![]() |
أخبار جلال الدين بالهند كمان جماعة من أصحاب جلال الدين وأهل عسكره
لما عبروا إليهم حصلوا عند قباجة ملك الهند منهم بنت أمين الملك خلصت إلى مدينة أرجاء من عمله ومنهم شمس الملك وزير جلال الدين حياة أبيه ومنهم قزل خان بن أمين الملك خلص إلى مدينة كلور فقتله عاملها وقتل قباجة شمس الملك الوزير لخبر جلال الدين بأموره وبعث أمين الملك.ولحق بجلال الدين جماعة من أمراء أخيه غياث الدين فقوي بهم وحاصر مدينة كلور وافتتحها وافتتح مدينة ترنوخ كذلك فجمع قباجة للقائه وسار إليه جلال الدين فخام عن اللقاء وهرب وترك معسكره فغنمه جلال الدين بما فيه وسار إلى لهاوون وفيها ابن قباجة ممتنعاً عليه فصالحه على مال يحمله ورحل إلى تشتشان وبها فخر الدين السلاوي نائب قباجة فتلقاه بالطاعة.ثم سار إلى أوجا وحاصرها فصالحوه على المال.ثم سار إلى جانس وهي لشمس الدين اليتمشي من ملوك الهند ومن موالي شهاب الدين الغوري فأطاعه أهلها وأقام بها وزحف إليه ايتش في ثلاثين ألف فارس ومائة ألف راجل وثلاثمائة فيل.وزحف جلال الدين في عساكره وفي مقدمته جرجان بهلوان أزبك واختلفت المقدمتان فلم يمكن اللقاء.وبعث ايتش في الصلح فجنح إليه جلال الدين ثم اجتمع قباجة وايتش وسائر ملوك الهند فخام عن لقائهم ورجع لطلب العراق واستخلف جهان بهلوان الملك على ما ملك من الهند وعبر النهر إلى غزنة فولى عليها وعلى الغور الأمير وفاملك واسمه الحسن فزلف وسار إلى العراق وذلك سنة إحدى وعشرين بعد مقدمه لها بسنتين. أحوال العراق وخراسان في إيالة غياث الدين كان غياث الدين بعد مسير جلال الدين إلى الهند اجتمع إليه شراد العساكر بكرمان وسار بهم إلى العراق فملك خراسان ومازندران كما تقدم وأقام منهمكاً في لذاته.واستبد الأمراء بالنواحي فاستولى قائم الدين على نيسابور وتغلب يقز بن أيلجي بهلوان على شروان وتملك ينال خطا بهاتر ونظام اسفراين ونصرة الدين بن محمد مستبد بنسا كما مر واستولى تاج الدين عمر بن مسعود التركماني على أبيورد وغياث الدين مع ذلك منهمك في لذاته.وسارت إليه عساكر التتر فخرج لهم عن العراق إلى بلاد الجبل واكتسحوا سائر جهاته.واشتط عليه الجند وزادهم في الإقطاع والإحسان فلم يشبعهم وأظهروا الفساد وعاثوا في الرعايا.وتحكمت أم السلطان غياث الدين في الدولة لإغفاله أمرها واقتفت طريقة تركمان خاتون أم السلطان خوارزم شاه وتلقبت بلقبها خداوندجهان إلى أن جاء السلطان جلال الدين فغلب عليه كما قلناه. وصول جلال الدين من الهند إلى كرمان وأخباره بفارس والعراق مع أخيه غياث الدين ولما فارق جلال الدين الهند كما قلناه سنة إحدى وعشرين وسار إلى المفازة وخلص منها إلى كرمان بعد أن لقي بها من المتاعب والمشاق ما لا يعبر عنه وخرج معه أربعة آلاف راكب على الحمير والبقر ووجد بكرمان براق الحاجب نائب أخيه غياث الدين.وكان من خبر براق هذا أنه كان حاجبا لكوخان ملك الخطا وسفر عنه إلى خوارزم شاه فأقام عنده.ثم ظفر خوارزم شاه بالخطا وولاه حجابته.ثم صار إلى خدمة ابنه غياث الدين ترشه بمكران فأكرمه.ولما سار جلال الدين إلى القند ورجع عنه التتر سار غياث الدين لطلب العراق فاستناب براق في كرمان فلما جاء جلال الدين من الهند اتهمه وهم بالقبض عليه فنهاه عن ذلك وزيره شرف الملك فخر الدين علي بن أبي القاسم الجندي خواجها جهان أن يستوحش الناس لذلك.ثم سار جلال الدين إلى شيراز وأطاعه صاحبها برد الأتابك وأهدى له وكان أتابك فارس سعد بن زنكي قد استوحش من غياث الدين فاصطلحه جلال الدين وأصهر إليه في ابنته.ثم سار إلى أصفهان فأطاعه القاضي ركن الدين مسعود بن صاعد وبلغ خبره إلى أخيه غياث الدين وهو بالري فجمع لحربه وبعث جلال الدين يستعطفه.وأهدى له سلب طولي خان بن جنكزخان الذي قتل في حرب بزوان كما مر وفرسه وسيفه ودس إلى الأمراء الذين معه بالاستمالة فمالوا إليه ووعدوه بالمظاهرة ونمي الخبر إلى غياث الدين فقبض على بعضهم ولحق الآخرون بجلال الدين فجاءوا به إلى المخيم فمال إليه أصحاب غياث الدين وعساكره واستولى على مخيمه وذخائره وأمه.ولحق غياث الدين بقلعة سلوقان وعاتب جلال الدين أمه في فراره فاستدعته وأصلحت بينهما ووقف غياث الدين موقف الخدمة لأخيه السلطان جلال الدين وجاء المتغلبون بخراسان والعراق وأذعنوا إلى الطاعة وكانوا من قبل مستبدين على غياث الدين فاختبر السلطان طاعتهم وعمل فيها على شاكلتها والله أعلم. |
استيلاء ابن آبنايخ على نسا
كان نصرة الدين بن محمد قد استولى على نسا بعد ابن عمه اختيار الدين كما مر واستناب في أموره محمد بن أحمد النسائي المنشئ صاحب التاريخ المعتمد عليه في نقل أخبار خوارزم شاه وبنيه فأقام فيها تسع عشرة سنة مستبداً على غياث الدين ثم انتقض عليه وقطع الخطبة له فسرح إليه غياث الدين العساكر مع طوطي بن آبنايخ وأنجده بأرسلان وكاتب المتغلبين بمساعدته فراجع نصرة الدين محمد ين حمزة نفسه وبعث نائبه محمد بن أحمد المنشئ إلى غياث الدين بمال صالحه عليه فبلغه الخبر في طريقه بوصول جلال الدين واستيلائه على غياث الدين فأقام بأصفهان ينتظر صلاح السابلة وزوال الثلج.ثم سار إلى همذان فوجد السلطان غائباً في غزو الأتابك بقطابستي.وكان من خبره أنه صهر إلى غياث الدين على أخته كما قدمنا فهرب بعد خلعه إلى أذربيجان واتفق هو والأتابك سعد وسار إليهما جلال الدين فخالفه الأمير أيغان طائسي إلى همذان وسار إلى جلال الدين وكبسه هنالك فأخذه ثم أمنه وعاد إلى مخيمه ولقيه وافد نصرة الدين على بلاد نسا وما يتاخمها وبعث إلى ابن آبنايخ بالإفراج عن نسا.ثم بلغ الخبر مسير السلطان جلال الدين إلى خوزستان ونواحي بغداد ولما استولى السلطان جلال الدين على أخيه غياث الدين واستقامت أموره سار إلى خوزستان شاتياً وحاصر قاعدتها وبها مظفر الدين وجه السبع مولى الخليفة الناصر.وانتهت سراياه في الجهات إلى بادرايا وإلى البصرة فأوقع بهم تلكين نائب البصرة وجاءت عساكر الناصر مع مولاه جلال الدين قشتمر وخاموا عن اللقاء وأوفد ضياء الملك علاء الدين محمد بن مودود السوي العارض على الخليفة ببغداد عاتباً وكان في مقدمته جهان بهلوان فلقي في طريقه جمعاً من العرب وعساكر الخليفة فرجع وأوقع بهم ورجعوا إلى بغداد.وجيء بأسرى منهم إلى السلطان فأطلقهم واستعد أهل بغداد للحصار وسار السلطان إلى بعقوبا على سبع فراسخ من بغداد.ثم إلى دقوقا فملكها عنوة وخربها وقاتلت بعوثه عسكر تكريت وترددت الرسل بينه وبين مظفر الدين صاحب إربل حتى اصطلحوا واضطربت البلد بسبب ذلك وأفسد العرب السابلة.وأقام ضياء الملك ببغداد إلى أن ملك السلطان مراغة والله تعالى أعلم.أولية الوزير شرف الدين هذا الوزير هو فخر الدين علي بن القاسم خواجة جهان ويلقب شرف الملك أصله من أصفهان وكان أول أمره ينوب عن صاحب الديوان بها وكان نجيب الدين الشهرستاني وزير السلطان وابنه بهاء الملك وزير الجند وفخر الدين هذا يخدمه بها.ثم تمكن من منصب الإفتاء وطمح إلي مغالبة نجيب الدين على الوزارة وسعى عند السلطان بأنه تناول من جبايتها مائتي ألف دينار فسامحه بها السلطان ولم يعرض له.ثم سعى بفخر الدين ثانية فولي وزارة الجند وأقام نجها أربع سنين حتى عبر السلطان إلى بخارى فكثرت به الشكايات فأمر بالقبض عليه فاختفى ولحق بالطالقان إلى أن اتصل بجلال الدين حين كان بغزنة بعد مهلك ابنه فرتبه في الحجابة إلى أن أجاز بحر السند وكان وزيره شهاب الدين الهروي فقتله قباجة ملك الهند كما مر واستوزر جلال الدين مكانه فخر الدين هذا ولقبه شرف الملك ورفع رتبته على الوزراء وموقفه وسائر آدابه وأحواله. عودة التتر إلي الري وهمذان وبلاد الجبل وبعد رجوع التتر المغربة من أذربيجان وبلاد قفجاق وسروان كما قدمناه وخراسان يومئذ فوضى ليس بها ولاة إلا متغلبون من بعض أهلها بعد الخراب الأول والنهب فعمروها فبعث جنكز خان عسكراً آخراً من التتر إليها فنهبوها ثانياً وخربوها وفعلوا في ساوة وقاشان وقم مثل ذلك ولم يكن التتر أولاً أصابوا منها.ثم ساروا إلى همذان فأجفل أهلها وأوسعوها نهباً وتخريباً وساروا في اتباع أهلها إلى أذربيجان وكبسوهم في حدودها فأجفلوا وبعضهم قصد تبريز فسار التتر في اتباعهم وراسلوا صاحبها أزبك ابن البهلوان في إسلام من عنده فبعث بهم بعد أن قتل جماعة منهم وبعث برؤوسهم وصانعهم بما أرضاهم فرجعوا عن بلاده والله تعالى أعلم. وقائع أذربيجان قبل مسير جلال الدين إليها لما رجع التتر من بلاد قفجاق والروس وكانت طائفة من قفجاق لما افترقوا وفروا أمام التتر ساروا إلى دربند شروان واسم ملكه يومئذ رشيد وسألوه المقام في بلاده وأعطوه الرهن على الطاعه فلم يجبهم ريبة بهم فسألوه الميرة فأذن لهم فيها فكانوا يأتون إليها زرافات وتنصح له بعضهم بأنهم يرومون الغدر به وطلب منه الإنجاد بعسكره وسار في أثرهم فأوقع بهم وهم باخلون بالطاعة فرجع ذلك القفجاقي بالعسكر.ثم بلغة أنهم رحلوا من مواضعهم فاتبعهم ثانياً بالعساكر حتى أوقع بهم ورجع إلى رشيد ومعه جماعة منهم مستأمنين وقد اختفى فيهم كبير من مقدميهم وتلاحق به جماعة منهم فاعتزموا على الوثوب فهرب خائفاً ولحق ببلاد شروان واستولت طائفة القفجاق على القلعة وعلى مخلف رشيد فيها من المال والسلاح واستدعوا أصحابهم فلحقوا بهم واعتزموا وقصدوا قلعة الكرج فحاصروها.وخالفهم رشيد إلى القلعة فملكها وقتل من وجد بها منهم فعادوا من حصار تلك المدينة إلى دربند وامتنعت عليهم القلعة فرجعوا إلى تلك المدينة فاكتسحوا نواحيها وساروا إلى كنجة من بلاد أران وفيها مولى لأزبك صاحب أذربيان فراسلوه بطاعة أزبك فلم يجبهم إليها وعلا عليهم ما بدر منهم في الغدر ونهب البلاد واعتذروا بأنهم إنما غدروا شروان لأنه منعهم الجواز إلى صاحب أذربيجان.وعرضوا عليه الرهن فجاءهم بنفسه ولقوه في عمد قليل فعدا عن محال التهمة فبعث بطاعتهم إلى سلطانه وبعث بذلك إلى أزبك وجاء بهم إلى كنجة فأفاض فيهم الخلع والأموال وأصهر إليهم وأنزلهم بجبل كيكلون.وجمع لهم الكرج فآواهم إلى كنجة.ثم سار إليهم أمير من أمراء قفجاق ونال منهم فرجعوا إلى جبل كيكون.وسار القفجاق الذين كبسوهم إلى بلاد الكرج فاكتسحوها وعادوا فاتبعهم الكرج واستنقذوا الغنائم منهم وقتلوا ونهبوا فرحل القفجاق إلى بردعة وبعثوا إلى أمير كنجة في المدد على الكرج فلم يجبهم فطلبوا رهنهم فلم يعطهم فمدوا أيديهم في المسلمين واسترهنوا أضعاف رهنهم.وثار بهم المسلمون من كل جانب فلحقوا بشروان وتحفظهم المسلمون والكرج وغيرهم فأفنوهم وبيع سبيهم وأسراهم بأبخس ثمن وذلك كله سنة تسع عشرة وكانت مدينة بيلقان من بلاد أران فأخربها التتر كما قدمناه وساروا عنها إلى بلاد قفجاق فعاد إليها أهلها وعمروها وسار الكرج في رمضان من هذه السنة إليها فملكوها وقتلوا أهلها وخربوها واستفحل الكرج.ثم كانت بينهم وبين صاحب خلاط غازي بن العادل بن أيوب واقعة هزمهم فيها وأثخن فيهم كما يأتي في دولة بني أيوب.ثم انتقض على شروان شاه ابنه وملك البلاد من يده فسار إلى الكرج واستصرخ بهم وساروا معه فبرز ابنه إليهم فهزمهم وأثخن فيهم فتشاءم الكرج بشروان شاه فطردوه عن بلادهم.واستقر ابنه في الملك واغتبط الناس بولايته وذلك سنة اثنتين وعشرين.ثم سار الكرج من تفليس إلى أذربيجان وأتوها من الأوعار والمضائق يظنون صعوبتها على المسلمين فسار المسلمون وولجوا المضائق إليهم فركب بعضهم بعضاً منهزمين ونال المسلمون منهم أعظم النيل.وبينما هم يتجهزون لأخذهم الثأر من المسلمين وصلهم الخبر بوصول جلال الدين إلى مراغة فرجعوا إلى مراسلة أزبك صاحب أذربيجان في الاتفاق على مدافعته وعاجلهم جلال الدين عن ذلك كما نذكره إن شاء الله تعالى. |
استيلاء جلال الدين على أذربيجان وغزو الكرج
قد تقدم لنا مسير جلال الدين في نواحي بغداد وما ملك منها وما وقع بينه وبين صاحب إربل من الموافقة والصلح.ولما فرغ من ذلك سار إلى أذربيجان سنة اثنتين وعشرين وقصد مراغة أولاً فملكها وأقام بها وأخذ في عمارتها.وكان بغان طابش خال أخيه غياث الدين مقيماً بأذربيجان كما مر فجمع عساكره ونهب البلد وسار إلى ساحل أران فشتى هنالك.ولما عاث جلال الدين في نواحي بغداد كما قدمناه بعث الخليفة الناصر إلى بغان طابس وأغراه بجلال الدين وأمره بقصد همذان وأقطعه إياها وما يفتحه من البلاد فعاجله جلال الدين وصبحه بنواحي همذان على غرة وعاين الجند فسقط في يده وأرسل زوجته أخت السلطان جلال الدين فاستأمنت له فآمنه وجرد العساكر عنه.وعاد إلى مراغة.وكان أزبك بن البهلوان قد فارق تبريز كرسي ملكه إلى كنجة فأرسل جلال الدين إلى أهل تبريز يأمرهم بميرة عسكره فأجابوا إلى ذلك وترددت عساكره إليها فتجمع الناس وشكا أهل تبريز إلى جلال الدين ذلك فأرسل إليهم شحنة يقيم عندهم للنصفة بين الناس.وكانت زوجة أزبك بنت السلطان طغرلبك بن أرسلان وقد تقدم ذكرها في أخبار سلفها مقيمة بتبريز حاكمة في دولة زوجها أزبك.ثم ضجر أهل تبريز من الشحنة فسار جلال الدين إليها وحاصرها خمساً واشتد القتال وعابهم بما كان من إسلام أصحابه إلى التتر فاعتذروا بأن الأمر في ذلك لغيرهم والذنب لهم.ثم استأمنوا فأمنهم وأمر ببنت السلطان طغرل وأبقى لها مدينة طغرل إلى خوي كما كانت وجمع ما كان لها من المال والإقطاع وملك تبريز منتصف رجب سنة اثنتين وعشرين وبعث بنت السلطان طغرل إلى خوي مع خادميه فليح وهلال.وولى على تبريز ربيبها نظام الدين ابن أخي شمس الدين الطغرائي وكان هو الذي داخله في فتحها وأفاض العدل في أهلها وأوصلهم إليها وبالغ في الإحسان إليهم.ثم بلغه آثار الكرج في أذربيجان وأران وأرمينية ودربنذ شروان وما فعلوه بالمسلمين فاعتزم على غزوهم.وبلغه اجتماعهم برون فسار إليهم وعلى مقدمته جهان بهلوان الكنجي فلما تراءى الجمعان وكان الكرج على جبل لم يستهلوه فتسمنت إليهم العساكر الأوعار فانهزموا وقتل منهم أربعة آلاف ويزيدون وأسر بعض ملوكهم واعتصم ملك آخر منهم ببعض قلاعهم فجهز جلال الدين عليها عسكراً لحصارها وبعث عساكره في البلاد فعاثوا فيها واستباحوها. فتح السلطان مدينة كنجة ونكاحه زوجة أزبك لما فرغ السلطان من أمر الكرج واستولى على بلادهم وكان قد ترك وزيره شرف الدين بتبريز للنظر في المصالح وولى عليها نظام الملك الطغرائي فقصد الوزير الوشاية به وكتب إلى السلطان بأنه وعمه شمس الدين داخلوا أهل البلد في الانتقاض وإعادة أزبك لشغل السلطان بالكرج فلما بلغ ذلك إلى السلطان أسره حتى فرغ من أمر الكرج.وترك أخاه غياث الدين نائباً على ما ملك منها وأمره بتدويخ بلادهم وتخريبها وعاد إلى تبرير فقبض على نظام الملك الطغرائي وأصحابه فقتلهم وصادر شمس الدين على مائة ألف وحبسه بمراغة ففر منها إلى أزبك.ثم لحق ببغداد وحج سنة خمس وعشرين.وبلغ السلطان تنصله في المطاف ودعاؤه على نفسه إن كان فعل شيئاً من ذلك فأعاده إلى تبريز ورد عليه أملاكه.ثم بعثت إليه زوجة أزبك في الخطبة وأن أزبك حنث فيها بالطلاق فحكم قاضي تبريز عز الدين القزويني بحلها للنكاح فتزوجها السلطان جلال الدين وسار إليها فدخل في خوي ومات أزبك لما لحقه من الغم بذلك.ثم عاد السلطان إلى تبريز فأقام بها مدة ثم بعث العساكر مع أرخان إلى كنجة من أعمال نقجوان وكان بها أزبك ففارقها وترك بها جلال الدين القمي نائباً فملكها عليه أرخان واستولى على أعمالها مثل وشمكور وبردعة وشنة وانطلقت أيدي عساكره في النهب فشكا أزبك إلى جلال الدين فكتب إلى أرخان بالمنع من ذلك وكان مع أرخان نائب الوزير إلى السلطان فعزل أرخان وذهب مغاضباً إلى أن قتلته الإسماعيلية.وفي أخر رمضان من سنة اثنتين وعشرين توفي الخليفة الناصر لسبع وأربعين سنة من خلافته واستخلف بعده ابنه الظاهر أبو نصر محمد بعهده إليه بذلك كما مر في أخبار الخلفاء. استيلاء جلال الدين على تفليس من الكرج بعد هزيمته إياهم كان هؤلاء الكرج اخوة الأرمن وقد تقدم نسبة الأرمن إلى إبراهيم عليه السلام وكان لهم استطالة بعد الدولة السلجوقية وكانوا من أهل دين النصرانية فكان صاحب أرمن الروم يخشاهم ويدين لهم بعض الشيء حتى إن ملك الكرج كان يخلع عليه فيلبس خلعته.وكان شروان صاحب الدربند يخشاهم وكذلك ملكوا مدينة أرجيش بلاد أرمينية ومدينة فارس وغيرها وحاصروا مدينة خلاط قاعدتها فأسر بها مقدمهم أيواي وفادوه بالرحيل عنهم بعد أن اشترطوا عليه متابعته لهم في قلعة خلاط فبنوها وكذلك هزموا ركن الدولة فليحا أرسلان صاحب بلاد الروم لما زحف لأخيه طغرل شاه بارزن الروم استنجدهم طغرل فأنجدوه وهزموا ركن الدين أعظم ما كان ملكاً واستفحالاً.وكانوا يجوسون خلال أذربيجان ويعيشون في نواحيها.وكان ثغر تفليس من أعظم الثغور طرزاً على من يجاور منذ عهد الفرس وملكه الكرج سنة خمسة عشرة وخمسمائة أيام محمود بن محمود بن ملك شاه ودولة السلجوقية يومئذ أفحل ما كانت وأوسع إيالة وأعمالا فلم يطق ارتجاعه من أيديهم واستولى ايلدكز بعد ذلك وابنه البهلوان على بلاد الجبل والري وأذربيجان وأران وأرمينية وخلاط وجاورهم بكرسيه.ومع ذلك لم يطق ارتجاعه منهم.فلما جاء السلطان جلال الدين إلى أذربيجان وملكها زحف إلى الكرج وهزمهم سنة اثنتين وعشرين.وعاد إلى تبريز في مهمة كما قدمناه.فلما فرغ من مهمة ذلك وكان قد ترك العساكر ببلاد الكرج مع أخيه غياث الدين ووزيره شرف الدين فأغذ السير إليه غازياً من تبريز.وقد جمع الكرج واحتشدوا وأمدهم القفجاق وللكز وساروا للقاء.فلما التقى الفريقان انهزم الكرج وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب ولم يبقوا على أحد حتى استلحموهم وأفنوهم.ثم قصد جلال الدين تفليس في ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين ونزل قريباً منها وركب يوماً لاستكشاف أحوالها وترتيب مقاعد القتال عليها وأكمن الكمائن حولها.واطلع عليهم في خف من العسكر فطمعوا فيه وخرجوا فاستطرد لهم حتى تورطوا.والتفت عليهم الكمائن فهربوا إلى البلد والقوم في اتباعهم.ونادى المسلمون من داخلها بشعار الإسلام وهتفوا باسم جلال الدين فألقى الكرج بأيديهم وملك المسلمون البلد وقتلوا كل من فيها إلا من اعتصم بالإسلام واستباحوا البلد وامتلأت أيديهم بالغنائم والأسرى والسبايا.وكان ذلك من أعظم الفتوحات.هذه سياقة ابن الأثير في فتح تفليس.وقال النسائي الكاتب إن السلطان جلال الدين سار نحو الكرج فلما وصل نهر أرس مرض واشتد الثلج ومر بتفليس فبرز أهلها للقتال فهزمهم العساكر وأعجلوهم عن دخولها فملكوها واستباحوها وقتلوا من كان فيها من الكرج والأرمن واعتصم أهلها بالقلعة حتى صالحوا على أموال عظيمة فحملوها وتركوهم.انتقض صاحب كرمان ومسير السلطان إليه ولما اشتغل السلطان جلال الدين بشأن الكرج وتفليس طمع براق الحاجب في الانتقاض بكرمان والاستيلاء على البلاد وقد كنا قدمنا خبره وأن غياث الدين استخلف على كرمان عند مسيره إلى العراق وأن جلال الدين لما رجع من الهند ارتاب به وهم بالقبض عليه ثم تركه وأقره على كرمان.فلما انتقض الآن وبلغ خبره إلى السلطان وهو معتزم على قصد خلاط فتركها وأغذ السير إليه واستصحب أخاه غياث الدين ووعد بكرمان وترك مخلفة بكيكلون وترك وزيره شرف الدين بتفليس وأمره باكتساح بلاد الكرج.وقدم إلى صاحب كرمان بالخلع والمقاربة والوعد فارتاب بذلك ولم يطمئن.قصد بعض قلاعه فاعتصم بها ورجع الرسول إلى جلال الدين فلما علم أن المكيدة لم تتم عليه أقام بأصفهان وبعث إليه وأقره على ولايته وعاد.وكان الوزير شرف الدين بتفليس كما قلناه وضاف الحال به من الكرج وأرجف عند الأمراء بكيكلون أن الكرج ناصروه بتفليس فسار أرخان منهم في العساكر إلى تفليس.ثم وصل البشير من نفجوان برجوع السلطان من العراق فأعطاه الوزير أربعة آلاف دينار.ثم افترقت العساكر في بلاد كرج وبها ايواني مقدمهم مع بعض أعيانهم وبعث عسكراً آخر إلى مدينة فرس اشتد عليها الحصار.ثم جر العساكر عليها وعاد إلى تفليس. |
مسير جلال الدين إلى حصار خلاط
كانت خلاط في ولاية الأشر بن العادل بن أيوب وكان نائبه بها حسام الدين علي الموصلي وكان الوزير شرف الدين حين أقام بتفليس عند مسير جلال الدين إلى كرمان ضاقت على عساكره الميرة فبعث عسكراً منهم إلى أعمال أرزن الروم فاكتسحوا نواحيها ورجعوا فمروا بخلاط فخرج نائبها حسام الدين واعترضهم واستنقذ ما معهم من الغنائم.وكتب الوزير شرف الدين بذلك إلى جلال الدين وهو بكرمان فلما عاد جلال الدين من كرمان وحاصر مدينة أنى استقر حسام الدين نائب خلاط للامتناع منه فارتحل وإلى بلاد أنحاز ليأتيه على غرة.ورحل جلال الدين من أنحاز فسار إلى خلاط وحاصر مدينة ملاذ كرد في ذي القعدة من السنة وانتقل منها إلى مدينة خلاط وحاصرها وضيق مخنقها وقاتلها مراراً.واشتد أهل البلد في مدافعته لما يعلمون من سيرة الخوارزمية الألوائية وكانوا متغلبين على الكثير من بسائط أرمينية وأذربيجان فبلغه أنهم أفسدوا البلاد وقطعوا السابلة وأخذوا الضريبة من أهل خوي وخربوا سائر النواحي وكتب إليه بذلك نوابه وبنت السلطان طغرل زوجته فلما رحل عن خلاط قصدهم على غرة قبل أن يصعدوا إلى حصونهم بجبالهم الشاهقة فأحاطت بهم العساكر واستباحوهم واقسموهم بين القتل والغنيمة وعاد إلى تبريز. دخول الكرج مدينة تفليس وإحراقها ولما عاد السلطان من خلاط وغزو التركمان فرق عساكر للمشتى وكان الأمراء أساؤوا السيرة في تفليس وهرب العسكر الذين بها واستلحموا بقيتهم وخربوا البلاد وحرقوها لعجزهم عن حمايتها من جلال الدين وذلك في ربيع سنة أربع وعشرين وستمائة.وعند النسائي الكاتب أن استيلاء الفرنج على تفليس وإحراقهم إياها كان والسلطان جلال الدين على خلاط وأنه لما بلغه ذلك رجع وأغار على التركمان في طريقه لما بلغه من إفسادهم فنهب أموالهم وساق مواشيهم إلى موقان وكان خمسها ثلاثين ألفاً.ثم سار إلى خوي لملاقاة بنت طغرل.ثم سار إلى كنجة فبلغه الخبر بانصراف الكرج عن تفليس بعد إحراقها.قال ولما وصل كنجة قدم عليه هنالك خاموش بن الأتابك أزبك بن البهلوان مؤذياً منطقة بلخش قدر الكف مصنوعاً عليه منقوشاً اسم كيكاوس وجماعة من ملوك الفرس فغير السلطان صناعتها ونقشها على اسمه وكان يلبس تلك المنطقة في الأعياد وأخذها التتر يوم كبسوه وحملت إلى الخان الأعظم ابن جنكزخان بقراقدوم.وأقام خاموش في خدمة السلطان إلى أن صرعه الفقر ولحق بعلاء الملك ملك الإسماعيلية فتوفي عنده.انتهى كلام النسائي. أخبار السلطان جلال الدين مع الإسماعيلية كان السلطان جلال الدين بعد وصوله من الهند ولى أرخان على نيسابور وأعمالها وكان وعده بذلك بالهند فاستخلف عليها وأقام مع السلطان.وكان نائبه بها يتعرض لبلاد الإسماعيلية المتاخمة له بهستان وغيرها بالنهب والقتل فأوفدوا على السلطان وهو بخوي - وقد أمنهم - يشكون من نائب أرخان وأساء عليهم أرخان في المجاورة.ولما عاد السلطان إلى كاسنجة وكان قد أقطعها وأعمالها لأرخان.فلما خيم بظاهرها وثب ثلاثة من الباطنية ويسمون الفداوية لأنهم يقتلون من أمرهم أميرهم بقتله ويأخذون ديتهم منه وقد فرغوا عن أنفسهما فوثبوا به فقتلوه وقتلتهم العامة.وكانت الإسماعيلية قد استولوا على الدامغان أيام الفتنة ووصل رسولهم بعد هذه الواقعة إلى السلطان وهو ببيلقان فطالبهم بالنزول على الدامغان فطلبوا ضمانها بثلاثين ألف دينار وقررت عليهم.وكان الرسول الوافد في خدمة الوزير وهم راجعون إلى أذربيجان فاستخفه الطرب ليلة وأحضر له خمسة من الفداوية معه بالعسكر وبلغ خبرهم السلطان فأمره بإحراقهم.انتهى كلام النسائي.وقال ابن الأثير إن السلطان بعد مقتل أرخان سار في العساكر إلى بلاد الإسماعيلية من الموت إلى كردكوه فاكتسحها وخربها وانتقم منهم وكانوا بعد واقعته قد طمعوا في بلاد الإسلام فكف عاديتهم وقطع أطماعهم وعاد فبلغه أن طائفة من التتر بلغوا الدامغان قريباً من الري فسار إليهم وهزمهم وأثخن فيهم.ثم جاء الخبر بأن التتر متلاحقة لحربه فأقام في انتظارهم في الري انتهى ، ^? قد تقدم لنا أن بنت السلطان طغرل زوجة أزبك بن البهلوان لما ملك السلطان جلال الدين تبريز من يدها أقطعها مدينة خوي ثم تزوجها بعد ذلك كما قدمناه وتركها لما هو فيه من أشغال ملكه فوجدت لذلك ما فقدته من العز والتحكم.قال النسائي الكاتب وأضاف لها السلطان مدينتي سلماس وأرمينية وعين رجلاً لقبض إقطاعها فتنكر لها وأغرى بها الوزير فكاتب السلطان بأنها تداخل الأتابك أزبك وتكاتبه.ثم وصل الوزير إلى خوي فنزل بدارها واستصفى وكانت مقيمة بقلعة طلج فحاصرها وسئلت المضي إلى السلطان فأبى إلا نزولها على حكمه انتهى.وكان أهل خوي مع ذلك قد ضجروا من ملكة جلال الدين وجوره وتسلط عساكره فاتفقت الملكة معهم وكاتبوا حسام الدين الحاجب النائب عن الأشراف بخلاط فسار إليهم في مغيب السلطان جلال الدين بالعراق واستولى على مدينة خوي وأعمالها وما يجاورها من الحصون وكاتبه أهل نقجوان وسلموها له وعاد إلى خلاط واحتمل الملكة بنت طغرل زوجة جلال الدين إلى خلاط إلى أن كان ما نذكره. |
واقعة السلطان مع التتر على أصفهان
ثم بلغ الخبر إلى السلطان بأن التتر زحفوا من بلادهم فيما وراء النهر إلى العراق فسار من تبريز للقائهم وجرد أربعة آلاف فارس إلى الري والدامغان طليعة فرجعوا وأخبروه بوصولهم إلى أصفهان فنهض للقائم واستخلف العساكر على الاستماتة.وأمر القاضي بأصفهان باستنفار العامة وبعث التتر عسكراً إلى الري فبعث السلطان عسكراً لاعتراضهم فأوقعوا بالتتر فنالوا منهم.ثم التقى الفريقان في رمضان سنة خمس وعشرين لرابعة وصولهم إلى أصفهان وانتقض عنه أخوه غياث الدين وجهان بهلوان الكجي في طائفة من العسكر.وانهزمت ميسرة التتر والسلطان في اتباعهم وكانوا قد أكمنوا له فخرجوا من ورائه وثبت واستشهد جماعة من الأمراء وأسر آخرون وفيهم علاء الدولة صاحب يزد.ثم صدق السلطان عليهم الحملة فأفرجوا له وسار على وجهه وانهزمت العساكر فبلغوا فارس وكرمان.ورجعت ميمنة السلطان من قاشان فوجدوه قد انهزم فتفرقوا أشتاتاً وفقد السلطان ثمانية من فرقه.وكان بقاطي بستي مقيماً بأصفهان فاعتزم أهل أصفهان على بيعته.ثم وشل السلطان فاقصروا عن ذلك وتراجع بعض العسكر وسار السلطان فيهم إلى الري.وكان التتر قد حاصروا أصفهان بعد الهزيمة فلما وصل السلطان خرج معه أهل أصفهان فقاتلوا التتر وهزموهم وسار السلطان في اتباعهم إلى الري وبعث العساكر وراءهم إلى خراسان.وعند ابن الأثير أن صاحب بلاد فارس وهو ابن الأتابك سعد الذي ملك بعد أبيه حضر مع السلطان في هذه الواقعة وأن التتر انهزموا أولاً فاتبعهم صاحب فارس حتى إذا أبعدوا انفرد عن العسكر.ورجع عنهم فوجد جلال الدين قد انهزم لانحراف أخيه غياث الدين وأمرائه عنه ومضى إلى شهرم تلك الأيام ثم عاد إلى أصفهان كما ذكرناه.الوحشة بين السلطان جلال الدين وأخيه غياث الدين كان ابتداؤها أن الحسن بن حرميل نائب الغورية بهراة لما قتلته عساكر خوارزم شاه محمد بن تتش وحاصروا وزيره الممتنع بها حتى اقتحموها عليه عنوة وقتلوه هرب محمد بن الحسن بن حرميل إلى بلاد الهند.فلما ملك السلطان جلال الدين وحظي لديه أقامه شحنة بأصفهان.فلما سار السلطان إلى أصفهان للقاء التتر انحرف جماعة من غلمان غياث الدين عنه فصاروا إلى نصرة الدين بن حرميل واسترجعهم منه غياث الدين في بيته وطعنه فأشواه ومات لليال.وأحفظ ذلك السلطان وأقام غياث الدين مستوحشاً فلما كان يوم اللقاء انحرف عن أخيه ولحق بخوزستان وخاطب الخليفة فبعث إليه بثلاثين ألف دينار.وسار من هنالك إلى قلعة الموت عند صلاح الدين شيخ الإسماعيلية.فلما رجع السلطان من وقعة التتر إلى الري سار إلى قلعة الموت وحاصرها فاستأمن علاء الدين إلى السلطان غياث الدين فأمنه وبعث من يأتيه به فامتنع غياث الدين وفارق القلعة واعترضه عساكر السلطان بنواحي همذان وأوقعوا به وأسروا جماعة من أصحابه ونجا إلى براق الحاجب بكرمان فتزوج بأمه كرهاً ونمي إليه أنها تحاول سمه فقتلها وقتل معها جهان بهلوان الكجي وحبس غياث الدين ببعض القلاع.ثم قتله بمحبسه ويقال بل هرب من محبسه ولحق بأصفهان وقتل بأمر السلطان.قال النسائي وقفت على كتاب براق الحاجب إلى الوزير شرف الملك والسلطان بتبريز وهو يعدد سوابقه فعد منها قتله أعدى عدو السلطان والله تعالى ولي التوفيق. انتقاض البهلوانية لما ارتحل السلطان والوزير شرف الملك معه وانتهى إلى همذان بلغه أن الأمراء البهلوانية إجتمعوا بظاهر تبريز يرومون الانتقاض واتبعه خاموش بن الأتابك أزبك من قلعة قوطور وكان مقيماً بها فرجع السلطان إليهم وقدم بين يديه الوزير شرف الملك قريباً من تبريز وهزمهم وقبض على الذين تولوا كبر الفتنة منهم ودخل تبريز قصبتهم وقبض على القاضي المعزول فصادمه قوام الدين الحرادي ابن أخت الطغرائي وصادره وسار السلطان للقاء التتر وأقام الوزير نائباً للبلاد. إيقاع نائب خلاط بالوزير ولما كان ما ذكرناه من مسير حسام الدين نائب خلاط إلى أذربيجان واحتماله زوجة السلطان جلال الدين إلى خلاط امتعض الوزير لذلك فسار إلى موقان من بلاد أران وجمع التركمان وفرق العمال للجباية وطلب الحمل من شروان شاه وهو خمسون ألف دينار فتوقف.وأغار على بلاط فلم يظفر بشيء ورجع إلى أذربيجان.وكانت بنت الأتابك بهلوان في بقجان فارقها مولاها أيدغمش وجاء إلى الوزير فأطمعه فيها وصار الوزير مضمراً الغدر بها وامتنعت عليه.ونزل بالمرج فأكرمته وقربته ورحل إلى حورس من أعمالها وكانت للأشرف صاحب خلاط أيام أزبك فانتشرت أيدي العسكر في تلك الضياع وقاتلها الوزير.وجاء الحاجب صاحب خلاط في عساكره فانهزم الوزير وترك أثقاله وذلك سنة أربع وعشرين.وكان مع الحاجب فخر الدين سام صاحب حلب وهشام الدين خضر صاحب تبريز برم.وكان الوزير " " وتكاليفه فظفر الآن بمخلفه وخلص الوزير إلى أران وسار الحاجب علي في اتباعه.ثم عاد إلى تبريز ومر بخوي فنهبها ثم سار إلى بقجان فملكها ثم تدمر كذلك.وأقام الوزير بتبريز وكان بها الأتابك أزبك متنسكاً منعه أهل تبريز من الدخول وحملوا إليه النفقة.ثم جاء الخبر برجوع السلطان إلى أصفهان بعد الهزيمة كما مر فسار الوزير إلى أذربيجان ولقي ثلاثة من الأمراء جاءوا مدداً له من عند السلطان وأمره بحصار خوي فتأخر إليها وبها نائب الحاجب حسام الدين صاحب خلاط وهو بدر الدين بن صرهنك والحاجب حسام الدين علي منوشهر فنهض إليه الوزير من خوي فتأخر إلى تركري.والتقيا هنالك فانهزم الحاجب ودخل تركري فاعتصم بها وحاصره الوزير وطلب الصلح فلم يسعفه.ورجع الذين كانوا معه بعساكرهم إلى أذربيجان.وأفرج الوزير عن حصار تركري ومر بخوي وقد فارقها ابن صرهنك إلى قلعة قوطور.واستأمن للسلطان من بعد ذلك ودخل الوزير مدينة خوي وصادر أهلها وسار إلى ترمذ ونقجوان ففعل فيهما مثل ذلك وانقطعت إيالة الحاجب صاحب خلاط والله أعلم. |
فتوحات الوزير بأذربيجان وأران
ولما تخلف الوزير عن السلطان صرف همته إلى تمهيد البلاد ومدافعة صاحب خلاط وارتجاع البلاد التي ملك من أذربيجان وأران وفتح القلاع العاصية فكان بينه وبين الحاجب حسام الدين صاحب خلاط ما ذكرناه وهو خلال ذلك يستميل أصحاب القلاع ويفيض فيهم الأموال والخلع حتى أجاب أكثرهم.ثم قبض على ناصر الدين محمد من أمراء البهلوانية وكان معتزلا عند نصرة الدين بن سبكتكين فصادره على مال وتسلم من نائبه قلعة كانت بيده.ثم مات نائب السلطان بكنجة أقسنقر الأتابكي فنهض إليها وقبض على نائبه شمس الدين كرشاسف وصادره وتسلم منه قلعة هردوجار برد من أعمال أران.ثم جهز العساكر لحصار قلعة زونين وبها زوجة السلطان خاموش فأطال حصارها وعرضت عليه نكاحها فأبى.ولما رجع السلطان من العراق تزوجها وولى خادمه سعد الدين على القلعة فأساء إليها وانتزع أملاكها فأخرجوه وعادوا إلى الانتقاض.ولما خلص الوزير من واقعته مع الحاجب نائب خلاط قصد أران فجبى الأموال وجمع واحتشد وقصد قلعة مردانقين وكانت لصهر الوزير ركبة الدين فصانعه بأربعة آلاف دينار حملها إليه.ثم سار إلى قلعة حاجين وبها جلال الدولة ابن أخت أبواني أمير الكرج فصالحه على عشرين ألف دينار وسبعمائة أسير من المسلمين.ثم كانت فتنة البهلوانية فسكنها وسرح الجند عنها.وشرح الخبر عنها أن بعض مماليك أتابك أزبك كان قد أفحش في قتل الخوارزمية بأذربيجان عند زحفهم إلها أيام ذرارهم من التتر فلما ملك السلطان جلال الدين أذربيجان ومحا ملك البهلوانية منها لحق الأمير مقدي هذا بالأشرف بن العادل بن أيوب صاحب الشام وأقام عنده فلما بلغه انهزام الوزير شرف الملك أمام الحاجب حسام الدين نائب الأشرف بخلاط فر من الشام إلى أذربيجان ليقيم مع الأتابكية ومر بالحاجب في خوي فاتبعه وعبر النهر وخاطب من عدوته معتذراً فرجع عنه.ودخل مقدي بلاد قبار وفيها قلاع استولى عليها المنتقضون والعصاة فراسلهم في إقامة الدعوة الأتابكية والبيعة لابن خاموش بن أزبك يستدعونه من قلعة قوطور.واتصل ذلك بالوزير فأقلقه.ثم جاء خبر هزيمة السلطان بأصفهان فازداد قلقاً.وسار الأمير مقدي إلى نصرة الدين محمد بن سبكتكين يدعوه لذلك فلاطفه في القول.وكتب للوزير بالخبر فأجابه بأن يضمن لمقدي ما أحب في مراجعة الطاعة ففعل وجاء به إلى الوزير فأكرمه وخلع عليه وعلى من جاء معه وعاهده العفو عن دماء الخوارزمية.وجاء الخبر برجوع السلطان من أصفهان فارتحل الوزير للقائه ومعه الأمير مقدي وابن سبكتكين وأكرمهما السلطان. أخبار الوزير بخراسان كان صفي الدين محمد الطغرائي وزيراً بخراسان.وأصل خبره أنه كان من قرية كلاجرد وأبوه رئيسها وكان هو حسن الخط ورتبة الأطوار.ثم لحق بالسلطان في الهند وخدم الوزير شرف الملك فلما عادوا إلى العراق ولاه الطغراء.ولما ملك السلطان تفليس من يد الكرج ولى عليها أقسنقر مملوك الأتابك أزبك وأقام صفي الدين في وزارتها فلما حاصرها الكرج هرب أقسنقر وأقام صفي الدين فحاصروه أياماً.ثم أفرجوا ووقع ذلك من السلطان أحسن المواقع وولاه وزارة خراسان فأقام بها سنة.وضجر منه أهلها فلما جاء السلطان إلى الري وأقام بها كثرت به الشكايات ونكبه السلطان واستصفى أمواله وقبض على مواليه وحاشيته وقيدت خيله إلى مرابط السلطان وكانت ثلاثمائة.وخلص من مواليه علي الكرماني إلى قلعة كان حصنها فامتنع بها واستوزر السلطان مكانه تاج الدين البلخي المستوفي وسلم إليه الصفي ليستصفيه ويقلع القلعة من مولاه وشدد في امتحانه.وكان عدوه فلم يظفر منه بشيء.وكان لما نكب طالبه خاتون السلطان بإحضار الجواهر وما ساقه لخدمة الوزير وغيره فأحضر أربعة آلاف دينار ثم كاتب الصفي أرباب الدولة ووعدهم بالأموال فشفعوا فيه وخلصوه وكتب السلطان بخطه بسراحه فجاء واستخلص ماله من الخازن إلا الفصوص فإنه تعذر عليه ردها.وولى السلطان على وزارة نسا محمد بن مودود النسوي العارض من بيت رئاسة بها.ورمت به الحادثة إلى غزنة فلما جاء السلطان من الهند ولاه الإنشاء والحبس وعظم أمره وغص به الوزير شرف الملك.فلما ورد أحمد بن محمد المنشئ الكاتب رسولاً عن نصرة الدين محمد بن حمزة صاحب نسا كما مر ولاه السلطان الإنشاء فارتمض لذلك ضياء الدين وطلب وزارة نسا فولاه السلطان إياها.وأقطع له عشرة آلاف دينار في السنة زيادة على أرزاق الوزارة.وذهب إليها لإقامة وظيفته.واستناب في ديوان العرض مجد الملك النيسابوري.ثم قطع الحمل فعزله السلطان وولى مكانه الكاتب أحمد بن محمد المنشئ وتعرض للسعاية فيه فطرده السلطان وهلك في طرده.خبر بلبان صاحب خلخال كان من أتابكية أزبك.ولما كانت فتنة التتر وخلاء خراسان واستيلاء السلطان جلال الدين على أذربيجان لحق بمدينة خلخال فاستولى عليها وعلى قلاعها وشغل عنه السلطان بأمر العراق وصاحب خلاط.فلما انصرف المسلمون من واقعة السر بالعراق حاصروه بقلعة فيروز أباد حتى استأمن وملكها السلطان وولى عليها حسام الدين بكتاش مولى سعد أتابك فارس.ثم خفف السلطان أثقاله بموقان وتجرد لخلاط وعاقه البرد بارجيش فنهب بعض قلاع.وكان عز الدين الخلخالي في كفر طاب قريباً من أرجيش فلحق بخلاط وجهزه الحاجب إلى أذربيجان يشغلهم بإثارة الفتنة فيها فلم يتم قصده من ذلك فلحق بجبال زنجان وأقام يخيف السابلة.وكتب له السلطان بالأمان.ونزل إلى أصفهان فبعث نائبها شرف الدولة برأسه إلى السلطان.ثم رجع السلطان من كفر طاب إلى خرت برت فنهبها وخربها ووصله خلال ذلك الخبر بوفاة الخليفة الظاهر منتصف ثلاث وعشرين وولاية ابنه المنتصر وجاء كتابه بأخذ البيعة وأن يبعث إليه بالخلع والله تعالى ولي التوفيق لا رب غيره. تنكر السلطان للوزير شرف الدين لما رجعت العساكر إلى موقان وأقام السلطان بخوي شكا إليه أهلها بكثرة مصادرة الوزير لهم واطلع على إساءته للملكة بنت طغرل واستصفائه مالها مع براءتها مما نسب إليها.ثم جاء إلى تبريز فبلغه عنه أكثر من ذلك وهو بقرية كورتان من أعمالها فافتقد رئيسها وكان يخدمه فقيل إن الوزير صادره على ألف دينار لمملوكين.فلما وصل إلى تبريز حبس من أخذها حتى ردها على صاحبها وأسقط عن أهل تبريز خراج ثلاث سنين وكتب لهم بذلك.وكثرت الشناعات على الوزير بما فعله في مغيب السلطان هذا مع ما كان منه في محاربة الإسماعيلية بأن السلطان كاتبه من بغداد بأن يفتش فلول الشام من أجل رسول من عند التتر بعثوه إلى الشام.وقصد بذلك معاتبة الخليفة إن عثر على الرسول فمر به فل من الإسماعيلية فقتلهم واستولى على أموالهم.فلما عاد السلطان إلى أذربيجان وصله رسول علاء الدين ملك الإسماعيلية يعاتبه على ذلك ويطلب المال فنكر السلطان على الوزير ما فعله ووكل به أميرين حتى رد ما أخذ من أموالهم وكانت ثلاثين ألف دينار وعشرة أفراس فانطوى السلطان للوزير من ذلك كله على سخط وأعرض عن خطابه.وكان يكاتب فلا يجاب وعجزت تبريز عن علوفة السلطان فأمر بفتح أهراء الوزير والتصرف فيها.ورجع السلطان إلى موقان فلم يغير عليه شيئاً ووقع له بتناول عشر الخاص فكان يأخذ من عشر العراق سبعين ألف دينار في كل سنة والله أعلم.وصول القفجاق لخدمة السلطان كان للقفجاق على قديم العهد هوى مع قوم هذا السلطان وأهل بيته وكانوا يصهرون إليهم غالباً ببناتهم.ومن أجل ذلك استأصلهم جنكزخان واشتد في طلبهم فلما عاد السلطان من واقعة أصفهان وقد هاله أمر التتر رأى أن يستظهر عليهم بقبائل قفجاق وكان في جملته سبير جنكش منهم فبعثه إليهم يدعوهم لذلك ويرغبهم فيه فأجابوا وجاءت قبائلهم أرسالا.وركب البحر كوركان من ملوكهم في ثلاثمائة من قرابته ووصل إلى الوزير بموقان فشتى بها.ثم جاء السلطان فخلع عليه ورده بوعد جميل في فتح دربند وهو باب الأبواب.ثم أرسل السلطان لصاحب دربند وكان طفلاً وأتابكه يلقب بالأسد يدبر أمره فقدم على السلطان فخلع عليه وأقطع له وملكه العمل على أن يفتح له الدربند.وجهز عساكر وأمراء فلما فصلوا من عنده قبضوا على الأسد وشنوا الغارة على نواحي الباب وأعمل الأسد الحيلة وتخفف من أيديهم وتعذر عليهم ما أرادوه. |
استيلاء السلطان على أعمال كستاسفي
كان علم الوزير يشكر أن السلطان أراد أن ينتصح له ببعض مذاهب الخدمة فسار في العساكر وعبر نهر أزس فاستولى على أعمال كستاسفي من يد شروان شاه.فلما عاد السلطان إلى موقان أقطعها لجلال الدين سلطان شاه بن شروان شاه وكان أسيراً عند الكرج أسلمه أبوه إليهم على أن يزوجوه بنت الملك رسودان بنت تاماد.فلما فتح السلطان بلاد الكرج استخلصه من الأسر ورباه وبقي عنده وأقطعه الآن كستاسفي.وكان أيضاً عند الكرج ابن صاحب أرزن الروم وكان تنصر فزوجوه رسودان بنت تاماد فأخرجه السلطان لما فتح بلاد قدوم شروان شاه كان السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان لما ملك أران أطلق الغارة على بلاد شروان فوفد عليه ملكها افريدون بن فرتبريز وضمن حمل مائة ألف دينار في السنة.فلما ملك السلطان جلال الدين أران سنة اثنتين وعشرين وستمائة طلب شروان شاه افريدون بالحمل فاعتل بتغلب الكرج وضعف البلاد فأسقط عنه نصف الحمل.فلما عاد الآن قدم عليه شروان شاه وأهدى له خمسمائة فرس وللوزير خمسين فاستقلها.وأشار على السلطان بحبسه فلم يقبل إشارته ورده بالخلع والتشريف وأسقط عنه من الحمل عشرين ألفاً فبقي ثلاثون قال النسائي الكاتب وأعطاني في التوقيع ألف دينار والله تعالى أعلم. مسير السلطان إلى بلاد الكرج وحصاره قلاع بهرام لما كان السلطان مقيماً بموقان منصرفة من أذربيجان بعث عساكره مع ايلك خان فأغار على بلاد الكرج واكتسحها ومر ببحيرة بتاج فكبسه الكرج وأوقعوا به.وفقد اريطاني وامتعض السلطان لما وقع بعسكره وارتحل لوقته وقد جمع له الكرج فهزمت مقدمتهم وجيء بالأسرى منهم فقتلهم وسار في اتباعهم.ونازل كوري وطالبهم بإطلاق أسرى البحيرة فأطلقوهم.وأخبر أن اريطاني خلص تلك الليلة إلى أذربيجان ثم وجده السلطان في نقجوان.ثم سار إلى بهران الكرجي وقد كان أغار على نواحي كنجة فعاث في أعماله وحاصر قلعة سكان ففتحها عنوة وكذلك قلعة كاك.وبعث الوزير لحصار كوزاني فحاصرها ثلاثة أشهر حتى طلبوا الصلح على مال حملوه فرحل عنهم إلى خلاط والله أعلم. مسير السلطان إلى خلاط وحصارها ولما فرغ السلطان من شأن الكرج قم أثقاله إلى خلاط على طريق قاقروان وسار هو إلى نفجوان وصبح الكرج واستاق مواشيهم.ثم أقام أياماً وقضى أشغال أهل خراسان والعراق ليفرغ لحصار خلاط.قال النسائي الكاتب وحصل لي منهم تلك الأيام ألف دينار.ثم ارتحل إلى خلاط ولحق بعساكره ولقيه رسول من عز الدين أيبك نائب الأشرف بخلاط وقد كان الأشرف بعثه وأمره بالقبض على نائبها حسام الدين علي بن حفاد فقبض عليه ثم قتله غيلة.وبعث إلى السلطان يستخدم إليه بذلك وأن سلطانه الأشرف أمره بطاعة السلطان جلال الدين وبالغ في الملاطفة فأبى السلطان إلا إمضاء ما عزم عليه.وقال إن كان هذا حقاً فابعث إلي بالحاجب فلما سمع هذا الجواب قتله وسار السلطان إلى خلاط ونزل عليها بعد عيد الفطر من سنة ست وعشرين.وجاءه ركن جهان بن طغرل صاحب أرزن الروم فكان معه وحاصرها ونصب عليها المجانيق وأخذ بمخنقها حتى فر أهلها عنها من الجوع وتفرقوا في البلاد.ثم داخله بعض أهلها في أن يمكنهم من بقيتها على أن يؤمنوه ويقطعوه في أذربيجان فأقطعه السلطان سلماس وعدة ضياع هنالك.وأصعد الرجال ليلا إلى الأسوار فقاتلوا الجند بالمدينة وهزموهم وملكوها وأسروا من كان بها وأسروا النصارى وأسد بن عبد الله.وتحصن النائب عز الدين ايبك بالقلعة فأمنه وحبسه بقلعة درقان.فلفا وقعت المراسلة في الصلح قفل لئلا يشترط.وقال ابن الأثير إن مولى من موالي حسام الدين كان هرب إلى السلطان فلما ملك خلاط طلب أن يثأر منه بمولاه فدفعه إليه وقتله ونهب البلد ثلاثاً وسرح السلطان صاحب أرزن وهرب القمهري من محبسه فقتل أسد بن عبد الله المهراني بجزيرته وأقطع السلطان خلاط للأمراء وعاد والله تعالى ولي التوفيق. واقعة السلطان جلال الدين مع الأشرف وكيقباد وانهزامه أمامهما ولما استولى السلطان جلال الدين على خلاط تجهز الأشرف من دمشق وقد كان ملكها وسار لقتال السلطان جلال الدين في عساكر الجزيرة والشام وذلك في سنة تسع وعشرين ولقيه علاء الدين كيقباد صاحب بلاد الروم على سيراس.وكان كيقباد قد خشي من اتصال جهان شاه ابن عمه طغرل صاحب أرزن الروم بالسلطان جلال لما بينهما من العداوة فسار الأشرف وكيقباد من سيراس وفي مقدمة الأشرف عز الدين عمر بن علي من أمراء حلب من الأكراد الهكارية وله صيت في الشجاعة.وجاء السلطان علاء الدين للقائهم فلما تراءى الجمعان حمل عز الدين صاحب المقدمة عليهم فهزمهم وعاد السلطان إلى خلاط.وكان الوزير على ملازكرد يحاصرها فلحق به وارتحلوا جميعاً إلى أذربيجان وأسر ركن الدين جهان شاه بن طغرل.وجيء به إلى ابن عمه علاء الدين كيقباد فجاء إلى أرزن فسلمها وسائر أعمالها.ووصل الأشرف إلى خلاط فوجدها خاوية.ولما رجع السلطان إلى أذربيجان ترك العساكر مع الوزير سكمان وأقام بخوي وخلص الترك في الهزيمة إلى موقان.وتردد شمس الدين التكريتي رسول الأشرف بينه وبين السلطان جلال الدين في الصلح بينهم ودخل فيه علاء الدين صاحب الروم وانعقد بينهم جميعاً وسلم لهم السلطان سر من رأى مع خلاط والله تعالى أعلم. الحواث أيام حصار خلاط منها وفادة نصر الدين أصبهبذ صاحب الجبل مع أرخا من أمراء السلطان يصهر على أخيه فقبض السلطان عليه إلى أن عاد من بلاد الروم منهزماً فأقطعه وأعاده إلى بلاده.ومنها رسالة أخت السلطان وكانت عند دوشي خان أخذها من العيال الذين جاءوا معه وتركمان خاتون من خوارزم وأولدها وكانت تكاتب أخاها بالأخبار فبعثت إليه الآن في الصلح مع خاقان والمصاهرة.وأن يسلم له فيما وراء جيحون فلم يجبها.ومنها وفادة ركن الدين شاه بن طغرل صاحب أرزن الروم وكان في طاعة الأشرف ومظاهر للحاجب نائب خلاط على عداوة السلطان منافرة لابن عمه علاء الدين كيفباد بن كنخسرو صاحب الروم وكان قتل رسول السلطان منقلباً من الروم ومنع الميرة عن العسكر.فله طال حصار السلطان بخلاط استأمن وقدم عليه السلطان فاحتفل لقدومه وأركب الوزير للقائه.ثم خلع عليه ورده إلى بلاده واستدعى منه آلات الحصار فبعث بها.ثم حضر بعد ذلك واقعة الأشرف مع السلطان كما مر.ومنها وصول سعد الدين الحاجب برسالة الخليفة إلى السلطان بالخطبة في أعمالها وأن لا يتعرض لمظفر الدين كوكبرون صاحب إربل ولا للولد صاحب الموصل ولا لشهاب الدين سليمان شاه ملك ولا لعماد الدين بهلوان بن هراست ملك الجبال ويعدهم في أولياء الديوان فامتثل مراسله.وبعث نائب العراق شرف الدين علي بأن ملك العراق لا يتم إلا بطاعة ملك الجبال عماد الدين بهلوان وملك " " سليمان شاه فبعث إليهما السلطان من لاطفهما حتى كانت طاعتهما اختياراً منهما ، ^? وبعث السلطان الحاجب بدر الدين طوطو بن أبنايخ خان فأحسن في تأدية رسالته وجاء بهدية حافلة من عند الخليفة خلعتان للسلطان احداهما جبة وعمامة وسيف هندي مرصع الحلية والأخرى قنع وكمة وفرجية وسيف محلى بالذهب وقلادة مرصعة ثمينة وفرسان رائعان بعدتين كاملتين ونعال لكل واحدة من أربعمائة دينار وترس ذهب مرصع بالجوهر وفيه أحك وأربعون فصاً من الياقوت وبندخستاني في وسطه فيروزجة كبيرة وثلاثون فرساً عربية مجللة بالأطلس الرومي المبطن بالأطلس البغدادي بمقاود الحرير ونعال الذهب لكل واحدة منها ستون ديناراً وعشرون مملوكاً بالعدة والمركوب وعشرة فهو بجلال الأطلس وقلائد الذهب وعشرة صقور بالأكمام المكفنة ومائة وخمسون بقجة في كل واحدة عشرة ثياب وخمس أكر من العنبر مضلعة بالذهب وشجرة من العود الهندي طولها خمسة أذرع وأربع عشرة خلعة نسوانية للخانات من خوالص الذهب وكنائس للخيل تفليسية.وللأمراء ثلاثمائة خلعة لكل أمير خلعة قباء وكمة للوزير عمامة سوداء وقباء وفرجية وسيف هندي واكرتان من العنبر وخمسون ثوباً وبغلة.ولأصحاب الديوان عشرون خلعة في كل خلعة جبة وعمامة وعشرون ثوباً أكثرها أطلس رومي وبغدادي وعشرون بغلة شهباء.ورفعت للسلطان خباء فدخلها ولبس الخلعتين وشفع الرسول في أهل خلاط فاعتذر له السلطان ، ^? ومنها وصول هدية من صاحب الروم ثلاثون بغلا مجللة بثياب الأطلس الخطائي وفرو القندسي والسمور وثلاثون مملوكاً والعدة ومائة فرس وخمسون بغلا.ولما مروا بأذربيجان اعترضهم ركن الدين جهان شاه بن طغرل صاحب أرزن وكان في طاعة الأشرف فأمسك الهدية عنده إلى أن وفد على السلطان بطاعته فأحضرها.ومنها أسار وزير المورخا جاء إلى الجبل المطل على قزوين لحصاد الحشيش على عادته وكان السلطان قد تغير على علاء الدين صاحبهم بسبب أخيه غياث الدين ولحاقه بهم في الموت فسار مقطع سارة إلى ذلك الجبل وأكمن لهم الوزير.وبعث به إلى السلطان وهو يحاصر خلاط فحبسه بقلعة رزمان وهلك لأشهر قلائل.ثم بعض السلطان كاتبه محمد بن أحمد النسائي إلى علاء الدين صاحب قلعة الموت بطلب الخوارج وطلب الخطبة فامتنع منها أولا واحتج عليه بأن أباه جلال الدين الحسن خطب لخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش والد السلطان فأنكر والتزم أن يبعث إلى الديوان مائة ألف في كل سنة. |
وصول جهان بهلوان أزبك من الهند كان السلطان
لما فصل من الهند بقصد العراق واستخلف على البلاد التي ملكها هنالك جهان بهلوان أزبك فأقام هنالك إلى أن قصده عسكر شمس الدين ايتماش صاحب لهاوون ففارق مكانه وسار إلى بلاد قشمير فزاحموه وطردوه عن البلاد فقصد العراق وتخلف عنه أصحابه وعادوا إلى ايتماش وفيهم الحسن برلق الملقب رجاملك وكاتب جهان عليها ملك العراق بوصوله في سبعمائة فارس فأجاب الحسن رأي السلطان فيه وبعث إليه بعشرة آلاف دينار للنفقة.ووصل توقيع السلطان بأن تحمل إليه عشرون ألفاً وأن يشتي بالعراق يستريح بها من التعب فصادف عود السلطان من بلاد الروم وزحف السلطان إلى أذربيجان فحال قدر الله بينه وبين مرامه وقتل هناك سنة ثمان وعشرين.وصول التتر إلى أذربيجان كان التتر عندما ملكوا ما وراء النهر وزحفوا إلى خراسان فضعضعوا ملك بن خوارزم شاه وانتهوا إلى قاصية البلاد وخربوا ما مروا عليه واكتسحوا ونهبوا وقتلوا.ثم استقر ملكهم بما وراء النهر وعمروا تلك البلاد واختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوض منها.وبقيت خراسان خالية واستبد بالمدن فيها أمراء شبه الملوك يعطون الطاء للسلطان جلال الدين لما جاء من الهند وانفرد جلال الدين بملك العراق وفارس وكرمان وأذربيجان وأران وما وراء ذلك.وبقيت خراسان مجالات لغارات التتر وحروبهم.ثم سارت طائفة منهم سنة خمس وعشرين فكان بينهم وبين جلال الدين لما جاء من الهند المواقعة على أصفهان كما مر.ثم كان بين جلال الدين وبين الأشرف صاحب الشام وعلاء الدين كيقباد صاحب الروم المواقعة سنة سبع وعشرين كما مر وأوهنت من جلال الدين وحلت عرى ملكه.وكان علاء الدين مقدم الإسماعيلية في قلعة الموت فعاد جلال الدين لما أثخن في بلاده وقرر عليه وظائف الأموال فبعث إلى التتر يخبرهم بالهزيمة الكائنة عليه وأنها أوهنته ويحثهم على قصده فساروا إلى أذربيجان أول سنة ثمان وعشرين وبلغ الخبر إلى السلطان بمسيرهم فبعث بوغر من أمرائه طليعة لاستكشاف خبرهم فلقي مقدمتهم فانهزم ولم ينج من أصحابة غيره.وجاء بالخبر فرحل من تبريز إلى موقان وخلف عياله بتبريز لنظر الوزير وأعجله الحال عن أن يبعثهم إلى بعض الحصون.ثم ورد كتاب من حدود زنجان بأن المقدمة التي لقيها بوغر باهر أقاموا بمرج الخان وأنهم سبعمائة فارس فظن السلطان أنهم لا يجاوزونها فسري عنه ورحل إلى موقان فأقام بها وبعث في أحشاد الأميرين بغان شحنة خراسان وأوسمان بهلوان شحنة مازندران وشغل بالصيد.وبينما هو كذلك كبسه التتر بمكانه ونهبوا معسكره وخلص إلى نهر أوس.ثم ورى بقصد كنجة وعطف إلى أذربيجان فتنكر لماهان.وكان عز الدين صاحب قلعة شاهن غاضباً منذ سنين لإغارة الوزير على بلده.فلما نزل السلطان ماهان كان يخدمه بالميرة وبأخبار التتر ثم أنفره آخر الشتاء بمسير التتر إليه من أرجان وأشار عليه بالعود إلى أران لكثرة ما فيها من العساكر وأجناد التركمان متحصنين بها.فلما فارقها وكان الوزير فوق بيوت السلطان وخزائنه في قلاع حسام الدين منهم أرسلان كبير أمراء التركمان بأران وكان قد عمر هنالك قلعة سنك سراخ من أحصن القلاع فأنزل عياله بها وكان مستوحشاً من السلطان فجاهر بالعصيان.وكانت وحشته من السلطان لأمور منها تبذير أمواله في العطاء والنفقة ومنها أنه ظن أن السلطان مجفل إلى الهند فكاتب الأشرف صاحب الشام وكيقباد صاحب الروم فوعدهم من نفسه الطاعة وهما عدوا السلطان.ومنها أنه كاتب قليج أرسلان التركماني فأمره بحفظ حرم السلطان وخزائنه ولا يسلمها إليه.وبعث في الكتاب له والكباس قبله ليغزو الروم.فلما مر السلطان بقلعته بعث إليه يستدعيه فوصل وحمل كفنه في يده فلاطفه السلطان وكايده فظنها مخالصة فاطمأن والله تعالى ولي التوفيق. استيلاء التتر على تبريز وكنجة ولما أجفل السلطان بعد الكبسة من موقان إلى أران بلغ الخبر إلى أهل تبريز فثاروا بالخوارزمية وأرادوا قتلهم ووافقهم بهاء الدين محمد بن بشير فاربك الوزير بعد الطغرياني.وكان الطغرياني رئيس البلد كما مر فمنعهم من ذلك وعدوا على واحد من الخوارزمية وقتلوه فقتل به اثنين من العامة.واجتهد في تحصين تبريز وحراستها وشحنها بالرجال ولم تنقطع كتبه عن السلطان ثم هلك فسلمها العوام إلى التتر ثم ثار أهل كنجة وسلموا بلدهم للتتر وكذا أهل ببلغازة والله أعلم.نكبة الوزير ومقتله لما وصل السلطان إلى قلعة جاربرد بلغه استيحاش الوزير وخشي أن يفر إلى بعض الجهات فركب إلى القلعة موريا بالنظر في أحوالها والوزير معه.وأسر إلى والي القلعة أن يمسك الوزير ويقيده هنالك ففعل.ونزل السلطان فجمع مماليك الوزير وكبيرهم الناصر قشتمر وضمهم إلى أوترخان.ثم نمي إلى والي القلعة أن السلطان مستبدل منه فاستوحش وبعث بخاتم الوزير إلى قشتمر كبير المماليك يقول نحن وصاحبكم متوازرون فمن أحب خدمته فليأت القلعة فسقط في يد السلطان.وكان ابن الوالي في جملته وحاشيته.فأمره السلطان أن يكاتب أباه ويعاتبه ففعل وأجابه بالتنصل من ذلك.فقال له السلطان فليبعث إلي برأس الوزير فبعث به.وكان الوزير مكرماً للعلماء والأدباء مواصلاً لهم كثير الخشية والبكاء متواضعاً منبسطاً في العطاء حتى استغرق أموال الديوان.لولا أن السلطان جذب من عنانه.وكان فصيحاً في لغة الترك وكانت عمالته على التواقيع السلطانية الحمد لله العظيم وعلى التواقيع الديوانية يعتمد ذلك وعلى تواقيعه ارتجاع السلطان كنجة لما ثار أهل كنجة بالخوارزمية كان القائم بأمرهم رجل منهم اسمه بندار وبعث السلطان إليهم رسوله يدعوهم إلى الطاعة فوصلوا قريباً منه وأقاموا.وخرج إليهم الرئيس جمال الدين القمي بأولاده.وامتنع الباقون.ثم وصل السلطان وردد إليهم فلم تغن وبرزوا بعض الأيام للقتال ورموا على خيمته فركب وحمل عليهم فانهزموا وازدحموا في الباب فمنعهم الزحام من إغلاقه فاقتحم السلطان المدينة وقبض على ثلاثين من أهل الفتنة فقتلهم.وجيء ببندار وكان بالغاً في الفساد وكسر سرير الملك الذي نصبه بها محمد بن ملك شاه فمثل به وفصل أعضاءه بين يديه.وأقام السلطان بكنجة نحواً من شهر.ثم سار إلى خلاط مستمداً للأشرف فارتحل الأشرف إلى مصر وعلل بالمواعيد ووصل السلطان في وجهته إلى قلعة شمس وبها أراك بن إيوان الكرجي فخرج وقبل الأرض على البعد.ثم بعث إلى السلطان ما أمر به وبعث السلطان إلى جيرانه من الملوك مثل صاحب حلب وآمد وماردين يستنجدهم بعد يأسه من الأشرف.وجرد عسكراً إلى خرت برت وملطية وأذربيجان فأغاروا في تلك النواحي واستاقوا نعمها لما بين ملكها كيقباد وبين الأشرف من الموالاة فاستوحش جميعهم من ذلك وقعدوا عن نصرته والله تعالى ولي التوفيق. كان السلطان بلغه وهو بخلاط أن التتر ساروا إليه فبعث السلطان الأمير أترخان في أربعة آلاف فارس طليعة فرجع وأخبر أن التتر رجعوا من حدود ملازكرد.وكان الأمراء أشاروا على السلطان " " الانتقال بديار بكر وينجرون إلى أصفهان.ثم جاءه رسول صاحب آمد وزين له قصد بلاد الروم وأطمعه في الاستيلاء عليها ليتصل بالقفجاق ويستظهر بهم على التتر وأنه يمده بنفسه في أربعة آلاف فارس.وكان صاحب آمد يروم الانتقام من صاحب الروم بما ملك من قلاعه فجنح السلطان إلى كلامه وعدل عن أصفهان إلى آمد فنزل بها.وبعث إليه التركمان بالنذير وانهم رأوا نيران التتر بالمنزل الذي كانوا به أمس فاتهم خبرهم وصبحه التتر على آمد وأحاطوا بخيمته قبل أن يركب فحمل عليهم أوترخان حتى كشفهم عن الحركات.وركب السلطان وركض وأسلم زوجته بنت الأتابك سعد إلى أميرين يحملانها إلى حيث تنتهي الحفلة.ثم رد أوترخان والعساكر عنه ليتوارى بانفراده عن عين العدو وسار أوترخان في أربعة آلاف فارس فخلص إلى أصفهان واستولى عليها إلى أن ملكها التتر عليه سنة تسعة وثلاثين.وذهب السلطان مستخفياً إلى باشورة آمد والناس يظنون أن عسكره غدروا به فوقفوا يردونهم فذهب إلى حدود الدربندات وقد ملئت المضايق بالمفسدين.فأشار عليه أوترخان بالرجوع فرجع وانتهى إلى قرية من قرى ميافارقين فنزل في بيدرها وفارقه أوترخان إلى شهاب الدين ثم طلبه الكامل فبعث به إليه محبوساً ثم سقط من سطح فمات وهجم التتر على السلطان بالبيدر فهرب وقتل الذين كانوا معه وأخبر التتر أنه السلطان فاتبعوه.وأدركه اثنان منهم فقتلهما ويئس منه الباقون فرجعوا عنه.وصعد جبل الأكراد فوجدهم مترصدين في الطرق للنهب فسلبوه وهموا بقتله.وأسر إلى بعضهم أنه السلطان فمضى به إلى بيته ليخلصه إلى بعض النواحي ودخل البيت في غيبة بعض سفلتهم وبيده حربة وهو يطلب الثأر من الخوارزمية بأخ له قتل بخلاط فقتله ولم يغن عنه البيت وكانت الوقعة منتصف شوال سنة ثمان وعشرين.هذه سياقة الخبر من كتاب النسائي كاتب السلطان جلال الدين.وأما ابن الأثير فذكر الواقعة وأنه فقد فيها وبقوا أياماً في انتظار خبره ولم يذكر مقتله.وانتهى به التأليف ولم يرد على ذلك.قال النسائي وكان السلطان جلال الدين أسمر قصيراً تركياً شجاعاً حليماً وقوراً لا يضحك إلا تبسماً ولا يكثر الكلام مؤثراً للعدل إلا أنه مغلوب من أجل الفتنة وكان يكتب للخليفة والوحشة قائمة بينهما كما كان أبوه يكتب خادمه المطواع فلان فلما بعث إليه بالخلع عن خلاط كما مر كتب إليه عبده فلان والخطاب بعد ذلك سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وإمام المسلمين وخليفة رب العالمين قدوة المشارق والمغارب المنيف على الذروة العليا ابن لؤي بن غالب.ويكتب لملوك الروم ومصر والشام.السلطان فلان بن فلان ليس معها أخوة ولا محبة.وعلامته على تواقيعه النصرة من الله وحده.وعلامته لصاحب الموصل بأحسن خط وشق القلم شقين ليغلظ.ولما وصل من الهند كاتبه الخليفة الجناب الرفيع الخاقاني فطلب الخطاب بالسلطان فأجيب بأنه لم تجر به عادة مع أكابر الملوك فألح في ذلك جين حملت له الخلع فخوطب بالجناب العالي الشاهنشاهي.ثم انتشر التتر بعد هذه الواقعة في سواد آمد وأرزن وميافارقين وسائر ديار بكر فاكتسحوها وخربوها وملكوا مدينة اسعرد عنوة فاستباحوها بعد حصار خمسة أيام ومروا بماردين فامتنعت.ثم وصلوا إلى نصيبين فاكتسحوا نواحيها ثم إلى سنجار وجبالها والخابور.ثم ساروا إلى تدليس فأحرقوها ثم إلى أعمال خلاط فاستباحوا أباكري وارتجيس.وجاءت طائفة أخرى من أذربيجان إلى أعمال إربل ومروا في طريقهم بالتركمان الاموامية والأكراد الجوزقان فنهبوا وقتلوا وخرج مظفر الدين صاحب إربل بعد أن استمد صاحب الموصل فلم يدركهم وعادوا وبقيت البلاد قاعاً صفصفاً والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.وافترق عسكر جلال الدين منكبرس وساروا إلى كيقباد ملك الروم فأثبتهم في ديوانه واستخدمهم.ثم هلك سنة أربع وثلاثين وولي ابنه غياث الدين كنخسرو فارتاب بهم وقبض على كبيرهم وفر الباقون.واكتسحوا ما مروا به وأقاموا مستبدين بأطراف البلاد.ثم استمالهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل وكان نائباً لأبيه بالبلاد الشرقية حران وكيفا وآمد.واستأذن أباه في استخدامهم فأذن له كما يأتي في أخباره والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بمنه وفضله. |
الخبر عن دولة بني تتش بن ألب أرسلان ببلاد الشام دمشق وحلب وأعمالها
وكيف تناوبوا فيها القيام بالدعوة العباسية والدعوة العلوية حين انقراض أمرهم قد تقدم لنا استيلاء السلجوقية على الشام لأول دولتهم وكيف سار أتسز بن أرتق الخوارزمي من أمراء السلطان ملك شاه إلى فلسطين ففتح الرملة وبيت المقدس وأقام فيهما الدعوة العباسية ومحا الدعوة العلوية.ثم حاصر دمشق وذلك سنة ثلاث وستين وأربعمائة.ثم أقام يردد الحصار على دمشق حتى ملكها سنة ثمان وستين.وسار إلى مصر سنة تسع وستين وحاصرها وعاد عنها.وولي السلطان ملك شاه بعد أبيه ألب أرسلان سنة خمس وستين فأقطع أخاه تتش بلاد الشام وما يفتحه من تلك النواحي سنة سبعين وأربعمائة فسار إلى حلب وحاصرها.وكان أمير الجيوش بدر الجمالي قد بعث العساكر لحصار دمشق وبها أتسز فبعث بالصريخ إلى تاج الدولة تتش فسار لنصرته وأجفلت عساكر مصر وخرج أتسز لتلقيه فتعلل عليه ببطئه عن تلقيه وقتله واستولى على دمشق وقد تقدم ذلك كله.ثم استولى سليمان بن قطلمش على إنطاكية وقتل مسلم بن قريش.وسار إلى حلب فملكها وسمع بذلك تتش فسار إليها واقتتلا سنة تسع وسبعين وقتل سليمان بن قطلمش في الحرب وسار السلطان ملك شاه إلى حلب فملكها وولى عليها قسيم الدولة أقسنقر جد نور الدين العادل.ثم جاء السلطان إلى بغداد سنة أربع وثمانين وسار إليه أخوه تاج الدين تتش من دمشق وقسيم الدولة أقسنقر صاحب حلب وبوزان صاحب الرها وحضروا معه صنيع المولد النبوي ببغداد فلما وعدوه العود إلى بلادهم أمر قسيم الدولة وبوزان بأن يسيرا بعسكرهما مع تاج الدولة تتش لفتح البلاد بساحل الشام وفتح مصر من يد المستنصر العلوي ومحو الدولة العلوية منها فساروا لذلك.وملك تتش حمص من يد ابن ملاعب وغزة عنوة وأماسية من يد خادم العلوي بالأمان.وحاصر طرابلس وبها جلال الدين ابن عمار فداخل قسيم الدولة أقسنقر وصانعه بالمال في أن يشفع له عند تتش فلم يشفعه فرحل مغاضباً وأجفلوا إلى جبلة وانتقض أمرهم.وهلك السلطان ملك شاه سنة خمس وثمانين ببغداد وقد كان سار إلى بغداد وسار تتش أخوه من دمشق للقائه وبلغه في طريقه خبر وفاته وتنازع ولده محمود وبركيارق الملك فاعتزم على طلب الأمر لنفسه ورجع إلى دمشق فجمع العساكر وقسم العطاء.وسار إلى حلب فأعطاه أقسنقر الطاعة لصغر أولاد ملك شاه والتنازع الذي بينهم وحمل صاحب إنطاكية وبوزان صاحب الرها وحران على طاعته.وساروا جميعاً في محرم سنة ست وثمانين فحاصروا الرحبة وملكوها وخطب فيها تتش لنفسه.ثم ملك نصيبين عنوة واستباحها وأقطعها لمحمد بن مسلم بن قريش.ثم سار إلى الموصل وبها إبراهيم بن قريش بن بدران وبعث إليه في الخطبة على منابره فامتنع وبرز للقائه في ثلاثين ألفاً وكان تتش في عشرة آلاف والتقوا بالمضيع من نواحي الموصل فانهزم إبراهيم وقتل واستبيحت أحياء العرب وقتل أمراؤهم وأرسل إلى بغداد في طلب الخطبة فلم يسعف إلا بالوعد.ثم سار إلى ديار بكر فملكها في ربيع الآخر وسار منها إلى أذربيجان.وكان بركيارق بن ملك شاه قد استولى على الري وهمذان وكثير من بلاد الجبل فسار في العساكر لمدافعته.فلما تقاربا نزع أقسنقر وبوزان إلى بركيارق.وعاد تتش منهزماً إلى الشام وجمع العساكر واستوعب في الحشد.وسار إلى أقسنقر في حلب فبرز إليه ومعه بوزان صاحب الرها وكربوقا الذي ملك الموصل فيما بعد ولقيهم تتش على ستة فراسخ من حلب فانهزموا وجيء بأقسنقر أسيراً فقتله صبراً.ولحق كربوقا وبوزان بحلب فحاصرها تتش وملكها وأخذهما أسيرين.وبعث إلى حران والرها في الطاعة فامتنعوا فقتل بوزان وملكهما وحبس كربوقا بحمص.ثم سار إلى الجزيرة فملكها جميعاً ثم إلى ديار بكر وخلاط ثم أذربيجان ثم همذان.وبعث إلى بغداد في الخطبة.وكان بركيارق يومئذ بنصيبين فعبر دجلة إلى إربل ثم منها إلى بلد سرخاب بن بدر.وسار الأمير يعقوب بن أرتق من عسكر تتش فكبسه وهزمه ونجا إلى أصفهان فكان من خبره ما تقدم.وبعث تتش يوسف بن أرتق التركماني شحنة إلى بغداد فمنع منها فعاث في نواحيها.ثم بلغه مهلك تتش فعاد إلى حلب.وهذه الأخبار كلها قد تقدمت في أول دولة السلجوقية وإنما ذكرناها هنا توطئة لدولة بني تتش بدمشق وحلب والله أعلم. مقتل تتش ولما انهزم بركيارق أمام عمه تتش لحق بأصفهان وبها محمود وأهل دولته فأدخلوه وتشاوروا في قتله ثم أبقوه إلى إبلال محمود من مرضه فقدر هلاك محمود.وبايعوا لبركيارق فبادر إلى أصفهان وقدم أميراً آخر بين يديه لإعداد الزاد والعلوفة وسار هو إلى أصفهان.ورجع تتش إلى الري وأرسل إلى الأمراء بأصفهان يدعوهم ويرغبهم فأجابوه باستبراء أمر بركيارق.ثم ابل بركيارق من مرضه وسار في العساكر إلى الري فانهزم تتش وانهزم عسكره وثبت هو فقتله بعض أصحاب أقسنقر بثأر صاحبه واستقام الأمر لبركيارق والله تعالى أعلم. استيلاء رضوان في تتش على حلب كان تتش لما انفصل من حلب استخلف عليها أبا القاسم الحسن بن علي الخوارزمي وأمكنه من القلعة ثم أوصى أصحابه قبل المصاف بطاعة ابنه رضوان وكتب إليه بالمسير إلى بغداد ونزول دار السلطنة فسار لذلك وسار معه أبو الغازي بن أرتق.وكان أبوه تتش تركه عنده وسار معه " " ومعه محمد بن صالح بن مرداس وغيرهما.وبلغه مقتل أبيه عند هيت فعاد إلى حلب ومعه الأميران الصغيران أبو طالب وبهرام وأمه وزوجها جناح الدولة الحسن بن أفتكين ولحق بهم من المعركة.فلما انتهوا إلى حلب امتنع أبو القاسم بالقلعة ومعه جماعة من المغاربة وهم أكثر جندها فاستمالهم جناح الدولة فثاروا بالقلعة من الليل ونادوا بشعار الملك رضوان واحتاطوا على أبي القاسم فبعث إليه رضوان بالأمان وخطب له على منابر حلب وأعمالها وقام بتدبير دولته جناح الدولة وأحسن السيرة.وخالف عليهم الأمير باغيسيان بن محمد بن أبه التركماني صاحب إنطاكية ثم أطاع وأشار على رضوان بقصد ديار بكر وسار معه لذلك.وجاءهم أمراء الأطراف الذين كان تتش رأسهم فيها وقصدوا سروج فساقهم إليها سلمان بن أرتق وملكها فساروا إلى الرها وبها الفارقليط من الروم كان يضمن البلاد من بوزان.فتحصن بالقلعة ودافعهم ثم غلبوه عليها وملكها.رضوان.وطلبها منه باغيسيان.وخشي جناح الدولة على نفسه فلحق بحلب ورجع رضوان والأمراء على أثره فسار باغيسيان فأقطعها له.ثم سار إلى حران وأميرها قراجا فدس إليهم بعض أهلها بالطاعة واتهم قراجا بذلك ابن المعني من أعيانها كان تتش يعتمد عليه في حفظ البلد فقتله وقتل بني أخيه.ثم فسد ما بين جناح الدولة وباغيسيان وخشي جناح الدولة على نفسه فلحق بحلب ورجع رضوان والأمراء على أثره فسار باغيسيان إلى بلده إنطاكية وسار معه أبو القاسم الخوارزمي ودخل رضوان إلى حلب دار ملكه وكان من أهل دولته يوسف بن أرتق الخوارزمي الذي بعثه تتش إلى بغداد شحنة.وكان " " من الفتيان بحلب وكان متبوعاً وكان يعادي يوسف بن أرتق فجاء إلى جناح الدولة القائم بأمر رضوان ورمى يوسف بن أرتق عنده بأنه يكاتب باغيسيان ويداخله في الثورة واستأذنه في قتله فأذن له وأمده بجماعة من الجند.وكبس يوسف في داره فقتله ونهب ما فيها واستطال على الدولة.وطمع في الاستبداد على رضوان ودس لجناح الدولة أن رضوان أمره بقتله فهرب إلى حمص.وكانت إقطاعاً له واستبد على رضوان ثم تنكر له رضوان سنة تسع وثمانين وأمر بالقبض عليه استيلاء دقاق بن تتش على دمشق كان تتش قد بعث ابنه دقاقاً إلى أخيه السلطان ملك شاه ببغداد فأقام هنالك إلى أن توفي ملك شاه فسار معه ابنه محمود وأمه خاتون الجلالية إلى أصفهان.ثم ذهب عنهم سراً إلى بركيارق ثم لحق بأبيه وحضر معه الواقعة التي قتل فيها.ولما قتل تتش أبوه سار به مولاه تكين إلى حلب فأقام عنده أخيه رضوان وكان بقلعة من قلاعها ساو تكين الخادم من موالي تتش ولاه عليها قبل موته فبعث إلى دقاق يستدعيه للملك فسار إليه وبعث رضوان في طلبه فلم يدركه.ووصل دمشق وكتب إليه باغيسيان صاحب إنطاكية يشير عليه بالاستبداد بدمشق على أخيه رضوان.ووصل معتمد للدولة طغركين مع جماعة من خواص تتش وكان قد حضر المعركة وأسر فخلص الآن من الأسر.وجاء إلى دمشق فلقيه دقاق ومال إليه وحكمه في أمره وداخله في مثل ساوتكين الخادم فقتلوه.ووفد عليهم باغيسيان من إنطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمي فأكرمهما واستوزر الخوارزمي وحكمه في دولته. |
الفتنة بين دقاق وأخيه رضوان
ثم سار رضوان إلى دمشق سنة تسعين وأربعمائة قاصداً انتزاعها من يد دقماق فامتنعت عليه فعاد إلى مالس وقصد الورس فامتنعت عليه فعاد إلى حلب وفارقه باغيسيان صاحب إنطاكية إلى أخيه دقاق وحض على المسير إلى أخيه بحلب فسار لذلك.واستنجد رضوان سكمان ومن سروج في أمم من التركمان.ثم كان اللقاء بقنسرين فانهزمت عساكر دقاق ونهب سوادهم وعاد رضوان.إلى حلب.ثم سعى بينهما في الصلح على أن يخطب لرضوان بدمشق وإنطاكية قبل دقاق فانعقد ذلك بينهما.ثم لحق جناح الدولة بحمص عندما عظمت فيه سعاية المجن كما ذكرناه.وكان باغيسيان منافراً له.فلما فصل من حلب جاء باغيسيان إلى رضوان وصالحه.ثم بعث بعث رضوان المستعلي خليفة العلويين بمصر يعده بالإمداد على أخيه على أن يخطب له على منابره وزين له بعض أصحابه صحة مذهبهم فخطب له في جميع أعماله سوى إنطاكية والمعرة وقلعة حلب.ثم وفد عليه بعد شهرين من هذه الخطب سكمان ببن أرتو صاحب سروج وباغيسيان صاحب إنطاكية فلم يقم بها غير ثلاث حتى وصل الفرنج فحاصروه وغلبوه على إنطاكية وقتلوه كما مر في خبره. استيلاء دقاق على الرحبة كانت الرحبة بيد كربوقا صاحب الموصل فلما قتل كما مر في خبره استولى عليهما قانمار من موالي السلطان ألب أرسلان فسار دقاق بن تتش ملك دمشق وأتابكه طغركين إليها سنة خمس وتسعين وحاصروها فامتنعت عليهم فعادوا عنها.وتوفي قانمار صاحبها في صفر سنة ست وتسعين وقام بأمرها حسن من موالي الأتراك فطمع في الاستبداد وقتل جماعة من أعيان البلد وحبس آخرين.واستخدم جماعة من الجند وطرد آخرين.وخطب لنفسه فسار دقاق إليه وحاصره في القلعة حتى استأمن وخرج إليه وأقطعه بالشام إقطاعات كثيرة وملك الرحبة وأحسن إلى أهلها وولى عليهم ورجع إلى دمشق والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق لا رب غيره. وفاة دقاق وولاية أخيه تلتاش ثم خلعه ثم توفي دقاق صاحب دمشق سنة سبع وتسعين واستقل أتابكه طغركين بالملك وخطب لنفسه سنة ثم قطع خطبته وخطب لتلتاش أخي دقاق صبياً مراهقاً وخوفته أمه من طغركين بزواجه أم دقاق وأنه يميل إلى ابن دقاق من أجل جدته فاستوحش وفارق دمشق إلى بعلبك في صفر سنة ثمان وتسعين.ولحقه ايتكين الحلبي صاحب بصرى وكان ممن حسن له ذلك فعاث في نواحي خوارزم ولحق به أهل الفساد وراسلا هدويل ملك الفرنج فأجابهما بالوعد ولم يوف لهما فسار إلى الرحبة واستولى عليها تلتاش.وقيل إن تلتاش لما استوحش منه طغركين من دخول البلد مضى إلى حصون له وأقام بها.ونصب طغركين الطفل ابن دقاق وخطب له واستبد عليه وأحسن إلى الناس واستقام أمره والله تعالى ولي التوفيق وهو نعم الرفيق. الحرب بين طغركين والفرنج أشهراً كان قمص من قمامصة الفرنج على مرحلتين من دمشق فلج بالغارات على دمشق فجمع طغركين العساكر وسار إليه وجاء معرون ملك القدس وعكا من الفرنج بإنجاد القمص فأظهر الغنية عليه وعاد إلى عكا وقاتل طغركين القمص فهزمه وأحجزه بحصنه.ثم حاصره حتى ملك الحصن عنوة وقتل أهله وأسر جماعته وعاد إلى دمشق ظافراً غانماً.ثم سار إلى حصن رمسة من حصون الشام وقد ملكه الفرنج وبه ابن أخت سميل المقيم على طرابلس يحاصرها فحاصر طغركين حصن رمسة حتى ملكه وقتل أهله من الفرنج وخربه والله أعلم. مسير رضوان صاب حلب لحصار نصيبين ثم إن رضوان صاحب حلب اعتزم على غزو الفرنج واستدعى الأمراء من النواحي لذلك فجاءه أبو الغازي بن أرتق الذي كان شحنة ببغداد وأصفهان وصباوو وألبي بن أرسلان ماش صاحب سنجر وهو صهر جكرمش صاحب الموصل.وأشار أبو الغازي بالمسير إلى بلاد جكرمش للاستكثار بعسكرها وأموالها ووافقه ألبي وساروا إلى نصيبين في رمضان سنة تسع وتسعين وأربعمائة فحاصرها وفيها أميران من قبل جكرمش واشتد الحصار وجرح ألبي بن أرسلان بسهم أصابه فعاد إلى سنجر وأجفل أهل السواد إلى الموصل وعسكر جكرمش بظاهرها معتزماً على الحرب.ثم كاتب أعيان العسكر وحثهم على رضوان.وأمر أصحابه بنصيبين بإظهار طاعته وطلب الصلح معه.وبعث إلى رضوان بذلك والإمداد بما يشاؤه على أن يقبض على أبي الغازي فمال إلى ذلك واستدعى أبا الغازي فخبره أن المصلحة في صلح جكرمش ليستعينوا به في غزو الفرنج وجمع شمل المسلمين فجاوبه أبو الغازي بالمنع من ذلك.ثم قبض عليه وقيده فانتقض التركمان ولجأوا إلى سور المدينة وقاتلوا رضوان.وبعث رضوان بأبي الغازي إلى نصيبين فخرجت منه العساكر لإمداده فافترق منها التركمان ونهبوا ما قدروا عليه.ورحل رضوان من وقته إلى حلب.وانتهى الخبر إلى جكرمش بتل أعفد وهو قاصد حرب القوم فرحل عند ذلك إلى سنجار وبعث إليه رضوان في الوفاء بما وعلى من النجدة فلم يف له.ونازل صهره ألبي بن أرسلان بسنجر وهو جريح من السهم الذي أصابه على نصيبين فخرج إليه ألبي محمولا.واعتذر إليه فأعتبه وأعاده إلى بلده فمات وامتنع أصحابه بسنجار رمضان وشوالا.ثم خرج إليه عم ألبي وصالح جكرمش وعاد إلى الموصل والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بمنه. استيلاء الفرنج على أفامية كان خلف بن ملاعب الكلابي في حمص وملكها منه تاج الدولة تتش فسار إلى مصر وأقام بها.ثم بعث صاحب أفامية من جهة رضوان بن تتش بطاعته إلى صاحب مصر العلوي فبعث إليها ابن ملاعب وملكها وخلع طاعة العلوية وأقام يخيف السبيل كما كان في حمص فلما ملك الإفرنج سرمين لحق به قاضيها وكان على مذهب الرافضة فكتب إلى ابن الطاهر الصائغ من أكابر الغلا ومن أصحاب رضوان وداخلهم في الفتك بابن ملاعب.ونمي الخبر إليه من أولاده فحلف له القاضي بما اطمأن إليه وتحيل مع ابن الصانع في جند من قبلهم يستأمنون إلى ابن ملاعب ويعطونه خيلهم وسلاحهم ويقيمون للجهاد معه ففعلوا وأنزلهم بربض أفامية.ثم بيته القاضي ليلا بمن معه من أهل سرمين ورفع أولئك الجند من الربض بالحبال وقتلوا ابن ملاعب في بيته وقتلوا ابنه وفر الآخر إلى أبي الحسن بن منقذ صاحب شيزر.وجاء الصانع من حلب إلى القاضي فطرده واستبد بأفامية.وكان بعض أولاد ابن ملاعب عند طغركين وولاه حماية بعض الحصون فعظم ضرره فطلب طغركين فهرب إلى الإفرنج وأغراهم بأفامية ودلهم على عورتها وعدم الأقوات فيها فحاصروها شهراً وملكوها عنوة وقتلوا القاضي والصانع وذلك سنة تسع وتسعين.وقد ذكرنا قبل أن الصانع قتله ابن بديع أيام تتش صاحب حلب إثر مهلك رضوان فالله أعلم أيهما الصحيح.ثم ملك صاحب إنطاكية من الإفرنج حصنا الإمارة بعد حصار طويل فملكه عنوة واستلحم أهله وفعل في ذريته مثل ذلك.ورحل أهل منبج وبالس وتركوهما خاويين وملكوا حيد بالأمان وطلب الفرنج.من أهل الحصون الإسلامية الجزية فأعطوهم ذلك على ضريبة فرضوها عليهم فكان على رضوان في حلب وأعمالها ثلاثون ألف دينار مما على صور سبعة آلاف وعلي ابن منقذ في شيزر أربعة آلاف وعلى حماة ألفا دينار وذلك سنة خمس وخمسمائة. استيلاء طغركين على بصرى قد تقدم لنا سنة سبع وتسعين حال تلتاش بن تتش والخطبة له بعد أخيه دقاق وخروجه من دمشق واستنجاده الفرنج.وأن الذي تولى كبر ذلك كله اسكين الحملي صاحب بصرى فسار طغركين آخر المائة الخامسة إلى بصرى وحاصرها حتى أذعنوا وضربوا له أجلاً للفرنج فعاد إلى دمشق حتى انقضى الأجل فآتوه طاعتهم وملك البلد وأحسن إليهم والله تعالى ولي التوفيق لا رب غيره. غزو طغركين وهزيمته ثم سار طغركين سنه اثنتين وخمسمائة إلى طبرية ووصل إليها ابن أخت بغدوين ملك القدس من الفرنج قاقتتلوا فانهزم المسلمون أولاً فنزل طغركين ونادى بالمسلمين فكروا وانهزم الفرنج وأسر ابن أخت بغدوين.وعرض طغركين عليه الإسلام فامتنع فقتله بيده وبعث بالأسرى إلى بغداد.ثم انعقد الصلح بين طغركين وبغدوين بعد أربع سنين.وسار بعدها طغركين إلى حصن غزة في شعبان من السنة.وكان نبذغ مولى القاضي فخر الملك ثم علي بن عمار صاحب طرابلس فعصى عليه وحاصره الإفرنج وانقطعت عنه الميرة فأرسل إلى طغركين صاحب دمشق أن يمكنه من الحصن فأرسل إليه إسرائيل من أصحابه فملك الحصن وقتل صاحبه ومولى بن عمار غيلة ليستأثر بمخلفه فانتظر طغركين دخول الشتاء وسار إلى الحصن لينظر في أمره.وكان السرداني من الإفرنج يحاصر طرابلس فلما سمع بوصول طغركين حصن الأكمة أغذ السيم إليه فهزمه وغنم سواده.ولحق طغركين بحمص ونازل السرداني غزة فاستأمنوا إليه وملكها وقبض على إسرائيل فادى به أسيراً كان لهم بدمشق منذ سبع سنين ووصل طغركين إلى دمشق.ثم قصد ملك الإفرنج رمسة من أعمال دمشق فملكها وشحنها بالأقوات والحامية فقصدها طغركين بعد أن نمي إليه الخبر بضعف الحامية الذين بها فكبسها عنوة وأسر الإفرنج الذين بها والله سبحانه وتعالى أعلم. |
انتقاض طغركين على لسلطان محمد
كان السلطان محمد بن ملك شاه قد أمر مودود بن بوشكين صاحب الموصل بالمسير لغزو الإفرنج لأن ملك القدس تابع الغارات على دمشق سنة ست وخمسمائة واستصرخ طغركين بمودود فجمع العساكر وسار سنة تسع.ولقيه طغركين بسهلة وقصدوا القدس وانتهوا إلى الإنحوانة على الأردن وجاء بغدوين فنزل قبالتهما على النهر ومعه جوسكين صاحب جيشه واقتتلوا منتصف محرم سنة عشر على بحيرة طبرية فانهزم الإفرنج وقتل منهم كثير وغرق كثير في بحيرة طبرية ونهر الأردن.ولقيتهم عساكر طرابلس وإنطاكية فاشتدوا وأقاموا بجبل قرب طبرية وحاصرهم المسلمون فيه.ثم يئسوا من الظفر به فساحوا في بلادهم واكتسحوها وخربوها ونزلوا مرج الصفر.وأذن مودود للعساكر في العود والراحة ليتهيأوا للغزو.وسلخ الشتاء ودخل دمشق آخر ربيع من سنة ليقيم عند طغركين تلك المدة.وصلى معه أول جمعة ووثب عليه باطني بعد الصلاة فطعنه ومات آخر يومه.واتهم طغركين بقتله وولى السلطان مكانه على الموصل أقسنقر البرسقي فقبض على أياز بن أبي الغازي وأبيه صاحب حصن كيفا فسار بنو أرتق إلى البرسقي وهزموه وتخلص أياز من أسره فلحق أبو الغازي أبوه بطغركين صاحب دمشق وأقام عنده.وكان مستوحشاً من السلطان محمد لإتهامه بقتل مودود فبعث إلى صاحب إنطاكية من الإفرنج وتحالفوا على المظاهرة وقصد أبو الغازي ديار بكر فظفر به قيرجان بن قراجا صاحب حمص وأسره.وجاء طغركين لإستنفاذه فحلف قيرجان ليقتلنه إن لم يرجع طغركين إلى بلاده.وانتظر وصول العساكر من بغداد تحمله فأبطأت فأجاب طغركين إلى إطلاقه.ثم بعث السلطان محمد العساكر لجهاد الإفرنج والبداءة بقتال طغركين وأبي الغازي فساروا في رمضان سنة ثمان وخمسمائة ومقدمتهم برسق بن برسق صاحب همذان وانتهوا إلى حلب وبعثوا إلى متوليها لؤلؤ الخادم ومقدم عسكرها شمس الخواص يأمرونهما بالنزول عنها.وعرضوا عليهما كتب السلطان بذلك فدافعا بالوعد واستحثا طغركين وأبا الغازي في الوصول فوصلا في العساكر وامتنعت حلب على العساكر وأظهروا العصيان فسار برسق إلى حماة وهي لطغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثاً.وسألهما الأمير قيرجان صاحب حمص الصلح وكان جميع ما يفتحه من البلاد له بأمر السلطان فانتقض الأمراء من ذلك وكسلوا عن الغزو.وسار أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص إلى إنطاكية يستنجدون صاحبها دجيل من الإفرنج.ثم توادعوا إلى انصرام الشتاء ورجع أبو الغازي إلى ماردين وطغركين إلى دمشق.ثم كان في أثر ذلك هزيمة المسلمين.واستشهد برسق وأخوه زنكي وقد تقدم خبر هذه الهزيمة في أخبار البرسقي.ثم قم السلطان محمد بغداد فوفد عليه أتابك طغركين صاحب دمشق في ذي القعدة من سنة تسع مستعيناً فأعانه وأعاده إلى بلده والله سبحانه وتعالى أعلم ، ^? ثم توفي رضوان بن تتش صاحب حلب سنة تسع وخمسمائة وقد كان قتل أخويه أبا طالب وبهرام وكان يستعين بالباطنية في أموره ويداخلهم.ولما توفي بايع مولاه لؤلؤ الخادم لابنه ألب أرسلان صبياً مغتلماً وكانت في لسانه حبسة فكان يلقب الأخرس.وكان لؤلؤ مستبداً عليه ولأول ملكه قتل أخويه وكل ملك شاه منهما شقيقه.وكانت الباطنية كثيرأ في حلب في أيام رضوان حتى خافهم ابن بديع وأعيانها فلما توفي أذن لهم ألب أرسلان في الإيقاع بهم فقبضوا على مقدمهم ابن طاهر الصائغ وجماعة من أصحابهم فقتلوهم وافترق الباقون.مهلك لؤلؤ الخادم واستيلاء أبي الغازي ثم مقتل ألب أرسلان وولاية أخيه سلطان شاه كان لؤلؤ الخادم قد استولى على قلعة حلب وولى أتابكية ألب أرسلان ابن مولاه رضوان.ثم تنكر له فقتله لؤلؤ ونصب في الملك أخاه سلطان شاه واستبد عليه.فلما كان سنة إحدى عشرة سار إلى قلعة جعبر لإجتماع بصاحبها سالم بن مالك فغدر به مماليكه الأتراك وقتلوه عند خرتبرت وأخذوا خزائنه.واعترضهم أهل حلب فاستعادوا منهم ما أخفوه.وولى أتابكية سلطان شاه ابن رضوان شمس الخواص بارقياس وعزل لشهر وولي بعده أبو المعالي بن الملحي الدمشقي.ثم عزل وصودر واضطربت الدولة وخاف أهل حلب من الإفرنج فاستدعوا أبا الغازي بن أرتق وحكموه على أنفسهم.ولم يجد فيها مالاً فصادر جماعة الخدم وصانع بمالهم الإفرنج حتى صار إلى ماردين بنية العود إلى حمايتها واستخلف عليها ابنه حسام الدين تمرتاش وانقرض ملك رضوان بن تتش من حلب والله سبحانه وتعالى أعلم. هزيمة طغركين أمام الإفرنج كان ملك الإفرنج بغدوين صاحب القدس قد توفي سنة اثنتي عشرة وقام بملكهم بعده القمص صاحب الرها الذي كان أسره جكرمس وأطلقه جاولي كما تقدم في أخبارهم.وبعث إلى طغركين في المهادنة.وكان قد سار من دمشق لغزوهم فأبى من إجابته وسار إلى طبرية فنهبها واجتمع بقواد المصريين في عسقلان وقد أمرهم صاحبهم بالرجوع إلى رأي طغركين.ثم عاد إلى دمشق وقصد الإفرنج حصناً من أعماله فاستأمن إليهم أهله وملكوه.ثم قصدوا أذرعات فبعث طغركين ابنه بوري لمدافعتهم فتنحوا عن أذرعات إلى جبل هناك.وحاصرهم بوري وجاء إليه أبو طغركين فراسلوه ليفرج عنهم فأبى طمعاً في أخذهم واستماتوا وحملوا على المسلمين حملة صادقة فهزموهم ونالوا منهم ورجع الفل إلى دمشق.وسار طغركين إلى أبي الغازي بحلب يستنجده فوعده بالنجدة وسار إلى ماردين للحشد.ورجع طغركين إلى دمشق كذلك وتواعدوا للجبال وسبق الإفرنج إلى حلب وكان بينه وبين أبي المغازي ما نذكره في موضعه من دولة بني أرتق والله سبحانه تعالى ولي التوفيق لا رب غير ، ^? ثم اجتمع الإفرنج سنة عشرين وخمسمائة ملوكهم وقمامصتهم وساروا إلى دمشق ونزلوا مرج الصفر.وبعث أتابك طغركين بالصريخ إلى تركمان بديار بكر وغيرها وخيم قبالة الإفرنج واستخلف ابنه بوري على دمشق.ثم ناجزهم الحرب آخر السنة فاشتد القتال وصرع طغركين عن فرسه فانهزم المسلمون وركب طغركين واتبعهم ومضت خيالة الإفرنج في اتباعهم وبقي رجاله التركمان في المعركة.فلما خلص إليهم رجالة الإفرنج اجتمعوا واستماتوا وحملوا على رجالة الإفرنج فقتلوهم ونهبوا معسكرهم وعادوا غانمين ظافرين إلى دمشق.ورجت خيالة الإفرنج من اتباعهم منهزمين فوجدوا معسكرهم منهوباً ورجالهم قتلى وكان ذلك من صنع القريب. وفاة طغركين وولاية ابنه يوري ثم توفي أتابك ظغركين صاحب دمشق في صفر سنة اثنتين وعشرين وكان من موالي تاج الدولة تتش وكان حسن السيرة مؤثراً للعدل محباً للجهاد ولقبه ظهير الدين.ولما توفي ملك بعده ابنه تاج الدولة بوري أكبر أولاده بعهده إليه بذلك وأقر وزير أبيه أبي علي طاهر بن سعد المزدغاني على وزارته.وكان المزدغاني يرى رأي الرافضية الإسماعيلية.وكان بهرام ابن أخي إبراهيم الاستراباذي لما قتل عمه إبراهيم ببغداد على هذا المذهب لحق بالشام وملك قلعة بانياس ثم سار إلى دمشق وأقام بها خليفة يدعو إلى مذهبه.ثم فارقها وملك القدموس وغيره من حصون الجبال وقابل البصرية والدرزة بوادي التيم من أعمال بعلبك سنة اثنتين وعشرين.وغلبهم الضحاك وقتل بهرام.وكان المزدغاني قد أقام له خليفة بدمشق يسمى أبا الوفاء فكثر اتباعه وتحكم في البلد وجاء الخبر إلى بوري بأن وزيره المزدغاني والإسماعيلية راسلوا الإفرنج بأن يملكوهم دمشق فجاء إليها وقتل المزدغاني ونادى بقتل الإسماعيلية.وبلغ الخبر إلى الإفرنج فاجتمع صاحب القدس وصاحب إنطاكية وصاحب طرابلس وسائر ملوك الإفرنج وساروا لحصار دمشق.واستصرخ تاج الملك بالعرب والتركمان وجاء الإفرنج في ذي الحجة من السنة وبثوا سراياهم للنهب ولإغارة ومضت منها سرية إلى خوارزم فبعث تاج الدولة بوري سرية من المسلمين مع شمس الخواص من أمرائه لمدافعتهم فلقوهم وظفروا بهم واستلحموهم وبلغ الخبر إلى الإفرنج فأجفلوا منهزمين وأحرقوا مخلفهم واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون والله تعالى ولي التوفيق. |
أسر تاج الملك لدبيس بن صدقة وتمكين عماد الدين زنكي منه
كان بصرخد من أرض الشام أميراً عليها فتوقي سنة خمس وعشرين وخلف سريته واستولت على القلعة وعلمت أنه لا يتم لها استيلاؤها إلا بتزويج رجل من أهل العصابة فوصف لها دبيس فكتبت إليه تستدعيه وهو على البصرة منابذاً للسلطان عندما رجع من عند سنجر فاتخذ الأدلاء.وسار إلى صرخد فضل به الدليل بنواحي دمشق ونزل على قوم من بني كلاب شرقي الغوطة فحملوه إلى تاج الملك فحبسه وبعث به إلى عماد الدين زنكي يستدعيه ويتهدده على منعه وأطلق سريج بن تاج الملوك والأمراء الذين كانوا مأسورين معه فبعث تاج الملك بدبيس إليه وأشفق على نفسه.فلما وصل إلى زنكي خالف ظنه وأحسن إليه وسد خلته وبسط أمله.وبعث فيه المسترشد أيضاً يطلبه وجاء بابن الأنباري وسمع في طريقه بإحسان زنكي إليه فرجع ثم أرسل المسترشد يشفع فيه فأطلق. وفاة تاج الملوك بوري صاحب دمشق وولاية ابنه شمس الملوك إسمعيل كان تاج المولى بوري قد ثار به جماعة من الباطنية سنة خمس وعشرين وطعنوه فأصابته جراحة واندملت. ثم انتقضت عليه في رجب من سنة ست وعشرين لأربع سنين ونصف من إمارته وولي بعده ابنه شمس الملوك إسماعيل بعهده إليه بذلك. وكان عهد بمدينة بعلبك وأعمالها لابنه الآخر شمس الدولة وقام بتدبير أمره الحاجب يوسف ابن فيروز شحنة دمشق وأحسن إلى الرعية وبسط العدل فيهم والله سبحانه وتعالى أعلم. ولما تولى شمس الملوك إسماعيل وسار أخوه محمد إلى بعلبك خرج إليها وحاصر أخاه محمداً بها وملك البلد. واعتصم محمد بالحصن وسأل الإبقاء فأبقي عليه ورجع إلى دمشق. ثم سار إلى باشاش وقد كان الإفرنج الذين بها نقضوا الصلح وأخذوا جماعة من تجار دمشق في بيروت فسار إليها طاوياً وجه مذهبه حتى وصلها في صفر سنة سبع وعشرين وقاتلها ونقب أسوارها وملكها عنوة ومثل بالإفرنج الذين بها. واعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا وملكها ورجع إلى دمشق. ثم بلغه أن المسترشد زحف إلى الموصل فطمع هو في حماة وسار آخر رمضان وملكها يوم الفطر من غده فاستأمنوا إليه وملكها واستولى على ما فيها. ثم سار إلى قلعة شيزر وبها صاحبها من بني منقذ فحاصرها وصانعه صاحبها بمال حمله إليه فأفرج عنه وسار إلى دمشق في ذي القعدة من السنة. ثم سار في محرم سنة ثمان وعشرين إلى حصن شقيق في الجبل المطل على بيروت وصيدا وبه الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم قد تغلب عليه وامتنع به. وتحاماه المسلمون والإفرنج يحتمي من كل طائفة بالأخرى فسار إليه وملكه من وقته. وعظم ذلك على الإفرنج فساروا إلى حوران وعاثوا في نواحيها فاحتشد هو واستنجد بالتركمان وسار حتى نزل قبالتهم وجهز العسكر هنالك. وخرج في البر وأناخ على طبرية وعكا فاكتسح نواحيها وامتلأت أيدي عسكره بالغنائم والسبي. وانتهى الخبر إلى الإفرنج بمكانهم من بلاد حوران فأجفلوا إلى بلادهم وعاد هو إلى دمشق وراسله الإفرنج في تجديد الهدنة فهادنهم. مقتل شمس الملوك وولاية أخيه شهاب الدين محمود كان شمس الملوك سيء السيرة كثير الظلم والعدوان على رعيته مرهف الحد لأهله وأصحابه حتى إنه وثب عليه بعض مماليك جده سنة سبع وعشرين وعلاه بالسيف ليقتله فأخذ وضرب فأقر على جماعة داخلوه فقتلهم وقتل معهم أخاه سونج فتنكر الناس له وأشيع عنه بأنه كاتب عماد الدين زنكي ليملكه دمشق واستحثه في الوصول لئلا يسلم البلد إلى الإفرنج فسار زنكي فصدق الناس الإشاعة وانتفض أصحاب أبيه لذلك وشكرا لأمه فأشفقت ثم تقدمت إلى غلمانه بقتله فقتلوه في ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وقيل إنه اتهم أمه بالحاجب يوسف بن فيروز فاعتزم على قتلها فهرب يوسف وقتلته أمه. ولما قتل ولي أخوه شهاب الدين محمود من بعده ووصل أتابك زنكي بعد مقتله فحاصر دمشق من ميدان الحصار وجدوا في مدافعته والإمتناع عليه. وقام في ذلك معين الدين أنز مملوك جدي طغركين مقاماً محموداً وجلى في المدافعة والحصار. ثم وصل رسول المسترشد أبو بكر بن بهثر الجزري إلى أتابك زنكي يأمره بمسالمة صاحب دمشق الملك ألب أرسلان شهاب الدين محمود وصلحه معه فرحل عن دمشق |
استيلاء شهاب الدين محمود على حمص
كانت حمص لقيرجان بن قراجا ولولده من بعده والموالي بها من قبلهما وطالبهم عماد الدين زنكي في تسليمها وضايقهم في نواحيها فراسلوا شهاب الدين صاحب دمشق في أن يملكها ويعوضهم عنها بتدمر فأجاب واستولى على حمص وسار إليها سنة ثلاثين وأقطعها لمملوك جده معين الدين أنز وأنزل معه حامية من عسكره ورجع إلى دمشق واستأذنه الحاجب يوسف بن فيروز في العود من تدمر إلى دمشق وقد كان هرب إليها كما قدمناه. وكان جماعة من الموالي منحرفين عنه بسبب ما تقدم في مقتل سونج فنكروا ذلك فلاطفهم ابن فيروز واسترضاهم وحلف لهم أنه لا يتولى شيئاً من الأمور. ولما دخل رجع إلى حاله فوثبوا عليه وقتلوه وخيموا بظاهر دمشق واشتطوا في الطلب فلم يسعفوا بكلمة فلحقوا بشمس الدولة محمد بن تاج الملوك في بعلبك وبثوا السرايا إلى دمشق فعاثت في نواحيها حتى أسعفهم شهاب الدين بكل ما طلبوه فرجعوا إلى ظاهر دمشق وخرج لهم شهاب الدين وتحالفوا ودخلوا إلى البلد. وولى مرواش كبيرهم على العساكر وجعل إليه الحل والعقد في دولته والله اعلم. استيلاء عماد الدين زنكي على حمص وغيرها من أعمال دمشق ثم سار أتابك زنكي إلي حمص في شعبان سنة إحدى وثلاثين وقدم إليه حاجبه صلاح الدين الباغيسياني وهو أكبر أمرائه مخاطباً وإليها معين الدين أنز في تسليمها فلم يفعل. وحاصرها فامتنعت عليه فرحل عنها آخر شوال من السنة. ثم سار سنة اثنتين وثلاثين إلى نواحي بعلبك فملك حصن المحولي على الأمان وهو لصاحب دمشق. ثم سار إلى حمص وحاصرها وعاد ملك الروم إلى حلب فاستدعى الفرنج وملك كثيراً من الحصون مثل عين زربة وتل حمدون وحاصر إنطاكية ثم رجع وأفرج أتايك زنكي حلال ذلك عن حمص. ثم عود منازلتها بعد مسير الروم وبعث إلى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب إليه أمه مرد خاتون ابنة جاولي طمعاً في الاستيلاء على دمشق فزوجها له ولم يظفر بما أمنه من دمشق. وسلموا له حمص وقلعتها وحملت إليه خاتون في رمضان من السنة والله أعلم. مقتل شهاب الدين محمود وولاية أخيه محمد لما قتل شهاب الدين محمود في شوال سنه ثلاث وثلاثين اغتاله ثلاث من مواليه في مضجعه بخلوته وهربوا فنجا واحد منهم وأصيب الآخران كتب معين الدين أنز إلى أخيه شمس الدين محمد بن بوري صاحب بعلبك بالخير فسارع ودخل دمشق وتبعه الجند والأعيان وفوض أمر دولته إلى معين الدين أنز مملوك جده وأقطعه بعلبك واستقامت أموره. استيلاء زنكي على بعلبك وحصاره دمشق ولما قتل شهاب الدين محمود وبلغ خبره إلى أمه خاتون زوجة أتابك زنكي بحلب عظم جزعها عليه وأرسلت إلى زنكي بالخبر وكان بالجزيرة وسألت منه الطلب بثأر ابنها فسار إلى دمشق واستعدوا للحصار فعدل إلى بعلبك. وكانت لمعين الدين أنز كما قلناه وكان أتابك زنكي دس إليه الأموال ليمكنه من دمشق فلم يفعل فسار إلى بلده بعلبك وجد في حربها ونصب عليها المجانيق حتى استأمنوا إليه وملكها في ذي الحجة آخر سنة ثلاث وثلاثين. واعتصم جماعة من الجند بقلعتها ثم استأمنوا فقتلهم وأرهب الناس بهم. ثم سار إلى دمشق وبعث إلى صاحبها في تسليمها والنزوك عنها على أن يعوضه عنها فلم يجب إلى ذلك فزحف إليها ونزل داريا منتصف ربيع الأول سنة أربع وثلاثين. وبرزت إليه عساكر دمشق فظفر بهم وهزمهم ونزل المصلى وقاتلهم فهزمهم ثانياً. ثم أمسك عن قتالهم عشرة أيام وتابع الرسل إليه بأن يعوضه عن دمشق ببعلبك أو حمص أو ما يختاره فمنعه أصحابه فعاد زنكي إلى القتال واشتد في الحصار والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق. وفاة جمال الدين محمد بن بوري وولاية ابنه مجير الدين أنز ثم توفي جمال الدين محمد بن بوري صاحب دمشق رابع شعبان سنة أربع وثلاثين وزنكي محاصر بها وهو ومعه في مراوضة الصلح وجمع زنكي فيما عساه أن يقع بين الأمراء من الخلاف فاشتد في الزحف فما وهنوا لذلك وولوا من بعد جمال الدين محمداً ابنه مجير الدين أنز وأقام بتربيته وتدبير دولته معين الدين أنز مدبر دولته. وأرسل إلى الإفرنج يستنجدهم على مدافعة زنكي على أن يحاصر قاشاش فإذا فتحها أعطاهم إياها فأجابوا إلى ذلك حذراً من استطالة زنكي بملك دمشق فسار زنكي للقائهم قبل اتصالهم بعسكر دمشق ونزل حوران في رمضان من السنة فخام الإفرنج عن لقائه وأقاموا ببلادهم فعاد زنكي إلى حصار دمشق في شوال من السنة ثم أحرق قرى المرج والغوطة ورحل عائداً إلى بلده. ثم وصل الإفرنج إلى دمشق بعد رحيله فسار معهم معين الدين أنز إلى قاشاش من ولاية زنكي ليفتحها ويعطيها للإفرنج كما عاهدهم عليه وقد كان واليها أغار على مدينه صور ولقيه في طريقه صاحب إنطاكية وهو قاصد إلى دمشق لانجاد صاحبها علي زنكي فقتل الوالي ومن معه من العسكر ولجأ الباقون إلى قاشاش وجاء معين الدين أنز أثر ذلك في العساكر فملكها وسلمها للإفرنج. وبلغ الخبر إلى أتابك زنكي فسار إلى دمشق بعد أن فرق سراياه وبعوثه على حوران وأعمال دمشق وسار هو متجرداً إليها فصبحها وخرج العسكر لقتاله فقاتلهم عامة يومه. ثم تأخر إلى مرج راهط وانتظر بعوثه حتى وصلوا إليه وقد امتلأت أيديهم بالغنائم ورحل عائداً إلى بلده. كان الإفرنج منذ ملكوا سواحل الشام ومدنه تسير إليهم أمم الإفرنج من كل ناحية من بلادهم مدداً لهم على المسلمين لما يرونه من تفرد هؤلاء بالشام بين عدوهم. وسار في سنة ثلاث وأربعين ملك الألمان من أمراء الإفرنج من بلاده في جموع عظيمة قاصداً بلاد الإسلام لا يشك في الغلب والاستيلاء لكثرة عساكره وتوفر عدده وأمواله. فلما وصل الشام اجتمع عساكر الإفرنج الذين له ممتثلين أمره فأمرهم بالمسير معه إلى دمشق فساروا لذلك سنة ثلاث وأربعين وحاصروها فقام معين الدين أنز في مدافعتهم المقام المحمود. ثم قاتلهم الإفرنج سادس ربيع الأول من السنة فنالوا من المسلمين بعد الشدة والمصابرة واستشهد ذلك اليوم الفقيه حجة الدين يوسف العندلاوي المغربي وكان عالماً زاهداً. وسأله معين الدين يومئذ في الرجوع لضعفه وسنه فقال له قد بعت واشترى مني فلا أقيل ولا أستقيل يشير إلى آية الجهاد وتقدم حتى استشهد عند أسرت على نصف فرسخ من دمشق. واستشهد معه خلق وقوي الإفرنج ونزل ملك الألمان الميدان الأخضر. وكان عماد الدين زنكي صاحب الموصل قد توفي سنة إحدى وأربعين وولي ابنه سيف الدين غازي الموصل وابنه نور الدين محمود حلب فبعث معين الدين أنز إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده فجاء لانجاده ومعه أخوه نور الدين وانتهوا إلى مدينة حمص. وبعث إلى الإفرنج يتهددهم فاضطروا إلى قتاله وانقسمت مؤنتهم بين الفريقين وأرسل معين الدين إلى الألمان يتهددهم بتسليم البلد إلى ملك المشرق يعني صاحب الموصل وأرسل إلى فرنج الشام يحذرهم من استيلاء ملك الألمان على دمشق فإنه لا يبقى لكم معه مقام في الشام. ووعدهم بحصن قاشاش فاجتمعوا إلى ملك الألمان وخوفوه من صاحب الموصل أن يملك دمشق فرحل عن البلد وأعطاهم معين الدين قلعة قاشاش وعاد ملك الألمان إلى بلاده على البحر المحيط في أقصى الشمال والمغرب. ثم توفي معين الدين أنز مدبر دولة أتق والمتغلب عليه سنة أربع وأربعين لسنة من حصار ملك الألمان والله أعلم. استيلاء نوري الدين محمود العادل على دمشق وإنقراض بني تتش من الشام كان سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل قد توفي سنة أربع وأربعين وملك أخوه قطب الدين وانفرد أخوه الآخر نور الدين محمود بحلب وما يليها. وتجرد لطلب دمشق ولجهاد الإفرنج. واتفق أن الإفرنج سنة ثمان وأربعين ملكوا عسقلان من يد خلفاء العلوية لضعفهم كما مر في أخبار دولتهم. ولم يجد نور الدين سبيلا إلى ارتجاعها منهم لاعتراض دمشق بينه وبينهم. ثم طمعوا في ملك دمشق بعد عسقلان. وكان أهل دمشق يؤثون إليهم الضريبة فيدخلون لقبضها ويتحكمون فيهم ويطلقون من أسرى الإفرنج الذين بها كل من أراد الرجوع إلى أهله فخشي نور الدين عليها من الإفرنج ورأى أنه إن قصدها استنصر صاحبها عليه بالإفرنج فراسل صاحب مجير الدين واستماله بالهدايا حتى وثق به فكان يغريه بأمرائه الذين يجد بهم القوة على المدافعة واحداً واحداً ويقول له إن فلانا كاتبني بتسليم دمشق فيقتله مجير الدين حتى كان آخرهم عطاء بن حافظ السلمي الخادم وكان شديداً في مدافعة نور الدين فأرسل إلى مجير الدين بمثلها فيه فقبض عليه وقتله. فسار حينئذ نور الدين إلى دمشق بعد أن كاتب الأحداث الذين بها واستمالهم فوعدوه وأرسل مجير الدين إلى الإفرنج يستنجده من نور الدين على أن يعطيهم بعلبك فأجابوه وشرعوا في الحشد وسبقهم نور الدين إلى دمشق فثار الأحداث الذين كاتبهم وفتحوا له الباب الشرقي فدخل منه وملكها. واعتصم مجير الدين بالقلعة فراسله في النزول عنها وعوضه مدينة حمص فسار إليها ثم عوضه عن حمص بالس فلم يرضها. وسار إلى بغداد واختط بها داراً قرب النظامية وتوفي بها. واستولى نور الدين على دمشق وأعمالها واستضافها إلى ملكه حتى حلب. وانقرض ملك بني تتش من الشام والبلاد الفارسية أجمع والبقاء لله وحده والله مالك الملك لا رب غيره سبحانه وتعالى. |
الخبر عن دولة قطلمش وبنيه ملوك قونية
كان قطلمش هذا من عظماء أهل هذا البيت ونسبه مهم مختلف فقيل قطلمش بن بيقو وابن الأثير تارة يقول قطلمش ابن عم طغرلبك وتارة يقول قطلمش بن إسرائيل من سلجوق ولعله بيان ذلك الإجمال. ولما انتشر السلجوقية في البلاد طالبين للملك دخل طلمش هذا إلى بلاد الروم وملك قونية وأقصرا ونواحيهما وبعثه السلطان طغرلبك بالعساكر مع قريش بن بدران صاحب الموصل في طلب دبيس بن مزيد عندما أظهر الدولة العلوية في الحلة وأعمالها فهزمهم دبيس والبساسيري كما تقدم في أخبارهم. ثم عصى على السلطان ألب أرسلان بعد طغرلبك وقصد الري ليملكه وقاتله ألب أرسلان سنة ست وخمسين فانهزم عسكر قطلمش ووجد بين القتلى فتجمع له ألب أرسلان وقعد للعزاء فيه كما تقدم في أخبارهم. وقام بأمره ابنه سليمان وملك قونية وأقصرا وغيرهما من الولاية التي كانت بيد أبيه وافتتح أنطاكيه من يد الروم سنة سبع وسبعين وأربعمائة وقد كانوا ملكوها منذ خمس وخمسين وأربعمائة فأخذها منهم وأضافها إلى ملكه. وقد تقم خبر ملكه إياها في دولتهم وكان لمسلم بن قريش صاحب الموصل ضريبة على الروم بإنطاكية فطالب بها سليمان بن قطلمش فامتعض لذلك وأنف منه. فجمع مسلم العرب والتركمان لحصار إنطاكية ومعه جق أمير التركمان والتقيا سنة ثمان وسبعين. وانحاز جق إلى سليمان فانهزم العرب وسار سليمان بن قطلمش لحصار حلب فامتنعت عليه وسألوه الامهال حتى يكاتب السلطان ملك شاه. ودسوا إلى تاج الدولة تتش صاحب دمشق يستدعونه فأغذ السير واعترضه سليمان بن قطلمش على غير تعبئة فانهزم وطعن نفسه بخنجر فمات وغنم تتش معسكره. وملك بعده ابنه قليج أرسلان أقام في سلطانه. ولما زحف الإفرنج إلى سواحل الشام سنة تسعين وأربعمائة جعلوا طريقهم على القسطنطينية فمنعهم من ذلك ملك الروم حتى شرط عليهم أن يعطوه إنطاكية إذا ملكوها فأجابوا لذلك وعبروا خليج القسطنطينية ومروا ببلاد قليج أرسلان بن سليمان بن قطلمش فلقيهم في جموعه قريباً من قونية فهزموه وانتهوا إلى بلاد ابن ليون الأرمني فمروا منها إلى إنطاكية وبها باغيسيان من أمراء السلجوقية فاستعد للحصار وأمر بحفر الخندق فعمل فيه المسلمون يوماً ثم عمل فيه النصارى الذين كانوا بالبلد من الغد. فلما جاءوا للدخول منعهم وقال أنا لكم في مخلفكم حتى ينصرف هؤلاء الإفرنج. وزحفوا إليه فحاصروه تسعة أشهر. ثم عدا بعض الحامية من سور البلد عليهم فأدخلوهم من بعض مسارب الوادي وأصبحوا في البلد فاستباحوه وركب باغيسيان للصلح فهرب ولقيه حطاب من الأرمن فجاء برأسه إلى الإفرنج وولى عليها بيشمند من زعماء الإفرنج. وكان صاحب حلب وصاحب دمشق قد عزما على النفير إلى إنطاكية لمدافعتهم فكاتبهم الإفرنج بالمسالمة وانهم لا يعرضون لغير إنطاكية فأوهن ذلك من عزائمهم وأقصروا عن انجاد باغيسيان. وكان التركمان قد انتشروا في نواحي العراق وكان كمستكين بن طبلق المعروف أبوه بالوانشمند ومعناه المعلم عندهم قد ملك سيواس من بلاد الروم مما يلي إنطاكية. وكان بملطية مما يحاصرها متغلب آخر من التركمان وبينه وبين الوانشمند حروب فاستنجد صاحب ملطية عليه الإفرنج وجاء بيفل من إنطاكية سنة ثلاث وتسعين في خمسة آلاف فلقيه ابن الوانشمند وهزمه وأخذه أسيراً. وجاء الإفرنج لتخليصه فنازلوا قلعة أنكورية وهي أنقرة فأخذوها عنوة. ثم ساروا إلى أخرى فيها إسماعيل بن الوانشمند وحاصروها فجمع ابن الوانشمند وقاتلهم وأكمن لهم وكانوا في عدد كثير. فلما قاتلهم استطرد لهم حتى خرج عليهم الكمين وكر عليهم فلم يفلت منهم أحد. وسار إلى ملطية فملكها وأسر صاحبها وجاءه الإفرنج من إنطاكية فهزمهم. استيلاء قليج أرسلان على الموصل كانت الموصل وديار بكر والجزيرة بيد جكرمش من قواد السلجوقية فمنع الحمل وهم بالانتقاض فأقطع السلطان الموصل وما معها لجاولي بن سكاوو والكل من قوادهم وأمرهم بالمسير لقتال الإفرنج. فسار جاولي وبلغ الخبر لجكرمش فسار من الموصل إلى إربل وتعاقد مع أبي الهيجاء بن موشك الكردي الهدباي صاحب أربل وانتهى إلى البواريج فعبر إليه جكرمش دجلة وقاتله فانهزمت عساكر جكرمش وبقي جكرمش واقفاً لفالج كان به فأسره جاولي ولحق الفل بالموصل فنصبوا مكانه ابنه زنكي صبياً صغيراً وأقام بأمره غزغلي مولى أبيه وكانت القلعة بيده وفرق الأموال والخيول. واستعد لمدافعة جاولي وكاتب صدقة بن مزيد والبرسقي شحنة بغداد وقليج أرسلان صاحب بلاد الروم يستنجدهم ويعد كلاً منهم بملك الموصل إذا دافعوا عنه جاولي فأعرض صدقة عنه ولم يحتفل بذلك. ثم سار جاولي إلى الموصل وحاصرها وعرض جكرمش للقتل أو يسلموا إليه البلد فامتنعوا وأصبح جكرمش في بعض أيام حصارها وسمع جاولي بأن قليج أرسلان سار في عساكره إلى نصيبين فأفرج عن الموصل وسار إلى سنجار وسبق البرسقي إليها بعد رحيل جاولي وأرسل إلى أهلها فلم يجيبوه بشيء. وعاد إلى بغداد واستدعى رضوان صاحب دمشق جاولي سكاوو لمدافعة الإفرنج عنه فساروا إليه. وخرج من الموصل عسكر جكرمش إلى قليج أرسلان بنصيبين فتحالفوا معه وجاءوا به إلى الموصل فملكها آخر رجب من سنة خمسمائة. وخرج إليه ابن جكرمش وأصحابه وملك القلعة من غزغلي وجلس على التخت وخطب لنفسه بعد الخليفة وأحسن إلى العسكر وسار في الناس بالعدل. وكان في جملته إبراهيم بن نيال التركماني صاحب آمد ومحمد بن جق التركماني صاحب حصن زياد وهو خرت برت. وكان إبراهيم بن نيال قد ولى تتش على آمد حين ولي ديار بكر وكانت بيده. وأما خرت برت فكانت بيد القلادروس ترجمان الروم والرها وإنطاكية من أعماله فملك سليمان بن قطلمش إنطاكية. وملك فخر الدولة بن جهير ديار بكر فضت القلادروس وملك جق خرت برت من يده. وأسلم القلادروس على يد السلطان ملك شاه وأمره على الرها فأقام بها حتى مات. وملكها جق هي وما جاورها من الحصون أورثها ابنه محمداً بعد موته والله تعالى ولي التوفيق. الحرب بين قليج أرسلان وبين الإفرنج كان سمند صاحب إنطاكية من الإفرنج قد وقعت بينه وبين ملك الروم بالقسطنطينية وحشة واستحكمت. وسار سمند فنهب بلاد الروم وعزم على قصد إنطاكية فاستنجد ملك الروم بقليج أرسلان فأمده بعساكره. وسار مع ذلك الروم فهزموا الإفرنج وأسروهم ورجع الفل إلى بلادهم بالشام فاعتزموا على قصد قليج أرسلان بالجزيرة فأتاهم خبر مقتله فأقصروا والله |
مقتل قليج أرسلان وولاية ابنه مسعود
وقد تقدم لنا استيلاء قليج أرسلان على الموصل وديار بكر وأعمالها وجلوسه على التخت وأن جاولي سكاوو سار إلى سنجار ثم سار منها إلى الرحبة. وكان قليج أرسلان خب له بها صاحبها محمد بن السباق من بني شيبان بعد مهلك دقاق وانتقاضه على أبيه. فلما حاصرها جاولي بعث إليه رضوان بن تتش صاحب حلب في النجدة على الإفراج لما ساروا إلى بلاده فوعده لانقضاء الحصار. وجاء رضوان فحضر عنده واشتد الحصار على أهل الرحبة وغدر بعضهم فأدخل أصحاب جاولي ليلا ونهبوها إلى الظهر. وخرج إليه صاحبها محمد الشيباني فأطاعه ورجع عنه. وبلغ الخبر إلى قليج أرسلان فسار من الموصل لحرب جاولي واستخلف عليها ابنه ملك شاه صبياً صغيراً مع أمير يدبره. فلما انتهى إلى الخابور هرب عنه إبراهيم بن نيال صاحب آمد ولحق ببلده. واعتزم قليج أرسلان على المطاولة واستدعى عسكره الذين انجدهم ملك الروم على الإفرنج فجاءوا إليه واغتنم جاولي قلة عسكره فلقيه آخر ذي القعدة من السنة واشتدت الحرب. وحمل قليج أرسلان على جاولي بنفسه. وصرع صاحب الراية وضرب جاولي بسيفه. ثم حمل أصحاب جاولي عليه فهزموه وألقى نفسه في الخابور فغرق. وسار جاولي إلى الموصل فملكها وأعاد خطبة السلطان محمد. وبعث إليه ملك شاه بن قليج أرسلان وولى مكان قليج أرسلان في قونية وأقصرا وسائر بلاد الروم ابنه مسعود واستقام له ملكها. استيلاء مسعود بن قليج أرسلان على ملطية وأعمالها كانت ملطية وأعمالها وسيواس لابن الوانشمند من التركمان كما مر وكانت بينه وبينهم حروب وهلك كمستكين بن الوانشمند وولي مكانه ابنه محمد. واتصلت حروبه مع الإفرنج كما كان أبوه معهم. ثم هلك سنة سبع وثلاثين فاستولى مسعود بن قليج أرسلان على الكثير منها وبقي الباقي بيد أخيه باغي أرسلان بن محمد. وفاة مسعود بليج وولاية ابنه قليج الآن قرسن ثم توفي مسعود بن قليج أرسلان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وملك مكانه ابنه قليج أرسلان فكانت بينه وبين باغي أرسلان بن الوانشمند وصاحب ملطية وما جاورها من ملك الروم حروب بسبب أن قليج أرسلان تزوج بنت الملك طليق بن علي بن أبي القاسم فزوجها إليه بجهاز عظيم وأغار عليه باغي أرسلان صاحب ملطية فأخذها بما معها وزوجها بابن أخيه في النون بن محمد بن الوانشمند أن أشار عليها بالردة لينفسخ النكاح. ثم عامت إلى الإسلام وزوجها بابن أخيه فجمع قليج أرسلان عساكره وسار إلى باغي أرسلان بن الوانشمند فهزمه باغي أرسلان واستنجد ملك الروم فأمده بعسكر. وسار باغي أرسلان خلال ذلك. وولي إبراهيم ابن أخيه محمد وملك قليج أرسلان بعض بلاده واستولى أخوه ذو النون بن محمد بن الوانشمند على قيسارية. وانفرد شاه بن مسعود أخو قليج أرسلان بمدينة أنكورية وهي أنقرة واستقرت الحال على ذلك. ثم وقعت الفتنة بين قليج أرسلان وبين نور الدين محمود بن زنكي وتراجعوا للحرب. وكتب الصالح بن رزيك المتغلب على العلوي بمصر إلى قليج أرسلان ينهاه عن ذلك. ثم هلك إبراهيم بن محمد بن الوانشمند وملك مكانه أخوه ذو النون وانتقض قليج أرسلان عليه وملك ملطية من يده والله تعالى أعلم. مسير نور الدين العادل إلى بلاد قليج أرسلان ثم سار نور الدين محمود بن زنكي سنة ثمان وستين إلى ولاية قليج أرسلان بن مسعود ببلاد الروم وهي ملطية وسيواس وأقصرا فجاءه قليج أرسلان متنصلا معتذراً فكرمه وثنى عزمه عن قصد بلاده. ثم أرسل إليه شفيعاً في ذي النون بن الوانشمند يرد عليه بلاده فلم يشفعه فسار إليه. وملك مرعش ونهسنا وما بينهما في ذي القعدة من السنة. وبعث عسكراً إلى سيواس فملكوها فمال قليج أرسلان إلى الصلح. وبعث إلى نور الدين يستعطفه وقد بلغه عن الفرنج ما أزعجه فأجابه على أن يمده بالعساكر للغزو وعلى أن يبقي سيواس بيد نواب نور الدين وهي لذي النون بن الوانشمند. ثم جاءه كتاب الخليفة بإقطاع البلاد ومن جملتها بلاد قليج أرسلان وخلاط وديار بكر. ولما مات نور الدين عادت سيواس لقليج أرسلان وطرد عنها نواب في النون. مسير صلاح الدين لحرب قليج أرسلان كان قليج أرسلان بن مسعود صاحب بلاد الروم قد زوج بنته من نور الدين محمود بن قليج أرسلان بن داود بن سقمان صاحب حصن كيفا وغيره من ديار بكر وأعطاه عدة حصون فلم يحسن عشرتها وتزوج عليها وهجر مضجعها وامتعض أبوها قليج أرسلان لذلك. واعتزم على غزو نور الدين في ديار بكر وأخذ بلاط فاستجار نور الدين بصلاح الدين بن أيوب واستشفع به فلم يشفعه. وتعلل بطلب البلاد التي أعطاه عند المصاهرة فامتعض صلاح الدين لذلك. وكان يحارب الإفرنج بالشام فصالحهم وسار في عساكره إلى بلاد الروم. وكان الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بالشام فعدل عنه ومر على تل باشر إلى زغبان ولقي بها نور الدين محمد صاحب كيفا. وبعث إليه قليج أرسلان رسولاً يقرر غدره بابنته فاغتاظ على الرسول وتوعده بأخذ بلادهم فتلطف له الرسول. وخلص معه نجيا فقبح له ما ارتكبه من أجل هذه المرأة من ترك الغزو ومصالحة العدو وجمع العساكر وخساره وأن بنت قليج أرسلان لو بعثت إليه بعد وفاة أبيها تسأل منه النصفة بينها وبين زوجها لكان أحق ما تقصده فامتنعت. وعلم أن على نفسه الحق فأمر الرسول أن يصلح بينهم ويكون هو عوناً له على ذلك فداخلهم ذلك الرسول في الصلح على أن يطلق هذه المرأة بعد سنة ويعقد بينهم ذلك. ورجع كل إلى بلده ووفى نور الدين بما عقد على نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم. |
قسمه قليج أرسلان أعماله بين ولده وتغلبهم عليه
ثم قسم قليج أرسلان سنة سبع وثمانين أعماله بين ولده فأعطى قونية بأعمالها لغياث الدين كسنجر واقصرا وسيواس لقطب الدين ودوقاط لركن الدين سليمان وأنقرة وهي أنكورية لمحيي الدين وملطية لعز الدين قيصر شاه و " " ولمغيث الدين وقيسارية لنور الدين محمود وأعطى تكسار واماسا لابني أخيه. وتغلب عليه ابنه قطب الدين وحمله على انتزاع ملطية من يد قيصر شاه فانتزعها ولحق قيصر شاه بصلاح الدين بن أيوب مستشفعاً به فأكرمه وزوجه ابنة أخيه العادل. وشفع له عند أبيه وأخيه فشفعوه وردوا عليه ملطية. ثم زاد تغلب ركن الدين وحجر عليه وقتل دائبة في مدينته " " وهو اختيار الدين حسن فخرج سائر بنيه عن طاعته وأخذ قطب الدين أباه وسار به إلى قيسارية ليملكها من أخيه فهرب قليج أرسلان ودخل قيسارية. وعاد قطب الدين إلى قونية واقصرا فملكهما وبقي قليج أرسلان ينتقل بين ولده من واحد إلى آخر وهم معرضون عنه حتى استنجد بغياث الدين كسنجر صاحب منهم فأنجده وسار معه إلى قونية فملكها. ثم سار إلى أقصرا وحاصرها ثم مرض قليج أرسلان وعاد إلى قونية فتوفي فيها. وقيل إنما اختلف ولده عليه لأنه ندم على قسمة أعماله بينهم وأراد إيثار ابنه قطب الدين بجميعها وانتقضوا عليه لذلك وخرجوا عن طاعته وبقي يتردد بينهم وقصد كسنجر وصاحب قونية فأطاعه وخرج معه بالعساكر لحصار محمود أخيه في قيسارية وتوفي قليج أرسلان وهو محاصر لقيسارية ورجع غياث الدين إلى قونية. وفاة قليج أرسلان وولاية ابنه غياث الدين ثم توفي قليج أرسلان بمدينة قونية أو على قيسارية كما مر من الخلاف منتصف ثمان وثمانين لسبع وعشرين سنة من ملكه وكان مهيباً عادلاً حسن السياسة كثير الجهاد. ولما توفي واستقل ابنه غياث الدين كسنجر بقونية وما إليها. وكان قطب الدين أخوه صاحب اقصرا وسيواس. وكان كلما سار من إحداهما إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية وبها أخوه نور الدين محمود يتلقاه بظاهرها حتى استنام إليه مدة فغدر به وقتله وامتنع أصحابه بقيسارية. وكان كبيرهم حسن فقتله مع أخيه ثم أطاعوه وأمكنوه من البلد ومات قطب الدين إثر ذلك. ولما توفي قليج أرسلان وولي بعده في قونية ابنه غياث الدين كسنجر وبنوه يومئذ على حالتهم في ولا يهم التي قسمها بينهم أبوهم. وملك قطب الدين منهم قيسار بعد أن غدر بأخيه محمود صاحبها. ومات قطب الدين إثر ذلك فسار ركن الدين سليماً صاحب دوقاط إلى التغلب على أعمال سلفه ببلاد الروم فسار إلى سيواس واقصرا وقيسارية أعمال قطب الدين فملكها. ثم سار إلى قونية فحاصر بها غياث الدين وملكها ولحق غياث الدين بالشام كما يأتي خبره. ثم سار إلى نكسار وأماسا فملكهما وسار إلى ملطية سنة سبع وتسعين فملكها من يد معز الدين قيصر شاه ولحق معز الدين بالعادل أبي بكر بن أيوب. ثم سار إلى أرزن الروم وكانت لولد الملك محمد بن حليق من بيت ملك قديم وخرج إليه صاحبها ليقرر معه صلحاً فقبض عليه وملك البلد فاجتمع لركن الدين سائر أعمال إخوته ما عدا أنقرة لحصانتها فجمر عليها الكتائب وحاصرها ثلاثاً. ثم لحق من قتل أخاه وملك البلد سنة إحدى وستمائة وتوفي هو عقب ذلك والله تعالى أعلم. وفاة ركن الدين وولاية ابنه قليج أرسلان ثم توفي ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان أوائل ذي القعدة من تمام سنة إحدى وستمائة وولي بعده ابنه قليج أرسلان فلم تطل مدته. وكان ركن الدين ملكاً حازماً شديداً على استيلاء غياث الدين كسنجر على بلاد الروم من أخيه ركن الدين كان غياث الدين كسنجر بن قليج أرسلان لما ملك أخوه ركن الدين قرنية من يده لحق بحلب وفيها الظاهر غازي بن صلاح الدين فلم يجد عنده قبولاً فسار إلى القسطنطينية وأكرمه ملك الروم وأصهر إليه بعض البطارقة في ابنته. وكانت له قرية حصينة في أعمال قسطنطينية فلما استولى الإفرنج على القسطنطينية سنة ستمائة لحق غياث الدين بقلعة صهره البطريق. وبلغ إليه خبر أخيه تلك السنة وبعث إليه بعض الأمراء من قونية يستدعيه للملك فسار إليه واجتمعوا على حصار قونية. وخرجت إليهم العساكر منها فهزموه ولحق ببعض البلاد فتحصن بها. ثم قام أهل اقصرا بدعوته وطردوا واليهم وبلغ الخبر إلى أهل قونية فثاروا بقليج أرسلان بن ركن الدين وقبضوا عليه واستدعوا غياث الدين فملكوه وأمكنوه من ابن أخيه. وكان أخوه قيصر شاه قد لحق بصهره العادل أبي بكر بن أيوب فاستنصر به على أخيه ركن الدين عندما ملك ملطية من يده فأمر له بالرها. واستفحل ملك غياث الدين وقصده علي بن يوسف صاحب شميشاط ونظام الدين بن أرسلان صاحب خرت برت وغيرهما. وعظم شأنه إلى أن قتله أشكر صاحب قسطنطينية سنة سبع وستمائة والله تعالى ولي التوفيق. مقتل غياث الدين كسنجر وولاية ابنه كيكاوس ولما قتل غياث الدين كسنجر وولي بعده ابنه كيكاوس ولقبوه الغالب بالله. وكان عمه طغرل شاه بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم طلب الأمر لنفسه وسار إلى قتال كيكاوس ابن أخيه وحاصره في سيواس وقصد أخوه كيقباد بن كسنجر بلد أنكورية من أعماله فاستولى عليها. وبعث كيكاوس صريخه إلى الملك العادل صاحب دمشق فانفذ إليه العساكر وأفرج طغرل عن سيواس قبل وصولهم فسار كيكاوس إلى أنكورية وملكها من يد أخيه كيقباد وحبسه وقتل أمراءه وسار إلى عمه طغرل في أرزن الروم فظفر به سنة عشر وقتله وملك بلاده. مسير كيكاوس إلى حلب واستيلاؤه على بعض أعمالها ثم هزيمته وارتجاع البلد من يده كان الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب قد توفي وملك بعده ابنه طفلاً صغيراً وكان بعض أهل حلب قد لحق بكيكاوس فراراً من الظاهر وأغراه بملك حلب وهون عليه أمرها وملك ما بعدها. ولما مات الظاهر قوي عزمه وطمعه في ذلك واستدعى الأفضل بن صلاح الدين من شميشاط للمسير معه على أن تكون الخطبة لكيكاوس والولاية للأفضل في جميع ما يفتحونه من حلب وأعمالها. فإذا فتحوا بلاد الجزيرة مثل حران والرها من يد الأشرف لكون ولايتها لكيكاوس وتعاقدوا على ذلك. وساروا سنة عشرة فملكوا قلعة زغبان وتسلمها الأفضل على الشرط ثم ملكوا قلعة تل باشي فاستأثر بها كيكاوس وارتاب الأفضل. ثم بعث ابن الظاهر صاحب حلب إلى الأشرف بن العادل صاحب الجزيرة وخلاط يستنجده على أن يخطب له بحلب وينقش اسمه على السكة فسار لإنجاده ومعه احياء طيء من العرب فنزل بظاهر حلب. وسار كيكاوس والأفضل إلى منبج ولقيت طليعتهم طليعة الظاهر فاقتتلوا. وعاد عسكر كيكاوس منهزمين إليه فأجفل وسار الأشرف إلى زغبان وتل باشر وبهما أصحاب كيكاوس فغلبهم عليهما. وأطلقهم إلى صاحبهم فأحرقهم بالنار وسلم الأشرف الحصنين إلى شهاب الدين بن الظاهر صاحب حلب وبلغه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل بمصر فرجع عن قصد بلاد الروم. وفاة كيكاوس وملك أخيه كيقباد كان كيكاوس بعد الواقعة بينه وبين الأشرف قد اعتزم على قصد بلاد الأشرف بالجزيرة وأتفق مع صاحب آمد وصاحب إربل على ذلك وكانا يخطبان له. ثم سار إلى ملطية يشغل الأشرف عن الموصل حتى ينال منها صاحب إربل. ومرض في طريقه فعاد. ومات سنة ست عشرة وخلف بنيه صغاراً. وكان أخوه كيقباد محبوساً منذ أخذه من أنكورية فأخرجه الجند من محبسه وملكوه وقيل بل أخرجه هو من محبسه وعهد إليه. ولما ملك خالف عليه عمه صاحب أرزن الروم فوصل يده بالأشرف وعقد معه صلحاً. الفتنة بين كيقباد وصاحب آمد من بني أرتق وفتح عدة من حصونه كانت الفتنة قد حدثت بين الأشرف صاحب الجزيرة والمعظم صاحب دمشق وجاء جلال الدين خوارزم من الهند سنة ثلاث وعشرين بعد هروبه أمام التتر فملك أذربيجان وأعتضد به المعظم صاحب دمشق على الأشرف وظاهرهما الملك مسعود صاحب آمد من بني أرتق فأرسل الأشرف إلى كيقباد ملك الروم يستنجده على صاحب آمد والأشرف يومئذ محاصر لماردين فسار كيقباد وأقام على ملطية وجهز العساكر من هناك إلى آمد ففتح حصوناً عدة. وعاد صاحب آمد إلى موافقة الأشرف فكتب إلى كيقبا أن يرد عليه ما أخذه فامتنع فبعث عساكره إلى صاحب آمد مدداً على كيقباد. وكان محاصراً لقلعة الكحنا فلقيهم وهزمهم وأثخن فيهم وعاد ففتح القلعة والله أعلم. |
استيلاء كيقباد على مدينة أرزنكان
كان صاحب أرزنكان هذه بهرام شاه من بني الأحدب بيت قديم في الملك وملكها ستين سنة ولم يزل في طاعة قليج أرسلان وولده. وتوفي فملك بعده ابنه علاء الدين داود شاه وأرسل عنه كيقباد سنة خمس وعشرين ليعسكر معه فسار إليه وقبض عليه وملك مدينة أرزنكان. وكان من حصونه كماح فامتنع نائبه فيه وتهدد داود شاه فبعث إلى نائبه فسلم له الحسن. ثم قصد أرزن الروم وبها ابن عمر طغرل شاه بن قليج أرسلان فبعث بن طغرك شاه بطاعته للأشراف واستنجد نائبه بخلاط حسام الدين على فسار إليه فخام كيقباد عن لقائه وعاد من أرزنكان إلى بلاده فوجد العدو من الإفرنج قد ملك قلعة منها تسمى صنوبا مطلة على بحر الخزر فحاصرها براً وبدراً وارتجعها المسلمون والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق. فتنة كيقباد مع جلال الدين كان صاحب أرزن الروم وهو ابن عم كيقباد صار إلى طاعة جلال الدين خوارزم شاه وحاصر معه خلاط وفيها أيبك مولى الأشرف فملكها جلال الدين وقتل أيبك كما يأتي في أخباره. فخافهما كيقباد صاحب الروم فاستنجد الملك الكامل وهو بدران فأمنه بأخيه الأشرف من دمشق فجمع عساكر الجزيرة والشام وسار إلى كيقباد فلقيه بسيواس واجتمعوا في خمسة وعشرين ألفاً. وساروا من سيواس إلى خلاط فلقيهم جلال الدين في نواحي أرزنكان فهاله منظرهم ومضى منهزماً إلى خلاط. ثم سار منها إلى أذربيجان فنزلوا عند خوي. وسار الأشرف إلى خلاط فوجد جلال الدين قد خربها فعادوا إلى بلادهم وترددت الرسل في الصلح فاصطلحوا. كان علاء الدين كيقباد قد استفحل ملكه ببلاد الروم ومد يده إلى ما يجاوره من البلاد فملك خلاط بعد أن دافع عنها مع الأشرف بن العادل جلال الدين خوارزم شاه فنازعه الأشرف في ذلك واستصرخ بأخيه الكامل فسار في العساكر من مصر سنة إحدى وثلاثين. وسار معه الملوك من أهل بيته وانتهى إلى النهر الأزرق من تخوم الروم. وبعث في مقدمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيقباد وهزمه وحصره في خرت برت وكانت لبني أرتق. ورجع الكامل بالعساكر إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين وكيقباد في اتباعهم. ثم سار إلى حران والرها فملكهما من يد نواب الكامل وولى عليهما من قبله وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين فارتجعهما. وفاة كيقباد وملكه ابنه كنخسرو ثم توفي علاء الدين كيقباد سنة أربع وثلاثين وستمائة وملك بعده ابنه غياث الدين كنخسرو وقارن ذلك انقراض الدولة السلجوقية من ممالك الإسلام واختلال دولة بني خوارزم شاه وخرج التتر من مفازة الترك وراء النهر و استيلاء جنكزخان سلطانهم على الممالك وانتزاعها من يد بني خوارزم شاه. وفر جلال الدين آخرهم إلى الهند ثم رجع واستولى على أذربيجان وعراق العجم. وكان بنو أيوب يومئذ بممالك الشام وأرمينية كما نذكر ذلك كله في أماكنه إن شاء الله تعالى. وانتشر التتر في سائر النواحي وعاثوا فيها وتغلبوا عليها. واستفحل ملكهم فسارت منهم طوائف إلى بلاد الروم سنة إحدى وأربعين فبعث غياث الدين كنخسرو بالصريخ إلى بني أيوب وغيرهم من الترك في جواره. وجاء المدد من كل جانب فسار للقائهم ولقيتهم المقدمة على قشمير زنجان فانهزمت المقدمة ووصلوا إليه فانهزم ونجا بعياله وذخيرته إلى مدينة على مسيرة شهر من المعترك ونهبوا سواده ومخلفه وانتشروا في نواحي بلاد الروم وعاثوا فيها وتحصن غياث الدين بهذه المدينة واستولى التتر على خلاط وآمد. ثم استأمن لهم غياث الدين ودخل في طاعتهم واستقامت أموره معهم إلى أن مات قريباً من رجوعه. وملك التتر قيسارية والله أعلم. وفاة غياث الدين وولاية ابنه كيقباد ثم توفي غياث الدين كنخسرو سنة أربع وخمسين وترك ثلاثاً من الولد أكبرهم علاء الدين كيقباد وعز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان. وولى علاء الدين كيقباد بعهده إليه وكان يخطب لهم جميعاً وأمرهم واحد. وكان جنكزخان ملك التتر قد هلك وكان كرسي سلطانهم بقراقروم وولي مكانه ابنه طلوخان وجلس على كرسيه. وهو الخان الأعظم عندهم وحكمه ماض في ملوك الشمال والعراق من أهل بيته وسائر عشيرته. ثم هلك طلوخان وولي مكانه في كرسيه ابنه منكوخان فبعث أخاه هلاكو لفتح العراق وبلاد الإسماعيلية سنة خمسين وستمائة فسار لذلك وملك العراقين وبغداد. ثم جرد الخان الأعظم منكوخان إلى بلاد الروم سنة أربع وخمسين أميراً من أمراء المغل اسمه بيكو في العساكر فسار إلى أرزن الروم وبها سنان الدين ياقوت مولى السلطان علاء الدين فحاصرها شهرين ونصب عليها المجانيق. ثم ملكها عنوة وأعمر ياقوت واستلحم الجند بأسرهم واستبقى الباعة والصناع. ثم سار إلى بلاد الروم فملك قيسارية و مسيرة شهر معها ورجع. ثم عاد سنة خمس وخمسين وعاث في البلاد واستولى على أكثر من الأولى والله تعالى أعلم. وفاة كيقباد وملك أخيه كيكاوس ولما كثر عيث التتر الذين مع بيكو في مملكة علاء الدين كيقباد واعتزم على المسير إلى الخان الأعظم منكوخان يؤكد الدخول في طاعته ويقتضي مراسمه إلى بيكو ومن معه من المغل بالكف عن البلاد سار من قونية سنة خمس وخمسين ومعه سيف الدين طرنطاي من موالي أبيه. واحتمل معه الأموال والهدايا وسار. ووثب أخوه عز الدين كيكاوس على أخيه الآخر قليج أرسلان فاعتقله بقونية واستولى على الملك. وكتب في أثر أخيه إلى سيف الدين طرنطاي مع بعض الأكابر من أصحابه أن يمكنوه من الهدايا التي معهم يتوجه بها إلى الخان ويردوا علاء الدين فلم يدركوه حتى دخل بلاد الخان ونزل على بعض أمرائه. فسعى ذلك الرسول في علاء الدين وطرنطاي بأن معهم سمًا فكبسهم الأمير فوجد شيئاً من المجمودة فعرض عليهم أكلها فامتنعوا فتخيل تحقيق السعاية فسألوه إحضار الأطباء فأزالوا عنه الشك وبعث بهم إلى الخان. ومات علاء الدين أثناء طريقة. ولما اجتمعوا عند الخان اتفقوا على ولاية عز الدين كيكاوس وأنه أكبر وعقدوا له الصلح مع الخان فكتب له وخلع عليهم. ثم كتب بيكو إلى الخان بأن أهل بلاد الروم قاتلوه ومنعوه العبور فأحضر الرسل وعرفهم الخبر فقالوا إذا بلغناهم كتاب السلطان اذعنوا. فكتب الخان بتشريك الأميرين عز الدين كيكارس وأخيه ركن الدين قليج أرسلان على أن تكون البلاد قسمة بينهما. فمن سيواس إلى القسطنطينية غرباً لعز الدين ومن سيواس إلى أرزن الروم شرقاً المتصلة ببلاد التتر لركن الدين وعلى الطاعة وحمل الأتاوة لمنكوخان ملكهم صاحب الكرسي بقراقروم ورجعوا إلى بلاد الروم وحملوا معه شلوقيقباد إلى أن دفنوه. |
استيلاء التتر على قونية
ثم سار بيكو في عساكر المغل إلى بلاد الروم ثالثة فبعث عز الدين كيكاوس العساكر للقائه مع أرسلان أيدغمش من أمرائه فهزمه بيكو وجاء في اتباعه إلى قونية فهرب عز الدين كيكاوس إلى العلايا بساحل البحر فنزل بيكو على قونية وحاصرها حتى استأمنوا إليه على يد خطيبهم. ولما حضر إليه أكرمه ورفع منزلته وأسلمت امرأته على يده وأمن أهل البلد. ثم سار هلاكو إلى بغداد سنة خمس وستين وبعث عن بيكو وعساكره من بلاد الروم بالحضور معه فاعتذر بالأكراد الذين في طريقه من الغراسلية والياروقية فبعث إليهم هلاكو العساكر فأجفلوا وانتهت العساكر إلى أذربيجان وقد أجفل أهلها أمام الأكراد فاستولوا عليها. ورجعوا صحبة بيكو إلى هلاكو فحضر معه فتح بغداد وقد مر خبرها في أخبار الخلفاء. ويأتي في أخبار هلاكو ونيال أن بيكو لما بعث هلاكو لم يحضر معه فتح بغداد واستمر على غمره فلما انقضى أمر بغداد بعث إليه هلاكو من سقاه السم فمات لأنه اتهمه بالاستبداد. ثم سار هولاكو بعد فتح بغداد إلى الشام سنة ثمان وخمسين وحاصر حلب وبعث عن عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان وعن معين الدين سليمان البرنواه صاحب دولتهم. وكان من خبره أن أباه مهذب الدين علي كان من الديلم وطلب العلم ونبغ فيه. ثم تعرض للوزير سعد الدين المستوفي أيام علاء الدين كيقباد يسأله إجراء رزقه. وكان وصافاً فاستحسنه وزوجه ابنته فولدت سليمان ونشأ في الدولة. ومات سعد الدين المستوفي فرقى السلطان مهذب الدين إلى الوزارة وألقى إليه بالمقاليد. وتوفي مهذب الدين وترقى ابنه سليمان مهذب الدولة وكان يلقب معين الدين وترقى في الرتب إلى أن ولي الحجابة وكان يدعى البرنواه ومعناه الحاجب بلغتهم. وكان مختصاً بركن الدين فلما حضر معهما عند هلاكو كما قلناه حلا بعينه وقال لركن الدين لا يأتيني في أموركم إلا هذا فرقت حاله إلى أن ملك بلاد الروم أجمع. الفتنة بين عز الدين كيكاوس وأخيه قليج أرسلان و استيلاء قليج أرسلان على الملك ثم وقعت الفتنة سنة تسع وخمسين بين عز الدين كيكاوس وأخيه ركن الدين قليج أرسلان وسار ركن الدين ومعه البرنواه إلى هلاكو يستمحه على أخيه فأمده بالعساكر وحارب أخاه فهزمه عز الدين أولا ثم أمده هلاكو فانهزم عز الدين ولحق بالقسطنطينية. واستولى ركن الدين على سائر الأعمال. وهرب التركمان إلى أطراف الجبال والثغور والسواحل وبعثوا إلى هلاكو يطلبون الولاية منه على أحيائهم فولاهم وأذن لهم في اتخاذ الآلة فصاروا ملكوكاً من حينئذ. وكان محمد بك أميرهم وأخوه علي بك رديفه فاستدعى هلاكو محمد بك فلم يأته فأمر قليج أرسلان وعساكر التتر الذين معه بقتاله فساروا وقاتلوه فانهزم. ثم استأمن إلى السلطان ركن الدين فأمنه وجاء به إلى قونية فقتله واستقر علي بك أميراً على التركمان وأورثها بنيه. واستولى التتر على البلاد إلى أن كان ما سنذكره إن شاء الله. خبر عز الدين كيكاوس ولما انهزم عز الدين كيكاوس ولحق بالقسطنطينية أحسن إليه مخاييل الشكري صاحب قسطنطينية وأجرى عليه الرزق. وكان معه جماعة من الروم أخواله فحدثتهم أنفسهم بالثورة وتملك القسطنطينية. ونمي ذلك عنهم فقبض الشكري عليه وعلى من معه واعتقله ببعض القلاع. ثم وقعت بين الشكري وبين منكوتمر بن طغان ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكزخان فتنة وغزا منكوتمر القسطنطينية وعاث في نواحيها فهرب إليه كيكاوس من محبسه فمضى معه إلى كرسيه بصراي فمات هنالك سنة سبع وسبعين. وخلف ابنه مسعوداً وخطب منكوتمر ملك صراي أمه فمنعها وهرب عنه ولحق بابقا بن هلاكو ملك العراق فأحسن إليه وأقطعه سيواس وأرزن الروم وأرزنكان فاستقر بها. مققل ركن الدين قليج أرسلان وولاية ابنه كنخسرو كان معين الدين سليمان البرنواه قد استبد على ركن الدين قليج أرسلان. ثم تنكر له ركن الدين فخاف سليمان البرنواه على مكان أخيه عز الدين كيكاوس بالقسطنطينية أن يحدث فيه أمراً. فلما بلغه خبر كيكاوس واعتقاله بالقسطنطينية أحكم تدبيره في ركن الدولة فقتله غيلة ونصب للملك ابنه غياث الدين في كفالته وتحت حجره واستقل بملك بلاد الروم واستقامت أموره والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء الظاهر ملك مصر على قيسارية ومقتل البرنواه كان هلاكو قد زحف إلى الشام سنة ثمان وخمسين مراراً وزحف ابنه ابقا كذلك وقاتلهم الملك الظاهر صاحب مصر والشام. وكان كثيراً ما يخالفهم إلى بلادهم فدخل سنة خمس وسبعين إلى بلاد الروم وأميرها يومئذ من التتر طغا. وأمده ابقا بأميرين من التتر وهما كداون وترقوا لحماية بلاد الروم من الظاهر فزحفوا إلى الشام. وسار إليهم الظاهر من مصر في مقدمته سقر الأسقر فلقيت مقدمته مقدمتهم على كوكصو فانهزم التتر وتبعهم الظاهر والتقى الجمعان على ابليش فانهزموا ثانية. وأثخن فيهم الظاهر بالقتل والأسر إلى قيسارية فملكها. وكان البرنواه قد دس إليه واستحثه للوصول إلى بلاده فأقام الظاهر على قيسارية ينتظره وبلغ ملك التتر أبقا خبر الواقعة فزحف في جموع المغل إلى قيسارية بعد منصرف الظاهر إلى بلاده. فلما وقف على مصارع قومه وجد على البرنواه وصدقت عنه السعاية فيه وأنه الذي استحث الظاهر لأنه لم ير في المعركة مصرع أحد من بلاد الروم ورجع إلى معسكره ومعه سليمان البرنواه واستبد بملكه. والله تعالى ولي التوفيق وهو نعم الرفيق لا رب سواه ولا معبود إلا إياه سبحانه. خلع كنخسرو ثم مقتله وولاية مسعود ابن عمه كيكاوس كان قنطغرطاي بن هلاكو مقيماً ببلاد الروم مع غياث الدين كنخسرو ملك بلاد الروم وصار أمير المغل بها منذ عهد أبقا. ولما ولي أحمد تكرار بن هلاكو بعد أخيه أبقو بعث عن أخيه قنطغرطاي فامتنع من الوصول إليه خشية على نفسه. ثم حمله غياث الدين على إجابة أخيه وسار معه فقتل تكرار أخاه قنطغرطاي واتهم المغل غياث الدين بأنه علم برأي تكرار فيه واعتمد. فلما ولي أرغون بن أبقا بعد تكرار عزل غياث الدين عن بلاد الروم وحبسه بارزنكاي وولي مكانه على المغل ببلاد الروم هولاكو وذلك سنة اثنتين وثمانين. وأقام مسعود ملكاً ببلاد الروم سنة ثمان عشرة وسبعمائة وأصابه الفقر وانحل أمره وبقي الملك بها للتتر. ثم فشل أمرهم واضمحلت دولتهم إلا بقايا بسيواس من بني أرثا مملوك دمرداش بن جومان. واستولى التركمان على تلك البلاد أجمع وأصبح ملكها لهم والله غالب على أمره يؤتي الملك من يشاء وهو العزيز الحكيم. الخبر عن بني سكمان موالي السلجوقية ملوك خلاط وبلاد أرمينية ومصير الملك إلى مواليهم من بعدهم ومبادي أمرهم وتصاريف أحوالهم كان صاحب مزيد من أذربيجان إسماعيل بن ياقوتي بن داود أخو ألب أرسلان وداود أخو طغرلبك كما مر ولقب إسماعيل قطب الدولة. وكان له مولى تركي اسمه سكمان بالكاف والقاف. وكان ينسب إليه فيقال سكمان القطبي وكان شهماً عادلاً في أحكامه. وكانت خلاط وأرمينية لبني مروان ملوك ديار بكر وكانوا في آخر دولتهم قد اشتد عسفهم وظلمهم وساء حال أهل البلد معهم فاجتمع أهل خلاط وكاتبوا سكمان واستدعوه ليملكوه عليهم فسار إليهم سنة اثنتين وخمسمائة إلى ميافارقين من ديار بكر فحاصرها حتى استأمنوا إليه وملكها. ثم أمر السلطان محمد شاه بن ملك شاه الأمير مودود بن مزيد ابن صدقة صاحب الموصل بغزو الإفرنج وانتزاع البلاد من أيديهم وأمر أمراء الثغور بالمسير معه فسار معه برسق صاحب همذان وأحمد بك صاحب مراغة وأبو الهيجاء صاحب إربل وأبو الغازي صاحب ماردين وسقمان القطبي صاحب ديار بكر. فساروا لذلك وفتحوا عدة حصون وحاصروا الرها فامتنعت عليهم ثم تل باشر كذلك. واستدعاهم رضوان بن تتش صاحب حلب " " فلما ساروا إليه امتنع من لقائهم. ومرض سكمان القطبي هنالك فرجع عنهم وتوفي في طريقه ببالس. وافترقت العساكر وملك خلاط وبلاد أرمينية بعد مهلكه ابنه ظهير الدين إبراهيم وسار فيهم بسيرة أبيه إلى أن هلك سنة إحدى وعشرين. وذلك بعده أخوه أحمد بن سكمان عشرة أشهر. ثم توفي فنصب أصحابه للملك بأرمينية وخلاط شاه أرمن سكمان ابن أخيه إبراهيم بن وعمد سنة ثمان وعشرين واستبد شاه أرمن وكانت بينه وبين الكرج وقائع. وساروا سنة ست وخمسمائة إلى مدينة أنى من أعمال أران فاستباحوها. وسار إليهم في العساكر فهزموه ونالوا منه وكانت عنده أخت طليق بن علي صاحب أرزن الروم ووقعت بينه وبين الكرج حرب فانهزم طليق وأسر وبعث شاه أرمن إلى ملك الكرج وفادى طليقاً ورده إلى ملكه بارزن. ثم استولى صلاح الدين بن أيوب على مصر والشام واستفحل ملكه وكاتبه مظفر الدين كوكبري وأغراه بملك الجزيرة ووعده بخمسين ألف دينار. وسار صلاح الدين إلى سنجار فحاصرها وهو مجمع المسير إلى الموصل وبها يومئذ عز الدين مودود بن زنكي فاستنجد بشاه أرمن صاحب خلاط فبعث شاه أرمن مولاه مكتمر " " إلى صلاح الدين شفيعاً في صاحب الموصل ووفد عليه وهو محاصر لسنجار ولم يشفعه صلاح الدين فرجع عنه مغاضباً. وسار شاه أرمن لقتاله واستدعى قطب الدين نجم الدين إلى صاحب ماردين وهو ابن أخيه وابن خال عز الدين. وحضر معه دولة شاه بن طغرك شاه بن قليج أرسلان صاحب " ". وسار سنة ثمان وسبعين وقد ملك صلاح الدين سنجار وافترقت العساكر. فلما بلغه سيرهم بعث عن تقي الدين ابن أخيه شاه من حماة فوافاه سريعاً ورحل إلى رأس عين. افترقت جموعهم. وسار صلاح الدين إلى ماردين فعاث في نواحيها ورجع. ثم سار إلى الموصل آخر إحدى وثلاثين وعبر إلى الجزيرة وانتهى إلى حران. ولقيه مظفر الدين كوكبري بن زين الدين ولم يف له بالخمسين ألفاً التي وعده بها. وأخذ منه حران والرها. ثم أطلقه بما نفذه من مكاتبته وأعاد عليه بلدته وسار من حران فحضر عنده عساكر الحصن وداراً ولقيه سنجر شاه صاحب الجزيرة ابن أخي عز الدين مودود مفارقاً لطاعة عمه وسار معه إلى الموصل. ولما انتهى إلى مدينة الابلة بعث إليه عز الدين ابن عمه نور الدين محمود وجماعة من أعيان الدولة راغبين في الصلح فأكرمهم واستشار أصحابه من أعيان الدولة فأشار علي بن أحمد المشطوب كبير الهكارية بالامتناع من ذلك فردهم صلاح الدين واعتذر وسار فنزل على فرسخين من الموصل واشتدوا في مدافعته فامتنعوا عليه فندم على عدم الصلح. ورجع على علي المشطوب ومن وافقه باللائمة. وخاطبه القاضي الفاضل البيساني من مصر وعزله في ذلك. وجاء زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب إربل وأخوه مظفر الدين كوكبري فتلقاهما بالتركمة وأنزلهما مع الحشود الوافدة بالجانب الشرقي. وبعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية حاصرها واجتمع عليه الأكراد ولم يزل محاصراً لها حتى عاد صلاح الدين من الموصل. وأقام صلاح الدين على حصارها مدة. وبلغ عز الدين أن نائبه بالقلعة يكاتبه فمنعه من الصعود إليها وكان يقتدي برأي مجاهد الدين وبعثه في الصلح |
وفاة شاه أرمن سكمان وولاية مكتمر مولي أبيه
ثم توفي شاه أرمن سكمان بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط سنة ست وسبعين وكان مكتمر مولى أبيه بميافارقين فأسرع الوصول بمن معه من المماليك واستولى على كرسي بني سكمان. وولي على ميافارقين أسد الدين برتقش من موالي شاه أرمن. وكان البهلوان بن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان مر بقائد ملوك السلجوقية وقد زوج ابنته من شاه أرمن طمعاً في ملك خلاط. فلما توفي شاه أرمن سار إليها في عساكره فكاتب أهل خلاط صلاح الدين بن أيوب ودافعوا كلاً منهما بالآخر. وسار صلاح الدين في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهما. ونزلوا قريباً من خلاط فتردد الرسل من صلاح الدين ومن شمس الدين البهلوان إلى أهل خلاط وهم يدافعون الفريقين. وكان قد بلغه وفاة صاحبها قطب الدين وأن برتقش نصب ابنه طفلاً صغيراً واستبد عليه فسار صلاح الدين إليها وحاصرها حتى تسلمها على الأمان وأقام مكتمر أميراً بخلاط وطالت مدته وجرت بينه وبين صلاح الدين فتن وحروب إلى أن توفي صلاح الدين سنة تسع وثمانين. فأظهر الشماتة به وتسمى عبد العزيز وتلقب سيف الدين وتوفي إثر ذلك والله تعالى أعلم. وفاة مكتمر وولاية أقسنقر كان مكتمر لأول ولايته قد اختص أقسنقر من موالي شاه أرمن وتلقب هزار ديناري وزوجه ابنته وجعله أتابكه فأقام على ذلك مدة. ثم استوحش من مكتمر وتربص به حتى إذا توفي صلاح الدين تجهز مكتمر من ميافارقين فأمكنته فيه الفرصة فقتله لعشر سنين من ولايته وذلك بعد وفاة صلاح الدين بشهرين واستبد بملك خلاط وأرمينية واعتقل ابن مكتمر وأمه في بعض القلاع والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة أقسنقر وولاية محمد بن مكتمر ثم هلك أقسنقر صاحب خلاط وأرمينية سنة أربع وتسعين لخمس سنين من ملكة وقام بملك خلاط بعده حجر اشتد قطلغ الأرمني ولم يرضه أهل خلاط فوثبوا به لسبعة أيام من ولايته وقتلوه. واستدعوا محمد بن مكتمر من محبسه وملكوه ولقبوه الملك المنصور وقام بدولته شجاع الدين قطلغ القفجاقي دوادار شاه أرمن وأقام تحت استبداده إلى سنة ثلاث وستمائة. ثم دبر على الدوادار وقبض عليه وكان حسن السيرة فاستوحش لذلك الجند والعامة. وعكف بعد نكبة الدوادار على لذاته فاجتمع أهل خلاط والجند وكبيرهم بلبان مملوك شاه أرمن. وكتبوا إلى أرتق بن أبي الغازي بن ألبي صاحب ماردين يستدعونه للملك بما كان ابن أخت شاه أرمن. وجاهر بلبان بالعصيان إلى ملازكرد واجتمع الجند عليه. و استيلاء بلبان على خلاط وأعمالها ولما ملك بلبان مدينة ملازكرد وأعمالها واجتمع عليه الجند وسار يريد خلاط ووصل أرتق بن أبي الغازي صاحب ماردين لموعدهم ونزل قريباً من خلاط فبعث إليه بلبان أن الجند والرعية اتهموني فيك فارجع وإذا ملكت البلد سلمته إليك فتنح قليلا فبعث إليه يتوعده على مقالته وبطئه. فعاد إلى ماردين وكان الأشرف موسى بن العادل بن أيوب صاحب الجزيرة وحران لما سمع بمسير أرتق إلى خلاط طمع فيها لنفسه وخشي أن يزداد بملكها قوة عليهم فخالفه إلى ماردين وأقام بتدليس وجبى ديار بكر حتى استوعبها وعاد إلى حران. ثم جمع بلبان العساكر وسار إلى خلاط فحاصرها. وبرز ابن مكتمر فيمن عنده فانهزم بلبان وعاد إلى ولايته بملازكرد وأرجيش وغيرها. ثم جمع ورجع إلى خلاط فحاصرها وضيق عليها وابن مكتمر عاكف على لذاته. فلما جهدهم الحصار ثاروا به وقبضوه ومكنوا بلبان منه. ودخل إلى خلاط واستولى عليها وعلى سائر أعمالها وحبس ابن مكتمر في قلعة هناك واستبد بملكها. وكان الأوحد نجم الدين أيوب بن العادل بن أيوب قد ولي على ميافارقين من قبل أبيه إلى خلاط سنة أربع وستمائة وقصد مدينة سوس وحاصرها وملك ما يجاورها وعجز بلبان عنه. ثم ملك سوس وقصد خلاط فبرز له بلبان وهزمه فعاد إلى ميافارقين وجمع واستمد أباه العادل فأمده بالعساكر ونهض إلى خلاط فبرز له بلبان ثانية وهزمه الأوحد وحاصره في خلاط فبعث بليان إلى طغرل يستنجده فانهزم الأوحد أمامهما. وسار بلبان مع طغرل إلى مراش فحاصرها وغدر به طغرل وقتله وسار إلى خلاط فمنعه أهلها فسار إلى ملازكرد فمنعوه كذلك فعاد إلى أرزن. وأرسل خلاط بطاعتهم إلى الأوحد نجم الدين فجاء وملك خلاط واستولى على أعمالها. وزحف الكرج فأغاروا على خلاط وعاثوا في نواحيها والأوحد مقيم بخلاط لم يفارقها. وانتقض عليه جماعة من العسكر بحصن رام وساروا إلى مدينة أرجيش فملكوها واجتمع إليهم المفسدون. وبعث نجم الدين إلى أبيه العادل يستنجده فأمده بابنه الآخر شرف الدين موسى فحاصر حسن رام حتى استأمن إليه من كان به من الجند ورجع الأشرف إلى عمله بحران والرها واستقر نجم الدين بخلاط. ثم سار إلى ملازكرد ليطالع أمورها ويمهدها فثار أهل خلاط بعسكره فأخرجوهم وحصروا أصحاب نجم الدين بالقلعة ونادوا بشعار شاه أرمن وقومه فرجع الأوحد ولاقاه عسكر الجزيرة وحاصر خلاط. ثم اختلف أهلها فدخلها عليهم عنوة واستباحها. ونقل جماعة من أعيانها إلى ميافارقين وقتل كثيراً منهم هنالك. واستكان أهل خلاط بعدها وانمحى منها حكم المماليك بعد أن كانوا مستحكمين فيها يولون ملوكها ويخلعونهم. وانقرضت دولة بني سكمان من خلاط وصارت لبني أيوب والبقاء لله وحده والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وإليه المرجع. أخبار الإفرنج فيما ملكوه من سواحل الشام وثغوره وكيف تغلبوا عليه وبداية أمرهم في ذلك ومصائره قد تقدم لنا أول الكتاب الكلام في أنساب هذه الأمة عند ذكر أنساب الأمم وأنهم من ولد يافث بن نوح ثم من ولد ريفات بن كومر بن يافث أخوة الصقالبة والخزر والترك. وقال هروشيوش إنهم من عصر ابن غومر. وأما مواطنهم من بلاد المعمور فإنهم من شمالي البحر الرومي من خليج رومة إلى ما وراء النهر غرباً وشمالا وكانوا أولاً يدينون لليونان والروم بالطاعة عند استفحال أمرهم. فلما انقرضت دولة أولئك استقل هؤلاء الإفرنج بملكهم وافترقوا دولا مثل دولة القوط بالأندلس والجلالقة بعدهم وملك اللمانين بالتفخيم من جزيرة انكلتره بالبحر المحيط الغربي الشمالي ما يحاذيه ويقابله من المعمور ومثل ملوك إفرنجة وهو عندهم اسم إفرنجة بعينه والجيم ينطقون بها سيناً. وهم ما وراء خليج رومة غرباً إلى الثنايا المفضية إلى جزيرة الأندلس في الجبل المحيط من شرقيها وتسمى تلك الثنايا البردت. وكانت دولة هؤلاء الإفرنج منهم من أعظم دولهم واستفحل أمرهم بعد الروم وصدراً من دولة الإسلام العربية فسموا إلى ملك بلاد المشرق من ناحيتها. وتغلبوا على جزر البحر الرومي في آخر المائة الخامسة. وكان ملكهم لذلك العهد بردويل فبعث رجالا من ملوكهم إلى صقلية وملكها من يد المسلمين سنة ثمانين وأربعمائة. ثم سموا إلى ملك ما وراء النهر من إفريقية وبلاد الشام والاستيلاء على بيت المقدس وطال ترددهم في ذلك. ثم استحثهم وحرضهم عليه فيما يقال خلفاء العبيديين بمصر لما استفحل ملك السلجوقية وانتزعوا الشام من أيديهم وحاصروهم في مصر فيقال إن المستنصر منهم دس إلى الإفرنج بالخروج وتسهيل أمرهم عليه ليحولوا بين السلجوقية وبين مرامهم فتجهز الإفرنج لذلك وجعلوا طريقهم في البر على القسطنطينية. ومنعهم ملك الروم من العبور عليه من الخليج حتى شرط عليهم أن يسلموا له إنطاكية لكون المسلمين كانوا أخذوها من مماليكهم فقبلوا شرطه وسهل لهم العبور في خليجه فأجازوا سنة تسعين وأربعمائة في العدد والعدة. وانتهوا إلى بلاد قليج أرسلان وجمع للقائهم فهزموه وفر " " بلاد ابن اليون الأرمني ووصلوا إنطاكية وبها باغيسيان من أمراء السلجوقية فحاصروه بها وخذلوا صاحب حلب ودمشق على صريخه بأن لا يقصدوا غير إنطاكية فأسلموه حتى ضاق به الحصار وغدر به بعض الحامية فملك الإفرنج البلاد وهرب باغيسيان فقتل وحمل إليهم رأسه. وكان ملوكهم الحاضرون لذلك خمسة بردويل وصنجيل وكبريري والقمص واسمند وهو مقدم العساكر فردوا إليه أمر إنطاكية وبلغ الخبر إلى المسلمين فسافروا إليهم شرقاً وغرباً. وسار قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل وجمع عساكر الشام وسار إلى دمشق فخرج إليهم دقاق بن تتش وطغتكين أتابك وجناح الدولة صاحب حمص وأرسلان " " صاحب سنجر وسكمان أرتق وغيرهم من الأمراء وزحفوا إلى إنطاكية فحاصروها ثلاثة عشر يوماً. ووهن الإفرنج واشتد عليهم الحصار لما جاءهم على غير استعداد وطلبوا الخروج على الأمان فلم يسعفوا. ثم اضطرب أمر عساكر المسلمين وأساء كربوقا السيرة فيهم وأزمعوا من استكثاره عليهم " " فخرج الإفرنج إليهم واستماتوا فتخاذل المسلمون وانهزموا من غير قتال حتى ظنها الإفرنج مكيدة فتقاعدوا عن أتباعهم واستشهد من المسلمين ألوف والله تعالى أعلم. |
استيلاء الإفرنج على معرة العمان
ثم على بيت المقدس ولما حصلت للإفرنج هذه النكاية في المسلمين طمعوا في البلاد وساروا إلى معرة النعمان وحاصروها. واشتد القتال في أسوارها حتى داخل أهلها الجزع فتحصنوا بالدور وتركوا السور فملكه الإفرنج ودخلوا عليهم فاستباحوها ثلاثاً. وأقاموا بها أربعين يوماً ثم ساروا إلى غزة وحاصروها أربعة أشهر وامتنعت عليهم فصالحهم ابن منقذ عليها. وساروا إلى حمص وحاصروها فصالحهم عليها جناح الدولة. وساروا إلى عكا فامتنعت عليهم. وكان بيت المقدس قد ملكه السلجوقية وصار لتاج الدولة تتش وأقطعه لسكمان بن أرتق من التركمان. فلما كانت واقعة الإفرنج بإنطاكية طمع أهل مصر فيهم وسار الأفضل بن بدر الجمالي المستولي على العلويين بمصر إلى بيت المقدس وبها سكمان وأبو الغازي ابنا أرتق وابن عمهما سوع وابن أخيهما ياقوتي فحاصروه نيفاً وأربعين يوماً ونصبوا عليه نيفاً وأربعين منجنيقاً وملكوه بالأمان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وأحسن الأفضل إلى سكمان وأبي الغازي وأصحابهما وسرحهم إلى دمشق وعبروا الفرات. وأقام سكمان بالرها وسار أبو الغازي إلى العراق واستناب الأفضل عليها افتخار الدولة الذي كان بدمشق فقصده الإفرنج بعد أن حاصروا عكا وامتنعت عليهم فحاصروه أربعين ليلة وافترقوا على جوانب البلد فملكوها من الجانب الشمالي آخر شعبان من السنة. واستباحوها وأقاموا فيها أسبوعاً. واعتصم بعض المسلمين بمحراب داود وقاتلوا فيه ثلاثاً حتى استأمنوا ولحقوا بعسقلان. وأحصى القتلى من الأئمة والعلماء والعباد والزهاد المجاورين بالمسجد فكانوا سبعين ألفاً أو يزيدون وأخذ من المناور المعلقة عند الصخرة أربعون قنديلا من الفضة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة وستون درهماً من الفضة زنته أربعون رطلاً بالشامي ومائة وخمسون قنديلا من الصغار وما لا يحصى من غير ذلك. وجاء الصريخ إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعيد الهروي ووصف في الديوان صورة الواقعة فكثر البكاء والأسف ووسم الخليفة بمسير جماعة من الأعيان والعلماء فيهم القاضي أبو محمد الدامغاني وأبو بكر الشاشي وأبو الوفاء بن عقيل إلى السلطان بركيارق يستصرخونه للإسلام. فساروا إلى حلوان وبلغهم اضطراب الدولة السلجوقية وقتل محمد الملك ألب أرسلان المتحكم في الدولة واختلاف السلاطين فعادوا. وتمكن الإفرنج من البلاد وولوا على بيت المقدس كندفري من ملوكهم. عساكر مصر وحرب الإفرنج مسير العساكر من مصر لحرب الإفرنج ولما بلغ خبر الواقعة إلى مصر جمع الأفضل الجيوش والعساكر واحتشد وسار إلى عسقلان. وأرسل إلى الإفرنج بالنكير والتهديد فأعادوا الجواب ورحلوا مسرعين فكبسوه بعسقلان على غير أهبه فهزموه. واستلحموا المسلمين ونهبوا سوادهم ودخل الأفضل عسقلان وافترق المنهزمون. واستبدوا بنحر الحمير ووصل الأفضل من عسقلان إلى مصر ونازلها الإفرنج حتى إيقاع ابن الدانشمند بالإفرنج كان كمسكين بن الدانشمند من التركمان ويعرف بطابلوا. ومعنى الدانشمند المعلم كان أبوه يعلم التركمان وتقلبت به الأحوال حتى ملك سيواس وغيرها. وكان صاحب ملطية يعاديه فاستنجد عليه اسمند صاحب إنطاكية فجاءه في خمسة آلاف وسار إليه ابن الدانشمند وأسره. ثم جاء الإفرنج إلى قلعة أنكورية فملكوها وقتلوا من بها من المسلمين. ثم حاصروا إسماعيل بن الدانشمند فلقيهم كمستكين وهزمهم واستلحمهم وكانوا ثلاثمائة ألف. ثم ساروا إلى ملطية فملكوها وأسروا صاحبها. وزحف إليه أسمند من إنطاكية في الإفرنج فهم بهم ابن الدانشمند. فأتاح الله للمسلمين على يده هذا الظهور في مدد متقاربة حتى خلص اسمند من الأسر. وجاء إلى إنطاكية والإفرنج بها وبعث إلى قيس والعواصم وما جاورها يطب الإمارة فامتعض المسلمون لذلك وقلدوه بعد العهد الذي التزمه. حصار الإفرنج قلعة جبلة كانت جبلة من أعمال طرابلس وكان الروم قد ملكوها وولوا على المسلمين بها ابن رئيسهم منصور بن صليحة يحكم بينهم. فلما صارت للمسلمين رجع أمرها لجمال الملك أبي الحسن علي بن عمار المستبد بطرابلس وبقي منصور بن صليحة على عادته فيها. ثم توفي منصور فقام إليه أبو محمد عبد الله مقامه وأظهر الشماتة فارتاب به ابن عمار وأراد القبض عليه فعصى هو في جبلة وأقام بها الخطبة العباسية واستنجد عليه ابن عمار دقاق بن تتش فجاءه ومعه أتابك طغركين فامتنع عليهم ورجعوا. ثم جاء الإفرنج فحاصروها فامتنعت عليهم أيضاً وشاع أن بركيارق جاء إلى الشام فرحلوا. ثم عادوا وأظهروا أن المصريين جاءوا لانجاده فرحلوا. ثم عادوا فتقدم للنصارى الذين عنده أن يداخلوا الإفرنج في نقب البلد من بعض أسواره فجهزوا إليهم ثلاثمائة من أعيانهم فرفعهم بالحبال واحداً بعد واحد وهو قاعد على السور حتى قتلهم أجمعين فرحلوا عنه. ثم عادوا إليه فهزمهم وأسر منهم كبرانيطل وفادى نفسه منه بمال عظيم ثم " " ابن صليحة وجهده الحصار فأرسل إلى طغركين صاحب دمشق. وبعث ابن عمار في طلبه إلى الملك دقاق على أن يدفعه إليه بنفسه دون ماله ويعطيه ثلاثين ألف دينار فلم يفعل. وسار ابن صليحة إلى بغداد فوعده إلى وصول رحله من الأنبار فبعث الوزير من استولى عليها فوجد فيها ما لا يحصى من الملابس والعمائم والمتاع وانتزع ذلك كله. ولما ملك تاج الملوك جبلة أساء فيها السيرة فراسلوا فخر الملك أبا علي بن عمار صاحب طرابلس واستدعوه لملكها فبعث إليهم عسكراً وقاتلوا تاج الملك ومن معه فهزموه وأخذوه أسيراً وملكوا جبلة بدعوة ابن عمار وحملوا تاج الملك إلى ابن عمار فأحسن إليه وبعث إلى أبيه بدمشق واعتذر له بأنه خاف على جبلة من الإفرنج. استيلاء الإفرنج على سروج وقيسارية وغيرهما ثم سار كبريري ملك الإفرنج من بيت المقدس سنة أربع وتسعين لحصارها فأصابه منهما سهم فقتله فسار أخوه بقدوين في خمسمائة فارس إلى القدس. ونهض دقاق صاحب دمشق ومعه جناح الدولة صاحب حمص لاعتراضه فهزموا الإفرنج وأثخنوا فيهم ثم كاتب أهل المدينة الإفرنج وكان أكبرهم ودخل في طاعتهم. وكان سقمان بن أرتق صاحب سروج جمع جموعه من التركمان وسار إلى الرها فلقيه الإفرنج وهزموه في ربيع سنة أربع وتسعين. وساروا إلى سروج فحاصروهم حتى ملكوها عنوة واستباحوها. ثم ملكوا حصن كيفا بقرب عكا عنوة وملكوا أرسوف بالأمان. ثم ساروا في رجب إلى قيسارية فملكوها عنوة واستباحوها والله تعالى ولي التوفيق بمنه كرمه. |
حصار الإفرنج طرابلس وغيرها
كان صنجيل من ملوك الإفرنج المذكورين قبل قد لازم حصار طرابلس وزحف إليه قليج أرسلان صاحب بلاد الروم فظفر به. وعاد صنجيل مهزوماً فأرسل فخر الدولة بن عمار صاحب طرابلس إلى أمير آخر نائب جناح الدولة بحمص إلى دقاق بن تتش يدعوه إلى معالجته. فجاء تاج الدولة بنفسه وجاء العسكر مدداً من عند دقاق واجتمعوا على طرابلس. وفرق صنجيل الفل الذين معه على قتالهم فانهزموا كلهم وفتك هو في أهل طرابلس وشد حصارها. وأعانه أهل الجبل والنصارى من أهل سوادها. ثم صالحوه على مال وخيل. ورحل عنهم إلى طرطوس من أعمال طرابلس فحاصرها عنوة واستباحها إلى حصن الطومار ومقدمه ابن العريض فامتنع عليهم وقاتلهم صنجيل فهزموا عسكره وأسروا زعيماً من زعماء الإفرنج بدل صنجيل فيه عشرة آلاف دينار وألف أسير ولم يعاوده. وذلك كله سنة خمس وتسعين وأربعمائة. ثم سار صنجيل إلى حصن الأكراد وحاصره " " جناح الدولة لغزوه فوثب عليه باطني بالمسجد وقتله. ويقال إن رضوان بن تتش وضعه عليه فسار صنجيل إلى حمص وحاصرها وملك أعمالها. ثم نزل القمص على عكا في جمادى الأخيرة من السنة فنفر المسلمون من جميع السواحل لقتاله وهزموه وأحرقوا أهله والمنجنيقات التي نصبت للحرب. ثم سار القمص صاحب الرها إلى سروج وحاصرها فامتنعت عليه وزحف عساكر مصر إلى عسقلان للمدافعة عن سواحلهم فزحف إليهم بردويل صاحب القدس فهزمه المسلمون ونجا إلى الرملة وهم في اتباعه فحاصروه وخلص إلى يافا وفشل القتل والأسر في الإفرنج والله تعالى ولي حصار الإفرنج عسقلان وحروبهم مع عساكر مصر لما طمع الإفرنج في عسقلان واستفحل أمرهم بالشام جهز الأفضل أمير الجيوش عساكره من مصر لحربهم سنة ست وتسعين مع سعد الدولة القواسي مولى أبيه. وزحف بقدوين ملك الإفرنج من القدس فلقيهم بين الرملة ويافا وهزمهم. ومات سعد مترقباً عن فرسه واستولى الإفرنج على سواده. وبعث الأفضل بعده ابنه شرف المعالي فلقيهم قي العساكر على بازور قرب الرملة فهزمهم ونال منهم ونجا كثير من أعيانهم إلى بعض الحصون هنالك فحاصرهم شرف المعالي خمس عشرة ليلة وملك الحصن فقتل وأسر. ونجا بقدوين إلى يافا ثم إلى القدس فصادف وصول جمع كثير من الإفرنج لزيادة القدس فندبهم للغزو فساروا إلى عسقلان وبها شرف المعالي فامتنعت ورجعوا. وبعث شرف المعالي إلى أبيه فبعث العساكر في البر مع تاج العجم مولى أبيه والأسطول في البحر لحصار يافا مع القاضي ابن دقاوس. فلما وصل الأسطول إلى يافا بعث عن تاج العجم ليأتيه بالعساكر فامتنع فأرسل الأفضل من قبض عليه وولى على العساكر وعلى عسقلان جمال الملك من مواليهم فانصرفت السنة وبيد الإفرنج بيت المقدس غير عسقلان ولهم أيضاً من الشام يافا وارسوف وقيسارية وحيفا وطبرية والأردن واللاذقية وإنطاكية ولهم بالجزيرة الرها وسروج وصنجيل محاصر فخر الملك بن عمار بمدينة طرابلس وهو يرسل إسطوله للإغارة على بلاد الإفرنج في كل ناحية. ثم دخلت سنة سبع وتسعين فخرج الإفرنج الذين بالرها فأغاروا على الرقة وقلعة جعبر واكتسحوا نواحيها. وكانت لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد منذ ملكه السلطان ملك شاه إياها سنة تسع وسبعين كما مر والله أعلم. استيلاء الإفرنج على جبيل وعكا وفي سنة سبع وتسعين وصلت مراكب من بلاد الإفرنج تحمل خلقاً كثيراً من التجار والحجاج فاستعان بهم صنجيل على حصار طرابلس فحاصروها حتى يئسوا منها فارتحلوا إلى جبيل وملكوها بالأمان. ثم غدروا بأهلها وأفحشوا في استباحتها. ثم استنجدهم بقدوين ملك القدس على حصار عكا فحاصروها براً وبحراً وفيها بهاء الدولة الجيوشي من قبل ملك الجيوش الأفضل صاحب مصر فدافعهم حتى عجزوا وهرب عنها إلى دمشق وملك الإفرنج عكا عنوة وأفحشوا في استباحتها والله تعالى أعلم. غزو أمراء السلجوقية بالجزيرة الإفرنج كان المسلمون أيام تغلب الإفرنج على الشام في فتنة واختلاف تمكن فيها الإفرنج واستطالوا وكانت حران وحمص لمولى من موالي ملك شاه اسمه فواجا والموصل لجكرمش " " وحصن كيفا لسقمان بن أرتق وعصى في حران على قراجا بأمته فيها فاغتاله جاولي مولى من موالي الترك وقتله فطمع الإفرنج في حران وحاصروها. وكان بين جكرمش وسقمان فتنة وحرب فوضعوا أوزارها لتلافي حران واجتمعا على الخابور وتحالفا ومع سقمان سبعة آلاف من قومه التركمان ومع جكرمش ثلاثة آلاف من قومه الترك ومن العرب والأكراد. وسار إليهم الإفرنج من حران فاقتتلوا واستطردهم المسلمون بعيداً ثم كروا عليهم فأثخنوا فيهم واستباحوا أموالهم. وكان اسمند صاحب إنطاكية وشكري " " صاحب الساحل قد أكمنوا للمسلمين وراء الجبل فلم يظهر لهم أنهم أصحابهم وأقاموا هنالك إلى الليل. ثم هربوا وشعر بهم المسلمون فاتبعوهم وأثخنوا فيهم. وأسر في تلك الواقعة القمص بردويل صاحب الرها أسره بعض التركمان من أصحاب سقمان فشق ذلك على أصحاب جكرمش لكثرة ما امتاز به التركمان من الغنائم وحسنوا له أخذ القمص من " " سقمان فأخذه وأراد التركمان محاربة جكرمش وأصحابه عليه فمنعهم سقمان حذراً من اختلاف المسلمين وسار مفارقاً لهم. وكان يمر بحصون الإفرنج فيخرجون إليه ظناً بنصر أصحابهم فملكها عليهم. وسار جكرمش إلى حران فملكها وولى عليها من قبله. ثم سار إلى الرها وحاصرها أياماً وعاد إلى الموصل وفادى القمص بردويل حرب الإفرنج مع رضوان بن تتش صاحب حلب ثم سار سكري صاحب إنطاكية من الإفرنج سنة ثمان وتسعين إلى حصن أريام من حصون رضوان صاحب حلب فضاقت حالهم واستنجدوا برضوان فسار إليهم وخرج الإفرنج للقائه. ثم طلب الصلح من رضوان فمنعه أصبهبد وصباوو من أمراء السلجوقية كان نزع إليه بعد قتل صاحبه أياز ولقيهم الإفرنج فانهزموا أولاً ثم استماتوا وكروا على المسلمين فهزموهم وأفحشوا في قتلهم وقتل الرجالة الذين دخلوا عسكرهم في الحملة الأولى. ونجا رضوان وأصحابه إلى حلب ولحق صباوو بطغركين أتابك دمشق ورجع الإفرنج إلى حصار الحصن فهرب أهله إلى حلب وملكه الإفرنج والله تعالى ولي التوفيق. حرب الإفرنج مع عساكر مصر كان الأفضل صاحب مصر قد بعث سنة ثمان وتسعين ابنه شرف المعالي في العساكر إلى الرملة فملكها وقهر الإفرنج. ثم اختلف العسكر في ادعاء الظفر وكادوا يقتتلون وأغار عليهم الإفرنج فعاد شرف المعالي إلى مصر فبعث الأفضل ابنه الآخر سناء الملك حسيناً مكانه في العساكر وخرج معه جمال الدين صاحب عسقلان واستمدوا طغركين أتابك دمشق فجهز إليهم اصبهبد صباوو من أمراء السلجوقية. وقصدهم بغدوين صاحب القدس وعكا فاقتتلوا وكثرت بينهم القتلى واستشهد جمال الملك نائب عسقلان وتحاجزوا وعاد كل إلى بلده. وكان مع الإفرنج جماعة من المسلمين منهم بكياش بن تتش ذهب مغاضباً عن دمشق لما عدل عنه طغركين الأتابك بالملك إلى ابن أخيه دقاق وأقام عند الإفرنج والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بمنه. حرب الإفرنج مع طغركين كان قمص من قمامصة الإفرنج بالقرب من دمشق وكان كثيراً ما يغير عليها ويحارب عساكرها فسار إليه طغركين في العساكر وجاء بغدوين ملك القدس لإنجاده على المسلمين فرده ذلك القمص ثقة بكفاءته فرجع إلى عكا وسار طغركين إلى الإفرنج فقاتلهم وحجزهم في حصنهم. ثم خرب الحصن وألقى حجارته في الوادي وأسر الحامية الذين به وقتل من سواهم من أهله وعاد إلى دمشق ظاهراً. ثم سار بعد أسبوع إلى " " وبه ابن أخت صنجيل فملكه وقتل حاميته. استيلاء الإفرنج على حصن أفامية كان خلف بن ملاعب الكلابي متغلباً على حمص وملكها منه تتش كما مر وانتقلت الأحوال إلى مصر. ثم إن رضوان صاحب حلب انتقض عليه واليه بحصن أفامية وكان من الرافضة فبعث بطاعته إلى صاحب مصر واستدعى منهم والياً فبعثوا خلف بن ملاعب لإيثاره الجهاد وأخذوا رهنه فعبى " " في أفامية واستبد بها واجتمع عليه المفسدون. ثم ملك " " من أعمال حلب وأهله رافضة ولحق قاضيها بابن ملاعب في أفامية. ثم أعمل التدبير عليه وبعث إلى أبي طاهر الصائغ من أصحاب رضوان وأعيان الرافضة ودعاتهم وداخله في الفتك بابن ملاعب وتسليم الحصن إلى رضوان. وشعر بذلك ابنا ابن ملاعب وحذرا أباهما من تدبير القاضي عليه. وجاء القاضي فحلف له على كذبه وصدقه وعاد القاضي إلى مداخلة أبي طاهر ورضوان في ذلك التدبير وبعثوا جماعة من أهل سرمين بخيول وسلاح يقصدون الخدمة عند ابن ملاعب فأنزلهم بربض أفامية حتى تم التدبير وأصعدهم القاضي وأصحابه ليلا إلى القلعة فملكوها وقتلوا ابن ملاعب. وهرب ابناه فلحق أحدهما بأبي الحسن بن منقذ صاحب شيزر وقتل الأخر. وجاء أبو طاهر الصائغ إلى القاضي يعتقد أن الحصن له فلم يمكنه القاضي وأقام عنده. وكان بعض بني خلف بن ملاعب عند طغركين بدمشق مغاضباً لأبيه فولاه حصناً من حصونه فأظهر الفساد والعيث فطلبه طغركين فهرب إلى الإفرنج واستحثهم لملك أفامية فحاصروه حتى جهد أهله الجوع وقتلوا القاضي المتغلب فيه والصائغ وذلك سنة تسع وتسعين وخمسمائة. خبر الإفرنج في حصار طرابلس كان صنجيل من ملوك الإفرنج ملازماً لحصار طرابلس وملك جبلة من يد ابن أبي صليحة وبنى على طرابلس حصناً وأقام عليها. ثم هلك وحمل إلى القدس ودفن. وأمر ملك الروم أهل اللاذقية أن يحملوا الميرة إلى الإفرنج المحاصرين طرابلس فحملوها في السفن. وظفر أصحاب ابن عمار ببعضها فقتلوا وأسروا واستمر الحصن خمس سنين فعدمت الأقوات. واستنفد أهل الثروة مكسوبهم في الإنفاق وضاقت أحوالهم وجاءتهم سنة خمسمائة ميرة في البحر من جزيرة قبرص وإنطاكية وجزائر البنادقة فحفظت أرماقهم. ثم بلغ ابن عمار انتظام الأمر للسلطان محمد بن ملك شاه بعد أخيه بركيارق فارتحل إليه صريخاً واستخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب في طرابلس. وخيم ابن عمار على دمشق وأكرمه طغركين. ثم سار إلى بغداد فأكرمه السلطان محمد وأمر بتبليغه والإحتفال لقدومه ووعده بالانجاد. ولم رحل عن بغداد أحضره عنده بالنهروان وأمر الأمير حسين بن أتابك قطلغتكين بالمسير معه وأن يستصحب العساكر التي بعثها مع الأمير مودود إلى الموصل لقتال جاولي سكاوو وأمره بإصلاح جاولي والمسير مع ابن عمار حسبما مر في أخبارهم. ثم وقعت الحرب بين السلطان محمد وبين صدقة بن مزيد واصطلحوا وودعه ابن عمار بعد أن خلع عليه وسار معه الأمير حسين فلم يصل إلى قصده من عساكر الموصل " " مودود والانتقاض فعاد فخر الدين بن عمار إلى دمشق في محرم سنة اثنتين وخمسمائة وسار منها إلى. . . فملكها. وبعث أهل طرابلس إلى الأفضل أمير الجيوش بمصر يستمدونه ويسألون الوالي عليهم فبعث إليهم شرف الدولة ابن أبي الطيب بالمدد والأقوات والسلاح وعدة الحصار واستولى على ذخائر ابن عمار وقبض على جماعة من أهله وحمل الجميع في البحر إلى مصر. |
خبر القمص صاحب الرها مع جاولي ومع صاحب إنطاكية
كان جاولي قد ملك الموصل من يد أصحاب جكرمش ثم انتقض فبعث السلطان إليه مودود في العساكر فسار جاولي عن الموصل وحمل معه القمص بردويل صاحب الرها الذي كان أسره سقمان وأخذه منه جكرمش وأصحابه وترك الموصل. ثم أطلق جاولي هذا القمص في سنة ثلاث وخمسمائة بعد خمس سنين من أسره على مال قرره عليه وأسرى من المسلمين عنده يطلقهم وعلى أن يمده بنفسه وعساكره وماله متى احتاج إلى ذلك. ولما انبرم العقد بينهما بعث بوالي سالم بن مالك بقلعة جعبر حتى جاءه هناك ابن خاله جوسكين تل باشر " " فأقام رهينة مكانه. ثم أطلقه جاولي ورهن مكانه أخا زوجته وزوجة القمص. فلما وصل جوسكين إلى منبج أغار عليها ونهبها وسبى جماعة من أصحاب جاولي وسئل فاعتذر بأن هذه البلاد ليست لكم. لما أطلق القمص سار إلى إنطاكية ليسترد الرها من يد لشكري لأنه أخذها بعد أسره فلم يردها وأعطاه ثلاثين ألف دينار. ثم سار القمص إلى تل باشر وقدم عليه أخوه جوسكين الذي وضعه رهينة عند جاولي. وسار لشكري صاحب إنطاكية لحربهما قبل أن يستفحل أمرهما وينجدهما جاولي فقاتلوه ورجع إلى إنطاكية وأطلق القمص مائة وستين من أسرى المسلمين. ثم سار القمص وأخوه جوسكين وأغاروا على حصون إنطاكية وأمدهم صاحب زغبان وكيسوم وغيرهما من القلاع شمال حلب وهو من الأرمن بألف فارس والذي راجل وخرج إليهم لشكري وتراجعوا للحرب. ثم حملهم الترك على الصلح وحكم على لشكري برد الرها على القمص صاحبها بعد أن شهد عنده جماعة من البطارقة والأساقفة بأن اسمند خال لشعري لما انصرف إلى بلاده أوصاه برد الرها على صاحبها إذا خلص من الأسر فردها لشكري على القمص في صفر سنة ثلاث ووفى القمص لجاولي بما كان بينهما. ثم قصد جاولي الشام ليملكه وتنقل في نواحيه كما مر في أخباره. وكتب رضوان صاحب حلب إلى لشكري صاحب إنطاكية يحذره من جاولي ويستنجده عليه فأجابه وبرز من إنطاكية وبعث إليه رضوان بالعساكر. واستنجد جاولي القمص صاحب الرها فأنجده بنفسه ولحق به على منبج وجاءه الخبر هنالك باستيلاء عسكر السلطان على بلده الموصل وعلى خزائنه بها وفارقه كثير من أصحابه منهم زنكي بن أقسنقر فنزل جاولي تل باشر وتزاحف مع لشكري هنالك واشتد القتال. واستمر أصحاب إنطاكية فتخاذل أصحاب جاولي وانهزموا وذهب الإفرنج بسوادهم فجاء القمص وجوسكين إلى تل باشر والله تعالى أعلم. حروب الإفرنج مع طغركين كان طغركين قد سار إلى طبرية سنة اثنتين وخمسمائة فسار إليه ابن أخت بغدوين ملك القدس واقتتلوا فانكشف المسلمون. ثم استماتوا وهزموا الإفرنج وأسروا ابن أخت الملك فقتله طغركين بيده بعد أن فادى نفسه بثلاثين ألف دينار وخمسمائة أسير فلم يقبل منه إلا الإسلام أو القتل. ثم اصطلح طغركين وبغدوين لمدة أربع سنين. وكان حصن غزية من أعمال طرابلس بيد مولي ابن عمار فعصى عليه وانقطعت عنه الميرة بعيث الإفرنج في نواحيه فأرسل إلى طغركين بطاعته فبعث إسرائيل من أصحابه ليمتلك الحصن ونزل منه مولى ابن عمار فرماه إسرائيل في الزحام بسهم فقتله حذراً أن يطلع الأتابك على مخلفه. وقصد طغركين الحصن لمشارفة أحواله فمنعه نزول الثلج حتى إذا انقشع وانجلى سار في أربعة آلاف فارس وفتح حصوناً للإفرنج منها حصن الأكمة وكان السرداني من الإفرنج يحاصر طرابلس فسار للقائه فلما أشرف عليه انهزم طغركين وأصحابه إلى حمص وملك السرداني حصن غزية بالأمان ووصل طغركين إلى دمشق فبعث إليه بغدوين من القدس بالبقاء على الصلح وذلك في شعبان سنة اثنتين. استيلاء الإفرنج على طرابلس وبيروت وصيدا وجبيل وبانياس ولما عادت طرابلس إلى صاحب مصر من يد ابن عمار وولي عليها نائبه والإفرنج يحاصرونها وزعيمهم السرداني ابن أخت صنجيل فلما كانت سنة ثلاث وخمسمائة في شعبان ووصل القمص والد صنجيل وليس صنجيل الأول وإنما هو قمص آخر بمراكب عديدة مشحونة بالرجال والسلاح والميرة وجرت بينه وبين السرداني فتنة واقتتلوا. وجاء لشكري صاحب إنطاكية مدداً للسرداني. ثم جاء بغدوين ملك القدس وأصلح بينهم وحاصروا طرابلس ونصبوا عليها الأبراج فاشتد بهم الحصار وعدموا القوت لتأخر الأسطول المصري بالميرة ثم زحفوا إلى قتالها بالأبراج وملكوها عنوة ثاني الأضحى واستباحوها وأثخنوا فيها. وكان النائب بها قد استأمن إلى الإفرنج قبل ذلك بليال وملكها بالأمان ونزل على مدينة ولحق ابن عمار بشيزر فنزل على صاحبها سلطان بن علي بن منقذ الكناني ولحق منها بدمشق فأكرمه طغركين وأقطعه الزبداني من أعمال دمشق في محرم سنة أربع ووصل أسطول مصر بالميرة بعد أخذ طرابلس بثمانية أيام فأرسى بساحل صور وفرقت الغلال في جهاتها في صور وصيدا وبيروت. ثم استولى الإفرنج على صيدا في ربيع الآخر سنة أربع وخمسمائة. وذلك أنه وصل أسطول للإفرنج من ستين مركباً مشحونة بالرجال والذخائر وبها ملوكهم بقصد الحج والغزو فاجتمعوا مع بغدوين صاحب القدس ونازلوا صيدا براً وبحراً وأسطول مصر يعجز عن إنجادهم. ثم زحفوا إلى صور في أبراج الخشب المصفحة فضعفت نفوسهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت فاستأمنوا فأمنهم الإفرنج في جمادى الأولى ولحقوا بدمشق بعد سبعة وأربعين يوماً من الحصار. وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان وعاد بغدوين إلى القدس. استيلاء أهل مصر على عسقلان كانت عسقلان لخلفاء العلوية بمصر وقد ذكرنا حروب الإفرنج مع عساكرهم عليها وآخر من استشهد منهم جمال الملك نائبها كما مر آنفاً. وولي عليها شمس الخلافة فراسل بغدوين ملك القدس وهاداه ليمتنع به من الخليفة بمصر. وبعث الأفضل بن أمير الجيوش العساكر إليه سنة أربع وخمسمائة مع قائد من قوادهم مورياً بالغزو وأسر إليه بالقبض على شمس الخلافة والولاية مكانه بعسقلان. وشعر شمس الخلافة بذلك فجاهر بالعصيان فخشي أن يملكها الإفرنج فراسله وأقره على عمله وعزل شمس الخلافة جند عسقلان واستنجد جماعة من الأرمن فاستوحش منه أهل البلد ووثبوا به فقتلوه وبعثوا إلى الأمير الأفضل صاحب مصر المستولي عليها بطاعتهم فجاءهم الوالي من قبله واستقامت أمورهم. استيلاء الإفرنج على حصن الأثارب وغيره ثم جمع لشكري صاحب إنطاكية واحتشد وسار إلى حصن الأقارب على ثلاثة فراسخ من حلب فحاصره وملكه عنوة وأثخن فيهم بالقتل والسبي. ثم سار إلى حصن وزدناد ففعل فيه مثل ذلك وهرب أهله منه ومارس على بلديهما. ثم سار عسكر من الإفرنج إلى مدينة صيدا فملكوها على الأمان وأشفق المسلمون من استيلاء الإفرنج على الشام. وراسلوهم في الهدنة فامتنعوا إلا على الضريبة فصالحهم رضوان صاحب حلب على اثنين وثلاثين ألف دينار وعدة من الخيول والثياب وصاحب صور على سبعة آلاف دينار وابن منقذ صاحب شيزر على أربعة آلاف دينار وعلي الكردي صاحب ثم اعترضت مراكب الإفرنج التجار من مصر فأخذوها وأسروهم. وسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد للنفير فدخلوها مستغيثين ومعهم خلق من الفقهاء والغوغاء وقصدوا جامع السلطان يوم الجمعة فمنعوا الناس من الصلاة بضجيجهم وكسروا المنبر فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد. وبعث من دار الخلافة منبراً للجامع. ثم قصدوا في الجمعة الثانية جامع القصر في مثل جمعهم ومنعهم صاحب الباب فدفعوا ودخلوا الجامع وكسروا شبابيك المقصورة والمنبر وبطلت الجمعة. وأرسل الخليفة إلى السلطان في رفع هذا الحزن فأمر الأمراء بالتجهز للجهاد وأرسل ابنه الملك مسعوداً مع الأمير مودود صاحب الموصل ليلحق به الأمراء ويسيروا جميعاً إلى قتال الإفرنج. |
مسير الأمراء السلجوقية إلى قتال الإفرنج
ولما سار مسعود بن السلطان مع الأمير مودود إلى الموصل اجتمع معهم الأمراء سقمان القطبي صاحب ديار بكر وابنا برسق ابلتكي وزنكي أصحاب همذان والأمير أحمد بك صاحب مراغة وأبو الهيجاء صاحب إربل واياز بن أبي الغازي بعثه أخوه صاحب ماردين. وساروا جميعاً إلى سنجار وفتحوا عدة حصون للافرنج ونزلوا على مدينة الرها وحاصروها واجتمعوا مع الإفرنج على الفرات. وخام الطائفتان عن اللقاء وتأخر المسلمون إلى حران يستطردون للإفرنج لعلهم يعبرون الفرات فخالفهم الإفرنج إلى الرها وشحنوها أقواتاً وعدة وأخرجوا الضعفاء منها. ثم عبروا الفرات إلى نواحي حلب لأن الملك رضوان صاحبها لما عبروا إلى الجزيرة ارتجع بعض الحصون التي كان الإفرنج أخذوها بأعمال حلب فطرقوها الآن فاكتسحوا نواحيها. وجاءت عساكر السلطان إلى الرها وقاتلوها فامتنعت عليهم فعبروا الفرات وحاصروا قلعة تل باشر شهراً ونصفاً فامتنعت فرحلوا إلى حلب فقعد الملك رضوان عن لقائهم ومرض هنالك سقمان القطبي ورجعوا فتوفي في بالس وحمل شلوه إلى بلده ونزلت العساكر السلطانية على معرة النعمان فخرج طغركين صاحب دمشق إلى موعود ونزل عليه. ثم ارتاب لما رأى من الأمراء في حقه فدس للإفرنج بالمهادنة. ثم افترقت العساكر كما ذكرنا في أخبارهم. وبقي مودود مع طغركين على نهر العاصي. وطمع الإفرنج بافتراقهم فساروا إلى أفامية. وخرج سلطان بن منقذ صاحب شيزر إلى مودود وطغركين فرحل بهم إلى شيزر وهون عليهم أمر الإفرنج. وضاقت الميرة على الإفرنج فرحلوا واتبعهم المسلمون يتخطفون من أعقابهم حتى أبعدوا والله تعالى أعلم. حصار الإفرنج مدينة صور ولما افترقت العساكر السلطانية خرج بغدوين ملك القدس وجمع الإفرنج ونزلوا على مدينة صور في جمادى الأولى من سنة خمس وهي للأمير الأفضل صاحب مصر ونائبه بها عز الملك الأغر ونصبوا عليها الأبراج والمجانيق. وانتدب بعض الشجعان من أهل طرابلس كان عندهم في ألف رجل وصدقوا الحملة حتى وصلوا البرج المتصل بالسور فأحرقوه ورموا الآخرين بالنفط فأحرقوهم. واشتد القتال بينهم وبعث أهل صور إلى طغركين صاحب دمشق يستنجدونه على أن يمكنوه من البلد فجاء إلى بانياس وبعث إليهم بمائتي فرس واشتد القتال وبعث نائب البلد إلى طغركين بالاستحثاث للوصول ليمكنه من البلد. وكان طغركين يغير على أعمال الإفرنج في نواحيها وملك لهم حصناً من أعمال دمشق وقطع الميرة عنهم فساروا يحملونها في البحر. ثم سار إلى صيدا وأغار عليها ونال منها. ثم أزهت الثمرة وخشي الإفرنج من طغركين على بلادهم فأفرجوا عن صور إلى عكا. وجاء طغركين إلى صور فأعطى الأموال واشتغلوا بإصلاح سورهم وخندقهم والله أعلم. أخبار مودود مع الإفرنج ومقتله ووفاة صاحب إنطاكية ثم سار الأمير مودود صاحب الموصل سنة ست إلى سروج وعاث في نواحيها فخرج جكرمش صاحب تل باشر وأغار على ثوابهم فاستاقها من راعيها وقتل كثيراً من العسكر ورجع. ثم توفي الأمير الأرمني صاحب الدروب ببلاد ابن كاور فسار لشكري صاحب إنطاكية من الإفرنج إلى بلاده ليملكها فمرض وعاد إلى إنطاكية ومات منتصف سنة ست وملكها بعده ابن أخته سرجان واستقام أمره. ثم جمع الأمير مودود صاحب الموصل العساكر واحتشد وجاءه تميرك صاحب سنجار واياز بن أبي الغازي صاحب ماردين وطغركين صاحب دمشق ودخلوا في محرم سنة سبع إلى بلاد الإفرنج. وخرج بغدوين ملك القدس وجوسكين صاحب القدس يغير على دمشق فعبروا الفرات وقصدوا القدس ونزلوا على الأردن والإفرنج عدوتهم واقتتلوا منتصف محرم فانهزم الإفرنج وهلك منهم كثير في بحيرة طبرية والأردن وغنم المسلمون سوادهم. وساروا منهزمين فلاقيهم عسكر طرابلس وإنطاكية فشردوا معهم وأقاموا على جبل طبرية وحاصرهم المسلمون نحواً من شهر فلم يظفروا بهم فتركوهم وانساحوا في بلاد الإفرنج ما بين عكا والقدس واكتسحوها. ثم انقطعت المواد عنهم للبعد عن بلادهم فعادوا إلى مرج الصفر على نية العود للغزاة في فصل الربيع وأذنوا للعساكر في الانطلاق. ودخل مودود إلى دمشق يقيم بها إلى أوان اجتماعهم فطعنه باطني في الجامع حين منصرفه من صلاة الجمعة آخر ربيع الأول من السنة ومات من يومه واتهم أخبار البرسقي مع الإفرنج ولما قتل مودود بعث السلطان محمد مكانه أقسنقر البرسقي ومعه ابنه السلطان مسعود في العساكر لقتال الإفرنج. وبعث إلى الأمراء بطاعته فجاءه عماد الدين زنكي بن أقسنقر وتميرك صاحب سنجار. وسار إلى جزيرة ابن عمر وملكها من يد نائب مودود. ثم سار إلى ماردين فحاصرها إلى أن أذعن أبو الغازي صاحبها وبعث معه ابنه أيازاً في العساكر فساروا إلى الرها وحاصروها في ذي الحجة سنة ثمان مدة سبعين يوماً فامتنعت وضاقت الميرة على المسلمين فرحلوا إلى شمشاط وسروج وعاثوا في تلك النواحي وهلك في خلال ذلك بكواسيل صاحب مرعش وكيسوم وزغبان من الإفرنج وملكت زوجته بعده وامتنعت من الإفرنج. وأرسلت إلى البرسقي على الرها بطاعته فبعث إليها صاحب الخابور فردته بالأموال والهدايا وبطاعتها فعاد من كان عندها من الإفرنج إلى إنطاكية والله أعلم. الحرب بين العساكر السلطانية والفرنج كان السلطان محمد قد تنكر لطغركين صاحب دمشق لاتهامه إياه بقتل مودود فعصى وأظهر الخلاف وتابعه أبو الغازي صاحب ماردين لما كان بينه وبين البرسقي فأهم السلطان شأنهما وشأن الإفرنج وقوتهم وجهز العساكر مع الأمير برسق صاحب همذان وبعث معه الأمير حيوس بك والأمير كسكري وعساكر الموصل والجزيرة وأمرهم بغزو الإفرنج بعد الفراغ من شأن أبي الغازي وطغركين فساروا في رمضان سنة ثمان وعبروا الفرات عند الرملة. وجاءوا إلى حلب وبها لؤلؤ الخادم بعد رضوان ومقدم العساكر شمس الخواص وعرضوا عليهما كتب السلطان بتسليم البلد فدافعا بالجواب واستنجدا أبا الغازي وطغركين فوصلا إليهما في ألفي فارس وامتنعا بها على العسكر فسار الأمير برسق إلى حماة من أعمال طغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثاً وسلمها للأمير قرجان صاحب حمص بأمر السلطان بذلك في كل بلد يفتحونه فنفس عليه الأمراء ذلك وفسدت ضمائرهم. وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص قد ساروا إلى إنطاكية مستنجدين بصاحبها روميل على مدافعتهم عن حماة فبلغهم فتحها ووصل إليهم بإنطاكية بندوين ملك القدس وطرابلس وغيره من شياطين الإفرنج واجتمعوا على أفامية واتفقوا على مطاولة المسلمين إلى فصل الشتاء ليتفرقوا. فلما أطل الشتاء والمسلمون مقيمون عاد أبو الغازي إلى ماردين وطغركين إلى دمشق والإفرنج إلى بلادهم وقصد المسلمون كفر طاب وكانت هي وأفامية للافرنج فملكوها عنوة وفتكوا بالإفرنج فيها وأسر صاحبها. ثم ساروا إلى قلعة أفامية فاستعصت عليهم فعادوا إلى المعرة وهي للإفرنج. وفارقهم الأمير حيوس بك إلى وادي مراغة فملكه وسارت العساكر من المعرة إلى حلب وأثقالهم ودوابهم وهم وكان روميل صاحب إنطاكية قد سار في خمسمائة فارس والذي راجل للمدافعة كل كفرطاب وأطل على خيام المسلمين قبل وصولهم فقتل من وجد بها من السوقة والغلمان وأقام الإفرنج بين الخيام يقتلون كل من لحق بها حتى وصل الأمير برسق وأخوه زنكي فصعدا ربوة هناك. وأحاط الفل من المسلمين به وعزم برسق علم الاستماتة. ثم غلبه أخوه زنكي على النجاة فنجا فيمن معه واتبعهم الإفرنج فرسخاً ورجعوا عنه وافترقت العساكر الإسلامية منهزمة إلى بلادها. وأشفق أهل حلب وغيرها من بلاد الشام من الإفرنج بعد هذه الواقعة وسار الإفرنج إلى رميلة من أعمال دمشق فملكوها وبالغوا في تحصينها واعتزم طغركين على تخريب بلاد الإفرنج. ثم بلغه الخبر عن خلو رميلة من الحامية فبادر إليها سنة تسع وملكها عنوة وقاتل وأسر وغنم وعاد إلى دمشق. ولم تزل رميلة بيد المسلمين إلى أن حاصرها الإفرنج سنة عشرين وخمسمائة وملكوها والله أعلم. |
وفاة ملك الإفرنج وأخبارهم بعده مع المسلمين
ثم توفي بغدوين ملك الإفرنج بالقدس آخر سنة إحدى عشرة وخمسمائة وكان قد زحف إلى ديار بكر طامعاً في ملكها فانتهى إلى تنيس وشج في الليل فانتقض عليه جرحه وعاد إلى القدس فمات. وعاد القمص صاحب الرها الذي كان أسره جكرمش وأطلقه جاولي وكان حاضراً عنده لزيارة قمامة. وكان أتابك طغركين قد سار لقتال الإفرنج ونزل اليرموك فبعث إليه قمص في المهادنة فاشترط طغركين ترك المناصفة من جبل عردة إلى الغور فلم يقبل القمص فسار طغركين إلى طبرية. ونهب نواحيها وسار منها إلى عسقلان. ولقي سبعة آلاف من عساكر مصر قد جاءوا في أثر بغدوين عندما ارتحل عن ديار بكر فاعلموا أن صاحبهم تقدم إليهم بالوقوف عند أمر طغركين فشكر لهم ذلك وعاد إلى دمشق وأتاه الخبر بأن الإفرنج قصدوا أذرعات ونهبوها بعد أن ملكوا حصناً من أعماله فأرسل إليهم تاج الملك بوري في أثرهم فحاصرهم في جبل هناك حتى يئسوا من أنفسهم. وصدقوا الحملة عليهم فهزموهم وأفحشوا في القتل وعاد الفل إلى دمشق. وسار طغركين إلى حلب يستنجد أبا الغازي فوعده بالمسير معه ثم جاء الخبر بأن الإفرنج قصدوا أعمال دمشق فنهبوا حوران واكتسحوها فرجع طغركين إلى دمشق وأبو الغازي إلى ماردين إلى حشد العساكر وقصدوا الاجتماع على حرب الإفرنج. ثم سار الإفرنج سنة ثلاثة عشر إلى نواحي حلب فملكوا مراغة ونازلوا المدينة فصانعهم أهلها بمقاسمتهم أملاكهم وزحف أبو الغازي من ماردين في عشرين ألفاً من العساكر والمتطوعة ومعه أسامة بن مالك بن وسار الإفرنج إلى صنبيل عرمس قرب الأثارب فنزلوا به في موضع منقطع المسالك وعزموا على المطاولة فناجزهم أبو الغازي وسار إليهم ودخل عليهم في مجتمعهم وقاتلوه أشد القتال فلم يقاوموه وفتك بهم فتكة شنعاء. وقتل فيهم سرحان صاحب إنطاكية وأسر سبعون من زعمائهم وذلك منتصف ربيع من السنة. ثم اجتمع فل الإفرنج وعاودوا الحرب فهزمهم أبو الغازي وملك عليهم حصن الأثارب ورزدنا وجاء إلى حلب فأصلح أحوالها وعاد إلى ماردين. ثم سار جوسكين صاحب تل باشر في مائتين من الإفرنج ليكبس حلة من أحياء طيء يعرفون ببني خالد فأغار عليهم وغنم أموالهم ودلوه على بقية قومهم من بني ربيعة فيما بين دمشق وطبرية فبعث أصحابه إليهم وسار هو من طريق آخر فضل عن الطريق ووصل أصحابه إليهم وأميرهم وعدة من ربيعة فقاتلهم وغلبهم وقتل منهم سبعين وأسر اثني عشر ففاداهم بمال جزيل من الأسرى وبلغ إلى جوسكين في طريقه فعاد إلى طرابلس وجمع جمعاً وأغار على عسقلان فهزمه المسلمون وعاد مفلولاً والله أعلم. ارتجاع الرها من الإفرنج ثم سار بهرام أخو أبي الغازي إلى مدينة الرها وحاصرها مدة فلم يظفر بها فرحل عنها. ولقيه النذير بأن جوسكين صاحب الرها وسروج قد سار لاعتراضه وقد تفرق عن مالك أصحابه فاستجاب لما وصل إليه الإفرنج ودفعهم لأرض سبخة فوصلت فيهم خيولهم فلم يفلت منهم أحد وأسر جوسكين وخاط عليه جلد جمل وفادى نفسه بأموال جليلة فأبى مالك من فديته إلا أن يسلم حصن الرها فلم يفعل وحبسه في خرت برت ومعه كلمام ابن خالته وكان من شياطينهم وجماعة من زعمائهم والله تعالى أعلم وبه التوفيق. استيلاء الإفرنج على خرن برن وارتجاعها منهم كان مالك بن بهرام صاحب خرت برت وكان في جواره الإفرنج في قلعة كوكر فحاصرهم بها وسار بغدوين إليه في جموعه فلقيه في صفر سنة سبعة عشر فهزم الإفرنج وأسر ملكهم وجماعة من زعمائهم وحبسهم مالك في قلعة خرت برت مع جوسكين صاحب الرها وأصحابه. وسار مالك إلى حران في ربيع الأول وملكها ولما غاب من خرت برت تحيل الإفرنج وخرجوا من محبسهم بمداخلة بعض الجند. وسار بغدوين إلى بلده وملك الآخرون القلعة فعاد مالك إليهم وحاصرها وارتجعها من أيديهم ورتب فيها الحامية والله تعالى ولي التوفيق. استيلاء الإفرنج على مدينة صور كانت مدينة صور لخلفاء العلوية بمصر وكان بها عز الملك من قبل الأفضل بن أمير الجيوش المستبد على الأمر بمصر وتجهز الإفرنج لحصارها سنة ست فاستمدوا طغركين صاحب دمشق فأمدهم بعسكر ومال مع وال من قبله اسمه مسعود فجاء إليها ولم يغير دعوة العلوية بها في خطبة ولا سكة. وكتب إلى الأفضل بذلك وسأله تردد الأسطول إليه بالمدد فأجابه وشكره. ثم قتل الأفضل وجاء الأسطول إليها من مصر على عادته وقد أمر مقدمه أن يعمل الحيلة في القبض على مسعود الوالي بصور من قبل طغركين لشكوى أهل مصر منه فقبض عليه مقدم الأسطول وحمله إلى مصر وبعثوا به إلى دمشق. وأقام الوالي من قبل أهل مصر في مدينة صور وكتب إلى طغركين بالعذر عن القبض على مسعود واليه وكان ذلك سنة ستة عشر. ولما بلغ الإفرنج انصراف مسعود عن صور قوي طمعهم فيها وتجهزوا لحصارها. وبعث الوالي الأمير بذلك وبعجزه عن مقاومة حصارهم لها. وسار طغركين إلى بانياس ليكون قريباً من صريخها وبعث إلى أهل مصر يستنجدهم فراسل الإفرنج في تسليم البلد وخروج من فيها فدخلها الإفرنج آخر جمادى الأولى من السنة بعد أن حمل أهلها ما أطاقوا وتركوا ما عجزوا عنه والله سبحانه وتعالى أعلم. فتح البرسقي كفر طاب وانهزامه من الإفرنج ثم جمع البرسقي عساكره وسار سنة تسعة عشر إلى كفر طاب وحاصرها فملكها من الإفرنج. ثم سار إلى قلعة اعزاز شمالي حلب وبها جوسكين فحاصرها واجتمع الإفرنج وساروا لمدافعته فلقيهم وقاتلهم شديداً فمحص الله المسلمين وانهزموا. وفتك النصارى فيهم ولحق البرسقي بحلب فاستخلف بها ابنه مسعوداً وعبر الفرات إلى الموصل ليستمد العساكر ويعود لغزوهم فقضى الله بمقتله وولي ابنه عز الدين بعده قليلا. ثم مات سنة إحدى وعشرين وولى السلطان محمود عماد الدين زنكي بن أقسنقر مكانه على الموصل والجزيرة وديار بكر كما مر في أخبار دولة السلجوقية. ثم استولى منها على الشام وأورث ملكها بنيه فكانت لهم دولة عظيمة بهذه الأعمال نذكرها إن شاء الله تعالى. ونشأت عن دولتهم دولة بني أيوب وتفرعت منها كما نذكره. ونحن الآن نترك من أخبار الإفرنج هنا جميع ما يتعلق بدولة بني زنكي وبني أيوب حتى نوردها في أخبار تينك الدولتين لئلا تتكرر الأخبار ونذكر في هذا الموضع من أخبار الإفرنج ما ليس له تعلق بالدولتين فإذا طالعه المتأمل علم كيف يرد كل خبر إلى مكانه بجودة قريحته وحسن تأنيه. |
الحرب بين طغركين والإفرنج
ثم اجتمعت الإفرنج سنة عشرين وخمسمائة وساروا إلى دمشق ونزلوا مرج الصفر واستنجد طغركين صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها فجاؤوا إليه وكان هو قد سار إلى جهة الإفرنج آخر سنة عشرين وقاتلهم وسقط في المعترك فظن أصحابه أنه قتل فانهزموا وركب فرسه وسار معهم منهزماً والإفرنج في اتباعهم وقد أثخنوا في رجالة التركمان فلما اتبعوا المنهزمين خالف الرجالة إلى معسكرهم فنهبوا سوادهم وقتلوا من وجدوا فيه ولحقوا بدمشق. ورجع الإفرنج من المنهزمين فوجدوا خيامهم منهوبة فساروا منهزمين. ثم كان سنة ثلاث وعشرين واقعة المزدغاني والاسماعيلية بدمشق بعد أن طمع الإفرنج في ملكها فأسف ملوك الإفرنج على قتله وسار صاحب القدس وصاحب إنطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم من القمامصة ومن وصل في البحر للتجارة أو الزيارة وساروا إلى دمشق في الذي فارس ومن الرجال ما لا يحصى. وجمع طغركين من العرب والتركمان ثمانية آلاف فارس وجاء الإفرنج آخر السنة ونازلوا دمشق وبثوا سراياهم للإغارة بالنواحي وجمع الميرة وسمع تاج الملك بسرية في حوران فبعث شمس الخواص من أمرائه ولقوا سرية الإفرنج وظفروا بهم وغنموا ما معهم وجاءوا إلى دمشق. وبلغ الخبر إلى الإفرنج فأجفلوا عن دمشق بعد أن أحرقوا ما تعذر عليهم حمله وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون. ثم إن اسمند صاحب إنطاكية سار إلى حصن القدموس وملكه والله تعالى يؤيد من هزيمة صاحب طرابلس ثم اجتمع سنة سبع وعشرين جمع كبير من تركمان الجزيرة وأغاروا على بلاد طرابلس وقتلوا وغنموا فخرج إليهم القمص صاحبها فاستطردوا له. ثم كروا عليه فهزموه ونالوا منه. ونجا إلى قلعة بقوين فتحصن بها وحاصره التركمان فيها فخرج من القلعة ليلا في عشرين من أعيان أصحابه ونجا إلى طرابلس واستصرخ الإفرنج من كل ناحية. وسار بهم إلى بقوين لمدافعة التركمان فقاتلهم حتى أشرف الإفرنج على الهزيمة. ثم تحيزوا إلى أرمينية وتعذر على التركمان اتباعهم فرجعوا عنهم انتهى. فتح صاحب دمشق بانياس كان بوري بن طغركين صاحب دمشق لما توفي سنة ست وعشرين وخمسمائة وولي مكانه ابنه شمس الملوك إسماعيل فاستضعفه الإفرنج وتعرضوا لنقض الهدنة. ودخل بعض تجار المسلمين إلى سروب فأخذوا أموالهم. وراسلهم شمس الملوك في ردها عليهم فلم يفعلوا فتجهز وسار إلى بانياس في صفر سنة سبع وعشرين فنازلها وشدد حصارها. ونقب المسلمون سورها وملكوها عنوة واستلحموا الإفرنج بها. واعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا بعد يومين. وكان الإفرنج قد جمعوا لمدافعة شمس الملوك فجاءهم خبر فتحها فأقصروا. ثم سار شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق إلى شقيف بيروت وهو في الجبل المطل على بيروت وصيدا وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم وهو ممتنع به. وقد تحاماه المسلمون والإفرنج وهو يحتمي من كل منهما بالآخر فسار إليه شمس الملوك وملكه في المحرم سنة ثمان وعشرين. وعظم ذلك على الإفرنج وخافوا شمس الملوك فساروا إلى بلد حوران وعاثوا في جهاتها. ونهض شمس الملوك ببعض عساكره وجمر الباقي قبالة الإفرنج وقصد طبرية والناصرة وعكا فاكتسح نواحيها. وجاء الخبر إلى الإفرنج فأجفلوا إلى بلادهم وعظم عليهم خرابها وراسلوا شمس الملوك في تجديد الهدنة فجددها لهم انتهى والله أعلم. استيلاء الإفرنج على بونة ووفاة رجار صاحب صقلية استيلاء الإفرنج على جزيرة جربة من إفريقية كانت جزيرة جربة من أعمال أفريقية ما بين طرابلس وقابس وكان أهلها من قبائل البربر قد استبدوا بجزيرتهم عندما دخل العرب الهلاليون إفريقية ومزقوا ملك صنهاجة بها. وقارن ذلك استفحال ملك الإفرنج برومة وما إليها من البلاد الشمالية. وتطاولوا إلى ملك بلاد المسلمين فسار ملكهم بردويل فيمن معه من زعمائهم وأقماصهم إلى الشام فملكوا مدنه وحصونه كما ذكرناه آنفاً. وكان من ملوكهم القمص رجار بن نيغر بن خميرة وكان كرسيه مدينة ميلكوا مقابل جزيرة صقلية. ولما ضعف أمر المسلمين بها وانقرضت دولة بني أبي الحسين الكلبي منها سما رجار هذا إلى ملكها وأغراه المتغلبون بها على بعض نواحيها فأجاز إليها عساكره في الأسطول في سبيل التضريب بينهم. ثم ملكها من أيديهم معقلا معقلا إلى أن كان آخرها فتخاطر ابنه ومازرعة من يد عبد الله بن الجواس أحد الثوار بها فملكها من يده صالحاً سنة أربع وستين وأربعمائة وانقطعت كلمه الإسلام بها. ثم مات رجار سنة أربع وتسعين فولى ابنه رجار مكانه وطالت أيامه واستفحل ملكه وذلك عندما هبت ريح الإفرنج بالشام وجاسوا خلالها وصاروا يتغلبون على ما يقدرون عليه من بلاد المسلمين. وكان رجار بن رجار يتعاهد سواحل إفريقية بالغزو فبعث سنة ثلاث وخمسين أسطول صقلية إلى جزيرة جربة وقد تقلص عنها ظل الدولة الصنهاجية فأحاطوا بها واشتد القتال. ثم اقتحموا الجزيرة عليهم عنوة وضموا وسبوا واستأمن الباقون وأقرهم الإفرنج في جزيرتهم على جزية وملكوا عليهم أمرهم والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. فتح صاحب دمشق بعض حصون الإفرنج ثم بعث شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق عساكره مع الأمير خزواش سنة إحدى وثلاثين إلى طرابلس الشام ومعه جمع كثير من التركمان والمتطوعة. وسار إليه القمص صاحب طرابلس فقاتلوه وهزموه وأثخنوا في عساكره وأحجزه بطرابلس وعاثوا في أعماله وفتحوا حصن وادي ابن الأحمر من حصونه عنوة واستباحوه واستلحموا من فيه من الإفرنج. ثم سار الإفرنج سنة خمس وثلاثين إلى عسقلان وأغاروا في نواحيها. وخرج إليهم عسكر مصر الذين بها فهزموا الإفرنج وظفروا بهم وعادوا منهزمين وكفى الله شرهم بمنه وكرمه. استيلاء الإفرنج على طرابلس الغرب كان أهل طرابلس الغرب لما انحل نظام الدولة الصنهاجية بأفريقية وتقلص ظلها عنهم قد استبحوا بأنفسهم وكان بالمهدية آخر الملوك من بني باديس وهو الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز فاستبد لعهده في طرابلس أبو يحيى بن مطروح ورفضوا دعوة الحسن وقومه. وذلك عندما تكالب الإفرنج على الجهات فطمع رجار في ملكها. وبعث إسطوله في البحر فنازلها آخر سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فنقبوا سورها. واستنجد أهلها بالعرب فأنجدوهم وخرجوا إلى الإفرنج فهزموهم وغنموا أسلحتهم ودوابهم. ورجع الإفرنج إلى صقلية فتجهزوا إلى المغرب وطرقوا جيجيل من سواحل بجاية. وهرب أهلها إلى الجبل ودخلوها فنهبوها وخربوا القصر الذي بناه بها يحيى بن العزيز بن حماد ويسمى النزهة ورجعوا إلى بلادهم. ثم بعث رجار أسطوله إلى طرابلس سنة إحدى وأربعين فأرسى عليها ونزل المقاتلة وأحاطوا بها براً وبحراً وقاتلوها ثلاثاً. وكان أهل البلد قد اختلفوا قبل وصول الإفرنج وأخرجوا بني مطروح وولوا عليهم رجلا من أمراء لمتونة قام حاجاً في قومه فولوه أمرهم فلما شغل أهل البلد بقتال الإفرنج اجتمعت شيعة بني مطروح وأدخلوهم البلد. ووقع بينهم القتال فلما شعر الإفرنج بأمرهم بادروا إلى الأسوار فنصبوا عليها السلالم وتسنموها وفتحوا البلد عنوة وأفحشوا في القتل والسبي والنهب ونجا كثير من أهلها إلى البربر والعرب في نواحيها. ثم رفعوا السيف ونادوا بالأمان فتراجع المسلمون إلى البلد وأقروهم على الجزية وأقاموا بها ستة أشهر حتى أصلحوا أسوارها وفنادقها وولوا عليها ابن مطروح وأخذوا رهنه على الطاعة ونادوا في صقلية بالمسير إلى طرابلس فسار إليها الناس وحسنت عمارتها. استيلاء الإفرنج على المهدية كانت قابس عندما اختل نظام الدولة الصنهاجية واستبد بها " " ابن كامل بن جامع من قبائل رياح إحدى بطون هلال الذين بعثهم الجرجاني وزير المستنصر بمصر على المعز بن باديس وقومه فأضرعوا الدولة وأفسدوا نظامها وملكوا بعض أعمالها. واستبد! آخرون من أهل البلاد بمواضعهم فكانت قابس هذه في قسمة بني دهمان هؤلاء. وكان لهذا العهد رشيد أميراً بها كما ذكرنا ذلك في أخبار الدولة الصنهاجية من أخبار البربر. وتوفي رشيد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ونصب مولاه يوسف ابنه الصغير محمد بن رشيد وأخرج ابنه الكبير معمراً واستبد على محمد وتعرض لحرمه سراً. وكان فيهن امرأة رشيد وساروا إلى التمحض بصاحب المهدية يشكون فعله. وكاتبه الحسن في ذلك فلم يجبه وتهدده بإدخال الإفرنج إلى قابس فجهز إليه العساكر. وبعث يوسف إلى رجار صاحب طرابلس بطاعته وأن يوليه على قابس كما ولى ابن مطروح على طرابلس. وشعر أهل البلد بمداخلته للإفرنج فلما وصل عساكر الحسن ثاروا به معهم وتحصن يوسف بالقصر فملكوه عنوة وأخذ يوسف أسيراً وملك معي قابس مكان أخيه محمد. وامتحن يوسف بأنواع العذاب إلى أن هلك وأخذ بنو قرة أختهم ولحق عيسى أخو يوسف وولد يوسف برجار صاحب صقلية واستجاروا به وكان الغلاء قد اشتد بإفريقية سنة سبع وثلاثين. ولحق أكثر أهلها بصقلية وأكل بعضهم بعضاً وكثر الموتان فاغتنم رجار الفرصة ونقض الصلح الذي كان بينه وبين الحسن بن علي صاحب المهدية لسنين. وجهز أسطوله مائتين وخمسين من الشواني وشحنها بالمقاتلة والسلاح ومقدم الأسطول جرجي بن ميخاييل أصله من المتنصرة وقد ذكرنا خبره في أخبار صنهاجة والموحدين فقصد قوصرة وصادف بها مركباً من المهدية فغنمه ووجد عندهم حمام البطاقة فبعث الخبر إلى المهدية على أجنحتها بأن أسطول الإفرنج أقلع إلى القسطنطينية. ثم أقلع فأصبح قريباً من المرسى في ثامن صفر سنة ثلاث وأربعين وقد بعث الله الريح فعاقتهم عن دخول المرسى ففاته غرضه. وكتب إلى الحسن بأنه باق على الصلح وإنما جاء طالباً بثأر محمد بن رشيد ورده إلى بلده قابس فجمع الحسن الناس واستشارهم فأشاروا بالقتال فخام عنه واعتذر بقلة الأقوات وارتحل من البلد وقد حمل ما خف حمله وخرج الناس بأهاليهم وما خف من أموالهم واختفى كثير من المسلمين في الكنائس. ثم ساعد الريح أسطول الإفرنج ووصلوا إلى المرسى ونزلوا إلى البلد من غير مدافع. ودخل جرجي القصر فوجده على حاله مملوءا بالذخائر النفيسة التي يعز وجود مثلها. وبعث بالأمان إلى كل من شرد من أهلها فرجعوا وأقرهم على الجزية. وسار الحسن بأهله وولده إلى المعلقة وبها محرز بن زياد من أمراء الهلاليين ولقيه في طريقه حسن بن ثعلب من أمراء الهلاليين بمال انكسر له في ديوانه فأخذ ابنه يحيى رهينة به. ولما وصل محرز بن زياد أكرم لقاءه وبر مقدمه جزاء بما كان يؤثره على العرب ويرفع محله وأقام عنده شهراً. ثم عزم على المسير إلى مصر وبها يومئذ الحافظ فأرصد له جرجي الشواني في البحر فرجع عن ذلك واعتزم على قصد عبد المؤمن من ملوك لموحدين بالمغرب وفي طريقه يحيى بن عبد العزيز ببجاية من بني عمه حماد فأرسل إليه أبناءه يحيى وتميماً وعلياً يستأذنه في الوصول فأذن له وبعث إليه من أوصله إلى جزائر بني مذغنة ووكل به وبولده حتى ملك عبد المؤمن بجاية سنة أربع وأربعين وأخبرهم مشروح هنالك. ثم جهز جرجي أسطولاً آخر إلى صفاقس وجاء العرب لإنجادهم فلما توافوا لقتال استطرد لهم الإفرنج غير بعيد فهزموهم. ومضى العرب عنهم وملك الإفرنج المدينة عنوة ثالث عشر صفر وفتحوا فيها. ثم أمنوهم وفادوا أسراهم وأقروهم على الجزية وكذا أهل سوسة. وكتب رجار صاحب صقلية إلى أهل سواحل إفريقية بالأمان المواعيد. ثم سار جرجي إلى اقليبية من سواحل تونس واجتمع إليهما العرب فقاتلوا الإفرنج وهزموهم ورجعوا خائبين إلى المهدية. وحدثت الفتنة بين رجار صاحب صقلية بين ملك الروم بالقسطنطينية فشغل رجار بها عن إفريقية. وكان متولي كبرها جرجي بن ميخاييل صاحب المهدية. ثم مات سنة ست وأربعين فسكنت تلك الفتنة ولم يقم لرجار بعده أحد مقامه والله تعالى أعلم. وملك ابنه غليالم ثم سار أسطول رجار من صقلية سنة ثمان وأربعين إلى مدينة بونة وقائد الأسطول بها وقتات المهدوي فحاصرها واستعان عليها بالعرب فملكها واستباحها وأغضى عن جسماعة عن أهل العلم والدين فخرجوا بأموالهم وأهاليهم إلى القرى. وأقام بها عشراً ورجع إلى المهدية ثم إلى صقلية فنكر عليه رجار رفقه بالمسلمين في بونة وحبسه. ثم اتهم في دينه فاجتمع الأساقفة والقسوس وأحرقوه. ومات رجار آخر هذه السنة لعشرين سنة من ملكه وولي ابنه غليالم مكانه. وكان حسن السيرة واستوزر مائق البرقياني فأساء التدبير واختلفت عليه حصون من صقلية وبلاد قلورية وتعدى الأمراء على إفريقية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم. استيلاء الإفرنج على عسقلان كانت عسقلان في طاعة الظافر العلوي ومن جملة ممالكه وكان الإفرنج يتعاهدونها بالحصار مرة بعد مرة. وكان الوزراء يمدونها بالأموال والرجال والأسلحة. وكان لهم التحكم في الدولة على الخلفاء العلوية فلما قتل ابن السلار سنة ثمان وأربعين اضطرب الحال بمصر حتى ولي عباس الوزارة فسار الإفرنج خلال ذلك من بلادهها بالشام وحاصروا عسقلان وامتنعت عليهم. ثم اختلف أهل البلد وآل أمرهم إلى القتال فاغتنم الإفرنج الفرصة وملكوا البلد وعاثوا فيها والله يؤيد بنصره من يشاء من عباده. ثورة المسلمين بسواحل إفريقية على الإفرنج المتغلبين فيها قد قدم لنا وفاة رجار وملك ابنه غليالم وأنه ساء تدبير وزيره فاختلف عليه الناس وبلغ ذلك المسلمين الذين تغلبوا عليهم بإفريقية. وكان رجار قد ولى على المسلمين بمدينة صفاقس لما تغلب عليها أبو الحسن الغرياني منهم وكان من أهل العلم والدين. ثم عجز عن ذلك وطلب ولاية ابنه عمر فولاه رجار وحمل أبا الحسين إلى صقلية رهينة وأوصى ابنه عمر وقال يا بني أنا كبير السن وقد قرب أجلي فمتى أمكنتك الفرصة في إنقاذ المسلمين من ملكة العدو فافعل ولا تخش علي واحسبني قد مت. فلما اختل أمر غليالم دعا عمر أهل صفاقس إلى الثورة بالإفرنج فثاروا بهم وقتلوهم سنة إحدى وخمسين واتبعه أبو يحيى بن مطروح بطرابلس ومحمد بن رشيد بقابس. وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونة فملكها وذهب حكم الإفرنج عن إفريقية ما عدا المهدية وسوسة. وأرسل عمر الفرياني إلى زويلة قريباً من المهدية يغريهم بالوثوب على الإفرنج الذين معهم فوثبوا وأعانهم أهل ضاحيتهم وقاتلوا الإفرنج بالمهدية وقطعوا الميرة عنهم. وبلغ الخبر إلى غليالم فبعث إلى عمر الفرياني بصفاقس وأعذر إليه في أبيه فأظهر للرسول جنازة ودفنها وقال هذا قد دفنته فلما رجع الرسول بذلك صلب أبا الحسين ومات شهيداً رحمه الله تعالى. وسار أهل صفاقس والعرب إلى زويلة واجتمعوا مع أهلها على حصار المهدية وأمدهم غليالم بالأقوات والأسلحة وصانعوا العرب بالمال على أن يخذلوا أصحابهم. ثم خرجوا للقتال فانهزم العرب وركب أهل صفاقس البحر إلى بلدهم أيضاً واتبعهم الإفرنج فعاجلوهم عن زويلة وقتلوهم. ثم اقتحموا البلد فقتلوا مخلفهم بها واستباحوه. ارتجاع عبد المؤمن المهدية من يد الإفرنج ولما وقع بأهل زويلة من الإفرنج ما وقع لحقوا بعبد المؤمن ملك المغرب يستصرخونه فأجاب صريخهم ووعدهم وأقاموا في نزله وكرامته وتجهز للمسير وتقدم إلى ولاته وعماله بتحصيل الغلات وحفر الآبار. ثم سار في صفر سنة أربع وخمسين في مائة ألف مقاتل وفي مقدمته الحسن بن علي صاحب المهدية ونازل تونس منتصف السنة وبها صاحبها أحمد بن خراسان من بقية دولة صنهاجة. وجاء أسطول عبد المؤمن فحاصرها من البحر. ثم نزل إليه من سورها عشرة رجال من أعيانها في السلالم مستأمنين لأهل البلد ولأنفسهم فأمنهم على مقاسمتهم في أموالهم وعلى أن يخرج إليه ابن خراسان فتم ذلك كله. وسار عنها إلى المهدية وأسطوله محاذيه في البحر فوصلها منتصف رجب من السنة وبها أولاد الملوك والزعماء من الإفرنج وقد أخلوا زويلة وهي على غلوة من المهدية فعمرها عبد المؤمن لوقتها. وامتلأ فضاء المهدية بالعساكر وحاصرها أياماً وضاق موضع القتال من البر لاستدارة البدر عليها لأنها صورة يد في البحر وذراعها في البر وأحاط الأسطول بها في البحر. وركب عبد المؤمن البحر في الشواني ومعه الحسن بن علي فرأى حصانتها في البحر وأخذ في المطاولة وجمع الأقوات حتى كانت في ساحة معسكرة كالتلال. وبعث إليه أهل صفاقس وطرابلس وجبال نفوسة بطاعتهم. وبعث عسكراً إلى قابس فملكها عنوة وبعث ابنه عبد الله ففتح كثيراً من البلاد. ثم وفد عليه يحيى بن تميم بن المقر بن الرند صاحب قفصة في جماعة من أعيانها فبذل طاعته ووصله عبد المؤمن بألف دينار. ولما كان آخر شعبان وصل أسطول صقلية في مائة وخمسين من الشواني غير الطرائد كان في جزيرة يابسة فاستباحها وبعث إليه صاحب صقلية بقصد المهدية. فلما أشرفوا على المرسى قذفت إليهم أساطيل عبد المؤمن ووقف عسكره على جانب البر وعبد المؤمن ساجد يعفر وجهه بالتراب ويجأر بالدعاء فانهزم أسطول الإفرنج وأقلعوا إلى بلادهم وعاد أسطول المسلمين ظافراً. وآيس أهل المهدية من الإنجاد ثم صابروا إلى آخر السنة حتى جهدهم الحصار. ثم استأمنوا إلى عبد المؤمن فعرض عليهم الإسلام فأبوا ولم يزالوا يخضعون له بالقول حتى أمنهم وأعطاهم السفن فركبوا فيها. وكان فصل شتاء فمال عليهم البحر وغرقوا ولم يفلت منهم إلا ودخل عبد المؤمن المهدية في محرم سنة خمس وخمسين لاثنتي عشرة سنة من ملك الإفرنج وأقام بها عشرين يوماً فأصلح أمورها وشحنها بالحامية والأقوات واستعمل عليها بعض أصحابه وأنزل معه الحسن بن علي وأقطعه بأرضها له ولأولاده وأمر الوالي أن يقتدي برأيه ورجع إلى المغرب والله تعالى أعلم. |
حصار الإفرنج أسد الدين شيركوه في بلبيس
كان أسد الدين شيركوه بن شادي عم صلاح الدين قد بعثه نور الدين العادل سنة تسع وخمسمائة منجداً لشاور وزير العاضد صاحب مصر على قريعة الضرغام كما سيأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى. وسار نور الدين من دمشق في عساكره إلى بلاد الإفرنج ليشغلهم عن أسد الدين شيركوه وخرج ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فهزمه أسد الدين على تنيس واتبعه إلى القاهرة ونزلها منتصف السنة. وأعاد شاور إلى الوزارة ونقض ما بينه وبين أسد الدين وتأخر إلى تنيس. وخشي منه ودس إلى الإفرنج يغريهم به وبذل لهم المال فطمعوا بذلك في ملك الديار المصرية. وسار ملك القدس في عساكر الإفرنج واجتمعت معه عساكر المسلمين. وساروا إلى أسد الدين فحاصروه في بلبيس ثلاثة ولم يظفروا منه بشيء. ثم جاءهم الخبر بأن نور الدين العادل هزم أصحابهم على خارد وفتحها. ثم سار إلى بانياس فسقط في أيديهم وطلبوا الصلح من أسد الدين ليعودوا إلى بلادهم لذلك وخرج من بلبيس سائراً إلى الشام. ثم عاد إلى مصر سنة اثنتين وستين وعبر النيل من اطفيح ونزل الجزيرة. واستمد شاور الإفرنج فساروا إليه بجموعهم. وكان أسد الدين قد سار إلى الصعيد وانتهى إلى " " فسار الإفرنج والعساكر المصرية في أثره فأدركوه منتصف السنة واستشار أصحابه فاتفقوا على القتال وأدركته عساكر الإفرنج ومصر وهو على تعبيته وقد أقام مقامه في القلب راشد حفراً من حملة الإفرنج. وانحاز فيمن يثق به من شجعان أصحابه إلى الميمنة فحمل الإفرنج على القلب فهزموهم واتبعوهم. وخالفهم أسد الدين إلى من تركوا وراءهم من العساكر فهزمهم وأثخن فيهم ورجع الإفرنج من أثناء القلب فانهزموا وانهزم أصحابهم ولحقوا بمصر. ولحق أسد الدين بالإسكندرية فملكها صلحاً وأنزل بها صلاح الدين ابن أخيه وحاصرته عساكر الإفرنج ومصر وزحف إليهم عمه أسد الدين من الصعيد فبعثوا إليه في الصلح فأجابهم على خمسين ألف دينار يعطونها إياه ولا يقيم في البلد أحد من الإفرنج ولا يملكون منها شيئاً فقبلوا ذلك وعادوا إلى الشام. وملك أهل مصر الإسكندرية واستقر بينهم وبين الإفرنج أن ينزلوا بالقاهرة شحنة وأن يكون أبوابها في علقها وفتحها بأيديهم. وأن لهم من خراج مصر مائة ألف دينار في كل سنة ولم " " ذلك منه حصار الإفرنج القاهرة ثم كان مسير أسد الدين إلى مصر وقتله شاور سنة أربع وستين باستدعاء العاضد لما رأى من تغلب الإفرنج كما نذكر في أخبار أسد الدين. وأرسل إلى الإفرنج أصحابهم الذين بالقاهرة يستدعونهم لملكها ويهونونها عليهم. وملك الإفرنج يومئذ بالشام مرى ولم يكن ظهر فيهم مثله شجاعة ورأياً فأشار بأن جبايتها لنا خير من ملكها. وقد يضطرون فيملكون نور الدين منها وإن ملكها قبلنا احتاج إلى مصانعتنا فأبوا عليه وقالوا إنما نزداد بها قوة فرجع إلى رأيهم. وساروا جميعاً إلى مصر وانتهوا إلى تنيس في صفر سنة أربع وستين فملكوها عنوة واستباحوها. ثم ساروا إلى القاهرة وحاصروها وأمر شاور بإحراق مصر وانتقال أهلها إلى القاهرة فنهبت المدينة ونهب أموال أهلها وبغتهم قبل نزول الإفرنج عليهم بيوم فلم تخمد النار مدة شهرين. وبعث العاضد بالصريخ إلى نور الدين واشتد عليه الحصار. وبعث شاور إلى ملك الإفرنج يشير بالصلح على ألف ألف دينار مصرية ويهدده بعساكر نور الدين فأجابوا إلى ذلك. ودفع إليهم مائة ألف دينار وتأخروا قريباً حتى يصل إليهم بقية المال وعجز عن تحصيله والإفرنج يستحثونه فبعثوا خلال ذلك إلى نور الدين يستنجدونه على الإفرنج بأن يرسل إليهم أسد الدين شيركوه في عسكر يقيمون عندهم على أن لنور الدين ثلث بلاد مصر ولأسد الدين إقطاعه وعطاء العساكر فاستدعى أسد الدين من حمص وكانت اقطاعه. وأمر بالتجهز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الدواب والأسلحة وحكمه في العساكر والخزائن وما يحتاج إليه. وسار في ستة آلاف وأزاح علل جنده وأعانهم أسد الدين بعشرين ديناراً لكل فارس. وبعث معه جماعة من الأمراء منهم خرديك مولاه وعز الدين قليج وشرف الدين بن بخش وعين الدولة الباروقي وقطب الدين نيال بن حسان وصلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب. وسار إلى مصر فلما قاربها ارتحل الإفرنج راجعين إلى بلادهم ودخل هو إليها منتصف السنة وخلع عليه العاضد وأجرى عليه وعلى عسكره الجرايات الوافرة. ثم شرع شاور في مماطلة أسد الدين بما وقع اتفاقهم معه عليه وحدث نفسه بالقبض عليه واستخدام جنده لمدافعة الإفرنج ولم يتم له ذلك. وشعر به أسد الدين فاعترضه صلاح الدين ابن أخيه وعز الدين خرديك مولاه عند قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه وقتلاه وفوض العاضد أمور دولته إلى أسد الدين وتقاصر الإفرنج عنها. ومات أسد الدين واستولى صلاح الدين بعد ذلك على البلاد وارتجع البلاد الإسلامية من يد الإفرنج كما نذكر في أخبار دولته حصار الإفرنج دمياط ولما ملك أسد الدين شيركوه مصر خشية الإفرنج على ما بأيديهم من مدن الشام وسواحله وكاتبوا أهل ملتهم ونسبتهم بصقلية وافرنسة يستنجدونهم على مصر ليملكوها وبعثوا الأقسة والرهبان من بيت المقدس يستنفرونهم لحمايتها وواعدوهم بدمياط طمعاً في أن يملكوها ويتخذوها ركاباً للاستيلاء على مصر فاجتمعوا عليها وحاصروها لأول أيام صلاح الدين وأمدهم صلاح الدين بالعساكر والأموال. وجاء بنفسه وبعث إلى نور الدين يستنجده ويخوفه على مصر فتابع إليه الأمداد وسار بنفسه إلى بلاد الإفرنج بالشام. واكتسحها وخربها فعاد الفرنج إلى دمياط بعد حصار خمسين يوماً نفس الله عليهم ومن هذه القصة بقية أخبار الإفرنج متعلقة بالدولتين دولة بني زنكي بالشام ودولة بني أيوب بمصر فأخرت بقية أخبارهم إلى أن نسردها في الدولتين على مواقعها في مواضعها حسبما تراه. ولم يبق إلا استيلاؤهم على القسطنطينية من يد الروم فأوردناه هاهنا. استيلاء الإفرنج على القسطنطينية كان هؤلاء الإفرنج بعد ما ملكوه من بلاد الشام اختلفت أحوالهم في الفتنة والمهادنة مع الروم بالقسطنطينية لاستيلائهم على الثغور من بلاد المسلمين التي تجاور الروم التي كانت بأيديهم من قبل وظاهرهم الروم على المسلمين في بعض المرات ثم غلبوا عليهم آخراً. وملكوا القسطنطينية من أيديهم فأقامت في أيديهم مدة. ثم ارتجعها الروم على يد لشكري من بطارقتهم. وكيفية الخبر عن ذلك أن ملوك الروم أصهروا إلى ملوك الإفرنج وتزوجوا منهم بنتاً لملك الروم فولدت ذكراً خاله الافرنسيس وثب عليه أخوه فانتزع الملك من يده وحبسه ولحق الولد بملك الإفرنج خاله مستصرخاً به فوصل إليه وقد تجهز الإفرنج لاستنقاذ القدس من يد المسلمين. وكان صلاح الدين قد ارتجعها منهم كما يأتي في أخباره إن شاء الله تعالى. وانتدب لذلك ثلاثة من ملوكهم دوقص البنادقة وهو صاحب الأسطول الذي ركبوا فيه وكان شيخاً أعمى لا يركب ولا يمشي إلا بقائد. ومقدم الفرنسيس ويسمى المركيش والثالث يسمى كبداقليد وهو أكثرهم عدداً فجعل الملك ابن أخته معهم وأوصاهم بمظاهرته على ملكه بالقسطنطينية ووصلوا إليها في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وخمسمائة فخرج عم الصبي وقاتلهم. وأضرم شيعة الصبي النار في نواحي البلاد فاضطرب العسكر ورجعوا وفتح شيعة الصبي باب المدينة وأدخلوا الإفرنج. وخرج عمه هارباً ونصب الإفرنج الصبي في الملك وأطلقوا أباه من السجن واستبدوا بالحكم وصادروا الناس وأخذوا مال البيع وما على الصلبان من الذهب وما على تماثيل المسيح والحواريين وما على الإنجيل فعظم ذلك على الروم ووثبوا وأقام الإفرنج بظاهرها محاصرين لهم. وبعث الروم صريخاً إلى صاحب قونية ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان ينهض لذلك وكان بالمدينة متخلفون من الإفرنج يناهزون ثلاثين ألفاً فثاروا بالبلد عند شغل الروم بقتال أصحابهم وأضرموا النار ثانياً فاقتحم الإفرنج وأفحشوا في النهب والقتل. ونجا كثير من الروم إلى الكنائس وأعظمها كنيسة سوميا فلم تغن عنهم. وخرج القسيسون والأساقفة في أيديهم الإنجيل والصلبان فقتلوهم. ثم تنازع الملوك الثلاثة على الملك بها وتقارعوا فخرجت القرعة على كبداقليد فملكها على أن يكون لدوقس البنادقة الجزائر البحرية اقريطش ورودس وغيرهما. ويكون لمركيش الافرنسيس شرقي الخليج ولم يحصل أحد منهم شيئاً إلا ملك القسطنطينية كبداقليد وتغلب على شرقي الخليج بطريق من بطارقة الروم اسمه لشكري فلم يزل بيده إلى أن مات. ثم غلب بعد ذلك على القسطنطينية وملكها من يد الإفرنج والله غالب على أمره. الخبر عن دولة بني أرتق وملكهم لماردين وديار بكر ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم كان أرتق بن أكسك ويقال اكست والأول أصح. كلمة أولها همزة ثم كافان الأولى ساكنة بينهما سين من مماليك السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان ملك السلجوقية وله مقام محمود في دولتهم وكان على حلوان وما إليها من أعمال العراق. ولما بعث السلطان ملك شاه عساكره إلى حصار الموصل مع فخر الدولة بن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة أردفة بعسكر آخر مع أرتق فهزمه مسلم بن قريش فحاصره بآمد. ثم داخله في الخروج من هذا الحصار على مال اشترطه ونجا إلى الرقة. ثم خشي أرتق من فعلته تلك فلحق بتتش حتى سار إلى حلب طامعاً في ملكها فلقيه تتش وهزمه. وكان لأرتق في تلك الواقعة المقام المحمود. ثم سار تتش إلى حلب وملكها واستجار مقدمها ابن الحسين بأرتق فأجاره من السلطان تتش. ثم هلك أرتق سنة ثلاث وثمانين بالقدس. وملك من بعد أرتق ابناه أبو الغازي وسقمان. وكان لهما معه الرها وسروج. ولما ملك الإفرنج إنطاكية سنة إحدى وتسعين وأربعمائة اجتمعت الأمراء بالشام والجزيرة وديار بكر وحاصروها. وكان لسقمان في ذلك المقام المحمود. ثم تخاذلوا وافترقوا وطمع أهل مصر في ارتجاع القدس منهم. وسار إليها الملك الأفضل المستولي على دولتهم فحاصرها أربعين يوماً وملكها بالأمان. وخرج سقمان وأبو الغازي ابنا أرتق وابن أخيهما ياقوتي وابن عمهما سونج وأحسن إليهم الأفضل وولى على بيت المقدس ورجع إلى مصر. وجاء الإفرنج فملكوها كما تقدم في أخبار الدولة السلجوقية. ولحق أبو الغازي بالعراق فولي شحنة بغداد وسار سقمان إلى الرها فأقام بها وكان بينه وبين كربوقا صاحب الموصل فتن وحروب أسر في بعضها ياقوتي ابن أخيه. ثم توفي كربوقا سنة خمسة وتسعين وولي الموصل بعده موسى التركماني وكان نائباً بحصن كيفا فزحف إليه جكرمش صاحب جزيرة ابن عامر وحاصره بالموصل واستنجد موسى سقمان على أن يعطيه حصن كيفا فأنجده وسار إليه وأفرج عنه جكرمش وخرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه غدراً ورجع سقمان إلى حصن كيفا فملكه تم كانت الفتنة بين أبي الغازي وكمستكين القيصري لما بعثه بركيارق شحنة على بغداد وكان هو شحنة من قبل السلطان محمد فمنع القيصري من الدخول واستنجد أخاه سقمان فجاء إليه من حصن كيفا في عساكره ونهب تكريت وخرج إليها أبو الغازي واجتمع معهم صدقة بن مزيد صاحب الخلة وعاثوا في نواحي بغداد وفتكوا بنفر من أهل البلد. وبعث إليهم الخليفه في الصلح على أن يسير القيصري إلى واسط فسار إليه ودخل أبو الغازي بغداد ورجع سقمان إلى بلده وقد مر ذلك في أخبارهم. ثم استولى مالك بن بهرام أخي سقمان على عامة الخرمية سنة سبع وتسعين وكان له مدينة سروج فملكها منه الإفرنج وسار إلى غانة فملكها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط. واستصرخوا بصدقة بن مزيد وارتجعها لهم منه وعاد إلى الحلة فعاد مالك فملكها واستقرت في ملكه. ثم اجتمع سقمان وجكرمش صاحب الموصل على جهاد الإفرنج سنة سبع وتسعين وهم محاصرون حران فتركوا المنافسة بينهم وقصدوهم وسقمان في سبعة آلاف من التركمان فهزموا الإفرنج وأسروا القمص بردويل صاحب الرها أسره أصحاب سقمان فتغلب عليهم أصحاب جكرمش وأخذوه وافترقوا بسبب ذلك وعادوا إلى ما كان بينهم من الفتن والله أعلم. |
استيلاء سقمان بن أرتق على ماردين
كان هذا الحصن ماردين من ديار بكر وأقطعه السلطان بركيارق بجميع أعماله لمغن كان عنده وكان في ولاية الموصل وكان ينجر إليه خلق كثير من الأكراد يفسدون السابلة. واتفق أن كربوقا صاحب الموصل سار لحصار آمد وهي لبعض التركمان فاستنجد صاحبها بسقمان فسار لإنجاده وقاتل كربوقا قتالا شديداً. ثم هزمه وأسر ابن أخيه ياقوتي بن أرتق وحبسه بقلعة ماردين عند المغني فبقي محبوساً مدة طويلة وكثر ضرر الأكراد فبعث ياقوتي إلى المغني صاحب الحصن في أن يطلقه ويقيم عنده بالربض لدفاع الأكراد ففعل وصار يغير عليهم في سائر النواحي إلى خلاط. وصار بعض أجناد القلعة يخرجون للإغارة معهم فلا يهيجهم. ثم حدثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الأيام مرجعه من الإغارة ودنا من القلعة. وعرضهم على القتل إن لم يفتحوا له ففتحها أهلوهم وملكها. وجمع الجموع وسار إلى نصيبين وأغار على جزيرة ابن عمر وهي لجكرمش فكبسه جكرمش وأصحابه في الحرب بينهم فقتله وبكاه جكرمش. وكان تحت ياقوتي ابنة عمه سقمان فمضت إلى أبيها وجمعت التركمان. وجاء سقمان بهم إلى نصيبين فترك طلب الثأر فبعث إليه جكرمش ما أرضاه من المال في ديته ورجع وقدم بماردين بعد ياقوتي أخوه على بطاعة جكرمش وخرج منها لبعض المذاهب. وكتب نائبه بها إلى عمه سقمان بأنه يملك ماردين لجكرمش فسار إليها سقمان وعوض علياً ابن أخته جبل جور وأقامت ماردين في ملكه مع حصن كيفا واستضاف إليهما نصيبين والله أعلم. وفاة سقمان في أرتق وولاية أخيه أبي الغازي مكانه بماردين ثم بعث فخر الدين بن عمار صاحب طرابلس يستنجد سقمان بن أرتق على الإفرنج وكان استبد بها على الخلفاء العلويين أهل مصر ونازله الإفرنج عندما ملكوا سواحل الشام فبعث بالصريخ إلى سقمان بن أرتق سنة ثمان وتسعين. وأجابه وبينما هو يتجهز للمسير وافاه كتاب طغركين صاحب دمشق المستبد بها من موالي بني تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفاً على دمشق من الإفرنج فأسرع المسير إليه معتزماً على قصد طرابلس وبعدها دمشق فانتهى إلى القريتين وندم طغركين على استدعائه وجعل يدبر الرأي مع أصحابه في صرفه. ومات هو بالقدس فكفاهم الله أمره وقد كان أصحابه عندما أشفى على الموت أشاروا عليه بالرجوع إلى كيفا فامتنع وقال هذا جهاد وإن مت كان لي ثواب شهيد. فلما مات حمله ابنه إبراهيم إلى حصن كيفا فدفنه به. وكان أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد كما قدمناه ولاه السلطان محمد أيام الفتنة بينه وبين أخيه بركيارق. فلما اصطلح بركيارق وأخوه سنة تسع وتسعين على أن تكون بغداد له وممالك أخرى من الممالك الإسلامية ومن جملتها حلوان وهي إقطاع أبي الغازي فبادر وخطب لبركيارق ببغداد فنكر عليه ذلك صدقة بن مزيد وكان من شيعة السلطان محمد فجاء إلى بغداد ليزعج أبا الغازي عنها ففارقها إلى يعقوب وبعث إلى صدقة يعتذر بأنه صار في ولاية بركيارق ويحكم الصلح في إقطاعه وولايته فلم يمكنه غير ذلك. ومات بركيارق على أثر ذلك فخطب أبو الغازي لابنه ملك شاه فنكر ذلك السلطان محمد منه فلما استولى على الأمر عزله عن شحنة بغداد فلحق بالشام وحمل رضوان بن تتش صاحب حلب على حصار نصيبين من بلاد جكرمش فحاصروها. وبعث جكرمش إلى رضوان وأغراه بأبي الغازي ففسد ما بينهما ورحلوا مفترقين على نصيبين. وسار أبو الغازي إلى ماردين وقد مات أخوه سقمان كما قلناه فاستولى عليها والله تعالى أعلم. تعليق على بعض الأخبار المهمة ذكر وصول الفرنج من الغرب في البحر إلى عكا وفي هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج الذين على عكا وكان أول من وصل منهم الملك فيليب ملك افرنسيس وهو من أشرف ملوكهم نسباً وإن كان ملكه ليس بالكثير. وكان وصوله إليها ثاني عشر ربيع الأول ولم يكن في الكثرة التي ظنوها وإنما كان معه ست بطس كبار عظيمة فقويت به نفوس من على عكا منهم ولحوا في قتال المسلمين الذين فيها وكان صلاح الدين بشفرعم فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال عن مزاحفة البلد. وأرسل إلى الأمير أسامة مستحفظ بيروت يأمره بتجهيز ما عنده من الشواني والمراكب وتشحينها بالمقاتلة وتسييرها في البحر ليمنع الفرنج من الخروج إلى عكا ففعل ذلك وسير الشواني في البحر فصادفت خمسة مراكب مملوءة رجالا من أصحاب ملك إنكلترا الفرنج وكان قد سيرهم بين يديه وتأخر هو بجزيرة قبرس ليملكها فاقتتلت شواني المسلمين مع مراكب الفرنج فاستظهر المسلمون عليهم وأخذوهم وغنموا ما معهم من قوت ومتاع ومال وأسروا الرجال وكتب أيضاً صلاح الدين إلى من بالقرب من النواب له يأمرهم بمثل ذلك ففعلوا وأما الفرنج الذين على عكا فإنهم لازموا قتال من بها ونصبوا عليها سبع منجنيقات رابع جمادى الأولى فلما رأى صلاح الدين ذلك تحول من شفرعم ونزل عليهم لئلا يتعب العسكر كل يوم في المجيء إليهم والعود عنهم فقرب منهم وكانوا كلما تحركوا للقتال ركب وقاتلهم من وراء خندقهم فكانوا يشتغلون بقتالهم فيخف القتال عمن بالبلد. ثم وصل ملك إنكلترا ثالث عشر جمادى الأولى وكان قد استولى في طريقه على جزيرة قبرس وأخذها من الروم فإنه لما وصل إليها غر بصاحبها وملكها جميعاً فكان ذلك زيادة في ملكه وقوة للفرنج. فلما فرغ منها سار عنها إلى من على عكا من الفرنج فوصل إليهم في خمس وعشرين قطعة كباراً مملوءة رجالا وأموالا فعظم به شر الفرنج واشتدت نكايتهم في المسلمين وكان رجل زمانه شجاعة ومكراً وجلداً وصبراً وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها. ولما وردت الأخبار بوصوله أمر صلاح الدين بتجهيز بسطة كبيرة مملوءة من الرجال والعدد والأقوات فتجهزت وسيرت من بيروت. وفيها سبعمائة مقاتل فلقيها ملك إنكلترا مصادفة فقاتلها وصبر من فيها على قتالها فلما أيسوا من الخلاص ونزل مقدم من بها إلى أسفلها وهو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية يعرف بغلام ابن شقتين فخرقها خرقاً واسعاً لئلا يظفر الفرنج بمن فيها وما معهم من الذخائر فغرق جميع ما فيها وكانت عكا محتاجة إلى رجال لما ذكرناه من سبب نقصهم ثم إن الفرنج عملوا دبابات وزحفوا بها فخرج المسلمون وقاتلوهم بظاهر البلد وأخوا تلك الكباش فلما رأى الفرنج أن ذلك جميعه لا ينفعهم عملوا تلاً كبيراً من التراب مستطيلاً وما زالوا يقربونه إلى البلد ويقاتلون من وراءه لا ينالهم من البلد أذى حتى صار على نصف علوه فكانوا يستظلون به ويقاتلون من خلفه فلم يكن للمسلمين فيه حيلة لا بالنار ولا بغيرها. فحينئذ عظمت المصيبة على من بعكا من المسلمين فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه حالهم فلم يقدر لهم على نفع. |
ذكر ملك الفرنج عكا
في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة استولى الفرنج لعنهم الله على مدينة عكا وكان أول وهن دخل على من بالبلدان الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب كان فيها ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثلهم وأكبرهم فخرج إلى ملك افرنسيس وبذل تسليم البلد بما فيه على أن يطلق المسلمين الذين فيه ويكنهم من اللحاق بسلطانهم فلم يجبه إلى ذلك فعاد علي بن أحمد إلى البلد فوهن من فيه وضعفت نفوسهم وتخاذلوا وأهمتهم أنفسهم. ثم إن أمراء ممن كان بعكا لما رأوا ما فعلوا بالمشطوب والفرنج لم يجيبوا إلى التسليم اتخذوا الليل جملا وركبوا في شيء صغير وخرجوا سراً من أصحابهم ولحقوا بعسكر المسلمين وهم عز الدين أرسل الأسدي وابن عز الدين جاولي وسنقر الوشاقي ومعهم غيرهم فلما أصبح الناس ورأوا ذلك ازدادوا وهناً إلى وهنهم وضعفاً إلى ضعفهم وأيقنوا بالعطب. ثم إن الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليم البلد فأجابهم إلى ذلك والشرط بينهم أن يطلق من أسراهم بعدد من في البلد ليطلقوا هم من بعكا وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت فلم يقنعوا بما بدل فأرسل إلى من بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من عكا يداً واحدة ويتركوا البلد بما فيه ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره ويقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به فشرعوا في ذلك واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه فما فرغوا من أشغالهم حتى أسفر الصبح فبطل ما عزموا عليه لظهوره. فلما عجز الناس من حفظ البلد زحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم فظهروا من البلد على سوره يحركون أعلامهم ليراها المسلمون وكانت هي العلامة إذا اخترمهم أمر. فلما رأى المسلمون ذلك ضجوا بالبكاء والعويل وحملوا على الفرنج من جميع جهاتهم طلباً منهم أن الفرنج يشتغلون عن الذين بعكا وصلاح الدين يحرضهم وهو في أولهم. وكان الفرنج قد خفوا عن خنادقهم ومالوا إلى جهة البلد فقرب المسلمون من خنادقهم حتى كادوا يدخلونها عليهم ويضعون السيف فيهم فوقع الصوت فعاد الفرنج ومنعوا المسلمين وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتلهم فلما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع ولا يدفع عنهم ضراً خرج إلى الفرنج وقرر معهم تسليم البلد وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم وبذل لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين وإعادة صليب الصلبوت وأربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور فأجابوه إلى ذلك وحلفوا له عليه وأن يكون مدة تحصيل المال والأسرى إلى شهرين. فلما حلفوا له سلم البلد إليهم ودخلوه سلماً فلما ملكوه غدروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم وحبسوهم. وأظهروا أنهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بذل لهم وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب حتى يطلقوا من عندهم فشرع في جمع المال وكان هو الأمان له إنما يخرج ما يحصك إليه من دخل البلاد أولا بأول. فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار جمع الأمراء واستشارهم فأشاروا بأن لا يرسل شيئاً حتى يعاود يستحلفهم على إطلاق أصحابه وأن يضمن الداوية ذلك لأنهم أهل دين يرون الوفاء فراسلهم صلاح الدين في ذلك فقال الداوية لا نحلف ولا نضمن لأننا نخاف غدر من عندنا. وقال ملوكهم إذا سلمتم إلينا المال والأسرى والصليب فلنا الخيار فيمن عندنا فحينئذ علم صلاح الدين عزمهم على الغدر فلم يرسل إليهم شيئاً وأعاد الرسالة إليهم وقال نحن نسلم إليكم هذا المال والأسرى والصليب ونعطيكم رهناً بالباقي وتطلقون أصحابنا وتضمن الداوية الرهن ويحلفون على الوفاء لهم فقالوا لا نحلف. إنما نرسل المائة ألف دينار التي حصلت والأسرى والصليب ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال فعلم الناس حينئذ غدرهم وإنما يطلقون غلمان العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبه له ويمسكون عندهم الأمراء وأرباب الأموال ويطلبون منهم الفداء فلم يجبهم السلطان إلى ذلك فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب ركب الفرنج وخرجوا إلى ظاهر البلد بالفارس والراجل وركب المسلمون إليهم وقصدوهم وحملوا عليهم فانكشفوا عن مواقفهم وإذ أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف واستبقوا الأمراء والمقدمين ومن كان له مال وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم ومن لا مال له. فلما رأى صلاح الدين ذلك تصرف في المال الذي كان جمعه وسير الأسرى والصليب إلى دمشق. فكر رحيل الفرنج إلى ناحية عسقلان وتخريبها لما فرغ الفرنج لعنهم الله من إصلاح أمر عكا برزوا منها في الثامن والعشرين من رجب وساروا مستهل شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارقونه فلما سمع صلاح الدين برحيلهم نادى في عسكره بالرحيل فساروا وكان على اليزك ذلك اليوم الملك الأفضل ولد صلاح الدين ومعه سيف الدين اياز كوش وعز الدين جورديك وعدة من شجعان الأمراء فضايقوا الفرنج في مسيرهم وأرسلوا عليهم من السهام ما كان يحجب الشمس ووقعوا على ساقة الفرنج فقتلوا منها جماعة وأسروا جماعة. وأرسل الأفضل إلى والده يستمده ويعرفه الحال فأمر العساكر بالمسير إليه فاعتذروا بأنهم ما ركبوا بأهبة الحرب وإنما كانوا على عزم المسير لا غير. فبطل المدد وعاد ملك الانكلتار إلى ساقة الفرنج فحماها وجمعهم وساروا حتى أتوا حيفا فنزلوا بها ونزل المسلمون يقيمون بقرية بالقرب منهم وأحضر الفرنج من عكا عوض من قتل منهم وأسر ذلك اليوم وعوض ما هلك من الخيل. ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهم من قدروا عليه فيقتلونهم لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنه لا يظفر بأحد منهم إلا قتلهم بمن قتلوا ممن كان بعكا فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون وقاتلوهم أشد قتال فنالوا منهم نيلا كثيراً. ونزل الفرنج بها وبات المسلمون قريباً منهم فلما نزلوا خرج من الفرنج جماعة فأبعدوا عن جماعتهم فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك فقتلوا منهم وأسروا منهم. ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف وكان المسلمون قد سبقوهم إليها ولم يمكنهم مسايرتهم لضيق الطريق. فلما وصل الفرنج إليهم حمل المسلمون عليهم حملة منكرة الحقوهم بالبحر ودخله بعضهم فلما رأى الفرنج ذلك اجتمعوا وحملت الخيالة على المسلمين حملة رجل واحد فولوا منهزمين لا يلوي أحد على أحد. وكان كثير من الخيالة والسوقة قد ألفوا القيام وقت الحرب قريباً من المعركة فلما كان ذلك اليوم كانوا على حالهم فلما انهزم المسلمون عنهم قتل منهم كثير والتجأ المنهزمون إلى القلب وفيه صلاح الدين فلو علم الفرنج أنها هزيمة لتبعتهم واشتهرت الهزيمة وهلك المسلمون. لكن كان بالقرب من المسلمين شعرى كثيرة الشجر فدخلوها وظنها الفرنج مكيدة فعادوا وزال عنهم ما كانوا فيه من الضيق وقتل من الفرنج كند كبير من طواغيتهم وقتل من المسلمين مملوك لصلاح الدين اسمه اياز الطويل وهو من الموصوفين بالشجاعة والشهامة لم يكن في زمانه مثله فلما نزل المسلمون وأعنة خيلهم بأيديهم ثم سار الفرنج إلى يافا فنزلوها ولم يكن بها أحد من المسلمين فملكوها ولما كان من المسلمين بأرسوف من الهزيمة ما ذكرناه سار صلاح الدين عنهم إلى الرملة واجتمع بأثقاله بها وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بتخريب عسقلان وقالوا له قد رأيت ما منا بالأمس وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها فهم لا شك يقاتلونا لننزاح عنها وينزلون عليها فإذا كان ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه على عكا ويعظم الأمر علينا لأن العدو وقد قوي بأخذ عكا وما فيها من الأسلحة وغيرها ونحن قد ضعفنا بما خرج عن أيدينا ولم تطل المدة حتى نستجد غيرها فلم تسمح نفسه بتخريبها وندب الناس إلى دخولها وحفظها فلم يجبه أحد إلى ذلك. وقالوا إن أردت حفظها فادخل أنت معنا أو بعض أولادك الكبار وإلا فما يدخلها منا أحد لئلا يصيبنا ما أصاب أهل عكا فلما رأى الأمر كذلك سار إلى عسقلان وأمر بتخريبها تاسع عشر شعبان والقيت حجارتها في البحر وهلك فيها من الأموال والذخائر التي للسلطان والرعية ما لا يمكن حصره وعفى أثرها حتى لا يبقى للفرنج في قصدها مطمع. ولما سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانهم ولم يسيروا إليها. وكان المركيس لعنه الله لما أخذ الفرنج عكا قد أحسن من ملك انكلتار بالغدر به فهرب من عنده إلى مدينة صور وهي له وبيده وكان رجل الفرنج رأياً وشجاعة. وكل هذه الحروب هو اثارها فلما خربت عسقلان أرسل إلى ملك انكلتار يقول له مثلك لا ينبغي أن يكون ملكاً ويتقدم على الجيوش تسمع أن صلاح الدين قد خرب عسقلان وتقيم مكانك يا جاهل لما بلغك أنه قد شرع في تخريبها كنت سرت إليه مجداً فرحلته وملكتها صفواً عفواً بغير قتال ولا حصار فإنه ما خربها إلا وهو عاجز عن حفظها. وحق المسيح لو أنني معك كانت عسقلان اليوم بأيدينا لم يخرب منها غير برج واحد فلما خربت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهر رمضان ومضى إلى الرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد. وفي مدة مقامه لتخريب عسقلان كانت العساكر مع الملك العادل أبي بكر بن أيوب تجاه الفرنج ثم سار صلاح الدين إلى القدس بعد تخريب الرملة فاعتبره وما فيه من سلاح وذخائر وقرر قواعده وأسبابه وما يحتاج إليه وعاد إلى المخيم ثامن رمضان. وفي هذه الأيام خرج ملك انكلتار من يافا ومعه نفر من الفرنج من معسكرهم فوقع به نفر من المسلمين فقاتلوهم قتالاً شديداً وكاد ملك انكلتار يؤسر ففداه بعض أصحابه بننسه فتخلص الملك وأسر ذلك الرجل وفيها أيضاً كانت وقعة بين طائفة من المسلمن وطائفة من الفرنج انتصر فيها المسلمون. الموحدين بعده لأبي بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر ابن الأمير أبي زكرياء فاضطغنها على الموحدين وأغذ ااسير وانحاش إليه كافة أولاد أبي الليل. واجتمع أقتالهم أولاد مهلهل إلى صاحب تونس وخرج معهم شيخ الدولة أبويعقوب بن يزدوتن والوزير أبو عبد الله بن يوؤيكبن في العسكر للتقاء ووقوا سلطانهم بأنفسهم. فمما زحف إليهم السلطان أبو البقاءاختل مصافهم وانهزموا وانتهب المعسكر وقتلى الوزير ابن يرزيكن وأجفلت أحياء اللعوب إلى القفر ودخل العسكر إلى البلد واضطرب الأمر وخرج الأمير أبو بكر بن عبد الرحمن فوقف بساحة البلد قليلا. ثم تفرق عنه العسكروتسايلوا إلى السلطان أبي البقاء. وفر أبو بكر ثم أدرك ببعض الجنات فتل إلى السلطان واعتقله فى بعض الفازات وغدا على السلطان أهل الحضرة من مشيخة الموحدين والفقهاء والكافة فعقدوا بيعته. وقتل الأمير أبو بكر فسمي الشهيد آخر الدهر وباشر قتله ابن عمه أبو زكرياء يحيى بن زكرياء شيخ الموحدين. ودخل السلطان من الغد إلى الحضرة واستقل بالخلافة وتلقب الناصر لدين الله المنصور. ثم استضاف إلى لقبه المتوكل - وأبقى أبا يعقوب بن يزدوتن في رياسته على الموحدين مشاركا لألى زكرياء يحيى بن أبي الأعلام الذيى كان رئيسا عنده قبلها وامشمرعلى خطة الحجابة أبو عبد الرحمن يعقوب بن غمر وولى على الأشغالى بالحضرة منصور بن فضل بن مزني وجرت الحال على ذلك إلى أن كان ما نذكره الخبر عن بيعة ابن مزني ليحيي بن خالد ومصادر أموره كان يحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحاق في جملة السلطان أبي البقاء خالد وتنكرت له الدولة لبعض النزعات فخشي البادرة وفر ولحق بمنصور بن مزني. وكان منصور قد استوحش من ابن غمر فدعاه إلى القيام بأمره فأجاب وعقد له على حجابته وجمع له العرب وأجلب على قسطنطينة أياما وبها يومئذ ابن طفنل وكان قد اجتمعت ليحيى بن خالد زعنفة من الأوغاد واشتملوا عليه واشتمل عليهم وأغروه بابن مزني فوعدهم إلى حين ظفره واطلع ابن مزني على سوء دخلته ودخلتهم فقبض يده من طاعته و انصر ف عنه الى بلده انفضت جموعه. فى راجع ابن مزني طاعة السلطان أبى البقاء ومخالصة بطانته وحاجبه فتقبلوه ولحق يحيى بن خالد بتلمسان مستجيشاً ونزل على أميرها أبي زيان محمد بن عثمان بن يغمراسن فهلك لأيام من مقدمه. وولي أخوه أبو حمو موسى بن عثمان فأمده وزحف الى محاربة قسطنطينة فامتنعت عليه ثم استدعاه ابن مزني بسكرة فأقام عنده وأسنى له الجراية ورتب عليه الحرس. وكان السلطان ابن اللحيلني يبعث إليه من تونس بالمجائزة مصانعة له في شانه حتى لقد أقطع له بتونس من قرى الضاحية فلم يزل في إسهام بنيه من بعده إلى أن هلك يحيى بن خالد بمكانه عنده سنة إحدى وعشرين. |
الخبر عن بيعة السلطان أبي بكربقسطنطينة علي يد الحاجب ابن غمروأولية
ذلك لما نهض السلطان أبو البقاء إلى الحضرة عقد على بجاية لعبد اللرحمن يعقوب بن الخلوف مضافأ إلى رياسته على قومه كما كانوا يستخلفون أباه عليها عند سفرهم عنها وكان يلقب المزوار وجعله حاجبا لأخيه الأمير أبي بكرعلى قسطنطينة فانتقل إليها. وعكف السلطان أبو البقاء بتونس علىلذاته وأرهف حده وعظم بطشه فقتل عدوان بن المهدي من رجالات سدويكش ودعا ابن حريز من رجالات الأثابج فتفاوض رجال الدولة في شأنه وخشوا بادرته وأعمل الحاجب ابن غمر وصعبه منصور بن فضل عامر الزاب الحيلة في التخلص في إيالته واستغضب راشد بن محمد أمير مغراوة نزع إليهم عند استتيلاء بني عبد الواد على وطنه فتلقوه من الكرامة بما يناسبه واستقز جملتهم وعليه وعلى قومه كانت تدوررحا حروبهم - واستصحبه السلطان أبو البقاء خالد إلى الحضرة أميرا على زناتة فرفع بعض حشمه إلى الحاجب في مقعدحكمه وقد استعدى عليه بعض الخدم فأمر بقتله لحينه. وأحفظ ذلك الأمير راشد بن محمد فركب لها عزائمه وقوض خيامه لحيته مغاضبا فوجد الحاجب بذلك سبيلا إلى قصده وتمت حيلتهو حيلة صاحبه. وأهم السلطان شأن بجابة ونواحيها وخشي عليهاعن راشد بما كان صديقا ملاطفا لعبد الرحمن بن الخلوف وفاوضهما فيمن يددفعه إليها فأشار عليه الحاجب بمنصور بن مزني وأشارمنصور بالحاجب وتدافعها أياما حتى دفعهما جميعا إليها. وطلب ابن غمر من السلطان العقد لأخيه أبي بكر على قسطنطينة فعقد له وولى عليا ابن عمه على الحجابة بتونس نائبا وحاصره بماردين حتى استقام وبعث معه ابنه أياز في عسكر فحاصروا الرها وعاثوا في نواحيها ثم سروج وشمشاط وأطاعه صاحب مرعش وكيسوم ورجع فقبض على أياز بن أبي الغازي ونهب سواد ماردين فسار أبو الغازي من وقته إلى ركن الدولة داود ابن أخيه سقمان وهو بحصن كيفا مستنجداً به فأنجده وساروا إلى البرسقي آخر ثمان وخمسمائة فهزموهم وخلصوا ابنه أياز من الأسر. وأرسل السلطان إلى أبي الغازي يتهدده فلحق بطغركين صاحب دمشق صريخاً وكان طغركين مستوحشاً لاتهامه بأمر مودود فاتفقا على الاستنجاد وبعثا بذلك إلى صاحب إنطاكية فجاء إليهما قرب حمص وتحالفا وعاد إلى إنطاكية. وسار أبو الغازي إلى ديار بكر في خف من أصحابه فاعترضه قيرجان صاحب حمص فظفر به وأسره وبعث إلى السلطان بخبره وأبطأ عليه وصول جوابه. فيه. وجاء طغركين إلى حمص فدخل على قيرجان وألح عليه بقتل أبي الغازي ثم أطلقه فيرجان وأخذ عليه. وسار أبو الغازي إلى حلب وبعث السلطان العساكر مع يوسف بن برسق صاحب همذان وغيره من الأمراء لقتال أبي الغازي وقتال الإفرنج بعده فساروا إلى حلب وبها لؤلؤ الخادم مولى رضوان بن تتش كفل ابنه ألب أرسلان بعد موته ومعه مقدم العساكر شمس الخواص فطالبوهما بتسليم حلب بكتاب السلطان إليهما في ذلك. وبادر أبو الغازي وطغركين فدخلا إليهما فامتنعت عليهما فساروا إلى حماة من أعمال طغركين وبها ذخائره ففتحوها عنوة ونهبوها وسلموها إلى الأمير قيرجان صاحب حمص فأعطاهم أياز بن أبي الغازي وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص ساروا إلى روجيل صاحب إنطاكية يستنجدونه على حفظ حماة وجاءهم هنالك بغدوين صاحب القدس والقمص صاحب طرابلس وغيرهما. واتفقوا على مطاولة العساكر ليتفرقوا عند هجوم الشتاء واجتمعوا عند قلعة أفامية فلم تبرح العساكر مكانها فافترقوا وعاد طغركين إلى دمشق وأبو الغازي إلى ماردين والإفرنج إلى بلادهم. ثم كان أثر ذلك فتح كفر طاب على المسلمين واعتزموا على معاودة حلب فاعترضهم روجيل صاحب إنطاكية وقد جاء في خمسمائة فارس مدداً للإفرنج في كفر طاب فانهزم المسلمون وكان تمحيصهم ورجع برسق أمير العساكر وأخوه منهزمين إلى بلادهم. وكان أياز بن أبي الغازي أسيراً عندهم فقتله الموكلون به يوم المعركة سنة تسع وخمسمائة والله تعالى أعلم. استيلاء أبي الغازي على حلب كان رضوان بن تتش صاحب حلب لما توفي سنة سبع وخمسمائة قام بأمر دولته لؤلؤ الخادم. ونصب ابنه ألب أرسلان في ملكه. ثم استوحش منه ونصب مكانه أخاه سلطان شاه واستبد عليه. ثم سار لؤلؤ الخادم إلى قلعة جعبر سنة إحدى عشرة بينه وبين مالك بن سالم بن بدران فغدر به مماليك الأتراك وقتلوه عند خرت برت واستولوا على خزائنه. واعترضهم أهل حلب واستنقذوا منهم ما أخذوه وولي شمس الخواص أتابك مكان لؤلؤ. ثم عزل لشهر وولي أبو المعالي بن الملحي الدمشقي. ثم عزل وصودر اضطربت الدولة وخشي أهل حلب على بلدهم من الإفرنج فاستدعوا أبا الغازي بن أرتق من ماردين وسلموا له البلد. وانقرض ملك آل رضوان بن تتش منها فلم يملكها بعد واحد منهم. ولما ملكها لم يجد فيها مالاً فصادر جماعة من الخدم وصانع الإفرنج مالهم. ثم سار إلى ماردين بغية العودة إلى حمايتها واستخلف عليها ابنه حسام الدين مرتاش. واقعة أبي الغازي مع الإفرنج ولما استولى أبو الغازي على حلب وسار عنها طمع في الإفرنج وساروا إليها فملكوا مراغة وغيرها من أعمالها وحاصروها فلم يكن لأهلها بد من مدافعتهم بقتال أو بمال فقاسموهم أملاكهم التي بضاحيتها في سبيل المصانعة. وبعثوا إلى بغداد يستغيثون فلم يغاثوا. وجمع أبو الغازي من العساكر والمتطوعة نحواً من عشرين ألفاً. وسار بهم إلى الشام سنة ثلاثة عشرة ومعه أسامة بن مبارك بن منقذ الكناني وطغان أرسلان بن أسكين بن جناح صاحب أرزن الروم. ونزل الإفرنج قريباً من حصون الأماري في ثلاثة آلاف فارس وتسعة آلاف راجل ونزلوا في تل عفرين حيث كان مقتل مسلم بن قريش وتحصنوا بالجبال من كل جهة إلا ثلاث مسارب فقصدهم أبو الغازي ودخل عليهم من تلك المسارب وهم غازون فركبوا وصدقوا الحملة فلقوا عساكر المسلمين متتابعة فولوا منهزمين وأخذهم السيف من كل جهة فلم يفلت إلا القليل وأسر من زعمائهم سبعون فاداهم أهل حلب بثلاثمائة ألف دينار وقتل سرجان صاحب إنطاكية. ونجا فلهم من المعركة فاجتمع من الإفرنج وعاودوا اللقاء فهزمهم أبو الغازي وفتح حصن الأثارب ورزدنا وعاد إلى حلب فأصلح أمورها وعبر الفرات إلى ماردين وولى على حلب ابنه سليمان. ثم وصل دبيس بن صدقة إلى أبي الغازي مستجيراً به. فكتب إليه المسترشد مع سرير الدولة عبد أبي الغازي بإبعاد دبيس. ثم وقع بينه وبين السلطان محمود الاتفاق ورهن ولده على الطاعة ورجع. وسار أبو الغازي إلى الإفرنج عقب ذلك سنة أربع عشرة فقاتلهم بأعمال حلب وظفر بهم. ثم سار هو وطغركين صاحب دمشق فحاصروا الإفرنج بالمثيرة وخشوا من استماتتهم فأفرج لهم أبو الغازي حتى خرجوا من الحصن وكان لا يطيل المقام بدار الحرب لأن أكثر الغزاة معه. التركمان يأتون بجراب دقيق وقديد شاة فيستعجل العود إن فنيت أزوادهم والله أعلم. |
انتقاض سليمان بن أبي الغازي بحلب
كان أبو الغازي قد ولي على حلب ابنه سليمان فحمله بطانته على الخلاف على أبيه. وسار إليه أبوه تلقاه ابنه سليمان بالمعاذير فأمسك عنه وقبض على بطانته الذين داخلوه في ذلك. وكان متولي كبرها أمير كان لقيطاً لأبيه ونشأ في بيته فسمله وقطع لسانه. وكان منهم آخر من أهل حماة قدمه أبو الغازي على أهل حلب فقطعه وسمله فمات وأراد قتل ابنه. ثم ثنته الشفقة عليه وهرب إلى دمشق وشفع فيه طغركين فلم يشفعه. ثم استخلف على حلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار ولقبه بدر الدولة وعاد إلى ماردين وذلك سنة خمس عشرة ثم ابنه حسام الدين تمرتاش مع القاضي بهاء الدولة أبي الحسن الشهرزوري شافعاً في دبيس وضامناً في طاعته فلم يتم ذلك. فلما انصرف تمرتاش إلى أبيه اقطع السلطان أباه أبا الغازي مدينة ميافارقين. وكانت لسقمان القطبي صاحب خلاط فتسلمها أبو الغازي ولم تزل في يده إلى أن ملكها صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة والله تعالى أعلم. واقعة مالك بن بهرام مع جوسكين صاحب الرها قد تقدم لنا أن جوسكين من الإفرنج كان صاحب الرها وسروج وأن مالك بن بهرام كان قد ملك مدينة عانة فسار سنة خمس عشرة إلى الرها وحاصرها أياماً فامتنعت عليه وسار جوسكين في اتباعه بعد أن جمع الإفرنج وقد تفرق عن مالك أصحابه. ولم يبق معه إلا أربعمائة فلحقوه في أرض رخوة قد نضب عنها الماء فوحلت فيها خيولهم ولم يقدروا على التخلص فظفر بهم أصحاب مالك وأسروهم وجعل جوسكين في إهاب جمل وخيط عليه وطلبوا منه تسليم الرها فلم يفعل وحبسه في خرت برت بعد أن بذل في فديته أموالاً فلم يفادوه والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. وفاة أبي الغازي وملك بنيه من بعده ثم توفي أبو الغازي بن أرتق صاحب ماردين في رمضان سنة ست عشرة وخمسمائة فولي بعده بماردين ابنه حسام الدين تمرتاش وملك سليمان ميافارقين. وكان بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار فاستولى عليها. ثم سار مالك بن بهرام بن أرتق إلى مدينة ران فحاصرها وملكها. وبلغه أن سليمان ابن عمه عبد الجبار صاحب حلب قد عجز عن مدافعة الإفرنج وأعطاهم حصن الاماري فطمع في ملك بلاده وسار إليها في ربيع سنة عشرة وملكها من يده على الأمان. ثم سار سنة ثمان عشرة إلى منبج وحاصرها وملك المدينة وحبس صاحبها حسان التغلبي. وامتنع أهلها بالقلعة فحاصرها وسمع الإفرنج بذلك فساروا إليه فترك على القلعة من يحاصرها ونهض إليهم فهزمهم وأثخن فيهم وعاد إلى منبج فحاصرها. وأصاحبه بعض الأيام سهم غرب فقتله فاضطرب العسكر فترقوا وخلص حسان من محبسه. وكان تمرتاش ابن أبي الغازي صاحب ماردين معه على منبج فلما قتل حمل شلوه إلى حلب ودفنه بها واستولى عليها. ثم استخلف عليها عاد إلى ماردين وجاء الإفرنج إلى مدينة صور فملكوها وطمعوا في غيرها من بلاد المسلمين. ولحق بهم دبيس بن صدقة ناجياً من واقعته مع المسترشد فأطمعهم في ملك حلب وساروا معه فحاصروها وبنوا عليها المساكن. وطال الحصار وقلت الأقوات واضطرب أهل البلد وظهر لهم العجز من صاحبهم ولم يكن في الوقت أظهر من برسقي صاحب الموصل ولا أكثر قوة وجمعاً منه فاستدعوه ليدافع عنهم ويملكوه. وشرط عليهم أن يمكنوه من القلعة قبل وصوله. ونزل فيها بوابه وسار فلما أشرف على الإفرنج ارتحلوا عائدين إلى بلادهم. وخرج أهل حلب فتلقوا البرسقي فدخل واستولى على حلب وأعمالها ولم تزل بيده إلى أن هلك وملكها ابنه عز الدين. ثم هلك فولى السلطان محمود عليها أتابك زنكي حسبما يأتي في أخبار دولته. ورجع تمرتاش إلى ماردين واستمر ملكه بها وكان مستولياً على كثير من قلاع ديار بكر. استولى سنة اثنتين ثلاثين على قلعة الساج من ديار بكر وكانت بيد بعض بني مروان من بقايا ملوك الأولين. وكان هذا آخرهم بهذه القلعة وكان ملك ميافارقين قد سار لحسام الدين تمرتاش وملكها من يد أخيه سليمان ولم يزل تمرتاش ملكاً بماردين إلى أن هلك سنة سبع وأربعين وخمسمائة لإحدى وثلاثين سنة من ملكه والله تعالى ولي التوفيق. ثم توفي حسام الدين تمرتاش سنة سبع وأربعين وخمسمائة كما قلنا فملك بعده ابنه بماردين ألبي بن تمرتاش وبقي ملكاً عليها إلى أن مات وولي بعده ابنه أبو الغازي بن ألبي إلى أن مات. ولم يذكر ابن الأثير تاريخ وفاتهما. وقال مؤرخ حماة لم يقع إلى تاريخ وفاتهما. ولاية حسام الدين بولق أرسلان بن أبي الغازي بن ألبي ولما توفي أبو الغازي بن ألبي قام بأمر ملكه نظام الملك البقش ونصب للملك مكانه ابنه بولق أرسلان طفلاً واستبد عليه. وكان البقش غالباً على هواه حيث صار أمر الطفل في يده. ولم تزل حالهم على ذلك إلى أن هلك حسام الدين في سنة خمس وتسعين وخمسمائة على عهد بولق هذا وكناه ابن الأثير حسام الدين ناصراً الملك قصد العادل أبو بكر بن أيوب ماردين وخشيت ملوك الجزيرة ولم يقدروا على منعه. ثم توفي العزيز بن صلاح الدين صاحب مصر وولي أخوه الأفضل فاستنفر العادل أهل مصر ودمشق وأهل سنجار وبعثهم مع ابنه الكامل وحاصروا ماردين فبعث إليه البقش المستولي على بولق بالطاعة وتسليم القلعة لأجل معلوم على أن يدخل إليهم الأقوات. ووضع العادل ابنه على بابها أن لا يدخلها زائد على القوت فصانعوا الولد بالمال وشحنوها بالأقوات. وبينما هم في ذلك جاء نور الدين صاحب الموصل لإنجادهم وقاتلهم فانهزم عساكر العادل وخرج أهل القلعة فأوقعوا بعسكر الكامل ابنه فرحلوا جميعاً منهزمين. ونزل حسام الدين بولق إلى نور الدين ولقيه وشكر وعاد. ونزل نور الدين على دبيس ثم رحل عنها قاصداً حوران كما نذكره في أخبار دولته إن شاء الله تعالى والله أعلم. وفاة بولق وولاية أخيه أرتق ولما هلك بولق أرسلان نصب لؤلؤ الخادم بعده للملك أخاه الأصغر ناصر الدين أرتق أرسلان بن قطب الدين أبي الغازي. ولم يذكر ابن الأثير خبر وفاته أيضاً وبقي مملكاً في كفالة البقش إلى سنة إحدى وستمائة والله أعلم. مقتل البقش واستبداد أرتق المنصور واتصال الملك في عقبه ثم استنكف أرتق من الحجر ومرض البقش سنة إحدى وستمائة فجاء أرتق لعيادته وقتل لؤلؤ خادمه في بعض زوايا بيته ورجع إلى البقش فقتله في فراشه استقل بملك ماردين وتلقب المنصور وتوفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وملك بعده ابنه لسعيد نجم الدين غازي بن أرتق وتوفي سنة ثمان أو ثلاث وخمسين وملك بعده أخوه المظفر قرا أرسلان بن أرتق فأقام سنة أو بعضها. ثم هلك سنة ثلاث وسبعين وستمائة وملك بعده أخوه المنصور نجم الدين غازي بن قرا أرسلان إلى أن توفي سنة اثنتي عشرة سبعمائة لأربع وخمسين سنة من ولايته. وملك بعده ابنه المنصور أحمد إلى أن توفي سنة تسع وستين لثلاث سنين من ولايته. ثم ملك بعده ابنه الصالح محمود أربعة أشهر وخلعه عمه المظفر فخر الدين داود المنصور أحمد إلى أن توفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وملك بعده ابنه مجد الدين عيسى وهو السلطان بماردين لهذا العهد. والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده. ولما ملك هلاكو بن طلوخان بن جنكزخان مدينة بغداد وأعمالها أعطاه المظفر قرا أرسلان طاعته وخطب له في أعماله ولم يزالوا يدينون بطاعة بنيه إلى أن هلك أبو سعيد بن خربهر آخر ملوك التتر ببغداد سنة سبع وثلاثين فقطعوا الخطبة لهم واستبد أحمد المنصور منهم وهو الثاني عشر من لدن أبي الغازي جدهم الأول. وأما داود بن سقمان فإنه ملك حصن كيفا من بعد سقمان أبيه وإبراهيم أخيه ولم أقف على خبر وفاته. وملك بعده ابنه فخر الدين قرا أرسلان بن داود وملك أكثر ديار بكر مع حصن كيفا. وتوفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة. وملك بعده ابنه نور الدين محمد بعهده إليه بذلك وكانت بينه وبين صلاح الدين مواصلة ومظاهرة. ظاهر صلاح الدين على الموصل على أن يظاهره على آمد فظاهره صلاح الدين وحاصرها من صاحبها ابن سنان سنة تسع وستين وصارت من أعمال نور الدين كما نذكر في دولة صلاح الدين. ثم توفي نور الدين محمد سنة إحدى وثمانين وخلف ولدين فملك الأكبر منهما قطب الدين سقمان وأقام بتدبير دولته العوام ابن سماق الأسعد وزير أبيه وكان عماد الدين أخو نور الدين هو المرشح للإمارة إلا أنه سار في العساكر مدداً لصلاح الدين على حصار الموصل. فلما بلغه الخبر بوفاة أخيه سار لملك البلد لصغر أولاد أخيه نور الدين فلم يظفر واستولى على خرت برت فانتزعها منهم وملكها وأورثها بنيه. فلما أفرج صلاح الدين عن الموصل لقيه قطب الدين سقمان وأقره على ملك أبيه بكيفا وأبقى بيده آمد التي كان ملكها لأبيه وشرط عليه مراجعته في أحواله والوقوف عند أوامره. وأقام أميراً من أصحاب ابنه قرا أرسلان اسمه صلاح الدين فقام بأمور دولته. واستقر ملكه بكيفا وآمد وما إليهما إلى أن توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة تردى من جوسق له بحصن كيفا فمات. وكان أخوه محمود مرشحاً لمكانه إلا أن قطب الدين سقمان كان شديد البغضاء له واشخصه إلى حصن منصور من آخر عملهم واصطفى مملوكه إياساً وزوجه بأخته وجعله ولي عهده. ولما توفي ملك بعده مملوكه وشخص أهل الدولة فدسوا إلى محمود فسار إلى آمد وسبقه إياس إليها ليدافعه فلم يطق وملك محمود آمد واستولى على البلد كلها وحبس إياس إلى أن أطلقه بشفاعة صاحب بلاد الروم ولحق به وانتظم في أمرائه واستقل محمود بملك كيفا وآمد وأعمالهما ولقب ناصر الدين وكان ظالماً قبيح السيرة وكان ينتحل العلوم الفلسفية وتوفي سنة تسعة عشر وستمائة وولي مكانه المسعود وحدثت بينه وبين الأفضل بن عادل فتنة. واستنجد عليه أخاه الكامل فسار في العساكر من مصر ومعه داود صاحب الكرك والمظفر صاحب حماة فحاصروه بآمد إلى أن نزل عنها وجاء إلى الكامل فاعتقله فلم يزل عنده حبيساً إلى أن مات الكامل فذهب إلى التتر فمات عندهم. وأما عماد الدين بن قرا أرسلان الذي ملك خرت برت من يد قطب الدين سقمان ابن أخيه نور الدين فلم تزل في يده إلى أن توفي سنة إحدى وستمائة لعشرين سنة من ملكه إياها. وملكها بعده ابنه نظام الدين أبو بكر وكانت بينه وبين ناصر الدين محمود ابن عمه نور الدين صاحب آمد وكيفا عداوة. ودخل محمود في طاعة العادل بن أيوب وحضر مع ابنه الأشرف في حصار الموصل على أن يسير معه بعدها إلى خرت برت فيملكها له وكان نظام الدين مستنجداً به الدين قليج أرسلان صاحب بلاد الروم فمات وسار الأشرف مع محمود بعساكره وحاصروا خرت برت في شعبان سنة إحدى وستين وملكوا ربضها. وبعث غياث الدين صاحب الروم إلى نظام الدين المدد بالعساكر مع الأفضل بن صلاح الدين صاحب سميساط فلما انتهوا إلى ملطية أفرج الأشرف ومحمود عن خرت برت إلى بعض حصون نظام الدين بالصحراء ببحيرة سهنين وفتحت في ذي الحجة سنة إحدى وستين فلما وصل الأفضل بعساكر غياث الدين ووصل الأشرف عن البحيرة راجعاً. جاء نظام الدين بالعساكر إلى الحصن فامتنع عليه وبقي لصاحب آمد. ثم ملك كيقباد صاحب الروم حصن خرت برت من أيديهم سنة إحدى وثلاثين وانقرض منها ملك بني سقمان والله وارث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون. |
دولة بني زنكي بن أقسنقر
الخبر عن دولة بني زنكي في أقسنقر من موالي السلجوقية بالجزيرة والشام ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدم لنا ذكر أقسنقر مولى السلطان ملك شاه وأنه كان يلقب قسيم الدولة. وأن السلطان ملك شاه لما بعث الوزير فخر الدولة ابن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة بفتح ديار بكر من يد بن مروان واستنجد ابن مروان صاحب الموصل شرف الدولة مسلم بن عقيل وهزمته العساكر وانحصر بآمد فبعث السلطان عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير ليخالف شرف الدولة إلى السلطان فلقيه في الرحبة وأهدى له فرضي عنه ورده إلى بلده الموصل. واستولى بنو جهير بعد ذلك على ديار بكر كما مر في موضعه من دولة بني مروان. ثم كان بعد ذلك شأن حلب وأستبد بها أهلها بعد انقراض دولة بني صالح بن مرداس الكلابي وطمع فيها شرف الدولة مسلم بن قريش وسليمان بن قطلمش صاحب بلاد الروم وتتش ابن السلطان ألب أرسلان. وقتل سليمان بن قطلمش مسلم بن قريش. ثم قتل تتش سليمان بن قطلمش وجاء إلى حلب فملكها وامتنعت عليه القلعة فحاصرها. وقد كانوا بعثوا إلى السلطان ملك شاه واستدعوه لملكها فوصل إليهم سنة تسع وسبعين ورحل تتش عن القلعة ودخل البرية. واستولى السلطان على حلب وولى عليها قسيم الدولة أقسنقر وعاد إلى العراق فعمرها أقسنقر وأحسن السيرة فيها وسار معه تتش حين عهد له أخوه السلطان ملك شاه فتح بلاد العلوية بمصر والشام ففتح الكثير منها وهو معه كما مر. وزحف قبل ذلك سنة ثمانين إلى بني منقذ بشيزر فحاصره وضيق عليه. ثم رجع عنه عن صلح وأقام بحلب ولم يزل والياً عليها إلى أن هلك السلطان سنة خمس وثمانين. واختلف ولده من بعده وكان أخوه تتش قد استولى على الشام منذ سنة إحدى وسبعين. فلما هلك أخوه طمع في ملك السلجوقية من بعده فجمع العساكر وسار لاقتضاء الطاعة من الأمراء معه بالشام وقصد حلب فأطاعه قسيم الدولة أقسنقر وحمل باغيسيان صاحب إنطاكية وتيران صاحب الرها وحران على طاعته حتى يظهر مآل الأمر في ولد سيدهم ملك شاه. وساروا مع تتش إلى الرحبة فملكها وخطب لنفسه فيها ثم إلى نصيبين ففتحها عنوة ثم إلى الموصل فهزم صاحبها إبراهيم بن قريش بن بدران وتولى كبر هزيمته أقسنقر وقتل قريش بن إبراهيم وملك الموصل من يده وولى تتش عليها ابن عمته علي بن مسلم بن قريش. وسار إلى ديار بكر فملكها ثم إلى أذربيجان. وكان بركيارق بن ملك شاه قد استولى على الري وهمذان وكثير من البلاد فسار لمدافعته وجنح قسيم الدولة أقسنقر وبوزان صاحب الرها إلى بركيارق ابن سيدهم فلحقوا به وتركوا تتش فانقلب عائداً إلى الشام ساخطاً على أقسنقر وبوزان ما فعلاه جمع العساكر وسار إلى حلب سنة سبع وثمانين لقتال قسيم الدولة. وأمده بركيارق لأمير كربوقا في العساكر فبرزوا إلى لقائهم والتقوا على ست فراسخ من حلب. ونزع بعض عساكر أقسنقر إلى تش فاختل مصافه وتمت الهزيمة عليه وجيء به أسيراً إلى تتش فقتله صبراً. ولحق كربوقا وبوزان بحلب وتبعهما فحاصرهما وملكها وأخذهما أسيرين كما مر في أخبار الدولة. وكان قسيم الدولة حسن السياسة كثير العدل وكانت بلاده آمنة. ولما مات نشأ ولده في ظل الدولة السلجوقية. وكان أكبرهم زنكي فنشأ مرموقاً بعين التجلة. ولما ولي كربوقا الموصل من قبل بركيارق أيام الفتنة بين بركيارق وأخيه محمد كان زنكي في جملته لأنه كان صاحب أبيه. وسار كربوقا أيام ولايته لحصار آمد وصاحبها يومئذ بعض أمراء التركمان. وأنجده سقمان بن أرتق. وكان زنكي بن أقسنقر يومئذ صبياً وهو وفي جملة رجال كربوقا ومعه جماعة من أصحاب أبيه فجلا في تلك الحرب. وانهزم سقمان وظهر كربوقا. وفي هذه الحرب أسر بن ياقوتي ابن أرتق وسجنه كربوقا بقلعة ماردين فكان ذلك سبباً لملك بني أرتق فيها كما مر في أخبار دولتهم. ثم تتابعت الولاة على الموصل فوليها جكرمش بعد كربوقا وبعده جاولي سكاوو وبعده مودود بن أيتكين وبعده أقسنقر البرسقي كما تقدم في أخبار السلجوقية. وولاه السلطان محمد بن ملك شاه سنة ثمان وخمسين وبعث معه ابنه مسعوداً. وكتب إلى سائر الأمراء هناك بطاعته ومنهم يومئذ عماد الدين زنكي بن أقسنقر فاختص به. ولما ملك السلطان محمود بعد أبيه محمد سنة إحدى عشرة كان أخوه مسعود بالموصل كما تقدم أتابكه حيوس بك ونقل البرسقي من الموصل إلى شحنة بغداد. وانتقض دبيس بن صدقة صاحب الحلة على المسترشد والسلطان محمود وجمع البرسقي العساكر وقصد الحلة فكاتب دبيس السلطان مسعود وأتابكه حيوس بك بالموصل وأغراهما بالمسير إلى بغداد فسار لذلك مع السلطان مسعود وزيره فخر الملك وأبو علي بن عمار صاحب طرابلس وزنكي بن قسيم ودخل مسعود إلى بغداد وجاء منكبرس إلى بغداد ونزع إليه دبيس بن صدقة. ووقعت الحرب بينهما على بغداد كما تقدم في أخبار الدولة. وأقام منكبرس ببغداد. ثم كان له في خدمة السلطان محمود عند حربه مع أخية مسعود مقامات جليلة. وغلب السلطان أخاه مسعودا وأخذه عنده واستنزل أتابكه حيوس بك من الموصل وأعاد إليها البرسقي سنة خمسة عشر فعاد زنكي إلى الإختصاص به كما مر. ثم أضاف إليه السلطان محمود شحنة بغداد وولاية واسط مضافة إلى ولاية الموصل سنة ستة عشر فولى عليها عماد الدين زنكي فحسن أثره في ولايتهما. ولما كانت الحرب بين دبيس بن صدقة وبين الخليفة المسترشد وبرز المسترشد لقتاله من بغداد وحضر البرسقي من الموصل وعماد زنكي فانهزم دبيس عماد الدين. في ذلك المقام. ثم ذهب دبيس إلى البصرة وجمع المنتفق من بني عقيل فدخلوا البصرة ونهبوها وقتلوا أميرها. وبعث المسترشد إلى البرسقي فعذله في إهماله أمر دبيس حتى فعل في البصرة ما فعل فبادر إلى قصره وهرب دبيس واستولى على البصرة وولى عليها عماد الدين زنكي بن أقسنقر فأحسن حمايتها والدفاع عنها. وكبس العرب في حللهم بضواحيها وأجفلوا. ثم عزل البرسقي سنة ثمان عشرة عن شحنة بغداد وعاد إلى الموصل فاستدعى عماد الدين زنكي من البصرة فضجر من ذلك وقال كل يوم للموصل جديد يستنجدنا. وصار إلى السلطان ليكون في جملته فلما قدم عليه بأصفهان أقطعه البصرة وأعاده عليها من قبله. ثم ملك البرسقي مدينة حلب سنة ثمان عشرة وقتل بها سنة تسع عشرة. وكان ابنه الدين مسعود بحلب فبادر إلى الموصل وأقام ملك أبيه بها ووقع الخلاف بين المسترشد والسلطان محمود وبعث الخليفة عفيفاً الخادم إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان محمود فسار إليه عماد الدين زنكي من البصرة وقاتله فهزمه ونمى عفيف إلى المسترشد وأقام عماد الدين في واسط وأمره أن يحضر بالعساكر في السفن وفي البر فجمع السفن من البصرة وشحنها بالمقاتلة شاكي السلاح وأصعد في البر وقدم على السلطان وقد تسلحت العساكر فهاله منظرهم ووهن المسترشد لما رأى فأجابه إلى الصلح |
ولاية زنكي شحنة بغداد والعراق
ولما ظهر من عماد الدين زنكي من الكفاءة والغناء في ولاية البصرة وواسط ما ظهر ثم كان له المقام المحمود مع السلطان محمود على بغداد كما مر ولاه شحنة بغداد والعراق لما رأى أنه يستقيم إليه في أمور الخليفة بعد أن شاور أصحابه فأشاروا به وذلك سنة إحدى وعشرين وسار عن بغداد بعد أن ولاه على كرسي ملكه بأصفهان والله تعالى أعلم. قد قدمنا أن عز الدين مسعود بن البرسقي لما قتل الباطنية أباه بالموصل وكان نائبه فبادر إلى الموصل وضبط أمورها وخاطب السلطان محموداً فولاه مكان أبيه وكان شجاعاً قرماً فطمع في ملك الشام فسار وبدأ بالرحبة فحاصرها حتى استأمن إليه أهل القلعة. وطرقه مرض فمات وتفرقت عساكره ونهب بعضهم بعضاً حتى شغلوا عن دفنه وكان جاولي مولى أبيه مقدم العساكر عنده فنصب مكانه أخاه الأصغر وكاتب السلطان في تقرير ولايته. وأرسل في ذلك الحاجب صلاح الدين محمد الباغيسياني والقاضي أبا الحسن علي ابن القاسم الشهرزوري فأوصى صلاح الدين صهره جقري فيما جاء فيه. وكان شيعة لعماد الدين زنكي فخوف الحاجب وحذره مغبة حاله معه. وأشار عليه وعلى القاضي بطلب عماد الدين زنكي وضمن لهما عنده الولايات والإقطاع. وركب القاضي مع الحاجب إلى الوزير شرف الدين أنو شروان ابن خالد. وذكر له حال الجزيرة والشام و استيلاء الإفرنج على أكثرها من ماردين إلى العريش. وأنها تحتاج إلى من يكف طغيانهم وابن البرسقي المنصوب بالموصل صغير لا يقوى على مدافعتهم وحماية البلاد منهم. ونحن قد خرجنا عن العهدة وأنهينا الأمر إليكم فرفع الوزير قولهما إلى السلطان فشكرهما واستدعاهما واستشارهما فيمن يصلح للولاية فذكرا جماعة وأدرجا فيهم عماد الدين زنكي وبذلا عنه مالاً جزيلاً لخزانة السلطان فأجابهما إليه لما يعلم من كفايته وولاه البلاد كلها وكتب منشوره بها وشافهه بالولاية. وسار إلى ولايته فبدأ بالفوارع وملكها. ثم سار إلى الموصل وخرج جاولي والعساكر للقائه. ودخل الموصل في رمضان سنة إحدى وعشرين وبعث جاولي والياً على الرحبة وولى على القلعة نصير الدين جقري. وولى على حجابته صلاح الدين الباغيسياني. وعلى القضاء ببلاده جميعاً بهاء الدين الشهرزوري. وزاد في إقطاعه. وكان لا يصدر إلا عن رأيه. ثم خرج إلى جزيرة ابن عمر وبها موالي البرسقي فامتنعوا عليه وحاصرهم. وكان بينه وبين البلد دجلة فعبرها. وبين دجلة والبلد فسيح من الأرض فعبر دجلة. وقاتلهم في ذلك الفسيح. وهزمهم فتحصنوا بالأسوار. ثم استأمنوا فدخل البلد وملكه وسار لنصيبين. وكانت لحسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي صاحب ماردين فاستنجد عليه ابن عمه ركن الدولة داود بمن سقمان صاحب كيفا فوعده بالنجدة وبعث حسام الدين بذلك إلى أهل نصيبين يأمرهم بالمصابرة عشرين يوماً إلى حين وصوله فسقط في أيديهم لعجزهم عن ذلك. واستأمنوا لعماد الدين فأمنهم وملكها وسار عنها لسنجار فامتنعوا عليه أولاً. ثم استأمنوا وملكها. وبعث منها إلى الخابور فملك جميعه. ثم سار إلى حران. وكانت الرها وسروج والبيرة في جوارها لإفرنج وكانوا معهم في ضيقة فبادر أهل حران إلى طاعته. وأرسل إلى جوسكين وهادنه حتى يتفرغ له فاستقر بينهما الصلح. والله استيلاء الأتابك زنكي على مدينة حلب كان البرسقي قد ملك حلب وقلعتها سنة ثماني عشرة. واستخلف عليها ابنه مسعود. ثم قتل الباطنية البرسقي بالموصل فبادر ابنه مسعود إلى الموصل. واستحلف حلب الأمير قرمان. ثم عزله وبعث بولايتها إلى الأمير قطلغ أبه فمنعه قرمان وقال بيني وبينه علامة لم أرها في التوقيع فرجع إلى مسعود فوجده قد الرحبة فعاد إلى حلب مسرعاً ومال إليه أهل البلد ورئيسها مضال بن ربيع وأدخلوه وملكوه واستنزلوا قرمان من القلعة وأعطوه ألف دينار وبلغوه مأمنه. وملك قطلغ القلعة والبلد منتصف إحدى وعشرين. ثم ساءت سيرته وفحش ظلمه واشتمل عليه أشرار فاستوحش الناس منه وثاروا به في عيد الفطر من السنة وقبضوا على أصحابه. وولوا عليهم بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق الذي كان ملكها من قبل وحاصروا قطلغ بالقلعة. ووصل حسان صاحب منبج وحسن صاحب مراغة لإصلاح الأمر فلم يتم. وزحف جوسكين صاحب الرها من الإفرنج إلى حلب فصانعوه بالمال ورجع فزحف صاحب إنطاكية وحاصر البلد وهم يحاصرون القلعة إلى منتصف ذي القعدة من آخر السنة. وانتهى عماد الدين زنكي إلى صاحب حران كما ذكرناه فبعث إلى أهل حلب ن من أصحابه بتوقيع السلطان له بالموصل والجزيرة والشام فبادروا إلى الطاعة. وسار إليه بدر الدولة ابن عبد الجبار وقطلغ أبه. وأقام أحد الأميرين بحلب. ولما وصلا إلى عماد الدين أصلح بينهما وأقاما عنده. وبعث الحاجب صلاح الدين محمد الباغسياني في عسكر إليهما فملك القلعة ورتب الأمور وولى. ثم وصل عماد الدين بعده محرم سنة اثنتين وعشرين وملك في طريقه منبج من يد حسان ومراغة من يد حسن. وتلقاه أهل حلب فاستولى وأقطع أعمالها للأمراء والأجناد ثم قبض على قطلغ أبه وأسلمه إلى ابن بديع فلحق ومات واستوحش ابن بديع فلحق بقلعة جعبر مستنجداً بصاحبها وأقام عماد الدين في مكانه في رياسة حلب علي بن عبد الرزاق وعاد إلى الموصل والله أعلم. استيلاء الأتابك زنكي علي مدينة حماة ثم سار عماد الدين زنكي لجهاد الإفرنج وعبر الفرات إلى الشام. واستنجد تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق فأنجده بعد التوثق باستحلافه. وبعث عسكره من دمشق إلى ابنه سونج وأمره بالمسير إلى زنكي فلما وصلوا إليه أكرمهم. ثم غدر بهم بعد أيام وقبض على سونج والأمراء الذين معه فاعتقلهم بحلب ونهب خيامهم وبادر إلى حماة وهي خلو من الحامية فملكها وسار عنها إلى حمص وصاحبها قيرجان بن قراجا معه في عساكره وهو الذي أشار بحبس سونج وأصحابه فقبض عليه يظن أن أهل حمص يسلمون بلادهم إليه فامتنعوا وبعث إليهم قيرجان بذلك فلحق إليها فحاصرها مدة وامتنعت عليه فعاد إلى الموصل ومعه سونج بن بوري والله أعلم. فتح عماد الدين حصن الأتارب وهزيمة الإفرنج ولما عاد عماد الدين إلى الموصل أراح عساكره أياماً ثم تجهز سنة أربع وعشرين إلى الغزو وعاد إلى الشام وقصد حلب واعتزم على قصد حصن الأتارب وهو على ثلاثة فراسخ من حلب. وكان الإفرنج الذين به قد ضيقوا على حلب فسار إليه وحاصره وجاء الإفرنج من إنطاكية لدفاعه. واستفرغوا فتبعهم وترك الحصن وسار إليهم واستمات المسلمون فانهزم الإفرنج وأسر كثير من زعمائهم وقتل كثير حتى بقيت عظامهم ماثلة بذلك الموضع أكثر من ستين سنة. ثم عاد إلى حصن الأتارب فملكه عنوة وخربه وتقسم جميع من فيه بين القتل والأسر وسار إلى قلعة حارم قرب إنطاكية وهي للإفرنج فحاصرها حتى صالحوه على نصف خراجها فرجع عنها. وملئ الإفرنج رعباً منه ومن استبداد المسلمين به وذهب ما كان عندهم من الطمع. واقعة عماد الدين مع بني أرتق ولما فرغ عماد الدين من غزو الإفرنج وفتح الأتارب وقلعة حارم عاد إلى الجزيرة وحاصر مدينة سرخس وهي لصاحب ماردين بينها وبين نصيبين فاجتمع حسام الدين صاحب ماردين وركن الدولة صاحب آمد وهما لأبي الغازي صاحب ماردين بن حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي وصاحب كيفا ركن الدولة داود بن سقمان وتمرتاش بن أرتق. وجمعوا من التركمان نحواً من عشرين ألفاً. وساروا لمدافعة زنكي فهزمهم وملك سرخس وسار ركن الدولة إلى جزيرة ابن عمر لينهبها فاتبعه عماد الدين فرجع إلى بلده فعاد عنه لضيق مسالكه. وملك من قلاعه همرد ورجع إلى الموصل إلى آخره. |
حصول دبيس بن صدقة في أسر الأتابك زنكي
قد تقدم لنا أن دبيس بن صدقة لما فارق البصرة سار إلى سرخد من قلاع الشام سنة خمس وعشرين باستدعاء الجارية التي خلفها الحسن هنالك ليتزوج بها وأنه مر في الغوطة بحي من أحياء كلب فأسروه وحملوه إلى تاج الملوك صاحب دمشق. وبلغ الخبر إلى الأتابك زنكي. وكان عدواً له فبعث فيه إلى تاج الملوك بوري. وفادى من ابنه سونج والأمراء الذين معه عنده فأطلقهم. وبعث بوري إليه بدبيس وهو مستيقن الهلاك فلما وصله أكرمه وأحسن إليه وأزاح علله. وبعث المسترشد فيه إلى بوري بن طغركين صاحب دمشق فوجده قد فات بتسلمه إلى زنكي. فذم الرسل زنكي فيما فعله فأرصد لهم في طريقهم وسيقوا إليه وهم سديد الدولة بن الأنباري. وأبو بكر بن بشر الجزري فحبسهما حتى شفع فيهما المسترشد. وبقي دبيس عنده حتى انحدر معه إلى العراق. مسير الأتابك زنكي إلى العراق لمظاهرة السلطان مسعود وانهزامه ولما توفي السلطان محمود سنة خمس وعشرين. واختلف ولده داوود وأخوه مسعود. وسار داود إلى مسعود وحاصره بتبريز في محرم سنة ست وعشرين. ثم صالحه وخرج مسعود من تبريز واجتمعت عليه العساكر وسار إلى همذان وبعث يطلب الخطبة من المسترشد فمنعه وكتب الأتابك عماد الدين زنكي يستنجده. وسار إلى بغداد فحاصرها وكان قد سبق إليها أخوه سلجوق شاه صاحب فارس وخوزستان مع أتابك قراجا الشامي في عسكر كثير. وأنزله المسترشد بدار السلطان فلما جاء مسعود ونزل عباسة. وبرز عسكر المسترشد وعسكر سلجوق شاه وقراجا الشامي لمحاربة مسعود أتاهم خبر بوصول عماد الدين زنكي من ورائهم. وأنه وصل إلى المعشوب فرجع قراجا الشامي إلى محاربته وسار سلجوق شاه بالعساكر إلى محاربة أخيه مسعود وأغذ قراجا السير. وصبح عماد الدين بعد يوم وليلة على المعشوب وقاتله وهزمه. وأسر كثيراً من أصحابه. وسار زنكي منهزماً إلى والنائب بها نجم الدين أيوب بن شادي والد السلطان صلاح الدين فتأخر. ثم اصطلح مع الخليفة على أن يكون العراق له والسلطنة لمسعود. وولاية العهد لسلجوق شاه. وذلك منتصف سنة ست وعشرين. مسير الأتابك عماد الدين إلى بغداد بابنه وانهزامه قد قدمنا ما كان بعد وفاة السلطان محمود من الخلاف بين ابنه داود وأخويه مسعود وسلجوق شاه. ثم استقرار مسعود في السلطنة وصلحه مع أخيه سلجوق. على أن يكون ولي عهده. ثم إن السلطان سنجر سار من خراسان يطلب السلطنة لطغرل ابن أخيه السلطان محمود وكان عنده مقيماً فبلغ همذان. وخرج السلطان مسعود وسلجوق شاه للقائه وساروا متباطئين ينتظرون لحاق المسترشد بهم وخرج المسترشد إلى فجاءته الأخبار بوصول الأتابك زنكي ودبيس بن صدقة إلى بغداد فذكر دبيس أن السلطان سنجر أقطعه الحلة وبعث يسترضي فلم يشفعه وذكر الأتابك زنكي أن السلطان سنجر ولاه شحنة بغداد. واستمر السلطان مسعود وأخوه سلجوق على المسير للقاء سنجر وكانت الهزيمة على مسعود كما مر فعاد المسترشد إلى بغداد. ونزل العباسة من الجانب الغربي ولقي الأتابك زنكي ودبيس على حصن البرامكة فهزمهما آخر رجب سنة ست وعشرين ولحق الأتابك بالموصل. واقعة الإفرنج على أهل حلب وفي غيبة الأتابك زنكي سار ملك الإفرنج من القدس إلى حلب فخرج نائبها عن الأتابك زنكي وهو الأمير أسوار. وجمع التركمان مع عساكره. وقاتل الإفرنج عند قنسرين وصابرهم ومحص الله المسلمين وانهزموا إلى حلب وسار ملك الإفرنج في أعمال حلب ظافراً ثم سار بعض الإفرنج من الرها للغارة في أعمال حلب فخرج إليهم الأمير أسوار ومعه حسان التغلبي الذي كان صاحب منبج فأوقعوا بهم واستلحموهم وأسروا من بقي منهم وعادوا ظافرين. حصار المسترشد الموصل ولما وقع ما قدمناه من وصول زنكي. إلى بغداد وانهزامه أمام المسترشد حقد عليه المسترشد ذلك وأقام يتربص. ثم كثر الخلاف بين سلاطين السلجوقية واعتزلهم جماعة من أمرائهم فراراً من الفتنة ولحقوا بالخليفة وأقاموا في ظله فأراد الخليفة المسترشد أن ينتصف بهم من الأتابك زنكي و فقدم إليه بهاء الدين أبا الفتوح الاسفرايني الواعظ وحمله عتاباً أغلظ فيه وزاده الواعظ غلظة حفظاً على ناموس الخلافة في معتقده فامتعض الأتابك لما شابهه به وأهانه وحبسه. وأرسل المسترشد إلى السلطان مسعود على قصد الموصل وحاصرها لما وقع من زنكي. ثم سار في شعبان سنة سبع وعشرين إلى الموصل في ثلاثين ألف مقاتل. فلما قارب الموصل فارقها الأتابك زنكي إلى سنجار وترك نائبه بها نصر الدين جقري وجاء المسترشد فحاصرها والأتابك زنكي قد قطع الميرة عن معسكره فتعذرت الأقوات وضاقت عليهم الأحوال وأرادت جماعة من أهل البلد الوثوب بها. وسعى بهم فأخذوا وصلبوا ودام الحصار ثلاثة أشهر وامتنعت عليه فأفرح عنها وعاد إلى بغداد. وقيل إن مطراً الخادم جاءه من بغداد وأخبره أن السلطان مسعوداً عازم على قصد العراق فعاد مسرعاً. ارتجاع صاحب دمشق مدينة حماة قد كنا قدمنا أن الأتابك زنكي تغلب على حماة من يد تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق سنة ثلاث وعشرين وأقامت في ملكه أربع سنين. وتوفي تاج الملوك بوري في رجب سنة ست وعشرين وولي بعده ابنه شمس الملوك إسماعيل وملك بانياس من الإفرنج في صفر سنة سبع وعشرين ثم بلغه أن المسترشد بالله حاصر الموصل فسار هو إلى حماة وحاصرها وقاتلها يوم الفطر ويومين بعده فملكها عنوة واستأمنوا فأمنهم. ثم حصر الوالي ومن معه بالقلعة فاستأمنوا أيضاً واستولى على ما فيها من الذخائر والسلاح وسار منها إلى قلعة شيزر فحاصرها ابن منقذ فحمل إليه مالاً صانعه به وعاد إلى دمشق في ذي الحجة من السنة. حصار الأتابك زنكي قلعة آمد واستيلاؤه على قلعة النسور ثم حصار قلاع الحميدية وفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة اجتمع الأتابك زنكي صاحب الموصل وصاحب ماردين على حصار آمد. واستنجد صاحبها بداود بن سقمان صاحب كيفا فجمع العساكر وسار إليهما ليدافعهما عنه وقاتلاه فهزماه وقتل كثير من عسكره. وأطالا حصار آمد وقطعا شجرها وكرومها وامتنعت عليهما فرحلا عنها. وسار زنكي إلى قلعة النسور من ديار بكر فحاصرها وملكها منتصف رجب من السنة. ووفد عليه ضياء الدين أبو سعيد ابن الكفرتوثي فاستوزره الأتابك وكان حسن الطريقة عظيم الرئاسة والكفاية محبباً في الجند وتوفي سنة ست وثلاثين بعدها. ثم استولى الأتابك على سائر قلاع الأكراد الحميدية مثل قلعة العقر وقلعة سوس وغيرهما. وكان لما ملك الموصل أمر صاحب هذه القلاع الأمير عيسى الحميري على ولايتها. فلما حاصر المسترشد الموصل قام في خدمته أحسن القيام وجمع له الأكراد. فلما عاد المسترشد إلى بغداد من قتال الأتابك زنكي حاصر قلاعهم وحاصرتها العساكر وقاتلوها قتالاً شديداً حتى ملكوها في هذه السنة ورفع الله شرهم عن أهل السواد المحاربين لهم فقد كانوا منهم في ضيقة من كثرة عيثهم في البلاد وتخريبهم والله تعالى أعلم. استيلاء الأتابك على قلاع الهكارية وقلعة كواشي حدث ابن الأثير عن الجنيبي أن الأتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء بن عبد الله على قلعة أشب والجزيرة وكواشي فاستأمن الأتابك واستحلفه وحمل له مالاً. ثم وفد عليه بالموصل بعد أن أخرج ابنه أحمد من أشب خشية أن يغلب عليها وأعطاه قلعة كواشي وولى على أشب رجلاً من الكرد واسمه باد الأرمني. وابنه أحمد هذا هو أبو علي بن أحمد المشطوب من أمراء السلطان صلاح الدين. ولما مات أبو الهيجاء واسمه موسى وسار أحمد إلى أشب ليملكها فامتنع عليه باد وأراد حفظها لعلي الصغير من بني أبي الهيجاء فسار الأتابك زنكي في عساكره ونزل على أشب وبرز أهلها لقتاله. واستجرهم حتى ابعدوا ثم كر عليهم فأفناهم قتلاً وأسراً وملك القلعة في الحال. وسيق إليه باد في جماعة من مقدمي الأكراد وقتلهم وعاد إلى الموصل. ثم سار غازياً في بعض مذاهبه فبعث نائبه نصر الدين جقري عسكراً وخلى كنجا ورسى في قلعة العمادية وحاصروا قلعة الشغبان وفرح وكواشي والزعفراني والغي وسرف وسفروه وهي حصون الهكارية فحاربها وملكها جميعاً. واستقام أمر الجبل والزوزان. وأمنت الرعية من الأكراد. وأما باقي قلاع الهكارية وهي حلا وصوراً وهزور والملايسي ويامرما ومانرحا وباكرا ونسر فإن قراجا صاحب العمادية فتحها بعد قتل زنكي بمدة طويلة. كان أميراً على تلك الحصون الهكارية من قبل زين الدين علي على ما قال ابن الأثير. ولم أعلم قال وحدثني بخلاف هذا الحديث بعض فضلاء الأكراد. أن أبا بكر زنكي لما فتح قلعة أسب وحرساني وقلعة العمادية ولم يبق في الهكارية إلا صاحب جبل صورا وصاحب هزور ولم يكن لهما شوكة يخشى منهما. ثم عاد إلى الموصل وخافه أهل القلاع الجبلية. ثم توفي عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الريبة والغي وفرح وملكها بعده ابنه علي وكانت أمه خديجة ابنة الحسن أخت إبراهيم وعيسى وهما من الأمراء مع زنكي بالموصل فأرسلها ابنها علي إلى أخويها المذكورين وهما خالاه ليستأمنا. له من الأتابك فاستحلفاه وقدم عليه فأقره على قلاعه واستقل بفتح قلاع الهكارية. وكان الشغبان هذا الأمير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر فأخذه منه وخربه لكبره وقلة أعماله. وكان نصر الدين جقري يكره علياً صاحب الريبة والغي وفرح فسعى عند الأتابك في حبسه فأمره بحبسة ثم ندم وكتب إليه أن يطلقه فوجده قد مات فاتهم نصر الدين قتله. ثم بعث العساكر إلى قلعة الرحبية فنازلوها بغتة وملكوها عنوة وأسروا ولد علي وأخوته ونجت أمه خديجة لمغيبها. وجاء البشير إلى الأتابك بفتح الريبة فسره ذلك. بعث العساكر إلى ما بقي من قلاع علي فأبى إلا أن يزيدوه قلعة كواشي فمضت خديجة أم علي إلى صاحب كواشي من المهرانية واسمه جرك راهروا وسألته النزول عن كواشي لإطلاق أسراهم ففعل ذلك وتسلم حصار الأتابك زنكي مدينة دمشق كان شمس الملوك إسماعيل بن بوري قد انحل أمره وضعفت دولته واستطال عليه الإفرنج وخشي عاقبه أمرهم فاستدعى الأتابك زنكي سراً ليملكه دمشق ويريح نفسه. وشعر بذلك أهل دولته فشكوا إلى أمه فوعدتهم الراحة منه ثم اغتالته فقتلته. وجاء الأتابك زنكي فقدم رسله من الفرات فألفوا شمس الملوك قد مات وولي مكانه أخوه محمود واشتمل أهل الدولة عليه ورجعوا الخبر إلى الأتابك فلم يحفل به. وسار حتى نزل بظاهر دمشق واشتد أهل الدولة على مدافعته ومقدمهم معين الدين أبربوه أتابك طغركين. ثم بعث المسترشد أبا بكر بن بشر الجزري إلى الأتابك زنكي فأمره بصلح صاحب دمشق فصالحه ورحل عنه منتصف السنة والله سبحانه وتعالى أعلم. |
فتنة الراشد مع السلطان مسعود ومسيره إلى الموصل وخلعه
كان كثير من أمراء السلجوقية قد اجتمعوا على الانتقاض على السلطان مسعود والخروج عليه. ولحق داود ابن السلطان محمود من أذربيجان ببغداد في صفر سنة اثنين وثلاثين فأنزل بدار السلطنة وراسله أولئك الأمراء. وقدم عليه بعضهم مثل صاحب قزوين وصاحب أصفهان وصاحب الأهواز وصاحب الأبلة وصاحب الموصل الأتابك زنكي. وخرجت إليهم العساكر من بغداد وولي داود شحنية بغداد وخرج موكب الخليفة مع الوزير جلال الدين الرضي وكان الخليفة قد تغير عليه وعلى قاضي القضاة الزينبي فسمع بهم الأتابك. ثم وقعت العزيمة من الراشد والسلطان داود الأتابك زنكي وحلف كل منهم لصاحبه وبعث الراشد إلى الأتابك بمائتي ألف دينار. ووصل سلجوق شاه إلى واسط وقبض على الأمير بك أبه ونهب ماله فانحدر الأتابك زنكي لمدافعته فاصطلحا وعاد زنكي إلى بغداد ومر على جميع العساكر لقتال السلطان مسعود. وخرج على طريق خراسان وبلغهم أن السلطان مسعوداً سار إلى بغداد فعاد إليها ثم عاد الملك داود وجاء السلطان مسعود فنزل على بغداد وحاصرهم نيفاً وخمسين يوماً وارتحل إلى النهروان. ثم قدم عليه طرتطاي صاحب واسط بالسفن فرجع إلى بغداد وعبر إلى الجانب الغربي. ثم اختلف العسكر ببغداد ورجع الملك داود إلى ولايته بأذربيجان. وافترق الأمراء الذين معه ولحق الراشد بالأتابك زنكي في نفر من أصحابه وهو بالجانب الغربي. وسار معه إلى الموصل ودخل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين واستقر بها سكن الناس. وجمع القضاة وأنفقها وعرض عليهم يمين الراشد بخطه بأنه متى جمع أو خرج لحرب السلطان فقد خلع نفسه فأفتوا بخلعه. ثم وقعت الشهادات من أهل الدولة وغيرهم إلى الراشد بموجبات العزل وكتبت وأفتى الفقهاء عقبها باستحقاق العزل وحكم به القاضي المعين حينئذ لغيبة قاضي القضاة بالموصل مع الراشد ونصب للخلافة ابن المستظهر. وجاء رسول الأتابك زنكي إلى بغداد وهو القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري وبايع بعد أن ثبت عنده الخلع وانصرف إلى الأتابك بإقطاع من خاص الخليفة ولم يكن ذلك لأحد قبله. وعاد كمال الدين إلى الأتابك وحمل كتب الخلع فحكم بها قاضي القضاة بالموصل. وانصرف الراشد عن الموصل إلى أذربيجان كما مر في أخبار الخلفاء والسلجوقية والله تعالى ولي التوفيق. غزاة عساكر حلب إلى الإفرنج ثم اجتمعت عساكر حلب مع الأمير أسوار نائب الأتابك زنكي بحلب في شعبان سنة ثلاثين وساروا غازين إلى بلاد الإفرنج وقصدوا اللاذقية على غرة فنالوا منها وانساحوا في بسائطها واكتسحوها وامتلأت أيديهم من الغنائم وخربوا بلاد اللاذقية وما جاورها وخرجوا على شيزر وملؤوا الشام بالأتراك والظهر ووهن الإفرنج لذلك. والله سبحانه وتعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. حصار الأتابك زنكي مدينة حمص واستيلاؤه على بغدوين وهزيمة الإفرنج واستيلاؤه حمص ثم سار الأتابك في العساكر في شعبان سنة إحدى وثلاثين إلى مدينة حمص وبها معين الدين بن القائم بدولة صاحب دمشق وحمص من أقطاعه فقدم إليه صاحبه صلاح الدين الباغيسياني في تسليمها فاعتذر بأن ذلك ليس من الإصابة فحاصرها والرسل تردد بينهما وامتنعت عليه فرحل عنها إلى بغدوين من حصون الإفرنج في شوال من السنة فجمع الإفرنج وأوعبوا وزحفوا إليه واشتد القتال بينهم. ثم هزم الله العدو ونجا المسلمين منهم ودخل ملوكهم إلى حصن بغدوين فامتنعوا به وشد الأتابك حصاره. وذهب القسوس والرهبان إلى بلاد النصرانية من الروم والإفرنج يستنجدونهم على المسلمين ويخوفونهم استيلاء الأتابك على قلعة بغدوين وما يخشى بعد ذلك من ارتجاعهم بيت المقدس. وجد الأتابك بعد ذلك في حصارها والتضييق عليها حتى جهدهم الحصار ومنع الأخبار. ثم استأمنوا على أن يحملوا إليه خمسين ألف دينار فأجابهم وملك القلعة. ثم سمعوا بمسير الروم والإفرنج لانجادهم وكان الأتابك خلال الحصار قد فتح المعرة وكفر طاب في الولايات التي بين حلب وحماة ووهن الإفرنج. ثم سار الأتابك زنكي في محرم سنة اثنين وثلاثين إلى بعلبك وملك حصن المعدل من أعمال صاحب دمشق. وبعث إليه نائب بانياس بالطاعة كذلك. ثم كانت حادثة ملك الروم ومنازلته حلب كما نذكره. فسار إلى سلمية ولما انجلت حادثة الروم رجع إلى حصار حمص وبعث إلى محمود صاحب دمشق في خطبة أمه مردخان بنت جاولي التي قتلت ابنها فتزوجها وملك حمص وقلعتها. وحملت الخاتون إليه في رمضان وظن أنه يملك دمشق بزواجها فلم يحصل على شيء من ذلك. والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. مسير الروم إلى الشام وملكهم مراغة ولما استنجد الإفرنج ببغدوين ملك أمم النصرانية كما مر جمع ملك الروم بالقسطنطينية وركب البحر سنة إحدى وثلاثين ولحقته أساطيله وسار إلى مدينة قيليقية فحاصرها وصالحوه بالمال وسار عنها إلى أدنة والمصيصة وهما لابن ليون الأرمني صاحب قلاع الدروب فحاصرهما وملكهما. وسار إلى عين زربة فملكها عنوة وملك تل حمدون ونقل أهله إلى جزيرة قبرص. ثم ملك مدينة إنطاكية في ذي القعدة من السنة وبها ريمند من ملوك الإفرنج فصالحه ورجع إلى بغراس ودخل منها بلاد ابن ليون فصالحه بالأموال ودخل في طاعته. ثم خرج إلى الشام أول سنة اثنتين وثلاثين وحاصر مراغة على ستة فراسخ من حلب وبعثوا بالصريخ إلى الأتابك زنكي فبعث بالعساكر إلى حلب لحمايتها وقاتل ملك الروم مراغة فملكها بالأمان منتصف السنة. ثم غدر بهم واستباحهم ورحل إلى حلب فنزل بدابق ومعه الإفرنج ورجعوا من الغد إلى حلب وحاصروها ثلاثاً فامتنعت عليهم وقتل عليها بطريق كبير منهم. ورحل عنها إلى قلعة الأثارب في شعبان من السنة فهرب عنها أهلها ووضع الروم بها الأسرى والسبي وأنزلوا بها حامية. وبعث إليهم أسوار نائب حلب عسكراً فقتلوا الحامية وخلصوا الأسرى والسبي ورحل الأتابك من حصن الأثارب بعد فتحه إلى سلمية وقطع الفرات إلى الرقة. واتبع الروم فقطع عنهم الميرة وقصد الروم قلعة شيزر وبها سلطان بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني فحاصروها ونصبوا المجانيق عليها. واستصرخ صاحبها بالأتابك زنكي فسار إليه ونزل نهر العاصي بين شيزر وحماة. وبعث السرايا تختطف من حول معسكر الروم. وبعث إلى الروم يدعوهم إلى المناجزة والنزول إلى البسيط فخاموا عن ذلك فرجع إلى التضريب بين الروم والإفرنج يحذر أحد الفريقين من الآخر حتى استراب كل بصاحبه فرحل ملك الروم في رمضان من السنة بعد حصار شيزر أربعين يوماً واتبعه الأتابك فلحقهم واستلحمهم واستباحهم. ثم أرسل القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري إلى السلطان مسعود يستنجده على العدو ويحذره الروم واستيلاءهم على حلب وينحدرون من الفرات إلى بغداد فوضع القاضي كمال الدين في جامع القصر من ينادي بصريخ المسلمين والخطيب على المنبر وكذا في جامع السلطان فعظم الصراخ والبكاء وتسايلت العوام من كل جانب وجاؤوا إلى دار السلطان في تلك الحالة وقد وقع العويل والصراخ فعظم الهول على السلطان مسعود وجهز عسكراً عظيماً. وخاف القاضي كمال الدين غائلته ثم وصل الخبر برحيل ملك الروم فأخبر القاضي السلطان مسعود بذلك ومن مسير العسكر والله تعالى أعلم. استيلاء الأتابك زنكي على بعلبك ثم قتل محمود صاحب دمشق سنة ثلاث وثلاثين في شوال كما مر في أخبار دولتهم وكانت أمه زمردخان متزوجة بالأتابك كما مر فبعثت إليه وهو بالجزيرة تعرفه بالخبر وتطلب منه أن يسير إلى دمشق ويثأر بولدها من أهل دولته فسار لذلك. واستعد أهل دمشق للحصار ثم قصد الأتابك مدينة بعلبك ونزلها وكان ابن القائم بالدولة قد نصب كمال الدين محمد بن بوري بدمشق وتزوج أمه وبعث بجاريته إلى بعلبك. فلما سار الأتابك إلى دمشق قدم رسله إلى أنز في تسليم البلد على أن يبذل له ما يريد فأبى من ذلك وسار الأتابك إلى بعلبك فنازلها آخر ذي الحجة من السنة ونصب عليها المجانيق. وشدد حصارها حتى استأمنوا فملكها. واعتصم الحامية بالقلعة حتى يئسوا من أنز فاستأمنوا إلى الأتابك. فلما ملكها قبض عليهم وصلبهم وتزوج جارية أنز ونقلها إلى حلب إلى أن بعثها ابنه نور الدين محمود إلى صاحبها بعد موت الأتابك والله تعالى حصار الأتابك زنكي مدينة دمشق ثم سار الأتابك زنكي إلى حصار دمشق في ربيع الأول من سنة أربع وثلاثين بعد الفراغ من بعلبك فنزل بالبقاع وأرسل إلى جمال الدين محمد صاحبها في أن يسلمها إليه ويعوضه عنها بما شاء فلم يجب إلى ذلك فزحف إليه ونزل داريا والتقت الطلائع فكان الظفر لأصحاب الأتابك. ثم تقدم إلى المصلى فنزل بها وقاتله أهل دمشق بالغوطة فظفر بهم وأثخن فيهم. ثم أمسك عن القتال عشراً يراود فيها صاحب دمشق. وبذل له بعلبك وحمص وما يختاره في البلاد. فجنح إلى ذلك ولم يوافقه أصحابه فعادت الحرب. ثم توفي صاحب دمشق جمال الدين محمد في شعبان من السنة ونصب معين الدين أنز مكانه ابنه محيي الدين أنز وقام بأمره. وطمع زنكي في ملك البلد فامتنعت عليه. وبعث معز الدين أنز إلى الإفرنج يستدعيهم إلى النصر على الأتابك ويبذل لهم ويخوفهم غائلته ويشترط لهم إعانتهم على بانياس حتى يملكوها فأجاب الإفرنج لذلك وأجفل زنكي إلى حوران خامس رمضان من السنة معتزماً على لقائهم فلم يصلوا فعاد إلى حصار دمشق وأحرق قراها وارتحل إلى بلاده. ثم وصل الإفرنج وارتحل معين الدين أنز في عساكر دمشق إلى بانياس وهي الأتابك زنكي ليوفي للإفرنج بشرطه لهم فيها. وقد كان نائبها سار للإغارة على مدينة صور ولقيه في طريقه صاحب إنطاكية ذاهباً إلى دمشق منجداً فهزم عسكر بانياس وقتلوا ولحق قلهم بالبلد وقد وهنوا وحاصرهم معين الدين أنز والإفرنج وملكها عنوة وسلمها للإفرنج وأحفظه ذلك. وفرق العسكر في حوران وأعمال دمشق وسار هو فصاحب دمشق ولم يعلموا بمكانه فبرزوا إليه وقاتلوه وقتل منهم جماعة. ثم أحجم عنهم لقلة من معه وارتحل إلى مرج راهط قي انتظار عسكره فلما. توافوا عنده عاد إلى بلاده. |
استيلاء الأتابك على شهرزور وأعمالها
كان شهرزور بيد قفجاق بن أرسلان شاه أمير التركمان وصالحهم وكانت الملوك تتجافى عن أعماله لامتناعها ومضايقها فعظم شأنه واشتمل عليه التركمان وسار إليه الأتابك زنكي سنة أربع وثلاثين فجمع ولقيه فظفر به الأتابك واستباح معسكره وسار في اتباعه فحاصر قلاعه وحصونه وملك جميعها. واستأمن إليه قفجاق فأمنه وسار في خدمته وخدمة بنيه بعده إلى آخر المائة. ثم كان في سنة خمس وثلاثين بين الأتابك زنكي وبين داود بن سقمان صاحب كيفا فتنة وحروب. وانهزم داود وملك الأتابك من بلاده قلعة همرد وأدركه فعاد إلى الموصل ثم سار الأتابك إلى مدينة الحرمية فملكها سنة ست وثلاثين ونقل آل مهارش الذين كانوا بها إلى الموصل ورتب أصحابه مكانهم. ثم خطب له صاحب آمد وصار في طاعته بعد أن كان مع داود عليه. ثم بعث الأتابك لسنة سبع وثلاثين عسكراً إلى قلعة أشهب وهي من أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها. وفيها أهلوهم وذخائرهم فحاصرها وملكها وأمره الأتابك بتخريبها وبنى قلعة العمادية عوضاً عنها وكانت خربت قبل ذلك لاتساعها وعجزهم عن حمايتها فأعيدت الآن. وكان نصير الدين نائب الموصل قد فتح أكثر القلاع الحربية والله تعالى أعلم. صلح الأتابك مع السلطان مسعود واستيلاؤه على أكثر ديار بكر كان السلطان مسعود ملك السلجوقية قد حقد على الأتابك زنكي شأن الخارجين على طاعته من أهل الأطراف وينسب ذلك إليه وكان يفعل ذلك مشغلة للسلطان عنه. فلما فرغ السلطان مسعود من شواغله سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة سار إلى بغداد عازماً على قصد الأتابك وحصار الموصل فأرسل الأتابك يستعطفه ويستميله على أن يدفع إليه ألف دينار ويعود عنه فشرع في ذلك وحمل منها عشرين ألفاً. ثم حدثت الفتنة على السلطان فاحتاج إلى مداراته وترك له الباقي وبالغ هو في مخالصة السلطان بحيث إن غازي كان عند السلطان فهرب إلى الموصل فبعث إلى نائبه نصير الدين جقري يمنعه من دخولها وبعث إلى ابنه بالرجوع إلى خدمة السلطان. وكتب إلى السلطان بأن ابني هرب للخوف من تغير السلطان عليه وقد أعدته إلى الخدمة ولم ألقه وأنا مملوكك والبلاد لك فوقع ذلك من السلطان أحسن المواقع. ثم سار الأتابك إلى ديار بكر ففتح طره واسعرد وحران وحصن الرزق وحصن تطليت وحصن ياسنه وحصن ذي القرنين وغير هذه وملك أيضاً من بلاد ماردين الإفرنج حملين والمودن وتل موزر وغيرها من بلاد حصون سجستان وأنزل بها الحامية وقصد آمد فحاصرها وسير عسكراً إلى مدينة عانة من أعمال الفرات فملكها والله تعالى أعلم. فتح الرها وغيرها من أعمال الإفرنج كان الإفرنج بالرها وسروج والبيرة قد أضروا بالمسلمين جوارهم مثل آمد ونصيبين ورأس العين والرقة وكان زعيمهم ومقدمهم بتلك البلاد جوسكين الزعيم ورأى الأتابك أنه يوري عن قصدهم بغيره لئلا يجمعوا له فوري بغزو ديار بكر كما قلناه وجوسكين وعبر الفرات من الرها إلى غزنة. وجاء الخبر بذلك إلى الأتابك فارتحل منتصف جمادى الأخيرة سنة تسع وثلاثين وحرض المسلمين وحثهم على عدوهم ووصل إلى الرها وجوسكين غائب عنها فانحجز الإفرنج بالبلد وحاصرهم شهراً وشد في حصارهم وقتالهم ولج في ذلك قبل اجتماع الإفرنج ومسيرهم إليه. ثم ضعف سورها فسقطت ثلمة منه وملك البلد عنوة. ثم حاصر القلعة وملكها كذلك. ثم رد على أهل البلد ما أخذ منهم وأنزل فيه حامية. وسار إلى سروج وجميع البلاد التي بيد الإفرنج شرقياً فملكها جميعاً إلا البيرة لامتناعها فأقام يحاصرها حتى امتنعت ورحل عنها والله سبحانه وتعالى أعلم. مقتل نصير الدين جقري نائب الموصل وولاية زين الدين علي كجك مكانه بالقلعة كان استقر عند الأتابك زنكي بالموصل الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمد ويلقب الخفاجي وكان شبيهاً به وتوهم السلطان أن البلاد له وأنه نائبه وينتظر وفاة السلطان مسعود فيخطب له ويملك البلد باسمه. وكان يتردد له ويسعى في خدمته فداخله بعض المفسدين في غيبة الأتابك وزين له قتل نصير الدين النائب والاستيلاء على الموصل. فلما دخل إليه أغرى به أجناد الأتابك ومواليه فوثبوا به وقتلوه في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين. ثم ألقوا برأسه إلى أصحابه يحسبون أنهم يفترقون فاعصوا صبوا واقتحموا عليه الدار. ودخل عليه القاضي تاج الدين يحيى ابن الشهرزوري فأوهمه بطاعته وأشار عليه بالصعود إلى القلعة ليستولي على المال والسلاح فركب وصعد معه وتقدم إلى حافظ القلعة وأشار عليه بأن يمكنه من الدخول. ثم يقبض عليه فدخل ودخل معه الذين قتلوا نصير الدين فحبسهم والي القلعة وعاد القاضي إلى البلد. وطار الخبر إلى الأتابك زنكي بحصار البيرة فخشي اختلاف البلد وعاد إلى الموصل وقدم زين الدين علي بن كجك وولاه القلعة مكان نصير الدين وأقام ينتظر الخبر. وخاف الإفرنج الذين بالبيرة من عودته إليهم فبعثوا إلى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها له فملكها المسلمون. |
حصار زنكي حصن جعبر وفنك
ثم سار الأتابك زنكي سنة إحدى وأربعين في المحرم إلى حصن جعبر ويسمى دوس وهو مطل على الفرات وكان لسالم بن مالك العقيلي أقطعه السلطان ملك شاه لأبيه حين أخذ منه حلب وبعث جيشاً إلى قلعة فنك على فرسخين من جزيرة ابن عمر فحاصروها وصاحبها يومئذ حسام الدين الكردي فحاصر قلعة جعبر حتى توسط الحال بينهما حسان المنبجي ورغبه ورهبه. وقال في كلامه من يمنعك منه فقال الذي منعك أنت من مالك بن بهرام وقد حاصر حسان منبج فأصاحبه في بعض الأيام سهم فقتله وأفرج عن حسان وقدر قتل الأتابك كذلك والله تعالى أعلم. مقتل الأتابك عماد الدين زنكي كان الأتابك عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب الموصل. والشام محاصراً لقلعة جعبر كما ذكرنا واجتمع جماعة من مواليه واغتالوه ليلاً وقتلوه على فراشه ولحقوا بجعبر وأخبروا أهلها فنادوا من السور بقتله. فدخل أصحابه إليه وألفوه يجود بنفسه. وكان لخمس من ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين عن ستين سنة من عمره ودفن بالرقة وكان يوم قتل أبوه ابن سبع سنين. ولما قتل دفن بالرقة وكان حسن السياسة كثير العدل مهيباً عند جنده. عمر البلاد وأمنها وأنصف المظلوم من الظالم. وكان شجاعاً شديد الغيرة كثير الجهاد. ولما قتل رحل العسكر عن قلعة فنك وصاحبها غفار. قال ابن الأثير سمعتهم يزعمون أن لهم فيها نحو ثلاثمائة سنة وفيهم رفادة وعصبية ويجيرون كل من يلجأ إليهم والله أعلم. استيلاء ابنه غازي على الموصل وابنه الآخر محمود على حلب ولما قتل الأتابك زنكي نزع ابنه نور الدين محمود خاتمه من يده وسار به إلى حلب فاستولى عليها. وخرج الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمود واجتمعت عليه العساكر وطمع في الاستقلال بملك الموصل. وحضر ابنه جمال الدين محمد بن علي بن متولي الديوان وصلاح الدين بن محمد الباغيسياني الحاجب وقد اتفقا فيما بينهما على حفظ الدولة لأصحابهما وحسناً لألب أرسلان ما هو فيه من الاشتغال بلذاته وأدخلاه الرقة فانغمس بها. وهما يأخذان العهود على الأمراء لسيف الدين غازي ويبعثانهم إلى الموصل. وكان سيف الدين غازي في مدينة شهرزور وهي أقطاعه وبعث إليه زين الدين علي كوجك نائب القلعة بالموصل يستدعيه ليحضر عنده. وسار ألب أرسلان إلى سنجار والحاجب وصاحبه معه ودسوا إلى نائبها بأن يعتذر للملك ألب أرسلان بتأخره حتى يملك الموصل فساروا إلى الموصل ومروا بمدينة سنجار وقد وقف العسكر فأشاروا على ألب أرسلان بعبور دجلة إلى الشرق وبعثوا إلى سيف الدين غازي بخبره وقلة عسكره فأرسل إليه عسكراً فقبضوه وجاؤوا به فحبسه بقلعة الموصل. واستولى سيف بن غازي على الموصل والجزيرة وأخوه نور الدين محمود على حلب ولحق به صلاح الدين الباغيسياني فقام بدولته والله سبحانه وتعالى يومئذ بنصره من يشاء من عباده. عصيان الرها ولما قتل الأتابك زنكي ملك الرها جوسكين كان جوسكين مقيماً في ولايته بتل باشر وما جاورها فراسل أهل الرها وعامتهم من الأرمن وحملهم على العصيان على المسلمين وتسليم البلد له فأجابوه وواعدوه ليوم عينوه فسار في عساكره وهلك البلد وامتنعت القلعة. وبلغ الخبر إلى نور الدين محمود وهو بحلب فأغذ السير إليها وأجفل جوسكين إلى بلده. ونهب نور الدين المدينة وسبى أهلها وارتحلوا عنها وبعث سيف الدين غازي العساكر إليها فبلغهم في طريقهم ما فعله نور الدين فعادوا وذلك سنة إحدى وأربعين. ثم قصد صاحب دمشق بعد قتل الأتابك حصن بعلبك وبه نجم الدين أيوب بن شادي نائب الأتابك فأبطأ عليه انجاد بنيه فصاحب دمشق وسلم له بعلبك على إقطاع ومال أعطاه إياه وعشر قرى من بلاد دمشق وانتقل معه إلى دمشق فسكنها وأقام بها ثم سار نور الدين محمود سنة اثنتين وأربعين من حلب إلى الإفرنج ففتح مدينة أرتاج عنوة وحاصر حصوناً أخرى. وكان الإفرنج بعد قتل الأتابك يظنون أنهم يستردون ما أخذه منهم فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون ولما قتل الأتابك زنكي طمع صاحب ماردين وصاحب كيفا أن يستردوا ما أخذ من بلادهم فلما تمكن سيف الدين غازي سار إلى أعمال ديار بكر فملك داراً وغيرها وتقدم إلى ماردين وحاصرها وعاث في نواحيها حتى ترحم صاحبها حسام الدين تمرتاش على الأتابك مع عداوته. ثم أرسل إلى سيف الدين غازي وصالحه وزوجه بنته فعاد إلى الموصل وزفت إليه وهو مريض فهلك قبل زفافها وتزوجها أخوه قطب الدين من بعده والله أعلم. مصاهرة سيف الدين غازي لصاحب دمشق وهزيمة نور الدين محمود للإفرنج كان تقدم لنا في دولة بني طغركين موالي دقاق بن تتش أن ملك اللمان من الإفرنج سار سنة ثلاث وأربعين وحاصر دمشق بجموع الإفرنج وبها مجير الدين أرتق بن بوري بن محمد بن طغركين في كفالة معين الدين أنزمولي. فبعث معين الدين إلى سيف الدين غازي بن أتابك زنكي بالموصل يدعوه إلى نصرة المسلمين فجمع عساكره وسار إلى الشام واستدعى أخاه نور الدين من حلب ونزلوا على حمص فأخذوا بحجز الإفرنج عن الحصار وقوي المسلمون بدمشق عليهم. وبعث معين الدين إلى طائفتي الإفرنج من سكان الشام واللمان الواردين فلم يزل يضرب بينهم. وجعل لإفرنج الشام حصن بانياس طعمة على أن يرحلوا بملك اللمانيين فقتلوا له في الذروة والغارب حتى رحل عن دمشق ورجع إلى بلاده وراء قسطنطينية بالشمال. وحسن أمر سيف الدين غازي وأخيه في الدفاع عن المسلمين وكان مع ملك اللمان حين خرج إلى الشام ابن ادفونش ملك الجلالقة بالأندلس وكان جده هو الذي ملك طرابلس الشام من المسلمين حين خروج الإفرنج إلى الشام فلما جاء الآن مع ملك لممان ملك حصن العريمة وأخذ في منازلة طرابلس ليملكها من القمص فأرسل القمص إلى نور الدين محمود ومعين الدين أنزوهما مجتمعان ببعلبك بعد رحيل ملك اللمانيين عن دمشق وأغراهما بابن ادفونش ملك الجلالقة واستخلاص حصن العريمة من يده فسارا لذلك سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وبعث إلى سيف الدين وهو بحمص فأمدهما بعسكر من الأمير عز الدين أبي بكر الدبيسي صاحب جزيرة ابن عمر وحاصروا حصن العريمة أياماً ثم نقضوا سوره وملكوه على الإفرنج وأسروا من كان به من الإفرنج ومعهم ابن ادفونش وعاد إلى سيف الدين عسكره. ثم بلغ نور الدين أن الإفرنج تجمعوا في بيقو من أرض الشام للإغارة على أعمال حلب فسار إليهم وقتلهم وهزمهم وأثخن فيهم قتلاً وأسراً وبعث من غنائمهم وأسراهم إلى أخيه سيف الدين غازي وإلى المقتفي الخليفة انتهى. والله بحانه وتعالى أعلم. وفاة سيف الدين غازي وملك أخيه قطب الدين مودود ثم توفي سيف الدين غازي بن الأتابك زنكي صاحب الموصل منتصف أربع وأربعين وخمسمائة لثلاث سنين وشهرين من ولايته وخلف ولداً صغيراً ربي عند عمه نور الدين محمود. وهلك صغيراً فانقرض عقبه. وكان كريماً شجاعاً متسع المائدة يطعم بكرة وعشية مائة رأس من الغنم في كل نوبة وهو أول من حمل الصنجق على رأسه وأمر بتعليق السيوف بالمناطق وترك التوشح بها وحمل الدبوس في حلقة السرج. وبنى المدارس للفقهاء والربط للفقراء. ولما أنشده حيص بيص الشاعر يمدحه إلام يراك المجد في زي شاعر وقد نحلت شوقاً إليك المنابر فوصله بألف مثقال سوى الخلع وغيرها. ولما توفي سيف الدين غازي انتقض الوزير جمال الدين وأمير الجيوش زين الدين علي وجاؤوا بقطب الدين مودود بادروا إلى تمليكه واستخلفوه وحلفوا له. وركب إلى دار السلطنة وزين الدين في ركابه فبايعوا له وأطاعه جميع من في أعمال أخيه بالموصل والجزيرة. وتزوج الخاتون بنت حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين التي هلك أخوه قبل زفافها فكان ولده كلهم منها والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء السلطان محمود على سنجار ولما ملك قطب الدين مودود الموصل وكان أخوه نور الدين محمود بالشام وكان أكبر منه وله حلب وحماة كاتبه جماعة من الأمراء بعد أخيه غازي. وفيمن كاتبه نائب سنجار المقدم عبد الملك فبادر إليه في سبعين فارساً من أمرائه وسبق أصحابه في يوم مطير إلى مساكن. ودخل البلد ولم يعرفوا منه إلا أنه أمير من جند التركمان. ثم دخل على الشحنة بيته فقبل يده وأطاعه ولحق به أصحابه وساروا جميعاً إلى سنجار وأغذ السير فقطع عنه أصحابه ووصل إلى سنجار في فارسين ونزل بظاهر البلد. وبعث إلى المقدم فوصله وكان قد سار إلى الموصل. وترك ابنه شمس الدين محمداً بالقلعة فبعث في أثر أبيه وعاد من طريقه وسلم سنجار إلى نور الدين محمود فملكها. واستدعى فخر الدين قرى أرسلان صاحب كيفا لمودة بينهما فوصل في عساكره وبلغ الخبر إلى قطب الدين صاحب الموصل ووزيره جمال الدين وأمير جيشه زين الدين فساروا إلى سنجار للقاء نور الدين محمود وانتهوا إلى تل أعفر ثم خاموا عن لقائه. وأشار الوزير جمال الدين بمصالحته وسار إليه بنفسه فعقد معه الصلح وأعاد سنجر على أخيه قطب الدين. وسلم له أخوه مدينة حمص والرحبة والشام فانفرد بملك الشام وانفرد أخوه قطب الدين بالجزيرة واتفقا. وعاد نور الدين إلى حلب وحمل ما كان لأبيهم الأتابك زنكي من الذخيرة لسنجار وكان لا يعبر عنها والله تعالى أعلم. غزو نور الدين إلى إنطاكية وقتل صاحبها وفتح أفاميا ثم غزا نور الدين سنة أربع وأربعين إلى إنطاكية فعاث فيها وخرب كثيراً من حصونها وبينما هو يحاصر بعض الحصون اجتمع الإفرنج وزحفوا إليه فلقيهم وحاربهم وأبلى في ذلك الموقف فهزم الإفرنج وقتل البرنس صاحب إنطاكية وكان من عتاة الإفرنج. وملك بعده ابنه سمند طفلاً وتزوجت أمه برنس آخر يكفل ولدها ويدبر ملكها فغزاه نور الدين ولقوه فهزمهم وأسر ذلك البرنس الثاني. وتمكن الطفل سمند من ملكه بإنطاكية. ثم سار نور الدين سنة خمس وأربعين إلى حصن أفاميا بين شيزر وحماة وهو من أحسن القلاع فحاصره وملكه وشحنه حامية وسلاحاً وأقواتاً. ولم يفرغ من أمره إلا والإفرنج الذين بالشام جمعوا وزحفوا إليه. وبلغهم الخبر فخاموا عن اللقاء وصالحوه في المهادنة فعقد لهم انتهى. ثم جمح نور الدين بعد ذلك وسار غازياً إلى بلاد زعيم الإفرنج وهي تل باشر وعنتاب وعذار وغيرها من حصون شمالي حلب فجمع جوسكين لمدافعته عنها ولقيه فاقتتلوا ومحص الله المسلمين واستشهد كثير منهم وأسر آخرون وفيهم صاحب صلاح نور الدين فبعثه جوسكين إلى الملك مسعود بن قليج أرسلان يعيره به لمكان صهره نور الدين على ابنته فعظم ذلك عليه وأعمل الحيلة في جوسكين. وبذل المال لإحياء التركمان البادين بضواحيه أن يحتالوا في القبض عليه ففعلوا وظفر به بعضهم فشاركهم في إطلاقه على مال وبعث من يأتي به. وشعر بذلك والي حلب أبو بكر بن الرامة فبعث عسكراً ليسوا من ذلك الحي جاؤوا بجوسكين أسيراً إلى حلب وسار نور الدين إلى القلاع فملكها وهي تل باشر وعنتاب وعذار وتل خالد وقورص وداوندار ومرج الرصاص وحصن النادة وكفرشود وكفرلات ودلوكا ومرعش ونهر الجود وشحنها بالأقوات. وزحف إليه الإفرنج ليدافعوه فلقيهم على حصن جلدك. وانهزم الإفرنج و أثخن المسلمون فيهم بالقتل والأسر ورجع نور الدين إلى دلوكا ففتحها وتأخر فتح تل باشر منها إلى أن ملك نور الدين دمشق واستأمنوا إليه وبعث إليهم حسان المنبجي فتسلمها منهم وحصنها وذلك في سنة تسع وأربعين وخمسمائة والله سبحانه وتعالى أعلم. |
استيلاء نور الدين على دمشق
كان الإفرنج سنة ثمان وأربعين قد ملكوا عسقلان من يد العلوية خلفاء مصر واعترضت دمشق بين نور الدين وبينهما فلم يجد سبيلاً إلى المدافعة عنها واستطال الإفرنج على دمشق بعد ملكهم عسقلان ووضعوا عليها الجزية واشترطوا عليهم تخيير الأسرى الذين بأيديهم في الرجوع إلى وطنهم وكان بها يومئذ مجير الدين أنز بن محمد بن بوري بن طغركين الأتابك واهن القوى مستضعف القوة. فخشي نور الدين عليها من الإفرنج وربما ضايق مجير الدين بعض الملوك من جيرانه فيفزع إلى الإفرنج فيغلبون عليه. وأمعن النظر في ذلك وبدأ أمره بمواصلة مجير الدين وملاطفته حتى استحكمت المودة بينهما حتى صار يداخله في أهل دولته ويرميهم عنده أنهم كاتبوه فيوقع الآخر بهم حتى هدم أركان دولته ولم يبق من أمرائه إلا الخادم عطاء بن حفاظ وكان هو القائم بدولته فغص به نور الدين وحال بينه وبين دمشق فأغرى به صاحبه مجير الدين حتى نكبه وقتله. وخلت دمشق من الحامية فسار حينئذ نور الدين مجاهراً بعداوة مجير الدولة ومتجنياً عليه. واستنجد بالإفرنج على أن يعطيهم الأموال ويسلم لهم بعلبك فجمعوا واحتشدوا. وفي خلال ذلك عمد نور الدين إلى دمشق سنة سبع وأربعين وكاتب جماعة من أحداثها ووعدهم من أنفسهم فلما وصل ثاروا بمجير الدين ولجأ إلى القلعة. وملك نور الدين المدينة وحاصره بالقلعة وبذل له إقطاعاً منها مدينة حمص. فسار إليها مجير الدين وملك نور الدين القلعة. ثم عوضه عن حمص ببالس فلم يرضها ولحق ببغداد وابتنى بها داراً وأقام بها إلى أن توفي والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء نور الدين على تل باشر وحصاره قلعة حارم ولما فرغ نور الدين من أمر دمشق بعث إليه الإفرنج الذين في تل باشر في شمالي حلب واستأمنوا إليه ومكنوه من حصنهم فتسلمه حسان المنبجي من كبراء أمراء نور الدين سنة تسع وأربعين. ثم سار سنة إحدى وخمسين إلى قلعة بهرام بالقرب من إنطاكية وهي لسمند أمير إنطاكية من الإفرنج فحاصرها واجتمع الإفرنج لمدافعته ثم خاموا عن لقائه وصالحوه على نصف أعمال حارم فقبل صلحهم ورحل عنها والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه. استيلاء نور الدين على شيزر شيزر هذه حصن قريب من حماة على نصف مرحلة منها على جبل منيع عال لا يسلك إليه إلا من طريق واحدة وكانت لبني منقذ الكنانيين يتوارثون ذلك من أيام صالح بن مرداس صاحب حلب من أعوام عشرين وأربعمائة إلى أن انتهى ملكه إلى المرهف نصر بن علي بن نصير بن منقذ بعد أبيه أبي الحسن علي. فلما حضره الموت سنة تسعين وأربعمائة عهد لأخيه أبي سلمة بن مرشد وكان عالماً بالقراءات والأدب وولى مرشداً أخاه الأصغر سلطان بن علي وكان بينهما من الاتفاق والملاءمة ما لم يكن بين اثنين. ونشأ لمرشد بنون كثيرون وفي السؤدد منهم عز الدولة أبو الحسن علي ومؤيد الدولة أسامة وولده علي وتعدد ولده ونافسوا بني عمهم وفشت بينهم السعايات فتماسكوا لمكان مرشد والتئامه بأخيه. فلما مات مرشد سنة إحدى وثلاتين وخمسمائة تنكر أخوه سلطان لولده وأخرجهم من شيزر فتفرقوا وقصد بعضهم نور الدين فامتعض لهم وكان مشتغلاً عنهم بالإفرنج. ثم توفي سلطان وقام بأمر شيزر أولاده وراسلوا الإفرنج فحنق نور الدين عليهم لذلك. ثم وقعت الزلازل بالشام وخرب أكثر مدنه مثل حماة وحمص وكفر طاب والمعرة وأفامية وحصن الأكراد وعرقة ولاذقية وطرابلس وإنطاكية. هذه سقطت جميعها وتهدمت سنة اثنتين وخمسين وما سقط بعضه وتهدمت أسواره فأكثر بلاد الشام. وخشي فور الدين عليها من الإفرنج فوقف بعساكره في أطراف البلاد حتى رم ما تثلم من أسوارها. وكان بنو منقذ أمراء شيزر قد اجتمعوا عند صاحبها منهم في دعوة فأصاحبتهم الزلزلة مجتمعين فسقطت عليهم القلعة ولم ينج منهم أحد. وكان بالقرب منها بعض أمراء نور الدين فبادر وصعد إليها وملكها منه نور الدين ورم ما تثلم من أسوارها وجدد بناءها فعادت كما وقال ابن خلكان وفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة استولى بنو منقذ على شيزر من يد الروم والذي تولى فتحها منهم علي بن منقذ بن نصر بن سعد وكتب إلى بغداد بشرح الحال ما نصه كتابي في حصن شيزر حماه الله وقد رزقني الله من الاستيلاء على هذا المعقل العظيم ما لم يتأت لمخلوق في هذا الزمان. وإذا عرف الأمر على حقيقته علم أني هزبر هذه الأمة وسليمان الجن والمردة وأنا أفرق بين المرء وزوجه واستنزل القمر من محله. أنا أبو النجم وشعري شعري نظرت إلى هذا الحصن فرأيت أمراً يذهل الألباب يسع ثلاثة آلاف رجل بالأهل والمال وتمسكه خمس نسوة فعمدت إلى تل بينه وبين حصن الروم يعرف بالحواص ويسمى هذا التل بالحصن فعمرته حصناً وجمعت فيه أهلي وعشيرتي ونفرت نفرة على حصن الحواص فأخذته بالسيف من الروم ومع ذلك فلما أخذت من به من الروم أحسنت إليهم وأكرمتهم ومزجتهم بأهلي وعشيرتي وخلطت خنازيرهم بغنمي ونواقيسهم بصوت الأذان. ورأى أهل شيزر فعلي ذلك فأنسوا بي ووصل إلي منهم قريب من نصفهم فبالغت في إكرامهم. ووصل إليهم مسلم بن قريش العقيلي فقتل من أهل شيزر نحو عشرين رجلاً. فلما انصرف مسلم عنهم سلموا إلي الحصن. انتهى كتاب علي بن منقذ. وبين هذا الذي ذكره ابن خلكان والذي ذكره ابن الأثير نحو خمسين سنة. وما ذكره ابن الأثير أولي لأن الإفرنج لم يملكوا من الشام شيء في أوائل المائة الخامسة والله استيلاء نور الدين على بعلبك كانت بعلبك في يد الضحاك البقاعي نسبة إلى بقاعة والآن عليها صاحب دمشق. فلما ملك نور الدين دمشق امتنع ضحاك ببعلبك وشغل نور الدين عنه بالإفرنج. فلما كانت سنة اثنتين وخمسين استنزله نور الدين عنها وملكها والله أعلم. استيلاء أخي نور الدين على حران ثم ارتجاعها كان نور الدين سنة أربع وخمسين وخمسمائة بحلب ومعه أخوه الأصغر أمير أميران فمرض نور الدين بالقلعة واشتد مرضه فجمع أخوه وحاصر قلعة حلب. وكان شيركوه ابن شادي أكبر أمرائه بحمص فلما بلغه الأزحاف سار إلى دمشق ليملكها وعليها أخوه نجم الدين أيوب فنكر عليه وأمره بالمسير إلى حلب حتى يتبين حياة نور الدين من موته. فأغذ السير إلى حلب وصعد القلعة وأظهر نور الدين للناس من سطح مشرف فافترقوا عن أخيه أمير أميران. فسار إلى حران فملكها. فلما أفاق نور الدين سلمها إلى زين الدين علي كجك نائب أخيه قطب الدين بالموصل وسار إلى الرقة فحاصرها والله تعالى ولي التوفيق. |
خبر سليمان شاه وحبسه بالموصل
ثم مسيره منها إلى السلطنة بهمذان كان الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه عند عمه السلطان سنجر بخراسان وقد عهد له بملكه وخطب باسمه على منابر خراسان. فلما حصل سنجر في أسر العدو سنة ثمان وأربعين وخمسمائة كما مر في أخبار دولتهم واجتمعت العساكر على سليمان شاه هذا وقدموه فلم يطق مقاومة العدو فمضى إلى خوارزم شاه وزوجه ابنة أخيه. ثم بلغه عنه ما ارتاب له فأخرجه من خوارزم وقصد أصفهان فمنعه الشحنة من الدخول فقصد قاشان فبعث إليه محمد شاه ابن أخيه محمود عسكراً دافعوه عنها فسار إلى خراسان فمنعه ملك شاه منها فقصد النجف ونزل وأرسل للخليفة المستنصر وبعث أهله وولده رهناً بالطاعة واستأذن في دخول بغداد فأكرمهم الخليفة وأذن له وخرج ابن الوزير ابن هبيرة لتلقيه في الموكب وفيه قاضي القضاة. والتقيا ودخل بغداد وخلع عليه آخر سنة خمسيبن. وبعد أيام أحضر بالقصر واستخلف بحضرة قاضي القضاة والأعيان وخطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه. وأمر بثلاثة آلاف فارس وسار نحو بلاد الجبل في ربيع سنة إحدى وخمسين. ونزل الخليفة حلوان واستنفر له ابن أخيه ملك شاه صاحب همذان فقدم إليه في ألفي فارس وجعله سليمان شاه ولي عهده وأمدهما الخليفة بالمال والسلاح ولحق بهما ايلدكز صاحب الري فكثرت جموعهم. وبعث السلطان محمد إلى قطب الدين مودود صاحب الموصل وزين الدين علي كجك نائبه في المظاهرة والإنجاد وسار إلى لقاء سليمان شاه فانهزم وتمزق عسكره. وفارقه ايلدكز فذهب إلى بغداد على طريق شهرزور. وبلغ خبر الهزيمة إلى زين الدين علي كجك فخرج في جماعة من عسكر الموصل وقعد له بشهرزور ومعه الأمير إيراق حتى مر بهم سليمان شاه فقبض عليه زين الدين وحمله إلى الموصل فحبسه بها مكرماً وطير إلى السلطان محمود بالخبر. فلما هلك السلطان محمود بن محمد سنة خمس وخمسين أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى قطب الدين أتابك يطلبون تولية الملك سليمان شاه ويكون جمال الدين وزير قطب الدين وزيراً له وتعاهدوا على ذلك. وجهزه قطب الدين جهاز الملك وسار معه زين الدين علي كجك في عسكر الموصل إلى همذان. فلما قاربوا بلاد الجبل تتابعت العساكر والأمداد للقائهم ارسالاً واجتمعوا على سليمان شاه وجروا معه على مذاهب الدولة فخشيهم زين الدين على نفسه وفارقهم إلى الموصل. وسار سليمان شاه إلى همذان فكان من أمرهم ما تقدم في أخبار الدولة السلجوقية. حصار قلعة حارم وانهزام نور الدين أمام الإفرنج ثم هزيمتهم وفتحها ثم جمع نور الدين محمود عساكر حلب وحاصر الإفرنج بقلعة حارم وجمعوا لمدافعته ثم خاموا عن لقائه ولم يناجزوه وطال عليه أمرها فعاد عنها. ثم جمع عساكره وسار سنة ثمان وخمسين معتزماً على غزو طرابلس وانتهى إلى البقيعة تحت حصن الأكراد فكبسهم الإفرنج هنالك وأثخنوا فيهم. ونجا نور الدين في الفل إلى بحيرة قطينة قريباً من حمص ولحق به المنهزمون. وبعث إلى دمشق وحلب في الأموال والخيام والظهر وأزاح علل العسكر. وعلم الإفرنج بمكان نور الدين من حمص فنكبوا عن قصدها. وسألوه الصلح فامتنع فأنزلوا حاميتهم بحصن الأكراد ورجعوا. وفي هذه الغزاة عزل نور الدين رجلاً يعرف بابن نصري تنصح له بكثرة خرجه بصلاته وصدقاته على الفقراء والفقهاء والصوفية والقراء إلى مصارف الجهاد فغضب وقال والله لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنهم يقاتلون عني بسهام الدعاء في الليل. وكيف أصرفها عنهم وهي من حقوقهم في بيت المال ذلك شيء لا يحل لي. ثم أخذ في الاستعداد للأخذ بثأره من الإفرنج وسار بعضهم إلى ملك مصر فأراد أن يخالفهم إلى بلادهم فبعث إلى أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وإلى فخر الدين قرا أرسلان صاحب كيفا وإلى نجم الدين ولي صاحب ماردين بالنجدة فسار من بينهم أخوه قطب الدين. وفي مقدمته زين الدين علي كجك صاحب جيشه ثم تبعه صاحب كيفا. وبعث نجم الدين عسكره فلما توافت الأمداد سار نور الدين نحو حارم سنة تسع وخمسين فحاصرها ونصب عليها المجانيق واجتمع من بقي بالساحل من ملوك الإفرنج ومقدمهم البرنس سمند صاحب إنطاكية والقمص صاحب طرابلس وابن جوسكين واستنفر لهم أمم النصرانية وقصدوه فأفرج عن حارم إلى ارتاج. ثم خاموا عن لقائه وعادوا إلى حصن حارم وسار في اتباعهم وناوشهم الحرب فحملوا على عساكر حلب وصاحب كيفا في ميمنة المسلمين فهزموها ومروا في اتباعهم. وحمل زين الدين في عساكر الموصل على الصف فلقيه الرجل فأثخن فيهم واستلحمهم وعاد الإفرنج من اتباع الميمنة فسقط في أيديهم. ودارت رحا الحرب على الإفرنج فانهزموا ورجع المسلمون من القتل إلى الأسر فأسروا منهم أمماً فيهم سمند صاحب إنطاكية والقص صاحب طرابلس. وبعث السرايا في تلك الأعمال بقصد إنطاكية لخلوها من الحامية فأبى وقال أخشى أن يسلمها أصحابها لملك الروم فإن سمند ابن أخته ومجاورته أحق إلي من مجاورة ملك الروم. ثم عاج على قلعة حارم فحاصرها وافتتحها ورجع مظفراً والله يؤيد بنصره من يشاء من عباده. فتح نور الدين قلعة بانياس ولما افتتح نور الدين قلعة حارم أذن لعسكر الموصل وحصن كيفا بالانطلاق إلى بلادهم وعزم على منازلة بانياس وكانت بيد الإفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. ثم ورى عنها بقصد طبرية فصرف الإفرنج همتهم إلى حمايتها وخالف هو إلى بانياس لقفة حاميتها فحاصرها وضيق عليها في ذي الحجة من سنة تسع وخمسين. وكان معه أخوه نصير الدين أمير أميران فاصيب بسهم في إحدى عينيه وأخذ الإفرنج في الجمع لمدافعته فلم يستكملوا أمرهم حتى فتحها وشحن قلعتها بالمقاتلة والسلاح. وخافه الإفرنج فشاطروه في أعمال طبرية وضرب عليهم الجزية في الباقي ووصل الخبر بفتح حارم وبانياس إلى ملوكهم الذين ساروا إلى مصر فسبقهم بالفتح وعاد إلى دمشق. ثم سار سنة إحدى وستين متجرداً إلى حصن المنيطرة فنازلهم على غرة وملكه عنوة ولم يجتمع الإفرنج إلا وقد ملكه فافترقوا ويئسوا من ارتجاعه والله تعالى أعلم. وفادة شاور وزير العاضد بمصر علي نور الدين العادل صريخاً وإنجاده بالعسكر مع أسد الدين شيركوه كانت دولة العلويين بمصر قد أخذت في التلاشي وصارت إلى استبداد وزرائها على خلفائها وكان من آخر المسلمين بها شاور السعدي استعمله الصالح بن زربك على قوص وندم. فلما هلك الصالح بن رزيك وكان مستبداً على الدولة قام ابنه رزيك مقامه فعزل شاور عن قوص فلم يرض بعزله. وجمع وزحف إلى القاهرة فملكها وقتل رزيك واستبد على العاضد ولقبه أمير الجيوش. وكانت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ثم نازعه الضرغام وكان صاحب الباب ومقدم البرقية فثار عليه لسبعة أشهر من وزارته وأخرجه من القاهرة فلحق بالشام وقصد نور الدين محمود بن زنكي مستنجداً به على أن يكون له ثلث الجباية بمصر. ويقيم عسكر نور الدين بها مدداً له فاختار من أمرائه لذلك أسد الدين شيركوه بن شادي الكردي وكان بحمص وجهزه بالعساكر فسار لذلك في جمادى سنة تسع وخمسين واتبعه نور الدين إلى أطراف بلاد الإفرنج فشغلهم عن التعرض للعساكر. وسار أسد الدين مع شاور وسار معه صلاح الدين ابن أخيه نجم الدين أيوب وانتهوا إلى بلبيس فلقيهم ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فانهزم ورجع إلى القاهرة. واتبعه أسد الدين فقتله عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله تعالى عنها. وقتل أخوه وعاد شاور إلى وزارته. وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة ينتظر الوفاء بالعهد من شاور بما عاهد عليه نور الدين فنكث شاور العهد وبعث إليه بالرجوع إلى بلده فلج في طلب ضريبته ورحل إلى بلبيس والبلاد الشرقية فاستولى عليها. واستمد شاور عليه بالإفرنج فبادروا إلى ذلك لما كان في نفوسهم من تخوف غائلته وطمعوا في ملك مصر. وسار نور الدين من دمشق ليأخذ بحجزتهم عن المسير فلم يثنهم ذلك وتركوا ببلادهم حامية فلما قاربوا مصر فارقها أسد الدين واجتمع الإفرنج وعساكر مصر فحاصروه ثلاثة أشهر يغاديهم القتال ويراوحهم. وجاءهم الخبر بهزيمة الإفرنج على حارم وما هيأ الله لنور الدين في ذلك فراسلوا أسد الدين شيركوه في الصلح وطووا عنه الخبر فصالحهم وخرج ولحق بالشام. ووضع له الإفرنج المراصد بالطريق فعدل عنها. ثم أعاده نور الدين إلى مصر سنة اثنتين وستين فسار بالعساكر في ربيع ونزل اطفيح وعبر النيل. وجاء إلى القاهرة من جانبها الغربي ونزل الجيزة في عدوة النيل وحاصرها خمسين يوماً. واستمد شاور بالإفرنج وعبر إلى أسد الدين فتأخر إلى الصعيد ولقيهم منتصف السنة فهزمهم. وسار إلى ثغر الإسكندرية فملكها وولى عليها صلاح الدين ابن أخيه ورجع فدوخ بلاد الصعيد. وسارت عساكر مصر والإفرنج إلى الإسكندرية وحاصروا بها صلاح الدين فسار إليه أسد الدين فتلقوه بطلب الصلح فتم ذلك بينهم وعاد إلى الشام وترك لهم الإسكندرية. وكاتب شجاع بن شاور نور الدين بالطاعة عنه وعن طائفة من الأمراء. ثم استطال الإفرنج على أهل مصر وفرضوا عليهم الجزية وأنزلوا بالقاهرة الشحنة وتسلموا أبوابها واستدعوا ملكهم بالشام إلى الاستيلاء عليها فبادر نور الدين وأعاد أسد الدين في العساكر إليها في ربيع سنة أربع وستين فملكها وقتل شاور وطرد الإفرنج عنها. وقدمه العاضد لوزارته والاستبداد عليه كما كان من قبله. ثم هلك أسد الدين وقام صلاح الدين ابن أخيه مكانه وهو مع ذلك في طاعة نور الدين محمود. وهلك العاضد فكتب نور الدين إلى صلاح الدين يأمره بإقامة الدعوة العباسية بمصر والخطبة للمستضيئ. ويقال إنه كتب له بذلك في حياة العاضد وبين يدي وفاته. وهلك لخمسين يوماً أو نحوها فخطب للمستضيئ العباسي وانقرضت الدولة العلوية بمصر وذلك سنة سبع وستين كما نأتي على شرحه وتفصيله في دولة بني أيوب إن شاء الله تعالى ووقعت خلال ذلك فتنة بين نور الدين محمود وبين صاحب الروم قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان سنة ستين وخمسمائة وكتب الصالح بن رزيك إلى قليج أرسلان ينهاه عن الفتنة والله تعالى ولي التوفيق. |
فتح نور الدين صافيتا وعريمة ومنبج وجعبر
ثم جمع نور الدين عساكره سنة اثنتين وستين واستدعى أخاه قطب الدين من الموصل فقدم عليه بحمص ودخلوا جميعاً بلاد الإفرنج ومروا بحصن الأكراد واكتسحوا نواحيه. ثم حاصروا عرقة وخربوا جكة وفتحوا العريمة وصافيتا وبعثوا سراياهم فعاثت في البلاد ورجعوا إلى حمص فأقاموا بها إلى رمضان وانتقلوا إلى بانياس وقصدوا حصن حموص فهرب عنه الإفرنج فهدم نور الدين سوره وأحرقه. واعتزم على بيروت فرجع عنه أخوه قطب الدين إلى الموصل وأعطاه نور ثم انتقض بمدينة منبج غازي بن حسان. وبعث إليها العساكر فملكها عنوة وأقطعها أخاه قطب الدين ينال بن حسان وبقيت بيده إلى أن أخذها منه صلاح الدين بن أيوب. ثم قبض بنو كلاب على شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي صاحب قلعة جعبر وكانت تسمى دوس ثم سميت باسم جعبر بانيها. وكان السلطان ملك شاه أعطاها لجده عندما ملك حلب كما مر في أخباره. ولم تزل بيده ويد عقبه إلى أن هلك هذا فخرج يتصيد سنة ثلاث وستين وقد أرصد له بنو كلاب فأسروه وحملوه إلى نور الدين محمود صاحب دمشق فاعتقله مكرماً. وحاوله في النزول عن جعبر بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى فأبى وبعث بالعساكر مع الأمير فخر الدين محمود بن أبي علي الزعفراني وحاصرها مدة فامتنعت فبعث عسكراً آخراً. وقدم على الجميع الأمير فخر الدين أبا بكر ابن الداية رضيعه وأكبر أمرائه فحاصرها فامتنعت ورجع إلى ملاطفة صاحبها فأجاب وعوضه نور الدين عنها سروج وأعمالها وساحة حلب وقراغة وعشرين ألف دينار. وملك قلعة جعبر سنة أربع وستين وانقرض أمر بني مالك منها والبقاء لله وحده. رحلة زين الدين نائب الموصل إلى إربل واستبداد قطب الدين بملكه قد كان تقدم لنا أن نصير الدين جقري كان نائب الأتابك زنكي بالموصل وقتل ألب أرسلان ابن السلطان محمود آخر سنة تسع وثلاثين وخمسمائة طمعاً في الملك لغيبة الأتابك فرجع من غيبته في حصار البيرة وقدم مكانه زين الدين علي بن كمستكين بقلعة الموصل فلم يزل بها بقية أيام الأتابك وأيام ابنه غازي وابنه الآخر قطب الدين سنة ثمان وخمسين على وزيرهم جمال الدين محمد بن علي بن منصور الأصفهاني فاعتقله وهلك لسنة من الاعتقال. وحمل إلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم فدفن بها في رباط هناك أعده لذلك. وكانت وفاته أيام سيف الدين غازي بن قطب الدين فولى مكانه جلال الدين أبا الحسن ابنه. وكان زين الدين علي بن كمستكين ويعرف بكجك قد استبد في دولة قطب الدين واستقل بحكم الدولة. وصارت بيده أكثر البلاد إقطاعاً مثل إربل وشهرزور والقلاع التي في تلك البلاد الهكارية. منها العمادية وغيرها والحميدية وتكريت وسنجار. وقد كان نقل أهله وولده وذخائره إلى إربل وأقام بمحل نيابته من قلعة الموصل فأصاحبه الكبر وطرقه العمى والصمم فعزم على مفارقة الموصل إلى كسر بيته بإربل فسلم جميع البلاد التي بيده إلى قطب الدين ما عدا إربل. وسار إليها سنة أربع وستين وأقام قطب الدين مكانه فخر الدين عبد المسيح خصياً من موالي جده الأتابك زنكي وحكمه في دولته فنزل بالقلعة وعمرها وكان الخراب قد لحقها بإهمال زين الدين أمر البناء والله تعالى أعلم. ثم بعث صلاح الدين سنة خمس وستين إلى نور الدين محمود يطلب إنفاذ أبيه نجم الدين أيوب إليه فبعثه في عسكر واجتمع إليه خلق من التجار ومن أصحاب صلاح الدين وخشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج فسارت العساكر إلى الكرك وهو حصن اختطه من الإفرنج البرنس أرقاط واختط له قلعة فحاصره نور الدين وجمع له الإفرنج فرحل إلى مقدمتهم قبل أن يتلاحقوا فخاموا عن لقائه ونكصوا على أعقابهم. وسار في بلادهم فاكتسحها وخرب ما مر به من القلاع وانتهى إلى بلاد المسلمين حتى نزل حوشب. وبعث نجم الدين من هنالك إلى مصر فوصلها منتصف خمس وستين وركب العاضد للقائه. ولما كان نور الدين بعشير أسار للقاء شهاب الدين محمد بن إلياس بن أبي الغازي بن أرتق صاحب قلعة أكبره. فلما انتهى إلى نواحي بعلبك لقي سرية من الإفرنج فقاتلهم وهزمهم واستلحمهم وجاء بأسرى ورؤوس القتلى إلى نور الدين وعرف الرؤوس مقدم الاستبان صاحب حصن الأكراد وكان شجى في قلوب المسلمين. وبلغه وهو بهذا المنزل خبر الزلازل التي عمت البلاد بالشام والموصل والجزيرة والعراق وخربت أكثر البلاد بعمله فسار إليها وشغل في إصلاحها من واحدة إلى أخرى حتى أكملها بمبلغ جهده. واشتغل الإفرنج بعمارة بلادهم أيضاً خوفاً من غائلته والله تعالى أعلم. ثم توفي قطب الدين مودود بن الاتابك زنكي صاحب الموصل في ذي الحجة سنة خمس وستين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ملكه وعهد لابنه الأكبر عماد الدين بالملك. وكان القائم بدولته فخر الدين عبد المسيح وكان شديد الطواعية لنور الدين محمود ويعلم ميله عن عماد الدين زنكي بن مودود فعدل عنه إلى أخيه سيف الدين غازي ابن مودود بموافقة أمه خاتون بنت حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي. ولحق عماد الدين بعمه نور الدين منتصراً به. وقام فخر الدين عبد المسيح بتدبير الدولة بالموصل واستبد بها والله تعالى أعلم. استيلاء نور الدين على الموصل وإقراره ابن أخيه سيف الدين عليها ولما ولي سيف الدين غازي بالموصل بعد أبيه قطب الدين واستبد عليه فخر الدين عبد المسيح كما تقدم وبلغ الخبر إلى نور الدين باستبداده أنف من ذلك وسار في خف من العسكر وعبر الفرات عند جعبر أول سنة ست وستين. وقصد الرقة فملكها ثم الخابور فملك جميعه ثم نصيبين وكلها من أعمال الموصل. وجاءه هناك نور الدين محمد بن قرا أرسلان ابن داود بن سقمان صاحب كيفا مدداً. ثم سار إلى سنجار فحاصرها وملكها وسلمها لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين. ثم جاءته كتب الأمراء بالموصل فاستحثوه فأغذ السير إلى مدينة كلك. ثم عبر الدجلة ونزل شرقي الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل. وكان سيف الدين غازي قد بعث أخاه عز الدين مسعود إلى الأتابك شمس الدين صاحب همذان وبلاد الجبل وأذربيجان وأصفهان والري يستنجده على عمه نور الدين فأرسل ايلدكز إلى نور الدين ينهاه عن الموصل فأساء جوابه وتوعده وأقام يحاصر الموصل. ثم اجتمع امراؤها على طاعة نور الدين. ولما استحث فخر الدين عبد المسيح استأمن إلى نور الدين على أن يبقي سيف الدين ابن أخيه على ملكها فأجابه على أن يخرج هو عنه ويكون معه بالشام. وتم ذلك بينهما وملك نور الدين منتصف جمادى الأولى من سنة ست وستين. ودخل المدينة واستناب بالقلعة خصياً اسمه كمستكين ولقبه سعد الدين. فأقر سيف الدين ابن أخيه على ملكه وخلع عليه خلعة وردت عليه من الخليفة المستضيئ وهو يحاصرها وأمر ببناء جامع بالموصل فبني وشهر باسمه. وأمر سيف الدين أن يشاور كمستكين في جميع أموره وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين وعاد إلى الشام والله تعالى أعلم. الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين ثم سار صلاح الدين في صفر سنة تسع وستين من مصر إلى بلاد الإفرنج غازياً ونازل حصن الشوبك من أعمال واستأمن إليه أهله على أن يمهلهم عشرة أيام جابهم وسمع نور الدين بذلك فسار من دمشق غازياً أيضاً بلاد الإفرنج من جانب آخر وتنصح لصلاح الدين أصحابه بأنك إن ظاهرته على الإفرنج اضمحل أمرهم فاستطال عليك نور الدين ولا تقدر على الامتناع منه فترك الشوبك وكر راجعاً إلى مصر. وكتب لنور الدين يعتذر له بأنه بلغه عن بعض سفلة العلويين بمصر أنهم معتزمون على الوثوب فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك واعتزم على عزله عن مصر. فاستشار صلاح الدين أباه وخاله شهاب الدين الحارمي وقرابتهم فأشار عليه تقي الدين عمر ابن أخيه بالامتناع والعصيان فنكر عليه نجم الدين أبوه وقال له ليس منا من يقوم بعصيان نور الدين لو حضر أو بعث وأشار عليه بأن يكاتبه بالطاعة وأنه إن عزم على أخذ البلاد منك فسلمها ويصل بنفسه. وافترق المجلس فخلا به أبوه وقال ما لك توجد بهذا الكلام السبيل للأمراء في طالتهم عليك. ولو فعلتم ما فعلتم كنت أول الممتنعين عليه ولكن ملاطفته أولى وكتب صلاح الدين إلى نور الدين بما أشار به أبوه عن الملاطفة فتركهم نور الدين وأعرض عن قصدهم. ثم توفي واشتغل صلاح الدين بملك البلاد. ثم جمع نور الدين العساكر وسار لغزو الإفرنج بسبب ما أخذوه لأهل البلاد من مراكب التجار ونكثوا فيها العهد مغالطين بأنها تكسرت فلم يقبل مغالطتهم. وسار إليهم وبث السرايا في بلادهم إنطاكية وطرابلس وحاصر هو حصن غرقة وخرب ربضه وأرسل عسكراً إلى حصن صافيتا وعريمة ففتحهما عنوة وخربهما. ثم سار من عرقة إلى طرابلس واكتسح ما مر عليه حتى رجع الإفرنج إلى الانصاف من أنفسهم وردوا ما أخذوا من المكرمين الأعزين وسألوا تجديد الهدنة فأجابهم بعد أن خربت بلادهم وقتلت رجالهم وغنمت أموالهم. ثم اتخذ نور الدين في هذه السنة الحمام. . . بالشام تطيراً إلى أوعارها من لاتساع بلاده ووصول الأخبار بسرعة فبادر إلى القيام بواجبه وأجرى الجرايات على المرتبين لحفظها لتصل الكتب في أجنحتها. ثم أغار الإفرنج على حوران من أعمال دمشق وكان نور الدين ينزل الكسوة فرحل إليهم ورحلوا أمامه إلى السواد وتبعهم المسلمون ونالوا منهم. ونزل نور الدين على عشير وبعث منها سرية إلى أعمال طبرية فاكتسحها وسار الإفرنج لمدافعتهم فرجعوا عنها واتبعهم الإفرنج فعبروا النهر وطمعوا في استنقاذ غنائمهم فقاتلهم المسلمون دونها أشد قتال إلى أن استنقذت وتحاجزوا ورجع الإفرنج خائبين والله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين بمنه وكرمه. واقعة ابن ليون ملك الأرمن بالروم كان قليج بن ليون صاحب دروب حلب أطاع نورالدين محمود بن زنكي وأره على الحمالة وأقطعه ببلاد الشام وكان يسير في خدمته ويشهد حروبه مع الإفرنج أهل ملته. وكان الأرمني أيضاً يستظهر به على أعدائه وكانت أدنة والمصيصة وطرسوس مجاورة لابن ليون وهي بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية فتغلب عليها ابن ليون وملكها. وبعث صاحب القسطنطينية منتصف سنة ثمان وستين وخمسمائة جيشاً كثيفاً. مع عظيم من بطارقته فلقيه ابن ليون بعد أن استنجد نور الدين فأنجده بالعساكر وقاتلهم فهزمهم وبعث بغنائمهم وأسراهم إلى نور الدين وقويت شوكة ابن ليون ويئس الروم من تلك البلاد والله تعالى أعلم. |
مسير نور الدين إلى بلاد الروم
كان ذو النون بن محمد بن الدانشمند صاحب ملطية وسيواس وأخصرى وقيسارية ملكها بعد عمه باغي أرسلان وأخيه إبراهيم بن محمد فلم يزل قليج أرسلان بن محمد بن قليج أرسلان يتخيف بلاده إلى أن استولى عليها. ولحق ذو النون بنور الدين صريخاً. وأرسل إلى قليج أرسلان بالشفاعة في رد بلاده فلم يشفعه فسار إليه وملك من بلاده بكسور ومهنسا ومرعش ومرزبان وما بينهما في ذي القعدة سنة ثمان وستين. ثم بعث عسكراً إلى سيواس فملكوها. ثم أرسل قليج أرسلان إلى نور الدين يستعطفه وقد كان يجيز أمامه إلى قاصية بلاده فأجابه نور الدين إلى الصلح على أن ينجده بعسكر الإفرنج ويبقي سيواس بيد ذي النون وعسكر نور الدين الذي معه فيها. ورجع نور الدين إلى بلاده وبقيت سيواس بيد ذي النون حتى مات نور الدين وعاد قليج أرسلان. ثم وصل رسول نور الدين من بغداد كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري ومعه منشور من الخليفة المستضيئ لنور الدين بالموصل والجزيرة وإربل وخلاط والشام وبلاد الروم وديار مصر والله سبحانه وتعالى أعلم. مسير صلاح الدين إلى الكرك ورجوعه ولما كانت الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين كما قدمنا واعتزم نور الدين على عزله عن مصر واستعطفه صلاح الدين كان فيما تقرر بينهما أنهما يجتمعان على الكرك إيهما سبق انتظر صاحبه فسار صلاح الدين من مصر في شوال سنة ثمان وستين وسبق إلى الكرك وحاصره. وخرج نور الدين بعد أن بلغه مسير صلاح من مصر وأزاح علل العساكر وانتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك فخافه صلاح الدين على نفسه خشي أن يعذله عند لقائه. وكان استخلف أباه نجم الدين أيوب على مصر فبلغه أنه طرقه مرض شديد فوجد فيه عذراً لنور الدين وكر راجعاً إلى مصر. وبعث الفقيه عيسى. ذلك العذر وأن حفظة مصر أهم عليه. فلما وصل مصر وجد أباه قد توفي من سقطة قطها عن مركوبه هزه المرح فرماه وحمل إلى بيته وقيذاً ومات لأيام قريبة آخر ذي الحجة من السنة. ورجع نور الدين إلى دمشق وكان قد بعث رسوله كمال الدين الشهرزوري القاضي ببلاده وصاحب الوقوف والديوان لطلب التقليد للبلاد التي بيده مثل مصر والشام والجزيرة والموصل والتي دخلت في طاعته كديار بكر وخلاط وبلاد الروم وأن يعاد له ما كان لأبيه زنكي من الإقطاع بالعراق وهي صريفين ودرب هرون وأن يسوغ قطعة أرض على شاطئ دجلة بظاهر الموصل يبني فيها مدرسة للشافعية فأسعف بذلك كله. وفاة نور الدين محمود وولاية ابنه إسماعيل الصالح ثم توفي نور الدين محمود بن الأتابك زنكي حادي عشر شوال سنة تسع وستين وخمسمائة لسبع عشرة سنة من ولايته وكان قد شرع في التجهز لأخذ مصر من صلاح الدين بن أيوب واستنفر سيف الدين ابن أخيه في العساكر مورياً بغزو الإفرنج. وكان قد اتسع ملكه وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن لما ملكها سيف الدولة بن أيوب. وكان معتنياً بمصالح المسلمين مواظباً على الصلاة والجهاد وكان عارفاً بمذهب أبي خنيفة ومتحرياً للعدل ومتجافياً عن أخذ المكوس في جميع أعماله وهو الذي حصن قلاع الشام وبنى الأسوار على مدنها مثل دمشق وحمص وحماة وشيزر وبعلبك وحلب وبنى مدارس كثيرة للحنفية والشافعية وبنى الجامع النوري بالموصل والمارستانات والخانات في الطريق والجواسق للصوفية في البلاد. واستكثر من الأوقاف عليها. يقال بلغ ريع أوقافه في كل شهر تسعة آلاف دينار صوري. وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم ويتمثل لهم قائماً ويؤنسهم في المجالسة ولا يرد لهم قولاً وكان متواضعاً مهيباً وقوراً. ولما توفي اجتمع الأمراء والمقدمون وأهل الدولة بدمشق وبايعوا ابنه الملك الصالح إسماعيل وهو ابن إحدى عشرة سنة. وحلفوا له وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر وخطب له هنالك وضرب السكة باسمه وقام بكفالته وتدبير دولته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم وأشار عليه القاضي كمال الدين الشهرزوري بأن يرجعوا في جميع أمورهم إلى صلاح الدين لئلا ينبذ طاعتهم فأعرضوا عن ذلك والله تعالى ولي التوفيق. استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة قد كنا قدمنا أن نور الدين استولى على بلاد الجزيرة وأقر سيف الدين ابن أخيه قطب الدين على الموصل واحتمل معه فخر الدين عبد المسيح الذي ولى سيف الدين واستبد عليه بأمره. وولى على قلعة الموصل سعد الدين كمستكين. ولما استنفرهم نور الدين بين يدي موته سار إليه سيف الدين غازي وكمستكين الخادم في العساكر وبلغهم في طريقهم خبر وفاته. وكان كمستكين في المقدمة فهرب إلى حلب واستولى سيف الزين على مخلفة وسواده وعاد إلى نصيبين فملكها وبعث العساكر إلى الخابور فاستولى عليها وعلى أقطاعها. ثم سار إلى حران وبها قايماز الحراني مولى نور الدين فحاصرها أياماً ثم استنزله على أن يقطعه حران. فلما نزل قبض عليه وملكها. ثم سار إلى الرها وبها خادم لنور الدين فتسلمها وعوضه عنها قلعة الزعفراني من جزيرة ابن عمر وانتزعها منه بعد ذلك. ثم سار إلى الرقة وسروج فملكها واستوعب بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر لامتناعها وسوى رأس عين كانت لقطب الدين صاحب ماردين وهو ابن خاله. وكان شمس الدين علي بن الداية بحلب وهو من أكبر أمراء نور الدين ومعه العساكر ولم يقدر على مدافعة سيف الدين فخر الدين عبد المسيح. وكان نور الدين تركه قبل موته بسيواس مع ذي النون بن الدانشمند. فلما مات نور الدين رجع إلى صاحبه سيف الدين غازي وهو الذي كان ملكه فوجده بالجزيرة وقد ملكها فأشار عليه بالعبور إلى الشام. وعارضه آخر من أكبر الأمراء في ذلك فرجع سيف الدين إلى قوله وعاد إلى الموصل وأرشد صلاح الدين إلى الملك الصالح وأهل دولته يعاتبهم حيث لم يستدعوه لمدافعة سيف الدين عن الجزيرة ويتهدد ابن المقدم وأهل الدولة على انفرادهم بأمر الملك الصالح دونه وعلى قعودهم عن مدافعة سيف الدين غازي. ثم أرسل شمس الدين بن الداية إلى الملك الصالح يستدعيه من دمشق إلى حلب ليدافع شمس الدين ابن عمه قطب الدين عن الجزيرة فمنعه أمراؤه عن ذلك مخافة أن يستولي عليه ابن الداية والله حصار الإفرنج بانياس ولما مات نور الدين محمود اجتمع الإفرنج وحاصروا قلعة بانياس من أعمال دمشق. وجمع شمس الدين بن المقدم العساكر وسار عن دمشق وراسل الإفرنج وتهددهم بسيف الدين صاحب الموصل وصلاح الدين صاحب مصر فصالحوه على مال يبعثه إليهم. واشترى من الإفرنج وأطلعهم وتقررت الهدنة. وبلغ ذلك صلاح الدين فنكره واستعظمه وكتب إلى الصالح وأهل دولته بقبح مرتكبهم ويعدهم بغزوة الإفرنج وقصده إنما هو طريقه إلى الشام ليتملك البلاد وإنما صالح ابن المقدم الإفرنج خوفاً منه ومن سيف الدين والله تعالى أعلم. استيلاء صلاح الدين على دمشق ولما كان ما ذكرناه من استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة خاف شمس الدين ابن الداية منه على حلب. وكان سعد الدين كمستكين قد هرب من سيف الدين غازي إليه فأرسله إلى دمشق ليستدعي الملك الصالح للمدافعة. فلما قارب دمشق أنفذ ابن المقدم إليه عسكراً. فنهبوه وعاد إلى حلب. ثم رأى ابن المقدم وأهل الدولة بدمشق أن مسير الصالح إلى حلب أصلح فبعثوا إلى كمستكين وبعثوا معه الملك. الصالح. فلما وصل إلى حلب قبض كمستكين على ابن الداية وأخوته وعلى رئيس حلب ابن الخشاب وعلى مقدم الأحداث بها. وخشي ابن المقدم وأمراؤه بدمشق غائلته فكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل أن يملكوه فأحجم عن المسير إليهم وظنها مكيدة. وبعث بخبرهم إلى كمستكين وصالحه على مال أخذه من البلاد فكثر ارتياب القوم في دمشق فكاتبوا ا صلاح الدين بن أيوب فسار إليهم ونكب عن الإفرنج في طريقه وقصد بصرى وأطاعه صاحبها. ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج إليه أهل الدولة بمقدمهم شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم وهو الذي كان أبوه سلم سنجار لنور الدين سنة أربع وأربعين كما مر ودخل صلاح الدين دمشق آخر ربيع سنة سبعين ونزل دار أبيه المعروفة بدار العفيفي. وكان في القلعة ريحان خديم نور الدين فبعث إليه صلاح الدين القاضي كمال الدين الشهرزوري بأنه على طاعة الصالح والخطبة له في بلاده وأنه إنما جاء ليرتجع البلاد التي أخذت له فسلم إليه ريحان القلعة واستولى على ما فيها من الأموال وهو في ذلك كله يظهر طاعة الملك الصالح ويخطب له وينقش السكة باسمه انتهى والله أعلم. |
الساعة الآن 02:08 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |