغريقيين. ثم حدثت الفتنة بينه وبين دارا وتزاحفوا مرات انهزم في محلها. وكان للإسكندر الظهور عليه ومضى إلى الشام ومصر فملكهما وبنى الإسكندرية وانصرف فلقيه دارا أنطوس فهزمه وغلب على ممالك الفرس واستولى على مدينتهم خرج في اتباع دارا فوجده في بعض طريقه جريحاً ولم يلبث أن هلك من تلك الجراحة فأظهر الإسكندر الحزن عليه وأمر بدفنه في مقابر الملوك وذلك لألف سنة. ونحو من ثمانين سنة منذ ابتداء دولتهم كما قلناه انتهى كلام هروشيوش. وقال السهيلي: وجده مثخناً في المعركة فوضع رأسه على فخذه وقال: يا سيد الناس لم أرد قتلك ولا رضيته فهل من حاجة فقال تتزوج ابنتي وتقتل قاتلي ففعل الإسكندر ذلك وانقرض أمر هذه الطبقة الثانية والبقاء لله وحده سبحانه وتعالى. قال ابن العميد: في ترتيب هؤلاء الملوك الفرس من بعد كيرش إلى دارا آخرهم يقال: إنه ملك من بعد كورش ابنه قمبوسيوس ثمانياً وقيل تسعاً وقيل اثنتين وعشرين سنة. وقيل أنه غزا مصر واستولى عليها وتسمى بختنصر الثاني وملك بعده أريوش بن كستاسب خمساً وعشرين سنة وهو أول الملوك الأربعة الذين عناهم دايال بقوله ثلاث ملوك يقومون بفارس والرابع يكثر ماله ويعظم على من قبله. فأولهم دارا بن كستاسف وهو مذكور في المجسطي والثاني دارا ابن الأمة والثالث الذي قتله الإسكندر وقيل بل هو الرابع الذي عناه دانيال. لأنه جعل أول الأربعة داريوش وأخشورش العادي. وسركورش ورديفه في الملك ثم عد الثلاثة بعده. وفي الثانية من ملكه داريوش بن كيستاسف لبابل تمت سبعون سنة لخراب القدس وفي الثالثة كمل بناء البيت. ثم ملك بعد داريوش بن كيستاسف هذا أسمرديوس المجوسي سنة واحدة وقيل ثلاث عشرة سنة وسمي مجوسياً لظهور زرادشت بدين المجوسية في أيامه. ثم ملك أخشويرش بن داريوش عشرين سنة وكان وزيره هامان العمليقي وقد مرت قصته مع الجارية من بني إسرائيل. ثم ملك من بعده ابنه أرطحشاشت بن أخشويرش ويلقب بطويل اليدين وكانت أمه من اليهود بنت أخت مردخاي وكانت حظية عند أبيه وعلى يدها تخلص اليهود من سعاية وزيره فيهم عنده وكان العزيز في خدمته. ولعشرين من دولته أمر بهدم أسوار القدس ثم رغب إليه العزيز في تجديدها فبناها في اثنتي عشرة سنة. قال ابن العميد عن المجسطي: إن العزير هذا ويسمى عزرا هو الرابع عشر من الكهنونية من لدن هارون عليه السلام وأنه كتب لبني إسرائيل التوراة وكتب الأنبياء من حفظه بعد عودهم من الجلاء الأول لأن بختنصر كان أحرقها. وقيل أن الذي كتب لهم ذلك هو يشوع بن أبو صادوق. ثم ملك من بعده أرطحشاشت الثاني خمس سنين وقيل إحدى وثلاثين وقيل ست عشرة وقيل شهرست. ورجح ابن العميد الخمس لموافقتها سياقة التواريخ. وكان لعهده أبقراط وسقراط في مدينة أشياش ولعهده كتب النواميس الاثني عشر. ثم ملك بعده صغريتوس ثلاث سنين ثم ملك من بعده دارا بن الأمة ويلقب الناكيش وقيل داريوس ألياريوس ملك سبع عشرة سنة وكان على عهده من حكماء يونان سقراط وفيثاغورس وأقليوس. وفي الخامسة من دولته انتقض أهل مصر على يونان واستبدوا بملكهم بعد مائة وأربع وعشرين سنة. كانوا فيها في ملكتهم. ثم ملك من بعده أرطحشاشت ابن أخي كورش داريوش إحدى عشرة سنة وقيل اثنتين وعشرين سنة وقيل أربعين وقيل إحدى وعشرين. وكان لعهده ألياقيم الكوهن الذي داهن الكهنونية ستاً وأربعين سنة. ثم ملك من بعده أرطحشاشت وتسمى أخوش ويقال أوغش عشرين سنة وقيل خمساً وعشرين وقيل تسعاً وعشرين. وزحف إلى مصر فملكها وهرب منها فرعون ساناق إلى مقدونية واسمه قصطرا. وبنى أرطحشاشت قصر الشمع وجعل فيه هيكلاً وهو الذي حاصره عمرو بن العاص وملكه. ثم ملك من بعده ابنه أرشيش بن أرطحشاشت وقيل اسمه فارس أربع سنين وقيل إحدى عشرة. وكان لعهده من حكماء يونان بقراط وأفلاطون ودمقراطس ولعهده قتل بقراط على القول بالتناسخ وقيل لم يكن مذهبه وإنما ألزمه به بعض تلامذته ثم شهدوا عليه. وقتل مسموماً قتله القضاة بمدينة أثينا. ثم ملك من بعده ابنه دارا بن أرشيش عشرين سنة وقيل ست عشرة. وقال ابن العميد عن أبي الراهب: إنه دارا الرابع الذي أشار إليه دانيال كما مر. وكان هذا الملك عظيماً فيهم وتغلب على يونان وألزمهم الوظائف التي كانت عليهم لآبائه وملكهم يومئذ الإسكندر بن فيلبس وكان عمره ست عشرة سنة فطمع فيه دارا وطلب الضريبة فمنع وأجاب بالأغلاظ وزحف إليه فقاتله وقتله واستولى الإسكندر على ملك فارس وما وراءه. انتهى كلام ابن العميد. |
الساعة الآن 05:14 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |