![]() |
استيلاء صلاح الدين على حمص وحماة
ثم حصاره حلب ثم ملكه بعلبك ولما ملك صلاح الدين دمشق من إيالة الملك الصالح استخلف عليها أخاه سيف الإسلام طغركين بن أيوب وكان حمص وحماة وقلعة مرعش وسلمية وتل خالد والرها من بلاد الجزيرة في إقطاع فخر الدين مسعود الزعفراني من أمراء نور الدين ما عدا القلاع منها. ولما مات نور الدين أجفل الزعفراني عنها لسوء سيرته. ولما ملك صلاح الدين دمشق سار إلى حمص فملك البلد وامتنعت القلعة بالوالي الذي بها فجهز عسكراً لحصارها وسار إلى حماة فنازلها منتصف شعبان وبقلعتها الأمير خرديك فبث إليه صلاح الدين بأنه في طاعة الملك الصالح وإنما جاء لمدافعة الإفرنج عنه وارتجاع بلاده بالجزيرة من ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل واستخلفه على ذلك عز الدين. ثم بعثه صلاح الدين إلى الملك الصالح بحلب في الإتفاق وإطلاق شمس الدين علي حسن وعثمان تقي الدين من الاعتقال فسار عز الدين لذلك واستخلف بالقلعة أخاه. ولما وصل إلى حلب قبض عليه كمستكين وحبسه فسلم أخوه قلعة حماة لصلاح الدين وملكها. ثم سار صلاح الدين من وقته إلى حلب وحاصرها وركب الملك الصالح وهو صبي مناهز فسار في البلد واستعان بالناس وذكر حقوق أبيه فبكى الناس رحمة له واستماتوا دونه وخرجوا فدافعوا عسكر صلاح الدين. ودس كمستكين إلى مقدم الإسماعيلية في الفتك بصلاح الدين فبعث لذلك فداوية منهم. وشعر بذلك بعض أصحاب صلاح الدين وجماعة منهم معه وقتلوا عن آخرهم. وأقام صلاح الدين محاصراً لحلب وبعث كمستكين إلى الإفرنج يستنجدهم على منازلة بلاد صلاح الدين ليرحل عنهم. وكان القمص عند السنجيلي صاحب طرابلس أسره نور الدين في حارم سنة تسع وخمسين وبقي معتقلاً بحلب أطلقه الآن كمستكين بمائة وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير وكان متغلباً على ابن مري ملك الإفرنج لكونه مجذوماً لا يصدر إلا عن رأيه فسار بجموع الإفرنج إلى حصن الرستن سابع رجب وصالحهم صلاح الدين من الغد فأجفلوا وحاصر وهو القلعة وملكها آخر شعبان واستولى على أكثر الشام. ثم سار إلى بعلبك وبها يمن الخادم من موالي نور الدين فحاصرها حتى استأمنوا إليه فملكها منتصف رمضان من السنة وأقطعها شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم بما تولى له من إظهار طاعته بدمشق وتسليمها له والله تعالى أعلم. حروب صلاح الدين مع سيف الدين غازي صاحب الموصل وغلبة إياه واستيلائه على بغدوين وغيرها من أعمال الملك الصالح ثم مصالحته على حلب لما ملك صلاح الدين حمص وحماة وحاصر حلب كاتب الملك الصالح إسماعيل من حلب إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده فجمع عساكره واستنجد أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار فلم يجبه لما كان بينه وبين صلاح الدين وأنه ولاه سنجار ويطمعه في الملك فبعث سيف الدين غازي بالعساكر لمدافعة صلاح الدين عن الشام في رمضان سنة سبعين وخمسمائة مع أخيه عز الدين مسعود وأمير جيوش عز الدين القنذار وجعل التدبير إليه وسار هو إلى سنجار فحاصر بها أخاه عماد الدين وامتنع عليه. وبينما هو يحاصره جاءه الخبر بأن صلاح الدين هزم أخاه عز الدين وعساكره فصالح عماد الدين على سنجار وعاد إلى الموصل. ثم جهز أخاه عز الدين في العساكر ثانية ومعه القنذار. وساروا إلى حلب فانضمت إليهم عساكره وساروا جميعاً إلى صلاح الدين فأرسل إلى عماد الدين بالموصل في الصلح بينه وبين الملك الصالح على أن يرد عليه حمص وحماة ويسوغه الصالح دمشق فأبى إلا ارتجاع جميع بلاد الشام واقتصاره على مصر فسار صلاح الدين إلى عساكرهم ولقيها قريباً من حماة فانهزمت وثبت عز الدين قليلاً. ثم صدق عليه صلاح الدين الحملة فانهزم وغنم سوادهم ومخلفهم واتباع عساكر حلب حتى أخرجهم منها وحاصرها وقطع خطبة الملك الصالح وبعث بالخطبة للسلطان في جميع بلاده. ولما طال عليهم الحصار صالحوه على إقراره على جميع ما ملك من الشام. ورحل عن حلب عاشر شوال من السنة وعاد إلى حماة. ثم سار منها إلى بغدوين وكانت لفخر الدين مسعود بن الزعفراني من أمراء نور الدين وكان قد اتصل بالسلطان صلاح الدين واستخدم له. ثم فارقه حيث لم يحصل على غرضه عنده فلحق ببغدوين وبها نائب الزعفراني فحاصرها حتى استأمنوا إليه. وأقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي وأقطع حمص ناصر الدين بن عمه شيركوه وعاد إلى دمشق آخر سنة سبعين. وكان سيف الدين غازي صاحب الموصل بعد هزيمة أخيه وعساكره عاد من حصار أخيه بسنجار كما قلناه إلى الموصل فجمع العساكر وفرق الأموال. واستنجد صاحب كيفا وصاحب ماردين وسار في ستة آلاف فارس وانتهى إلى نصيبين في ربيع سنة إحدى وسبعين فأقام إلى إنسلاخ فصل الشتاء وسار إلى حلب فبرز إليه سعد الدين كمستكين الخادم مدبر الصالح في عساكر حلب. وبعث صلاح الدين عن عساكره من مصر وقد كان أذن لهم في الانطلاق فجاؤوا إليه. وسار من دمشق إلى سيف الدين وكمستكين فلقيهم بتل الفحول وانهزموا راجعين إلى حلب وترك سيف الدين أخاه عز الدين بها في جمع من العساكر وعبر الفرات إلى الموصل يظن أن صلاح الدين في اتباعه. وشاور الصالح وزيره جلال الدين ومجاهد الدين قايماز في مفارقة الموصل إلى قلعة الحميدية فعارضاه في ذلك. ثم عزل القنذار عن إمارة الجيوش لأنه كان جر الهزيمة برأيه ومفارقته وولى مكانه مجاهد الدين قايماز. ولما انهزمت العساكر أمام صلاح الدين وغنم مخلفها سار إلى مراغة وملكها وولى عليها. ثم سار إلى منبج وبها صاحبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي وكان شديد العداوة لصلاح الدين فملك المدينة وحاصره بالقلعة وضيق مخنقه. ثم نقب أسوارها وملكها عليه عنوة وأسره. ثم أطلقه سليباً فلحق بالموصل وأقطعه سيف الدين الرقة. ولما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة إعزاز وهي في غاية المنعة فحاصرها أربعين يوماً حتى استأمنوا إليه فتسلمها في الأضحى. ثم رحل إلى حلب فحاصرها وبها الملك الصالح واشتد أهلها في قتاله فعدل إلى المطاولة. ثم سعى بينهما في الصلح وعلى أن يدخل فيه سيف الدين صاحب الموصل وصاحب كيفا وصاحب ماردين فاستقر الأمر على ذلك وخرجت أخت الملك الصالح إلى صلاح الدين فأكرمها وأفاض عليها العطاء وطلبت منه قلعة إعزاز فأعطاها إياها ورحل إلى بلاد الإسماعيلية والله سبحانه وتعالى أعلم. عصيان صاحب شهروزور على سيف للدين صاحب الموصل ورجوعه كان مجاهد الدين قايماز متولي مدينة إربل وكان بينه وبين شهاب الدين محمد بن بدران صاحب شهرزور عداوة. فلما ولى سيف الدين مجاهد الدين قايماز نيابة الموصل خاف شهاب الدين غائلته عن تعاهد الخدمة بالموصل وأظهر الامتناع وذلك سنة اثنتين وسبعين فخاطبه جلال الدين الوزير في ذلك مخاطبة بليغة وحذره ورغبه فعاود الطاعة وبادر إلى |
نكبة كمستكين الخادم
ومقتله كان سعد الدين كمستكين الخادم قائماً بدولة الملك الصالح في حلب وكان يناهضه فيها أبو صالح العجمي فقدم عند نور الدين وعند ابن الملك الصالح وتجاوز مراتب الوزير فعدا عليه بعض الباطنية فقتله وخلا الجو لكمستكين وانفرد بالاستبداد على الصالح وكثرت السعاية فيه بحجر السلطان والاستبداد عليه وأنه قتل وزيره فقبض عليه وامتحنه. وكان قد أقطعه قلعة حارم فامتنع بها أصحابه وأرادهم الصالح على تسليمها فامتنعوا وهلك كمستكين في المحنة. وطمع فيها وساروا إليها وحاصروها. وصانعهم الصالح بالمال فرجعوا عنها وبعث هو عساكره إليها وقد جهدهم الحصار فسلموها له وولى عليها والله تعالى أعلم. وفاة الصالح إسماعيل واستيلاء ابن عمه عز الدين مسعود على حلب ثم توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب في منتصف سنة سبع وسبعين لثمان سنين من ولايته وعهد بملكه لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل. واستحلف أهل دولته على ذلك بعضهم بعماد صاحب سنجار أخي عز الدين الأكبر لمكان صهره على أخت الصالح وأن أباه نور الدين كان يميل إليه فأبى. وقال عز الدين أنا أقدر على مدافعة صلاح الدين عن حلب. فلما قضى نحبه أرسل الأمراء بحلب إلى عز الدين مسعود يستدعونه هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات ولقي هنالك أمراء حلب وجاؤوا معه فدخلها آخر شعبان من السنة وصلاح الدين يومئذ بمصر بعيداً عنهم وتقي الدين عمر ابن أخيه في منبج فلما أحسن بهم فارقها إلى حماة وثار به أهل حماة ونادوا بشعار عز الدين. وأشار أهل حلب عليه بقصد دمشق وبلاد الشام وأطمعوه فيها فأبى من أجل العهد الذي بينه وبين صلاح الدين أقام بحلب شهوراً وسار عنها إلى الرقة والله تعالى أعلم. اسيلاء عماد الدين على حلب ونزوله عن سنجار لأخيه عز الدين ولما انتها عز الدين إلى الرقة منقلباً من حلب وافقه هناك رسل أخيه عماد الدين صاحب سنجار يطلب منه أن يمكنه مدينة سنجار وينزل هو له عن حلب فلم يجبه إلى ذلك. فبعث عماد الدين إليه بأنه يسلم سنجار إلى صلاح الدين فحمل الأمراء حينئذ على معارضته على سنجار وتحمسهم له. ولم يكن لغز الدين مخالفاً لتمكنه في الدولة وكثرة بلاده وعساكره فأخذ سنجار من أخيه عماد الدين وأعطاه حلب وسار إليها عماد الدين وملكها. وسهل أمره على صلاح الدين بعد أن كان متخوفاً من عز الدين على دمشق والله سبحانه وتعالى أعلم. مسير صلاح الدين إلى بلاد الجزيرة كان عز الدين صاحب الموصل قد أقطع مظفر الدين كرجنكري زين الدين كجك مدينة حران وقلعتها. ولما سار صلاح الدين لحصار البيرة جنح إليه مظفر الدين ووعده النصر واستحثه للقدوم على الجزيرة فسار إلى الفرات مورياً بقصد وعبر إليه مظفر الدين فلقيه وجاء معه إلى البيرة وهي قلعة منيعة على الفرات من عدوة الجزيرة. وكان صاحبها من بني أرتق أهل ماردين قد أطاع صلاح الدين فعبر من جسرها وعز الدين صاحب الموصل يومئذ قد سار ومعه مجاهد الدين إلى نصيبين لمدافعة صلاح الدين عن حلب. فلما بلغهما عبوره الفرات عادا إلى الموصل وبعثا حامية إلى الرها. وكاتب صلاح الدين ملوك النواحي بالنجدة والوعد على ذلك. وكان تقدم العهد بينه وبين نور الدين محمد بن قرى أرسلان صاحب كيفا على أن صلاح الدين يفتح آمد ويسلمها إليه. فلما كاتبهم الآن كان صاحب كيفا أول مجيب وسار صلاح الدين إلى الرها فحاصرها في جمادى سنة ثمان وسبعين وبها يومئذ فخر الدين مسعود الزعفراني فلما اشتد به الحصار استأمن إلى صلاح الدين وحاصر معه القلعة حتى سلمها نائبها على مال أخذه وأقطعها صلاح الدين مظفر الدين كوكبري صاحب حران. وسار عنها إلى الرقة وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي فأجفل عنها إلى الموصل وملكها صلاح الدين وسار إلى الخابور وهو قرقيسيا وسار إلى نصيبين فملكها لوقتها وحاصر القلعة أياماً وملكها وأقطعها أبا الهيجاء السمين من أكبر أمرائه. وسار عنها وملكها ومعه صاحب كيفا. وجاءه الخبر بأن الإفرنج غاروا على أعمال دمشق ووصلوا داريا فلم يحفل بخبرهم واستمر على شأنه وأغراه ظهر الدين كوكبري وناصر الدين محمد بن شيركوه بالموصل ورجحا قصدها على سنجار وجزيرة ابن عمر كما أشار عليهما فسار صلاح الدين وصاحبها عز الدين ونائبه جاهد الدين وقد جمعوا العساكر وأفاضوا العطاء وشحنوا البلاد التي بأيديهم كالجزيرة وسنجار والموصل وإربل وسار صلاح الدين حتى قاربها وسار هو ومظفر الدين وابن شيركوه في أعيان دولته إلى السور فأراه مخايل الامتناع. وقال لمظفر الدين ولناصر الدين ابن عمه قد أغررتماني. ثم صبح البلد وناشبه وركب أصحابه في المقاعد للقتال. وصب منجنيقاً فلم يغن ونصب إليه من البلد تسعة. ثم خرج إليه جماعة من البلد وأخذوه وكانوا يخرجون ليلاً من البلد بالمشاعل يوهمون الحركة. فخشي صلاح الدين من البيات وتأخر عن القصد وكان صدر الدين شيخ الشيوخ قد وصل من قبل الخليفة الناصر مع بشير الخادم من خواصة في الصلح بين الفريقين على إعادة صلاح الدين بلاد الجزيرة فأجاب على إعادة الآخرين حلب فامتنعوا. ثم رجع عن شرط حلب إلى ترك مظاهرة صاحبها فاعتذروا عن ذلك ووصلت رسل صاحب أذربيجان قرا أرسلان. وأرسل صاحب خلاط شاهرين فلم ينتظم بينهما أمر ورحل صلاح الدين عن الموصل إلى سنجار فحاصرها وبها أمير أميران وأخوه عز الدين صاحب الموصل في عسكر ولقيه شرف الدين وجاءها المدد من الموصل فحال بينهم وبينها وداخله بعض أمراء الأكراد من الدوادية من داخلها فكبسها صلاح الدين ولحق بالموصل. وملك صلاح الدين سنجار وصارت سياجاً على جميع ما ملكه بالجزيرة. وولى عليها سعد الدين ابن معين الدين أنز الذي كان متغلباً بدمشق على آخر طغركين وعاد فر بنصيبين وشكا إليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله وسار إلى حران بلدة مظفر الدين كوكبري فوصلها في القلعة من سنة سبع وثمانين فأراح بها وأذن لعساكره في الانطلاق وكان عز الدين قد بعث إلى شاهرين صاحب خلاط يستنجده. وأرسل شاهرين إلى صلاح الدين بالشفاعة في ذلك رسلاً عديدة آخرهم مولاه سكرجاه وهو على سنجار فلم يشفعه أخاه من ذلك وفارقه مغاضباً. وسار شاهرين إلى قطب الدين صاحب ماردين وهو ابن أخته وابن خال عز الدين وصهره على بنته فاستنجده وسار معه وجاءهم عز الدين من الموصل في عساكره واعتزموا على قصد صلاح الدين وبلغه الخبر وهو مريح بحران فبعث عن تقي الدين ابن أخيه صاحب حمص وحماة وارتحل للقائهم ونزل رأس عين فخاموا عن لقائه ولحق كل ببلده وسار صلاح الدين إلى ماردين فأقام استيلاء صلاح الدين على حلب وأعمالها ولمحا ارتحل صلاح الدين عن ماردين قصد آمد فحاصرها سنة تسع وسبعين وملكها وسلمها لنور الدين محمد بن قرا أرسلان كما كان العهد بينهما وقد أشرنا إليه. ثم سار إلى الشام فحاصر تل خالد من أعمال حلب حتى استأمنوا إليه وملكها في محرم سنة تسع وسبعين وسار منها إلى عينتاب وبها ناصر الدين أخوه الشيخ إسماعيل خازن نور الدين محمود وصاحبه ولاه عليها نور الدين فلم يزل بها فاستأمن إلى صلاح الدين على أن يقره على الحصن ويكون في خدمته فأقره وأعلمه. ورحل صلاح الدين إلى حلب وبها عماد الدين زنكي بن مودود ونزل عليها بالميلان الأخضر أياماً. ثم انتقل إلى جبل حوش أياماً أخرى وأظهر أنه أبنى عليها وعجز عماد الدين عن عطاء الجند فراسل صلاح الدين أن يعوضه عنها سنجار ونصيبين. والخابور والرقة وسروج فأجاب إلى ذلك وأعطاه عنها تلك البلاد وملكها وكان في شرط صلاح الدين عليه أنه يبادر إلى الخدمة متى دعاه إليها. وسار عماد الدين إلى بلاده تلك ودخل صلاح الدين حلب في آخر سنة تسع وسبعين. ومات عليه أخوه الأصغر تاج الملوك يوري بضربة في ركبته تصدعت لها ومات بعد فتح حلب. ثم ارتحل صلاح الدين إلى قلعه حارم وبها سرجك من موالي نور الدين ولاه عليها عماد الدين. فلما سلم حلب لصلاح الدين امتنع سرجك في قلعة حارم فحاصره صلاح الدين وترددت الرسل بينهما وقد دس إلى الإفرنج ودعاهم. وخشي الجند الذين معه أن يسلمها إليهم فحبسوه واستأمنوا إلى صلاح الدين فملكها وولى عليها بعض خواصه وعلى تل خالد الأمير داروم الباروقي صاحب تل باشر وأقطع قلعة أعزاز الأمير سليمان بن جندر فعمرها بعد أن كان عماد الدين خربها وأقطع صلاح الدين أعمال حلب لأمرائه وعساكره والله تعالى أعلم. |
نكبة مجاهد الدين قايماز كان مجاهد الدين قايماز قائماً بدولة الموصل ومتحكماً فيها كما قلناه وكان عز الدين محمود الملقب بالقتداز صاحب الجيش وشرف الدين أحمد بن أبي الخير الذي كان صاحب العراق. كانا من أكابر الأمراء عند السلطان عز الدين مسعود صاحب الموصل وكانا يغريانه بمجاهد الدين ويكثران السعايه عنده فيه حتى اعتزم على نكبته ولم يقدر على ذلك في مجلسه لاستبداد مجاهد الدين وقوة شوكته. فانقطع في بيته لعارض مرض وكان مجاهد الدين خصياً لا يحتجب منه النساء فدخل عليه يعوده قبض عليه وركب إلى القلعة فاحتوى على أمواله وذخائره. وولى بهما القنداز نائباً وجعل ابن صاحب العراق أميراً حاجباً وحكمهما في دولته وكان في يد مجاهد الدين إربل وأعمالها فيها زين الدين يوسف ابن زين الدين علي كجك صبياً صغيراً تحت استبداده وبيده أيضاً جزيرة ابن عمر لمعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي وهو صبي تحت استبداده. وبيده أيضاً شهرزور وأعمالها ودقوقا وقلعة عقر الحميدية ونوابه في جميعها ولم يكن لعز الدين مسعود بعد استيلاء صلاح الدين على الجزيرة سوى الموصل وقلعتها لمجاهد الدين وهو الملك في الحقيقة فلما قبض عز الدين عليه امتنع صاحب إربل واستبد بنفسه وكان صاحب جزيرة ابن عمر وبعث بطاعته إلى صلاح الدين وبعث الخليفة الناصر شيخ الشيوخ وبشير الخادم بالصلح بين عز الدين وصلاح الدين على أن تكون الجزيرة وإربل من أعماله وامتنع عز الدين وقال هما من أعمالي. وطمع صلاح الدين في الموصل فتنكر عز الدين لزلقنداز ولابن صاحب العراق لما حملاه عليه من الفساد لنكية مجاهد الدين فبدأ أولاً يعزل صاحب أذربيجان فقال له أنا أكفله وجهز له عسكراً ونحو ثلاثة آلاف فارس وساروا نحو إربل فاكتسحوا البلد وخربوها وسار إليهم زين الدين يوسف بإربل فوجدهم مفترقين في النهب فهزمهم ومن كان معهم وعاد مظفراً ولحق العجم ببلادهم. وعاد مجاهد الدين إلى الموصل والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق. حصار صلاح الدين الموصل ثم سار صلاح الدين من دمشق في ذي القعدة سنة إحدى وثمانين فلما انتهى إلى خزان قبض على صاحبها مظفر الدين كوكبري لأنه كان لذلك وعده بخمسين ألف دينار حتى إذا وصل لم يف له بها فقبض عليه لانحراف أهل الجزيرة عنه فأطلقه ورد عليه عمله بحران والرها. وسار عن حران وجاء معه عساكر كيفا وداري وعساكر جزيرة ابن عمر مع صاحبها معز الدين سنجر شاه ابن أخي معز الدين صاحب الموصل وقد استبد بأمره وفارق طاعة عمه بعد نكبة مجاهد الدين كما قلنا فساروا مع صلاح الدين إلى الموصل ولما انتهوا إلى مدينة الأبله وفدت عليه أم عز الدين وابن عمه نور الدين محمود وجماعة من أعيان الدولة ظناً بأنه لا يردهم وأشار عليه الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب بردهم ورحل إلى الموصل فقاتلها وامتنعت عليه وندم على رد الوفد وجاءه كتاب القاضي الفاضل باللائمة. ثم قدم عليه زين الدين يوسف صاحب إربل فأنزله مع أخيه مظفر الدين كوكبري وغيره من الأمراء. ثم بعث الأمير علي بن أحمد المشطوب إلى قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية فاجتمع عليه الأكراد الهكارية وأقام يحاصرها وكاتب نائب القلعة القنداز. ونمي خبر مكاتبته إلى عز الدين فمنعه واطرحه من المشورة وعدل إلى مجاهد الدين قايماز وكان يقتدي برأيه فضبط الأمور وأصلحها. ثم بلغه في آخر ربيع من سنة اثنين وثمانين وقد ضجر من حصار الموصل أن شاهرين صاحب خلاط توفي تاسع ربيع واستولى عليها مولاه بكتمر فرحل عن الموصل وملك ميافارقين كما يأتي في أخبار دولته. ولما فرغ منها عاد إلى الموصل ومر بنصيبين ونزل الموصل في رمضان سنة اثنتين وثمانين وترددت الرسل بينهما في الصلح على أن يسلم إليه عز الدين شهرزور مالها وولاية الفرائلي وما وراء الزاب ويخطب له على منابرها وينقش اسمه على سكته. ومرض صلاح الدين أثناء ذلك ووصل إلى حران ولحقته الرسل بالإجابة إلى الصلح وتحالفا عليه وبعث من يسلم البلاد وأقام ممرضاً بحران عند أخوه العادل وناصر الدولة ابن عمه شيركوه وأمنت بلاد الموصل. ثم حدثت بعد ذلك فتنة بين التركمان والأكراد بالجزيرة والموصل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان وقتل فيها ما لا يحصى من الأمم واتصلت أعواماً وسببها أن عروساً من التركمان أهديت إلى زوجها ومروا بقلعة الزوزان والأكراد وطلبوا الوليمة على عادة الفتيان فأغلظوا في الرد فقتل صاحب القلعة الزوج وثار التركمان بجماعة من الأكراد فقتلوهم. ثم أصلح مجاهد الدين بينهم وأفاض فيهم العطاء فعادوا إلى الوفاق وذهبت بينهم الفتنة والله تعالى أعلم. وفاة زين الدين يوسف صاحب إربل وولاية أخيه مظفر الدين اقتهي كان زين الدين يوسف بن علي كجك قد صار في طاعة صلاح الدين كما ذكرناه وإربل من أعماله. ووقع الصلح على ذلك بينه وبين عز الدين صاحب الموصل سنة ست وثمانين للعسكر معه فمات عنده أخريات رمضان من السنة واستولى أخوه على موجوده وقبض على جماعة من أمرائه مثل بلداحي صاحب قلعة حقبير كان وغيره وطلب في صلاح الدين أن يقطعه إربل مكان أخيه ويزل عن حران والرها فأقطعه إربل وأضاف إليها شهرزور وأعمالها ودوقبر قرابلي وبني قفجاق وراسل أهل إربل مجاهد الدين قايماز واستدعوه ليملكوه وهو بالموصل فلم يتطاول لذلك خوفاً من صلاح الدين. ولأن عز الدين لما كان ولاه نيابته بعد أن أطلقه من الاعتقال ليم يمكنه كما كان أول مرة وجعل معه رديفاً في الحكم كان من بعض غلمانه فكان أسفاً لذلك. فلما راسله أهل إربل قال والله لا أفعل لئلا يحكم معي فيها فلان وسار مظفر الدين إليها وملكها. حصار عز الدين صاحب الموصل جزيرة ابن عمر كان سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود قد ملك جزيرة ابن عمر بوصية أبيه وخرج عن طاعة عمه عز الدين عند نكبة مجاهد الدين كما قلناه وصار عيناً على عمه يكاتب صلاح الدين بأخباره ويغريه به ويسعى في القطيعة بينهما. ثم حاصر صلاح الدين قلعة عكا سنة ست وثمانين واستنفر لها أصحاب الأطراف المتشبثين بدعوته مثل عز الدين صاحب الموصل وأخيه عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين وسنجار شاه هذا ابن عمه وصاحب كيفا وغيرهم. واجتمعوا عنده على عكا وجاء جماعة من جزيرة ابن عمر يتظلمون من سنجر شاه فخاف واستأذن في الانطلاق فاعتذر صلاح الدين بأن في ذلك افتراق هذه العساكر فألح عليه في ذلك وغدا عليه يوم الفطر مسلماً فوعده وانصرف وكان تقي الدين عمر بن شاه أخي صلاح الدين مقبلاً من حماة في عسكر فأرسل إليه صلاح الدين باعتراضه ورده طوعاً أو كرهاً فلقيه بقلعة فنك ورده كرهاً وكتب صلاح الدين إلى عز الدين صاحب الموصل بحصار جزيرة ابن عمر يظنها مكيدة فتلقاها بالمراجعة وطلب إقطاع الجزيرة فأسعفه وسار إليها وحاصرها أربعة أشهر فامتنعت عليه. ثم صالحه على نصف أعماله ورجع إلى الموصل والله تعالى أعلم. مسيرة عز الدين صاحب الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة ورجوعه عنها كان صلاح الدين قد ملك من بلاد الجزيرة حران والرها وسميساط وميافارقين وكانت بيد ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاه. ثم توفي تقي الدين فأقطعها أخاه العادل أبا بكر بن أيوب. ثم توفي صلاح الدين سنة تسع وثمانين فطمع عز الدين صاحب الموصل في ارتجاعها واستشار أصحابه فأشار عليه بعضهم بمعاجلتها وأن يستنفر أصحاب الأطراف لها مثل صاحب إربل وصاحب جزيرة ابن عمر وصاحب سنجار ونصيبين. ومن امتنع يعاجله حرباً ويعاجل البلد قبل أن يستعد أهلها للمدافعة. وأشار مجاهد الدين قايماز بمشاورة هؤلاء الملوك والعمل بإشارتهم فقبل من مجاهد الدين وكاتبهم فأشاروا بانتظار أولاد صلاح الدين وأن البلد في طاعته وأنه القائم بدولته وأنه بلغه أن صاحب ماردين تعرض لبعض بلاده فجهز جيشاً كثيفاً لقصد ماردين فوجموا الكتابة وتركوا الحركة. ثم بلغهم أنه بظاهر حران في خف من العسكر فتجهز للحركة عليه. ولما وقع الاتفاق مع سنجار جاءت عساكر الشام إلى العادل من الأفضل فامتنع وسار عز الدين في عساكر من الموصل إلى نصيبين واجتمع بأخيه عماد الدين وقد عسكر العادل قريباً منهم بمرج الريحان وخافهم فأقاموا أياماً كذلك. ثم طرق عز الدين المرض فترك العساكر مع أخيه عماد الدين وساروا إلى الموصل والله أعلم. |
وفاة عز الدين صاحب الموصل وولاية ابنه نور الدين
ولما رجع عز الدين إلى الموصل أقام بها مدة شهرين واشتد مرضه فتوفي آخر شعبان سنة تسع وثمانين وولى ابنه نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن الأتابك زنكي وفاة عماد الدين صاحب سنجار وولاية قطب الدين ثم توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن الأتابك زنكي صاحب سنجار والخابور ونصيبين والرقة وسروج وهي التي عوضه صلاح الدين عن حلب لما أخذها منه. توفي في محرم سنة أربع وتسعين وملك بعده ابنه قطب الدين وتولى تدبير دولته مجاهد برتقش مولى أبيه. وكان ديناً خيراً عادلاً متواضعاً محباً لأهل العلم والدين معظماً لهم وكان متعصباً على الشافعية حتى إنه بنى مدرسة للحنفية بسنجار وكان حسن السيرة والله تعالى أعلم. استيلاء نور الدين صاحب الموصل على نصيبين كان عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين قد امتدت أيدي نوابه بنصيبين إلى قرى من أعمال الموصل تجاورهم وبعث إليه في ذلك مجاهد الدين قايماز صاحب دولة الموصل يشكو إليه نوابه سراً من سلطانه نور الدين فلج عماد الدين في ادعاء أنها من أعماله وأساء الرد فأعاد نور الدين الرسالة إليه مع بعض مشايخ دولته وقد طرقه المرض فأجاب مثل الأول فنصح الرسول وكان من بقية الأتابك زنكي. وعاد إلى فأغلظ له في القول واعتزم نور الدين على المسير إلى نصيبين ووصل الخبر إثر ذلك بوفاة عماد الدين وولاية ابنه قطب الدين فقوي طمع نور الدين في نصيبين وتجهز لها في جمادى سنة أربع وتسعين. وسار قطب الدين بن سنجر في عسكره فسبقه نور الدين إلى نصيبين. فلما وصل لقيه فهزمه نور الدين ودخل إلى قلعة نصيبين مهزوماً. ثم أسرى منها إلى حران ومعه نائبه مجاهد الدين برتقش وكاتبوا العادل أبا بكر بن أيوب يستحثونه من دمشق. وأقام نور الدين بنصيبين حتى وصل العادل إلى الجزيرة ففارقها إلى الموصل في رمضان من السنة. وعاد قطب الدين إليها. وكان الموتان قد وقع في عسكر نور الدين فمات كثير من أمراء الموصل. ومات مجاهد الدين قايماز القائم بالدولة. ولما عاد نور الدين إلى الموصل وعاد قطب الدين إلى نصيبين سار العادل إلى ماردين فحاصرها أياماً وضيق عليها ثم انصرف والله تعالى أعلم. هزيمة الكامل بن العادل على ماردين أمام نور الدين صاحب الموصل وبني عمه ملوك الجزيرة لما رحل العادل عن ماردين كما قدمناه جمر العساكر عليها للحصار مع ابنه الكامل وعظم ذلك على هلوك الجزيرة وديار بكر وخافوا أن ملكها يغلبهم على أمرهم ولم يكن سار من سار معه منهم عند اشتغاله بحرب نور الدين إلا تقية لكثرة عساكره. فلما رجع إلى دمشق وبقي الكامل على ماردين استهانوا بأمره وطمعوا في مدافعته. وأغراهم بذلك الظاهر والأفضل ابنا صلاح الدين لفتنتهم مع عمهم العادل. فتجهز نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل وسار أول شعبان سنة خمس وتسعين وانتهى إلى دبيس فأقام بها ولحق به ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار وابن عمه الآخر سنجار شاه ابن غازي صاحب جزيرة ابن عمر حتى إذا انقضى عيد الفطر ارتحلوا وتقدموا إلى مزاحمة الكامل على ماردين. وكان أهل ماردين خلال ذلك قد ضاق مخنقهم وجهدهم الحصار وبعث النظام المستولي على دولة صاحبها إلى الكامل يراوده في الصلح وتسليم القلعة له إلى أجل سماه على أن يبيح لهم بقوتهم من الميرة فأسعفهم بذلك وبينما هم في ذلك جاءهم خبر العساكر فامتنعوا وزحف الكامل مهزوماً إلى معسكره بالربض فخرج أهل القلعة إليهم وقاتلوهم إلى المساء ثم أجفل الكامل من ليلته منتصف شوال وعاد إلى بلاده ونهب أهل القلعة مخلفه وخرج صاحب ماردين وهو بولو أرسلان ابن أبي الغازي فلقي نور الدين وشكره وعاد إلى حصنه ورجع نور الدين وأصحابه إلى تستر. ثم سار منها إلى رأس عين فقدم عليها هنالك رسول الظاهر بن صلاح الدين من حلب يطلب له منه السكة والخطبة فوجم لذلك وثنى عزمه عن مظاهرتهم. ثم طرقه المرض فبعث إليهم بالعذر وعاد إلى الموصل في ذي الحجة آخر السنة والله تعالى أعلم. مسير نور الدين صاحب الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة ثم إن الملك العادل ملك مصر سنة ست وتسعين من يد الأفضل ابن أخيه فخشيه الظاهر صاحب حلب وصاحب ماردين وراسلوا نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق وأن يسير إلى بلاد العادل بالجزيرة حران والرها والرقة وسنجار فسار نور الدين لملكها في شعبان سنة سبع وتسعين. وسار معه ابن عمه قطب الدين سنجار وحسام الدين صاحب ماردين وانتهوا إلى رأس العين وكان بحران الفائز بن العادل في عسكر فأرسل إلى نور الدين في الصلح فبادر إلى الإجابة لما وقع في عسكره من الموتان واستحلفهم وحلف لهم. وبعثوا إلى العادل فحلف وعاد نور الدين إلى الموصل في ذي القعدة من السنة والله تعالى أعلم. هزيمة نور الدين صاحب الموصل أمام معسكر العادل لم يزل الملك العادل يراسل قطب الدين صاحب سنجار ويستميله إلى أن خطب له في أعماله سنة ستمائة فسار نور الدين صاحب الموصل إلى نصيبين من أعمال قطب الدين فحاصرها وملك المدينة. وأقام يحاصر القلعة فبينما هو قد قارب فتحها بلغه الخبر من نائبه بالموصل بأن مظفر الدين كوكبرى صاحب إربل من أعمال الموصل فرحل عن نصيبين معتزماً على قصد إربل فلم يجد كل الخبر صحيحاً فسار إلى تل أعفر من أعمال سنجار فحاصرها وملكها. وكان الأشرف موسى بن العادل قد سار من حران إلى رأس العين نجدة لصاحب سنجار. وقد اتفق معه على ذلك مظفر الدين صاحب إربل وصاحب كيفا وآمد وصاحب جزيرة ابن عمر وتراسلوا وتواعدوا للاجتماع. فلما ارتحل نور الدين عن نصيبين اجتمعوا عليها وجاءهم أخو الأشرف نجم الدين صاحب ميافارقين وساروا إلى البقعا من تل أعفر إلى كفر رقان. وقصده المطاولة حتى جاءه بعض عيونه فقللهم في عينه وأطمعه فيهم وكان من مواليه فوثق بقوله ورحل إلى نوشري قريباً منهم. وتراءى المجمعان فالتقوا وانهزم نور الدين ونجا في فل قليل ونزلت العساكر كفر رقان ونهبوا مدينة فيد وما إليها وأقاموا هنالك. وترددت الرسل في الصلح على أن يعيد نور الدين تل أعفر لقطب الدين صاحب سنجار فأعادها واصطلحوا سنة إحدى وستمائة ورجع كل إلى بلده. والله تعالى ولي التوفيق. مقتل سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر وولاية ابنه محمود بعده كان سنجر شاه بن غازي بن مودود بن الأتابك زنكي صاحب جزيرة ابن عمر وأعمالها أوصى له بها أبوه عند وفاته كما مر وكان سيئ السيرة غشوماً ظلوماً مرهف الحد على رعيته وجنده وحرمه وولده كثير القهر لهم والانتقام منهم فاقد الشفقة على بنيه حتى غرب ابنيه محموداً ومودوداً إلى قلعة فرج من بلاد الزوزان لتوهم توهمه فيهما. وأخرج ابنة غازي إلى دار بالمدينة ووكل به فساءت حاله. وكانت الدار كثيرة الخشاش فضجر من حاله وتناول حية وبعثها إلى أبيه فلم يعطف عليه فتسلل من الدار واستخفى في المدينة وبعث إلى نور الدين صاحب الموصل من أوهمه بوصوله إليه فبعث إليه بنفقة وردة خوفاً من أبيه وترك أبوه طلبه لما شاع أنه بالشام فلم يزل غازي يعمل الحيلة حتى دخل دار أبيه واختفى عند بعض حظاياه وطرق عليه الخلاء في بعض الليالي وهو سكران فطعنه أربع عشرة طعنة. ثم ذبحه وأقام مع الحرم. وعلم استاذ الدولة من خارج بالخبر فأحضر أعيان الدولة وأغلق أبواب القصر وبايع الناس لمحمود بن سنجر شاه واستدعاه وأخاه مودوداً من قلعة فرج. ثم دخلوا إلى غازي وقتلوه. ووصل محمود فملكوه ولقبوه معن الدين لقب أبيه وعمد إلى الجواري التي واطأت على قتل أبيه فغرقهن في الدجلة والله تعالى أعلم. استيلاء العادل على الخابور ونصيبين من أعمال صاحب سنجار وحصاره إياه كان بين قطب الدين محمود بن زنكي بن مودود وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة قد مر كثير من أخبارها. ولما كانت سنة خمس وستمائة أصهر العادل بن أيوب صاحب مصر والشام إلى نور الدين في ابنته فزوجها نور الدين من ابنه واستكثر به وطمح إلى الاستيلاء على جزيرة ابن عمر فأغرى العادل بأن يظاهره على ولاية ابن عمه قطب الدين سنجر وتكون ولاية قطب الدين وهي سنجار ونصيبين والخابور للعادل. وتكون ولاية غازي بن سنجر شاه لنور الدين صاحب الموصل فأجاب إلى ذلك العادل وأطمع نور الدين في أنه يقطع ولاية قطب الدين إذا ملكها لابنه الذي هو صهره على ابنته وتحالفا على ذلك. وسار العادل سنه ست وستمائة من دمشق لملك الخابور. وراجع نور الدين رأيه فإذا هو قد تورط وأنه يملك البلاد كما يحب دونه إن وفى له. وسار نور الدين إلى الجزيرة فربما حال بنو العادل بينه وبين الموصل وإن انتقض نور الدين عليه سار إليه فاضطرب في أمره وملك العادل الخابور ونصيبين. واعزم قطب الدين على أن يعتاض منه عن سنجار ببعض البلاد فمنعه من ذلك أحمد بن برتقش مولى أبيه وجهز نور الدين عسكراً مع ابنه القاهر مدداً للعادل كما اتفقا عليه. وفي خلال ذلك بعث قطب الدين سنجر ابنه إلى مظفر الدين صاحب إربل يستنجده فأرسل إلى العادل شافعاً في أمره فلم يشفعه لمظاهرة نور الدين إياه فغضب مظفر الدين وأرسل إلى نور الدين في المساعدة على دفاع العدو فأجاب نور الدين إلى ذلك ورجع عن مظاهرة العادل. وأرسل هو ومظفر الدين إلى الطاهر بن صلاح الدين صاحب حلب والي كسنجر بن قليج أرسلان صاحب الروم يستنجدانهما فأجاباهما وتداعوا إلى قصد بلاد العادل إن لم يرحل عن سنجار. وبعث الخليفة الناصر أستاذ الدار أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك والأمير اقناش من خواص مواليه في الإفراج عن سنجار وتخاذل أصحابه عن مضايقة سنجار معه وسيما أسد الدين شيركوه صاحب حمص والرحبه فإنه جاهر بخلافه في ذلك فأجاب العادل في الصلح على أن تكون نصيبين والخابور اللذان ملكهما له وتبقى سنجار لقطب الدين وتحالفوا على ذلك ورجع العادل إلى حران ومظفر الدين إلى إربل والله تعالى أعلم. |
وفاة نور الدين صاحب الموصل وولاية ابنه القاهر
ثم توفي نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن الأتابك زنكي منتصف سنة سبع وستمائة لثمان عشرة سنة من ولايته وكان شهماً شجاعاً مهيباً عند أصحابه حسن السياسة لرعيته. وجدد ملك آبائه بعد أن أشفى على الذهاب. ولما احتضر عهد بالملك لإبنه عز الدين مسعود وهو ابن عشرين سنة وأوصاه أن يتولى تدبير ملكه مولاه بدر الدين لؤلؤ لما فيه من حسن السياسة. وكان قائماً بأمره منذ توفي مجاهد الدين قايماز وأوصى لولده الأصغر عماد الدين بقلعة عقر الحميدية وقلعة شوش وولايتها ولفته إلى العقر. فلما توفي نور الدين بايع الناس ابنه عز الدين مسعوداً ولقبوه القاهر واستقر ملك الموصل. وأعمالها له وقام بدر الدين لؤلؤ بتدبير دولته والبقاء لله وحده. لما توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن الأتابك زنكي صاحب الموصل آخر ربيع الأول سنة خمس عشرة وخمسمائة لثمان سنين من ولايته بعد أن عهد بالملك لابنه الأكبر نور الدين أرسلان شاه وعمره عشرون سنة وجعل الوصي عليه والمدبر لدولته لؤلؤاً كما كان في دولة القاهر وابنه نور الدين فبايع له وقام بملكه. وأرسل إلى الخليفة في التقليد والخلع على العادة فوصلت وبعث إلى الملوك في الأطراف في تجديد العهد كما كان بينهم وبين سلفه وضبط أموره. وكان عمه نور الدين زنكي أرسلان شاه بقلعة عقر الحميدية لا يشك في مصير السلطان له عن ذلك واستقامت أموره وأحسن السيرة وسمع شكوى المتظلمين وأنصفهم ووصل في تقليد الخليفة لنور الدين اسناد التتر في أموره لبدر الدين لؤلؤ والله أعلم. استيلاء عماد الدين صاحب عقر على قلاع الهكارية والزوزان كان عماد الدين زنكي قد ولاه أبوه قلعتي العقر والشوش قريباً من الموصل وأوصى له بهما وعهد بالملك لابنه الأكبر القاهر. فلما توفي القاهر كما ذكرنا طمح زنكي إلى الملك وكان يحدث به نفسه فلم يحصل له. وكان بالعمادية نائب من موالي جده مسعود فداخله في الطاعة له. وشعر بذلك بدر الدين لؤلؤ فعزل ذلك النائب وبعث إليها أميراً أنزله بها وجعل فيها نائباً من قبله. واستبد بالنواب في غيرها. وكان نور الدين بن القاهر لا يزال عليلاً لضعف مزاجه وتوالي الأمراض عليه فبقي محتجباً طول المدة. فأرسل زنكي إلى نور الدين بالعمادية يشيع موته ويقول أنا أحق بملك سلفي فتوهموا صدقه وقبضوا على نائب لؤلؤ ومن معه وسلموا البلد لعماد الدين زنكي منتصف رمضان سنة خمس عشرة. وجهز لؤلؤ العساكر وحاصروه بالعمادية في فصل الشتاء وكلب البرد وتراكم الثلج ولم يتمكنوا من قتاله. وظاهره مظفر الدين صاحب إربل على شأنه وذكر لؤلؤاً بالعهد الذي بينهما أن لا يتعرض لأعمال الموصل والنص فيها على قلاع الهكارية والزوزان مظاهر لهم على من يتعرض لها فلج في مظاهرته واعتمد نقض العهد وأقام العسكر محاصراً لزنكي بالعمادية. وتقدموا بعض الليالي وركبوا الأوعار إليه فبرز إليهم أهل العمادية وهزموهم في المضايق والشعاب فعادوا إلى الموصل وأرسل عماد الدين قلاع نارية والزوزان في الطاعة له فأجابوه وملكها وولى عليها والله أعلم. مظاهرة الأشرف بن العادل للؤلؤ صاحب الموصل ولما استولى عماد الدين زنكي على قلاع الهكارية والزوزان وظاهره مظفر الدين صاحب إربل خاف لؤلؤ غائلته فبعث بطاعته إلى الأشرف موسى بن العادل وقد ملك أكثر بلاد الجزيرة وخلاط وأعمالها ويسأله المعاضدة فأجابه. وكان يومئذ يجلب في مدافعة كيكاوس صاحب بلاد الروم من أعمالها فأرسل إلى مظفر الدين بالنكير عليه فيما من نقضه العهد الذي كان بينهم جميعاً كما مر ويعزم عليه في إعادة ما أخذ من بلاد الموصل ويتوعده إن أصر على مظاهرة زنكي بقصد بلاده فلم يجب مظفر الدين إلى ذلك واستألف على أمره صاحب ماردين وناصر الدين محموداً صاحب كيفا وآمد فوافقوه وفارقوا طاعة الأشرف في ذلك فبعث الأشرف عساكره إلى نصيبين لانجاد لؤلؤ متى احتاج إليه والله تعالى أعلم. واقعة عساكر لؤلؤ بعماد الدين ولما عاد عسكر الموصل عن حصار العمادية خرج زنكي إلى قلعة العقر ليتمكن من أعمال الموصل الصحراوية إذ كان قد فرغ من أعمالها الجبلية وأمده مظفر الدين صاحب إربل بالعساكر وعسكر جند الموصل على أربع فراسخ من البلد من ناحية العقر. ثم اتفقوا على المسير إلى زنكي وصبحوه آخر المحرم سنة ست عشرة وستمائة وهزموه فلحق بإربل وعاد الرسل إلى مكانهم. ووصل رسل الخليفة الناصر والأشرف ابن العادل في الصلح بينهما فاصطلحوا وتحالفوا والله تعالى أعلم. وفاة نور الدين صاحب الموصل وولاية أخيه ناصر الدين لما توفي نور الدين أرسلان شاه بن الملك القاهر كما قدمنا من سوء مزاجه واختلاف الأسقام عليه فتوفي قبل كمال الحول. ونصب لؤلؤ مكانه أخاه ناصر الدين محمد بن القاهر في سن الثلاث واستحلف له الجند وأركبه في الموكب فرضي به الناس لما أبلوا من عجز أخيه عن الركوب لمرضه والله تعالى ولي التوفيق. هزيمة لؤلؤ صاحب الموصل من مظفر الدين صاحب إربل ولما توفي نور الدين ونصب لؤلؤ أخاه ناصر الدين محمداً على صغر سنه تجدد الطمع لعماد الدين عمه ولمظفر الدين صاحب إربل في الاستيلاء على الموصل وتجهزوا لذلك. وعاثت سراياه في نواحي الموصل. وكذا لؤلؤ قد بعث ابنه الأكبر في العساكر نجدة للملك الأشرف وهو يقصد بلاد الإفرنج بالسواحل ليأخذ بحجزتهم عن إمداد إخوانهم بدمياط عن أبيه الكامل بمصر فبادر لؤلؤ إلى عسكر الأشرف الذين ينصيبين واستدعاهم فجاؤوا إلى الموصل منتصف سنة عشر وستمائة وعليهم أيبك مولى الأشرف فاستقلهم لؤلؤ ورآهم مثل عسكره الذين بالشام ودونهم. وألح أيبك على عبور دجلة إلى إربل فمنعه أياماً فلما أصر عبر لؤلؤ معه ونزلوا على فرسخين من الموصل شرقي دجلة وجمع مظفر الدين زنكي وعبروا الزاب وتقدم إليهم أيبك في سكره وأصحاب لؤلؤ وسار منتصف الليل من رجب وأشار عليه لؤلؤ بانتظار الصباح فلم يفعل ولقيهم بالليل. وحمل أيبك على زنكي في الميسرة فهزمه. وانهزمت ميسرة لؤلؤ فبقي في نفر قليل فتقدم إليه مظفر الدين فهزمه وعبر دجلة إلى الموصل. وظهر مظهر الدين على تبريز ثلاثاً. لؤلؤاً يريد تبييته فأجفل راجعاً وترددت الرسل بينهما فاصطلحا على أن يبقى لكل ما بيده والله أعلم. وفاة صاحب سنجار وولاية ابنه ثم مقتله وولاية أخيه ثم توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود بن الأتابك زنكي صاحب سنجار في ثامن صفر سنة ست عشرة وستمائة وكان حسن السيرة مسلماً إلى نوابه. وملك بعده ابنه عماد الدين شاهين شاه واشتمل الناس عليه شهوراً. ثم سار إلى تل أعفر فاغتاله أخوه عمر دخل إليه في جماعة فقتلوه وملك بعده. وبقي مدة إلى أن تسلم الأشرف بن العادل مدينة سنجار في جمادى سنة سبع عشر وستمائة والله أعلم. استيلاء عماد الدين على قلعة كواشي ولؤلؤ على تل أعفر والأشرف على سنجار كانت كواشي من أحسن قلاع الموصل وأمنعه وأعلاه ولما رأى الجند الذين بها بعد أهل العمادية واستبدادهم بأنفسهم طمعوا في مثل ذلك وأخرجوا نواب لؤلؤ عنهم وتمسكوا بإظهار الطاعة على البعد خوفاً على رهائنهم بالموصل. ثم استدعوا عماد الدين زنكي وسلموا له القلعة وأقام عندهم وبعث لؤلؤ إلى مظفر الدين يذكره العهود التي لم يجز ثلمها بعد فأعرض وأرسل إلى الأشرف بحلب يستنجده فسار وعبر الفرات إلى حران. وكان مظفر الدين صاحب إربل يراسل الملوك بالأطراف ويغريهم بالأشرف ويخوفهم غائلته. ولما كان بين كيكاوس بن كنخسرو صاحب الروم من الفتنة ما نذكره في أخباره وسار كيكاوس إلى حلب دعا مظفر الدين الملوك بناحيته إلى وفاق كيكاوس مثل صاحب كيفا وآمد وصاحب ماردين فأطاعوه وخطبوا له في أعمالهم. ومات كيكاوس وفي نفس الأشرف منه ومن مظفر الدين ما في نفسه. ولما سار الأشرف إلى حران لمظاهرة لؤلؤ وأرسل مظفر الدين جماعة من أمرائه مثل أحمد بن علي المشطوب وعز الدين محمد بن بدر الحميدي وغيرهما واستمالهم ففارقوا الأشرف ونازلوا دبيس تحت ماردين ليجتمعوا مع ملوك الأطراف لمدافعة الأشرف. واستمال الأشرف صاحب آمد وأعطاه مدينة حالى وجبل حودي ووعده بداراً إذا ملكها فأجاب وفارقهم إليه. واضطر آخرون منهم إلى طاعته فانحل أمرهم. وانفرد ابن المشطوب بمشاقة الأشرف فقصد إربل ومر بنصيبين فقاتله شيخ بها فانهزم إلى سنجار فأسره صاحبها. وأطلقه فجمع المفسدين وقصد البقعا من أعمال الموصل فاكتسح نواحيها وعاد. ثم سار من سنجار ثانية إلى الموصل وأرصد له لؤلؤ عسكراً فاعترضوه فهزمه واجتاز بتل أعفر من أعمال سنجار فأقاموا عليها وبعثوا إلى لؤلؤ فسار وحاصرها وملكها في ربيع سنة سبع عشرة وستمائة وأسر ابن المشطوب وجاء به إلى الموصل. ثم بعث به إلى الأشرف فحبسه بحران سنين وهلك في محبسه. ولما أطاع صاحب آمد الأشرف رحل من حران إلى ماردين ونزل دبيس وحاصر ماردين ومعه صاحب آمد. وترددت الرسل بينه وبين صاحب ماردين على أن يرد عليه رأس العين. وكان الأشرف قد أقطعها له على أن يحمل إليه ثلاثين ألف دينار وأن يعطي لصاحب آمد الورزني بلد وانعقد الصلح بينهما وارتحل الأشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل فلقيه رسل صاحب سنجار يطلب من يتسلمها منه على أن يعوضه الأشرف منها بالرقة بما أدركه من الجوف عند استيلاء لؤلؤ على تل أعفر ونفرة أهل دولته عنه لقتله أخاه كما ذكرناه. فأجابه الأشرف وأعطاه الرقة وملك سنجار في جمادى سنة سبع عشرة وستمائة ورحل عنها بأهله وعشيرته وانقراض أمر بني زنكي منها بعد أربع وتسعين سنة والبقاء لله وحده. ولما ملك الأشرف سنجار سار إلى الموصل ووافاه بها رسل الخليفة الناظر ومظفر الدين صاحب إربل في الصلح ورد القلاع المأخوذة من إيالة الموصل على صاحبها لؤلؤ ما عدا العمادية فتبقى بيد زنكي. وتردد الحديث في ذلك شهرين ولم يتم فرحل الأشرف بقصد إربل حتى قارب نهر الزاب. وكان العسكر قد ضجروا سوء صاحب آمد مع مظفر الدين فأشار بإجابته إلى ما سأل ووافق على ذلك أصحاب الأشرف فانعقد الصلح وساق زنكي إلى الأشرف رهينة على ذلك. وسلمت قلعة العقر وشوش لنواب الأشرف وهما لزنكي رهناً أيضاً. وعاد الأشرف إلى سنجار في رمضان سنة سبع عشرة. وبعثوا إلى القلاع فلم يسلمها جندها وامتنعوا بها. واستجار عماد الدين زنكي بشهاب ابن العادل فاستعطف له أخاه الأشرف فأطلقه ورد عليه قلعتي العقر وشوش. وصرف نوابه عنهما. وسمع لؤلؤ الأشرف يميل إلى قلعة تل أعفر وأنها لم تزل لسنجار قديماً فبعث إليه بتسليمها والله تعالى أعلم. |
رجوع قلاع الهكارية والزوزان إلى طاعة صاحب الموصل
لما رأى زنكي أنه ملك قلاع الهكارية والزوزان وساوة فلم يروا عنده ما ظنوه من حسن السيرة كما يفعله لؤلؤ وطلبوه في الإقطاع فأجابهم. واستأذن الأشرف فلم يأذن له وجاء زنكي من عند الأشرف فحاصر العمادية ولم يبلغ منها غرضاً فأعادوا مراسلة لؤلؤ فاستأذن الأشرف وأعطاه قلعة جديدة ونصيبين وولاية ما بين النهرين وأذن له في تملك القلاع وأرسل نوابه إليها ووفى لهم بما عاهدهم عليه. وتبعهم بقية القلاع من أعمال الموصل فدخلوا كلهم في طاعة لؤلؤ وانتظم له ملكها والله تعالى أعلم. استيلاء صاحب الموصل على قلعة سوس كانت قلعة سوس وقلعة العقر متجاورتين على اثني عشر فرسخاً من الموصل وكانتا لعماد الدين زنكي بن نور الدين أرسلان شاه بوصية أبيه كما مر. وملك معهما قلاع الهكارية والزوزان ورجعت إلى الموصل وسار هو سنة تسعة عشر إلى أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان من بقية السلجوقية فسار معه وأقطع له الاقطاعات وأقام عنده فسار لؤلؤ من الموصل إلى قلعة سوس فحاصرها وضيق عليها. وامتنعت عليه فجمر العساكر لحصارها وعاد إلى الموصل. ثم اشتد الحصار بأهلها وانقطعت عنهم الأسباب فاستأمنوا إلى لؤلؤ ونزلوا له عنها على شروط اشترطوها وقبلها وبعث نوابه عليها والله تعالى أعلم. حصار مظفر الدين الموصل كان الأشرف بن العادل بن أيوب قد استولى على الموصل ودخل لؤلؤ في طاعته واستولى على خلاط وسائر أرمينية وأقطعها أخاه شهاب الدين غازي ثم جعله ولي عهده في سائر أعماله. ثم نشأت الفتنة بينهما فاستظهر غازي بأخيه المعظم صاحب دمشق وبمظهر الدين كوكبري. وتداعوا لحصار الموصل فجمع أخوهما الكامل عساكره وسار إلى خلاط فحاصرها بعد أن بعث إلى المعظم صاحب دمشق وتهدده فأقصر عن مظاهرة أخيه. واستنجد غازي مظفر الدين كوكبري صاحب إربل فسار إلى الموصل وحاصرها ليأخذ بحجزة الأشرف عن خلاط. ونهض المعظم صاحب دمشق لإنجاد أخيه غازي وكان لؤلؤ صاحب الموصل قد استعد للحصار فأقام عليها مظفر الدين عشراً. ثم رحل منتصف إحدى وعشرين لامتناعها عليه ولقيه الخبر بأن الأشرف قد ملك خلاط من يد أخيه فندم على ما كان منه. انتقاض أهل العمادية على لؤلؤ ثم استيلاؤه عليها قد تقدم لنا انتقاض أهل قلعة العمادية من أعمال الموصل سنة خمس عشرة ورجوعه إلى عماد الدين زنكي ثم عودهم إلى طاعة لؤلؤ فأقاموا على ذلك مدة. ثم عادوا إلى ديدنهم من التمريض في الطاعة وتجنوا على لؤلؤ بعزل نوابه فعزلهم مرة بعد أخرى. ثم استبد بها أولاد خواجا إبراهيم وأخوه فيمن تبعهم وأخرجوا من خالفهم وأظهروا العصيان على لؤلؤ فسار إليهم سنة اثنتين وعشرين وحاصرهم وقطع الميرة عنهم. وبعث عسكراً إلى قلعة هزوران وقد كانوا اتبعوا أهل العمادية في العصيان فحاصرهم حتى استأمنوا وملكها. ثم جهز العساكر إلى العمادية مع نائبه أمين الدين وعاد إلى الموصل واستمر الحصار إلى ذي القعدة من السنة. ثم راسلوا أمين الدين في الصلح على مال وأقطاع وعوض عن القلعة وأجاب لؤلؤ إلى ذلك. وكان أمين الدين قد وليها قبل ذلك فكان له فيها بطانة مستمدون على عهده ومكاتبته وسخط كثير من أهل البلد فعل أولاد خواجا إبراهيم واستئثارهم بالصلح دونهم فوجد أولئك البطانة سبيلاً إلى التسلط عليهم ودسوا لأمين الدين أن يبيت البلد ويصالحها فصالحهم فوثبوا بأولاد خواجا ونادوا بشعار لؤلؤ فصعد العسكر القلعة وملكها أمين الدين وبعث بالخبر إلى لؤلؤ قبل أن ينعقد اليمين مع وفد أولاد خواجا. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق. مسير مظفر الدين صاحب إربل إلى أعمال الموصل وعوده منها كان جلال الدين شكري بن خوارزم شاه قد غلبه التتر أول خروجهم سنة سبع عشرة وستمائة على خوارزم وخراسان وغزنة وفر أمامهم إلى الهند ثم رجع عنها سنة اثنتين وعشرين واستولى على العراق ثم على أذربيجان وجاور الأشرف بن العادل في ولايته بخلاط والجزيرة وحدثت بينهما الفتنة. وراسله أعيان الأشرف في الاغراء به مثل مظفر الدين صاحب إربل ومسعود صاحب آمد وأخيه المعظم صاحب دمشق. اتفقوا على ذلك وسار جلال الدين إلى خلاط وسار مظفر الدين إلى الموصل وانتهى إلى الزاب ينتظر الخبر عن جلال الدين وسار المعظم صاحب دمشق إلى حمص وحماة. وبعث لؤلؤ من الموصل يستنجد الأشرف فسار إلى حران ثم إلى دبيس فاكتسح أعمال ماردين. وكان جلال الدين قد بلغه انتقاض نائبه بكرمان فأغذ السير إليه وترك خلاط بعد أن عاث في أعمالها وفت ذلك في أعضاد الآخرين وعظمت سطوة الأشرف بهم. وبعث إليه أخوه المعظم وقد نازل حمص وحماة يتوعده بمحاصرتهما ومحاصرة مظفر الدين الموصل فرجع إلى ماردين ورجع الآخران عن حمص وحماة والموصل ولحق كل ببلده والله تعالى أعلم. |
مسير التتر في بلاد الموصل وإربل
ولما أوقع بجلال الدين خوارزم شاه على آمد سنة ثمان وعشرين وقتلوه ولم يبق لهم مدافع من الملوك ولا مانع انساحوا في البلاد طولاً وعرضاً ودخلوا ديار بكر واكتسحوا واد آمد وأرزن وميافارقين وحاصروا وملكوها بالأمان. ثم استباحوها وساروا إلى ماردين فعاثوا في نواحيها. ثم دخلوا الجزيرة واكتسحوا أعمال نصيبين. ثم مروا إلى سنجار فنهبوها ودخلوا الخابور واستباحوه. وسارت طائفة منهم إلى الموصل فاستباحوا مالها ثم أعمال إربل وأفحشوا فيها. وبرز مظفر الدين في عساكره واستمد عساكر موصل فبعث بها لؤلؤ! إليه. ثم عاد التتر عنهم إلى أذربيجان فعاد كل إلى بلاده والله أعلم. ثم توفي مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك صاحب إربل سنة تسع وعشرين لأربع وأربعين سنة من ولايته عليها أيام صلاح الدين بعد أخيه يوسف ولم يكن له ولد فأوصى بإربل للخليفة المستنصر فبعث إليها نوابه واستولى عليها وصارت من أعماله والله تعالى أعلم. بقية أخبار لؤلؤ صاحب الموصل كان عسكر خوارزم شاه بعد مهلكه سنة ثمان وعشرين على آمد لحقوا بصاحب الروم كيقباد فاستنجدهم وهلك سنة أربع وثلاثين وستمائة وولي ابنه كنخسرو فقبض على أميرهم ومر الباقون وانتبذوا بأطراف البلاد. وكان الصالح نجم الدين أيوب في حران وكيفا وآمد نائباً عن أبيه الملك العادل فرأى المصلحة في استضافتهم إليه قاستمالهم واستخدمهم بعد أن أذن أبوه له في ذلك. فلما مات أبوه سنة خمس انتقضوا ولحقوا بالموصل واشتمل عليهم لؤلؤ وسار معهم فحاصر الصالح بسنجار إلى الخوارزمية واستمالهم فرجعوا إلى طاعته على أن يعطيهم حران والرها ينزلون بها فأعطاهما إياهم وملكوهما ثم ملكوا نصيبين من أعمال لؤلؤ وبنو أيوب يومئذ متفرقون على كراسي الشام وبينهم من الأنفة والفرقة ما نتلو عليك قصصه في دولتهم. ثم استقر ملك سنجار للجواد يونس منهم وهو ابن مودود بن العادل أخذها من الصالح نجم الدين أيوب عوضاً عن دمشق واستولى لؤلؤ على سنجار من يده سنة سبع وثلاثين. ثم حدثت بين صاحب حلب وبين الخوارزمية فتنة ولجأوا يومئذ لصفيتهم خاتون بنت العادل فبعثت العساكر إليهم مع المعظم بوران شاه بن صلاح الدين فهزموا عساكره وأسروا ابن أخيه الأفضل ودخلوا حلب واستباحوها. ثم فتحوا منبج وعاثوا فيها وقطعوا الفرات من الرقة وهم يذهبون. وتبعهم عسكر دمشق وحمص فهزموهم وأثخنوا فيهم ولحقوا ببلدهم حران فسارت إليهم عساكر حلب واستولوا على حران. ولحق الخوارزمية بغانة وبادر لؤلؤ صاحب الموصل إلى نصيبين فملكها من أيديهم. ثم توفيت صفية بنت العادل سنة أربعين في حلب وكانت ولايتها بعد وفاة أبيها العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين فولي بعدها ابنه الناصر يوسف بن العزيز في كفالة مولاه حيال الخاتوني. فلما كانت سنة ثمان وأربعين وستمائة وقع بين عسكره وبين بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل حرب انهزم فيها لؤلؤ وملك الناصر نصيبين وقرقيسيا ولحق لؤلؤ بحلب. ثم زحف هلاكو ملك التتر إلى بغداد سنة وملكها وقتل الخليفة المستعصم واستلحم العلية من بغداد كما مر في أخبار الخلفاء. ويأتي في أخبار التتر وتخطى منها إلى أذربيجان فبادر لؤلؤ ووصل إليه بأذربيجان وآتاه طاعته وعاد إلى الموصل والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. وفاة صاحب الموصل وولاية ابنه الصالح ثم توفي بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع وخمسين وستمائة وكان يلقب الملك الرحيم وملك بعده على الموصل ابنه الصالح إسماعيل وعلى سنجار ابنه المظفر علاء الدين علي وعلى جزيرة ابن عمر ابنه المجاهد إسحاق وأبقاهم هلاكو عليها مدة ثم أخذها منهم ولحقوا بمصر فنزلوا على الملك الظاهر بيبرس كما نذكر في أخباره. وسار هلاكو إلى الشام فملكها وانقرضت دولة الأتابك زنكي وبنيه ومواليه من الشام والجزيرة أجمع كأن لم تكن والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والبقاء لله تعالى وحده والله تعالى أعلم. دولة بني أيوب الخبر عن دولة بني أيوب القائمين بالدولة العباسية وما كان لهم من الملك بمصر والشام واليمن والمغرب وأولية ذلك ومصائره هذه الدولة من فروع دولة بني زنكي كما تراه وجدهم هو أيوب بن شادي بن مروان بن علي بن عشرة بن الحسن بن علي بن أحمد بن علي عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحارث بن سنان بن عمر مرة بن عوف الحميري الدوسي هكذا نسبه بعض المؤرخين لدولتهم قال ابن الأثير إنهم من الأكراد الروادية. وقال ابن خلكان شادي أبوهم من أعيان درين وكان صاحبه بها بهروز فأصابه خصي من بعض أمرائه وفر حياء من المثلة فلحق بدولة السلطان مسعود بن محمد بن ملك الشاه وتعلق بخدمة داية بنيه حتى إذا هلك الداية أقامه السلطان لبنيه مقامه فظهرت كفايته وعلا في الدولة محله فبعث عن شادي بن مروان صاحبه لما بينهما من الألفة وأكيد الصحبة فقدم عليه. ثم ولي السلطان بهروز شحنة بغداد فسار إليها واستصحب شادي معه. ثم أقطعه السلطان قلعة تكريت فولي عليها شادي فهلك وهو وال عليها. وولى بهروز مكانه ابنه نجم الدين أيوب وهو أكبر من أسد الدين شيركوه فلم يزل والياً عليها. ولما زحف عماد الدين زنكي صاحب الموصل لمظاهرة مسعود على الخليفة المسترشد سنة عشرين وخمسمائة وانهزم الأتابك وانكفأ راجعاً إلى الموصل ومر بتكريت قام نجم الدين بعلوفته وازواده وعقد له الجسور على دجلة وسهل له عبورها. ثم إن شيركوه أصاب دماً في تكريت ولم يفده منه أخوه أيوب فعزله بهروز وأخرجهما من تكريت فلحقا بعماد الدين بالموصل فأحسن إليهما واقطعهما. ثم ملك بعلبك سنة اثنتين وثلاثين جعله نائباً بها ولم يزل بها أيوب. ولما مات عماد الدين زنكي سنة إحدى وأربعين زحف صاحب دمشق فخر الدين طغركين إلى بعلبك وحاصرها واستنزل أيوب منها على ما شرط لنفسه من الاقطاع وأقام معه بدمشق. وبقي شيركوه مع نور الدين محمود بن زنكي وأقطعه حمص والرحبة لاستطلاعه وكفايته وجعله مقدم عساكره. ولما صرف نظره إلى الاستيلاء على دمشق واعتزم على مداخلة أهلها وكان ذلك على يد شيركوه وبمكاتبته لأخيه أيوب وهو بدمشق فتم ذلك على أيديهما وبمحاولتهما وملكها سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وكانت دولة العلويين بمصر قد أخلقت جدتها وذهب استفحالها واستبد وزراؤها على خلفائها. فلم يكن الخلفاء يملكون معهم. وطمع الإفرنج في سواحلهم وأمصارهم لما نالهم من الهرم والوهن فمالوا عليهم وانتزعوا البلاد من أيديهم وكانوا يردون عليهم كرسي خلافتهم بالقاهرة ووضعوا عليهم الجزية وهم يتجرعون المصاب من ذلك ويتحملونه مع بقاء أمرهم. كاد الأتابك زنكي وقومه السلجوقية من قبله أن يمحوا دعوتهم ويذهبوا بدولتهم. وأقاموا من ذلك على مضض وقلق وجاء الله بدعوة العاضد آخرهم. وتغلب عليه بعد الصالح بن رزيك شاور السعدي وقتل رزيك بن صالح سنة ثمان وخمسين واستبد على العاضد. ثم نازعه الضرغام لتسعة أشهر من ولايته وغلبه وأخرجه من القاهرة فلحق بالشام ولحق بنور الدين صريخاً سنة تسع وخمسين وشرط له على نفسه ثلث الجباية بأعمال مصر على أن يبعث معه عسكراً يقيمون بها فأجابه إلى ذلك وبعث أسد الدين شيركوه في العساكر فقتل الضرغام ورد شاور إلى رتبته وآل أمرهم إلى محو الدولة العلوية وانتظام مصر وأعمالها في ملكة ابن أيوب بدعوة نور الدين محمود بن زنكي ويخطب للخلفاء العباسيين لما هلك نور الدين محمود واستبد صلاح الدين بأمره في مصر ثم غلب على بني نور الدين محمود وملك الشام من أيديهم وكثر عيث ابن عمهم مودود واستفحل ملكه وعظمت دولة بنيه من بعده إلى أن انقرضوا والبقاء لله وحده. مسير أسد الدين شيركوه إلى مصر و إعادة شاور إلى وزارته لما اعتزم نور الدين محمود صاحب الشام على صريخ شاور وإرسال العساكر معه واختار لذلك أسد الدين شيركوه بن شادي وكان من أكبر أمرائه فاستدعاه من حمص وكان أميراً عليها وهي أقطاعه وجمع له العساكر وأزاح عللهم. وفصل بهم شيركوه من دمشق في جمادى سنة تسع وخمسين. وسار نور الدين بالعساكر إلى بلاد الإفرنج ليأخذ بحجزتهم عن اعتراضه أو صده لما كان بينهم وبين صاحب مصر من الألفة والتظاهر ولما وصل أسد الدين بلبيس لقيه هنالك ناصر الدين أخو الضرغام وقاتله فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزوماً. وخرج الضرغام منسلخ جمادى الأخيرة فقتل عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها وقتل أخوه وأعاد شاور إلى وزارته وتمكن فيها. وصرف أسد الدين إلى بلده وأعرض عما كان بينهما فطالبه أسد الدين بالوفاء فلم يجب إليه فتغلب أسد الدين على بلبيس والبلاد الشرقية. وبعث شاور إلى الإفرنج يستنجدهم ويعدهم فبادروا إلى إجابته وسار بهم ملكهم مرى لخوفهم أن يملك أسد الدين مصر واستعانوا بجمع من الإفرنج جاؤوا لزيارة القدس. وسار نور الدين إليهم ليشغلهم فلم يثنهم ذلك وطمعوا لعزمهم ورزأ أسد الدين إلى بلبيس واجتمعت العساكر المصرية والإفرنج عليه وحاصروه ثلاثة أشهر وهو يغاديهم القتال ويراوحهم وامتنع عليهم وقصاراهم منع الأخبار عنه. واستنفر نور الدين ملوك الجزيرة وديار بكر وقصر حارم. وسار الإفرنج لمدافعته فهزمهم وأثخن فيهم. وأسر صاحب إنطاكية وطرابلس وفتح حارم قريباً من حلب. ثم سار إلى بانياس قريباً من دمشق ففتحها كما مر في أخبار نور الدين وبلغ الخبر بذلك إلى الإفرنج وهم محاصرون أسد الدين في بلبيس ففت في عزائمهم وطووا الخبر عنه وراسلوه في الصلح على أن يعود إلى الشام فصالحهم وعاد إلى الشام في ذي الحجة من السنة والله تعالى أعلم. |
مسير أسد الدين ثانياً إلى مصر وملكه الإسكندرية ثم صلحه عليها وعوده
ولما رجع أسد الدين إلى الشام لم يزل في نفسه ما كان من غدر شاور وبقي يشحن لغزوهم إلى سنة اثنتين وستين فجمع العساكر وبعث معه نور الدين جماعة من الأمراء وأكثف له العسكر خوفاً على حامية الإسلام وسار أسد الدين إلى مصر وانتهى إلى اطفيح وعبر منها إلى العدوة الغربية ونزل الجيزة وأقام نحواً من خمسين يوماً. وبعث شاور إلى الإفرنج يستمدهم على العادة وعلى ما لهم من التخوف من استفحال ملك نور الدين وشيركوه فسارعوا إلى مصر وعبروا مع عساكرها إلى الجيزة وقد ارتحل عنها أسد الدين إلى الصعيد وانتهى منها إلى واتبعوه وأدركوه بها منتصف اثنتين وستين. ولما رأى كثرة عددهم واستعدادهم مع تخاذل أصحابه فاستشارهم. فأشار بعضهم بعبور النيل إلى العدوة الشرقية والعود إلى الشام وأبى زعماؤهم إلا الاستماتة سيما مع خشية العتب من نور الدين وتقدم صلاح الدين بذلك وأدركهم القوم على تعبية وجعل صلاح الدين في القلب وأوصاه أن يندفع أمامهم ووقف هو في الميمنة مع من وثق باستماتته. وحمل القوم على صلاح الدين فسار بين أيديهم على تعبيته وخالفهم أسد الدين إلى مخلفهم فوضع السيف فيهم وأثخن قتلاً وأسراً. ورجعوا عن صلاح الدين يظنون أنهم ساروا منهزمين فوجدوا أسد الدين قد استولى على مخلفهم واستباحه فانهزموا إلى مصر. وسار أسد الدين إلى الإسكندرية فتلقاه أهلها بالطاعة واستخلف بها صلاح الدين ابن أخيه. وعاد إلى الصعيد فاستولى عليه وفرق العمال على جباية أمواله. ووصلت عساكر مصر والإفرنج إلى القاهرة وأزاحوا عللهم وساروا إلى الإسكندرية فحاصروا بها صلاح الدين وجهده الحصار. وسار أسد الدين من الصعيد لإمداده وقد انتقض عليه طائفة من التركمان من عسكره. وبينما هو في ذلك جاءته رسل القوم في الصلح على أن يرد عليهم الإسكندرية ويعطوه خمسين ألف دينار سوى ما جباه من أموال الصعيد فأجابهم إلى ذلك على أن يرجع الإفرنج إلى بلادهم ولا يملكوا من البلاد قرية فانعقد ذلك بينهم منتصف شوال. وعاد أسد الدين وأصحابه إلى الشام منتصف ذي القعدة. ثم شرط الإفرنج على أن ينزلوا بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بأيديهم ليتمكنوا من مدافعة نور الدين فضربوا عليه مائة ألف دينار في كل سنة جزية فقبل ذلك وعاد الإفرنج إلى بلادهم بسواحل الشام وتركوا بمصر جماعة من زعمائهم. وبعث الكامل أبا شجاع شاور إلى نور الدين بطاعته وأن يبث بمصر دعوته. وقرر على نفسه مالاً يحمل كل سنة إلى نور الدين فأجابه إلى ذلك وبقي شيعة له بمصر والله تعالى أعلم. استيلاء أسد الدين على مصر ومقتل شاور ولما ضرب الإفرنج الجزية على القاهرة ومصر وأنزلوا بها الشحنة وملكوا أبوابها تمكنوا من البلاد وأقاموا فيها جماعة من زعمائهم فتحكموا واطلعوا على عورات الدولة فطمعوا فيما وراء ذلك من الاستيلاء وراسلوا بذلك ملكهم بالشام واسمه مرى ولم يكن ظهر بالشام من الإفرنج مثله فاستدعوه لذلك وأغروه فلم يجبهم واستحثه أصحابه لملكها. وما زالوا يفتلون له في الذروة والغارب ويوهمونه القوة بتملكها على نور الدين ويريهم هو أن ذلك يؤول إلى خروج أصحابها عنها لنور الدين فبقي بها إلى أن غلبوا عليه. فرجع إلى رأيهم. وتجهز وبلغ الخبر نور الدين فجمع عساكره واستنفر من في ثغوره. وسار الإفرنج إلى مصر مفتتح أربع وستين فملكوا بلبيس عنوة في صفر واستباحوها وكاتبهم جماعة من أعداء شاور فأنسوا مكاتبتهم وساروا إلى مصر ونازلوا القاهرة. وأمر شاور بإحراق مدينة مصر لينتقل أهلها إلى القاهرة فيضبط الحمار فانتقلوا وأخذهم الحريق وامتدت الأيدي وانتهبت أموالهم واتصل الحريق فيها شهرين. وبعث العاضد إلى نور الدين يستغيث به فأجاب وأخذ في تجهيز العساكر فاشتد الحصار على القاهرة وضاق الأمر بشاور فبعث إلى ملك الإفرنج يذكره بقديمه وأن هواه معه دون العاضد ونور الدين ويسأل في الصلح على المال لنفور المسلمين مما سوى ذلك فأجابه ملك الإفرنج على ألف ألف دينار لما رأى من امتناع القاهرة وبعث إليهم شاور بمائة ألف منها وسألهم في الإفراج فارتحلوا. وشرع في جمع المال فعجز الناس عنه ورسل العاضد خلال ذلك تردد إلى نور الدين في أن يكون أسد الدين وعساكره حامية عنده وعطاؤهم عليه وثلث الجباية خالصة لنور الدين فاستدعى نور الدين أسد الدين من حمص وأعطاه مائتي ألف دينار وجهزه بما يحتاجه من الثياب والدواب والأسلحة وحكمه في العساكر والخزائن ونقل العسكر عشرين ديناراً لكل فارس وبعث معه من أمرائه مولاه عز الدين خردك وعز الدين قليج وشرف الدين مرعش وعز الدولة الباروقي وقطب الدين نيال بن حسان المنبجي وأمد صلاح الدين يوسف بن أيوب مع عمه أسد الدين فتعلل عليه واعتزم عليه فأجاب. وسار أسد الدين منتصف ربيع. فلما قارب مصر رجع الإفرنج إلى بلادهم فسر بذلك نور الدين وأقام عليه البشائر في الشام. ووصل أسد الدين القاهرة ودخلها منتصف جمادى الأخيرة ونزل بظاهرها ولقي العاضد وخلع عليه وأجرى عليه وعلى عساكره الجرايات والأتاوات. وأقام أسد الدين ينتظر شرطهم وشاور يماطله ويعلله بالمواعيد. ثم فاوض أصحابه في القبض على أسد الدين واستخدام جنده فمنعه ابنه الكامل من ذلك فأقصر. ثم أشرف أصحاب أسد الدين على اليأس من شاور وتفاوض أمراؤه في ذلك فاتفق صلاح الدين ابن أخيه وعز الدين خردك على قتل شاور وأسد الدين ينهاهم. وغدا شاور يوماً على أسد الدين في خيامه فألفاه قد ركب لزيارة تربة الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فتلقاه صلاح الدين وخردك وركبوا معه لقصد أسد الدين فقبضوا عليه في طريقهم وطيروا بالخبر إلى أسد الدين. وبعث العاضد لوقته يحرضهم على قتله فبعثوا إليه برأسه وأمر العاضد بنهب دوره فنهبها العامة. وجاء أسد الدين لقصر العاضد فخلع عليه الوزارة ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش. وخرج له من القصر منشور من إنشاء القاضي الفاضل البيساني وعليه مكتوب بخط الخليفة ما نصه هذا عهد لا عهد لوزير بمثله فتقلد ما رآك الله وأمير المؤمنين أهلا لحمله وعليك الحجة من الله فيما أوضح لك من مراشد سبله فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلاً ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً. ثم ركب أسد الدين إلى دار الوزارة التي كان فيها شاور وجلس مجلس الأمر والنهي وولى على الأعمال وأقطع البلاد للعساكر وأمن أهل مصر بالرجوع إلى بلادهم ورمها وعمارتها. وكاتب نور الدين بالواقع مفصلاً وانتصب للأمور. ثم دخل للعاضد وخطب الأستاذ جوهر الخصي عنه وهو يومئذ أكبر الأساتيذ فقال يقول لك مولانا نؤثر مقامك عندنا من أول قدومك وأنت تعلم الواقع من ذلك وقد تيقنا أن الله عز وجل ادخرك لنا نصرة على أعدائنا فحلف له أسد الدين على النصيحة وإظهار الدولة. فقال الأستاذ عن العاضد الأمر بيدك هذا وأكثر. ثم جددت الخلع واستخلص أسد الدين الجليس عبد القوي. وكان قاضي القضاة وداعي الدعاة واستحسنه واختصه. وأما الكامل بن شاور فدخل القصر مع أخوته معتصمين به وكان آخر العهد به وأسف أسد الدين عليه لما كان منه في رد أبيه وذهب كل بما كسب والله تعالى أعلم. وفاة أسد الدين وولاية ابن أخيه صلاح الدين ثم توفي أسد الدين شيركوه آخر جمادى الأخيرة من سنة أربع وسنتين لشهرين من وزارته. ولما احتضر أوصى أحد حواشيه بهاء الدين قراقوش فقال له الحمد لله الذي بلغنا من هذه الديار ما أردنا وصار أهلها راضين عنا فلا تفارقوا سور القاهرة ولا تفرطوا في الأسطول ولما توفي تشوف الأمراء الذين معه إلى رتبة الوزارة مكانه مثل عز الدولة الباروقي وشرف الدين المشطوب الهكاري وقطب الدين نيال بن حسان المنبجي وشهاب الدين الحارمي وهو خال صلاح الدين وجمع كل لمغالبة صاحبه. وكان أهل القصر وخواص الدولة قد تشاوروا فأشار جوهر بإخلاء رتبة الوزارة واصطفاء ثلاثة آلاف من عسكر الغز يقودهم قراقوش ويعطي لهم الشرقية إقطاعاً ينزلون بها حشداً دون الإفرنج من يستبد على الخليفة بل يقيم واسطه بينه وبين الناس على العادة. وأشار آخرون بإقامة صلاح الدين مقام عمه والناس تبع له ومال القاضي لذلك حياء من صلاح الدين وجنوحاً إلى صغر سنه وأنه لا يتوهم فيه من الاستبداد ما يتوهم في غيره من أصحابه وأنهم في سعة من رأيهم مع ولايته فاستدعاه وخلع عليه ولقبه الملك الناصر. واختلف عليه أصحابه فلم يطيعوه وكان عيسى الهكاري شيعة له واستمالهم إليه إلا الباروقي فإنه امتنع وعاد إلى نور الدين بالشام وثبتت قدم صلاح الدين في مصر وكان نائباً عن نور الدين ونور الدين يكاتبه بالأمير الاسفهسار ويجمعه في الخطاب مع كافة الأمراء بالديار المصرية. وما زال صلاح الدين يحسن المباشرة ويستميل الناس ويفيض العطاء حتى غلب على أفئدة الناس وضعف أمر العاضد. ثم أرسل يطلب أخوته وأهله من نور الدين فبعث بهم إليه من الشام. واستقامت أموره واطردت سعادته والله تعالى ولي التوفيق. واقعة السودان بمصر كان بقصر العاضد خصي حاكم على أهل القصر يدعى مؤتمن الخلافة فلما غص أهل الدولة بوزارة صلاح الدين داخل جماعة منهم وكاتب الإفرنج يستدعيهم ليبرز صلاح الدين لمدافعتهم فيثوروا بمخلفه. ثم يتبعونه وقد ناشب الإفرنج فيأتون عليه. وبعثوا الكتاب مع ذي طمرين حمله في نعاله فاعترضه بعض التركمان واستلبه ورأوا النعال جديدة فاسترابوا بها فجاؤوا به إلى صلاح الدين فقرأ الكتاب ودخل على كاتبه فأخبره بحقيقة الأمر فطوى ذلك. وانتظر مؤتمن الخلافة حتى خرج إلى بعض قراه متنزهاً وبعث من جاء برأسه ومنع الخصيان بالقصر عن ولاية أموره وقدم عليهم بهاء الدين قراقوش خصياً أبيض من خدمه وجعل إليه جميع الأمور بالقصر وامتعض السودان بمصر لمؤتمن الخلافة. واجتمعوا لحرب صلاح الدين. وبلغوا خمسة آلاف وناجزوا عسكره من القصر في ذي القعدة من السنة. وبعث إلى محلتهم بالمنصورة من أحرقها على أهليهم وأولادهم. فلما سمعوا بذلك انهزموا وأخذهم السيف في السكك فاستأمنوا وعبروا إلى الجيزة فسار إليهم شمس الدولة أخو صلاح الدين في طائفة من العسكر فاستلحمهم وأبادهم والله أعلم. منازلة الإفرنج دمياط وفتح إيلة ولما استولى صلاح الدين على دولة مصر وقد كان الإفرنج أسفوا على ما فاتهم من صده وصد عمه عن مصر وتوقعوا الهلاك من استطالة نور الدين عليهم بملك مصر فبعثوا الرهبان والأقسة إلى بلاد القرآنية يدعونهم إلى المدافعة عن بيت المقدس وكاتبوا الإفرنج بصقلية والأندلس يستنجدونهم فنفروا واستعدوا لامدادهم. واجتمع الذين بسواحل الشام في فاتح خمس وستين وثلاثمائة وركبوا في ألف من الأساطيل وأرسلوا لدمياط ليملكوها ويقربوا من مصر. وكان صلاح الدين قد ولاها شمس الخواص منكبرس فبعث إليه بالخبر فجهز إليها بهاء الدين قراقوش وأمراء الغز في البر متتابعين وواصل المراكب بالأسلحة والإتاوات وخاطب نور الدين يستمده لدمياط لأنه لا يقدر على المسير إليها خشية من أهل الدولة بمصر فبعث نور الدين إليها العساكر أرسالاً. ثم سار بنفسه وخالف الإفرنج إلى بلادهم بسواحل الشام فاستباحها وخربها. وبلغهم الخبر بذلك على دمياط وقد امتنعت عليهم ووقع فيهم الموتان فأقلعوا عنها لخمسين يوماً من حصارها. ورجع أهل سواحل الشام لبلادهم فوجدوها خراباً. وكان جملة ما بعثه نور الدين في المدد لصلاح الدين في شأن دمياط هذه ألف ألف دينار سوى الثياب والأسلحة وغيرها. ثم أرسل صلاح الدين إلى نور الدين في منتصف السنة يستدعي منه أباه نجم الدين أيوب فجهزه إليه مع عسكر واجتمع معهم من التجار جماعة. وخشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج الذين بالكرك فسار إلى الكرك وحاصرهم بها. وجمع الإفرنج الآخرون فصمد للقائهم فخاموا عنه وسار في وسط بلادهم وسار إلى عشيرا ووصل نجم الدين أيوب إلى مصر وركب العاضد لتلقيه. ثم سار صلاح الدين سنة ست وستين لغزو بلاد الإفرنج وأغار على أعمال عسقلان والرملة. ونهب نزول غزة ولقي ملك الإفرنج فهزمه وعاد إلى مصر. ثم أنشأ مراكب وحملها مفضلة على الجمال إلى أيلة فألفها وألقاها في البحر وحاصر أيلة براً وبحراً وفتحها عنوة في شهر ربيع من السنة واستباحها وعاد إلى مصر فعزل قضاة الشيعة وأقام قاضياً شافعياً فيها. وولى في جميع البلاد كذلك. ثم بعث أخاه شمس الدولة توران شاه إلى الصعيد فأغار على العرب وكانوا قد عاثوا وأفسدوا فكفهم عن ذلك والله تعالى أعلم. |
الخطبة العباسية بمصر
إقامة الخطبة العباسية بمصر ثم كتب نور الدين بإقامة الخطبة للمستضيئ العباسي وترك الخطبة للعاضد بمصر فاعتذر عن ذلك بميل أهل مصر للعلويين وفي باطن الأمر خشي من نور الدين فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك ولم تسعه مخالفته وأحجم عن القيام بذلك. ورد على صلاح الدين شخص من علماء الأعاجم يعرف بالخبشاني ويلقب بالأمير العالم فلما رآهم ومحجمين عن ذلك صعد المنبر يوم الجمعة قبل الخطيب ودعا للمستضيئ فلما كانت الجمعة القابلة أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد والخطبة للمستضيئ فتراسلوا بذلك ثاني جمعة من المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة. وكان المستضيئ قد ولي الخلافة بعد أبيه المستنجد في ربيع من السنة قبلها. ولما خطب له بمصر كان العاضد مريضاً فلم يشعروه بذلك. وتوفي يوم عاشوراء من السنة. ولما خطب له على منابر مصر جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره ووكل به بهاء الدين قراقوش وكان ذلك من الذخائر ما يعز وجوده. مثل حبل الياقوت الذي وزن كل حصاة منه سبعة عشر مثقالاً ومصاف الزمرد الذي طوله أربعة أصابع طولاً في عرض ومثل طبل القولنج الذي يضربه ضاربه فيعافى بذلك من داء القولنج وكسروه لما وجدوا ذلك منه فلما ذكرت لهم منفعته ندموا عليه ووجدوا من الكتب النفيسة ما لا يعد. ونقل أهل العاضد إلى بعض حجر القصر ووكل بهم وأخرج الإماء والعبيد وقسمهم بين البيع والهبة والعتق. وكان العاضد لما اشتد مرضه استدعاه فلم يجب داعيه وظنها خديعة فلما توفي ندم وكان يصفه بالكرم ولين الجانب وغلبة الخير على طبعه والانقياد. ولما وصل الخبر إلى بغداد أياماً للمستضيئ ضربت البشائر وزينت بغداد أياماً وبعثت الخلع لنور الدين وصلاح الدين مع صندل الخادم من خواص المقتفي فوصل إلى نور الدين وبعث بخلعة صلاح الدين وخلع الخطباء بمصر والأعلام السود والله تعالى أعلم. الوحشة بين صلاح الدين ونور الدين قد كان تقدم لنا ذكر هذه الوحشة في أخبار نور الدين مستوفاة وأن صلاح الدين غزا بلاد الإفرنج سنة سبع وستين وحاصر حصن الشوبك على مرحلة من الكرك حتى استأمنوا إليه فبلغ ذلك نور الدين فاعتزم على قصد بلاد الإفرنج من ناحية أخرى فارتاب صلاح الدين في أمره وفي لقاء نور الدين وإظهار طاعته وما ينشأ عن ذلك من تحكمه فيه فأسرع العود إلى مصر واعتذر لنور الدين بشيء بلغه عن شيعة العلويين ليعتز له نور الدين وأخذ في الاستعداد لعزله. وبلغ ذلك صلاح الدين وأصحابه فتفاوضوا في مدافعته ونهاهم أبوه نجم الدين أيوب وأشار بمكاتبته والتلطف له مخافة أن يبلغه غير ذلك فيقوى عزمه على العمل به ففعل ذلك صلاح الدين فسالمه نور الدين. وعادت المخالطة بينهما كما كانت واتفقا على اجتماعهما لحصار الكرك فسار صلاح الدين لذلك سنة ثمان وستين وخرج نور الدين من دمشق بعد تجهز. فلما انتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك وبلغ صلاح الدين خبره ارتابه ثانياً وجاءه الخبر بمرض نجم الدين أبيه بمصر فكر راجعاً وأرسل إلى نور الدين الفقيه عيسى الهكاري بما وقع من حديث المرض بأبيه وأنه رجع من أجله فأظهر نور الدين القبول وعاد إلى دمشق والله تعالى أعلم. وفاة نجم الدين أيوب كان نجم الدين أيوب بعد انصرف ابنه صلاح الدين إلى مصر أقام بدمشق عند نور الدين ثم بعث عنه ابنه صلاح الدين عندما استوثق له ملك مصر فجهزه نور الدين سنة خمس وستين في عسكره. وسار لحصار الكرك ليشغل الإفرنج عن اعتراضه كما مر ذكره. ووصل إلى مصر وخرج العاضد لتلقيه وأقام مكرماً. ثم سار صلاح الدين إلى الكرك سنة ثمان وستين المرة الثانية في مواعدة نور الدين وأقام نجم الدين بمصر وركب يوماً في مركب وسار ظاهر البلد والفرس في غلواء مراحه وملاعبة ظله فسقط عنه وحمل وقيذاً إلى بيته فهلك لأيام منها آخر ذي الحجة من السنة. وكان خيراً جواداً محسناً للعلماء والفقراء ومد تقدم ذكر أوليته والله ولي التوفيق. استيلاء قراقوش على طرابلس الغرب كان قراقوش من موالي تقي الدين عمر بن شاه بن نجم الدين أيوب وهو ابن أخي صلاح الدين فغضب مولاه في بعض النزعات وذهب مغاضباً إلى المغرب ولحق بجبل نفوسة من ضواحي طرابلس الغرب. وأقام هنالك دعوة مواليه وكان في بسائط. تلك الجبال مسعود بن زمام المعروف بالبلط في أحيائه من رياح من عرب هلال ابن عامر وكان منحرفاً عن طاعة عبد المؤمن شيخ الموحدين وخليفة المهدي فيهم فانتبذ مسعود بقومه عن المغرب وإفريقية إلى تلك القاصية فدعاه قراقوش إلى إظهار دعوة مواليه بني أيوب فأجابه ونزل معه بإحيائه على طرابلس فحاصرها قراقوش وافتتحها ونزل بأهله وعياله في قصرها. ثم استولى على قابس من ورائها وعلى توزر ونفطة وبلاد نفزاوة من إفريقية وجمع أموالاً جمة وجعل ذخيرته بمدينة قابس وخربت تلك البلاد أثناء ذلك باستيلاء العرب عليها. ولم يكن لهم قدرة على منعهم. ثم طمع في الاستيلاء على جميع إفريقية ووصل يده بيحيى بن غانية اللمتوني الثائر بتلك الناحية بدعوة لمتونة من بقية الأمراء في دولتهم. فكانت لهما بتلك الناحية آثار مذكورة في أخبار دولة الموحدين إلى أن غلبه ابن غانية على ما ملك من تلك البلاد وقتله كما هو مذكور في أخبارهم والله أعلم. استيلاء نور الدين توران شاه بن أيوب على بلاد النوبة ثم على بلاد اليمن كان صلاح الدين وقومه على كثرة ارتيابهم من نور الدين وظنهم به الظنون يحاولون ملك القاصية عن مصر ليمتنعوا بها إن طرقهم منه حادث أو عزم على المسير إليهم في مصر فصرفوا عزمهم في ذلك إلى بلاد النوبة أو بلاد اليمن. وتجهز شمس الدولة توران شاه بن أيوب وهو أخو صلاح الدين الأكبر إلى ملك النوبة. وسار إليها في العساكر سنة ثمان وستين وحاصر قلعة من ثغورهم ففتحها واختبرها فلم يجد فيها خرجاً ولا في البلاد بأسرها جباية. وأقواتهم الذرة وهم في شظف من العيش ومعاناة للفتن. فاقتصر على ما فتحه من ثغورهم وعاد في غنيته بالعبيد والجواري. فلما وصل إلى مصر أقام بها قليلاً وبعثه صلاح الدين إلى اليمن وقد كان غلب عليه علي بن مهدي الخارجي سنة أربع وخمسين وصار أمره إلى ابنه عبد النبي وكرسي ملكه زبيد منها. وفي عدد ياسر بن بلال بقية ملوك بني الربيع. وكان عمارة اليمني الشاعر العبيدي وصاحب بني رزيك من أمرائهم وكان أصله من اليمن. وكان في خدمة شمس الدولة ويغريه به فسار إليه شمس الدولة بعد أن تجهز وأزاح العلل واستعد للمال والعيال. وسار من مصر منتصف سنة تسع وستين ومر بمكة وانتهى إلى زبيد. وبها ملك اليمن عبد النبي بن علي بن مهدي فبرز إليه وقاتله فانهزم وانحجر بالبلد. وزحفت عساكر شمس الدولة فتسلموا أسوارها وملكوها عنوة واستباحوها وأسروا عبد النبي وزوجته. وولى شمس الدولة على زبيد مبارك بن كامل ابن منقذ من أمراء شيزر كان في جملته ودفع إليه عبد النبي ليستخلص منه الأموال فاستخرج من قربته دفائن كانت فيها أموال جليلة. ودلتهم زوجته الحرة على ودائع استولوا منها على أموال جمة. وأقيمت الخطبة العباسية في زبيد وسار شمس الدولة توران شاه إلى عدن وبها ياسر بن بلال كان أبوه بلال بن جرير مستبداً بها على مواليه بني الزريع وورثها عنه ابنه ياسر فسار ياسر للقائه فهزمه شمس الدولة وسارت عساكره إلى البلد فملكوها وجاؤوا بياسر أسيراً إلى شمس الدولة فدخل عدن وعبد النبي معه في الاعتقال واستولى على نواحيها وعاد إلى زبيد. ثم سار إلى حصون الجبال فملك تعز وهي من أحصن القلاع وحصن التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون. وولى على عدن عز الدولة عثمان بن الزنجبيلي واتخذ زبيد سبباً لملكه. ثم استوخمها وسار في الجبال ومعه الأطباء يتخير مكاناً صحيح الهواء للسكنى فوقع اختيارهم على تعز فاختط هنالك مدينة واتخذها كرسياً لملكه. وبقيت لبنيه ومواليهم بني رسول كما نذكره في أخبارهم والله تعالى ولي التوفيق. واقعة عمارة ومقتله كان جماعة من شيعة العلويين بمصر منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر وعبد الكاتب والقاضي العويدس وابن كامل وداعي الدعاة وجماعة من الجند وحاشية القصر اتفقوا على استدعاء الإفرنج من صقلية وسواحل الشام وبذلوا لهم الأموال على أن يقصدوا مصر. فإن خرج صلاح الدين للقائهم بالعساكر ثار هؤلاء بالقاهرة وأعادوا الدولة العبيدية. وإلا فلا بد له إن أقام من بعث عساكره لمدافعة الإفرنج فينفردون به ويقبضون عليه. وواطأهم على ذلك جماعة من أمراء صلاح الدين وتحينوا لذلك غيبة أخيه توران شاه باليمن وثقوا بأنفسهم وصدقوا توهماتهم ورتبوا وظائف الدولة وخططها. وتنازع في الوزارة بنو رزيك وبنو شاور. وكان علي بن نجي الواعظ ممن داخلهم في ذلك فأطلع صلاح الدين هو في الباطن إليهم. ونمي الخبر إلى صلاح الدين من عيونه ببلاد الإفرنج فوضع على الرسول عنده عيوناً جاؤوه بجلية خبره فقبض حينئذ عليهم. وقيل إن علي بن نجي أنمى خبرهم إلى القاضي فأوصله إلى صلاح الدين. ولما قبض عليهم صلاح الدين أمر بصلبهم ومر عمارة ببيت القاضي وطلب لقاءه فلم يسعفه وأنشد البيت المشهور عبد الرحيم قد احتجب إن الخلاص هو العجب ثم صلبوا جميعاً ونودي في شيعة العلويين بالخروج عن ديار مصر إلى الصعيد واحتيط على سلالة العاضد بالقصر وجاء الإفرنج بعد ذلك من صقليه إلى الإسكندرية كما يأتي خبره إن شاء الله تعالى والله أعلم. وصول الإفرنج من صقليه إلى الإسكندرية لما وصلت رسل هؤلاء الشيعة إلى الإفرنج بصقلية تجهزوا وبعثوا مراكبهم مائتي أسطول للمقاتلة فيها خمسون ألف رجل وألفان وخمسمائة فارس وثلاثون مركباً للخيول وستة مراكب لآلة المحرب وأربعون للأزواد. وتقدم عليهم ابن عم الملك صاحب صقلية ووصلوا إلى ساحل الإسكندرية سنة سبعين. وركب أهل البلد الأسوار وقاتلهم الإفرنج ونصبوا الآلات عليها. وطار الخبر إلى صلاح الدين بمصر ووصلت الأمراء إلى الإسكندرية من كل جانب من نواحيها. وخرجوا في اليوم الثالث فقاتلوا الإفرنج فظفروا عليهم. ثم جاءهم البشير آخر النهار بمجيء صلاح الدين فاهتاجوا للحرب وخرجوا عند اختلاط الظلام فكبسوا الإفرنج في خيامهم بالسواحل وتبادروا إلى ركوب البحر فتقسموا بين القتل والغرق ولم ينج إلا القليل واعتصم منهم نحو من ثلاثمائة برأس رابية هنالك إلى أن أصبحوا فقتل بعضهم وأسر الباقون وأقلعوا بأساطيلهم راجعين والله تعالى أعلم. واقعة كنز الدولة بالصعيد كان أمير العرب بنواحي أسوان يلقب كنز الدولة وكان شيعة للعلوية بمصر وطالت أيامه واشتهر. ولما ملك صلاح الدين قسم الصعيد إقطاعاً بين أمرائه. وكان أخو أبي الهيجاء السمين من أمرائه واقطاعه في نواحيهم فعصى كنز الدولة سنة سبعين واجتمع إليه العرب والسودان. وهجم على أخي أبي الهيجاء السمين في إقطاعه فقتله. وكان أبو الهيجاء من أكبر الأمراء فبعثه صلاح الدين لقتال الكنز وبعث معه جماعة من الأمراء والتف له الجند فساروا إلى أسوان ومروا بالصعيد فحاصروا بها جماعة وظفروا بهم فاستلحموهم. ثم ساروا إلى الكنز فقاتلوه |
استيلاء صلاح الدين على قواعد الشام بعد وفاة العادل نور الدين
كان صلاح الدين كما قدمناه قائماً في مصر بطاعه العادل نور الدين محمود بن زنكي. ولما توفي سنة تسع وستين ونصب ابنه الصالح إسماعيل في كفالة شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم وبعث إليه صلاح الدين بطاعتيه ونقم عليهم أنهم لم يردوا الأمر إليه. وسار غازي صاحب الموصل بن قطب الدين مودود بن زنكي إلى بلاد نور الدين التي بالجزيرة وهي نصيبين والخابور وحران والرها والرقة فملكها. ونقم عليه صلاح الدين أنهم لم يخبروه حتى يدافعه عن بلادهم. وكان الخادم سعد الدين كمستكين الذي ولاه نور الدين قلعة الموصل وأمر سيف الدين غازي بمطالعته بأموره قد لحق عند وفاة نور الدين بحلب وأقام بها عند شمس الدين علي بن الداية المستبد بها بعد نور الدين فبعثه ابن الداية إلى دمشق في عسكر ليجيء بالملك الصالح إلى حلب لمدافعة سيف الدين غازي فنكروه أولاً وطردوه. ثم رجعوا إلى هذا الرأي وبعثوا عنه فسار مع الملك الصالح إلى حلب ولحين دخوله قبض على ابن الداية وعلى مقدمي حلب واستبد بكفالة الصالح وخاف الأمراء بدمشق وبعثوا إلى سيف الدين غازي ليملكوه فظنها مكيدة من ابن عمه. وامتنع عليهم وصالح ابن عمه على ما أخذ من البلاد فبعث أمراء دمشق إلى صلاح الدين وتولى كبر ذلك ابن المقدم فبادر إلى الشام وملك بصرى. ثم سار إلى دمشق فدخلها في منسلخ ربيع سنة سبعين وخمسمائة. ونزل دار أبيه المعروفة بالعفيفي وبعث القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري إلى ريحان الخادم بالقلعة أنه على طاعة الملك الصالح وفي خدمته وما جاء إلا لنصرته فسلم إليه القلعة وملكها. واستخلف على دمشق أخاه سيف الإسلام طغركين وسار إلى حمص وبها وال من قبل الأمير مسعود الزعفراني. وكانت من أعماله فقاتلها وملكها وجمر عسكراً لقتال قلعتها. وساو إلى حماة مظهراً لطاعة الملك الصالح وارتجاع ما أخذ من بلاده بالجزيرة. وبعث بذلك إلى صاحب قلعتها خرديك واستخلفه. وسار إلى الملك الصالح ليجمع الكلمة ويطلق أولاد الداية. واستخلف على قلعة حماة أخاه. ولما وصل إلى حلب حبسه كمستكين الخادم ووصل الخبر إلى أخيه بقلعة حماة فسلمها لصلاح الدين. وسار إلى حلب فحاصرها ثالث جمادى الأخيرة واستمات أهلها في المدافعة عن الصالح. وكان بحلب سمند صاحب طرابلس من الإفرنج محبوساً منذ أسره نور الدين على حارم سنة تسع وخمسين فأطلقه كمستكين على مال وأسرى ببلده. وتوفي نور الدين أول السنة وخلف ابناً مجذوماً فكفله سمند واستولى على ملكهم. فلما حاصر صلاح الدين حلب بعث كمستكين إلى سمند يستنجده فسار إلى حمص ونازلها فسار إليه صلاح الدين وترك حلب. وسمع الإفرنج بمسيره فرحلوا عن حمص ووصل هو إليها عاشر رجب فحاصر قلعتها وملكها آخر شعبان من السنة. ثم سار إلى بعلبك وبها يمن الخادم من أيام نور الدين فحاصره حتى استأمن إليه وملكها رابع رمضان من السنة وصار بيده من الشام دمشق وحماة وبعلبك. ولما استولى صلاح الدين على هذه البلاد من أعمال الملك الصالح كتب الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده على صلاح الدين فأنجده بعساكره مع أخيه عز الدين مسعود وصاحب جيشه عز الدين زلقندار. وسارت معهم عساكر حلب وساروا جميعاً لمحاربة صلاح الدين. وبعث صلاح الدين إلى سيف الدين غازي أن يسلم لهم حمص وحماة ويبقى بدمشق نائباً عن الصالح فأبى إلا رد جميعها فسار صلاح الدين إلى العساكر ولقيهم آخر رمضان بنواحي حماة فهزمهم وغنم ما معهم. واتبعهم إلى حلب وحاصرها ورحل عن حلب لعشرين من شوال. وعاد إلى حماة وكان فخر الدين مسعود بن الزعفراني من الأمراء النورية وكانت ماردين من أعماله مع حمص وحماة وسلمية وتل خالد والرها. فلما ملك أقطاعه هذه اتصل به فلم ير نفسه عنده كما ظن ففارقه. فلما عاد صلاح الدين من حصار حلب إلى حماة سار إلى بعلبك واستأمن إليه وإليها فملكها وعاد إلى حماة فأقطها خاله شهاب الدين محمود وأقطع حمص ناصر الدولة بن شيركوه وأقطع بعلبك شمس الدين بن المقدم ودمشق إلى عماد والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه. واقعة صلاح الدين مع الملك الصالح وصاحب الموصل وما ملك من الشام بعد انهزامهما ثم سار سيف الدين غازي صاحب الموصل في سنة إحدى وسبعين بعد انهزام أخيه وعساكره واستقدم صاحب كيفا وصاحب ماردين وسار في ستة آلاف فارس إلى نصيبين في ربيع من السنة فشتى بها حتى ضجرت العساكر من طول المقام. وسار إلى حلب فخرجت إليه عساكر الملك الصالح مع كمستكين الخادم وسار صلاح الدين من دمشق للقائهم فلقيهم قبل السلطان فهزمهم واتبعهم إلى حلب. وعبر سيف الدين الفرات منهزماً إلى الموصل وترك أخاه عز الدين بحلب. واستولى صلاح الدين على مخلفهم وسار إلى مراغة فملكها وولي عليها. ثم إلى منبج وبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي وكان حنقاً عليه لقبح آثاره في عداوته فلحق بالموصل وولاه غازي مدينة الرقة. ثم سار صلاح الدين إلى قلعة أعزاز فحاصرها أوائل ذي القعدة من السنة أربعين يوماً وشد حصارها فاستأمنوا إليه فملكها ثاني الأضحى من السنة. وثب عليه في بعض أيام حصارها باطني من الفداوية فضربه وكان مسلحاً فأمسك يد الفداوية حتى قتل وقتل جماعة كانوا معه لذلك ورحل صلاح الدين بعد الاستيلاء على قلعة إعزاز إلى حلب فحاصرها وبها الملك الصالح. واعصوصب عليه أهل البلد واستماتوا في المدافعة عنه. ثم ترددت الرسل في الصلح بينهما وبين صاحب الموصل وكيفا وصاحب ماردين فانعقد. بينهم في محرم سنة اثنتين وتسعين وعاد صلاح الدين إلى دمشق بعد أن رد قلعة إعزاز إلى الملك الصالح بوسيلة أخته الصغيرة خرجت إلى صلاح الدين ثائرة فاستوهبته قلعة إعزاز فوهبها لها والله تعالى أعلم. |
مسير صلاح الدين إلى بلاد الإسماعيلية
ولما رحل صلاح الدين عن حلب وقد وقع من الإسماعيلية على حصن إعزاز ما وقع قصد بلادهم في محرم سنة اثنتين وتسعين ونهبها وخربها وحاصر قلعة مصياف ونصب عليها المجانيق. وبعث سنان مقدم الإسماعيلية بالشام إلى شهاب الدين الحارمي خال صلاح الدين بحماة يسأله الشفاعة فيهم ويتوعده بالقتل فشفع فيهم وأرحل العساكر عنهم. وقدم عليه أخوه توران شاه من اليمن بعد فتحه وإظهار دعوتهم فيه وولى على مدنه وأمصاره فاستخلفه صلاح الدين على دمشق وسار إلى مصر لطول عهده بها أبو الحسن بن سنان بن سقمان بن محمد. ولما وصل إليها أمر بإدارة سور على مصر القاهرة والقلعة التي بالجبل دورة تسعة وعشرون ألف ذراع بالهاشمي. واتصل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين وكان متولي النظر غزوات بين المسلمين والإفرنج كان شمس الدين محمد بن المقدم صاحب بعلبك وأغار جمع من الإفرنج على البقاع من أعمال حلب فسار إليهم وأكمن لهم في الغياض حتى نال منهم وفتك فيهم. وبعث إلى صلاح الدين بمائتي أسير منهم وقارن ذلك وصول شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن فبلغه أن جمعاً من الإفرنج أغاروا على أعمال دمشق فسار إليهم ولقيهم بالمروج فلم يثبت وهزموه وأسر سيف الدين أبو بكر بن السلام من أعيان الجند بدمشق وتجاسر الإفرنج على تلك الولاية. ثم اعتزم صلاح الدين على غزو بلاد الإفرنج فبعثوا في الهدنة وأجابهم إليها وعقد لهم والله تعالى ولي التوفيق. هزيمة صلاح الدين بالرملة أمام الإفرنج ثم سار صلاح الدين من مصر في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين إلى ساحل الشام لغزو بلاد الإفرنج وانتهى إلى عسقلان فاكتسح أعمالها ولم يروا للإفرنج خبراً فانساحوا في البلاد وانقلبوا إلى الرملة فما راعهم إلا الإفرنج مقبلين في جموعهم وأبطالهم وقد افترق أصحاب صلاح الدين في السرايا فثبت في موقفه واشتد القتال. وأبلى يومئذ محمد ابن أخيه في المدافعة عنه وقتل من أصحابه جماعة. وكان لتقي الدين بن شاه ابن اسمه أحمد متكامل الخلال لم يطر شاربه. فأبلى يومئذ واستشهد وتمت الهزيمة على المسلمين. وكان بعض الإفرنج تخلصوا إلى صلاح الدين فقتل بين يديه وعاد منهزماً وأسر الفقيه عيسى الهكاري بعد أن أبلى يومئذ بلاء شديداً. وسار صلاح الدين حتى غشيه الليل. ثم دخل البرية في فل قليل إلى مصر ولحقهم الجهد والعطش ودخل إلى القاهرة منتصف جمادى الأخيرة. قال ابن الأثير ورأيت كتابه إلى أخيه توران شاه بدمشق يذكر الواقعة ذكرتك والخطي يخطر بيننا وقد فتكت فينا المثقفة السمر ومن فصوله لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة وما نجانا الله سبحانه منه إلا لأمر يريده وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر انتهى. وأما السرايا التي دخلت بلاد الإفرنج فتقسمهم القتل والأسر وأما الفقيه عيسى الهكاري فلما ولي منهزماً ومعه أخوه الظهير ضل عن الطريق ومعهما جماعة من أصحابهما فأسروا. وفداه صلاح الدين بعد ذلك بستين ألف دينار والله تعالى أعلم. حصار الإفرنج مدينة حماة ثم وصل في جمادى الأولى إلى ساحل الشام زعيم من طواغيت الإفرنج وقارن وصوله هزيمة صلاح الدين. وعاد إلى دمشق يومئذ توران شاه بن أيوب في قلة من العسكر وهو مع ذلك منهمك في ملذاته فسار ذلك الزعيم بعد أن جمع فرنج الشام وبذل لهم العطاء فحاصر مدينة حماة وبها شهاب الدين ومحمود الحارمي خال صلاح الدين مريضاً. وشد حصارها وقتالها حتى أشرف في أخذها. وهجموا يوماً على البلد وملكوا ناحية منه فدافعهم المسلمون وأخرجوهم ومنعوا حماة منهم فأفرجوا عنها بعد أربعة أيام وساروا إلى حارم فحاصروها. ولما رحلوا عن حماة مات شهاب الدين الحارمي ولم يزل الإفرنج على حارم يحاصرونها وأطمعهم فيها ما كان من نكبة الصالح صاحب حلب لكمستكين الخادم كافل دولته. ثم صانعهم بالمال فرحلوا عنها. ثم عاد الإفرنج إلى مدينة حماة في ربيع سنة أربع وسبعين فعاثوا في نواحيها واكتسحوا أعمالها وخرج العسكر حامية البلد إليهم فهزموهم واستردوا ما أخذوا من السواد وبعثوا بالرؤوس والأسرى إلى صلاح الدين وهو بظاهر حمص منقلباً من الشام فأمر بقتل الأسرى والله تعالى ولي التوفيق. إنتقاض ابن المقدم ببعلبك وفتحها كان صلاح الدين لما ملك بعلبك استخلف فيها شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم جزاء بما فعله في تسليم دمشق وكان شمس الدولة محمد أخو صلاح الدين ناشئاً في ظل أخيه وكفالته فكان يميل إليه وطلب منه أقطاع بعلبك فأمر ابن المقدم بتمكينه منها فأبى. وذكره عهده في أمر دمشق فسار ابن المقدم إلى بعلبك وامتنع فيها ونازلته العساكر فامتنع وطاولوه حتى بعث إلى صلاح الدين يطلب العوض فعوضه عنها. وسار أخوه شمس الدين إليها فملكها والله تعالى ولي التوفيق. وقائع من الإفرنج وفي سنة أربع وسبعين سار ملك الإفرنج في عسكر عظيم فأغار على أعمال دمشق واكتسحها وأثخن فيها قتلاً وسبياً. وأرسل صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه في العساكر لمدافعته فسار يطلبهم ولقيهم على غير استعداد فقاتل أشد القتال. ونصر الله المسلمين وقتل جماعة من زعماء الإفرنج منهم هنفري وكان يضرب به المثل. ثم أغار البرنس صاحب إنطاكية واللاذقية على صرح المسلمين بشيزر وكان صلاح الدين على بانياس لتخريب حصن الإفرنج بمخاضة الأضرار فبعث تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه وناصر الدين محمد إلى حمص لحماية البلد من العدو كما نذكره إن شاء الله تعالى. تخريب حصن الإفرنج كان الإفرنج قد اتخذوا حصناً منيعاً بقرب بانياس عند بيت يعقوب عليه السلام ويسمى مكانه مخاضة الأضرار فسار صلاح الدين من دمشق إلى بانياس سنة خمس وسبعين وأقام بها وبث فيها الغارات على بلادهم. ثم سار إلى الحصن فحاصره ليختبره وعاد عنه إلى اجتماع العساكر وبث السرايا في بلاد الإفرنج للغارة. وجاء ملك الإفرنج للغارة على سريته ومعه جماعة من عساكره فبعثوا إلى صلاح الدين بالخبر فوافاهم وهم يقتتلون فهزم الإفرنج وأثخن فيهم. ونجا ملكهم في فل وأسر صاحب الرملة ونابلس منهم وكان رديف ملكهم. وأسر أخوه صاحب جبيل وطبرية ومقدم الفداوية ومقدم الاسبتارية وغيرهم من طواغيتهم. وفادى صاحب الرملة نفسه وهو أرتيرزان بمائة وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير من المسلمين. وأبلى في هذا اليوم عز الدين فرخشان ابن أخي صلاح الدين بلاء حسناً. ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس وبث السرايا في بلاد الإفرنج وسار لحصار الحصن فقاتله قتالاً شديداً. وتسلم المسلمون سوره حتى ملكوا برجاً منه. وكان مدد الإفرنج بطبرية والمسلمون يرتقبون وصولهم فأصبحوا من الغد ونقبوا السور وأضرموا فيه النار فسقط. وملك المسلمون الحصن عنوة آخر ربيع سنة خمس وسبعين وأسروا كل من فيه. وأمر صلاح الدين بهدم الحصن فألحق بالأرض وبلغ الخبر إلى الإفرنج وهم مجتمعون بطبرية لإمداده فافترقوا وانهزم الإفرنج والله سبحانه وتعالى أعلم. الفتنة بين صلاح الدين وقليج أرسلان صاحب الروم كان حصن زغبان من شمالي حلب قد ملكه نور الدين العادل بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم وهو بيد شمس الدين ابن المقدم. فلما انقطع حصن زغبان عن إيالة صلاح الدين وراء حلب طمع قليج أرسلان في استرجاعه فبعث إليه عسكراً يحاصرونه. وبعث صلاح الدين تقي الدين ابن أخيه في عسكر لمدافعتهم فلقيهم وهزمهم وعاد إلى عمه صلاح الدين. ولم يحضر معه تخريب حصن الأضرار. وكان نور الدين محمود بن قليج أرسلان بن داود صاحب حصن كيفا وآمد وغيرهما من ديار بكر قد فسد ما بينه وبين قليج أرسلان صاحب بلاد الروم بسبب أضراره ببنته وزواجه عليها. واعتزم قليج أرسلان على حربه وأخذ بلاده فاستنجد نور الدين بصلاح الدين وبعث إلى قليج أرسلان يشفع في شأنه فطلب استرجاع حصونه التي أعطاها لنور الدين عند المصاهرة. ولج في ذلك صلاح الدين على قليج وسار إلى زغبان ومر بحلب فتركها ذات الشمال وسلك على تل باشر. ولما انتهى إلى زغبان جاءه نور الدين محمود وأقام عنده. وأرسل إليه قليج أرسلان يصف فعل نور الدين وإضراره ببنته. فلما أذى الرسول رسالته امتعض صلاح الدين وتوعدهم بالمسير إلى بلده فتركه الرسول حتى سكن. وعدا عليه فطلب الخلوة وتلطف له في فسخ ما هو فيه من ترك الغزو ونفقة الأموال في هذا الغرض الحقير وأن بنت قليج أرسلان يجب على مثلك من الملوك الإمتعاض لها ولا تترك المضارة من دونها فعلم صلاح الدين الحق فيما قاله. وقال للرسول أن نور الدين استند إلى فعلك فأصلح الأمر بينهما وأنا معين على ما تحبونه جميعاً ففعل الرسول ذلك وأصلح بينهما. وعاد صلاح الدين إلى الشام ونور الدين محمود إلى ديار بكر وطلق ضرة بنت قليج أرسلان بالأجل الذي أجله للرسول والله تعالى أعلم. مسير صلاح الدين إلى بلاد ابن اليون كان قليج بن اليون من ملوك الأرض صاحب الدروب المجاورة لحلب وكان نور الدين محمود قد استخدمه وأقطع له في الشام. وكان يعسكره معه وكان جريئاً صاحب القسطنطينية. وملك وادقة والمصيصة وطرطوس من يد الروم وكانت بينهما من أجل ذلك حروب. ولما توفي نور الدين وانتقضت دولته أقام ابن اليون في بلاده وكان التركمان يحتاجون إلى رعي مواشيهم بأرضه على حصانتها وصعوبة مضايقها. وكان يأذن لهم فيدخلونها. وغدر بهم في بعض السنين واستباحهم واستاق مواشيهم. وبلغ الخبر إلى صلاح الدين منصرفه من زغبان فقصد بلده ونزل النهر الأسود. وبث الغارات ني بلادهم واكتسحها وكان لابن إليون حصن وفيه. ذخيرته فخشي عليه فقصد تخريبه. وسابقه إليه صلاح الدين فغنم ما فيه وبعث إليه ابن اليون برد ما أخذ من التركمان وإطلاق أسراهم على الصلح والرجوع عنه. فأجابه إلى ذلك وعاد عنه في منتصف سنة خمس وسبعين والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. كان البرنس أرناط صاحب الكرك من مردة الإفرنج وشياطينهم وهو الذي اختط مدينة الكرك. وقلعتها ولم تكن هنالك. واعتزم على غزو المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام. وسمع عز الدين فرخشاه بذلك وهو بدمشق فجمع وسار إلى الكرك سنة سبع وسبعين كل واكتسح نواحيه وأقام ليشغله عن ذلك الغرض حتى انقطع أمله وعاد إلى الكرك. فعاد فرخشاه إلى دمشق والله تعالى أعلم بغيبه. مسير سيف الإسلام طغركين بن أيوب إلى اليمن والياً عليها قد كان تقدم لنا فتح شمس الدولة توران شاه لليمن واستيلاؤه عليه سنة ثمان وستين. وأنه ولي على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزر وعلى عدن عز الدولة عثمان الزنجبيلي واختط مدينة تعز في بلاد اليمن واتخذها. كرسياً لملكه. ثم عاد إلى أخيه سنة اثنتين وسبعين وأدركه منصرفاً من حصار حلب فولاه على دمشق وسار إلى مصر. ثم ولاه أخوه صلاح الدين بعد ذلك مدينة الإسكندرية وأقطعه إياها مضافة إلى أعمال اليمن. وكانت الأموال تحمل إليه من زبيد وعدن وسائر ولايات اليمن. ومع ذلك فكان عليه دين قريب من مائتي ألف دينار مصرية وتوفي سنة ست وسبعين فقضاها عنه صلاح الدين. ولما بلغه خبر وفاته سار إلى مصر واستخلف على دمشق عز الدين فرخشاه ابن شاهنشاه. وكان سيف الدين مبارك بن كامل بن منقذ الكناني نائبه بزبيد قد تغلب في ولايته وتحكم في الأموال فنزع إلى وطنه واستأذن شمس الدولة قبل موته فأذن له في المجيء. واستأذن أخاه عطاف بن زبيد وأقام مع شمس الدولة حتى إذا مات بقي في خدمة صلاح الدين. وكان محشداً فسعى فيه عنده أنه احتجز أموال اليمن ولم يعرض له فتحيل أعداؤه عليه. وكان ينزل بالعدوية قرب مصر فصنع في بعض الأيام صنيعاً دعي أعيان الدولة واختلف مواليه وخدامه إلى مصر في شراء حاجتهم فتحيلوا لصلاح الدين أنه هارب إلى اليمن. فتمت حيلتهم فقبض عليه. ثم ضاق عليه الحال وصابره على ثمانين ألف دينار مصرية سوى ما أعلى لأهل الدولة فأطلقه وأعاده إلى منزلته فلما بلغ شمس الدين إلى اليمن اختلف نوابه بها حطان بن منقذ وعثمان بن الزنجبيلي. وخشي صلاح الدين أن تخرج اليمن عن طاعته فجهز جماعة من أمرائه إلى اليمن مع صارم الدين قطلغ أبيه والي مصر من أمرائه. فساروا لذلك سنة سبع وسبعين واستولى قطلغ أبيه على زبيد من حطان بن منقذ. ثم مات قريباً فعاد حطان إلى زبيد وأطاعه الناس وقوي على عثمان الزنجبيلي فكتب عثمان إلى صلاح الدين أن يبعث فجهز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغركين فسار إلى اليمن وخرج حطان بن منقذ من زبيد وتحصن في بعض القلاع ونزل سيف الإسلام زبيد وبعث إلى حطان بالأمان فنزله إليه وأولاه الإحسان. ثم طلق اللحاق بالشام فمنعه. ثم ألح عليه فأذن له حتى إذا خرج واحتمل رواحله وجاء ليودعه قبض عليه واستولى على ما معه. ثم حبسه في بعض القلاع فكان آخر العهد به. ويقال كان فيما أخذه سبعون حملاً من الذهب. ولما سمع عثمان الزنجبيلي خبر حطان خشي على نفسه وحمل أمواله في البحر ولحق بالشام. وبقيت مراكبه مراكب لسيف الإسلام فاستولى عليها. ولم يخلض إلا بما كان معه في طريقه وصفا اليمن لسيف الإسلام والله تعالى أعلم. دخول قلعة البيرة في إيالة صلاح الدين وغزوة الإفرنج وفتح بعض حصونهم مثل الشقيف والغرر و بيروت كانت قلعة البيرة من قلاع العراق لشهاب الدين بن أرتق وهو ابن عم قطب الدين الغازي بن أرتق صاحب ماردين وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام. ثم مات وملك البيرة بعده ابنه. ومات نور الدين فصار إلى طاعة عز الدين مسعود الموصل ثم وقع بين صاحب ماردين وصاحب الموصل من المخالصة والاتفاق ما وقع وطلب من عز الدين أن يأذن له في أخذ البيرة فأذن له فسار قطب الدين في عسكره إلى قلعة سميساط وأقام بها وبعث العسكر إلى البيرة وحاصرها. وبعث صاحبها يستنجد صلاح الدين ويكون له كما كان أبوه لنور الدين فشفع صلاح الدين إلى قطب الدين صاحب ماردين ولم يشفعه وشغل عنه بأمر الإفرنج. ورحلت عساكر قطب الدين عنها فرجع صاحبها إلى صلاح الدين وأعطاه طاعته وعاد في إيالته. ثم خرج صلاح الدين من مصر في محرم سنة ثمان وسبعين قاصداً الشام ومر بإيله وجمع الإفرنج لاعتراضه فبعث أثقاله مع أخيه تاج الملوك إلى دمشق ومال عن بلادهم فاكتسح نواحي الكرك والشوبك وعاد إلى دمشق منتصف صفر. وكان الإفرنج لما اجتمعوا على الكرك دخلوا بلادهم من نواحي الشام فخالفهم عز الدين فرخشاه نائب دمشق إليها واكتسح نواحيها وخرب قراها وأثخن فيهم قتلاً وسبياً وفتح الشقيف من حصونهم عنوة وكان له نكاية في المسلمين فبعث إلى صلاح الدين بفتحه فسر بذلك. ثم أراح صلاح بدمشق أياماً وسار في ربيع الأول من السنة وقصد طبرية وخيم بالأردن. واجتمعت الإفرنج على طبرية فسير صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه إلى بيسان فملكها عنوة واستباحها. وأغار على الغور فأثخن فيها قتلاً وسبياً. وسار الإفرنج من طبرية إلى جبل كوكب وتقدم صلاح الدين إليهم بعساكره فتحصوا بالجبل فأمر ابني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه ابني شاهنشاه فقاتلوا الإفرنج قتالاً شديداً. ثم تحاجزوا وعاد صلاح الدين إلى دمشق. ثم سار إلى بيروت فاكتسح نواحيها وكان قد استدعى الأسطول من مصر لحصارها فوافاه بها وحاصرها أياماً. ثم بلغه أن البحر قد قذف بدمياط مركباً للإفرنج فيه جماعة منهم جاؤوا لزيارة القدس فألقتهم الريح بدمياط وأسر منهم ألف وستمائة أسير ثم ارتحل عن بيروت إلى الجزيرة كما نذكره إن شاء الله تعالى. |
مسير صلاح الدين إلى الجزيرة واستيلاؤه
على حران والرها والرقة والخابور ونصيبين وسنجار وحصار الموصل كان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك الذي كان أبوه نائب القلعة بالموصل مستولياً في دولة مودود وبنيه وانتقل آخراً إلى إربل ومات بها. وأقطعه عز الدين صاحب الموصل ابنه مظفر الدين وكان هواه مع صلاح الدين يؤمله ملكه بلاد الجزيرة فراسله وهو محاصر لبيروت وأطمعه في البلاد واستحثه للوصول فسار صلاح الدين عن بيروت مورياً بحلب وقصد الفرات ولقيه مظفر الدين وساروا إلى البيرة وقد دخل طاعة عز الدين وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما مسير صلاح الدين إلى الشام ظنوا أنه يريد حلب فساروا لمدافعته. فلما عبر الفرات عادوا إلى الموصل وبعثوا حامية إلى الرها. وكاتب صلاح الدين ملوك الأطراف بديار بكر وغيرها والمقاربة. ووعد نور الدين محموداً صاحب كيفا أنه يملكه آمد. ووصل إليه فساروا إلى مدينة الرها فحاصروها وبها يومئذ الأمير فخر الدين بن مسعود الزعفراني. واشتد عليه القتال فاستأمن إلى صلاح الدين وملكه المدينة وحاصر معه القلعة حتى سلمها النائب الذي بها مال شرطه فأضافها صلاح الدين إلى مظفر الدين مع حران وساروا إلى الرقة وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي ففارقها إلى الموصل وملكها صلاح الدين. ثم سار إلى قرقيسيا ومأسكين وعربان وهي بلاد الخابور فاستولى على جميعها. وسار إلى نصيبين فملك المدينة لوقتها وحاصر القلعة أياماً ثم ملكها وأقطعها للأمير أبي الهيجاء السمين. ثم رحل عنها ونور الدين صاحب كيفا معه معتزماً على قصد الموصل. وجاءه الخبر بأن الإفرنج أغاروا على نواحي دمشق واكتسحوا قراها وأرادوا تخريب داريا قتوعدهم نائب دمشق بتخريب بيعهم وكنائسهم فتركوه فلم يثن ذلك من عزمه وقصد الموصل وقد جمع صاحبها العساكر واستعد للحصار وخلى نائبه في الإستعداد. وبعث إلى سنجار وإربل وجزيرة ابن عمر فشحنها بالإمداد من الرجال والسلاح والأموال وأنزل صاحب الدار عساكره بقربها وتقدم هو ومظفر الدين وابن شيركوه فهالهم استعداد البلد وأيقنوا بامتناعه وعذل صاحبيه هذين فإنهما كانا أشارا بالبداءة بالموصل. ثم أصبح صلاح الدين من الغد في عسكره ونزل عليه أول رجب على باب كندة وأنزل صاحب الحصن باب الجسر وأخاه تاج الملوك بالباب العمادي وقاتلهم فلم يظفر. وخرج بعض الرجال فنالوا منه. ونصب منجنيقاً فنصبوا عليه من البلد تسعة. ثم خرجوا إليه من البلد فأخذوه بعد قتال كثير. وخشي صلاح الدين من البيات فتأخر لأنه رآهم في بعض الليالي يخرجون من باب الجسر بالمشاعل ويرجعون. وكان صدر الدين شيخ الشيوخ ومشير الخادم وقد وصلا من عند الخليفة الناصر في الصلح. وترددت الرسل بينهم فطلب عز الدين من صلاح الدين رد ما أخذه من بلادهم فأجاب. على أن يمكنوه من حلب فامتنع فرجع إلى ترك مظاهرة صاحبها فامتنع أيضاً. ثم وصلت أيضاً رسل صاحب أذربيجان ورسل شاهرين صاحب خلاط في الصلح فلم يتم وسار أهل سنجار يعترضون من يقصده من عساكره وأصحابه فأفرج عن الموصل وسار إليها وبها شرف الدين أمير أميران هند وأخوه عز الدين صاحب الموصل في عسكر. وبعث إليه مجاهد الدين النائب بعسكر آخر مدداً وحاصرها صلاح الدين وضيق عليها واستمال بعض أمراء الأكراد الذين بها من الزواوية فواعده من ناحيته. وطرقه صلاح الدين فملكه البرج الذي في ناحيته فاستأمن أمير أميران وخرج عسكره معه إلى الموصل. وملك صلاح الدين سنجار وولي عليها سعد الدين بن معين الدين الذي كان أبوه عند كامل بن طغركين بدمشق. وصارت سنجار من سائر البلاد التي ملكها من الجزيرة. وسار صلاح الدين إلى نصيبين فشكا إليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله عنهم واستصحبه معه وسار إلى حران في ذي القعدة من سنة ثمان وسبعين. وفرق عساكره ليستريحوا وأقام في خواصه وكبار أصحابه والله أعلم. مسير شاهرين صاحب خلاط لنجدة صاحب الموصل كان عز الدين قد أرسل إلى شاهرين يستنجده على صلاح الدين فبعث إليه عدة رسل شافعاً في أمره فلم يشفعه وغالطه فبعث إليه مولاه آخراً سيف الدين بكتمر وهو على سنجار يسأله في الإفراج عنها فلم يجبه إلى ذلك. وسوفه رجاء أن يفوتها فأبلغه بكتمر الوعيد عن مولاه وفارقه مغاضباً ولم يقبل صلته وأغراه بصلاح الدين فسار شاهرين من مخيمه بظاهر خلاط إلى ماردين وصاحبها يومئذ ابن أخته وابن خال عز الدين وصهره على بنته وهو قطب الدين نجم الدين. وسار إليهم أتابك عز الدين صاحب الموصل. وكان صلاح الدين في حران منصرفه من سنجار. وفرق عساكره فلما سمع باجتماعهم استدعى تقي الدين ابن أخيه شاهنشاه من حماة ورحل إلى رأس عين فافترق القوم وعاد كل إلى بلده. وقصد صلاح الدين ماردين فأقام واقعة الإفرنج في بحر السويس كان البرنس أرناط صاحب الكرك قد أنشأ أسطولاً مفصلاً وحمل أجزاءه إلى صاحب أيلة وركبه على ما تقتضيه صناعة النشابة وقذفه في السويس وشحنه بالمقاتلة وأقلعوا في البحر. ففرقة أقاموا على حصن أيلة يحاصرونه وفرقة ساروا نحو عيذاب وأغاروا على سواحل الحجاز وأخذوا ما وجدوا بها من مراكب التجار. وطرق الناس منهم بلية لم يعرفونها لأنه لم يعهد ببحر السويس إفرنجي محارب ولا تاجر وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب نائباً عن أخيه صلاح الدين فعمر أسطولاً وشحنه بالمقاتلة وسار به حسام الدين لؤلؤ الحاجب قائد الأساطيل بديار مصر فبدأ بأسطول الإفرنج الذي يحاصر أيلة فمزقهم كل ممزق. وبعد الظفر بهم أقلع في طلب الآخرين وانتهى إلى عيذاب فلم يجدهم فرجع إلى رابغ وأدركهم بساحل الحوراء وكانوا عازمين على طروق الحرمين واليمن والإغارة على الحاج. فلما أظل عليهم لؤلؤ بالأسطول أيقنوا بالتغلب وتراموا على الحوراء وأسلموا إليها واعتصموا بشعابها. ونزل لؤلؤ من مراكبه وجمع خيل الأعراب هنالك وقاتلهم فظفر بهم وقتل أكثرهم وأسر الباقين فأرسل بعضهم إلى منى فقتلوا بها أيام النحر وعاد بالباقين إلى مصر والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء. ثم توفي عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه أخو صلاح الدين النائب عنه بدمشق وكان خليفته في أهله ووثوقه به أكثر من جميع أصحابه. وخرج من دمشق غازياً الإفرنج وطرقه المرض. وعاد فتوفي في جمادى سنة ثمان وسبعين. وبلغ خبره صلاح الدين وقد عبر الفرات إلى الجزيرة والموصل فأعاد شمس الدين محمد بن المقدم إلى دمشق وجعله نائباً فيها واستمر لشأنه والله تعالى يورث الملك لمن يشاء من عباده. استيلاء صلاح الدين على آمد وتسليمها لصاحب كيفا قد تقدم لنا مسير صلاح الدين إلى ماردين وإقامته عليها أياماً من نواحيها ثم ارتحل عنها إلى آمد كما كان العهد بينه وبين نور الدين صاحب كيفا فنازلها منتصف ذي الحجة وبها بهاء الدين بن بيسان فحاصرها وكانت غاية في المنعة وأساء ابن بيسان التدبير وقبض يده عن العطاء وكان أهلها قد ضجروا منه لسوء سيرته وتضييقه عليهم في مكاسبهم. وكتب إليهم صلاح الدين بالترغيب والترهيب فتخاذلوا عن ابن بيسان وتركوا القتال معه ونقب السور من خارج بيت ابن بيسان وأخرج نساءه مع القاضي الفاضل يستميل إليه صلاح الدين ويؤجله ثلاثة أيام للرحلة فأجابه صلاح الدين وملك البلد في عاشوراء سنة تسع وسبعين. وبنى خيمة بظاهر البلد ينقل إليها ذخيرته فلم يلتفت الناس إليه وتعذر عليه أمره فبعث إلى صلاح الدين يسأله الإعانة فأمر له بالدواب والرجال فنقل في الأيام الثلاثة كثيراً من موجوده. ومنع بعد انقضاء الأجل عن نقل ما بقي. ولما ملكها صلاح الدين سلمها لنور الدين صاحب كيفا وأخبر صلاح الدين بما فيها من الذخائر لينقلها لنفسه فأبى. وقال ما كنت لأعطي الأصل وأبخل بالفرع ودخل نور الدين البلد ودعا صلاح الدين وأمراءه إلى صنيع صنعه لهم وقدم لهم من التحف والهدايا ما يليق بهم وعاد صلاح الدين والله تعالى أعلم. استيلاء صلاح الدين على تل خالد وعنتاب ولما فرغ صلاح الدين من آمد سار إلى أعمال حلب فحاصر تل خالد ونصب عليه المجانيق حتى تسلمه بالأمان في محرم سنة تسع وسبعين. ثم سار إلى عنتاب فحاصرها وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين العادل وصاحبه. وهو الذي ولاه عليها فطلب من صلاح الدين أن يقرها بيده ويكون في طاعته فأجابه إلى ذلك وحلف له. وسار في خدمته وغنم المسلمون خلال ذلك مغانم فمنها في البحر سار أسطول مصر فلقي في البحر مركباً فيه نحو ستمائة من الإفرنج بالسلاح والأموال قاصدون الإفرنج بالشام فظفروا بهم وغنموا ما معهم وعادوا إلى مصر سالمين. ومنها في البر أغار بالدارون جماعة من الإفرنج ولحقهم المسلمون بأيلة واتبعوهم إلى العسيلة وعطش المسلمون فأنزل الله تعالى عليهم المطر حتى رووا. وقاتلوا الإفرنج فظفروا بهم هنالك واستلحموهم واستقاموا معهم وعادوا سالمين إلى مصر والله أعلم. استيلاء صلاح الدين على حلب وقلعة حارم كان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين العادل صاحب حلب لم يبق له من الشام غيرها وهو يدافع صلاح الدين عنها فتوفي منتصف سنة سبع وسبعين وعهد لابن عمه عز الدين صاحب الموصل وسار عز الدين صاحب الموصل مع نائبه مجاهد الدين قايماز إليها فملكها. طلبها منه أخوه عماد الدين صاحب سنجار على أن يأخذ عنها سنجار إلى ذلك وأخذ عز الدين سنجار وعاد إلى الموصل. وسار عماد الدين إلى حلب فملكها وعظم ذلك على صلاح الدين وخشي أن يسير منها إلى دمشق. وكان بمصر سار إلى الشام وسار منها إلى الجزيرة وملك ما ملك منها وحاصر الموصل ثم حاصر آمد وملكها. ثم سار إلى أعمال حلب كما ذكرناه فملك تل خالد وعنتاب. ثم سار حلب وحاصرها في محرم سنة تسع وسبعين ونزل الميدان الأخضر أياماً. ثم انتقل إلى جبل جوشق وأظهر البقاء عليها وهو يغاديها القتال ويراوحها وطلب عماد الدين جنده في العطاء وضايقوه في تسليم حلب لصلاح الدين. وأرسل إليه في ذلك الأمر طومان الباروقي وكان يميل إلى صلاح الدين فشارطه على سنجار ونصيبين والرقة والخابور وينزل له عن حلب. وتحالفوا على ذلك وخرج عنها عماد الدين ثامن عشر صفر من السنة إلى هذه البلاد. ودخل صلاح الدين حلب بعد أن شرط على عماد الدين أن يعسكر معه متى عاد. ولما خرج عماد الدين إلى صلاح الدين صنع له دعوة احتفل فيها وانصرف وكان فيمن هلك في حصار حلب تاج الملوك نور الدين أخو صلاح الدين الأصغر أصابته جراحة فمات منها بعد الصلح وقبل أن يدخل صلاح الدين البلد. ولما ملك صلاح الدين حلب سار إلى قلعة خارم وبها الأمير طرخك من موالي نور الدين العادل وكان عليها ابنه الملك الصالح فحاصره صلاح الدين ووعده وترددت الرسل بينهم وهو يمنع وقد أرسل إلى الإفرنج يدعوهم للانجاد وسمع بذلك الجند الذين معه فوثبوا به وحبسوه. واستأمنوا إلى صلاح الدين فملك الحصن وولى عليه بعض خواصه. وقطع تل خالد الباروقي صاحب تل باشر. وأما قلعة إعزاز فإن عماد الدين إسماعيل كان خربها فأقطعها صلاح الدين سليمان بن جسار وأقام بحلب إلى أن قضى جميع أشغالها وأقطع أعمالها وسار إلى دمشق والله تعالى أعلم. |
غزوة بيسان
ولما فرغ صلاح الدين من أمر حلب ولى عليها ابنه الظاهر غازي ومعه الأمير سيف الدين تاوكج كافلاً له لصغره وهو أكبر الأمراء الأسدية. وسار إلى دمشق فتجهز للغزو وجمع عساكر الشام والجزيرة وديار بكر وقصد بلاد الإفرنج فعبر الأردن منتصف سبع وسبعين وأجفل أهل تلك الأعمال أمامه فقصد بيسان وخربها وأحرقها وأغار على نواحيها واجتمع الإفرنج له. فلما رأوه خاموا عن لقائه واستندوا إلى جبل وخندقوا عليهم وأقام يحاصرهم خمسة أيام ويستدرجهم للنزول فلم يفعلوا فرجع المسلمون عنهم وأغاروا على تلك النواحي وامتلأت أيديهم بالغنائم وعادوا إلى بلادهم والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. غزو الكرك وولاية العادل على حلب ولما عاد صلاح الدين من غزوة بيسان تجهز لغزو الكرك وسار في العساكر واستدعى أخاه العادل أبا بكر بن أيوب من مصر وهو نائبها ليلحق به على الكرك وكان قد سأله في ولاية حلب وقلعتها فأجابه إلى ذلك وأمره أن يجيء بأهله وماله فوافاه على الكرك وحاصروه أياماً وملكوا أرباضه ونصبوا عليها المجانيق ولم يكن بالغ في الاستعداد لحصاره لظنه أن الإفرنج يدافعون عنه فأفرج عنه منتصف شعبان وبعث تقي الدين ابن أخيه شاه على نيابة مصر مكان أخيه العادل واستصحب العادل معه إلى دمشق فولاه مدينة حلب ومدينة منبج وما إليها وبعثه بذلك في شهر رمضان من السنة. واستدعى ولده الظاهر غازي من حلب إلى دمشق. ثم سار في ربيع الآخر من سنة ثمانين لحصار الكرك بعد أن جمع العساكر واستدعى نور الدين صاحب كيفا وعساكر مصر واستعد لحصاره ونصب المجانيق على ربضه فملكه المسلمون وبقي الحصن وراء خندق بينه وبين الربض عمقه ستون ذراعاً. وراموا طمه فنضحوهم بالسهام ورموهم بالحجارة فأمر برفع السقف ليمشي المقاتلة تحتها إلى الخندق. وأرسل أهل الحصن إلى ملكهم يستمدونه ويخبرونه بما نزل بهم فاجتمع الإفرنج وأوعبوا وساروا إليهم فرحل صلاح الدين للقائهم حتى انتهى إلى حزونة الأرض فأقام ينتظر خروجهم إلى البسيط فخاموا عن ذلك فتأخر عنهم فراسخ ومروا إلى الكرك. وعلم صلاح الدين أن الكرك قد امتنع بهؤلاء فتركه وسار إلى نابلس فخربها وحرقها وسار إلى سنطية وبها مشهد زكرياء عليه السلام فاستنقذ من وجد بها من أسارى المسلمين ورحل إلى جينين فنهبها وخربها. وسار إلى دمشق بعد أن بث السرايا في كل ناحية ونهب كل ما مر به وامتلأت الأيدي من الغنائم وعاد إلى دمشق مظفراً والله تعالى أعلم. حصار صلاح الدين الموصل ثم سار صلاح الدين من دمشق إلى الجزيرة في ذي القعدة من سنة ثمان وعبر الفرات. وكان مظفر الدين كوكبري علي كجك يستحثه للمسير إلى الموصل في كل وقت وربما وعده بخمسين ألف دينار إذا وصل. فلما وصل إلى حران لم يف له فقبض عليه ثم خشي معيرة أهل الجزيرة فأطلقه وأعاد عليهم حران والرها. وسار في ربيع الأول ولقيه نور الدين صاحب كيفا ومعز الدين سنجار شاه صاحب جزيرة ابن عمر وقد انحرف عن عمه عز الدين صاحب الموصل بعد نكبة مجاهد الدين نائبه. وساروا كلهم مع صلاح الدين إلى الموصل وانتهوا إلى مدينة بلد فلقيه هنالك أم عز الدين وابنة عمه نور الدين وجماعة من أهل بيته يسألونه الصلح ظناً بأنه لا يردهن وسيما بنت نور الدين. واستشار صلاح الدين أصحابه فأشار الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب بردهن وساروا إلى الموصل وقاتلوها واستمات أهلها وامتعضوا لرد النساء فامتنعت عليهم وعاد على أصحابه باللوم في إشارتهم. وجاء زين الدين يوسف صاحب إربل وأخوه مظفر الدين كوكبري فأنزلهما بالجانب الشرقي. وبعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجزيرة ليحاصرها فاجتمع عليه الأكراد الهكارية إلى أن عاد صلاح الدين عن الموصل وبلغ عز الدين أن نائبه بالقلعة زلقندار يكاتب صلاح الدين فمنعه منها وانحرف عنه إلى الاقتداء برأي مجاهد الدين وتصدر عنه. ثم بلغه خبر وفاة شاهرين صاحب خلاط فطمع صلاح الدين في ملكها وأنه يستعين بها على أموره. ثم جاءته كتب أهلها يستدعونه فسار عن الموصل إليها وكان أهل خلاط إنما كاتبوه مكرا لأن شمس الدين البهلوان بن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان قصده تملكهم بعد أن كان زوج ابنته من شاهرين على كبره وجعل ذلك ذريعة إلى ملك خلاط. فلما سار إليهم كاتبوا صلاح الدين ودافعوا كلا منهما بالآخر فسار صلاح الدين وفي مقدمته ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين صاحب إربك وغيرهما. وتقدموا إلى خلاط وتقدم صاحب أذربيجان فنزل قريباً من خلاط. وترددت رسل أهل خلاط بينه وبين البهلوان ثم خطبوا للبهلوان والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. استيلاء صلاح الدين على ميافارقين ولما خطب أهل خلاط للبهلوان وصلاح الدين على ميافارقين وكانت لقطب الدين صاحب ماردين فتوفي وملك ابنه طفلاً صغيراً بعده ورد أمرها إلى شاهرين صاحب خلاط. وأنزل بها عسكره فطمع فيها صلاح الدين بعد وفاة شاهرين وحاصرها من أول جمادى سنة إحدى وثمانين وعلى أجنادها الأمير أسد الدين برنيقش فأحسن الدفاع وكان بالبلد زوجة قطب الدين المتوفى ومعها بناتها منه وهي أخت نور الدين صاحب كيفا فراسلها صلاح الدين بأن برنيقش قد مال إليها في تسليم البلد ونحن ندعي حق أخيك نور الدين فأزوج بناتك من أبنائي وتكون البلد لنا. ووضع على برنيقش من أخبره بأن الخاتون مالت إلى صلاح الدين وأن أهل خلاط كاتبوه. وكان خبر أهل خلاط صحيحاً فسقط في يده وبعث في التسليم على شروط اشترطها من إقطاع ومال. وسلم البلد فملكها صلاح الدين وعقد النكاح لبعض ولده على بعض بنات خاتون. وأنزلها وبناتها بقلعة هقناج وعاد إلى الموصل ومر بنصيبين وانتهى إلى كفر أرمان وأعتزم على أن يشتو به ويقطع جميع ضياع الموصل ويجبي أعمالها ويكتسح غلاتها. وجنح مجاهد الدين إلى مصالحته وترددت الرسل في ذلك على أن يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية الغرابلي وما وراء الزاب من الأعمال. ثم طرقه المرض فعاد إلى حران وأدركه الرسل بالإجابة إلى ما طلب فانعقد هنالك وتحالفوا وتسلم البلاد وطال مرضه بحران وكان عنده أخوه العادل وبيده حلب وبها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين. واشتد به المرض فقسم البلاد بين أولاده وأوصى أخاه العادل على الجميع. وعاد إلى دمشق في محرم سنة اثنتين ثمانين وكان عنده بحران ناصر الدين محمد بن عمه شيركوه ومن اقطاعه حمص والرحبة فعاد قبله إلى حمص ومر بحلب وصانع جماعة من أمرائها على أن يقوموا بدعوته إن حدث بصلاح الدين أمر. وبلغ إلى حمص فبعث إلى أهل دمشق بمثل ذلك وأفاق صلاح الدين من مرضه ومات ناصر الدين ليلة الأضحى ويقال دس عليه من سمه وورث أعماله ابنه شيركوه وهو ابن اثنتي عشرة سنة والله تعالى أعلم. قسمة صلاح الدين الأعمال بين ولده وأخيه كان ابنه العزيز عثمان بحلب في كفالة أخيه العادل وابنه الأكبر الأفضل علي بمصر في كفالة تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه بعثه إليها عندما استدعى العادل منها كما مر. فلما مرض بحران أسف على كونه لم يول أحداً من ولده استقلالاً وسعى إليه بذلك بعض بطانته. فبعث ابنه عثمان العزيز إلى مصر في كفالة أخيه العادل كما كان بحلب. ثم أقطع العادل حران والرها وميافارقين من بلاد الجزيرة وترك عثمان ابنه بمصر. ثم بعث عن ابنه الأفضل وتقي الدين ابن أخيه فامتنع تقي الدين من الحضور واعتزم على المسير إلى المغرب واللحاق بمولاه قراقوش في ولايته التي حصلت له بطرابلس والجريد من إفريقية فراسله صلاح الدين ولاطفه. ولما وصل أقطعه حماة ومنبج والمعرة وكفر طاب وجبل جوز وسائر أعمالها. وقيل إن تقي الدين لما أرجف بمرض صلاح الدين وموته تحرك في طلب الأمر لنفسه وبلغ ذلك صلاح الدين فأرسل الفقيه عيسى الهكاري وكان مطاعاً فيهم وأمره بإخراج تقي الدين من مصر والمقام بها فسار ودخلها على حين غفلة. وأمر تقي الدين بالخروج فأقام خارج البلد وتجهز للمغرب فراسله اتفاق القمص صاحب طرابلس مع صلاح الدين ومنابذة البرنس صاحب الكرك له وحصاره والإغارة على عكا كان القمص صاحب طرابلس وهو ريمند بن ريمند بن صنجيل تزوج بالقومصة صاحبة طبرية وانتقل إليها فأقام عندها ومات ملك الإفرنج بالشام وكان مجذوماً كما مر وأوصى بالملك لابن أخيه صغيراً فكفله هذا القمص وقام بتدبير ملكه لعظمه فيهم وطمع أن تكون كفالته ذريعة إلى الملك. ثم مات الصغير فانتقل الملك إلى أبيه ويئس القمص عندها مما كان يحدث به نفسه. ثم إن الملكة تزوجت ابن غتم من الإفرنج القادمين من المغرب وتوجته وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والاسبتارية والداوية والبارونية وأشهدتهم خروجها له عن الملك. ثم طولب القمص بالجباية أيام كفالته الصبي فأنف وغضب وجاهر بالشقاق لهم. وراسل صلاح الدين وسار إلى ولايته وخفف له على مصره من أهل ملته. وأطلق له صلاح الدين جماعة من زعماء النصارى كانوا أسارى عنده فازداد غبطة بمظاهرته. وكان ذلك ذريعة لفتح بلادهم وارتجاع القدس منهم. وبث صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية في سائر بلاد الإفرنج فاكتسحوها وعادوا غانمين وذلك كله سنة اثنتين وثمانين. وكان البرنس أرناط صاحب الكرك من أعظم الإفرنج مكراً وأشدهم ضرراً. وكان صلاح الدين قد سلط الغارة والحصار على بلده حتى سأل في الصلح فصالحه فصلحت السابلة بين الأمتين. ثم مرت في هذه السنة قافلة كثيرة التجار والجند فغدر بهم وأسر وأخذ ما معهم وبعث إليه صلاح الدين فأصر على غدرته فنذر أنه يقتله إن ظفر به واستنفر الناس للجهاد من سائر الأعمال من الموصل والجزيرة وإربل ومصر والشام. وخرج من دمشق في محرم سنة ثلاث وثمانين وانتهى إلى رأس الماء. وبلغه أن البرنس أرناط صاحب الكرك يريد أن يتعرض للحاج من الشام وكان معهم ابن أخيه محمد بن لاجين وغيره فترك من العساكر مع ابنه الأفضل علي وسار إلى بصرى. وسمع البرنس بمسيره فأحجم عن الخروج ووصل الحاج سالمين. وسار صلاح الدين إلى الكرك وبث السرايا في أعمالها وأعمال الشوبك فاكتسحوهما. والبرنس محصور بالكرك وقد عجز الإفرنج عن إمداده لمكان العساكر مع الأفضل بن صلاح الدين. ثم بعث صلاح الدين إلى ابنه الأفضل فأمره بإرسال بعث إلى عكا ليكتسحوا نواحيها فبعث مظفر الدين كوكبري صاحب حران والرها وقايماز النجمي وداروم الياروقي وساروا في آخر صفر فصبحوا صفورية وبها جمع من الفداوية والاسبتارية فبرزوا إليهم. وكانت بينهم حروب شديدة تولى الله النصر فيها للمسلمين وانهزم الإفرنج وقتل مقدمهم وامتلأت أيدي المسلمين من الغنائم وانقلبوا ظافرين. ومروا بطبرية وبها القمص فلم يهجهم لما تقدم بينه وبين صلاح الدين من الولاية جمظم هذا الفتح وسار البشير به في البلاد والله تعالى أعلم. |
هزيمة الإفرنج وفتح طبرية ثم عكا
ولما انهزم الفداوية والاسبتارية بصفورية ومر المسلمون بالغنائم على القمص ريمند بطبرية ووصلت البشائر بذلك إلى صلاح الدين عاد إلى معسكره الذي مع ابنه ومر بالكرك واعتزم على غزو بلاد الإفرنج فاعترض عساكره وبلغه أن القمص ريمند قد راجع أهل ملته ونقض عهده معه. وأن البطرك والقسيس والرهبان أنكروا عليه مظاهرته مسلمين ومرور عساكرهم به بأسرى النصارى وغنائمهم. ولم يعترضهم مع إيقاعهم بالفداوة والإستبارية أعيان الملة وتهددوه بإلحاق كلمة الكفر به فتنصل وراجع رأيه واعتذر فقبلوا عذره وخلص لكفره وطواغيته فجددوا الحلف والاجتماع. وساروا من عكا إلى صفورية وبلغ الخبر إلى صلاح الدين. وشاور أصحابه فمنهم من أشار بترك اللقاء وشن الغارات عليهم حتى يضعفوا. ومنهم من أشار باللقاء لنزول عكا واستيفاء ما فعلوه في المسلمين بالجزيرة فاستصوبه صلاح الدين واستعجل لقاءهم. ثم رحل من الأقحوانه أواخر رمضان فسار حتى خلف طبرية وتقدم إلى معسكر الإفرنج فلم يفرقوا خيامهم. فلما كان الليل أقام طائفة من العسكر إلى طبرية فملكها من ليلته عنوة ونهبها وأحرقها. وامتنع أهلها بالقلعة ومعهم الملكة وأولادها فبلغ الخبر إلى الإفرنج فضج القمص وعمد إلى الصلح. وأطال القول في تعظيم الخطب وكثرة المسلمين فنكر عليه البرنس صاحب الكرك واتهمه ببقائه على ولاية صلاح الدين. واعتزموا على اللقاء ووصلوا من مكانهم لقصد المعسكر وعاد صلاح الدين إلى معسكره وبعدت المياه من حوالي الإفرنج وعطشوا ولم يتمكنوا من الرجوع فركبهم صلاح الدين دون قصدهم. واشتدت الحرب وصلاح الدين يجول بين الصفوف يتفقد أحوال المسلمين. ثم حمل القمص على ناحية تقي الدين عمر بن شاه حملة استمات فيها هو وأصحابه فأفرج له الصف وخلص من تلك الناحية إلى منجاته وأختين مصاف الإفرنج وتابعوا الحملات. وكان بالأرض هشيم أصابه شرر فاضطرم ناراً فجهدهم لفحها ومات جلهم من العطش فوهنوا وأحاط بهم المسلمون من كل ناحية فارتفعوا إلى تل بناحية حطين لينصبوا خيامهم به فلم يتمكنوا إلا من خيمة الملك فقط والسيف يجول فيهم مجاله حتى في أكثرهم ولم يبق إلا نحو المائة والخمسين من خلاصة زعمائهم مع ملكهم. والمسلمون يكرون عليهم مرة بعد أخرى حتى ألقوا ما بأيديهم وأسروا الملك وأخاه البرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جبيل وابن هنفري ومقدم الفداوية وجماعة من الفداوية والاستبارية. ولم يصاحبوا منذ ملكوا هذه البلاد أعوام التسعين والأربعمائة بمثل هذه الوقعة. ثم جلس صلاح الدين في خيمته وأحضر هؤلاء الأسرى فقرع الملك ووبخه بعد أن أجلسه إلى جانبه وفاء بمنصب الملك وقام إلى البرنس فتولى قتله بيده حرصاً على الوفاء بنذره بعد أن عرفه بغدرته وبجسارته على ما كان يرومه في الحرمين وحبس الباقين. وأما القمص صاحب طرابلس فنجا كما ذكرناه إلى بلده ثم مات لأيام قلائل أسفاً. ولما فرغ صلاح الدين من هزيمتهم نهض إلى طبرية فنازلها واستأمنت إليه الملكة بها فأمنها في ولدها وأصحابها ومالها وخرجت إليه فوفى لها وبعث الملك وأعيان الأسرى إلى دمشق فحبسوا بها. وجمع أسرى الفداوية والاسبتارية بعد أن بذل لمن يجده منهم من المقاتلة خمسين ديناراً مصرية لكل واحد وقتلهم أجمعين. قال ابن الأثير ولقد اجتزت بمكان الواقعة بعد سنة فرأيت عظامهم ماثلة على البعد أجحفتها السيول ومزقتها السباع. ولما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها إلى عكا فنازلها واعتصم الإفرنج الذين بها بالأسوار وشادوا بالاستئمان فأمنهم وخيرهم فاختاروا الرحيل فحملوا ما أقلته رحالهم ودخلها صلاح الدين غرة جمادى سنة ثلاث وثمانين. وصلوا في جامعها القديم الجمعة يوم دخلوهم فكانت أول جمعة أقيمت بساحل الشام بعد استيلاء الإفرنج عليه. وأقطع صلاح الدين بلد عكا لابنه الأفضل وجميع ما كان فيه للفداوية من أقطاع وضياع. ووهب للفقيه عيسى الهكاري كثيراً مما عجز الإفرنج عن حمله وقسم الباقي على أصحابه. ثم قسم الأفضل ما بقي في أصحابه بعد مسير صلاح الدين. ثم أقام صلاح الدين أياماً حتى أصلح أحوالها ورحل عنها والله تعالى أعلم. فتح يافا وصيدا وجبيل وبيروت وحصون عكا لما هزم صلاح الدين الإفرنج كتب إلى أخيه العادل بمصر يسيره ويأمره بالمسير إلى جهات الإفرنج من جهات مصر فنازل حصن مجدل وفتحه وغنم ما فيه ثم سار إلى مدينة يافا ففتحها عنوة واستباحها وكان صلاح الدين أيام مقامه بعكا بعث بعوثه إلى قيساريه وحيفا وأسطورية وبعلبك وشقيف وغيرها في نواحي عكا فملكوها واستباحوها وامتلأت أيديهم من غنائمها وبعث حسام الدين عمر بن الأصعن في عسكر إلى نابلس فملك سسطية مدينة الأسباط وبها قبر زكريا عليه السلام. ثم سار إلى مدينة نابلس فملكها واعتصم الإفرنج الذين بها بالقلعة فأقرهم على أموالهم. وبعث تقي الدين عمر ابن شاهنشاه إلى تبنين ليقطع الميرة عنها وعن صور فوصل إليها بصرخد فملكها بعد قتال. وجاء الخبر بفرار صاحب صيدا فسار وملكها آخر جمادى الأولى من السنة. ثم سار من يومه إلى بيروت وقاتلها من أحد جوانبها فتوهموا أن المسلمين دخلوا عليهم من الجانب الآخر فاهتاجوا لذلك فلم يستقروا ولا قدروا على تسكين الهيعة كثرة ما معهم من أخلاط السواد فاستأمنوا إليه. وملكها آخر يوم من جمادى لثمانية أيام من حصارها. وكان صاحب جبيل أسيراً بدمشق فضمن لنائبها تسليم جبيل لصلاح الدين على أن يطلقه فاستدعاه وهو محاصر لبيروت وسلم الحصن وأطلقه وكان من أعيان الإفرنج وأولي الرأي منهم والله تعالى أعلم. وصول المركيش إلى صور وامتناعه بها كان القمص صاحب طرابلس لما نجا من هزيمة لحق بمدينة صور وأقام بها يريد حمايتها ومنعها من المسلمين فلما ملك صلاح الدين نسيس وصيدا وبيروت ضعف عزمه عن ذلك ولحق ببلده طرابلس. وبقيت صيدا وصور بدون حامية. وجاء المركيش من تجار الإفرنج من المغرب في كثرة وقوة فأرسى بعكا ولم يشعر بفتحها. وخرج إليه الرائد فأخبره بمكان الأفضل بن صلاح الدين فيها وأن صور وعسقلان باقية للإفرنج فلم يطق الإقلاع إليهما لركود الريح فشغلهم بطلب الأمان ليدخل المرسى. ثم طابت ريحه وجرت به إلى صور وأمر الأفضل بخروج الشواني في طلبه فلم يدركوه حتى دخل مرسى صور فوجد بها أخلاطاً كثيرة من فل الحصون المفتتحة فجاؤوا إليه وضمن لهم حفظ المدينة وبذل أمواله في الأنفاق عليها على أن تكون هي وأعمالها له دون غيره وأستحلفهم على ذلك. ثم قام بتدبير أحوالها وشرع في تحصينها فحفر الخنادق ورم الأسوار واستبد بها والله سبحانه وتعالى أعلم. فتح عسقلان وما جاورها ولما ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وتلك الحصون صرف عمته إلى عسقلان والقدس لعظم شأن القدس ولأن عسقلان مقطع بين الشام ومصر فسار عن بيروت إلى عسقلان ولحق به أخوه العادل في عساكر مصر. ونازلها أوائل جمادى الأخيرة. استدعى ملك الإفرنج ومقدم الراية وكانا أسيرين بدمشق فأحضرهما أمرهما بالإذن للإفرنج بعسقلان في تسليمها فلم يجيبوا إلى ذلك أساؤوا الرد عليهما فاشتد في قتالهم ونصب المجانيق عليهم وملكهم يردد الرسائل إليهم في التسليم عساه ينطلق وبأخذ بالثأر من المسلمين فلم يجيبوه. ثم جهدهم الحصار وبعد عليهم الصريخ فاستأمنوا إلى صلاح الدين على شروط اشترطوها كان أهمها عندهم أن يمنعهم من المهرانية بما قتلوا أميرهم في الحصار فأجابهم إلى جميع ما اشترطوه. وملك المدينة منتصف السنة لأربعة عشر يوماً من حصارها وخرجوا بأهليهم وأموالهم وأولادهم إلى القدس ثم بعث السرايا في تلك الأعمال ففتحوا الرملة والداروم وغزة ومدن الخليل وبيت لحم والنطرون وكل ما كمان للفداوية. وكان أيام حصار عسقلان قد بعث عن أسطول مصر فجاء به حسام الدين لؤلؤ الحاجب وأقام يغير على مرسى عسقلان والقدس ويغنم جميع ما يقصده من النواحي والله سبحانه وتعالى يؤيد من يشاء بنصره. فتح القدس ولما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها سار إلى بيت المقدس وبها البطرك الأعظم وبليان بن نيزران صاحب الرملة وربيسة قريبة الملك ومن نجا من زعمائهم من حطين وأهل البلد المفتتحة عليهم وقد اجتمعوا كلهم بالقدس واستماتوا للدين. وبعد الصريخ وأكثروا الاستعداد ونصبوا المجانيق من داخله وتقدم إليه أمير من المسلمين فخرج إليه الإفرنج فأوقعوا به وقتلوه في جماعة ممن معه وفجع المسلمون بقتله. وساروا فنزلوا على القدس منتصف رجب وهالهم كثرة حاميته وطاف بهم صلاح الدين خمسة أيام فتحيز متبوأ عليه للقتال حتى اختار جهة الشمال نحو باب العمود وكنيسة صهيون فتحول إليه. ونصب المجانيق عليها واشتد القتال وكان كل يوم يقتل بين الفريقين خلق. وكان ممن استشهد عز الدين عيسى بن مالك من أكابر أمراء بني بدران وأبوه صاحب قلعة جعبر فأسف المسلمون لقتله وحملوا عليهم حتى أزالوهم عن مواقفهم وأحجروهم بالبلد وملكوا عليهم الخندق ونقبوا السور فوهن الإفرنج واستأمنوا لصلاح الدين فأبى إلا العنوة كما ملكه الإفرنج أول الأمر سنة إحدى وسبعين وأربعمائة فأستأمن له بالباب ابن نيزران صاحب الرملة وخرج إليه وشافهه بالاستئمان. واستعطفه فأصر على الامتناع فتهدده بالاستماتة وقتل النساء والأبناء وحرق الأمتعة وتخريب المشاعر المعظمة واستلحام أسرى المسلمين وكانوا خمسة آلاف أسير واستهلاك جميع الحيوانات الداجنة من الظهر وغيره. فحينئذ استشار صلاح الدين أصحابه فجنحوا إلى تأمينهم فشارطهم على عشرة دنانير للرجل وخمسة للمرأة ودينارين للولد صبي أو صبية وعلى أجل أربعين يوماً دينار. وملك صلاح الدين المدينة يوم الجمعة لتسع وعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره وكان يوماً مشهوداً. ورتب على القدس الأمناء لقبض هذا المال ولم يبن الأمر فيه على المشاحة فذهب أكثرهم دون شيء وعجز آخر الأمر ستة عشر ألف نسمة فأخذوا أسارى وكان فيه على التحقيق ستون ألف مقاتل غير النساء والولدان فإن الإفرنج أرزوا إليه من كل جانب لما افتتحت عليهم حصونهم وقلاعهم. ومن الدليل على مقاربة هذا العدد أن بليان صاحب الرملة أعطى ثلاثين ألف دينار على ثمانية عشر ألفاً وعجز منهم ستة عشر ألفاً وأخرج جميع الأمراء خلقاً لا تحصى في زي المسلمين بعد أن يشارطوهم على بعض القطيعة. واستوهب آخرون جموعاً منهم يأخذون قطيعتهم فوهبهم إياهم. وأطلق بعض نساء الملوك من الروم كانوا مترهبات فأطلقهم بعبيدهم وحشمهم وأموالهم. وكذا ملكة القدس التي أسر صلاح الدين زوجها ملك الإفرنج بسببها وكان محبوساً بقلعة نابلس فأطلقها بجميع ما معها ولم يحصل من القطيعة على خراج. وخرج البطرك الأعظم بما معه من ماله وأموال البيع ولم يتعرض له. وجاءته امرأة البرنس صاحب البهرك الذي قتله يوم حطين تشفع في ولدها وكان أسيراً فبعثها إلى الكرك لتأذن الإفرنج في النزول عنه للمسلمين وكان على رأسه قبة خضراء لها صليب عظيم مذهب. وتسلق جماعة من المسلمين إليه واقتلعوه وارتجت الأرض بالتكبير والعويل. ولما خلا القدس من العدو أمر صلاح الدين برد مشاعره. إلى أوضاعها القديمة وكانوا قد غيروها فأعيدت إلى حالها الأول. وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار فطهرا. ثم صلى المسلمون الجمعة الأخرى في قبة الصخرة وخطب محيي الدين بن زنكي قاضي دمشق بأمر صلاح الدين وأتى في خطبته بعجائب من البلاغة في وصف الحال وعظمة الإسلام اقشعرت لها الجلود وتناقلها الرواة وتحدثت بها السمار أحوالاً. ثم أقام صلاح الدين بالمسجد الصلوات الخمس إماماً وخطيباً وأمر بعمل المنبر له فتحدثوا عنده بأن نور الدين محمود اتخذ له منبراً منذ عشرين سنة وجمع الصناع بحلب فأحسنوا صنعته في عدد سنين فأمر بحمله ونصبه بالمسجد الأقصى. ثم أمره بعمارة المسجد واقتلاع الرخام الذي فوف الصخرة لأن القسيسين كانوا يبيعون الحجر من الصخرة ينحتونها نحتاً ويبعونها بالذهب وزناً بوزن. فتنافس الإفرنج فيها التماس البركة منها ويدعونها في الكنائس فخشي ملوكهم أن تفنى الصخرة فعالوا عليها بفرش الرخام فأمر صلاح الدين بقلعه. ثم استكثر في المسجد من المصاحف ورتب فيه القراء ووفر لهم الجرايات. وتقدم ببناء الربط والمدارس فكانت من مكارمه رحمه الله تعالى. وارتحل الإفرنج بعد أن باعوا جميع ما يملكونه من العقار بأرخص ثمن واشتراه أهل العسكر ونصارى القدس الأقدمون بعد أن ضربت عليهم الجزية كما كانوا والله تعالى أعلم. حصار صور ثم صفد وكوكب والكرك لما فتح صلاح الدين القدس أقام بظاهره إلى آخر شعبان من السنة حتى فرغ من جميع أشغاله ثم رحل إلى مدينة صور وقد اجتمع فيها من الإفرنج عوالم وقد نزل بها المركيش وضبطها. ولما انتهى صلاح الدين إلى عكا أقام بها أياماً فبالغ المركيش في الاستعداد وتعميق الخنادق وإصلاح الأسوار وكان البحر يحيط بها من ثلاث جهاتها فوصل جانب اليمين بالشمال وصارت كالجزيرة. وسار إليها فنزل عليها لتسع بقين من رمضان على تل يشرف منه على مكان القتال وجعل القتال على أقيال عسكره نوباً بين ابنه الأفضل وابنه الظاهر وأخيه العادل وابن أخيه تقي الدين ونصب عليها المجانيق والعرادات. وكان الإفرنج يركبون في الشواني و الحراقات ويأتون المسلمين من ورائهم فيرمون عليهم من البحر ويقاتلونهم ويمنعونهم من الدنو إلى السور فبعث صلاح الدين عن أسطول مصر من مرسى عكا فجاء ودافع الإفرنج وتمكن المسلمون من قتال الأسوار وحاصروها براً وبحراً. ثم كبس أسطول الإفرنج خمسة من أساطيل المسلمين ففتكوا بهم ورد صلاح الدين الباقي إلى بيروت لقلتها فاتبعها أساطيل الإفرنج فلما أرهقوهم في الطلب القوا بأنفسهم إلى الساحل وتركوها فحكمها صلاح الدين ونقضها وجد في حصار صور فلم يفد وامتنعت عليه لما كان فيها من كثرة الإفرنج الذين أمنهم بعكا وعسقلان والقدس فنزلوا إليها بأموالهم وأمدوا صاحبها واستدعوها الإفرنج وراء البحر فوعدوهم بالنصر وأقاموا في انتظارهم. ولما رأى صلاح الدين امتناعها شاور أصحابه في الرحيل فترددوا وتخاذلوا في القتال فرحل آخر شوال إلى عكا وأذن للعساكر في المشي إلى أوطانهم إلى فصل الربيع. وعادت عساكر الشرق والشام ومصر وأقام بقلعة عكا في خواصه ورد أحكام البلد إلى خرديك من أمراء نور الدين. وكان صلاح الدين عندما اشتغل بحصار عسقلان بعث عسكراً لحصار صور فشددوا حصارها وقطعوا عنها الميرة وبعثوا إلى صلاح الدين وهو يحاصر صور فاستأمنوا له ونزلوا عنها فملكها. وكان أيضاً صلاح الدين لما سار إلى عسقلان جهز عسكراً لحصار قلعة كوكب يحرسون السابلة في طريقها من الإفرنج الذين فيها وهي مطلة على الأردن وهي للإستبارية. وجهز عسكراً لحصار صفد وهي للفداوية مطلة على طبرية. ولجأ إلى هذين الحصنين من سلم من وقعة حطين وامتنعوا بهما. فلما جهز العساكر إليهما صلحت الطريق وارتفع منها الفساد. فلما كان آخر ليلة من شوال غفل الموكلون بالحصار على قلعة كوكب وكانت ليلة شاتية باردة فكبسهم الإفرنج ونهبوا ما عندهم من طعام وسلاح وعادوا إلى قلعتهم. وبلغ ذلك صلاح الدين وهو يعتزم على الرحيل عن صور فشحذ من عزيمته. ثم جهز عسكراً إلى صور مع الأمير قايماز النجي وارتحل إلى عكا فلما انصرم فصل الشتاء سار من عكا في محرم سنة أربع وثمانين إلى قلعة كوكب فحاصرها وامتنعت عليه ولم يكن بقي في البلاد الساحلية من عكا إلى الجنوب غيرها وغير صفد والكرك. فلما امتنعت عليه جهز العساكر لحصارها مع قايماز النجمي ورحل عنها في ربيع الأول إلى دمشق ووافته رسل أرسلان وفرح الناس بقدومه والله تعالى ولي التوفيق. غزو صلاح الدين إلى سواحل الشام وما فتحه من حصونها وصلحه آخراً مع صاحب إنطاكية لما رجع صلاح الدين من فتح القدس وحاصر صور وصفد وكوكب عاد إلى دمشق ثم تجهز للغزو إلى سواحل الشام وأعمال إنطاكية وسار عن دمشق في ربيع سنة أربع وثمانين فنزل على حمص واستدعى عساكر الجزيرة وملوك الأطراف فاجتمعوا إليه. وسار إلى حصن الأكراد فضرب عسكره هنالك ودخل متجرداً إلى القلاع بنواحي إنطاكية فنقض طرفها وأغار على ولايتها إلى طرابلس حتى شفى نفسه من ارتيادها. وعاد إلى معسكره فجرت الأرض بالغنائم فأقام عند حصن الأكراد ووفد عليه هنالك منصور بن نبيل صاحب جبلة. وكان من يوم استيلاء الإفرنج على جبله عند صاحب إنطاكية حاكماً على جميع المسلمين فيها ومتولياً أمور سمند فلما هبت ريح الإسلام بصلاح الدين وظهوره نزل إليه ليكشف الغماء ودله على عورة جبلة واللاذقية واستحثه لهما فسار أول جمادى ونزل بطرطوس وقد اعتصم الإفرنج منها ببرجين حصينين وأخلوا المدينة فخربوها واستباحوها. وكان أحد الحصنين للفداوية وفيه مقدمتهم الذي أسره صلاح الدين يوم المصاف وأطلقه عند فتح القدس. واستأمن إليه أهل البرج الآخر ونزلوا له عنه فخربه صلاح الدين وألقى حجارته في البحر وامتنع عليه برج الفداوية فسار إلى المرقب وهو للاسبتارية ولا يرم لعلوه وارتفاعه وامتناعه والطريق في الجبل إلى جبلة عليه فهو عن يمين الطريق والبحر عن يساره في مسلك ضيق إنما يمر به الواحد تلو الواحد. |
فتح جبلة
وكان وصل أسطول من صاحب صقلية مدداً للإفرنج في تلك السواحل في ستين قطعة فأرسوا بطرابلس فلما سمعوا بصلاح الدين أقلعوا إلى المغرب ووقفوا قبالتها ينضجون بسهامهم المارة بتلك الطريق فضرب صلاح الدين على ذلك الطريق سوراً من جهة البحر من المتمارس ووقف وراءه الرماة حتى سلك العسكر المضيق إلى جبلة. ووصلها آخر جمادى وسبق إليها القاضي وملكها صلاح الدين لحينه ورفع أعلام الإسلام على سورها ونفى حاميتها إلى القلعة فاستنزلهم القاضي على الأمان. واستمر منهم جماعة في رهن القاضي والمسلمين عند صاحب إنطاكية حتى أطلقهم. وجاء رؤساء أهل البلد إلى طاعة صلاح الدين وهو بجبل ما بين جبلة وحماة. وكان الطريق عليه بينهم صعباً ففتحه صلاح الدين من ذلك الوقت واستناب بجبلة سابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر وسار عنها للاذقية والله تعالى أعلم بغيبه فتح اللاذقية ولما فرغ صلاح الدين من أمر جبلة سار إلى اللاذقيه فوصلها آخر جمادى الأولى وامتنع حاميتها بحصن لها في أعلى الجبل وملك المسلمون المدينة وحصروا الإفرنج في القلعتين وحفروا تحت الأسوار. وأيقن الإفرنج بالهكلة ودخل إليهم قاضي جبلة ثالث نزولها فاستأمنوا معه. وأمنهم صلاح الدين ورفعوا أعلام الإسلام في الحصنين وخرب المسلمون المدينة. وكانت مبانيها في غاية الوثاقة والضخامة وأقطعها لتقي الدين ابن أخيه فأعادها إلى أحسن ما كانت من العمارة والتحصين وكان عظيم الهمة في ذلك. وكان أسطول صقلية في مرسى اللاذقية وسخطوا ما فعله أهلها ومنعوهم من الخروج منها. وجاء مقدمهم إلى صلاح الدين فرغب منه إقامتهم على الجزية. وعرض في كلامه بالتهديد بإمداد الإفرنج من وراء البحر فأجابه صلاح الدين بإستهانة أمر الإفرنج وهدده فانصرف إلى أصحابه ورحل صلاح الدين إلى صهيون والله تعالى أعلم. فتح صهيون ولما فرغ صلاح الدين من أمر فتح اللاذقية سار إلى قلعة صهيون وهي على جبل صعبة المرتقى بعيدة المهوى يحيط بجبلها واد عميق ضيق ويتصل بالجبل من جهة الشمال وعليها خمسة أسوار وخندق عميق فنزل صلاح الدين على الجبل لضيقها وقدم ولده الظاهر صاحب حلب فنزل مضيق الوادي. ونصب المنجنيقات هنالك فرمى بها على الحصن ونضحهم بالسهام من سائر أصناف القسي وصابروا قليلا. ثم زحف المسلمون ثاني جمادى الأخرى وسلكوا بين الصخور حتى ملكوا أحد أسوارها وقاتلوهم منه فملكوا عليهم سورين آخرين وغنموا جميع ما كان في البلد من الدواب والبقر والذخائر. ولجأ الحامية إلى القلعة وقاتلهم المسلمون عليها فنادوا بالأمان فشرط عليهم مثل قطيعة القدس وملك المسلمون الحصن. وولى عليه ناصر الدين بن كورس صاحب قلعة بوفلس فحصنه وافترق المسلمون في تلك النواحي فوجدوا الإفرنج قد فروا من حصونها فملكوها جميعاً. وهيؤوا إليها طريقاً على عقبة صعبة لعفاء طريقها السهلة بالإفرنج والإسماعيلية والله تعالى أعلم. فتح بكاس والشغر ثم سار صلاح الدين عن صهيون ثالث جمادى إلى قلعة بكاس وقد فارقها الإفرنج وتحصنوا بقلعة شغر فملك بكاس وحاصر قلعة الشغر والطريق منها مسلوك إلى اللاذقية وجبلة وصهيون فقاتلهم. ونصب المنجنيقات عليها فقصرت حجارتها عن الوصول. وكانوا تمنعوا وبعثوا خلال ذلك إلى صاحب إنطاكية وكان الحصن من إيالته فاستمدوه وإلا أعطوا الحصن بما قذف الله في قلوبهم من الرعب. فلما قعد عن نصرهم استأمنوا إلى صلاح الدين وسألوه إنظار ثلاث للفتح فأنظرهم وأخذ رهنهم. ثم سلموه بعد الثلاث في منتصف جمادى من السنة والله تعالى أعلم. فتح سرمين كان صلاح الدين عند اشتغاله بفتح هذه الحصون بعث ابنه الظاهر غازياً صاحب حلب إلى سرمين وحاصرها واستنزل الإفرنج الذين بها على قطيعة أعطوها وهدم الحصن وكان فتحه آخر جمادى الأخيرة فانطلق جماعة من الأسارى كانوا بهذا الحصن وكانت هذه الفتوحات كلها في مقدار شهر وجميعها من أعمال إنطاكية والله تعالى أعلم. فتح برزية ولما فرغ صلاح الدين من قلعة الشغر إلى قلعة برزية قبالة أفامية وتقاسمها في أعمالها. وبينهما بحيرة من ماء العاصي والعيون التي تجري وكانوا أشد شيء في الأذى للمسلمين فنازلها في الرابع والعشرين من جمادى الأخيرة وهي متعذرة المصعد من الشمال والجنوب وصعبته من الشرق وبجهة الغرب مسلك إليها فنزل هنالك صلاح الدين ونصب المجانيق فلم تصل حجارتها لبعد القلعة وعلوها فرجع إلى المزاحفة وقسم عساكره على أمرائها وجعل القتال بينهم نوباً فقاتلهم أولاً عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار وأصعدهم إلى قلعتهم حتى صعب المرتقى على المسلمين وبلغوا مواقع سهامهم وحجارتهم من الحصن. وكانوا يدحرجون الحجارة على المقاتلة فلا يقوم لها شيء. فلما تعب أهل هذه النوبة عادوا وصعد خاصة صلاح الدين فقاتلوا قتالاً شديداً وصلاح الدين وتقي الدين ابن أخيه يحرضانهم حتى أعيوا وهموا بالرجوع فصاح فيهم صلاح الدين وفي أهل النوبة الثانية فتلاحقوا بهم وجاء أهل نوبة عماد على أثرهم وحمي الوطيس ورد الإفرنج على أعقابهم إلى حصنهم فدخلوه ودخل المسلمون معه. وكان بقية المسلمين في الخيام شرقي الحصن وقد أهمله الإفرنج فعمد أهل الخيام من تلك الناحية واجتمعوا مع المسلمين في أعقاب الإفرنج عند الحصن فملكوه عنوة وجاء الإفرنج إلى قبة الحصن ومعهم جماعة من أسارى المسلمين في القيود. فلما سمعوا تكبير إخوانهم خارج القبة كبروا فدهش الإفرنج وظنوا أن المسلمين خالطوهم فألقوا باليد وأسرهم المسلمون واستباحوهم وأحرقوا البلد وأسروا صاحبها وأهله وافترقوا في أسراهم فجمعهم صلاح الدين حتى إذا قارب إنطاكية بعثهم إليها لأن زوجة صاحب إنطاكية كانت تراسل صلاح الدين بالأخبار وتهاديه فرعى لها ذلك والله تعالى ولي التوفيق. فتح دربساك ولما فرغ صلاح الدين من حصن برزية دخل من الغد إلى الجسر الجديد على نهر قرب إنطاكية فأقام عليه فلحق به فخلف العسكر ثم سار إلى قلعة دربساك ونزل عليها في رجب من السنة وهي معاقل الفداوية التي يلجأون إلى الاعتصام بها ونصب عليها المجانيق حتى هدم من سورها. ثم هجمها بالمزاحفة وكشف المقاتلة عن سورها ونقبوا منها برجاً من أسفله فسقط. ثم باركوا الزحف من الغد وصابرهم الإفرنج ينتظرون المدد من صاحبهم سمند صاحب إنطاكية. فلما تبينوا عجزه استأمنوا صلاح الدين فأمنهم في أنفسهم فقط وخرجوا إلى إنطاكية. وملك الحصن في عشرين من رجب من السنة والله تعالى أعلم. فتح بغراس ثم سار عماد الدين عن دربساك إلى قلعة بغراس على تعددها وقربها من إنطاكية فيحتاج مع قتالها إلى ردء من العسكر بينه وبين إنطاكية فحاصرها ونصب عليها المجانيق فقصرت عنها لعلوها وشق عليهم حمل الماء إلى أعلى الجبل وبينما هم في ذلك إذا جاء رسولهم يستأمن لهم فأمنهم في أنفسهم فقط كما أمن أهل دربساك. وتسلم القلعة بما فيها وخربها. فجددها ابن اليون صاحب الأرمن وحصنها وصارت في ايالته والله أعلم. صلح إنطاكية ولما فتح حصن بغراس خاف سمند صاحب إنطاكية وأرسل إلى صلاح الدين في الصلح على أن يطلق أسرى المسلمين الذين عنده. وتحامل عليه أصحابه في ذلك ليريح الناس ويستعدوا فأجابه صلاح الدين إلى ذلك لثمانية أشهر من يوم عقد الهدنة. وبعث إليه من استحلفه وأطلق الأسرى. وكان سمند في هذا الوقت عظيم الإفرنج متسع المملكة وطرابلس وأعمالها قد صارت إليه بعد القمص واستخلف فيها ابنه الأكبر. وعاد صلاح الدين إلى حلب فدخلها ثالث شعبان من السنة وانطلق ملوك الأطراف بالجزيرة وغيرها إلى بلادهم. ثم رحل إلى دمشق وكان معه أبو فليتة قاسم بن مهنا أمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم قد عسكر معه وشهد فتوحه. وكان يتيمن بصحبته ويتبرك برؤيته ويجتهد في تأنيسه وتكرمته ويرجع إلى مشورته. ودخل دمشق أول رمضان من السنة وأشير عليه بتفريق العساكر فأبى وقال هذه الحصون كوكب وصفد والكرك في وسط بلاد الإسلام فلا بد من البدار إلى فتحها والله سبحانه وتعالى أعلم. فتح الكرك كان صلاح الدين قد جهز العساكر على الكرك مع أخيه العادل حتى سار إلى دربساك وبغراس وأبعد في تلك الناحية فشد العادل حصارها حتى جهدوا وفنيت أقواتهم فراسلوه في الأمان فأجابهم. وسلموا القلعة فملكها وملك الحصون التي حواليها وأعظمها الشوبك وأمنت تلك الناحية واتصلت إيالة المسلمين من مصر إلى القدس والله تعالى أعلم. فتح صفد لما عاد صلاح الدين إلى دمشق أقام بها نصف رمضان ثم تجهز لحصار صفد عليها ونصب المجانيق وكانت أقواتهم قد تسلط عليها الحصار الأول فخافوا من نفاذها فاستأمنوا فأمنهم وملكها ولحقوا بمدينة صور والله تعالى أعلم. فتح كوكب لما كان صلاح الدين على صفد خافه الإفرنج على حصن كوكب فبعثوا إليه نجدة وكان قايماز النجمي يحاصره فشعر بتلك النجدة وركب إليهم وهم مختفون ببعض الشعاب فكبسهم ولم يفلت منهم أحد. وكان فيهم مقدمان من الاسبتارية فحملها إلى صلاح الدين على صفد فأحضرهما للقتل على عادته في الفداوية والاسبتارية فاستعطفه واحد منهما فعفا عنهما وحبسهما. ولما فتح صفد سار إلى كوكب وحاصره وأرسل إليهم بالأمان فأصروا على الامتناع عليه فنصب عليهم المجانيق وتابع المزاحفة. ثم عاقه المطر عن القتال وطال مقامه. فلما انقضى المطر عاود المزاحفة وضايقهم بالسور ونقب منه برجاً فسقط فارتاعوا واستأمنوا. وملك الحصن منتصف ذي القعدة من السنة ولحق الإفرنج بصور واجتمع الزعماء وتابعوا الرسل إلى إخوانهم وراء البحر في حوزة يستصرخونهم فتابعوا إليهم المدد واتصل المسلمون في الساحل من ايلة إلى بيروت لا يفصل بينهم إلا مدينة صور. ولما فرغ صلاح الدين من صفد وكوكب سار إلى القدس فقضى فيه نسك الأضحى. ثم سار إلى عكا قام بها إلى انسلاخ الشتاء والله تعالى أعلم. فتح الشقيف ثم سار صلاح الدين في ربيع سنة خمس وثمانين إلى محاصرة الشقيف وكان لأرناط صاحب صيدا وهو من أعظم الناس مكراً ودهاء. فلما نزل صلاح الدين بمرج العيون جاء إليه وأظهر له المحبة والميل وطلب المهلة إلى جمادى الأخيرة ليتخلص أهله وولده من المركيش بصور ويسلم له حصن الشقيف فأقام صلاح الدين هنالك لوعده. وانقضت مدة الهدنة بينه وبين سمند صاحب إنطاكية فبعث تقي الدين ابن أخيه مسلحة في العساكر إلى البلاد التي قرب إنطاكية. ثم بلغه اجتماع الإفرنج بصور عند المركيش وأن الأمداد وافتهم من أهل ملتهم وراء البحر. وأن ملك الإفرنج بالشام الذي أطلقه صلاح الدين بعد فتح القدس قد اتفق مع المركيش ووصل يده له. واجتمعوا في أمم لا تحصى وخشي أن يتقدم إليهم ويترك الشقيف وراءه فتنقطع عنه الميرة فلما انقضى الأجل تقدم إلى الشقيف واستدعى أرناط فجاء واعتذر بأن المركيش لم يمكنه من أهله وولده وطلب الامهال مرة أخرى فتبين صلاح الدين مكره فحبسه وأمره أن يبعث إلى أهل الشقيف بالتسليم فلم يجب فبعث به إلى دمشق فحبس بها. وتقدم إلى الشقيف فحاصره بعد أن أقام مسلحة قبالة الإفرنج الذين بظاهر صور فجاءه الخبر بأنهم فارقوا صور لحصار صيدا فلقيتهم المسلحة وقاتلوهم فغلبوهم وأسروا سبعة من فرسانهم وقتلوا آخرين. وقتل مولى لصلاح الدين من أشجع الناس وردوهم على أعقابهم إلى معسكرهم بظاهر صور. وجاء صلاح الدين بعد انقضاء الوقعة فأقام في المسلحة رجاء أن يصادف أحداً من الإفرنج فينتقم منهم. وركب في بعض الأيام ليشارف معسكر الإفرنج فظن عسكره أنه يريد القتال فنجعوا وأوغلوا إلى العدو. وبعث صلاح الدين الأمراء في أثرهم يردونهم فلم يرجعوا ورآهم الإفرنج فظنوا أن وراءهم كميناً فأرسلوا من يكشف خبرهم فوجدوهم منقطعين فحملوا عليهم وأناموهم جميعاً وذلك تاسع جمادى الأولى من السنة. ثم أنحدر إليهم صلاح الدين في عساكره من الجبل فهزمهم إلى الجسر وغرق منهم في البحر نحو من مائة دارع سوى من قتل. وعزم السلطان على حصارهم واجتمع إليه الناس ثم عاد الإفرنج إلى صور وعاد السلطان إلى بليس ليشارف عكا ويرجع إلى ولما وصل إلى المعسكر جاء الخبر بأن الإفرنج يتعدون عن صدور مذاهبهم لحاجاتهم فكتب إلى المعسكر بعكا ووعدهم ثامن جمادى الأخيرة يواقفونه من ناحيتهم للإغارة عليهم. وأكمن لهم في الأودية والشعاب من سائر النواحي واختار جماعة من فرسان عسكره وتقدم إليهم بأن يتعرضوا للإفرنج ثم يستطردوا لهم إلى مواضع الكمناء ففعلوا وناشبوا الإفرنج وانفوا من الاستطراد. وطال على الكمناء الانتظار فخرجوا خشية على أصحابهم فوافوهم في شدة الحرب فانهزم المسلمون ووقع التمحيص. وكان أربعة في الكمين من أمراء طي فعدلوا عن طريق أصحابهم وسلكوا الوادي وتبعهم بعض العسكر من موالي صلاح الدين. ورآهم الإفرنج في الوادي فعلموا أنهم أضلوا الطريق فاتبعوهم وقتلوهم والله تعالى أعلم. محاصرة الإفرنج أهل صور لعكا والحروب عليها كانت صور كما قدمنا ضبطها المركيش من الإفرنج الواصل من وراء البحر وقام بها وكان كلما فتح صلاح الدين مدينة أو حصناً على الأمان لحق أهلها بصور فاجتمع بها عدد عظيم من الإفرنج وأموال جمة. ولما فتح القدس لبس كثير من رهبانهم وقسيسيهم وزعمائهم السواد حزناً على البيت المقدس. وارتحل بطرك من القدس وهم معه يستصرخون أهل الملة النصرانية من وراء البحر للأخذ بثأر القدس فخرجوا للجهاد من كل بلد حتى النساء اللواتي يجدن القوة على الحرب. ومن لم يستطع الخروج استأجر مكانه وبذلوا الأموال لهم. وجاء الإفرنج من كل مكان ونزلوا بصور ومدد الرجال والأقوات والأسلحة متداركة لهم في كل وقت. واتفقوا على الرحيل إلى عكا ومحاصرتها فخرجوا ثامن رجب من سنة خمس وثمانين وسلكوا على طريق الساحل وأساطيلهم تحاذيهم في البحر. ومسلحة المسلمين تتخطفهم من جوانبهم حتى وصلوا إلى عكا منتصف رجب. وكان رأي صلاح الدين أن يحاذيهم في مسيرهم لينال منهم فخالفه أصحابه واعتذروا بضيق الطريق ووعره فسلك طريقاً آخر ووافاهم على عكا وقد نزلوا عليها وأحاطوا بها من البحر إلى البحر فليس للمسلمين إليها طريق. ونزل صلاح الدين قبالتهم وبعث إلى الأطراف يستنفر الناس فجاءت عساكر الموصل وديار بكر وسنجار وسائر بلاد الجزيرة. وجاء تقي الدين ابن أخيه من حماة ومظفر الدين كوبري عن حران والرها وكانت أمداد المسلمين تصل في البر وامداد الإفرنج في البحر وهم محصورون في صور. وكانت بينهم أيام مذكورة ووقائع مشهورة وأقام السلطان بقية رجب لم يقاتلهم فلما استهل شعبان قاتلهم يوماً بكماله وبات للناس على تعبية. ثم صبحهم بالقتال ونزل بالصبر وحمل عليهم تقي الدين ابن أخيه منتصف النهار من الميمنة حملة أزالتهم عن مواقفهم وملك مكانهم واتصل بالبلد فدخلها المسلمون وشحنها صلاح الدين بالمدد من كل شيء. وبعث إليهم الأمير حسام الدين أبا الهيجاء السمين من أكابر أمرائه من الأكراد الخطية من اربل. ثم نهض المسلمون من الغد فوجدوا الإفرنج قد أداروا عليهم خندقاً يمتنعون به ومنعوهم القتال يومهم وأقاموا كذلك. ومع السلطان أحياء من العرب فكمنوا في معاطف النهر من ناحية الإفرنج على الساحل للخطف منهم وكبسوهم منتصف شعبان وقتلوهم وجاؤوا برؤوسهم إلى صلاح الدين فأحسن إليهم والله تعالى أعلم. |
الوقعة على عكا
كان صلاح الدين قد بعث عن عسكر مصر وبلغ الخبر الإفرنج فأرادوا معاجلته قبل وصولهم. وكانت عساكره متفرقة في المسالح على الجهات فمسلحة تقابل إنطاكية وملكها سمند في البلاد التي من أعمال حلب ومسلحة بحمص تحفظها من أهل طرابلس ومسلحة تقابل صور ومسلحة بدمياط والإسكندرية. واعتزم الإفرنج على مهاجمتهم بالقتال ولم يشعروا بهم وصبحوهم لعشرين من شعبان وركب صلاح الدين وعبى عساكره وقصدوا الميمنة وعليها تقي الدين ابن أخيه فتزحزح بعض الشيء وأمده صلاح الدين بالرجال من عنده. فحطوا على صلاح الدين في القلب فتضعضع واستشهد جماعه منهم الأمير علي بن مردان والظهير أخو الفقيه عيسى والي القدس والحاجب خليل الهكاري وغيرهم. وقصدوا خيمة صلاح الدين فقتلوا من وزرائه ونهبوا واستشهد جمال الدين بن رواحة من العلماء ووضعوا السيف في المسلمين وانهزم الذين كانوا حوالي الخيمة ولم تسقط وانقطع الذين ولوها من الإفرنج عن أصحابهم وراءهم وحملت ميسرة المسلمين عليهم فأحجموا إلى وراء الخنادق وعادوا إلى خيمة صلاح الدين فقتلوا كل من وجدوا عندها من الإفرنج. وصلاح الدين قد عاد من اتباع أصحابه يردهم للقتال. وقد اجتمعوا عليهم فلم يفلت منهم أحد وأسروا مقدم الفداوية فأمر بقتله وكان أطلقه مرة أخرى. وبلغت عدة القتلى عشرة آلاف فألقوا في النهر وأما المنهزمون من المسلمين فمنهم من رجع من طبرية ومنهم من جاوز الأردن ورجع ومنهم من بلغ دمشق. واتصل قتال المسلمين للإفرنج وكادوا يلجون عليهم معسكرهم. ثم جاءهم الصريخ بنهب أموالهم وكان المنهزمون قد حملوا أثقالهم فامتدت إليها أيدي الأوباش ونهبوها فكان ذلك مما شغل المسلمين عن استئصال الإفرنج وأقاموا في ذلك يوماً وليلة يستردون النهب من أيدي المسلمين ونفس بذلك عن الإفرنج بعض الشيء والله تعالى أعلم. رحيل صلاح الدين عن الإفرنج بعكا ولما انقضت هذه الوقعة وامتلأت الأرض من جيف الإفرنج تغير الهواء وأنتن وحدث بصلاح الدين قولنج كان يعاوده فأشار عليه أصحابه بالانتقال عسى الإفرنج ينتقلون. وإن أقاموا عدنا إليهم وحمله الأطباء على ذلك فرحل رابع رمضان من السنة وتقدم إلى عكا بحياطتها وأعلمهم سبب رحيله. فلما ارتحل اشتد الإفرنج في حصار عكا وأحاطوا بها دائرة مع أسطولهم في البحر وحفروا خندقاً على معسكرهم وأداروا عليهم سوراً من ترابه حصناً من صلاح الدين أن أن يعود إليهم ومسلحة المسلمين قبالتهم يناوشوهم القتال فلا يقاتلونهم. وبلغ ذلك صلاح الدين وأشار أصحابه بإرسال العساكر ليمنع من التحصين فامتنع من ذلك. لمرضه. فتم للإفرنج ما أرادوه وأهل عكا يخرجون إليهم كل يوم ويقاتلونهم والله تعالى أعلم. معاودة صلاح الدين حصار الإفرنج على عكا ثم وصل العادل أبو بكر بن أيوب منتصف شوال في عساكر مصر ومعه الجم الغفير من المقاتلة والأصناف الكثيرة من آلات الحصار. ووصل على إثره أسطول مصر مع الأمير لؤلؤ وكبس مركباً فغنم ما فيه ودخل به إلى عكا وبرئ صلاح الدين من مرضه وأقام بمكانه بالجزيرة إلى انسلاخ الشتاء. وسمع الإفرنج أن صلاح الدين سار إليهم واستقلوا مسلحة المسلمين عندهم فزحفوا إليهم في صفر سنة ست وثمانين واستمات المسلمون وقتل بين الفريقين خلق. وبلغ الخبر بذلك صلاح الدين وجاءته العساكر من دمشق وحمص وحمله فتقدم من الجزيرة إلى تل كيسان وتابع القتال على الإفرنج يشغلهم عن المسلمين فكانوا يقاتلون الفريقين. وكان الإفرنج مدة مقامهم على عكا قد صنعوا ثلاثة أبراج من الخشب ارتفاع كل برج ستون ذراعاً وفيه خمس طبقات وغشوها بالجلود وطلوها بالأدوية التي لا تعلق النار بها. وشحنوها بالمقاتلة وأدنوها إلى البلد من ثلاث جهات في العشرين من ربيع الأول سنة ست وثلاثين. وأشرفوا بها على السور فكشف من عليه من المقاتلة وشرع الإفرنج في طم الخندق. وبعث أهل عكا سابحاً في البحر يصف لهم حالهم فركب في عسكره واشتد في قتال الإفرنج فخف على أهل البلد ما كانوا فيه وأقاموا كذلك ثلاثة أيام يقاتلون الجهتين وعجزوا عن دفع الأبراج ورموها بالنفط فلم يؤثر فيها. وكان عندهم رجل من أهل دمشق يعاني أحوال النفط فأخذ عقاقير وصنعها وحضر عند قراقوش حاكم البلد وأعطاه دواء وقال إرم بهذا في المنجنيق المقابل لإحدى الأبراج فيحترق فجرد عليه ثم وافق ورمى به في قدر. ثم رمى بعده بقدر أخرى مملوءة ناراً فاضطرمت النار واحترق البرج بمن فيه ثم فعل بالثاني والثالث كذلك. وفرح أهل البلد وتخلصوا من تلك الورطة فأمر صلاح الدين بالإحسان إلى ذلك الرجل فلم يقبل وقال إنما فعلته لله ولا أريد الجزاء إلا منه. ثم بعث صلاح الدين إلى ملوك الأطراف ليستنفرهم فجاء عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار ثم علاء الدين بن طالب صاحب الموصل ثم عز الدين مسعود بن مودود وبعثه أبوه بالعساكر ثم زين الدين صاحب إربل وكان كل واحد منهم إذا وصل يتقدم بعسكره فيقاتلون الإفرنج ثم يضربون أبنيتهم. وجاء الخبر بوصول الأسطول من مصر فجهز الإفرنج أسطولاً لقتاله وشغلهم صلاح الدين بالقتال ليتمكن الأسطول من دخول عكا فلم يشغلوا عنه وقاتلوا الفريقين براً وبحراً ودخل الأسطول إلى مرسى عكا سالماً والله تعالى أعلم بغيبه. وصول ملك الألمان إلى الشام ومهلكه هؤلاء الألمان شعب من شعوب الإفرنج كثير العدد موصوف بالبأس والشدة وهم موطنون بجزيرة انكلطرة في الجهة الشمالية الغربية من البحر المحيط وهم حديثو عهد بالنصرانية. ولما سار القسس والرهبان بخبر بيت المقدس واستنفار النصرانية لها قام ملكهم لها وقعد وجمع عساكره وسار للجهاد بزعمه وفسح النصارى له الطريق. وقصد القسطنطينية فعجز ملك الروم عن منعه بعد أن كان يعد بذلك نفسه وكتب بها إلى صلاح الدين لكنه منع عنهم الميرة فضاقت عليهم الأقوات. وعبروا خليج القسطنطينية ومروا بمملكة قليج أرسلان وتبعهم التركمان يحفون بهم ويتخطفون منهم وكان الفصل شتاء والبلاد باردة فهلك أكثرهم من البرد والجوع. ومروا بقونية وبها قطب الدين ملك شاه بن قليج أرسلان قد غلب عليه أولاده وافترقوا في النواحي فخرج ليصدهم فلم يطق ذلك ورجع فساروا في أثره إلى قونية وبعثوا إليه بهدية على أن يأذن لهم في الميرة فأذن لهم. واسترهنوا عشرين من أمرائه وتكاثر عليهم اللصوص فقيدوا أولئك الأمراء وحبسوهم وساروا إلى بلاد الأرمن وصاحبها كاقولي بن خطفاي بن اليون فأمدهم بالأزواد والعلوفات وأظهر طاعتهم وسار إلى إنطاكية. ودخل ملكهم ليغتسل في نهر هنالك فغرق وملك بعده ابنه. ولما بلغوا إنطاكية اختلفوا فبعضهم مال إلى تمليك أخيه وبعضهم مال إلى العود فعادوا كلهم. وسار ابن الملك فيمن ثبت معه يزيدون على أربعين ألفاً وأصاحبهم الموتان وحسن إليهم صاحب إنطاكية المسير إلى الإفرنج على عكا فساروا على جبلة واللاذقية ومروا بحلب وتخطف أهلها منهم خلقاً وبلغوا طرابلس وقد أفناهم الموتان ولم يبق منهم إلا نحو ألف رجل فركبوا البحر إلى عكا. ثم رأوا ما هم فيه من الوهن والخلاف فركبوا البحر إلى بلدهم وغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد. وكان الملك قليج أرسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم ويعده بمنعهم من العبور عليه فلما عبروا اعتذر بالعجز عنهم وافتراق أولاده واستبدادهم عليه. وأما صلاح الدين فإنه استشار أصحابه عند وصول خبرهم فأشار بعضهم إلى لقائهم في طريقهم ومحاربتهم وأشار آخرون بالمقام لئلا يأخذ الإفرنج عكا. ومال صلاح الدين إلى هذا الرأي وبعث العساكر من جبلة واللاذقية وشيزر إلى حلب ليحفظوها من عاديتهم والله تعالى ولي التوفيق. واقعة المسلمين مع الإفرنج على عكا ثم زحف الإفرنج على عكا في عشر من جمادى الأخيرة من سنة ست وثمانين وخرجوا من خنادقهم إلى عساكر صلاح الدين وقصد العادل أبو بكر بن أيوب في عساكر مصر فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كشفهم الإفرنج عن الخيام وملكوها. ثم كر عليهم المصريون فكشفوهم عن خيامهم وخالفهم بعض عساكر مصر إلى الخنادق فقطعوا عنهم بعض مدد أصحابهم فأخذتهم السيوف وقتل منهم ما يزيد على عشرين ألفاً. وكانت عساكر الموصل قريباً من عسكر مصر ومقدمهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل فعدمت ميرتهم وأمر صلاح الدين بمناجزتهم على هذا الحال. وبلغه الخبر بموت ملك الألمان وما أصاب قومه من الشتات فسر المسلمون بذلك وظنوا وهن الإفرنج به. ثم بعد يومين لحقت بالإفرنج أمداد في البحر مع كند من الكنود يقال له الكندهري بن أخي الاقرسيس لأبيه وابن أخي ملك انكلطرة لأمه ففرق في الإفرنج أموالاً وجند لهم أجناداً ووعدهم بوصول الأمداد على أثره فاعتزموا على الخروج لقتال المسلمين. فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الحزونة لثلاث بقين من جمادى الأخيرة لضيق المجال ونتن المكان من جيف القتلى. ثم نصب الكندهري على عكا مجانيق وذبابات فأخذها أهل عكا وقتلوا عندها جموعاً من الإفرنج فلم يتمكن من متابعة ذلك ولا من إقامة الستائر عليها لأن أهل البلاد كانوا يصيبونها فعمل تلاً عالياً من التراب ونصب المجانيق من ورائه وضاقت الأحوال وقلت الميرة. وأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية ببعث الأقوات في المراكب إلى عكا وبعث إلى بيروت بمثل ذلك فبعثوا مركباً ونصبوا فيها الصلبان يوهمون أنه للإفرنج حتى دخلوا إلى المرسى. وجاءت بعد الميرة من الإسكندرية. ثم جاءت ملكة من الإفرنج من وراء البحر في نحو ألف مقاتل للجهاد بزعمها فأخذت ببحر الإسكندرية هي وجميع ما معها. ثم كتب البابا كبير الملة النصرانية من كنيسة برومة يأمرهم بالصبر والجهاد ويخبرهم بوصول الامداد وأنه راسل ملوك الإفرنج يحثهم على إمدادهم فازدادوا بذلك قوة واعتزموا على مناجزة المسلمين وجمروا عسكراً لحصار عكا وارتحلوا حادي عشر شوال من السنة فنقل صلاح الدين أثقال العسكر إلى على ثلاثة فراسخ من عكا ولقي الإفرنج على التعبية. وكان أولاده الأفضل علي والظافر غازي والظاهر خضر في القلب وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة بعساكر مصر ومن انضم إليهم وعماد الدين صاحب سنجار وتقي الدين صاحب حماة ومعز الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر في الميسرة وصلاح الدين في خيمة صغيرة على تل مشرف نصب له من أجل موضعه. فلما وصل الإفرنج وعاينوا كثرة المسلمين ندموا على مفارقة خنادقهم وباتوا ليلتهم وعادوا من الشد إلى معسكرهم فأتبعوهم أهل المقدمة وتخطفوهم من كل ناحية وأحجروهم وراء خنادقهم. ثم ناوشوهم القتال في الثالث والعشرين من شوال بعد أن أكمنوا لهم عسكراً فخرج لهم الإفرنج في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى إن وصلوا كمينهم فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد. واشتد الغلاء على الإفرنج وبلغت الغرارة مائة دينار صوري مع ما كان يحمل إليهم من البلدان من بيروت على يد صاحبها أسامة ومن صيدا على يد نائبها سيف الدين علي بن أحمد المشطوب ومن عسقلان وغيرها. ثم اشتد عليهم الحال عند هيجان البحر وانقطاع المراكب في فصل الشتاء. ثم هجم الشتاء وأرسى الإفرنج مراكبهم بصور خوفاً عليها على عادتهم في صور الشتاء. ووجد الطريق إلى عكا في البحر فأرسل أهلها إلى صلاح الدين ما نزل بهم وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين فشكى من ضجره بطول المقام والحرب فأمر صلاح الدين بإنفاذ نائب وعسكر إليها بدلاً منهم وأمر أخاه بماشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبل حيفا وجمع المراكب والشواني وبعث العساكر إليها شيئاً فشيئاً كلما دخلت طائفة خرج بدلها فدخل عشرون أميراً بدلاً من ستين كانوا. وأهملوا أهل الرج تعينت دواوين صاحب الدين وكانوا نصارى على الجند في إثباتهم وإطلاق نفقاتهم فبلغ الحامية بعكا وضعفت وعادت مراكب الإفرنج بعد انحسار الشتاء فانقطعت الأخبار عن عكا وعنها. وكان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وعز الدين أرسلان مقدم الأسدية وابن جاولي وغيرهم. وكان دخولهم عكا أول سنة سبع وثمانين والله سبحانه وتعالى أعلم. |
وفاة زين الدين صاحب إربل
وولاية أخيه كوكبري كان زين الدين يوسف بن زين الدين قد دخل في طاعة صلاح الدين وكانت له إربل كما مر لأيام أبيه وحران والرها لأخيه مظفر الدين كوكبري وكان يعسكر مع صلاح الدين في غزواته وحضر عنده على عكا فأصابه المرض. وتوفي في ثامن عشر رمضان سنة أربع وثمانين فقبض أخوه مظفر الدين كوكبري على بلد أمير من أمرائه. وبعث إلى صلاح الدين يطلب إربل وينزل عن حران والرها فأجابه وأقطعه إياهما وأضاف إليهما شهرزور وأعمالها ودار بند العرابلي وهي قفجاق. وكاتب أهل إربل مجاهد الدين صاحب الموصل خوفاً من صلاح الدين مع أن مجاهد الدين كان عز الدين قد حبسه كما مر ثم أطلقه وولاه نائبه وجعل بعض غلمانه عيناً فكان يناقضه في كثير من الأحوال فقصد مجاهد الدين أن يفعل معه مثل ذلك في إربل فامتنع منها وولاها مظفر الدين واستفحل أمره فيها. ولما نزل مظفر الدين عن حران والرها ولاها صلاح الدين لابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه مضافة إلى ميافارقين بديار بكر وحماة وأعمالها بالشام. وتقدم له أن يقطع أعمالها للجند فيتقوى بهم على الإفرنج فسار تقي الدين إليها وقرر أمورها. ثم انتهى إلى ميافارقين وتجدد له طمع فيما يجاورها من البلاد فقصد مدينة حال من ديار بكر. وسار إليه سيف الدين بكتمر صاحب خلاط في عساكره وقاتله فهزمه تقي الدين ووطئ بلاده. وكان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رستق وزير سلطان شاكرين وحبسه في قلعة هنالك. فلما انهزم كتب إلى والي القلعة بقتله فوافاه الكتاب وتقي الدين محاصر له. فلما ملك القلعة أطلق ابن رستق وسار إلى خلاط وحاصرها فامتنعت عليه فعاد عنها إلى ملازكرد فضيق عليها حتى استأمنوا له وضرب لهم أجلاً في تسليم البلد. ثم مرض ومات قبل ذلك الأجل بيومين وحمله ابنه إلى ميافارقين فدفنه بها واستفحلت دولة بكتمر في خلاط والله تعالى أعلم. وصول إمداد الإفرنج من الغرب إلى عكا ثم تتابعت إمداد الإفرنج من وراء البحر لإخوانهم المحاصرين لعكا وأول من وصل منهم الملك ملك إفرنسة وهوذ ونصب فيهم وملكه ليس بالقوي. هكذا قال ابن الأثير وعنى أنه كان مستفحلاً في ذلك العصر لأنه في الحقيقة ملك الإفرنج. وهو في ذلك العصر أشد من كانوا قوة واستفحالاً فوصل ثاني عشر ربيع الأول سنة أربع وثمانين في ستة مراكب عظيمة مشحونة بالمقاتلة والسلاح فقوي الإفرنج على عكا بمكانه وولي حرب المسلمين فيها وكان صلاح الدين على معمر عمر قريباً من معسكر الإفرنج فكان يصابحهم كل يوم عن مزاحفة البلد. وتقدم إلى أسامة في بيروت بتجهيز ما عنده من المراكب والشواني إلى مرسى عكا ليشغل الإفرنج أيضاً فبعثها ولقيت خمسة مراكب في البحر. وكان ملك الانكلطرة أقدمها وأقام على جزيرة قبرص طامعاً في ملكها فغنم أسطول المسلمين الخمسة مراكب بما فيها ونفذت كلمة صلاح الدين إلى سائر النواب بأعماله بمثل ذلك فجهزوا الشواني وملأوا بها مرسى عكا. وواصل الإفرنج قتال البلد ونصبوا عليها المنجنيقات رابع جمادى وتحول صلاح الدين لمعسكره قريباً منهم ليشغلهم عن البلد فخف قتالهم عن أهل البلد. ثم فرغ ملك انكلطرة من جزيرة قبرص وملكها وعزل صاحبها. وبلغ إلى عكا في خمس وعشرين مركباً مشحونة بالرجال. ووصل منتصف رجب ولقي في طريقه مركباً جهز من بيروت إلى عكا وفيه سبعمائة مقاتل فقاتله. فلما يئس المسلمون الذين به من الخلاص نزل مقدمهم وهو يعقوب الحلي غلام ابن شفنين فحرق المركب خوفاً من أن يظفر الإفرنج برجاله وذخائره فغرق ثم عمل الإفرنج ذبابات وكباشاً وزحفوا بها فأحرق المسلمون بعضها وأخذوا بعضها فرجع الإفرنج إلى نصب التلال من التراب يقاتلون من ورائها فامتنعت من نفوذ الحيلة وضاق حال أهل عكا. استيلاء الإفرنج على عكا ولما جهد المسلمين بعكا الحصار خرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المشطوب من أكبر أمرائها إلى ملك إفرنسة يستأمنه لأهل عكا فلم يجبه وضعفت نفوس أهل البلد لذلك ووهنوا. ثم هرب من الأمراء عز الدين أرسل الأسدي وابن عز الدين وسنقر الأرجاني في جماعة منهم. ولحقوا بالعسكر فازداد أهل عكا وهناً. وبعث الإفرنج إلى صلاح الدين في تسليمها فأجاب على أن يؤمنوا أهل البلد ويطلق لهم من أسراهم بعدد أهل البلد ويعطيهم الصليب الذي أخذه من القدس فلم يرضوا بما فعل فبعث إلى المسلمين بعكا أن يخرجوا بجمعهم ويتركوا البلد ويسيروا مع البحر ويحملوا العدو حملة مستميتين ويجيء المسلمون من وراء العدو فعساهم يخلصون بذلك فلما أصبحوا زحف الإفرنج إلى البلد ورفع المسلمون أعلامهم وأرسل المشطوب من البلد إلى الإفرنج فصالحهم على الأمان على أن يعطيهم مائتي ألف دينار ويطلق لهم خمسمائة أسير ويعيد لهم الصليب. ويعطي للمركيش صاحب صور أربعة عشر ألف دينار فأجابوا إلى ذلك وضربوا المدة للمال والأسرى شهرين. وسلموا لهم البلد فلما ملكوها غدروا بهم وحبسوهم رهناً بزعمهم في المال والأسرى والصليب. ولم يكن لصلاح الدين ذخيرة من المال لكثرة إنفاقه في المصالح فشرع في جمع المال حتى اجتمع مائة ألف دينار وبعث نائباً يستحلفهم على أن يضمن الفداوية من الخلف والضمان خوفاً من غدر أصحابه. وقال ملوكهم إذا سلمتم المال والأسرى تعطونا رهناً في بقية المال ونطلق أصحابكم. وطلب صلاح الدين أن يضمن الفداوية الرهن ويحلفوا فامتنعوا أيضاً وقالوا ترسلون المائة ألف دينار والأسرى والصليب فنطلق من نراه ونبقي الباقي إلى مجيء بقية المال فتبين المسلمون غدرهم وأنهم يطلقون من لا يعبأ به ويمسكون الأمراء والأعيان حتى يفادوهم فلم يجبهم صلاح الدين إلى شيء. ولما كان آخر رجب ركب الإفرنج إلى ظاهر البلد في إحتفال وركب المسلمون فشدوا عليهم وكشفوهم عن مواقفهم فإذا المسلمون الذين كانوا عندهم قتلى بين الصفين قد استلحموا ضعفاءهم وتمسكوا بالأعيان للمفاداة فسقط في يد صلاح الدين وتمسك بالمال الذي جمعه لغيرها من المصالح والله تعالى أعلم. تخريب صلاح الدين عسقلان ولما استولى الإفرنج على عكا استوحش المركيش صاحب صور من ملك انكلطرة وأحس منه بالغدر فلحق ببلده صور. ثم سار الإفرنج مستهل شعبان قصد عسقلان وساروا مع ساحل البحر لا يفارقونه. ونادى صلاح الدين باتباعهم مع ابنه الأفضل وسيف الدين أبي زكوش وعز الدين خرديك فاتبعوهم يقاتلونهم ويتخطفونهم من كل ناحية. ففتكوا فيه بالقتل والأسر وبعث الأفضل إلى أبيه يستمده فلم يجد العساكر مستعدة. وسار ملك انكلطرة في ساقة الإفرنج فحملهم وانتهوا إلى يافا فأقاموا بها والمسلمون قبالتهم مقيمون. ولحق بهم من عكا من احتاجوا إليه. ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون يتبعونهم ويقتلون من ظفروا به منهم. وزاحموهم عند قيسارية فنالوا منهم وباتوا بها مثاورين. واختطف المسلمون منهم بالليل فقتلوا وأسروا. وساروا من الغد إلى أرسوف وسبقهم المسلمون إليها لضيق الطريق فحملوا عليهم عندها حتى اضطروهم إلى البحر. فحينئذ استمات الإفرنج وحملوا على المسلمين فهزموهم واثخنوا في تابعهم وألحقوهم بالقلب وفيه صلاح الدين. وتستر المسلمون المنهزمون بخمر الشعراء فرجع الإفرنج عنهم وانفرج ما كانوا فيه من الضيق مذكور وساروا إلى يافا فوجدوها خالية وملكوها وكان صلاح الدين قد سار من مكان هزيمة إلى الرملة وجمع مخلفه وأثقاله واعتزم على مسابقة الإفرنج إلى عسقلان فمنعه أصحابه وقالوا نخشى أن يزاحمنا الإفرنج عليها ويغلبونا على حصارها كما غلبونا على حصار عكا. ويملكوها آخراً ويقووا بما فيها من الذخائر والأسلحة فندبهم إلى مسير إليها وحمايتها من الإفرنج فلحوا في الإمتناع من ذلك فسار وترك العساكر مع أخيه العادل قبالة الإفرنج ووصل إلى عسقلان وخربها تاسع عشر شعبان وألقيت حجارتها في البحر وبقي أثرها وهلك فيها من الأموال والذخائر ما لا يحصى. فلما بلغ ذلك أقاموا بيافا. وبعث المركيش إلى ملك إنكلطرة يعذله حيث لم يناجز صلاح الدين على عسقلان ثاني رمضان إلى الرملة فخرب حصنها. ثم سار إلى القدس من شدة البرد والمطر لينظر في مصالح القدس وترتبهم في الاستعداد للحصار. وأذن للعساكر في العود إلى بلادهم للإراحة. وعاد إلى مخيمه ثامن رمضان. وأقام الإفرنج بيافا وشرعوا في عمارتها فرحل صلاح الدين إلى نطرون وخيم به منتصف رمضان. وتردد الرسل بين ملك انكلطرة وبين العادل على أن يزوجه ملك إنكلطرة أخته ويكون القدس وبلاد المسلمين. بالساحل للعادل وعكا وبلاد الإفرنج بالساحل لها إلى مملكتها وراء البحر بشرط رضا الفداوية. وأجاب صلاح الدين إلى ذلك ومنع الأقسة والرهبان أخت ملك إنكلطرة من ذلك ونكروا عليها فلم يتم وإنما كان ملك إنكلطرة يخادع بذلك. ثم اعتزم الإفرنج على القدس ورحلوا من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة وسار صلاح الدين إلى القدس وقد ترك عليه عساكر مصر مع أبي الهيجاء فقويت به نفوس المسلمين. وسار الإفرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة والمسلمون يحاذونهم. وكانت بينهم وقعات أسروا في واحدة منها نيفاً وخمسين من مقاتلة الإفرنج واهتم صلاح الدين بعمارة أسوار القدس ورم ما ثلم وضبط المكان الذي ملك القدس منه وسد فروجه. وأمر بحفر خندق خارج الفصيل. وقسم ولاية هذه الأعمال بين ولده وأصحابه وقلت الحجارة للبنيان. وكان صلاح يركب إلى الأماكن البعيدة وينقلها على مركوبه فيقتدي به العسكر. ثم إن الإفرنج ضاقت أحوالهم بالنطرون وقطع المسلمون عنهم الميرة من ساحلهم فلم يكن كما عهدوه بالرملة وسأل ملك إنكلطرة عن صورة القدس ليعلم كيفية ترتيب حصارها فصورت له. ورأى الوادي محيطاً بها إلا قليلاً من جهة الشمال مع عمقه ووعرة مسالكه فقال هذه لا يمكن حصارها لأنا إذا اجتمعنا عليها من جانب بقيت الجوانب الأخرى وإن افترقنا على جانب الوادي والجانب الآخر كبس المسلمون إحدى الطائفتين. ولم تصل الأخرى لإنجادهم خوفاً من المسلمين على معسكرهم وإن تركوه من أصحابه حامية المعسكر فالمدى بعيد لا يصلون للإنجاد إلا بعد الوفاة هذا إلى ما يلحقنا من تعذر القوت بانقطاع الميرة فعلموا صدقه وارتحلوا عائدين إلى الرملة. ثم ارتحلوا في محرم سنة ثمان وثمانين إلى عسقلان وشرعوا في عمارتها وسار ملك إنكلطرة إلى مسلحة المسلمين فواقعوهم وجرت بينهم حروب شديدة وصلاح الدين يبعث سراياه من القدس إلى الإفرنج للإغارة وقطع الميرة فيغنمون ويعودون والله تعالى أعلم. مقتل المركيش وملك الكندهري مكانه ثم ارتحل صلاح الدين إلى سنان مقدم الإسماعيلية بالشام في قتل ملك انكلطرة والمركيش وجعل له على ذلك عشرة آلاف دينار فلم يمكنهم قتل ملك انكلطرة لما رأوه من المصلحة لئلا يتفرغ لهم صلاح الدين. وبعث رجلين لقتل المركيش في زي الرهبان فاتصلا بصاحب صيدا وابن بازران صاحب وأقاما عندهما بصور ستة أشهر مقبلين على رهبانيتهما حتى أنس بهما المركيش. ثم دعاه الأسقف بصور دعوى فوثبا عليه فجرحاه ولجأ أحدهما إلى كنيسة واختفى فيها وحمل إليها المركيش لشدة جراحه فأجهز عليه ذلك الباطني وقتله. ونسب ذلك إلى ملك انكلطرة رجاء أن ينفرد بملك الإفرنج بالشام. ولما قتل المركيش ملك المدينة زعيم من الإفرنج الواردين من وراء البحر يعرف بالكندهري ابن أخت ملك أفرنسة وابن أخي ملك انكلطرة من أبيه وتزوج بالملكة في ليلته وبنى بها. وملك عكا وسائر البلاد بعد عود ملك انكلطرة وعاش إلى سنة أربع وتسعين وسقط من سطح. ولما رحل ملك انكلطرة إلى بلده أرسل هذا الكندهري إلى صلاح الدين واستماله للصلح والتمس منه الخلعة فبعث إليه بها ولبسها بعكا والله تعالى أعلم. مسير الإفرنج إلى القدس ولما قدم صلاح الدين إلى القدس وكان قد بلغه مهلك تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه وأن ابنه ناصر الدين استولى على أعماله بالجزيرة وهي حران والرها وسميساط وميافارقين وأرجان وبعث إلى صلاح الدين يسأل إبقاءها في يده مضافة إلى ما كان لأبيه من الأعمال بالشام فاستقصره صلاح الدين لصغره. وطلب منه ابنه الأفضل أن يعطيها له وينزل عن دمشق فأجابه إلى ذلك وأمره أن يسير إليها. وكاتب ملوك البلاد الشرقية بالموصل وسنجار والجزيرة وإربل وسار لإنجاده بالعساكر. وعلم ناصر الدين أنه لا قبل له بذلك فبعث للملك العادل يستشفع له عند صلاح الدين على أن يبقى بيده له ما كان لأبيه بالشام فقط وينزل عن بلاد الجزيرة فأقطعها صلاح الدين أخاه الملك العادل وبعثه يتسلمها ويرد ابنه الأفضل فلحق بالأفضل بحلب وأعاده وعبر الفرات وتسلم البلاد من ناصر الدين بن تقي الدين وأنزل بها عماله. واستصحبه وساير العساكر الجزرية إلى صلاح الدين بالقدس. ولما بلغ الإفرنج أن صلاح الدين بعث ابنه الأفضل وأخاه العادل وفرق العساكر ولم يبق معه بالقدس إلا بعض الخاصة طمعوا فيه وأغاروا على عسكر مصر وهو قاصد إلي ومقدمهم سليمان أخو العادل لأمه فأخذه بنواحي الخليل وقتلوا وغنموا ونجا فلهم إلى جبل الخليل. وساروا إلى الداروم فخربوه. ثم ساروا إلى القدس وانتهوا إلى فوجة على فرسخين من القدس تاسع جمادى الأولى من سنة ثمان وثمانين. واستعد صلاح الدين للحصار وفرق أبراج السور على أمرائه وسلط السرايا والبعوث عليهم فرأوا ما لا قبل لهم به فتأخروا عن منازلتهم بيافا. وأصبحت بقولهم وميرتهم غنائم للمسلمين. وبلغهم أن العساكر الشرقية والتي مع العادل والأفضل عادت إلى دمشق فعادوا إلى عكا وعزموا على محاصرة بيروت فأمر صلاح الدين ابنه الأفضل أن يسير في العساكر الشرقية إليها فسار وانتهى إلى مرج العيون فلم يبرح الإفرنج من عكا. واجتمع عند صلاح الدين خلال ذلك العساكر من حلب وغيرها فسار إلى يافا فحاصرها وملكها عنوة في العاشر من رجب من السنة. ثم حاصر القلعة بقية يومه وأشرفوا على فتحها. وكانوا ينتظرون المدد من عكا فشغلوا المسلمين بطلب الأمان إلى الغد فأجابوهم إليه. وجاءهم ملك انكلطرة ليلاً وتبعه مدد عكا. وبرز من الغد فلم يتقدم إليه أحد من المسلمين. ثم نزل بين السماطين وجلس للأكل وأمر صلاح الدين بالحملة عليهم فتقدم أخ المشطوب وكان يلقب بالجناح وقال لصلاح الدين نحن نتقدم للقتال ومماليكك للغنيمة فغضب صلاح الدين وعاد عن الإفرنج إلى خيامه حتى جاء ابنه الأفضل وأخوه العادل فرحل إلى الرملة ينتظر ما آل أمره مع الإفرنج وأقاموا بيافا والله تعالى أعلم. |
الصلح بين صلاح الدين والإفرنج ومسير ملك انكلطرة إلى بلاده
كان ملك انكلطرة إلى هذه المدة قد طال مغيبه عن بلاده ويئس من بلاد الساحل لأن المسلمين استولوا عليه فأرسل إلى صلاح الدين يسأله في الصلح. وظن صلاح الدين أن ذلك مكر فلم يجبه. وطلب الحرب فألح ملك انكلطرة في السؤال وظهر صدق ذلك منه فترك ما كان فيه من عمارة عسقلان وغزة والداروم والرملة. وبعث إلى الملك العادل بأن يتوسط في ذلك فأشار على صلاح الدين بالإجابة هو وسائر الأمراء لما حدث عند العساكر من الضجر ونفاد النفقات وهلاك الدواب والأسلحة وما بلغهم أن ملك انكلطرة عائد إلى بلاده. وإن لم تقع الإجابة آخر فصل الشتاء امتنع ركوب البحر فيقيم إلى قابل. فلما وعى ذلك صلاح الدين وعلم صحته أجاب إلى الصلح وعقد الهدنة مع رسل الإفرنج في عشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين لمدة أربعة وأربعين شهراً فتحالفوا على ذلك وأذن صلاح الدين للإفرنج في زيارة القدس. وارتحل ملك انكلطرة في البحر عائداً إلى بلده وأقام الكندهري صاحب صور بعد المركيش ملكاً على الإفرنج بسواحل الشام وتزوج الملكة التي كانت تملكهم قبله وقبل صلاح الدين كما مر. وسار صلاح الدين إلى القدس فأصلح أسواره وأدخل كنيسة صهيون في البلد وكانت خارج السور. واختط المدارس والربط والمارستان ووقف عليها الأوقاف واعتزم على الاحرام منه للحج فاعترضته القواطع دون ذلك فسار إلى دمشق خامس شوال واستخلف عليها الأمير جرديك من موالي نور الدين. ومر بكفور المسلمين نابلس وطبرية وصفد وبيروت. ولما انتهى إلى بيروت أتاه بها سمند صاحب إنطاكية وطرابلس وأعمالها فالتزم طاعة صلاح الدين وعاد ودخل صلاح الدين دمشق في الخامس والعشرين من شوال وسر الناس بقدومه ووهن العدو والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة صلاح الدين وحال ولده وأخيه من بعده ولما وصل صلاح الدين إلى دمشق وقد خف من شواغل الإفرنج بوهنهم وما عقد من الهدنة فأراح قليلاً. ثم اعتزم على إحداث الغزو فاستشار ابنه الأفضل وأخاه العادل في مذهبه فأشار العادل بخلاط لأنه كان وعده أن يقطعه إياها إذا ملكها. وأشار الأفضل ببلاد الروم إيالة بني قليج أرسلان لسهولة أمرها واعتراض الإفرنج فيها إذا قصدوا الشام لأنها طريقهم. فقال لأخيه تذهب أنت لخلاط في بعض ولدي وبعض العساكر وأذهب أنا إلى بلاد الروم. فإذا فرغت منها لحقت بكم فسرنا إلى أذربيجان ثم إلى بلاد العجم. وأمره بالمسير إلى الكرك وهي من أقطاعه ليتجهز منها ويعود لشأنه. فسار إلى الكرك ومرض صلاح الدين بعده ومات في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة وعشرين سنة من ملكه مصر رحمه الله تعالى. وكان معه بدمشق ابنه الأفضل نور الدين والعساكر عنده فملك دمشق والساحل وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وشوش وجميع الأعمال إلى الداروم. وكان بمصر ابنه العزيز عثمان فاستولى عليها. وكان بحلب ابنه الظاهر غازي فاستولى عليها وعلى أعمالها مثل حارم وتل باشر وإعزاز وبرزية ودربساك وغيرها. وأطاعه صاحب حماة ناصر الدين محمد بن تقي الدين بن شيركوه. وله مع حماة سلمية والمعرة ومنبج. وابن محمد بن شيركوه وله مع الرحبة حمص وتدمر. وببعلبك بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه ولقبه الأمجد. وببصرى الظافر بن صلاح الدين ولقبه الأمجد مع أخيه الأفضل. وفي شيزر سابق الدين عثمان بن الداية وبالكرك والشوبك الملك العادل. وبلغ الخبر إلى العادل فأقام بالكرك. واستدعاه الأفضل من دمشق فلم يجبه فخوفه ابن أخيه العزيز صاحب مصر من عز الدين صاحب الموصل. وقد كان سار من الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة فوعده بالنصر منه. وأوهمه الرسول أن يسر إلى الأفضل بدمشق أنه متوجه إلى العزيز بمصر ليحالفه عليه. فحينئذ ارتاب العادل وسار إلى الأفضل بدمشق وأرسل إلى صاحب حمص وصاحب حماة يحضهم على إنفاذ العساكر معه وعبر بها الفرات. وأقام بنواحي الرها. وكان عز الدين مسعود ابن مودود صاحب الموصل لما بلغه وفاة صلاح الدين اعتزم على المسير إلى بلاد العادل بالجزيرة وحران والرها وسائرها ليرتجعها من يده ومجاهد الدين قايماز أتابك دولته يثنيه عن ذلك ويعذله فيه فتبين حال العادل مع ابن أخيه. وبينما هو في ذلك إذ جاءت الأخبار بأن العادل بحران. ثم وافاهم كتابه بأن الأفضل ملك بعد أبيه صلاح الدين وأطاعه الناس فكاتب عز الدين جيرانه من الملوك مثل صاحب سنجار وصاحب ماردين يستنجدهم. وجاء إليه أخوه على نصيبين وسار معه إلى الرها فأصابه المرض في طريقه ورجع إلى الموصل فمات أول رجب من السنة واستقرت إيالة العادل في ملكه من الجزيرة فلم يهجه منها أحد والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. مسير العزيز من مصر إلى حصار الأفضل بدمشق وما استقر بينهم في الولايات كان العزيز عثمان بن صلاح الدين قد استقر بمصر كما ذكرناه وكان موالي أبيه منحرفين عن الأفضل ورؤساؤهم بومئذ جهاركس وقراجا وقد استقر بهم عدو الأفضل والأكراد وموالي شيركوه شيعة له فكان العدو يعدون العزيز بهؤلاء الشيع ويخوفونه من أخيه الأفضل ويغرونه بانتزاع دمشق من يده فسار لذلك سنة تسعين وخمسمائة ونزل على دمشق واستنزل الأفضل وهو بأعماله بالجزيرة وسار لعمه العادل بنفسه وسار معه الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب وناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه صاحب حماة وشيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص وعساكر الموصل من قبل عز الدين مسعود بن مودود. وساروا كلهم إلى الأفضل بدمشق لإنجاده فامتنع على العزيز مرامه وتراسلوا في الصلح على أن يكون القدس وأعمال فلسطين للعزيز وجبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب وتبقى دمشق وطبرية والغور للأفضل وأن يستقر العادل بمصر مدبراً دولة العزيز على إقطاعه الأول وانعقد الصلح على ذلك ورجع العزيز إلى مصر وعاد كل إلى بلده والله تعالى أعلم. حصار العزيز ثانياً دمشق وهزيمته ولما عاد العزيز إلى مصر عاد موالي صلاح الدين إلى إغرائه بأخيه الأفضل فتجهز لحصاره بدمشق سنة إحدى وتسعين وسار الأفضل من دمشق إلى عمه العادل بقلعة جعبر ثم إلى أخيه الظاهر غازي بحلب مستنجداً لهما. وعاد إلى دمشق فوجد العادل قد سبقه إليها واتفقا على أن تكون مصر للأفضل ودمشق للعادل. ووصل العزيز إلى قرب دمشق. وكان الأكراد وموالي شيركوه منحرفين عنه كما قدمناه وشيعة للأفضل ومقدمهم سيف الدين أبو ركوش من الموالي وأبو الهيجاء السمين من الأكراد فدلسا للأفضل بالخروج إلى العزيز وواعداه الهزيمة عنه فخرجا وبعث الأفضل العادل إلى القدس فتسلمه من نائب العزيز وساروا في اتباعه إلى مصر والعساكر ملتفة على الأفضل فارتاب العادل وخشي أن لا يفي له الأفضل بما اتفقا عليه ولا يمكنه من دمشق فراسل العزيز بالثبات وأن ينزل حامية ووعد من نفسه المظاهرة على أخيه وتكفل له منعه من مقاتلته بلبيس فترك العزيز بها فخر الدين جهاركس في عسكر من موالي أبيه. وأراد الأفضل مناجزتهم فمنعه العادل فأراد الرحيل إلى مصر فمنعه أيضاً. وقال له إن أخذت مصرعنوة انخرقت الهيبة وطمع فيها الأعداء والمطاولة أولى. ودس إلى العزيز بإرسال القاضي الفاضل. وكان مطاعاً فيهم لمنزلته عند صلاح الدين فجاء إليهما وعقد الصلح بينهم على أن يكون للأفضل القدس وفلسطين وطبرية والأردن مضافة إلى دمشق ويكون للعادل كما كان القديم. ويقيم بمصر عند العزيز يدبر أمره وتحالفوا على ذلك وعاد الأفضل إلى دمشق وأقام العادل عند العزيز بمصر انتهى والله أعلم. استيلاء العادل علم دمشق ثم إن العزيز استمال العادل وأطمعه في دمشق أن يأخذها من أخيه ويسلمها إليه وكان الظاهر صاحب حلب يعدل الأفضل في موالاة عمه العادل ويحرضه على إبعاده فيلج في ذلك. ثم إن العادل والعزيز سارا من مصر وحاصرا دمشق. واستمالا من أمراء الأفضل أبا غالب الحمصي على وثوق الأفضل به وإحسانه إليه ففتح لهما الباب الشرقي عشي السابع والعشرين من رجب سنة اثنتين وتسعين فدخل العادل منه إلى دمشق ووقف العزيز بالميدان الأخضر وخرج إليه أخوه الأفضل. ثم دخل الأفضل دار شيركوه وأظهروا مصالحة الأفضل خشية من جموعه. وأعادوه إلى القلعة وأقاموا بظاهر البلد. والأفضل يغاديهم كل يوم ويراوحهم حتى استفحل أمرهم فأمروه بالخروج من دمشق وتسليم أعمالهم وأعطوه قلعة صرخد. وملك العزيز القلعة. ونقل للعادل أن العزيز يريد أن يتردد إلى دمشق فجاء إليه وحمله على تسليم القلعة فسلمها وخرج الأفضل إلى رستاق له خارج البلد فأقام به وسار منه إلى صرخد. وعاد العزيز إلى مصر وأقام العادل بدمشق والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم. فتح العادل يافا من الإفرنج واستيلاء الإفرنج على بيروت وحصارهم تبنين ولما توفي صلاح الدين وملك أولاده بعده جدد العزيز الهدنة مع الكندهري ملك الإفرنج كما عقد أبوه معه. وكان الأمير أسامة يقطع بيروت فكان يبعث الشواني للإغارة على الإفرنج. وشكوا ذلك إلى العادل بدمشق والعزيز بمصر فلم يشكياهم فأرسلوا إلى ملوكهم وراء البحر يستنجدونهم فأعدوهم بالعساكر وأكثرهم من الألمان. ونزلوا بعكا واستنجد العادل بالعزيز فبعث إليه بالعساكر وجاءته عساكر الجزيرة والموصل واجتمعوا بعين جالوت وأقاموا رمضان وبعض شوال من سنة اثنتين وتسعين. ثم ساروا إلى يافا فملكوا المدينة أولاً وخربوها. وامتنع الحامية بالقلعة فحاصرها وفتحوها عنوة واستباحوها. وجاء الإفرنج من عكا لصريخ إخوانهم وانتهوا إلى قيسارية فبلغهم خبر وفادتهم وخبر وفادة الكندهري ملكهم بعكا فرجعوا ثم اعتزموا على قصد بيروت فسار العادل لتخريبها حذراً عليها من الإفرنج فتكفل له أسامة عاملها بحمايتها. وعاد ووصل إليها الإفرنج يوم عرفة من السنة وهرب منها أسامة وملكوها. وفرق العادل العساكر فخربوا ما كان بقي من صيدا بعد تخريب صلاح الدين وعاثوا في نواحي صور فعاد الإفرنج إلى صور ونزل المسلمون على قلعة هونين. ثم نازل الإفرنج حصن تبنين في صفر سنة أربع وتسعين وبعث العادل عسكراً لحمايته فلم يغنوا عنه. ونقب الإفرنج أسواره فبعث العادل بالصريخ إلى صاحب مصر فأغذ السير بعاكره وانتهى إلى عسقلان من هذه السنة. وكان المسلمون في تبنين قد بعثوا إلى الإفرنج من يستأمن لهم ويسلمون لهم فأنذرهم بعض الإفرنج بأنهم يغدرون بهم فعادوا إلى حصنهم وأصروا على الامتناع حتى وصل العزيز إلى عسقلان فاضطرب الإفرنج لوصوله ولم يكن لهم ملك وإنما كان معهم الجنصكير القسيس من أصحاب ملك الألمان والمرأة زوجة الكندهري فاستدعوا ملك قبرص واسمه هنري وهو أخ الملك الذي أسر بحطين فجاءهم وزوجوه بملكتهم. فلما جاء العزيز وسار من عسقلان إلى جبل الخليل وأطل على الإفرنج وناوشهم القتال رجع الإفرنج إلى صور ثم إلى عكا. ونزلت عساكر المسلمين بالبحور فاضطرب أمراء العزيز واجتمع جماعة منهم وهم ميمون القصري وقرا سنقر والحجاب وابن المشطوب على الغدر بالعزيز ومدبر دولته فخر الدين جهاركس فأغذ السير إلى مصر. وتراسل العادل والإفرنج في الصلح. وانعقد بينهم في شعبان من السنة ورجع العادل إلى دمشق وسار منها إلى ماردين كما يأتي خبره والله تعالى أعلم. |
وفاة طغتكين بن أيوب باليمن
وملك ابنه إسماعيل ثم سليمان بن تقي الدين شاهنشاه. قد كان تقدم لنا أن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب سار إلى المدينة سنة ثمان وسبعين بعد وفاة أخيه شمس الدولة توران شاه واختلاف نوابه باليمن. واستولى عليها ونزل زبيد وأقام بها إلى أن توفي في شوال سنة ثلاث وتسعين وكان سيء السيرة كثير الظلم للرعية جماعاً للأموال. ولما استفحل بها أراد الاستيلاء على مكة فبعث الخليفة الناصر إلى أخيه صلاح الدين يمنعه من ذلك فمنعه. ولما توفي ملك مكانه ابنه إسماعيل وبلغ المعز وكان أهوج فانتسب في بني أمية وادعى الخلافة وتلقب بالهادي ولبس الخضرة وبعث إليه عمه العادل بالملامة والتوبيخ فلم يقبل وأساء السيرة في رعيته وأهل دولته فوثبوا به وقتلوه. وتولى ذلك سيف الدين سنقر مولى أبيه ونصب أخاه الناصر سنة ثمان وتسعين فأقام بأمره. ثم هلك سنقر لأربع سنين من دولته وقام مكانه غازي بن جبريل من أمرائهم وتزوج أم الناصر. ثم قتل الناصر مسموماً وثار العرب منه بغازي المذكور. وبقي أهل اليمن فوضى واستولى على طغان وبلاد حضرموت محمد بن محمد الحميري واستبدت أم الناصر وملكت زبيد وبعثت في طلب أحد من بني أيوب تملكه على اليمن. وكان للمظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه وقيل لابنه سعد الدين شاهنشاه ابن اسمه سليمان ترهب ولبس المسموح ولقيه بالموسم بعض غلمانها وجاءته فتزوجته وملكته اليمن والله سبحانه وتعالى أعلم. مسير العادل إلى الجزيرة وحصاره ماردين كان نور الدين أرسلان شاه مسعود صاحب الموصل قد وقع بينه وبين قطب الدين محمد ابن عمه عماد الدين زنكي صاحب نصيبين والخابور والرقة وبين أبيه عماد بن قبله فتنة بسبب الحدود في تخوم أعمالهم. فسار نور الدين إليه في عساكره وملك منه نصيبين. ولحق قطب الدين بحران والرها إيالة العادل بن أيوب. وبعث إليه بالصريخ وهو بدمشق وبذل له الأموال في أنجاده فسار العادل إلى حران وارتحل نور الدين من نصيبين إلى الموصل. وسار قطب الدين إليها فملكها وسار العادل إلى ماردين في رمضان من السنة فحاصرها. وكان صاحبها حسام الدين بولو أرسلان بن أبي الغازي بن ألبا بن تمرتاش أبي الغازي بن أرتق وهو صبي وكافله مولى النظام برتقش مولى أبيه والحكم له. ودام حصاره عليها وملك الربض وقطع الميرة عنها. ثم رحل عنها في العام القابل كما تقدم في أخبار دولة زنكي والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. وفاة العزيز صاحب مصر وولاية أخيه الأفضل ثم توفي العزيز عثمان بن صلاح الدين آخر محرم سنة خمس وتسعين وكان فخر الدين أياس جهاركس مولى أبيه مستبداً عليه فأرسل العادل بمكانه من حصار ماردين يستدعيه للملك. وكان جهاركس هذا مقدم موالي صلاح الدين وكانوا منحرفين عن الأفضل. وكان موالي صلاح الدين شيركوه والأكراد شيعة له. وجمعهم جهاركس لينظر في الولاية وأشار بتولية ابن العزيز فقال له سيف الدين أيازكوش مقدم موالي شيركوه لا يصلح لذلك لصغره إلا أن يكفله أحد من ولد صلاح الدين. لأن رياسة العساكر صنعة. واتفقوا على الأفضل. ثم مضوا إلى القاضي الفاضل فأشار بذلك أيضاً وأرسل أيازكوس يستدعيه من صرخد فسار آخر صفر من السنة. ولقيه الخبر في طريقه بطاعة القدس له وخرج أمراء مصر فلقوه ببلبيس وأضافه أخوه المؤيد مسعود وفخر الدين جهاركس مدبر دولة العزيز فقدم أخاه وارتاب جهاركس واستأذنه في المسير ليصلح بين طائفتين من العرب اقتتلا فأذنه فسار فخر الدين إلى القدس وتملكه. ولحقه جماعة من موالي صلاح الدين منهم قراجا الدكرمس وقرا سنقر. وجاءهم ميمون القصري فقويت شوكتهم به واتفقوا على عصيان الأفضل. وأرسلوا إلى الملك العادل يستدعونه فلم يعجل لإجابتهم لطمعه في أخذ ماردين وارتاب الأفضل بموالي صلاح الدين وهم شقيرة وانبك مطيش وألبكي. ولحق جماعة منهم بأصحابهم بالقدس وأرسل الأفضل إليهم في العود على ما يختارونه فامتنعوا وأقام هو بالقاهرة وقرر دولته وقدم فيها سيف الدين أيازكوش والملك لابن أخيه العزيز عثمان وهو كافل له لصغره. وانتظمت أمورهم على ذلك انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم. حصار الأفضل دمشق وعودته عنها ولما انتظمت الأمور للأفضل بعث إليه الظاهر غازي صاحب حلب وابن عمه شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص يغريانه بملك دمشق لغيبة العادل عنها في حصار ماردين ويعدانه المظاهرة فسار من منتصف السنة ووصل إلى دمشق منتصف شعبان. وسبقه العادل إليها وترك العساكر مع ابنه الكامل على ماردين ولما نزل الأفضل على دمشق وكان معه الأمير مجد الدين أخو عيسى الهكاري فداخل قوماً من الأجناد في دمشق في أن يفتحوا له باب السلامة. ودخل منه هو والأفضل سراً وانتهوا إلى باب البريد ففطن عسكر العادل لقلتهم وانقطاع مددهم فتراجعوا وأخرجوهم. ونزل الأفضل بميدان الحصار. وضعف أمره واعصوصب الأكراد من عساكره فارتاب بهم الآخرون وانحازوا عنهم في المعسكر. ووصل شيركوه صاحب حمص ثم الظاهر صاحب حلب آخر شعبان وأول رمضان لمظاهرة الأفضل. وأرسل العادل إلى موالي صلاح الدين بالقدس فساروا إليه وقوي بهم ويئس الأفضل وأصحابه وخرج عساكر دمشق ليبيتوهم فوجدوهم حذرين فرجعوا. وجاء الخبر إلى العادل بوصول ابنه محمد الكامل إلى حران فاستدعاه ووصل منتصف صفر سنة ست وتسعين فعند ذلك رحلت العساكر من دمشق وعاد كل منهم إلى بلاده انتهى والله أعلم. أفراح الكامل عن ماردين قد كان تقدم لنا مسير العادل إلى ماردين وسار معه صاحب الموصل وغيره من ملوك الجزيرة وديار بكر وفي نفوسهم غصص من تغلب العادل على ماردين وغلبهم. فلما عاد العادل إلى دمشق لمدافعة الأفضل وترك ابنه الكامل على حصار ماردين واجتمع ملوك الجزيرة وديار بكر على مدافعته عنها. وسار نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل وابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار وابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار وابن عمه قطب الدين سنجار شاه بن غازي صاحب جزيرة ابن عمر واجتمعوا كلهم ببدليس حتى قضوا عيد الفطر وارتحلوا سادس شوال وقاربوا جبل ماردين. وكان أهل ماردين قد اشتد عليهم الحصار وبعث النظام برتقش صاحبها إلى الكامل بتسليم القلعة على شروط اشترطها إلى أجل ضربه. وأذن لهم الكامل في إدخال الأقوات في تلك المدة. ثم جاءه الخبر بوصول صاحب الموصل ومن معه فنزل القائم للقائهم وترك عسكراً بالربض. وبعث قطب الدين صاحب سنجار إلى الكامل ووعده بالإنهزام. فلم يغن ولما التقى الفريقان حمل صاحب الموصل عليهم مستميتاً فانهزم الكامل وصعد إلى الربض فوجد أهل ماردين قد غلبوا عسكره الذين هنالك ونهبوا مخلفهم. فارتحل الكامل منتصف شوال مجفلاً ولحق بميافارقين. وانتهب أهل ماردين مخلفه. ونزل صاحبها فلقي صاحب الموصل. وعاد إلى قلعته. وارتحل صاحب الموصل إلى رأس عين لقصد حلوان والرها وبلاد الجزيرة من بلاد العادل فلقيه هنالك رسول الظاهر صاحب حلب يطلبه في السكة والخطبة فارتاب لذلك وكان عازماً على نصرتهم فقعد عنهم وعاد إلى الموصل. وأرسل إلى الأفضل والظاهر يعتذر بمرض طرقه وهما يومئذ على دمشق ووصل الكامل من ميافارقين إلى حران فاستدعاه أبوه من دمشق وسار إليه في العساكر فأفرج عنه الأفضل والظاهر والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء العادل على مصر ولما رحل الأفضل والظاهر إلى بلادهم تجهز العادل إلى مصر وأغراه عوالمي صلاح الدين بذلك واستحلفوه على أن يكون ابن العزيز ملكاً وهو كافله. وبلغت الأخبار بذلك إلى الأفضل وهو في بلبيس فسار منها ولقيهم فانهزم لسبع خلون من ربيع الآخر سنة ست وتسعين. ودخل القاهرة ليلاً وحضر الصلاة على القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني توفي تلك الليلة. وسار العادل لحصار القاهرة وتخاذل أصحاب الأفضل منه فأرسل إلى عمه في الصلح وتسليم الديار المصرية له على أن يعوضه دمشق أو بلاد الجزيرة وهي حران والرها وسروج فلم يجبه وعوضه ميافارقين وجبال نور وتحالفوا على ذلك. وخرج الأفضل من القاهرة ثامن عشر ربيع واجتمع بالعادل وسار إلى بلده صرخد. ودخل العادل القاهرة من يومه ولما وصل الأفضل صرخد بعث من يتسلم البلاد التي عوضه العادل وكان بها ابنه نجم الدين أيوب فامتنع من تسليم ميافارقين وسلم ما عداها. وردد الأفضل رسله في ذلك إلى العادل فزعم أن ابنه عصاه فعلم الأفضل أنه أمره واستفحل العادل في مصر وقطع خطبة المنصور بن العزيز وخطب لنفسه واعترض الجند ومحصهم بالمحو والإثبات فاستوحشوا لذلك. وبعث العادل فخر الدين جهاركس مقدم موالي صلاح الدين في عسكر إلى بانياس ليحاصرها ويملكها لنفسه ففصل من مصر للشام في جماعة الموالي الصلاحية. وكان بها الأمير بشارة من أمراء الترك ارتاب العادل بطاعته فبعث العساكر إليه مع جهاركس والله تعالى أعلم. مسير الظاهر والأفضل إلى حصار دمشق ولما قطع العادل خطبة المنصور بن العزيز بمصر استوحش الأمراء لذلك ولما كان منه في اعتراض الجند فراسلوا الظاهر بحلب والأفضل بصرخد أن يحاصرا دمشق فيسير إليهما الملك العادل فيتأخرون عنه بمصر ويقومون بدعوتهما. ونمي الخبر إلى العادل وكتب به إليه الأمير عز الدين أسامة جاء من الحج ومر بصرخد فلقيه الأفضل ودعاه إلى أمرهم وأطلعه على ما عنده فكتب به إلى العادل وأرسل العادل إلى ابنه المعظم عيسى بدمشق يأمره بحصار الأفضل بصرخد. وكتاب إلى جهاركس بمكانه من حصار بانياس وإلى ميمون القصري صاحب بانياس بالمسير معه إلى صرخد ففر منها الأفضل إلى أخيه الظاهر بحلب فوجده يتجهز لأنه بعث أميراً من أمرائه إلى العادل فرده من طريقه. فسار إلى منبج فملكها ثم قلعة نجم كذلك وذلك سلخ وسار المعظم بقصد صرخد وانتهى إلى بصرى وبعث عن جهاركس والذين معه على بانياس فغالطوه ولم يجيبوه فعاد إلى دمشق. وبعث إليهم الأمير أسامة يستحثهم فأغلظوا له في القول وتناوله البكاء منهم وثاروا به جميعاً فتذمم لميمون القصري منهم فأمنه وعاد إلى دمشق. ثم ساروا إلى الظاهر حضر به صلاح الدين وأنزله من صرخد واستحثوا الظاهر والأفضل للوصول فتباطأ الظاهر عنهم وسار من منبج إلى حماة فحاصرها حتى صالحه صاحبها ناصر الدين محمد على ثلاثين ألف دينار صورية. فارتحل عنها تاسع رمضان إلى حمص ومعه أخوه الأفضل ومنها إلى بعلبك وإلى دمشق. ووافاه هنالك الموالي الصلاحية مع الظاهر خضر بن مولاهم. وكان الوفاق بينهم إذا فتحوا دمشق أن تكون بيد الأفضل فإذا ملكوا مصر سار إليها وبقيت للظاهر. وأقطع الأفضل صرخد لمولى أبيه زين الدين قراجا وأخرجا أهله منها إلى حمص عند شيركوه بن محمد بن شيركوه. وكان العادل قد سار من مصر إلى الشام فانتهى إلى نابلس وبعث عسكراً إلى مشق ووصلوا قبل وصول هذه العساكر فلما وصلوها قاتلوها يوماً وثانية منتصف ذي القعدة وأشرفوا على أخذها فبعث الظاهر إلى الأفضل بأن دمشق تكون له فاعتذر بأن أهله في غير مستقر ولعلهم يأوون إلى دمشق في خلال ما يملك مصر فلج الظاهر في ذلك. وكان الموالي الصلاحية مشتملين على الأفضل وشيعة له فخيرهم بين المقام والانصراف ولحق فخر الدين جهاركس وقراجا بدمشق فامتنعت عليهم وعادوا إلى تجديد الصلح مع العادل على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفر طاب وبعض قرى المعرة والأفضل له سميساط وسروج ورأس عين وحملين فتم ذلك بينهم ورحلوا عن دمشق في محرم سنة ثمان وتسعين. وسار الظاهر إلى حلب والأفضل إلى حمص فأقام بها عند أهله ووصل العادل إلى دمشق في تاسوعاء وجاءه الأفضل فلقيه بظاهر دمشق وعاد إلى بلاده فتسلمها. وكان الظاهر والأفضل لما فصلا من منبج إلى دمشق بعثا إلى نور الدين صاحب الموصل أن يقصد بلاد العادل بالجزيرة وكانت بينه وبينهما وبين صاحب ماردين يمين واتفاق على العادل منذ ملك مصر مخافة أن يطرق أعمالهم فسار نور الدين عن الموصل في شعبان ومعه ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار وعسكر ماردين ونزلوا رأس عين. وكان بحران الفائز بن العادل في عسكر يحفظ أعمالهم بالجزيرة فبعث إلى نور الدين في الصلح ووصل الخبر بصلح العادل مع الشاه والأفضل فأجابهم نور الدين إلى الصلح واستحلفوا وبعث أرسلان من عنده إلى العادل فاستحلفوه أيضاً وصحت الحال والله تعالى ولي التوفيق. حصار ماردين ثم الصلح بين العادل والأشرف ثم بعث الملك العادل ابنه الأشرف موسى في العساكر لحصار ماردين فسار إليها ومعه عساكر الموصل وسنجار ونزلوا بالحريم تحت ماردين. وسار عسكر من قلعة البازغية من أعمال ماردين لقطع الميرة عن عسكر الأشرف فلقيهم جماعة من عسكر الأشرف وهزموهم. وأفسد التركمان السابلة في تلك النواحي وامتنع على الأشرف قصده فتوسط الظاهر غازي في الإصلاح بينهم على أن يحمل صاحب ماردين للعادل مائة وخمسين ألف دينار والدينار أحد عشر قيراطاً من الأميري ويخطب له ببلاده ويضرب السكة باسمه وتعسكر طائفة من جنده متى دعاهم لذلك فأجاب العادل وتم الصلح بينهما ورحل الأشرف عن ماردين والله أعلم. أخذ البلاد من يد الأفضل قد كان تقدم أن الظاهر والأفضل لما صالحا العادل سنة سبع وتسعين أخذ الأفضل سميساط وسروج ورأس عين وحملين وكانت بيده معها قلعة نجم التي ملكها الظاهر بين يدي الحصار قبل الصلح ثم استرد العادل البلاد من يد الأفضل سنة تسع وتسعين وأبقى له سميساط وقلعة نجم فطلب الظاهر قلعة نجم على أن يشفع له عند العادل في رد ما أخذ منه فلم يجب فتهدده. ولم تزل الرسل تتردد بينهما حتى سلمها إليه في شعبان من السنة وبعث الأفضل أمه إلى العادل في رد سروج ورأس عين عليهم فلم يشفعها فبعث الأفضل إلى ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم بطاعته وأن يخطب له فبعث إليه بالخلعة وخطب له الأفضل في سميساط سنة ستمائة. وسار من جملة نوابه في أعماله. وفي سنة تسع وتسعين هذه خاف على مصر محمود بن العزيز صاحب مصر بعث العساكر إلى الرها لأنه لما قطع خطبته من مصر سنة ست وتسعين خاف على مصر شيعة أبيه فأخرجه سنة ثمان وتسعين إلى دمشق. ثم نقله في هذه السنة إلى الرها ومعه أخواته وأمه وأهله فأقاموا بها والله أعلم. واقعة الأشرف مع صاحب الموصل كانت الفتنة متصلة بين نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل وبين ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار واستمال العادل بن أيوب قطب الدين فخطب له بأعماله. وسار إليه نور الدين غيرة من ذلك فحاصر نصيبين في شعبان من سنة ستمائة. وبعث قطب الدين يستمد الأشرف موسى بن العادل وهو بحران فسار إلى رأس عين لإمداده ومدافعة نور الدين عنه بعد أن اتفق على ذلك مع مظفر الدين صاحب إربل وصاحب جزيرة ابن عمر وصاحب كيفا وآمد. ففارق نور الدين نصيبين وسار إليها الأشرف وجاءه أخوه نجم الدين صاحب ميافارقين وصاحب كيفا وصاحب الجزيرة وساروا جميعاً إلى بلد البقعا ونور الدين صاحب الموصل قد انصرف من تل أعفر وقد ملكها إلى كفر رمان معتزماً على مطاولتهم إلى أن يفترقوا. ثم أغراه بعض مواليه كان بعثه عيناً عليهم فقللهم في عينه وحرضه على معاجلتهم باللقاء فسار إلى نوشرا ونزل قريباً منهم. ثم ركب لقتالهم واقتتلوا فانهزم نور الدين ولحق بالموصل ونزل الأشرف وأصحابه كفر رمان وعاثوا في البلاد واكتسحوها. وترددت الرسل بينهم في الصلح على أن يعيد نور الدين على قطب الدين قلعة تل أعفر التي أخذها له فتم ذلك سنة إحدى وستمائة وعاد إلى بلده والله تعالى أعلم. وصول الإفرفج إلى الشام والصلح معهم ولما ملك الإفرنج القسطنطينية من يد الروم سنة إحدى وستمائة تكالبوا على البلاد ووصل جمع منهم إلى الشام وأرسلوا بعكا عازمين على ارتجاع القدس من المسلمين. ثم ساروا في نواحي الأردن فاكتسحوها وكان العادل بدمشق استنفر العساكر من الشام ومصر وسار فنزل بالطور قريباً من عكا وساروا إلى كفر كنا فاستباحوه. ثم انقضت وتراسلوا في المهادنة على أن ينزل لهم العادل عن كثير من مناصف الرملة وغيرها ويعطيهم وغيرها. وتم ذلك بينهم وسار العادل إلى مصر فقصد الإفرنج حماة وقاتلهم صاحبها ناصر الدين محمد فهزموه وأقاموا أياماً عليها ثم رجعوا والله تعالى أعلم. |
غارة ابن ليون على أعمال حلب
قد تقدم لنا ذكر ابن ليون ملك الأرمن وصاحب الدروب فأغار سنة اثنتين وستمائة على أعمال حلب واكتسحها واتصل ذلك منه فجمع الظاهر غازي صاحب حلب ونزل على خمسة فراسخ من حلب وفي مقدمته ميمون القصري من موالي أبيه منسوباً إلى قصر الخلفاء بمصر ومنه كان أبوه. وكان الطريق إلى بلاد الأرمن متعذراً من حلب لتوعر الجبال وصعوبة المضايق وكان ابن ليون قد نزل في طرف بلاده لما يلي حلب ومن ثغورها قلعة دربساك فخشي الظاهر عليها منه وبعث إليها مدداً وأمر ميمون القصري أن يشيعه بطائفة من عسكره ففعل وبقي في خف من الجند. ووصل خبره إلى ابن ليون فكبس القصري ونال منه ومن المسلمين وانهزموا أمامه فظفر بمخلفهم ورجع فلقي في طريقه المدد الذي بعث إلى دربساك فهزمهم وظفر بما كان معهم وعاد الأرمن إلى بلادهم فاعتصموا بحصونهم والله تعالى أعلم. استيلاء نجم الدين بن العادل على خلاط كان العادل قد استولى على ميافارقين وأنزل بها ابنه الأوحد نجم الدين. ثم استولى نجم الدين على حصون من أعمال خلاط وزحف إليها سنة ثلاث وستمائة وقد استولى عليها بليان مولى شاهرين فقاتلة وهزمه وعاد إلى ميافارقين فهزمهم. ثم دخلت سنة أربع وستمائة. وملك مدينة سوس وغيرها وأمده أبوه العادل بالعساكر فقصد خلاط وسار إليه بليان فهزمه نجم الدين وحاصره بخلاط. وبعث بليان إلى مغيث الدين طغرل بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم يستنجده فجاء في عساكره واجتمع مع بليان وانهزم نجم الدين ونزلا على مدينة تلبوس فحاصراها. ثم غدر طغرل شاه ببليان وقتله وسار إلى خلاط ليملكها فطرده أهلها فسار إلى ملازكرد فامتنعت عليه فعاد إلى بلاده. وأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين فملكوه خلاط وأعمالها وخافه الملوك المجاورون له وملك الكرك وتابعوا الغارات على بلاده فلم يخرج إليهم خشية على خلاط. واعتزل جماعة من عسكر خلاط فاستولوا على حصن وإن من أعظم الحصون وأمنعها فعصوا على نجم الدين واجتمع إليهم جمع كثير وملكوا مدينة أرجيش واستمد نجم الدين على خلاط وأعمالها وعاد أخوه الأشرف إلى أعماله بحران والرها. ثم سار الأوحد نجم الدين إلى ملازكرد ليرتب أحوالها فوثب أهل خلاط على عسكره فأخرجوهم وحصروا أصحابه بالقلعة ونادوا بشعار بني شاهرين. وعاد نجم الدين إليهم وقد وافاه عسكر من الجزيرة فقوي بهم وحاصر خلاط واختلف أهلها فملكها واستلحم أهلها وحبس كثيراً من أعيانها كانوا فارين وذل أهل خلاط لبني أيوب بعد هذه الوقعة إلى آخر الدولة والله تعالى أعلم. غارات الإفرنج بالشام كان الإفرنج بالشام قد أكثروا الغارات سنة أربع وستمائة بحشد ثان ثم ملكوا القسطنطينية واستفحل ملكهم فيها فأغار أهل طرابلس وحصن الأكراد منهم على حمص وأعمالها. وعجز صاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه عن دفاعهم واستنجد عليهم فأنجده الظاهر صاحب حلب بعسكر أقاموا عنده للمدافعة عنه. وأغار أهل قبرص في ر على أسطول مصر فظفروا منه بعدة قطع وأسروا من وجدوا فيها وتعث العادل إلى صاحب عكا يحتج عليه بالصلح فاعتذر بأن أهل قبرص في طاعة الإفرنج الذين بالقسطنطينية وأنه لا حكم له عليهم فخرج العادل في العساكر إلى عكا حتى صالحه صاحبها على إطلاق أسرى من المسلمين. ثم سار إلى حمص ونازل القلعتين عند بحيرة قدس ففتحه وأطلق صاحبه وغنم ما فيه وخربه وتقدم إلى طرابلس فاكتسح نواحيها اثني عشر يوماً وعاد إلى بحيرة قدس. وراسله الإفرنج في الصلح فلم يجبهم وأظله الشتاء فأذن لعساكر الجزيرة في العود إلى بلادهم وترك عند صاحب حمص عسكراً أنجده بهم وعاد إلى دمشق فشتى بها والله أعلم. غارات الكرج على خلاط وأعمالها وملكهم أرجيش ولما ملك الأوحد نجم الدين خلاط كما مر ردد الكرج الغارات على أعمالها وعاثوا فيها ثم ساروا سنة خمس وستمائة إلى مدينة أرجيش فحاصروها وملكوها عنوة واستباحوها وخربوها. وخام نجم الدين عن لقائهم ومدافعتهم إلى أن انتقض عليه أهل خلاط لما فارقها ووقع بينه وبينهم ما مر. ثم سار الكرج سنة تسع إلى خلاط وحاصروها وحاربهم الأوحد وهزمهم وأسر ملكهم ثم فاداه بمائة ألف دينار وخمسة آلاف أسير وعلى الهدنة مع المسلمين وأن يزوج بنته من الأوحد فانعقد ذلك والله تعالى أعلم بغيبه. استيلاء العادل على الخابور ونصيبين من عمل سنجار وحصارها قد تقدم لنا أن قطب الدين زنكي بن محمود بن مودود صاحب سنجار والخابور ونصيبين وما إليها كانت بينه وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة وفتنة متصلة وزوج نور الدين صاحب الموصل بنته من ابن العادل بن أيوب سنة خمس وستمائة. واتصل بهما لذلك فزين له وزراؤه وأهل دولته أن يستنجد بالعادل على جزيرة ابن عمر وأعمالها التي لابن عمه سنجار شاه ابن غازي ابن مودود فتكون الجزيرة بكمالها مضافة إلى الموصل. وملك العادل سنجار وما إليها وهي ولاية قطب الدين فتكون له فأجاب العادل إلى ذلك ورآه ذريعة إلى ملك الموصل. وأطمع نور الدين في إيالة قطب الدين إذا ملكها تكون لابنه الذي هو صهره على ابنته وتكون عنده بالموصل. وسار العادل بعساكره سنة ست وستمائة وقصد الخابور فملكه فتبين لنور الدين صاحب الموصل حينئذ أنه لا مانع منه وندم على ما فرط في رأيه من وفادته ورجع إلى الاستعداد للحصار. وخوفه الوزراء والحاشية أن ينتقض على العادل فيبدأ به. وسار العادل من الخابور إلى نصيبين فملكها وقام بمدافعته عن قطب الدين وحماية البلد من الأمير أحمد بن برتقش مولى أبيه. وشرع نور الدين صاحب سنجار ابنه مظفر الدين يستشفع به إلى العادل لمكانه منه وأثره في موالاته فشفع ولم يشفعه العادل فراسل نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق على العادل فأجابه. وسار بعساكره من الموصل واجتمع مع نور الدين بظاهرها واستنجد بصاحب حلب الظاهر وصاحب بلاد الروم كنخسرو وتداعوا على الحركة إلى بلاد العادل إن امتنع من الصلح والإبقاء على صاحب سنجار وبعثوا إلى الخليفة الناصر أن يأمر العادل فبعث إليه أستاذ داره أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك والأمير أقباش من خواص مواليه فأجاب إلى ذلك. ثم غالطهم وذهب إلى المطاولة ثم صالحهم على سنجار فقط وله ما أخذ وتحالفوا على ذلك وعاد كل إلى بلده. ثم قبض المعظم عيسى سنة عشر وستمائة على الأمير أسامة بأمر أبيه العادل وأخذ منه حصن كوكب وعجلون وكانا من أعماله فخربهما وحصن أردن بالكوكب وبنى مكانه وفاة الظاهر صاحب حلب وولاية ابنه العزيز لما توفي الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين بن أيوب صاحب حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام في جمادى الأخيرة سنة ثلاث عشرة وكان مرهف الحد ضابطاً جماعة للأموال شديد الانتقام محسناً للقضاة وعهد بالملك لابنه الصغير محمد بن الظاهر وهو ابن ثلاث سنين وعدل عن الكبير لأن أمه بنت عمه العادل ولقبه العزيز غياث الدين وجعل أتابكه وكافله وخادمه طغرلبك ولقبه شهاب الدين. وكان خيراً صاحب إحسان ومعروف فأحسن كفالة الولد وعدل في سيرته وضبط الإيالة بجميل نظره والله أعلم. ولاية مسعود بن الكامل على اليمن ولما ملك سليمان بن المظفر على اليمن سنة تسع وتسعين وخمسمائة أساء إلى زوجته أم الناصر التي ملكته وضارها وأعرض عنها واستبد بملكه وملأ الدنيا ظلماً. وأقام على ذلك ثلاث عشرة سنة. ثم انتقض على العادل وأساء معاملته وكتب إلى بعض الأحيان إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتب العادل إلى ابنه الكامل أن يبعث العساكر إلى اليمن مع وال من قبله فبعث ابنه المسعود يوسف واسمه بالتركي أقسنس في العساكر سنة اثنتي عشرة وستمائة فملك اليمن وقبض على سليمان شاه وبعث به معتقلاً إلى وطالت أيام مسعود باليمن وحج سنة تسع عشرة وقدم أعلام أبيه على أعلام أبيه على أعلام الخليفة الناصر فكتب الناصر يشكوه إلى أبيه فكتب إليه أبوه الكامل برئت من العادل يا أخس إن لم أقطع يمينك فقد نبذت وراء ظهرك دنياك ودينك ولا حول ولا قوة إلا بالله فاستعتب إلى أبيه وأعتبه. ثم غلب سنة ست وعشرين على مكة من يد الحسن بن قتادة سيد بني إدريس بن مطاعن من بني حسن وولى عليها وعاد إلى اليمن فهلك بقية السنة وغلب على أمر اليمن بعده علي بن رسول أستاذ داره ونصب للملك ابنه الأشرف موسى وكفله ثم هلك موسى واستبد ابن رسول باليمن وأورثه بنيه فكانت لهم دولة اتصلت لهذا العهد كما نذكره في أخبارها إن شاء الله تعالى. وصول الإفرنج من وراء البحر إلى سواحل الشام ومسيرهم إلى دمياط وحصارها واستيلاؤهم عليها كان صاحب رومة أعظم ملوك الإفرنج بالعدوة الشمالية من البحر الرومي وكانوا كلهم يدينون بطاعته وبلغة اختلاف أحوال الإفرنج بساحل الشام وظهور المسلمين عليهم فانتدب إلى إمدادهم وجهز إليهم العساكر فامتثلوا أمره من إيالته. وتقدم إلى ملوك الإفرنج أن يسيروا بأنفسهم أو يرسلوا العساكر فامتثلوا أمره وتوافت الأمداد إلى عكا من سواحل الشام سنة أربع عشرة. وسار العادل من مصر إلى الرملة وبرز الإفرنج من عكا ليصدوه فسار إلى نابلس يسابقهم إلى أطراف البلاد ويدافعهم عنها فسبقوه. ونزل هو على بيسان من الأردن وزحف الإفرنج لحربه في شعبان من السنة وكان في خف من العساكر فخام عن لقائهم. ورجع إلى دمشق ونزل مرج الصفر. واستدعى العساكر ليجمعها وانتهب الفرنج مخلفه في بيسان واكتسحوا ما بينها وبين بانياس. ونزلوا بانياس ثلاثاً ثم عادوا إلى مرج عكا بعد أن خربوا تلك الأعمال وامتلأت أيديهم من نهبها وسباياها. ثم ساروا إلى صور ونهبوا صيدا والشقيف على فرسخين من بانياس وعادوا إلى عكا بعد عيد الفطر. ثم حاصروا حصن الطور على جبل قريب من عكا كان العادل اختطها فحاصروها سبعة عشر يوماً وقتل عليها بعض ملوكهم فرجعوا عنها. وبعث العادل ابنه المعظم عيسى إلى حصن الطور فخربها لئلا يملكها الإفرنج. ثم سار الإفرنج من عكا في البحر إلى دمياط وأرسوا بسواحلها في صفر والنيل بينهم وبينها. وكان على النيل برج حصين تمر منه إلى سور دمياط سلاسل من حديد محكمه تمنع السفن من البحر الملح أن تصعد في النيل إلى مصر. فلما نزل الإفرنج بذلك الساحل خندقوا عليهم وبنوا سواراً بينهم وبين الخندق وشرعوا في حصار دمياط واستكثروا من آلات الحصار. وبعث العادل إلى ابنه الكامل بمصر أن يخرج في العساكر ويقف قبالتهم ففعل وخرج من مصر في عساكر المسلمين فنزل قريباً من دمياط بالعادلية. وألح الإفرنج على قتال ذلك البرج أربعة أشهر حتى ملكوه ووجدوا السبيل إلى دخول النيل ليتمكنوا من النزول على دمياط فبني الكامل عوض السلاسل جسراً عظيماً يمانع الداخلين إلى النيل فقاتلوا عليه قتالاً شديداً حتى قطعوه. فأمر الكامل بمراكب مملوءة بالحجارة وخرقوها وراء الجسر تمنع المراكب من الدخول إلى النيل فعدل الإفرنج إلى خليج الأزرق. وكان النيل يجري فيه قديماً فحفروه فوق الجسر وأجروا فيه الماء إلى البحر وأصعدوا مراكبهم إلى قبالة معسكر المسلمين ليتمكنوا من قتالهم لأن دمياط كانت حاجزة بينهم فاقتتلوا معهم وهم في مراكبهم فلم يظفروا. والميرة والإمداد متصلة إلى دمياط والنيل حاجز بينهم وبين الإفرنج فلا يحصل لهم من الحصار ضيق. ثم بلغ الخبر بموت العادل فاختلف العسكر وسعى مقدم الأمراء عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب الهكاري في خلع الكامل وولاية أخيه الأصغر الفائز. ونمي الخبر إلى الكامل فأسرى من ليلته إلى أشمون طناح وتفقده المسلمون من الغد فأجفلوا ولحقوا بالكامل وخلفوا سوادهم بما فيه فاستولى عليه الإفرنج وعبروا النيل إلى البر المتصل بدمياط وجالوا بينها وبين أرض مصر. وفسدت السابلة بالأعراب وانقطعت الميرة عن دمياط واشتد الإفرنج في قتالها وهي في قلة من الحامية لإجفال المسلمين عنها بغتة. ولما جهدهم الحصار وتعذر عليهم القوت استأمنوا إلى الإفرنج فملكوها آخر شعبان سنة ست عشرة وبنوا سراياهم فيما جاورها فأقفروا ورجعوا إلى عمارة دمياط وتحصينها وأقام الكامل قريباً منهم لحماية البلاد. وبنى المنصورة بقرب مصر عند مفترق البحر من جهة دمياط والله تعالى أعلم. |
وفاة العادل واقتسام الملك بين بنيه
قد ذكرنا خبر العادل مع الإفرنج الذين جاؤوا من وراء البحر إلى سواحل الشام سنة أربع عشرة وما وقع بينه وبينهم بعكا وبيسان وأنه عاد إلى مرج الصفر قريباً من دمشق فأقام به فلما سار الإفرنج إلى دمياط انتقل هو إلى خانقين فأقام بها. ثم مرض وتوفي سابع جمادى الأخيرة سنة خمس عشرة وستمائة لثلاث وعشرين سنة من ملكه دمشق وخمس وسبعين من عمره. وكان ابنه المعظم عيسى بنابلس فجاء ودفنه بدمشق. وقام بملكها واستأثر بمخلفه من المال والسلاح وكان لا يعبر عنه. يقال كان المال العين في سترته سبعمائة ألف دينار. وكان ملكاً حليماً صبوراً مسدداً صاحب إفادة وخديعة منجمة في أحواله. وكان قد قسم البلاد في حياته بين بنيه فمصر للكامل ودمشق والقدس وطبرية والكرك وما إليها للمعظم عيسى وخلاط وما إليها وبلاد الجزيرة غير الرها ونصيبين وميافارقين للأشرف موسى والرها وميافارقين لشهاب فلما توفي استقل كل منهم بعمله. وبلغ الخبر بذلك إلى الملك الكامل بمكانه قبالة الإفرنج بدمياط فاضطرب عسكره وسعى المشطوب كما تقدم في ولاية أخيه الفائز ووصل الخبر بذلك إلى المعظم عيسى فأغذ السير من دمشق إليه بمصر. وأخرج المشطوب إلى الشام فلحق بأخيهما الأشرف وصار في جملته. واستقام للكامل ملكه بمصر ورجع المعظم من مصر فقصد القدس في ذي القعدة من السنة وخرب أسواره حذراً عليه من الإفرنج. وملك الإفرنج دمياط كما ذكرناه. وأقام الكامل قبالتهم والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. وفاة المنصور صاحب حماة وولاية ابنه الناصر قد تقدم لنا أن صلاح الدين كان قد أقطع تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه مدينة حماة وأعمالها ثم بعثه إلى الجزيرة سنة سبع وثمانين فملك حران والرها وسروج وميافارقين وما إليها من بلاد الجزيرة فأقطعه إياها صلاح الدين. ثم سار إلى أرمينية وقصد بكتمر صاحب خلاط وحاصرها. ثم انتقل إلى حصار ملازكرد. وهلك عليها تلك السنة وتولى ابنه ناصر الدين محمد ويلقب المنصور على أعماله. ثم انتزع صلاح الدين منه بلاد الجزيرة وأقطعها أخاه العادل وأبقى حماة وأعمالها بيد ناصر الدين محمد المذكور فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع عشرة وستمائة لثمان وعشرين سنة من ولايته عليها بعد مهلك عم أبيه صلاح الدين والعادل. وكان ابنه ولي عهده المظفر عند العادل بمصر وابنه الآخر قليج أرسلان عند خاله المعظم عيسى بمكانه من حصاره. فاستدعاه أهل دولته بحماة واشترط المعظم عليه مالاً يحمله وأطلقه إليهم فملك حماة وتلقب الناصر. وجاءه أخوه ولي العهد من مصر فدافعه أهل حماة فرجع إلى دمشق عند المعظم وكاتبهم واستمالهم فلم يجيبوه ورجع إلى مصر والله تعالى أعلم. مسير صاحب بلاد الروم إلى حلب وانهزامه ودخولها في طاعة الأشرف قد كنا قدمناه وفاة الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب ومنبج سنة ثلاث عشرة وولاية ابنه الأصغر محمد العزيز غياث الدين في كفالة طغرل الخادم مولى أبيه الظاهر وأن شهاب الدين هذا الكامل أحسن السيرة وأفاض العدل وعف عن أموال الرعية. ورد السعاية فيهم بعضهم على بعض. وكان بحلب رجلان من الأشرار يكثران السعاية عند الظاهر ويغريانه بالناس ولقي الناس منهما شدة فأبعدهما شهاب الدين فيمن أبعد من أهل الشر ورد عليهما السعاية فكسدت سوقهما وتناولهما الناس بالألسنة والوعيد فلحقا ببلاد الروم وأطمعا صاحبها كيكاوس في ملك حلب وما بعدها. ثم رأى أن ذلك لا يتم إلا أن يكون معه بعض بني أيوب لينقاد أهل البلاد إليه. وكان الأفضل بن صلاح الدين بسميساط وقد دخل في طاعة كيكاوس غضباً من أخيه الظاهر وعمه العادل بما انتزعا من أعماله فاستدعاه كيكاوس وطلبه في المسير على أن يكون مات يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل والخطبة والسكة لكيكاوس. ثم يقصدون بلاد الأشراف بالجزيرة حران والرها وما إليهما على هذا الحكم وتحالفوا على ذلك وجمعوا العساكر وساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة رغبان فتسلمها الأفضل. ثم قلعة باشر من صاحبها ابن بدر الدين أرزم الباروقي بعد أن كانوا حاصروها وضيقوا عليها وملكها كيكاوس لنفسه فاستوحش الأفضك وأهل البلد أن يفعل مثل ذلك في حلب وكان شهاب الدين كافل العزيز بن الظاهر مقيماً بقلعة حلب لا يفارقها خشية عليها فطير الخبر إلى الملك الأشرف صاحب الجزيرة وخلاط لتكون طاعتهم وخطبتهم له والسكة باسمه ويأخذ من أعمال حلب ما اختار فجمع العساكر وسار إليهم سنة خمس عشرة ومعه وأميرهم نافع من خدمه وغيرهم من العرب. ونزل بظاهر حلب وتوجه كيكاوس والأفضل من تل باشر إلى منبج. وسار الأشرف نحوهم وفي مقدمته العرب فلقوا مقدمة كيكاوس فهزموها. فلما عادوا إلى كيكاوس منهزمين أجفل إلى بلاده. وسار الأشرف فملك رغبان وتل باشر وأخذ من كان بها من عساكر كيكاوس وأطلقهم فلحقوا بكيكاوس فجمعهم في دار وأحرقها عليهم فهلكوا. وسلم الأشرف ما ملكه من قلاع حلب لشهاب الدين الخادم كافل العزيز بحلب واعتزم على اتباع كيكاوس إلى بلاده فأدركه دخول الموصل في طاعة الأشرف وملكه سنجار قد ذكرنا في دولة بني زنكي أن القاهر عز الدين مسعود صاحب الموصل توفي في ربيع سنة خمس عشرة وستمائة وولى ابنه نور الدين أرسلان شاه في كفالة مولى أبيه نور الدين لؤلؤ مولاه ومدبر دولته. وكان أخوه عماد الدين زنكي في قلعة الصغد والسوس من أعمال الموصل بوصية أبيهما إليه بذلك وإنه بعد وفاة أخيه عز الدين طلب الأمر لنفسه وملك العمادية. وظاهره مظفر الدين كوكبري صاحب إربل على شأنه فبعث نور الدين لؤلؤ إلى الأشرف موسى بن العادل والجزيرة كلها وخلاط وأعمالها في طاعته. فأرسل إليه بالطاعة وكان على حلب مدافعاً لكياكاوس صاحب بلاد الروم كما نذكره بعد فأجابه الأشرف بالقبول ووعده النصر على أعدائه. وكتب إلى مظفر الدين يقبح عليه ما وقع من نكث العهد في اليمن التي كانت بينهم جميعاً ويأمره بإعادة عماد الدين زنكي ما أخذه من بلاد الموصل وإلا فيسير بنفسه ويسترجعها ممن أخذها ويدعوه إلى ترك الفتنة والاشتغال معه بما هو فيه من جهاد الإفرنج. فصمم مظفر الدين عن ندبته ووافقه صاحب ماردين وصاحب كيفا وآمد يجهز إلى الأشرف عسكراً إلى نصيبين للؤلؤ صاحب الموصل. ثم جهز لؤلؤ العساكر إلى عماد الدين فهزموه ولحق بإربل عند المظفر ثم وثب عماد الدين زنكي إلى قلعة كواشي فملكها وبعث لؤلؤ إلى الأشرف وهو على حلب يستنجده فعبر الفرات إلى حران واستمال مظفر الدين ملوك الأطراف وحملهم على طاعة كيكاوس والخطبة به وكان عدو الأشرف ومنازعاً له في منبج كما نذكره. وبعث أيضاً إلى الأمراء الذين مع الأشرف واستمالهم فأجابه منهم أحمد بن علي المشطوب صاحب القلعة مع الكامل على دمياط وعز الدين محمد بن نور الدين الحميدي. وفارقوا الأشرف إلى دبيس تحت ماردين ليجتمعوا على منع الأشرف من العبور إلى الموصل. ثم استمال الأشرف صاحب كيفا وآمد وأعطاه مدينة جانين وجبل الجودي ووعده بداراً إذا ملكها. ولحق به صاحب كيفا وفارق أصحابه الملوك واقتدى به بعضهم في طاعة الأشرف والنزوع إليه فافترق ذلك الجمع وسار كل ملك إلى عمله. وسار ابن المشطوب إلى إربل ومر بنصيبين فقاتله عساكرها وهزموه وافترق جمعه ومضى منهزماً. واجتاز بسنجار وبها فروخ شاه عمر بن زنكي بن مودود فبعث إليه عسكراً فجاؤوا به أسيراً وكان في طاعة الأشرف فحبس له ابن المشطوب ثم رجاه فأطلقه وسار في جماعة من المفسدين إلى البقعاء من أعمال الموصل فاكتسحها وعاد إلى سنجار. ثم سار ثانياً للإغارة على أعمال الموصل فأرصد له لؤلؤ عسكراً بتل أعفر من أعمال سنجار. فلما مر بهم قاتلوه وصعد إلى تل أعفر منهزماً. وجاء لؤلؤ من الموصل فحاصره بها شهراً أو بعضه وملكها منتصف ربيع الآخر من سنة سبع عشرة. وحبس ابن المشطوب بالموصل. ثم بعث به إلى الأشرف فحبسه بحران إلى أن توفي في ربيع الآخر من سنة سبع عشرة. ولما افترق جمع الملوك سار الأشرف من حران محاصراً لماردين. ثم صالحه على أن يرد عليه رأس عين وكان الأشرف أقطعه له. وعلى أن يأخذ منه ثلاثين ألف دينار وعلى أن يعطي صاحب كيفا وآمد قلعة المورو من بلده. رجع الأشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل وكان عمر صاحب سنجار لما أخذ منه لؤلؤ تل أعفر تخاذل عنه أصحابه وساءت ظنونهم بنفسه لما ساء فعله في أخيه وفي غيره فاعتزم على الإلقاء باليد للأشراف وتسليم سنجار له والاعتياض عنها بالرقة وبعث رسله إليه بذلك فلحقوه في طريقه من دبيس إلى نصيبين فأجاب إلى ذلك وسلم إليه الرقة وسلم سنجار في مستهل جمادى الأولى سنة سبعة عشر. وفارقها عمر فروخ شاه وأخوته بأهليهم وأموالهم. وسار الأشرف من سنجار إلى الموصل فوصلها تاسع عشر جمادى الأولى من السنة. وجاءته رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح وردد ما أخذه عماد الدين من قلاع الموصل إلى لؤلؤ ما عدا العمادية. وطال الحديث في ذلك ورحل الأشرف يريد إربل. ثم شفع عنده صاحب كيفا وغيره من بطانته وأنهوا إليه العساكر فأجاب إلى هذا الصلح وفسح لهم في تسليم القلاع إلى مدة ضربوها. وسار عماد الدين مع الأشرف حتى يتم تسليم الباقي ورحل الأشرف عن الموصل ثاني رمضان وبعث لؤلؤ نوابه إلى القلاع فامتنع جندها من تسليمها إليهم وانقضى الأجل. واستمال عماد الدين زنكي شهاب الدين غازي أخا الأشرف فاستعطف له أخاه فأطلقه ورد عليه قلعة العقر وسوس وسلم لؤلؤ قلعة تل أعفر كما كانت من أعمال سنجار والله تعالى أعلم. ارتجاع دمياط من يد الإفرنج ولما ملك الإفرنج دمياط أقبلوا على تحصينها ورجع الكامل إلى مصر وعسكر بأطراف الديار المصرية مسلحة عليها منهم. وبنى المنصورة بعد المنزلة وأقام كذلك سنين. وبلغ الإفرنج وراء البحر فتحها واستيلاء إخوانهم عليها فلجوا بذلك. وتوالت إمدادهم في كل وقت إليها والكامل مقيم بمكانه. وتواترت الأخبار بظهور التتر ووصولهم إلى أذربيجان وأران وأصبح المسلمون بمصر والشام على تخوف من سائر جهاتهم. واستنجد الكامل بأخيه المعظم صاحب دمشق وأخيه الأشرف صاحب الجزيرة وأرمينية. وسار المعظم إلى الأشرف يستحثه للوصول فوجده في شغل بالفتنة التي ذكرناها فعاد عنه إلى أن انقضت تلك الفتنة. ثم تقدم الإفرنج من دمياط بعساكرهم إلى جهة مصر وأعاد الكامل خطابه إليهما سنة ثماني عشرة يستنجدهما. وسار المعظم إلى الأشرف يستحثه فجاء معه إلى دمشق وسار منها إلى مصر ومعه عساكر حلب والناصر صاحب حماة وشيركوه صاحب حمص والأمجد صاحب بعلبك فوجدوا على بحر أشمون وقد سار الإفرنج من دمياط بجموعهم ونزلوا قبالته بعدوة النيل وهم يرمون على معسكره بالمجانيق والناس قد أشفقوا من الإفرنج على الديار المصرية فسار الكامل وبقي أخوه الأشرف بمصر. وجاء المعظم بعد الأشرف وقصد دمياط يسابق الإفرنج ونزل الكامل والأشرف وظفرت شواني المسلمين بثلاث قطع من شواني الإفرنج فغنموها بما فيها. ثم ترددت الرسل بينهم في تسليم دمياط على أن يأخذوا القدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين غير الكرك فاشتطوا واشترطوا إعادة الكرك والشوبك وزيادة ثلاثمائة ألف دينار لرم أسوار القدس التي خربها المعظم والكامل فرجع المسلمون إلى قتالهم. وافتقد الإفرنج الأقوات لأنهم لم يحملوها من دمياط ظناً بأنهم غالبون على السواد وميرته بأيديهم فبدا لهم ما لم يحتسبوا. ثم فجر المسلمون النيل إلى العدوة التي كانوا عليها فركبها الماء ولم يبق لهم إلا مسلك ضيق. ونصب الكامل الجسور عند أشمون فعبرت العساكر عليها وملكوا ذلك المسلك وحالوا بين الإفرنج وبين دمياط. ووصل إليهم مركب مشحون بالمدد من الميرة والسلاح ومعه حراقات فخرجت عليها شواني المسلمين وهي في تلك الحال فغنموها بما فيها. واشتد الحال عليهم في معسكرهم وأحاطت بهم عساكر المسلمين وهم في تلك الحال يقاتلونهم ويتخطفونهم من كل جانب فأحرقوا خيامهم ومجانيقهم وأرادوا الإستماتة في العود فرأوا ما حال بينهم وبينها من الرجل فاستأمنوا إلى الكامل والأشرف على تسليم دمياط من غير عوض. وبينما هم في ذلك وصل المعظم صاحب دمشق من جهة دمياط كما مر فازدادوا وهناً وخذلاناً وسلموا دمياط منتصف سنة ثمان عشرة وأعطوا عشرين ملكاً منهم رهناً عليها. وأرسلوا الأقسة والرهبان منهم إلى دمياط فسلموها للمسلمين وكان يوماً مشهوداً. ووصلهم بعد تسليمها مدد من وراء البحر فلم يغن عنهم ودخلها المسلمون وقد حصنها الإفرنج فأصبحت من أمنع حصون الإسلام والله تعالى أعلم. |
وفاة الأوحد نجم الدين بن العادل صاحب خلاط وولاية أخيه الظاهر غازي عليها
قد تقدم لنا أن الأوحد نجم الدين بن عادل ملك ميافارقين وبعدها خلاط وأرمينية سنة ثلاث وستمائة. ثم توفي سنة سبع فأقطع العادل ما كان بيده من الأعمال لأخيه الأشرف. ثم أقطع العادل ابنه الظاهر غازي سنة ست عشرة سروج والرها وما إليها ولما توفي العادل واستقل ولده الأشرف بالبلاد الشرقية عقد لأخيه. غازي على خلاط وميافارقين مضافاً إلى ولايته من أبيه العادل وهو سروج والرها. وجعله ولي عهده لأنه كان عاقراً لا يولد له. وأقام على ذلك أن انتقض على الأشرف عندما حدثت الفتنة بين بني العادل فانتزع أكثر الأعمال منه كما نذكره إن شاء الله تعالى. فتنة المعظم مع أخوية الكامل والأشرف وما دعت إليه من الأحوال كان بنو العادل والكامل والأشرف والمعظم لما توفي أبوهم قد اشتغل كل واحد منهم بأعماله التي عهد له أبوه وكان الأشرف والمعظم يرجعان إلى الكامل وفي طاعته ثم تغلب عيسى على صاحب حماة الناصر بن المنصور بن المظفر وزحف سنة تسع عشرة إلى حماة فحاصرها وامتنعت عليه فسار إلى سلمية والمعرة من أعمالها فملكها وبعث إليه الكامل صاحب مصر بالنكير والإفراج عن البلد فامتثل وأضغن ذلك عليه وأقطع الكامل سلمية لنزيله المظفر بن المنصور أخي صاحب حماة وكشف المعظم قناعه في فتنة أخويه الكامل والأشرف. وأرسل إلى ملوك الشرق يدعوهم إلى المظاهرة عليهما. وكان جلال الدين منكبري بن علاء الدين خوارزم شاه قد رجع من الهند بعد ما غلبه التتر على خوارزم وخراسان وغزنة وعراق ثم رجع سنة إحدى وعشرين وستمائة فاستولى على فارس وغزنة وعراق العجم وأذربيجان ونزل توريز وجاور بني أيوب في أعمالهم فراسله المعظم صاحب دمشق وصالحه واستنجده على أخويه فأجابه. ودعا المعظم الظاهر أخا الأشرف وعامله على خلاط والمظفر كوكبري صاحب إربل إلى ذلك فأجابوه كلهم وانتقض الظاهر غازي على أخيه الأشرف في خلاط وأرمينية وأظهر عصيانه في ولايته التي بيده إليه الأشرف سنة إحدى وعشرين وغلبه على خلاط فملكها وولى عليها حسام الدين أبا علي الموصلي كان أصله من الموصل. واستخدم للأشرف وترقى في خدمته إلى أن ولاه خلاط وعفا الأشرف عن أخيه الظاهر غازي وأقره على ميافارقين. وسار المظفر صاحب إربل ولؤلؤ صاحبها في طاعة الأشرف فحاصرها وامتنعت عليه ورجع عنها. وسار المعظم بنفسه من دمشق إلى حمص وصاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه في طاعة الكامل فحاصرها وامتنعت عليه ورجع إلى دمشق. ثم سار الأشرف إلى المعظم طالباً للصلح فأمسكه عنده على أن ينحرف عن طاعة الكامل. وانطلق إلى بلده فاستمر على شأنه. ثم زحف جلال الدين صاحب أذربيجان سنة أربع وعشرين إلى خلاط فحا صرهما مرة بعد مرة وأفرج عنها فسار حسام الدين نائبها إلى بلاد جلال الدين. وملك حصونها واضطرب الحال بينهم وخشي الكامل مغبة الأمر مع المعظم بممالأته لجلال الدين والخوارزمية فاستنجد هو بالإفرنج وكاتب الإمبراطور ملكهم من وراء البحر يستحثه للقدوم على عكا في صريخه على أن ينزل له عن القدس. وبلغ ذلك إلى المعظم فخشي العواقب وأقصر عن فتنته وكتب إليه يستعطفه والله تعالى أعلم. وفاة المعظم صاحب دمشق وولاية ابنه الناصر ثم استيلاء الأشرف عليها واعتياض الناصر بالكرك ثم توفي المعظم بن العادل صاحب دمشق سنة أربع وعشرين وولي مكانه ابنه داود ولقب بالناصر. وقام بتدبير ملكه عز الدين أتابك خادم أبيه وجرى على سنن المعظم أولاً في طاعة الكامل والخطبة. ثم انتقض سنة خمس وعشرين عندما طالبه الكامل بالنزول له عن حصن الشوبك فامتنع وانتقض وسار الكامل إليه في العساكر فانتهى إلى غزة وانتزع القدس ونابلس من أيديهم وولى عليها من قبله. واستنجد الناصر عمه الأشرف فجاءه إلى دمشق وخرج منها إلى نابلس. ثم تقدم منها إلى الكامل لصلح أمر الناصر معه فدعاه الكامل إلى انتزاع دمشق من الناصر له وأقطعه إياها فلم يجب الناصر إلى ذلك. وعاد إلى دمشق فحاصره الأشرف. ثم صالح الكامل ملك الإفرنج ليفرغ لأمر دمشق عن الشواغل وأمكنهم من القدس على أن يخرب سورها فاستولوا عليها كذلك وزحف الكامل إلى دمشق سنة ست وعشرين فحاصرها مع الأشرف. وخاف الحصار بالناصر فنزل لهما عنها على أن يستقل بالكرك والشوبك والبلقاء فسلموا له في ذلك وسار إليها. واستولى الأشرف على دمشق ونزل الكامل عن أعماله وهي حران والرها وما إليهما وبمكانهما من حصار دمشق ووصل الخبر إلى الكامل بوفاة ابنه المسعود صاحب اليمن وقد مر خبره والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. استيلاء المظفر بن المنصور على حماة من يد أخيه الناصر ولما ملك الكامل دمشق شرع في إنجاد نزيله المظفر محمود بن المنصور صاحب حماة وبها أخوه الناصر وقد كاتبه بعض أهل البلد يستدعونه لملكها فجهزه بالعساكر وسار إليها فحاصرها. ودس لمن كاتبه من أهلها فأجابوه وواعدوه ليلاً فطرقها وتسورها وملكها. وكتب إليه الكامل أن يقطع الناصر قلعة ماردين فأقطعه إياها وانتزع الكامل منه سلمية وأقطعها لصاحب حمص شيركوه بن محمد بن شيركوه واستقل المظفر محمود بملك حماة وفوض أمور دولته إلى حسام الدين علي بن أبي علي الهدباني فقام بها. ثم استوحش منه فلحق بأبيه نجم الدين أيوب ولم تزل ماردين بيد الناصر أخي المظفر إلى سنه ثلاثين فهم الناصر بأن يملكها للإفرنج وشكا المظفر بذلك للكامل فأمره بانتزاعها منه. ثم اعتقله الكامل إلى أن هلك سنة خمس وثلاثين استيلاء الأشرف على بعلبك من يد الأمجد واقطاعها لأخيه إسماعيل بن العادل كان السلطان صلاح الدين قد أقطع الأمجد بهرام شاه بن فرخشاه أخي تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قلعة بعلبك وكانت بصرى لخضر. ثم صارت بعد وفاة العادل لابنه الأشرف وعليها أخوه إسماعيل بن العادل فجهزه سنة ست وعشرين إلى بعلبك وحاصر بها الأمجد حتى تسلمها منه على إقطاع أقطعه إياه. وسار إسماعيل إلى دمشق فنزلها إلى أن قتله مواليه والله سبحانه وتعالى أعلم. فتنة جلال الدين خوارزم شاه مع الأشرف واستيلاؤه على خلاط قد كنا قدمنا أن جلال الدين خوارزم شاه ملك أذربيجان وجاور أعمال بني أيوب. وكان الأشرف قد ولى على خلاط لما انتزعها من يد أخيه غازي سنة اثنتين وعشرين حسام الدين أبا علي الموصلي. ثم صالح المعظم جلال الدين خوارزم شاه ودعاه إلى الفتنة مع أخويه كما قدمناه فزحف جلال الدين خوارزم شاه إلى خلاط وحاصرها مرتين ورجع عنها فسار حسام الدين إلى بلده وملك بعض حصونه وداخل زوجته التي كانت زوجة إزبك بن البهلوان وكانت مقيمة بخوي وهجرها جلال الدين وقطع عنها ما كانت تعتاده من التحكيم في الدولة مع زوجها قبله فدست إلى حسام الدين نائب خلاط واستدعته هي وأهل خوي ليملكوه البلاد وكاتبه أهل بقجوان وملكوه بلدهم وعاد إلى خلاط ونقل معه زوجة جلال الدين وهي بنت السلطان طغرل فامتعض جلال الدين لذلك. ثم ارتاب الأشرف بحسام الدين نائب خلاط وأرسل أكبر أمرائه عز الدين أيبك فقبض على حسام الدين وكان عدواً له وقتله غيلة وهرب مولاه فلحق بجلال الدين ثم زحف جلال الدين في شوال سنة ست وعشرين إلى خلاط فحاصرها ونصب عليها المجانيق وقطع عنها الميرة مدة ثمانية أشهر. ثم ألح عليها بالقتال وملكها عنوة آخر جمادى الأولى من سنة سبع وعشرين وامتنع أيبك وحاميتها بالقلعة واستماتوا واستباح جلال الدين مدينة خلاط وعاث فيها بما لم يسمع بمثله. ثم تغلب على القلعة وأسر أيبك نائب خلاط فدفعه إلى مولى حسام الدين نائبها قبله فقتله بيده والله تعالى أعلم. مسير الكامل في انجاد الأشرف وهزيمة جلال الدين أمام الأشرف ولما استولى جلال الدين على خلاط سار الأشرف من دمشق إلى أخيه الكامل بمصر يستنجده فسار معه وولى على مصر ابنه العادل ولقيه في طريقه صاحب الكرك الناصر بن المعظم وصاحب حماة المظفر بن المنصور وسائر بني أيوب. وانتهى إلى سلمية وكلهم في طاعته. ثم سار إلى آمد فملكها من يد مسعود بن محمد ابن الصالح بن محمد بن أرسلان بن سقمان بن أرتق وكان صلاح الدين أقطعه إياها عندما ملكها من ابن نعشان فلما نزل إليه اعتقله وملك آمد. ثم انطلق بعد وفاة الكامل من الاعتقال ولحق بالتتر. ثم استولى الكامل على البلاد الشرقية التي نزل له عنها الأشرف عوضاً عن دمشق وهي حران والرها وما إليهما. ولما تسلمها ولى عليها ابنه الصالح نجم الدين أيوب وكان جلال الدين لما ملك خلاط حضر معه صاحب أرزن الروم فاغتم لذلك علاء الدين كيقباد ملك بلاد الروم لما بينه وبين صاحب أرزن من العداوة والقرابة وخشيهما على ملكه فبعث إلى الكامل والأشرف بحران يستنجدهما ويستحث الأشرف للوصول فجمع عساكر الجزيرة والشام. وسار إلى علاء الدين فاجتمع معه بسيواس وسار نحو خلاط. وسار جلال الدين للقائهما والتقوا بأعمال أرزنكان وتقدم عسكر حلب للقتال ومقدمهم عز الدين عمر بن علي الهكاري من أعظم الشجعان فلم يثبت لهم مصاف جلال الدين. وانهزم إلى خلاط فأخرج حاميته منها ولحق بأذربيجان. ووقف الأشرف على خلاط وهي خاوية. وكان صاحب أرزن الروم مع جلال الدين فجيء به أسيراً إلى ابن عمه علاء الدين صاحب بلاد الروم فسار به إلى أرزن وسلمها له وما يتبعها من القلاع. ثم ترددت الرسل بينهم وبين جلال الدين في الصلح فاصطلحوا كل على ما بيده وتحالفوا وعاد الأشرف إلى سنجار. وسار أخوه غازي صاحب ميافارقين فحاصر مدينة أرزن من ديار بكر وكان حاضراً مع الأشرف في هذه الحروب وأسره جلال الدين ثم أطلقه بعد أن أخذ عليه العهد في طاعته فسار إليه شهاب الدين غازي وحاصره وهلك منه أرزن صلحاً وأعطاه عنها مدينة جاني من ديار بكر وكان اسمه حسام الدين وكان من بيت عريق في الملك يعرفون ببني الأحدب أقطعها لهم السلطان ملك شاه والله تعالى أعلم. استيلاء العزيز صاحب حلب على شيزر ثم وفاته وولاية ابنه الناصر بعده كان سابق الدين عثمان بن الداية من أمراء الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي واعتقله ابنه الصالح إسماعيل فنكر عليه صلاح الدين ذلك وسار ببنيه إلى دمشق فملكها وأقطع سابق الدين شيزر فلم تزل له ولبنيه إلى أن استقرت لشهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين فسار إليه صاحب حلب محمد بن العزيز بن الغازي الظاهر بأمر الكامل سنة ثلاثين وستمائة وملكها من يده. ثم هلك سنة أربع وثلاثين وملك في حلب مكانه ابنه الناصر يوسف في كفالة جدته لأبيه صفية خاتون بنت العادل. واستولى على الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني وعز الدين المجلي وإقبال الخاتوني وكلهم في تصريفها والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. فتنة كيقباد صاحب بلاد الروم واستيلاؤه على خلاط كان كيقباد بن كيكاوس صاحب بلاد الروم قد استفحل ملكه بها ومد يده إلى ما يجاورها من البلاد فملك خلاط بعد أن دفع عنها مع الأشرف جلال الدين شاه كما قدمناه ونازعه الأشرف في ذلك واستنجد بأخيه الكامل فسار بالعساكر من مصر سنة إحدى وثلاثين. وسار معه الملوك من أهل بيته وانتهى إلى النهر الأزرق من تخوم الروم. وبعث في مقدمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيقباد وهزمه وحصره في خرت برت وتخاذل عن الحرب. ثم استأمن المظفر صاحب حماة إلى كيقباد فأمنه وملك خرت برت وكان لبني أرتق ورجع الكامل بالعساكر إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين وكيقباد في اتباعهم. ثم سار إلى حران والرها فملكها من يد نواب الكامل وولى عليها من قبله وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين والله أعلم. وفاة الأشرف بن العادل و استيلاء الكامل على ممالكه كان الأشرف سنة أربع وثلاثين قد استوحش من أخيه الكامل ونقض طاعته ومالأه على ذلك أهل حلب وكنخسرو صاحب بلاد الروم وجميع ملوك الشام من قرابتهما غير الناصر بن المعظم صاحب الكرك فإنه أقام على طاعة الكامل وسار إليه بمصر فتلقاه بالمبرة والتكرمة ثم هلك الأشرف خلال ذلك سنة خمس وثلاثين وعهد بملك دمشق لأخيه الصالح إسماعيل صاحب بصرى فسار إليها وملكها. وبقي الملوك في وفاقه على الكامل كما كانوا على عهد الأشرف إلا المظفر صاحب حماة فإنه عدل عنهم إلى الكامل وسار الكامل إلى دمشق فحاصرها وضيق عليها حتى تسلمها صلحاً من الصالح وعوضه عنها بعلبك واستولى على سائر أعمال الأشرف ودخل سائر بني أيوب في طاعته والله أعلم. |
وفاة الكامل وولاية ابنه العادل بمصر
و استيلاء ابنه الآخر نجم الدين أيوب على دمشق ثم توفي الكامل بن العادل صاحب دمشق ومصر والجزيرة سنة خمس وثلاثين بدمشق لستة أشهر من وفاة أخيه الأشرف فانفض الملوك راجعين كل إلى بلاده المظفر إلى حماة والناصر إلى الكرك وبويع بمصر ابنه العادل أبو بكر فنصب العساكر بدمشق الجواد يونس ابن عمه مودود بن العادل نائباً عنه وسار الناصر داود إلى دمشق ليملكها فبرز إليه الجواد يونس وهزمه. وتمكن في ملك دمشق وخلع طاعة العادل بن الكامل وراسل الصالح أيوب في أن يملكه دمشق وينزل له الصالح عن البلاد الشرقية التي ولاه أبوه عليها فسار الصالح لذلك سنة ست وثلاثين وملك دمشق. وسار يونس إلى البلاد الشرقية فاستولى عليها ولم تزل بيده إلى أن زحف إليه لؤلؤ صاحب الموصل وغلبه عليها واستقرت دمشق في يد الصالح. ولما أخذ لؤلؤ البلاد من يونس الجواد سار عن القفر إلى غزة فمنعه الصالح من الدخول إليها فدخل الإفرنج بعكا وباعوه من الصالح إسماعيل صاحب دمشق فاعتقله وقتله انتهى والله أعلم. ثم زحف التتر إلى أذربيجان واستولوا على جلال الدين وقتلوه سنة ثمان وعشرين وانفض أصحابه وذهبوا في كل ناحية وسار جمهورهم إلى بلاد الروم فنزلوا على علاء الدين كيقباد ملكها حتى إذا مات وملك ابنه كنخسرو ارتاب بهم وقبض على أمرائهم وانفض الباقون عنه وعاثوا في الجهات فاستأذن الصالح أيوب صاحب سنجار وما إليها أباه الكامل صاحب مصر في استخدامهم ليحسم عن البلاد ضررهم فاجتمعوا عنده وأفاض فيهم الأرزاق. ولما توفي الكامل سنة خمس وثلاثين انتقضوا عن الصلح وخرجوا فاكتسحوا النواحي. وسار لؤلؤ إلى سنجار فحاصر الصالح فبعث الصالح الخوارزمية فاستمالهم وأقطعهم حران والرها ولقي بهم لؤلؤاً فهزمه وغنم معسكره والله تعالى أعلم. مسير الصالح إلى مصر واعتقل الناصر له بالكرك لما ملك العادل بمصر بعد أبيه اضطرب عليه أهل الدولة وبلغهم استيلاء أخيه الصالح على دمشق فاستدعوه ليملكوه فبعث عن عمه الصالح إسماعيل من بعلبك ليسير معه فاعتذر عن الوصول. وسار الصالح أيوب وولى على دمشق ابنه المغيث فتح الدين عمر. ولما فصل عن دمشق خالفه إليها عمه الصالح إسماعيل فملكها ومعه شيركوه صاحب حمص وقبض على المغيث فتح الدين بن الصالح أيوب. وبلغ الخبر إليه وهو بنابلس فانفضت عنه العساكر ودخل نابلس. وجاءه الناصر داود من الكرك فقبض عليه واعتقله وبعث فيه أخوه العادل فامتنع من تسليمه إليه. ثم قصد داود القدس فملكها من يد الإفرنج وخرب القلعة والله تعالى ولي التوفيق. وفاة شيركوه صاحب مصر وولاية ابنه إبراهيم المنصور ثم توفي المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص سنة ست وثلاثين وكانت ولايته أول المائة السابعة وولي من بعده ابنه إبراهيم ويلقب بالمنصور والله أعلم. خلع العادل واعتقاله واستيلاء أخيه الصالح أيوب على مصر ولما رجع الناصر داود من فتح القدس أطلق الصالح نجم الدين أيوب من الاعتقال فاجتمعت إليه مواليه واتصل اضطراب أهل الدولة بمصر على أخيه العادل فكاتبوا الصالح واستدعوه ليملكوه فسار معه الناصر داود وانتهى إلى عزة وبرز العادل إلى بلبيس وكتب إلى عمه الصالح بدمشق يستنجده على أخيه أيوب فسار من دمشق وانتهى إلى الغور. ثم وثب بالعادل في معسكره مواليه ومقدمهم أيبك الأسمر وقبضوا عليه. وبعثوا إلى الملك الصالح فجاء ومعه الناصر داود صاحب الكرك فدخل القلعة سنة سبع وثلاثين واستقر في ملكه. وارتاب منه الناصر داود فلحق بالكرك. واستوحش من الأمراء الذين وثبوا بأخيه فاعتقلهم وفيهم أيبك الأسمر وذلك سنة ثمان وثلاثين وحبس أخاه العادل إلى أن هلك في محبسه سنة خمس وأربعين. ثم اختط قلعة بين سعي التيل إزاء المقياس واتخذها مسكناً وأنزل بها حامية من مواليه فكانوا يعرفون بالبحرية آخر أيامهم انتهى والله أعلم. فتنة الخوارزمية ثم كثر عيث الخوارزمية بالبلاد المشرقية وعبروا الفرات وقصدوا حلب فبرزت إليهم عساكرها مع المعظم تورانشاه بن صلاح الدين فهزموه وأسروه. وقتلوا الصالح بن الأفضل صاحب سميساط وكان في جملته. وملكوا منبج عنوة ورجعوا. ثم ساروا من حران وعبروا من ناحية الرقة وعاثوا في البلاد. وجمع أهل حلب العساكر وأمدهم الصالح إسماعيل عن دمشق بعسكر مع المنصور إبراهيم صاحب حمص وقصدوا الخوارزمية فانقلبوا إلى حران. ثم تواقعوا مع العساكر فانهزموا واستولى عسكر حلب على حران والرها وسروج والرقة ورأس عين وما إليها. وخلص المعظم تورانشاه فبعث به لؤلؤ صاحب الموصل إلى عسكر حلب. ثم سار عسكر حلب إلى آمد وحاصروا المعظم تورانشاه وغلبوه على آمد. وأقام بحصن كيفا إلى أن هلك أبوه بمصر واستدعي لملكها فسار لذلك وولى ابنه الموحد عبد الله بكيفا إلى أن غلب التتر على بلاد الشام. ثم سار الخوارزمية سنة أربعين مع المظفر غازي صاحب ميافارقين من قتال صاحب حلب ومعهم المنصور إبراهيبم صاحب حمص فانهزموا وغنمت العساكر سوادهم والله سبحانه وتعالى أعلم. أخبار حلب قد كان تقدم لنا ولاية الظاهر غازي على حلب بعد وفاة أبيه. ثم توفي سنة أربع وثلاثين ونصب أهل الدولة ابنه الناصر يوسف في كفالة جدته أم العزيز صفية خاتون بنت العادل ولؤلؤ الأرمني وإقبال الخاتوني وعز الدين بن مجلي قائمون بالدولة في تصريفها. وما زالت تجهز العساكر لدفاع الخوارزمية وتفتح البلاد إلى أن توفيت سنة أربعين واستقل الناصر بتدبير ملكه وصرف النظر في أموره لجمال الدين إقبال الخاتوني والله أعلم. فتنة الصالح أيوب مع عمه الصالح إسماعيل على دمشق واستيلاء أيوب آخراً عليها قد كان تقدم لنا أن الصالح إسماعيل بن العادل خالف الصالح أيوب على دمشق عند مسيره إلى مصر. فملك دمشق سنة ست وثلاثين وكان بعد ذلك اعتقال الصالح بالكرك ثم استيلاؤه على مصر سنة سبع وثلاثين وبقيت الفتنة متصلة بينهما. وطلب الصالح إسماعيل صاحب دمشق من الإفرنج المظاهرة على أيوب صاحب مصر على أن يعطيهم حصن الشقيف وصفد فأمضى ذلك ونكره مشيخة العلماء بعصره. وخرج من دمشق عز الدين بن عبد السلام الشافعي ولحق بمصر فولاه الصالح خطة القضاء بها. ثم خرج بعده جمال الدين بن الحاجب المالكي إلى الكرك ولحق بالإسكندرية فمات بها. ثم تداعى ملوك الشام لفتنة الصالح أيوب واتفق عليها إسماعيل الصالح صاحب دمشق والناصر يوسف صاحب حلب وجدته صفية خاتون وإبراهيم المنصور بن شيركوه صاحب حمص. وخالفهم المظفر صاحب حماة وجنح إلى ولاية نجم الدين أيوب وأقام حالهم في الفتنة على ذلك. ثم جنحوا إلى الصلح على أن يطلق صاحب دمشق فتح الدين عمر بن نجم الدين أيوب الذي اعتقله بدمشق فلم يجب إلى ذلك واستجدت الفتنة. وسار الناصر داود صاحب الكرك مع إسماعيل الصالح صاحب دمشق واستظهروا بالإفرنج وأعطاهم إسماعيل القدس على ذلك. واستنجد بالخوارزمية أيضاً فأجابوه واجتمعوا بغزة. وبعث نجم الدين العساكر مع مولاه بيبرس وكانت له ذمة باعتقاله معه فتلاقوا مع الخوارزمية وجاءت عساكر مصر مع المنصور إبراهيم بن شيركوه ولاقوا الإفرنج من عكا فكان الظفر لعساكر مصر والخوارزمية واتبعوهم إلى دمشق وحاصروا بها الصالح إسماعيل إلى أن جهده الحصار وسأل في الصلح على أن يعوض عن دمشق ببعلبك وبصرى والسواد فأجابه أيوب إلى ذلك. وخرج إسماعيل من دمشق إلى بعلبك سنة ثمان وأربعين. وبعث نجم الدين إلى حسام الدين علي بن أبي علي الهدباني وكان معتقلاً عند إسماعيل بدمشق فشرط نجم الدين إطلاقه في الصلح الأول فأطلقه وبعث إليه بالنيابة عنه بدمشق فقام بها. وانصرف إبراهيم المنصور إلى حمص وانتزع صاحب حماة سلمية فملكها. واشتط الخوارزمية على الهدباني في دمشق في الولايات والإقطاعات وامتعضوا لذلك فسار بهم الصالح إسماعيل إلى دمشق موصلاً الكرة ومعه الناصر صاحب الكرك فقام الهدباني في دفاعهم أحسن قيام. وبعث نجم الدين من مصر إلى يوسف الناصر يستنجده على دفع الخوارزمية عن دمشق فسار في عساكره ومعه إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص فهزموا الخوارزمية على دمشق سنة أربع وأربعين وقتل مقدمهم حسام الدين بركت خان وذهب بقيتهم مع مقدمهم الآخر كشلو خان فلحقوا بالتتر واندرجوا في جملتهم وذهب أثرهم من الشام واستجار إسماعيل الصالح وكان معهم بالناصر صاحب حلب فأجاره من نجم الدين أيوب. وسار حسام الدين الهدباني بعساكر دمشق إلى بعلبك وتسلمها بالأمان وبعث بأولاد إسماعيل ووزيره ناصر الدين يغمور إلى نجم الدين أيوب فاعتقلهم بمصر. وسارت عساكر الناصر يوسف صاحب حلب إلى الجزيرة فتواقعوا مع لؤلؤ صاحب الموصل فانهزم لؤلؤ وملك الناصر نصيبين ودارا أو قرقيسيا وعاد عسكره إلى حلب والله تعالى أعلم. ثم بعث الصالح عن حسام الدين الهدباني من دمشق وولى مكانه جمال الدين بن مطروح. ثم سار إلى دمشق سنة خمس وأربعين واستخلف الهدباني على مصر. ولما وصل إلى دمشق جهز فخر الدين بن الشيخ بالعساكر إلى عسقلان وطبرية فحاصرهما مدة وفتحهما من يد الإفرنج ووفد على الصالح بدمشق المنصور صاحب حماة وكان أبو المظفر توفي سنة ثلاث وأربعين وولى المنصور ابنه هذا واسمه محمد. ووفد أيضاً الأشرف موسى صاحب حمص وقد كان أبوه إبراهيم المنصور توفي سنة أربع وأربعين قبلها بدمشق وهو ذاهب إلى مصر وافداً على الصالح أيوب. وأقام بحمص ابنه مظفر الدين موسى ولقب الأشرف. وجاءت عساكر حلب سنة ست وأربعين مع لؤلؤ الأرمني وحصروا مصر شهرين وملكوها من يد موسى الأشرف وأعاضوه عنها تل باشر من قلاع حلب مضافة إلى الرحبة وتدمر وكانتا بيده مع حمص. وغضب لذلك الصالح فسار من مصر إلى دمشق وجهز العساكر إلى حصار حمص مع حسام الدين الهدباني وفخر الدين بن الشيخ فحاصروا مصر مدة. وجاء رسول الخليفة المستعصم إلى الصالح أيوب شافعاً فأفرج العساكر عنها وولى على دمشق جمال الدين يغمور وعزل ابن مطروح والله تعالى أعلم. استيلاء الإفرنج عل دمياط كانت افرنسة أمة عظيمة من الإفرنج والظاهر أنهم أصل الإفرنج. وان إفرنسة هي إفرنجة انقلبت السين بها جيماً عندما عربتها العرب وكان ملكها من أعظم ملوكهم لذلك العصر ويسمونه ري الإفرنس ومعنى ري في لغتهم ملك إفرنس. فاعتزم هذا الملك على سواحل الشام وسار لذلك كما سار من قبله من ملوكهم. وكان ملكه قد استفحل فركب البحر إلى قبرص في خمسين ألف مقاتل وشتى بها. ثم عبر سنة سبع وأربعين إلى دمياط وبها بنو كنانة أنزلهم الصالح بها حامية فلما رأوا ما لا قبل لهم به أجفلوا عنها فملكها ري افرنس وبلغ الخبر إلى الصالح بوهو بدمشق وعساكره نازلة بحمص فكر راجعاً إلى مصر وقدم فخر الدين ابن الشيخ أتابك عسكره ووصل بعده فنزل المنصورة وقد أصابه بالطريق وعك واشتد عليه والله تعالى أعلم. استيلاء الصالح على الكرك كان بين الصالح أيوب وبين الناصر داود ابن عمه المعظم من العداوة ما تقدم وقد ذكرنا اعتقال الناصر له بالكرك فلما ملك الصالح دمشق بعث العساكر مع أتابكة فخر الدين يوسف ابن الشيخ لحصار الكرك. وكان أخوه العادل اعتقله وأطلقه الصالح وألزمه بيته ثم جهزه لحصار الكرك فسار إليها سنة أربع وأربعين وحاصرها وملك سائر أعمالها وخربي نواحيها. وسار الناصر من الكرك إلى الناصر يوسف صاحب حلب مستجيراً به بعد أن بعث بخيرته إلى المستعصم وكتب له خطه بوصولها. وكان قد استخلف على الكرك عندما سار إلى حلب ابنه الأصغر عيسى ولقبه المعظم فغضب أخواه الأكبران الأمجد حسن والظاهر شادي فقبضا على أخيهما عيسى ووفدا على الصالح سنة ست وأربعين وهو بالمنصورة قبالة الإفرنج فملك الكرك والشوبك منهما وولى عليهما بدراً الصواي وأقطعهما بالديار المصرية والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة الصالح أيوب! صاحب مصر والشام وسيد ملوك الترك بمصر وولاية ابنه تورانشاه وهزيمة الإفرنج وأسر ملكهم ثم توفي الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل سنة سبع وأربعين بمكانه من المنصورة قبالة الإفرنج وخشي أهل الدولة من الإفرنج فكتموا موته وقامت أم ولده شجرة الدر بالأمر وجمعت الأمراء وسيروا بالخبر إلى حسام الدين الهدباني بمصر فجمع الأمراء وقوى جأشهم واستحلفهم. وأرسل الأتابك فخر الدين بن الشيخ الخبر إلى المعظم تورانشاه بن الصالح واستدعاه من مكان إمارته بحصن كيفا. ثم انتشر خبر الوفاة وبلغ الإفرنج فشرهوا إلى قتال المسلمين ودلفوا إلى المعسكر فانكشف المسلمون وقتل الأتابك فخر الدين. ثم أتاح الله الكرة للمسلمين وانهزم الإفرنج ووصل المعظم تورانشاه من مكانه بحصن كيفا لثلاثة أشهر أو تزيد فبايعه المسلمون واجتمعوا عليه واشتدوا في قتال الإفرنج وغلبت أساطيلهم أساطيل العدو. وسأل الإفرنج في الإفراج عن دمياط على أن يعاضوا بالقدس فلم يجبهم المسلمون إلى ذلك. وسارت سرايا المسلمين من حولهم فيما بين معسكرهم وبين دمياط فرحلوا راجعين إليها. وأتبعهم المسلمين فأدركهم الدهش وانهزموا وأسر ملكهم ري افرنس وهو المعروف بالفرنسيس. وقتل منهم أكثر من ثلاثين ألفاً. واعتقل الفرنسيس بالدار المعروفة بفخر الدين بن لقمان ووكل به الخادم صبيح المعظمي. ثم رحل المعظم بعساكر المسلمين راجعاً إلى مصر والله تعالى أعلم. |
مقتل المعظم تورانشاه وولاية شجرة الدر وفداء الفرنسيس بدمياط
ولما بويع المعظم تورانشاه وكانت له بطانة من المماليك جاء بهم من كيفا فتسلطوا على موالي أبيه وتقسموهم بين النكبة والإهمال. وكان للصالح جماعة من الموالي البحرية الذين كان ينزلهم بالدار التي بناها إزاء المقياس وكانوا بطانته وخالصته. وكان كبيرهم بيبرس وهو الذي كان الصالح بعثه بالعساكر لقتال الخوارزمية عندما زحفوا مع عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق. وقد مر ذكر ذلك فصارت صاغيته معهم ثم استمالهم الصالح فصاروا معه وزحفوا مع عساكره إلى عساكر دمشق والإفرنج فهزموهم وحاصروا دمشق وملكوها بدعوة الصالح كما مر. واستوحش بيبرس حتى بعث إليه الصالح بالأمان سنة أربع وأربعين ولحقه بمصر فحبسه على ما كان منه ثم أطلقه. وكان من خواص الصالح أيضاً قلاون الصالحي كان من موالي علاء الدين قرا سنقر مملوك العادل وتوفي سنة خمس وأربعين وورثه الصالح بحكم الولاء. ومنهم أقطاي الجامدار وأيبك التركماني وغيرهم فأنفوا من استعلاء بطانة المعظم تورانشاه عليهم وتحكمهم فيهم فاعصوصبوا واعتزموا على الفتك بالمعظم. ورحل من المنصورة بعد هزيمة الإفرنج راجعاً إلى مصر فلما قربت له الحراقة عند البرج ليركب البحر كبسوه بمجلسه وتناوله بيبرس بالسيف فهرب إلى البرج فأضرموه ناراً فهرب إلى البحر فرموه بالسهام فألقى نفسه في الماء وهلك بين السيف والماء لشهرين من وصوله وملكه. ثم اجتمع هؤلاء الأمراء المتولون قتل تورانشاه ونصبوا للملك أم خليل شجرة الدر زوجة الصالح وأم ولده خليل المتوفي في حياته وبه كانت تلقب. وخطب لها على المنابر وضربت السكة باسمها ووضعت علامتها على المراسم وكان نص علامتها أم خليل وقدم أتابك على العساكر عز الدين الجاشنكير أيبك التركماني فلما استقرت الدولة طلبهم الفرنسيس في الفداء على تسليم دمياط للمسلمين فاستولوا عليها سنة ثمان وأربعين. وركب الفرنسيس البحر إلى عكا وعظم الفتح وأنشد الشعراء في ذلك وتساجلوا. ولجمال الدين بن مطروح نائب دمشق أبيات في الواقعة يتداولها الناس لهذا العصر والله تعالى ولي التوفيق وهي قل للفرنسيس إذا جئته مقال صدق عن قؤول فصيح آجرك الله على ما جرى من قتل عباد يسوع المسيح أتيت مصر تبتغي ملكها تحسب أن الزمر بالطبل ريح فساقك الحين إلى أدهم ضاق بهم في ناظريك الفسيح وكل أصحابك أودعتهم بسوء تدبيرك بطن الضريح خمسون ألفاً لا يرى منهم إلا قتيل أو أسير جريح وفقك الله لأمثالها لعلنا من شركم نستريح إن كان باباكم بذار راضياً فرب غش قد أتى من نصيح أوصيكم خيراً به إنه لطف من الله إليكم أتيح لو كان ذا رشد على زعمكم ماكان يستحسن هذا القبيح والطواشي في لغة أهل المشرق هو الخصي ويسمونه الخادم أيضاً والله أعلم. استيلاء الناصر صاحب حلب على دمشق وبيعة الترك بمصر لموسى الأشرف بن أطسز بن المسعود صاحب اليمن وتراجعهما ثم صلحهما ولما قتل المعظم تورانشاه ونصب الأمراء بعده شجرة الدر زوجة الصالح امتعض لذلك أمراء بني أيوب بالشام وكان بدر الصوابي بالكرك والشوبك ولاه الصالح عليهما وحبس عنده فتح الدين عمر ابن أخيه العادل فأطلقه من محبسه وبايع له. وقام بتدبير دولته جمال الدين بن يغمور بدمشق واجتمع مع الأمراء القصرية بها على استدعاء الناصر صاحب حلب وتمليكه فسار وملك دمشق واعتقل جماعة من موالي الصالح. وبلغ الخبر إلى مصر فخلعوا شجرة الدر ونصبوا موسى الأشرف بن مسعود أخي الصالح بن الكامل وهو الذي ملك أخوه أطسز واسمه يوسف باليمن بعد أبيهما مسعود وبايعوا له وأجلسوه على التخت وجعلوا أيبك أتابكه. ثم انتقض الترك بغزة ونادوا بطاعة المغيث صاحب الكرك فنادى الترك بمصر بطاعة المستعصم وجددوا البيعة للأشرف وأتابكه. ثم سار الناصر يوسف بعسكره من دمشق إلى مصر فجهز الأمراء العساكر إلى الشام مع أقطاي الجامدار كبير البحرية ويلقب فارس الدين فأجفلت عساكر الشام بين يديه. ثم قبض الناصر يوسف صاحب دمشق على الناصر داود لشيء بلغه عنه وحبسه بحمص وبعث عن ملوك بني أيوب فجاءه موسى الأشرف صاحب حمص والرحبة وتدمر والصالح إسماعيل بن العادل من بعلبك والمعظم تورانشاه وأخوه نصر الدين ابنا صلاح الدين والأمجد حسام الدين والظاهر شادي ابنا الناصر وداود صاحب الكرك وتقي الدين عباس بن العادل واجتمعوا بدمشق. وبعث في مقدمته مولاه لؤلؤ الأرمني وخرج أيبك التركماني في العساكر من مصر للقائهم وأفرج عن ولدي الصالح إسماعيل المعتقلين منذ أخذهم الهدباني من بعلبك ليتهم الناس أباهم ويستريبوا به والتقى الجمعان في العباسية فانكشفت عساكر مصر وسارت عساكر الشام في اتباعهم وثبت أيبك وهرب إليه جماعة من عساكر الناصر. ثم صدق أيبك الحملة على الناصر فتفرقت عساكره وسار منهزماً وجيء لأيبك بلؤلؤ الأرمني أسيراً فقتله وأسر إسماعيل الصالح وموسى الأشرف وتورانشاه المعظم وأخوه. ولحق المنهزمون من عسكر مصر بالبلد وشغر المتبعون لهم من عساكر الشام بهزيمة الناصر وراءهم فرجعوا. ودخل أيبك إلى القاهرة وحبس بني أيوب بالقلعة. ثم قتل يغمور وزير الصالح إسماعيل المعتقل ببعلبك مع بنيه وقتل الصالح إسماعيل في محبسه. ثم جهز الناصر العساكر من دمشق إلى غزة فتواقعوا مع فارس الدين أقطاي مقدم عساكر مصر فهزموهم واستولوا عليها. وترددت الرسل بين الناصر وبين الأمراء بمصر واصطلحوا سنة خمسين وجعلوا التخم بينهم نهر الأردن. ثم أطلق أيبك حسام الدين الهدباني فسار إلى دمشق وسار في خدمة الناصر. وجاءت إلى الناصر شفاعة المستعصم في الناصر داود صاحب الكرك الذي حبسه بحمص فأفرج عنه ولحق ببغداد ومعه ابناه الأمجد والظاهر فمنعه الخليفة من دخولها فطلب وديعته فلم يسعف بها. وأقام في أحياء عرية ثم رجع إلى دمشق بشفاعة من المستعصم للناصر وسكن عنده والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. خلع الأشرفي بن أطسز واستبداد أيبك وأمراء الترك بمصر قد تقدم لنا آنفاً بيعة أمراء التركمان بمصر للأشرف موسى بن يوسف أتسز بن الكامل وإنهم خطبوا له وأجلسوه على التخت بعد أن نصبوا للملك أيبك وكان طموحاً إلى الإستبداد. وكان أقطاي الجامدار من أمراء البحرية يدافعه عن ذلك ويغض من عنانه منافسة وغيرة فأرصد له أيبك ثلاثة من المماليك اغتالوه في بعض سكك القصر وقتلوه سنة اثنتين وخمسين. وكانت جماعة البحرية ملتفة عليه فانفضوا ولحقوا بالناصر في دمشق واستبد أيبك بمصر وخلع الأشرف وقطع الخطبة له فكان آخر أمراء بني أيوب بمصر وخطب أيبك لنفسه. ثم تزوج شجرة الدر أم خليل الملكة قبله فلما وصل البحرية إلى الناصر بدمشق أطمعوه في ملك مصر واستحثوه فتجهز وسار وانتقض عليه. . . فتوهموا بالثورة به فارتاب بهم ولحقوا بالناصر. ثم ترددت الرسل بين الناصر وأيبك فاصطلحوا على أن يكون التخم بينهم العريش. وبعث الناصر إلى المستعصم مع وزيره كمال الدين بن العديم في طلب الخلعة. وكان أيبك قد بعث بالهدية والطاعة إلى المستعصم فمطل المستعصم الناصر بالخلعة حتى بعثها إليه سنة خمس وخمسين. ثم قتل المعز أيبك قتلته شجرة الدر غيلة في الحمام سنة خمس وخمسين غيرة من خطبته بنت لؤلؤ صاحب الموصل فنصبوا مكانه ابنه علياً ولقبوه المنصور وثاروا به من شجرة الدر كما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى. |
مسير المغيث بن العادل صاحب الكرك مع البحرية إلى مصر
وإنهزامهم كان البحرية منذ لحقوا بالناصر بعد مقتل أقطاي الجامدار مقيمين عنده ثم ارتاب بهم وطردهم آخر سنة خمس وخمسين فلحقوا بغزة وكاتبوا المغيث فتح الدين عمر بن العادل بالكرك وقد كنا ذكرنا إن بدراً الصوافي أخرجه من محبسه بالكرك بعد مقتل تورانشاه بمصر وولاه الملك وقام بتدبير دولته. وبعث إليه الآن بيبرس البندقداري مقدم البحرية من غزة يدعوه إلى الملك وبلغ الخبر إلى الناصر بدمشق فجهز العساكر إلى غزة فقاتلوهم وانهزموا إلى الكرك فتلقاهم المغيث وقسم فيهم الأموال واستحثوه لملك مصر فسار معهم وبرزت عساكر مصر لقتالهم مع قطز مولى أيبك المعز ومواليه فالتقى الفريقان بالعباسية فانهزم المغيث والبحرية إلى الكرك ورجعت العساكر إلى مصر. وفي خلال ذلك أخرج الناصر. داود بن المعظم من دمشق حاجاً ونادى في الموسم بتوسله إلى المستعصم في وديعته وانصرف مع الحاج إلى العراق فأكرمه المستعصم على براءته من وديعته فكتب وأشهد ولحق بالبرية. وبعث إلى الناصر يوسف يستعطفه فأذن له وسكن دمشق. ثم رجع مع رسول المستعصم الذي جاء معه إلى الناصر بالخلعة والتقليد فأقام بقرقيسيا حتى يستأذن له الرسول فلم يأذن له فأقام عنده بأحياء العرب في التيه فقربوا في تقلبهم من الكرك فقبض عليه المغيث صاحب الكرك وحبسه حتى إذا زحف التتر لبغداد بعث عنه المستعصم ليبعثه مع العساكر لمدافعتهم وقد استولى التتر على بغداد فرجع ومات ببعض قرى دمشق بالطاعون سنة ست وخمسين انتهى والله تعالى أعلم. زحف الناصر صاحب دمشق إلى الكرك وحصارها والقبض على البحرية ولما كان من المغيث والبحرية ما قدمناه ورجعوا منهزمين إلى الكرك بعث الناصر عساكره من دمشق إلى البحرية فالتقوا بغزة وانهزمت عساكر الناصر وظفرت البحرية بهم. واستفحل أمرهم بالكرك فسار الناصر بنفسه إليهم بالعساكر من دمشق سنة سبع وخمسين وسار معه صاحب حماة المنصور بن المظفر محمود فنزلوا على الكرك وحاصروها. وأرسل المغيث إلى الناصر في الصلح فشرط عليه أن يحبس البحرية فأجاب. ونمي الخبر إلى بيبرس أميرهم البندقداري فهرب في جماعة منهم ولحق بالناصر. وقبض المغيث على الباقين وبعث بهم إلى الناصر في القيود ورجع الكرك. ثم بعث إلى الأمراء بمصر وزيره كمال الدين بن العديم يدعوهم إلى الإتفاق إلى مدافعة التتر. وفي أيام مقدم ابن العديم مصر خلع الأمراء على ابن المعز أيبك وقبض عليه أتابك عسكره وموالي أبيه وجلس على التخت وخطب لنفسه وقبض على الأمراء الذين يرتاب منازعتهم كما نذكره في أخبارهم. وأعاد ابن العديم إلى مرسله صاحب دمشق بالإجابة والوعد بالمظاهرة والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. استيلاء التتر على الشام وانقراض ملك بني أيوب وهلاك من هلك منهم ثم زحف التتر وسلطانهم هلاكو إلى بغداد واستولى على كرسي الخلافة وقتلوا المستعصم وطمسوا معالم الملة. وكادت تكون من أشراط الساعة. وقد شرحناها في أخبار الخلفاء ونذكرها في أخبار التتر فبادر الناصر صاحب دمشق بمصانعته وبعث ابنه العزيز محمداً إلى السلطان هلاكو بالهدايا والألطاف فلم يغن ورده بالوعد. ثم بعث هلاكو عساكره إلى ميافارقين وبها الكامل محمد بن المظفر شهاب الدين غازي بن العادل الكبير فحاصروها سنتين ثم ملكوها عنوة سنة ثمان وخمسين وقتلوه. وبعث العساكر إلى إربل فحاصروها ستة أشهر وفتحوها. وسار ملوك بلاد الروم كيكاوس وقليج أرسلان ابنا كنخسرو إلى هلاكو أثر ما ملك بغداد فدخلوا في طاعته ورجعوا إلى بلادهم. وسار هلاكو إلى بلاد أذربيجان ووفد عليه هنالك لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع وخمسين ودخل في طاعته ورده إلى بلده وهلك أثر ذلك. وملك الموصل مكانه ابنه الصالح وسنجار ابنه علاء الدين. ثم أوفد الناصر ابنه على هلاكو بالهدايا والتحف على سبيل المصانعة واعتذر عن لقائه بالتخوف على سواحل الشام من الإفرنج فتلقى ولده بالقبول وعذره وأرجعه إلى بلده بالمهادنة والمواعدة الجميلة. ثم سار هلاكو إلى حران وبعث ابنه في العساكر إلى حلب وبها المعظم تورانشاه ابن صلاح الدين نائباً عن الناصر يوسف فخرج لقتالهم في العساكر. وأكمن له التتر واستجروهم ثم كروا عليهم فأثخنوا فيهم ورحلوا إلى أعزاز فملكوها صلحاً. وبلغ الخبر إلى الناصر وهو بدمشق معسكر من ثورة سنة ثمان وخمسين. وجاء الناصر بن المظفر صاحب حماة فأقام معه ينتظر أمرهم. ثم بلغه أن جماعة من مواليه اعتزموا على الثورة به فكر راجعاً إلى دمشق ولحق أولئك الموالي بغزة. ثم أطلع على خبثهم وأن قصدهم تمليك أخيه الظاهر فاستوحش منهم ولحق الظاهر بهم فنصبوه للأمر واعصوصبوا عليه. وكان معهم بيبرس البندقداري وشعر بتلاشي أحوالهم فكاتب المظفر صاحب مصر واستأمن إليه فأمنه. وسار إلى مصر فتلقي بالكرامة وأنزل بدار الوزارة وأقطعه السلطان قطر قليوب بأعماله. ثم هرب هلاكو إلى الفرات فملك وكان بها إسماعيل أخو الناصر معتقلاً فأطلقه وسرحه إلى عمله بالضبينة وبانياس وولاه عليهما. وقدم صاحب أرزن إلى تورانشاه نائب حلب يدعوه إلى الطاعة فامتنع فسار إليها وملكها عنوة وأمنها. واعتصم تورانشاه والحامية بالقلعة. وبعث أهل حماة بطاعتهم إلى هلاكو وأن يبعث عليهم نائباً من قبله ويسمى برطانتهم الشحنة. فأرسل إليهم قائداً يسمى خسروشاه وينسب في العرب إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه. وبلغ الناصر أخذ حلب فأجفل عن دمشق واستخلف عليها وسار إلى غزة واجتمع عليه مواليه وأخوه. وسار التتر إلى نابلس فملكوها وقتلوا من كان بها من العسكر. وسار الناصر من غزة إلى العريش وقدم رسله إلى قطز تسأله النصر من عدوهم واجتماع الأيدي على المدافعة. ثم تقدموا إلى واستراب الناصر بأهل مصر فسار هو وأخوه الظاهر ومعهما الصالح بن الأشرف موسى بن شيركوه إلى التيه فدخلوا إليه وفارقهم المنصور صاحب حماة والعساكر إلى مصر فتلقاهم السلطان قطز بالصالحية وآنسهم ورجع بهم إلى مصر. واستولى التتر على دمشق وسائر بلاد الشام إلى غزة وولوا على جميعها أمرائهم. ثم افتتحت قلعة حلب وكان بها جماعة من البحرية معتقلين منهم سنقر الأشقر فدفعهم هلاكو إلى السلطان جق من أكابر أمرائه. وولى على حلب عماد الدين القزويني ووفد عليه بحلب الأشرف موسى بن منصور بن إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص وكان الناصر قد أخذها منه كما قدمناه فأعادها عليه هلاكو ورد جميع ولايته بالشام إلى رأيه. وسار إلى قلعة حارم فملكها واستباحها وأمر بتخريب أسوار حلب وقلعتها وكذلك حماة وحمص وحاصروا قلعة دمشق طويلاً ثم تسموها بالأمان. ثم ملكوا بعلبك وهدموا قلعتها وسار معهم إلى الضبينة وبها السعيد بن العزيز بن العادل فملكوها منه على الأمان. وسار معهم ووفد على هلاكو فخر الدين بن زنكي من أهل دمشق فولاه القضاء بها. ثم اعتزم هلاكو على الرجوع إلى العراق فعبروا الفرات وولى على الشام أجمع أميراً اسمه كتبغا من أكابر أمرائه واحتمل عماد الدين القزويني من حلب وولى مكانه آخر. وأما الناصر فلما دخل في التيه هاله أمره وحسن له أصحابه قصد هلاكو فوصل إلى كتبغا نائب الشام يستأذنه. ثم وصل فقبض عليه وسار به إلى حتى سلمها إليه أهلها. وبعث به إلى هلاكو فمر بدمشق ثم بحماة وبها الأشرف صاحب حمص وخسروشاه نائبها فخرجا لتلقيه. ثم مر بحلب ووصل إلى هلاكو فأقبل عليه ووعده برده إلى ملكه. ثم ثار المسلمون بدمشق بالنصارى أهل الذمة وخربوا كنيسة مريم من كنائسهم وكانت من أعظم الكنائس في الجانب الذي فتحه خالد بن الوليد رحمه الله. وكانت لهم أخرى في الجانب الذي فتحه أبو عبيدة بالأمان. ولما ولي طالبهم في هذه الكنيسة ليدخلها في جامع البلد وأعلى لهم في السوم فامتنعوا فهدمها وزادها في الجامع لأنها كالت لصقه. فلما ولي عمر بن عبد العزيز استعاضوه فعوضهم بالكنيسة التي ملكها المسلمون بالعنوة مع خالد بن الوليد رحمه الله وقد تقدم ذكر هذه القصة. فلما ثار المسلمون الآن بالنصارى أهل الذمة خربوا كنيسة مريم هذه ولم يبقوا لها أثراً. ثم إن العساكر الإسلامية أجمعت بمصر وساروا إلى الشام لقتال التتر صحبة لسلطان قطز صاحب ومعه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل فسار إليه كتبغا نائب الشام ومعه الأشرف صاحب حمص والسعيد صاحب الضبينة ابن العزيز بن العادل والتقوا على عين جاولت بالغور فانهزم التتر وقتك أميرهم النائب كتبغا وأسر السعيد صاحب الضبينة فقتله قطز واستولى على الشام أجمع. وأقر المنصور صاحب حماة على بلده ورجع إلى مصر فهلك في طريقه قتله بيبرس البندقداري وجلس على التخت مكانه وتلقب بالظاهر حسبما يذكر ذلك كله في دولة الترك. ثم جاءت عساكر التتر إلى الشام وشغل هلاكو عنهم بالفتنة مع قومه وأسف على قتل كتبغا نائبه وهزيمة عساكره فأحضر الناصر ولامه على ما كان منه من تسهيله عليه أمر الشام وتجنى عليه بأنه غره بذلك فاعتذر له الناصر فلم يقبل فرماه بسهم فأنفذه. ثم أتبعه بأخيه الظاهر وبالصالح بن الأشرف موسى صاحب حمص! وشفعت زوجة هلاكو في العزيز بن الناصر وكان مع ذلك يحبه فاستبقاه. وانقرض ملك بني أيوب من الشام كما انقرض قبلها من مصر واجتمعت مصر والشام في مملكة الترك ولم يبق لبني أيوب بهما ملك إلا للمنصور بن المظفر صاحب حماة فإن قطز أقره عليها والظاهر بيبرس من بعده وبقي في إمارته هو وبنوه مدة من دولة الترك وطاعتهم حتى أذن الله بانقراضهم وولى عليها غيرهم من أمرائهم كما نذكر في أخبار دولتهم والله وارث الأرض ومن عليها والعاقبة للمتقين. |
دولة الترك
الخبر عن دولة الترك القائمين بالدولة العباسية بمصر والشام من بعد بني أيوب ولهذا العهد ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدم لنا ذكر الترك وأنسابهم أول الكتاب عند ذكر أمم العالم ثم أخبار الأمم السلجوقية وإنهم من ولد يافث بن نوح باتفاق من أهل الخليقة. فعند نسابة العرب أنهم من عامور بن سويل بن يافث وعند نسابة الروم أنهم من طيراش بن يافث. هكذا وقع في التورارة. والظاهر أن ما وقع لنسابة العرب غلط وان عامور هو مصحف كومر لأن كافه تنقلب عند التعريب غيناً معجمة فربما سصحفت عينا مهملة أو بقيت بحالها. وأما سويل فغلط بالزيادة وأما ما وقع للروم من نسبتهم إلى طيراش فهو منقول في الإسرائيليات وهو رأي مرجوح عندهم لمخالفته لما في التوراة. وأما شعوبهم وأجناسهم فكثيرة وقد عددنا منهم أول الكتاب التغرغر وهم التتر والخطا وكانوا بأرض طغماح وهي بلاد ملوكهم في الإسلام تركستان وكاشغر. وعددنا منهم أيضاً الخزلخية والغز كان منهم السلجوقية والهياطلة الذين منهم الخلج وبلادهم الصغد قريباً من سمرقند ويسمون بها أيضاً. وعددنا منهم أيضاً الغور والخزر والقفجاق ويقال الخفشاخ ويمك والعلان ويقال اللان وشركس وأركش. وقال صاحب كتاب زجار في الكلام على الجغرافيا أجناس من الترك كلهم وراء النهر إلى البحر المظلم وهي العسية والتغرغرية والخرخيرية والكيماكية والخزلخية والخزر والحاسان وتركش وأركش وخفشاخ والخلخ والغزية وبلغار وخجاكت ويمناك وبرطاس وسنجرت وخرجان وأنكر. وذكر في موضع آخر أنكر من شعوب الترك وأنهم في بلاد البنادقة من أرض الروم. وأما مواطنهم فإنهم ملكوا الجانب الشمالي من المعمور في النصف الشرقي منه قبالة الهند والعراق في ثلاثة أقاليم هي السادس والسابع والخامس كما ملك العرب الجانب الجنوبي من المعمور أيضاً في جزيرة العرب وما إليها من أطراف الشام والعراق وهم رجالة مثلهم وأهل حرب وافتراس ومعاش من التغلب والنهب إلا في الأقل. وقد ذكرنا أنهم عند الفتح لم يذعنوا إلا بعد طول حرب وممارسة أيام سائر دولة بني أمية وصدراً من صولة بني العباس. وامتلأت أيدي العرب يومئذ من سبيهم فاتخذوهم خولاً في المهن والصنائع ونساءهم فرشاً للولادة كما فعلوه في سبي الفرس والروم وسائر الأمم الذين قاتلوهم على الدين وكان شأنهم أن لا يستعينوا برقيقهم في شيء مما يعانونه من الغزو والفتوح ومحاربة الأمم ومن أسلم منهم تركوه لسبيله التي هو عليها من أمر معاشه على طاغية هواه. لأن عصبية العرب كانت مستفحلة يومئذ وشوكتهم قائمة مرهفة ويدهم ويد سلطانهم في الأمر جميعاً ومرماهم إلى العز والمجد واحد. وكانوا كأسنان المشط لتزاحم الأنساب وغضاضة الدين حتى إذا أرهف الملكم حده ونهج إلى الاستبداد طريقه واحتاج السلطان في القيام بأمره إلى الاستظهار على المنازعين فيه من قومه بالعصبية المدافعة دونه والشوكة المعترض شباها في أذياله حتى تجدع أنوفهم عن التطاول إلى رتبته وتغض أعنتهم عن السير في مضماره اتخذ بنو العباس من لدن المهدي والرشيد بطانة اصطنعوهم من موالي الترك والروم والبربر ملأوا منهم المواكب في الأعياد والمشاهد والحروب والصوائف والحراسة على السلطان وزينة في أيام السلم واكثافاً لعصابة الملك. حتى لقد اتخذ المعتصم مدينة سامرا لنزلهم تحرجاً من أضرار الرعية باصطدام مراكبهم وتراكم القتال بجوهم وضيق السكك على المارين بزحامهم. وكان اسم الترك غالباً على جميعهم فكانوا تبعاً لهم ومندرجين فيهم. وكانت حروب المسلمين لذلك العهد في القاضية وخصوصاً مع الترك متصلة والفتوح فيهم متعاقبة وأمواج السبي من كل وجه متداركة. وربما رام الخلفاء عند استكمال بغيتهم و استجماع عصابتهم اصطفاء عملية منهم للمخالصة وقواد العساكر ورؤساء المراكب فكانوا يأخذون في تدريجهم لذلك بمذاهب الترشيح فينتقون من أجود السبي الغلمان كالدنانير والجوار كاللآلئ ويسلمونهم إلى قهارمة القصور وقرمة الدواوين يأخذونهم بحدود الإسلام والشريعة وآداب الملك والسياسة ومراس الثقافة في المران على المناضلة بالسهام والمسالحة بالسيوف والمطاعنة بالرماح والبصر بأمور الحرب والفروسية ومعاناة الخيول والسلاح والوقوف على معاني السياسة. حتى إذا تنازعوا في التشريح وانسلخوا من جلده الخشونة إلى رقة الحاشية وملكة التهذيب اصطنعوا منهم للمخالصة ورقوهم في المراتب واختاروا منهم لقيادة العساكر في الحروب ورئاسة المواكب أيم الزينة ورتق الفتوق الحادثة وسد الثغور القاصية كل على شاكلة غنائه وسابق اصطناعه. فلم يزل هذا دأب الحفاء في اصطناعهم ودعامة سرير الملك بعمدهم وتمهيد الخلافة بمقامتهم حتى سموا في درج الملك وامتلأت جوانجهم من الغزو وطمحت أبصارهم إلى الاستبداد فتغلبوا على الدولة وحجروا الخلفاء وقعدوا بدست الملك ومدرج النهي والأمر وقادوا الدولة بزمامهم وأضافوا اسم السلطان إلى مراتبهم. وكان مبدأ ذلك واقعة للمتوكل وما حصل بعدها من تغلب الموالي واستبدادهم بالدولة والسلطان. ونهج السلف منهم في ذلك السبيل للخلف واقتدى الآخر بالأول فكانت لهم دول في الإسلام متعددة تعقب غالباً دولة أهل العصبية وشوكة النسب كمثل دولة بني سامان وراء النهر وبني سبكتكين بعدهم وبني طولون بمصر وبني طغج. وما كان بعد الدولة السلجوقية من دولتهم مثل بني خوارزم شاه بما وراء النهر وبني طغرلتكين بدمشق وبني أرتق بماردين وبني زنكي بالموصل والشام وغير ذلك من دولتهم التي قصصناها عليك قي تصانيف الكتاب. حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف ولبثت أثواب البلاء والعجز ورميت الدولة بكفرة التتر الذين أزالوا كرسي الخلافة وطمسوا رونق لبلاد وأدالوا بالكفر عن الإيمان بما أخذ أهلها عند الاستغراق في التنعم والتشاغل في اللذات والاسترسال في الترف من تكاسل الهمم والقعود عن المناصرة والانسلاخ من جلدة البأس وشعار الرجولية فكان من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بإحياء رمعه وتلافي شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية وقبائلها العزيزة المتوافرة أمراء حامية وأنصاراً متوافية يجلبون من دار الحرب إلى دار الإسلام في مقادة الرق الذي كمن اللطف في طيه وتعرفوا العز والخير في مغبته وتعرضوا للعناية الربانية بتلافيه. يدخلون في الدين بعزائم إيمانية وأخلاق بدوية لم يدنسها لؤم الطباع ولا خالطتها أقذار اللذات ولا دنستها عوائد الحضارة ولا كسر من سورتها غزارة الترف. ثم يخرج بهم التجار إلى مصر أرسالاً كالقطا نحو الموارد فيستعرضهم أهل الملك منهم ويتنافسون في أثمانهم يما يخرج عن القيمة لا لقصد الاستعباد إنما هو إكثاف للعصبية وتغليظ للشوكة ونزوع إلى العصبية الحامية يصطفون من كل منهم بما يؤنسونه من شيم قومهم وعشائرهم. ثم ينزلونهم في غرف الملك ويأخدونهم بالمخالصة ومعاهدة التربية ومدارسة القرآن وممارسة التعليم حتى يشتدوا في ذلك. ثم يعرضونهم على الرمي والثقافة وركض الخيل في الميادين والمطاعنة بالرماح والمماصعة بالسيوف حتى تشتد منهم السواعد وتستحكم الملكات ويستيقنوا منهم المدافعة عنهم والاستماتة دونهم. فإذا بلغوا إلى هذا الحد ضاعفوا أرزاقهم ووفروا من إقطاعهم وفرضوا عليهم استجادة السلاح وارتباط الخيول والاستكثار من أجناسهم لمثل هذا القصد. وربما عمروا بهم خطط الملك ودرجوهم في مراتب الدولة فيسترشح من يسترشح منهم لاقتعاد كرسي السلطان والقيام بأمور المسلمين عناية من الله تعالى سابقة ولطائف في خلقه سارية. فلا يزال نشؤ منهم يردف نشؤاً وجيل يعقب جيلاً والإسلام يبتهج بما يحصل به من الغناء والدولة ترف أغصانها من نضرة الشباب. وكان صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر والشام وأخوه العادل أبو بكر من بعده ثم بنوهم من بعدهم قد تناغوا في ذلك يما فوق الغاية. واختص الصالح نجم الدين أيوب آخر ملوكهم بالمبالغة في ذلك والإمعان فيه فكان عامة عسكره منهم. فلما انفض عشيره وخذله أنصاره وقعد عنه أولياؤه وجنوده لم يدع سبباً في استجلابهم إلا أتاه من استجادة المترددين إلى ناحيتهم ومراضاة التجار في أثمانهم بأضعاف ثمنهم وكان رقيقهم قد بلغ الغاية من الكثرة لما كان التتر قد دوخوا الجانب الغربي من ناحية الشمال وأوقعوا بسكانه من الترك وهم شعوب القفجاق والروس والعلان والمولات وما جاورهم من قبائل جركس. وكان ملك التتر بالشمال يومئذ دوشي خان بن جنكزخان قد أصابهم بالقتل والسبي فامتلأت أيدي أهل تلك النواحي برقيقهم وصاروا عند التجار من أنفس بضائعهم والله تعالى أعلم. في تاريخه حكاية غريبة عن سبب دخول التتر لبلادهم بعد أن عد شعوبهم فقال ومن قبائلهم - يعني القفجاق - قبيلة طغصبا وستا وبرج أغلا والبولى وقنعرا على وأوغلي ودورت وقلابا أعلى وجرثان وقد كابر كلي وكنن. هذه إحدى عشرة قبيلة وليس فيها ذكر الشعوب العشرة القديمة الذكر التي عددها النسابة كما قدمناه أول الترجمة. وهذه والله أعلم بطون متفرعة من القفجاق فقط وهي التي في ناحية الغرب من بلادهم الشمالية فإن سياق كلامه إنما هو في الترك المجلوبين من تلك الناحية لا من ناحية خوارزم ولا ما وراء النهر. قال بيبرس ولما استولى التتر على بلادهم سنة ست وعشرين والملك يومئذ بكرس جنكز خان. لوالده دوشي خان واتفق إن شخصاً من قبيلة دورت يسمى منقوش بن كتمر خرج متصيداً فلقيه آخر من قبيلة طغصبا اسمه آفاكبك - وبين القبيلتين عداوة مستحكمة - فقتله. وأبطأ خبره عن أهله فبعثوا طليعة لاستكشاف أمره اسمه جلنقر فرجع إليهم وأخبرهم وأنه قتل وسمى لهم قاتله فجمعوا للحرب وتزاحفت القبيلتان فانهزمت قبيلة طغصبا وخرج آفاكبك القاتل وتفرق جمعه فأرسل أخاه أقصر إلى ملكهم دوشي يستعلم ما على ذوي قبيلة دورت القفجاقية. وذكره ما فعل كتمر وقومه بأخيه وأغراه بهم وسهل له الشأن فيهم. وبعث دوشي خان جاسوسه لاستكشاف حالهم واختبار مراسلهم وشكيمتهم فعاد إليه بتسهيل المرام وقال إن رأيت كلاباً مكبين على فريستهم متى طردتهم عنها تمكنت منها فأطمعه ذلك في بلاد القفجاق واستحثه أقصر الذي جاء صريخاً وقال له ما معناه نحن ألف رأس تجر ذنباً واحداً وأنتم رأس واحد تجر ألف ذنب فزاده ذلك إغراء. ونهض بجموع التتر فأوقع بالقفجاق وأثخن فيهم قتلاً وسبياً وأسراً وفرقهم في البقاع وامتلأت أيدي التجار وجلبوهم إلى مصر فعوضه الله بالدخول في الإيمان والاستيلاء على الملك والسلطان. انتهى كلام بيبرس. ومساق القصة يدل على أن قبيلة دورت من القفجاق وأن قبيلة طغصبا من التتر. فيقتضي ذلك أن هذه البطون التي عددت ليست من بطر واحد وكذلك يدل مساقها على أن أكثر هؤلاء الترك الذين بديار مصر من القفجاق والله تعالى أعلم. |
الخبر عن استبداد الترك بمصر وانفرادهم بها عن بني أيوب
ودولة المعز أيبك أول ملوكهم قد تقدم لنا أن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل بن العادل قد استكثر من المماليك الترك ومن في معناهم من التركمان والأرمن والروم وجركس وغيرهم. إلا أن اسم الترك غالب على جميعهم لكثرتهم ومزيتهم وكانوا طوائف متميزين بسمات من ينسبون إليه من نسب أو سلطان فمنهم العزيزية نسبة إلى العزيز عثمان بن صلاح الدين ومنهم الصالحية نسبة إلى هذا الصالح أيوب ومنهم البحرية نسبة إلى القلعة التي بناها الصالح بين شعبتي النيل إزاء المقياس بما كانوا حاميتها. وكان هؤلاء البحر شوكة دولته وعصابة سلطانه وخواص داره وكان من كبرائهم عز الدين أيبك الجاشنكير التركماني ورديفه فارس الدين أقطاي الجامدار وركن الدين بيبرس البندقداري. ولما كان ما قدمناه ووفاة الصالح بالمنصورة في محاصرة الإفرنج بدمياط في سنة سبع وأربعين وكتمانهم موته ورجوعهم في تدبير أمورهم إلى شجرة الدر زوجة الصالح وأم ولد خليل وبعثهم إلى ابنه المعظم تورانشاه وانتظاره وأن الإفرنج سعروا بموت الصالح فدلفوا إلى معسكر المسلمين على حين غفلة فانكشف أوائل العسكر وقتل فخر الدين الأتابك. ثم أفرغ الله الصبر وثبت أقداعهم وأبلى أمراء الترك في ذلك اليوم بلاءً حسناً ووقفوا مع شجرة الدر زوج السلطان تحت الرايات ينوهون بمكانها فكانت لهم الكرة وهزم الله العدو. ثم وصل المعظم تورانشاه من كيفا فبايعوا له وأعطوه الصفقة وانتظم الحال واستطال المسلمون على الإفرنج براً وبحراً فكان ما قدمنا من هزيمتهم والفتك بهم وأسر ملكهم الفرنسيس. ثم رحل المعظم إثر هذا الفتح إلى مصر لشهرين من وصوله ونزل بفارس كور يريد مصر وكانت بطانته قد استطالوا على موالي أبيه تقاسموه بين النكبة والإهمال فاتفق كبراء حرية على قتله وهم أيبك وإقطاي وبيبرس فقتلوه كما مر ونصبوا للملك شجرة الدر أم الخليل وخطل لها على المنابر ونقش اسمها على السكة ووضعت علامتها على المراسم ونصها أم خليل. وقام أيبك التركماني بأتابكية العسكر. ثم فودي الفرنسيس بالنزول عن دمياط وملكها المسلمون ستة ثمان وأربعين. وسرحوه في البحر إلى بلاده بعد أن توثقوا منه باليمين أن لا يتعرض لبلاد المسلمين ما بقي. واستقلت الدولة بمصر للترك وانقرضت منها دولة بني أيوب وبلغ الخبر إلى بني أيوب بقتل المعظم وولاية المرأة وما اكتنف ذلك فامتعضوا له. وكان فتح الدين عمر بن العادل قد حبسه عمه الصالح أيوب بالكرك لنظر بدر الصوابي خادمه الذي ولاه على الكرك والشوبك لما ملكهما كما مر فأطلق بدر الدين من محبسه. وبايع له وقام بأمره ولقبه المغيث واتصل الخبر بمصر وعلموا أن الناس قد نقموا عليهم ولاية المرأة فاتفقوا على ولاية زعيمهم أيبك لتقدمه عند الصالح وأخيه العادل قبله فبايعوا له وخلعوا أم خليل ولقبوه بالمعز فقام بالأمر وانفرد بملك مصر. وولى مولاه سيف الدين قطز نائباً وعمر المراتب والوظائف بأمراء الترك والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. نهوض الناصر صاحب دمشق من بني أيوب إلى مصر وولاية الأشرف موسى مكان أيبك كان الملك الصالح أيوب قبل موته قد استخلف جمال الدين بن يغمور على دمشق مكان ابن مطروح وأمراء الدولة الأيوبية بها متوافرون فلما بلغهم استبداد الترك بصر وولاية أيبك وبيعة المغيث بالكرك أمعنوا النظر في تلافي أمورهم. وكبراء بني أيوب يومئذ بالشام الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب وحمص وما إليها فاستدعوه وبايعوا له بدمشق وأغروه بطلب مصر. واتصل الخبر للترك في مصر فاعتزموا على أن ينصبوا بعض بني أيوب فيكفوا به ألسنة النكير عنهم فبايعوا لموسى الذي كان أبوه يوسف صاحب اليمن وهو يوسف أطسز بن المسعود بن الكامل وهو يومئذ ابن ست سنين ولقبوه الأشرف. وتزحزح له أيبك عن كرسي السلطان إلى رتبة الأتابكية واستمر الناصر على غلوائه في النهوض إلى مصر. واستدعى ملوك الشام من بني أيوب فأقبل إليه موسى الأشرف الذي كان صاحب حمص وإسماعيل الصالح بن العادل صاحب بعلبك والمعظم تورانشاه بن صلاح الدين وأخوه نصر الدين وابنا داود الناصر صاحب الكرك وهما الأمجد حسن والظاهر شادي. وارتحل من دمشق. سنة ثمان وأربعين وفي مقدمته أتابكه لؤلؤ الأرمني وبلغ الخبر إلى مصر فاضطرب الأمر ونادوا بشعار الخلافة والدعاء للمستعصم وجددوا البيعة على ذلك للأشرف وجهزوا العساكر وخرجوا للقائهم. وسار في المقدمة أقطاي الجامدار وجمهور البحرية وتبعهم أيبك ساقة في العساكر. والتقى الجمعان بالعباسية فانكشف عسكر مصر أولا وتبعهم أهل الشام وثبت المعز في القلب ودارت عليه رحى الحرب. وهرب إليه جماعة من عسكر الناصر فيهم أمراء العزيزية مثل جمال الدين لا يدعون وشمس الدين أتسز اليرلي وشمس الدين أتسز الحسامي. غضبوا من رياسة لؤلؤ عليهم فهربوا وبقي لؤلؤ في المعركة صامداً. ثم حمل المعز على الناصر وأصحابه فانهزموا وانفض عسكره وجيء بلؤلؤ الأتابكي أسيراً فقتله صبراً وبأمراء بني أيوب فحبسهم ورجع أيبك من الوقعة فوجد عساكر للناصر مجتمعين بالعباسية يظنون الغلب لهم. فعدل إلى بلبيس ثم إلى القلعة. ورجعت عساكر الشام من أتباع المنهزمين لما شعروا بهزيمة صاحبهم فلحقوا بالناصر بدمشق ودخل أيبك إلى القاهرة وحبس بني أيوب بالقلعة. ثم قتل منهم إسماعيل الصالح ووزيره ابن يغمور الذي كان معتقلاً من قبل. ولما وصل الناصر. إلى دمشق أزاح علل عساكره وعجل الكرة إلى مصر ونزل غزة سنة خمسين وبرزت عساكر مصر للقائه فتواقفوا ملياً. ثم وصل نجم الدين البادراني رسول المستعصم فأصلح بين الطائفتين على أن يكون القدس والساحل إلى نابلس للمعز والتخم بين المملكتين نهر الأردن. وانعقد الأمر على ذلك ورجع كل إلى بلده وأخرج المعز عن أمراء بني أيوب الذين حبسهم يوم الواقعة والله سبحانه وتعالى أعلم. |
لما شغل الصالح بالإفرنج وما بعدهم
عظم فساد العرب بالصعيد واجتمعوا على الشريف خضر الدين أبي ثعلب بن نجم الدين عمر بن فخر الدين إسماعيل بن حصن الدين ثعلب الجعفري من ولد جعفر بن أبي طالب الذين أجازوا من الحجاز لما غلبهم بنو عمهم بنواحي المدينة في الحروب التي كانت بينهم. وأطاعه أعراب الصعيد كافة ولم يقدر على كفهم عن الراية. واتصل ذلك وهلك الصالح واستبد الترك بمصر وشغلوا عنهم بما كان من مطالبة بني أيوب لهم. فلما فرغ المعز أيبك من أمر الناصر وعقد الصلح معه بعث لحربهم فارس الدين أقطاي وعز الدين أيبك الأقرم أمير البحرية فساروا إليهم ولقوهم بنواحي أخميم فهزموهم وفر الشريف ناجياً بنفسه. ثم قبض عليه بعد ذلك وقتل ورجعت العساكر إلى القاهرة والله تعالى أعلم. مقتل أقطاي الجامادر وفرار البحرية إلى الناصر ورجوع أيبك إلى كرسيه كان أقطاي الجامدار من أمراء البحرية وعظمائهم ويلقب فارس الدين وكان رديفاً للمعز أيبك في سلطانه وأتابكه. وكان يغض من عنانه عن الطموح إلى الكرسي وكان يخفض من جناحه للبحرية يتألفهم بذلك فيميلون له عن أيبك فاعتز في الدولة واستفحل أمره وأخذ من المعز الإسكندرية إقطاعاً وتصرف في بيت المال. وبغث فخر الدين محمد بن بهاء الدين بن حياء إلى المظفر صاحب حماة في خطبة ابنته فتزوجها وأطلق يده في العطاء والإقطاع فغم الناس وكثر تابعه. وغص به المعز أيبك وأجمع قتله فاستدعاه بعض الأيام للقصر للشورى سنة اثنتين وخمسين. وقد أكمن له ثلاثة من مواليه في ممره بقاعة الأعمدة وهم قطز وبهادل وسنجر فوثبوا عليه عند مروره بهم وبادروه بالسيوف وقتلوه لحينه. واتصلت الهيعة بالبحرية فركبوا وطافوا بالقلعة فرمى إليهم برأسه فانفضوا. واستراب أمراؤهم فاجتمع ركن الدين بيبرس البندقداري وسيف الدين قلاون الصالحي وسيف الدين سنقر الأشقر وبدر الدين بنسر الشمسي وسيف الدين بلبان الرشيدي وسيف الدين تنكر وأخوه سيف الدين موافق ولحقوا بالشام فيمن انضم إليهم من البحرية واختفى من تخلف منهم واستصفيت أموالهم وذخائرهم. وارتجع ما أخذه أقطاي من بيت المال ورد ثغر الإسكندرية إلى أعمال السلطان وانفرد المعز أيبك بتدبير الدولة وخلع موسى الأشرف وقطع خطبته وخطب لنفسه. وتزوج شجرة الدر زوجة الصالح التي كانوا ملكوها من قبل. واستخلص علاء الدين أيدغدي العزيزي وجماعة العزيزية وأقطعه دمياط. ولما وصل البحرية وأمراؤهم إلى غزة كاتبوا الناصر يستأذنونه في القدوم وساروا إليه فاحتفل في مبرتهم وأعروه بملك مصر فأجابهم وجهز العساكر. وكتب المعز فيهم إلى الناصر وطلبوا منه القدس والبلاد الساحلية فأقطعها لهم. ثم سار الناصر إلى الغور وبرز إلى القاهرة في العزيزية ومن إليهم ونزل العباسية وتواقف الفريقان مدة. ثم اصطلحوا ورجع كل إلى بلده سنة أربع وخمسين وبعث أيبك رسوله إلى المستعصم بطاعته وطلب الألوية والتقليد. ولما رجع إلى مصر قبض على علاء الدين أيدغدي لاسترابته به وأعاد دمياط إلى أعمال السلطان واتصلت أحواله إلى أن هلك في الدولة والله تعالى أعلم. فرار الأفرم إلى الناصر بدمشق كان عز الدين أيبك الأفرم الصالحي والياً على قوص وأخميم وأعمالها فقوي أمره وهم بالاستبداد وأراد المعز عزله فامتنع عليه فبعث بعض الخوارزمية مداداً له. ودس إليهم الفتك به. فلما وصلوا إليه استخدمهم وخلطهم بنفسه فاغتالوه وقبضوا عليه وتراموا إليه للحين فبطشوا بهم وقتلوهم وخلعوه. ثم عزله بعد ذلك عز الدين الصيمري عن خدمته واستدعاه إلى مصر فأقام عنده ثم بعثه مع أقطاي إلى مكانه من الدولة وأوعز المعز أيبك إلى الأفرم بالمقام لتمهيد بلاد الصعيد وأن يكون الصيمري في خدمته وبلغه وهو هناك أن المعز عدا على أقطاي وقتله وأن أصحابه البحرية فروا إلى الشام فاستوحش وأظهر العصيان واستدعى الشريف أبا ثعلب وتظاهر معه على الفساد وجمعوا الأعراب من كل ناحية ثم بعث المعز سنة ثلاث وخمسين شمس الدين البرلي في العساكر فهزمهم. واعتقل الشريف فلم يزل في محبسه إلى أن قتله الظاهر. ونجا الأفرم في فل من مواليه إلى الواحات. ثم اعتزم على قصد الشام فرجع إلى الصعيد مع جماعة من أعراب جذام مروا به على السويس والطور ورجع عنه مواليه إلى مصر ولما انتهى إلى غزة تولع به الناصر فأذنه بالقدوم عليه بدمشق وركب يوم وصوله فتلقاه بالكسوة وأعطاه خمسة آلاف دينار. ولم يزل عنده بدمشق إلى أن هرب البحرية من الكوك إلى مصر كما يذكر فخشي أن يأخذه الناصر وكاتب الأتابك قطز بمصر وسار إليه فقبله أولاً. ثم قبض عليه بعد ذلك واعتقله بالإسكندرية. وكان الصيمري قد بقي بعد الأفرم في ولاية الصعيد واستفحل فيه فسولت له نفسه الاستبداد ولم يتم له فهرب إلى الناصر سنة أربع وخمسين انتهى والله تعالى أعلم. مقتل المعز أيبك وولاية ابنه علي المنصور كان المعز أيبك عندما استفحل أمره ومهد سلطانه ودفع الأعداء عن حوزته طمحت نفسه إلى مظاهرة المنصور صاحب حماة ولؤلؤ صاحب الموصل ليصل يده بهما وأرسل إليهما في الخطبة. وأثار ذلك غيرة من زوجته شجرة الدر وأغرت به جماعة من الخصيان منهم محسن الخزري وخصى العزيزي ويقال سنجر الخادمان فبيتوه في الحمام بقصره وقتلوه سنة خمس وخمسين لثلاث سنين من ولايته. وسمع مواليه الناعية من جوف الليل فجاؤوا مع سيف الدين قطز وسنجر الغتمي وبهادر فدخلوا القصر وقبضوا على الجوجري فقتلوه وفر سنجر العزيزي إلى الشام وهموا بقتل شجرة الدر. وقام الموالي الصالحية دونها فاعتقلوها ونصبوا للملك علي بن المعز أيبك ولقبوه المنصور وكان أتابكه علم الدين سنجر الحلي واشتمل موالي المعز على ابنه المنصور فكبسرا علم الدين سنجر واعتقلوه وولوا مكانه أقطاي المعزي الصالحي مولى العزيز على الدولة في نقضها وإبرمها سنة ست وخمسين. وأغرته أم المنصور بالصاحب شرف الدين الغازي لأن المعز كان يستودعه سراياه عنده فاستصفاه وقتله. وفي هذه السنة توفي زهير بن علي المهلي وكان يكتب عن الصالح ويلازمه في سجنه بالكرك ثم صحبه إلى مصر والله تعالى أعلم. نهوض البحرية بالمغيث صاحب الكرك وانهزامه قد ذكرنا فرار البحرية إلى الناصر ونهوضهم به إلى مصر وخروج أيبك إلى العباسة وما كان بينهما من الصلح. فلما انعقد الصلح ورجع الناصر إلى دمشق ورجعوا عنه إلى قلعة ولم يرضوا الصلح فاستراب بهم الناصر وصرفهم عنه فلحقوا بغزة ونابلس. وبعثوا إلى المغيث صاحب الكرك بطاعتهم فأرسل الناصر عساكره للإيقاع بهم فهزموهم فسار إليهم بنفسه فهزموه إلى البلقاء ولحقوا بالكرك وأطمعوا المغيث في مصر واستمدوه لها فأمدهم بعسكره وقصدوا مصر وكبراؤهم بيبرس البندقداري وقلاوون الصالحي وبليان الرشيدي. وبرز الأمير سيف الدين قطز بعساكر مصر إلى الصالحية فهزمهم وقتل بلغار الأشرف وأسر قلاوون الصالحي وبليان الرشيدي. وأطلق قلاوون الصالحي بعد أيام في كفالة أستاذ الدار فاختفى ثم لحق بأصحابه واستحثوا المغيث إلى مصر فنهض في عساكره سنة ست وخمسين ونزل الصالحية وقدم إليه عز الدين الرومي والكافوري والهواشر ممن كان يكاتبه من أمراء مصر. وبرز سيف الدين قطز في عساكر مصر والتقى الجمعان فانهزم المغيث ولحق في الفل بالكرك. وفرت البحرية إلى الغور فوجدوا هنالك أحياء من الأكراد فروا من جبال شهرزور أمام التتر فاجتمعوا بهم والتحموا بالصهر معهم وخشي الناصر غائلة اجتماعهم فجهز العساكر من دمشق إليهم والتقوا بالغور فانهزمت عسكره فتجهز ثانياً بنفسه وسار إليهم فخاموا عن لقائه وافترقوا فلحق الأكراد بمصر واعترضهم التركمان في طريقهم بالعريش فأوقعوا بهم وخلصوا إلى مصر. ولحق البحرية بالكرك مع عسكر المغيث ووعدهم بالنصر وأرسل إليه من دمشق في إسلامهم إليه. وتوعده أنفسهم واضطربوا ففر بيبرس وقلاوون إلى الصحراء وأقاموا بها. ثم لحقوا بمصر وأكرمهم الأتابك قطر وأقطعهم وأقاموا عنده. ولما فر بيبرس وقلاوون من المغيث قبض على بقية أمراء البحرية سنقر الأشقر وشكر وبرانق وبعث بهم إلى الناصر فحبسهم بقلعة حلب إلى أن استولى التتر عليها. خلع المنصور علي بن أيبك واستبداد قطز بالملك ثم كان ما ذكرناه ونذكره من زحف هلاكو إلى بغداد واستيلائه عليها وما بعدها إلى الفرات وفتحه ميافارقين وإربل ومسير لؤلؤ صاحب الموصل إليه ودخوله في طاعته. ووفادة ابن الناصر صاحب دمشق إليه رسولاً عن أبيه بالهدايا والتحف على سبيل المصانعة والعذر عن الوصول بنفسه خوفاً على سواحل الشام من الإفرنج فارتاب الأمراء بشأنهم واستصغروا سلطانهم المنصور علي بن المعز أيبك عن مدافعة هذا العدو لعدم ممارسته للحروب وقلة دربته بالوقاع. واتفقوا على البيعة لسيف الدين قطز المعزي وكان معروفاً بالصرامة والإقدام فبايعوا له وأجلسوه على الكرسي سنة ست وخمسين ولقبوه المظفر. وخلعوا المنصور لسنتين من ولايته وحبسوه وأخويه بدمياط. ثم غربهما الظاهر بعد ذلك إلى القسطنطينية. وكان المتولون لذلك الصالحية والعزيزية ومن يرجع إلى قطز من المعزية. وكان بهادر وسنجر الغتمي غائبين فلما قدما استراب بهما قطز وخشي من نكيرهما ومزاحمتهما فقبض عليهما وحبسهما. وأخذ في تمهيد الدولة فاستوسقت له. وكان قطز من أولاد الملوك الخوارزمية يقال إنه ابن أخت خوارزم شاه واسمه محمود بن مودود أسره التتر عند الحادثة عليهم وبيع واشتراه ابن الزعيم. حكاه النووي عن جماعة من المؤرخين والله تعالى ينصر من |
استيلاء التتر على الشام وانقراض أمر بني أيوب
ثم مسير قطز بالعساكر وارتجاعه الشام من أيدي التتر وهزيمتهم وحصول الشام في ملك الترك ثم عبر هلاكو الفرات سنة ثمان وخمسين وفر الناصر وأخوه الظاهر إلى التيه ولحق بمصر المنصور صاحب حماة وجماعة البحرية الذين كانوا بأحياء العرب في القفر. وملك هلاكو بلاد الشام واحدة واحدة وهدم أسوارها وولي عليها وأطلق المعتقلين من البحرية بحلب مثل سنقر الأشقر وشكر وبرانق واستخدمهم. ثم قفل إلى العراق لاختلاف بين أخوته واستخلف على الشام كتبغا من أكبر أمرائه في اثني عشر ألفاً من العساكر وتقدم إليه بمطالعة الأشرف إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص بعد أن ولاه على مدينة دمشق وسائر مدن الشام. واحتمل معه الناصر وابنه العزيز بعد أن استشاره في تجهيز العساكر بالشام لمدافعة أهل مصر عنها فهون عليه الأمر وقللهم في عينه فجهز كتبغا ومن معه. ولما فصل سار كتبغا إلى قلعة دمشق وهي ممتنعة بعد فحاصرها وافتتحها عنوة وقتل نائبها بدر الدين بربدك وخيم بمرج دمشق. وجاءه من ملوك الإفرنج بالساحل. ووفد عليه الظاهر أخو الناصر صاحب صرخد فرده إلى عمله وأوفد عليه المغيث صاحب الكرك ابنه العزيز بطاعته فقبله ورده إلى أبيه واجتمعت عساكر مصر واحتشد المظفر العرب والتركمان وبعث إليهم بالعطايا وأزاح العلل وبعث كتبغا إلى المظفر قطز بأن يقيم طاعة هلاكو بمصر فضرب أعناق الرسل ونهض إلى الشام مصمماً للقاء العدو ومعه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل. وزحف كتبغا وعساكر التتر ومعه الأشرف صاحب حمص والسعيد صاحب الضبينة ابن العزيز بن العادل. وبعث إليهما قطز يستميلهما فوعده الأشرف بالانهزام يوم اللقاء وأسماء العزيز الرد على رسوله وأوقع به والتقى الفريقان بالغور على عين جالوت وتحيز الأشرف عندما تناشبوا فانهزم التتر وقتل أميرهم كتبغا في المعركة. وجيء بالسعيد صاحب الضبينة أسيراً فوبخه ثم قتله وجيء بالعزيز بن المغيث وأسر يومئذ الذي ملك مصر بعد ذلك. ولقي العادل بيبرس المنهزمين في عسكر من الترك فأثخن فيهم وانتهى إلى حمص فلقي مدداً من التتر جاء لكتبغا فاستأصلهم ورجع إليه الأشرف صاحب حمص من عسكر التتر فأقره على بلده وبعث المنصور على بلده حماة وأقره عليها ورد إليه المعرة وانتزع منه سلمية فأقطعها لأمير العرب مهنا بن مانع بن جديلة. وسار إلى دمشق فهرب من كان بها من التتر وقتل من وجد بها من بقاياهم. ورتب العساكر في البلاد وولى على دمشق علم الدين سنجر الحلي الصالحي وهو الذي كان أتابك علي بن أيبك ونجم الدين أبا الهيجاء ابن خشترين وولى على حلب السعيد ويقال المظفر علاء الدين بن لؤلؤ صاحب الموصل. وكان وصل إلى الناصر بمصر هارباً أمام التتر وسار معه فلما دخل الناصر منها لحق هو بمصر وأحسن إليه قطز. ثم ولاه الناصر على حلب الآن ليتوصل إلى أخبار التتر من أخيه الصالح بالموصل. وولى على نابلس وغزة والسواح شمس الدين دانشير البرلي من أمراء العزيز محمد وهو أبو الناصر وكان هرب منه عند نهوضه إلى مصر في جماعة من العزيزية ولحق بأتابك. ثم ارتاب بهم وقبض على بعضهم ورجع البرلي في الباقين إلى الناصر فاعتقله بقلعة حلب حتى سار إلى التتر. فلما دخل إليها سار البرلي مع العساكر إلى مصر فأكرمه المظفر وولاه الآن على السواحل وغزة وأقام المظفر بدمشق عشرين ليلة وأقبل إلى مصر. ولما بلغ إلى هلاكو ما وقع بقومه في الشام و استيلاء الترك عليه إتهم صاحب دمشق بأنه خدعه في إشارته وقتله كما مر وانقرض ملك بني أيوب من الشام أجمع وصار لملوك مصر من الترك. والله يرث الأرض من عليها وهو خير الوارثين. مقتل المظفر وولاية الظاهر بيبرس كان البحرية من حين مقتل أميرهم أقطاي الجامدار يتحينون لأخذ ثأره وكان قطز هو الذي تولى قتله فكان مستريباً بهم. ولما سار إلى التتر ذهل كل منهم عن شأنه. وجاء البحرية من القفر هاربين من المغيث صاحب الكرك فوثقوا لأنفسهم من السلطان قطز أحوج ما كان إلى أمثالهم من المدافعة عن الإسلام وأهله فأمنهم واشتمل عليهم وشهدوا معه واقعة التتر على عين جالوت وأبلغوا فيها والمقدمون فيهم يومئذ بيبرس البندقداري وأنز الأصبهاني وبلبان الرشيدي وبكتون الجوكنداري وبندوغز التركي. فلما انهزم التتر من الشام واستولوا عليه وحسر ذلك المد وأفرج عن الخائفين الروع عاد هؤلاء البحرية إلى ديدنهم من الترصد لثأر أقطاي. فلما قفل قطز من دمشق سنة ثمان وخمسين أجمعوا أن يبرزوا به في طريقهم. فلما قارب مصر ذهب في بعض أيامه يتصيد وسارت الرواحل على الطريق فاتبعوه وتقدم إليه أنز شفيعاً في بعض أصحابه. فشفعه فأهوى يقبل يده فأمسكها. وعلاه بيبرس بالسيف فخر صريعاً لليدين والفم. ورشقه الآخرون بالسهام فقتلوه وتبادروا إلى المخيم. وقام دون فارس الدين أقطاي على ابن المعز أيبك وسأل من تولى قتله منكم فقالوا بيبرس فبايع له واتبعه أهل المعسكر ولقبوه الظاهر. وبعثوا أيدمر الحلي بالخبر إلى القلعة بمصر فأخذ له البيعة على من هناك. ووصل الظاهر منتصف ذي القعدة من السنة فجلس على كرسيه واستخلف الناس على طبقاتهم وكتب إلى الأقطار بذلك. ورتب الوظائف وولى الأمراء. وولى تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الوزارة مع القضاء واقتدى بآثار أستاذه الصالح نجم الدين. ومبدأ أمر هذا الظاهر بيبرس أنه كان من موالي علاء الدين أيدكين البندقداري مولى الصالح فسخط عليه واعتقله وانتزع ماله ومواليه وكان منهم بيبرس فصيره مع الجامدارية وما زال يترقى في المراتب إلى أن تقدم في الحروب ورياسة المراكب ثم كان خبره بعد الصالح ما قصصناه انتهى والله سبحاه وتعالى أعلم. انتقاض سنجر الحلي بدمشق ثم أقوش البرلي بحلب ولما بلغ علم الدين سنجر بدمشق مقتل قطز وولاية الظاهر بيبرس انتقض ودعا لنفسه وجلس على التخت بدمشق وتلقب المجاهد وخطب لنفسه وضرب السكة باسمه وتمسك المنصور صاحب حماة بدعوة الظاهر. وجاءت عساكر التتر إلى الشام فلما شارفوا البيرة جرد إليهم السعيد بن لؤلؤ من حلب عسكراً فهزمهم التتر وقتلوهم. واتهم الأمراء العزيزية والخاصرية ابن لؤلؤ في ذلك فاعتقلوه وقدموا عليهم حسام الدين الجو كنداري وأقره الظاهر. وزحف التتر إلى حلب فملكوها وهرب حسام الدين إلى حماة ثم زحف إليها التتر فلحق صاحبها المنصور وأخوه علي الأفضل إلى حمص وبها الأشرف بن شيركوه واجتمعت إليه العزيزية والناصرية وقصدوا التتر سنة تسع وخمسين فهزموهم بعد هزيمتهم ونازلوا حماة. وسار المنصور والأشرف صاحب حمص إلى سنجر الحلي بدمشق ولم يدخلا في طاعته لضعفه. وسار التتر من حماة إلى أفامية فحاصروها يوماً وعبروا الفرات إلى بلادهم. وبعث بيبرس الظاهر صاحب مصر أستاذه علاء الدين البندقداري في العساكر لقتال سنجر الحلي بدمشق وقاتلهم فهزموه ولجأ إلى القلعة. ثم خرج منها ليلاً إلى بعلبك واتبعوه فقبضوا عليه وبعثوه إلى الطاهر فاعتقله واستقر أيدكين بدمشق ورجع صاحب حمص وحماة إلى بلديهما. وبعث الظاهر إلى أيدكين بالقبض على بهاء الدين بقري وشمس الدين أقوش اليرلي وغيرهما من العزيزية فقبض على بقري وفر العزيزية والناصرية مع أقوش البرلي وطالبوا صاحب حمص وصاحب حماة في الانتقاض فلم يجيباهم إلى ذلك. فقال لفخر الدين اطلب لي الظاهر المقدم معك في خدمتك. وبينما هو يسير لذلك خالفه البرلي إلى حلب وثار بها وجمع العرب والتركمان ونصب للحرب فجاءت العساكر من مصر فقاتلوه وغلبوه عليها. ولحق بالبيرة فملكها واستقر بها حتى إذا جهز الظاهر عساكره سنة ستين إلى حلب مع سنقر الرومي سار معه صاحب حماة وصاحب حمص للإغارة على إنطاكية. ولقيهم البرلي وأعطاهم طاعته وأقره الظاهر على البيرة. ثم ارتاب به بعد ذلك واعتقله ثم علاء الدين أيدكن البندقداري مولى السلطان بدمشق وولى عليها بيبرس الوزير ورجع والله ينصر من يشاء من عباده انتهى. البيعة للخليفة بمصر ثم مقتله بالحديثة وغانة على يد التتر والبيعة للآخر الذي استقرت الخلافة في عقبه بمصر لما قتل الخليفة عبد الله المستعصم ببغداد بقي رسم الخلافة الإسلامية عطلاً بأقطار الأرض والظاهر متشوف إلى تجديده وعمارة دسته. ووصل إلى مصر سنة تسع وخمسين عم المستعصم وهو أبو العباس أحمد بن الظاهر كان بقصورهم ببغداد وخلص يوم البيعة وأقام بتردد في الأحياء إلى أن لحق مصر فسر الظاهر بقدومه وركب للقائه ودعا الناس على طبقاتهم إلى أبواب السلطان بالقلعة وأفرد بالمجلس أدباً معه. وحضر القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز فحكم باتصال نسبه بالشجرة الكريمة بشهادة العرب الواصلين به والخدم الناجعين من قصورهم. ثم بايع له الظاهر والناس على طبقاتهم وكتب إلى النواحي بأخذ البيعة والخطبة على المنابر ونقش اسمه في السكة ولقب المستنصر وأشهد هو حينئذ الملأ بتفويض الأمر للظاهر والخروج له عن العهد وكتب بذلك سجله. وأنشأه فخر الدين بن لقمان كاتب الترسيل. ثم ركب السلطان والناس كافة إلى خيمة بنيت خارج المدينة فقرئ التقليد على الناس وخلع على أهل المراتب والخواص ونادى السلطان بمظاهرته وإعادته إلى دار خلافته. ثم خطب هذا الخليفة يوم الجمعة وخشع في منبره فأبكى الناس وصلى وانصرفوا إلى منازلهم ووصل على أثره الصالح إسماعيل بن لؤلؤ صاحب الموصل وأخوه إسحاق صاحب الجزيرة وقد كان أبوهما لؤلؤ استخدم لهلاكو كما مر وأقره على الموصل وما إليها وتوفي سنة سبع وخمسين. وقد ولي ابنه إسماعيل على الموصل وابنه إسماعيل المجاهد على جزيرة ابن عمر وابنه السعيد على سنجار. وأقرهم هلاكو على أعمالهم ولحق السعيد بالناصر صاحب دمشق وسار معه إلى مصر وصار مع قطز وولاه حلب كما مر ثم اعتقل. ثم ارتاب هلاكو بالأخوين فأجفلا ولحقا بمصر وبالغ الظاهر في إكرامهم وسألوه في إطلاق أخيهم المعتقل فأطلقه وكتب لهم بالولاية على أعمالهم وأعطاهم الألوية وشرع في تجهيز الخليفة إلى كرسيه ببغداد فاستخدم له العساكر وأقام الفساطيط والخيام ورتب له الوظائف وأزاح علل الجميع. يقال أنفق في تلك النوبة نحواً من ألف ألف دينار. ثم سار من مصر في شوال من السنة إلى دمشق ليبعث من هناك الخليفة وابني لؤلؤ إلى ممالكهم. ووصل إلى دمشق ونزل بالقلعة وبعث بلبان الرشيدي وشمس الدين سنقر إلى الفرات. وصمم الخليفة لقصده وفارقهم. وسار الصالح إسماعيل وأخواه إلى الموصل وبلغ الخبر إلى هلاكو فجرد العساكر إلى الخليفة وكبسوه بغانة والحديثة فصابرهم قليلاً. ثم استشهد وبعث العساكر إلى الموصل فحاصروها تسعة أشهر حتى جهدهم الحصار واستسلموا فملكها التتر وقتلوا الصالح إسماعيل والظاهر خلال مقيم بدمشق. وقد وفد عليه بنو أيوب من نواحي الشام وأعطوه طاعتهم المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص فأكرم وصلهما وولاهما على أعمالهما وأذن لهما في اتخاذ الآلة وبسط حكمهما على بلاد الإسماعيلية. وإلى المنصور تل باشر الذي اعتاضه عن حمص لما أخذها منه الناصر صاحب حلب. ووفد على الظاهر أيضاً بدمشق الزاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص وصاحب بعلبك والمنصور والسعيد ابنا الصالح إسماعيل بن العادل والأمجد بن الناصر داود الأشرف بن مسعود والظاهر بن المعظم فأكرم وفادتهم وقابل بالإحسان والقبول طاعتهم وفرض لهم الأرزاق وقرر الجرايات. ثم قفل إلى مصر وأفرج عن العزيز بن المغيث الذي كان اعتقله قطز وأطلقه يوم الموقعة بالكرك. وولى على أحياء العرب بالشام عيسى بن مهنا بن مانع بن جريلة من رجالاتهم ووفر لهم الإقطاع على حفظ السابلة إلى حدود العراق ورجع إلى مصر فقدم عليه رجل من عقب المسترشد من خلفاء بني العباس ببغداد اسمه أحمد فأثبت نسبه ابن بنت. الأعز كالأول. وجمع الظاهر الناس على مراتبهم وبايع له وفوض إليه هو الأمور وخرج إليه عن التدبير. وكانت هذه البيعة سنة ستين ونسبه عند العباسيين في أدراج نسبهم الثابت أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر بن أحمد ابن الإمام المسترشد. وعند نسابة مصر أحمد بن حسن بن أبي بكر ابن الأمير أبي علي القتبي ابن الأمير حسن ابن الإمام الراشد ابن الإمام المسترشد. هكذا قال صاحب حماة في تاريخه وهو الذي استقرت الخلافة في عقبه بمصر لهذا العهد انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم. |
فرار التركمان من الشام إلى بلاد الروم
كان التركمان عند دخول التتر إلى بلاد الشام كلهم قد أجفلوا إلى الساحل واجتمعت أحياؤهم بالجوكان قريباً من صفد. وكان الظاهر لما نهض إلى الشام اعترضه رسل الإفرنج من يافا وبيروت وصفد يسألونه في الصلح على ما كان لعهد صلاح الدين فأجابهم وكتب به إلى الأنبردور ملكهم ببلاد إفرنسة وراء البحر فكانوا في ذمة من الظاهر وعهد. ووقعت بين الإفرنج بصفد وبين أحياء التركمان واقعة يقال أغار فيها أهل صفد عليهم فأوقع بهم التركمان وأسروا عدة من رؤسائهم وفادوهم بالمال. ثم خشوا عاقبة ذلك من الظاهر فارتحلوا إلى بلاد الروم وأقفر الشام منهم. والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. انتقاض الأشرفية والعزيزية واستيلاء البرلي على البيرة كان هؤلاء العزيزية والأشرفية من أعظم جموع هؤلاء الموالي وكان مقدم الأشرفية بهاء الدين بقري ومقدم العزيزية شمس الدين أقوش وكان المظفر قطز قد أقطعه نابلس وغزة وسواحل الشام. ولما ولي الظاهر انتقض عليه سنجر الحلي بدمشق وجهز أستاذه علاء الدين البندقداري في العساكر لقتاله. وكان الأشرفية والعزيزية بحلب وقد انتقضوا على نائبها السعيد بن لؤلؤ كما مر فتقدم البندقداري باستدعائهم معه إلى دمشق. ثم أضاف الظاهر بيسان للبرلي زيادة على ما بيده فسار وملك دمشق. ثم أوعز الظاهر إلى البندقداري بالقبض على العزيزية والأشرفية. فلم يتمكن إلا من بقري مقدم الأشرفية وفارقه الباقون وانتقضوا. واستولى شرف الدين البرلي على البيرة وأقام بها وشن الغارات على التتر شرقي الفرات فنال منهم. ثم جهز الظاهر عساكره إليه مع جمال الدين بامو الحموي فهزمهم وأطلقهم وأقام الظاهر على استمالته بالترغيب والترهيب حتى جنح إلى الطاعة واستأذن في القدوم وسار بكباس الفخري للقائه فلقيه بدمشق سنة إحدى وستين ثم وصل فأوسعه السلطان يداً وعطاء والواصلين معه على مراتبهم واختصه بمراكبته ومشورته وسأله النزول عن البيرة فنزل عنها فقبلها الظاهر وأعاضه عنها. والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء الظاهر على الكرك من يد المغيث وعلى حمص بعد وفاة صاحبها لما قفل السلطان من الشام سنة ستين كما قدمناه جرد عسكراً إلى الشوبك مع بدر الدين أيدمري فملكها وولى عليها بدر الدين بلبان الخصي ورجع إلى مصر. وكان عند المغيث بالكرك جماعه من الأكراد الذين أجفلوا من شهرزور أمام التتر إلى الشام وكان قد اتخذهم جنداً لعسكرته فسرحهم للإغارة على الشوبك ونواحيه فاعتزم السلطان على الحركة إلى الكرك مخافة المغيث. وبعث بالطاعة واستأمن من الأكراد فقبلهم الظاهر وأمن الأكراد فوصلوا إليه. ثم سار سنة إحدى وستين إلى الكرك واستخلف على مصر سنجر الحلي واستخلف على غزة فلقي هنالك أم المغيث تستعطفه وتستأمن منه لحضور ابنها فأجابها وسار إلى بيسان فسار المغيث للقائه. فلما وصل قبض عليه وبعثه من حينه إلى القاهرة مع أقسنقر الفارقاني وقتل بعد ذلك بمصر. وولى على الكرك عز الدين أيدمر وأرسل نور الدين بيسري الشمسي ليؤمن أهل الكرك ويرتب الأمور بها. وأقام بالطور في انتظاره فأبلغ بيسري القصد من ذلك. ورجع إليه فارتحل إلى القدس وأمر بعمارة مسجده ورجع إلى مصر. وبلغه وفاة صاحب حمص موسى الأشرف بن إبراهيم المنصور شيركوه المجاهد بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه وكانت وراثة له من آبائه أقطعه نور الدين العادل لجده أسد الدين ولم تزل بأيديهم وأخذها الناصر يوسف صاحب حلب سنة ست وأربعين وعوضه عنها تل باشر وأعادها عليه هلاكو وأقرة الظاهر. ثم توفي سنة إحدى وستين وصارت للظاهر وانقرض منها ملك بني أيوب والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم رجعت عساكر التتر إلى البيرة مع ردمانة من أمراء المغل سنة ثلاث وستين فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق فجهز السلطان العساكر مع لوغان من أمراء الترك فساروا في ربيع من السنة وسار السلطان في أثرهم وانتهى إلى غزة. ولما وصلت العساكر إلى البيرة وأشرفوا عليها والعدو يحاصرها أجفلها عساكر التتر وساروا منهزمين وخلفوا سوادهم وأثقالهم فنهبتها العساكر. وارتحل السلطان من غزة وقصد قيسارية وهي للإفرنج فنزل عليها عاشر جمادى من السنة فنصب المجانيق ودعا أهلها للحرب واقتحمها عليهم فهربوا إلى القلعة فحاصرها خمساً وملكها عنوة وفر الإفرنج منها. ثم رحل في خض من العساكر إلى عملها فشن عليها الغارة وسرح عسكراً إلى حيفا فملكها عنوة. وخربوها وقلعتها في يوم أو بعض يوم. ثم ارتحل إلى أرسوف فنازلها مستهل جمادى الأخيرة فحاصرها وفتحها عنوة وأسر الإفرنج الذين بها وبعث بهم إلى الكرك. وقسم أسوارها على الأمراء فرموها وعمد إلى ما ملك في هذه الغزاة من القرى والضياع والأرضين فقسمها على الأمراء الذين كانوا معه وكانوا اثنين وخمسين وكتب لهم بذلك وقفل إلى مصر. وبلغه الخبر بوفاة هلاكو ملك التتر في ربيع من السنة وولاية ابنه أبغا مكانه وما وقع بينه وبين بركه صاحب الشمال من الفتنة. ولأول دخوله لمصر قبض على شمس الدين سنقر الرومي وحبسه وكانت الفتنة قبل غزاته بين عيسى بن مهنا ولحق زامل بعد ذلك غزو طرابلس وفتح صفد كانت طرابلس للإفرنج وبها سمند بن البرنس الأشتر وله معها إنطاكية. وبلغ السلطان أنه قد تجهز للقتال فلقيه النائب بها علم الدين سنجر الباشقر وانهزم المسلمون واستشهد كثير منهم فتجهز السلطان للغزو وسار من مصر في شعبان سنة أربع وستين وترك ابنه السعيد علياً بالقلعة في كفالة عز الدين أيدمر الحلي. وقد كان عهد لابنه السعيد بالملك سنة اثنتين وستين. ولما انتهى إلى غزة بعث العساكر صحبة سيف الدين قلاوون ايدغدي العزيزي فنازل القليعات وحلباً وعرقاً من حصون طرابلس فاستأمنوا إليه. وزحفت العساكر وسار السلطان إلى صفد فحاصرها عشراً ثم اقتحمها عليهم في عشرين من رمضان السنة وجمع الإفرنج الذين بها فاستلحمهم أجمعين وأنزل بها الحامية وفرض أرزاقهم في ديوان العطاء ورجع إلى دمشق والله تعالى أعلم. |
مسير العساكر لغزو الأرمن هؤلاء الأرمن
من ولد أخي إبراهيم عليه السلام من بني قوميل بن ناحور وناحور بن تارح وعبر عنه في التنزيل بآزر. وناحور أخو إبراهيم عليه السلام. ويقال أن الكرج أخوة الأرمن وأرمينية منسوبة إليهم. وآخر مواطنهم الدروب المجاورة لحلب وقاعدتها سيس ويلقب ملكهم النكفور. وكان ملكهم صاحب هذه الدروب لعهد الملك الكامل وصلاح الدين من بعده اسمه قليج بن اليون. واستنجد به العادل وأقطع له وكان يعسكر معه. وصالحه صلاح الدين على بلاده. ثم كان ملكهم لعهد هلاكو والتتر هيثوم بن قسطنطين ولعله من أعقاب قليج أو قرابته. ولما ملك هلاكو العراق والشام دخل هيثوم في طاعته فأقره على سلطانه ثم أمره بالإغارة على بلاد الشام وأمده صاحب بلاد الروم من التتر. وسار سنة اثنتين وستين ومعه بنو كلاب أعراب حلب. وانتهوا إلى سيس وجهز الظاهر عساكر حماة وحمص فساروا إليهم وهزموهم ورجعوا إلى بلادهم. فلما رجع السلطان من غزاة طرابلس سنة أربع وستين سرح العساكر لغزو سيس وبلاد الأرمن وعليهم سيف الدين قلاوون والمنصور صاحب حماة فساروا لذلك. وكان هيثوم ملكهم قد ترهب ونصب للملك ابنه كيقومن فجمع كيقومن الأرمن وسار للقائهم ومعه أخوه وعمه. وأوقع بهم المسلمون قتلاً وأسراً وقتل أخوه وعمه في جماعة من الأرمن. واكتسحت عساكر المسلمين بلادهم واقتحموا مدينة سيس وخربوها ورجعوا وقد امتلأت أيديهم بالغنائم والسبي وتلقاهم الظاهر من دمشق عند قارا. فلما رآهم ازداد سروراً بما حصل لهم وشكا إليه هنالك الرعية ما لحقهم من عدوان الأحياء الرحالة وأنهم ينهبون موجودهم ويبيعون ما يتخطفونه منهم ثم سار إلى مصر وأطلق كيقومن ملك الأرمن وصالحه على بلده. ولم يزل مقيماً إلى أن بعث أبوه في فدائه وبذل فيه الأموال والقلاع فأبى الظاهر من ذلك وشرط عليه خلاص الأمراء الذين أخذهم هلاكو من سجن حلب وهم سنقر الأشقر وأصحابه. فبعث فيهم نكفور إلى هلاكو فبعث بهم إليه وبعث الظاهر بابنه منتصف شوال وتسلم القلاع التي بذلت في فدائه وكانت من أعظم القلاع وأحصنها منها مرزبان ورعبان. وقدم سنقر الأشقر على الظاهر بدمشق وأصبح معه في المواكب ولم يكن أحد علم بأمره. وأعظم إليه السلطان النعمة ورفع الرتبة ورعى له السابقة والصحبة. وتوفي هيثوم سنة ستين بعدها والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. مسير الظاهر لغزو حصون الإفرنج بالشام وفتح يافا والشقيف ثم إنطاكية كان الظاهر عندما رجع من غزاة طرابلس إلى مصر أمر بتجديد الجامع الأزهر وإقامة الخطبة به وكان معطلاً منها منذ مائة سنة وهو أول مسجد أسسه الشيعة بالقاهرة حين اختطوها ثم خرج إلى دمشق لخبر بلغه عن التتر ولم يثبت فسار من هنالك إلى صفد وكان أمر عند مسيره بعمارتها وبلغه إغارة أهل الشقيف على الثغور فقصدها وشن الغارة على عكا واكتسح بسائطها حتى سأل الإفرنج منه الصلح على ما يرضيه فشرط المقاسمة في صيدا أو هدم الشقيف وإطلاق تجار من المسلمين كانوا أسروهم ودية بعض القتلى الذين أصابوا دمه. وعقد الصلح لعشر سنين ولم يوفوا بما شرط عليهم فنهض لغزوهم ونزل فلسطين في جمادى سنة ست وستين وسرح العساكر لحصار الشقيف. ثم بلغه مهلك صاحب يافا من الإفرنج وملك ابنه مكانه. وجاءت رسله إليه في طلب الموادعة فحبسهم وصبح البلد فاقتحمها ولجأ أهلها إلى القلعة فاستنزلهم بالأمان وهدمها. وكان أول من اختط مدينة يافا هذه صنكل من ملوك الإفرنج عندما ملكوا سواحل الشام سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة ثم مدنها وأتم عمارتها ريد إفرنس المأسور على دمياط عندما خلص من محبسه بدار ابن لقمان. ثم رجع إلى حصن الشقيف فحاصره وافتتحه بالأمان وبث العساكر في نواحي طرابلس فاكتسحوها وخربوا عمرانها وكنائسها. وبادر صاحب طرطوس بطاعة السلطان وبعث إلى العساكر بالميرة وأطلق الأسرى الذين عنده ثلاثمائة أو يزيدون. ثم ارتحل السلطان إلى حمص وحماة يريد إنطاكية وقدم سيف الدين قلاوون في العساكر فنازل إنطاكية في شعبان فسار المنصور صاحب حماة وجماعة البحرية الذين كانوا بأحياء العرب في القفر. وكان صاحب إنطاكية سمند بن تيمند وكانت قاعدة ملك الروم قبل الإسلام اختطها أنطيخس من ملوك اليونانيين وإليه تنسب ثم صارت للروم وملكها المسلمون عند الفتح. ثم ملكها الإفرنج عندما ساروا إلى ساحل الشام أعوام التسعين والأربعمائة. ثم استطردها صلاح الدين من البرنس أرناط الذي قتله في واقعة حطين كما مر. ثم ارتجعها الإفرنج بعد ذلك على يد البرنس الأشتر وأظنه صنكل. ثم صارت لابنه تيمند ثم لابنه سمند. وكان عندما حاصرها الظاهر بطرابلس وكان بها كنداصطبل عم يغمور ملك الأرمن أفلت من الواقعة عليه بالدرابند واستقر بإنطاكية عند سمند فخرج في جموعه القتال الظاهر فانهزم أصحابه. وأسر كنداصطبل على أن يحمل أهل إنطاكية على الطاعة فلم يوافقوه. ثم جهدهم الحصار واقتحمها المسلمون عنوة وأثخنوا فيهم ونجا خلهم إلى القلعة فاستنزلوا على الأمان. وكتب الظاهر إلى ملكهم سمند وهو بطرابلس وأطلق كنداصطبل وأقاربه إلى ملكهم هيثوم بسيس. ثم جمع الغنائم وقسمها وخرب قلعة إنطاكية وأضرمها ناراً. واستأمن صاحب بغراس فبعث إليه سنقر الفارقي أستاذ داره فملكها وأرسل صاحب عكا إلى الظاهر في الصلح وهو ابن أخت صاحب قبرس فعقد له السلطان الصلح لعشر سنين. ثم عاد إلى مصر فدخلها ثالث أيام التشريق من السنة والله تعالى أعلم. ثم نهض السلطان من مصر سنة سبع وستين لغزو الإفرنج بسواحل الشام وخلف علي مصر عز الدين أيدمر الحلي مع ابنه السعيد ولي عهده وانتهى إلى أرسوف فبلغه أن رسلاً جاؤوا من عند أبغا بن هلاكو ومروا بنقفور ملك الروم فبعث بهم إلى فبعث أميراً من حلب لإحضارهم. وقرأ كتاب أبغا بسعي نقفور في الصلح ويحتال فيما أذاعه من رسالته فأعاد رسله بجوابهم وأذن للأمراء في الإنطلاق إلى مصر ورجع إلى دمشق. ثم سار منها في خف من العسكر إلى القلاع وبلغه وفاة أيدمر الحلي بمصر فخيم بخربة اللصوص وأغذ السير إلى مصر متنكراً منتصف شعبان في خف من التركمان. وقد طوى خبره عن معسكره وأوهمهم القعود في خيمته عليلاً ووصل إلى القلعة ليلة الثلاثاء رابعة سفره فتنكر له الحراس وطولع مقدم الطواشية فطلب منهم إمارة على صدقهم فأعطوها. ثم دخل فعرفوه وباكر الميدان يوم الخميس فسر به الناس. ثم قضى حاجة نفسه وخرج ليلة الاثنين عائداً إلى الشام كما جاء فوصل إلى مخيمه ليلة الجمعة تاسع عشر شعبان وفرح الأمراء بقدومه. ثم فرق البعوث في الجهات وأغاروا على صور وملكوا إحدى الضياع وساحوا في بسيط كركو فاكتسحوها وامتلأت أيديهم بالغنائم ورجعوا والله تعالى أعلم. |
استيلاء الظاهر على صهيون
كان صلاح الدين بن أيوب قد أقطعها يوم فتحها وهي سنة أربع وثمانين وخمسمائة لناصر الدين منكبرس فلم تزل بيده إلى أن هلك وولي فيها بعده ابنه مظفر الدين عثمان وبعده ابنه سيف الدين بن عثمان. واستبد الترك بمصر وبعث سيف الدين أخاه عماد الدين سنة ستين بالهدايا إلى الملك الظاهر بيبرس فقبلها وأحسن إليه. ثم مات سيف الدين سنة تسع وستين وكان أوصى أولاده بالنزول للظاهر عن صهيون فوفد ابناه سابق الدين وفخر الدين على السلطان بمصر فأكرمهما وأقطعهما وولى سابق الدين منهما أميراً وولى على صهيون من قبله. ولم يزل كذلك إلى أن غلب عليها سنقر الأشقر عندما انتقض بدمشق أيام المنصور والله تعالى أعلم. نهوض الظاهر إلى الحج ثم بلغ الظاهر أن أبا نمي بن أبي سعد بن قتادة غلب عمه إدريس بن قتادة على مكة واستبد بها وخطب للظاهر فكتب له بالإمارة على مكة. واعتزم على النهوض إلى الحج وتجهز لذلك سنة سبع وستين وأزاح علل أصحابه. وشيع العساكر مع أقسنقر الفارقاني أستاذ داره إلى دمشق. وسار إلى الكرك مورياً بالصيد وانتهى إلى الشوبك ورحل منه لإحدى عشرة ليلة من ذي القعدة ومر بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم فأحرم من ميقاتها وقدم مكة لخمس من ذي الحجة وغسل الكعبة بيده وحمل لها الماء على كتفه وأباح للمسلمين دخولها وأقام على بابها يأخذ بأيديهم. ثم قضى حجه ومناسكه وولى نائباً على مكة شمس الدين مروان وأحسن إلى الأمير أبي نمي وإلى صاحب ينبع وخليص وسائر شرفاء الحجاز. وكتب إلى صاحب اليمن إني بمكة وقد وصلتها في سبع عشرة خطوة. ثم فصل من مكة ثالث عشر ذي الحجة فوصل المدينة على سبعة أيام ووصل إلى الكرك منسلخ السنة. ثم وصل دمشق غرة ثمان وستين وسار إلى زيارة القدس وقدم العساكر مع الأمير أقسنقر إلى مصر وعاد من الزيارة فأدركهم بتل العجول ووصل لقلعة ثالث صفر من السنة والله تعالى أعلم. إغارة الإفرنج والتتر على حلب ونهوض السلطان إليهم كان صمغان من أمراء التتر مقيماً ببلاد الروم وأميراً عليها فوقعت المراسلة بينه وبين الإفرنج في الإغارة على بلاد الشام. وجاء صمغان في عسكره لموعدهم فأغار على أحياء العرب بنواحي حلب. وبلغ الخبر إلى الظاهر سنة ثمان وستين وهو يتصيد بنواحي الإسكندرية فنهض من وقته إلى غزة ثم إلى دمشق ورجع التتر على أعقابهم. ثم سار إلى عكا فاكتسح نواحيها وأثخن فيها وفعل كذلك بحصن الأكراد ورجع إلى دمشق آخر رجب ثم إلى مصر ومر بعسقلان فخربها وطمس آثارها. وجاءه الخبر بمصر بأن الفرنسيس لويس بن لويس وملك انكلترة وملك اسكوسنا وملك نودل وملك برشلونة وهو ربدراكون وجماعة من ملوك الإفرنج جاؤوا في الأساطيل إلى صقلية وشرعوا في الإستكثار من الشواني وآلة الحرب. ولم يعرف وجه مذهبهم فاهتم الظاهر بحفظ الثغور والسواحل واستكثر من الشواني والمراكب. ثم جاء الخبر الصحيح بأنهم قاصدون تونس فكان من خبرهم ما نذكره في دولة السلطان بها من بني أبي حفص والله تعالى أعلم. فتح حصن الأكراد وعكا وحصون صور ثم سار السلطان سنة تسع وستين لغزو بلاد الإفرنج وسرح ابنه السعيد في العساكر إلى المرقب لنظر الأمير قلاوون وبعلبك الخزندار. وسار هو إلى طرابلس فاكتسحوا سائر تلك النواحي وتوافوا لحصن الأكراد عاشر شعبان من السنة فحاصره السلطان عشراً. ثم اقتحمت أرباضه وانحجز الإفرنج في قلعته واستأمنوا وخرجوا إلى بلادهم. وملك الظاهر الحصون وكتب إلى صاحب الإسبتار بالفتح وهو بطرطوس وأجاب بطلب الصلح فعقد له على طرطوس والمرقب. وارتحل السلطان عن حصن الأكراد بعد أن شحنه بالأقوات والحامية ونازل حصن عكا واشتد في حصاره. واستأمن أهله إليه وملكه. ثم ارتحل بعد الفطر إلى طرابلس واشتد في قتالها وسأل صاحبها البرنس الصلح فعقد له على ذلك لعشر سنين ورجع إلى دمشق. ثم خرج آخر شوال إلى العليقة وملك قلعتها بالأمان على أن يتركوا الأموال والسلاح واستولى عليه وهدمه وسار إلى اللجون. وبعث إليه صاحب صور في الصلح على أن ينزل له عن خمس من قلاعه فعقد له الصلح لعشر سنين وملكها. ثم كتب إلى نائبه بمصر أن يجهز عشرة من الشواني إلى قبرس فجهزها ووصلت ليلاً إلى قبرس والله أعلم. استيلاء الظاهر على حصون الإسماعيلية بالشام كانت الإسماعيلية في حصون من الشام قد ملكوها وهي مصياف والعليقة والكهف والمينقة والقدموس. وكان كبيرهم لعهد الظاهر نجم الدين الشعراني وكان قد جعل له الظاهر ولايتها ثم تأخر عن لقائه في بعض الأوقات فعزله وولى عليها خادم الدين بن الرضا على أن ينزل له عن حصن مصياف. وأرسل معه العساكر فتسلموه منه. ثم قدم عليه سنة ثمان وستين وهو على حصن الأكراد وكان نجم الدين الشعراني قد أسن وهرم فاستعتب وأعتبه الظاهر وعطف عليه وقسم الولاية بينه وبين ابن الرضا وفرض عليهما مائة وعشرين ألف درهم يحملانها في كل سنة. ولما رجع سنة تسع وستين وفتح حصن الأكراد مر بحصن العليقة من حصونهم فملكه من يد ابن الرضا منتصف شوال من السنة. وأنزل به حامية. ثم سار لقتال التتر على البيرة كما يذكر ورجع إلى مصر فوجد الإسماعيلية قد نزلوا على الحصون التي بقيت بأيديهم وسلموها لنواب الظاهر فملكوها. وانتظمت قلاع الإسماعيلية في ملكة الظاهر وانقرضت منها دعوتهم حصار التتر البيرة وهزيمتهم عليها ثم بعث أبغا بن هلاكو العساكر إلى البيرة سنة إحدى وسبعين مع درباري من مقدمي أمرائه فحاصرها ونصب عليها المجانيق وكان السلطان بدمشق فجمع العساكر من مصر والشام وزحف إلى الفرات وقد جهز العساكر على قاصيته فتقدم للأمير قلاوون وخالط التتر عليها في مخيمهم فجالوا معه. ثم انهزموا وقتل مقدمهم وخاض السلطان بعساكره بحر الفرات إليهم فأجفلوا وتركوا خيامهم بما فيها. وخرج أهل البيرة فنهبوا سوادهم وأحرقوا آلات الحصار ووقف السلطان بساحتها قليلاً وخلع على النائب بها. . . ولحق درباري بسلطانه أبغا مفلولا فسخطه ولم يعتبه والله تعالى ولي التوفيق. غزوة سيس وتخريبها ثم نهض الظاهر من مصر لغزو سيس في شعبان سنة ثلاث وسبعين وانتهى إلى دمشق في رمضان وسار منها وعلى مقدمته الأمير قلاوون وبدر الدين بيليك الخازندار فوصلوا إلى المصيصة وافتتحوها عنوة. وجاء السلطان على أثرهم وسار بجميع العساكر إلى سيس بعد أن كنف الحامية بالبيرة خوفاً عليها من التتر. وبعث حسام الدين العنتابي ومهنا بن عيسى أمير العرب بالشام للإغارة على بلاد التتر من ناحيتها. وسار إلى سيس فخربها وبث السرايا في نواحيها فانتهوا إلى بانياس وأدنة واكتسحوا سائر الجهات ووصل إلى دربند الروم وعاد إلى المصيصة في التعبية فأحرقها. ثم انتهى إلى إنطاكية فأقام عليها حتى قسم الغنائم. ثم رحل إلى القصر وكان للإفرنج خالصاً لتبركهم به إذ أمر ببنائه رئيسهم برومة الذي يسمونه البابا فافتتحه. ولقيه هنالك حسام الدين العنتابي ومهنا بن عيسى راجعين من إغارتهم وراء الفرات. ثم بلغه مهلك البرنس سمند بن تيمند صاحب طرابلس فبعث الظاهر بليان الدوادار ليقرر الصلح مع بنيه فقرره على عشرين ألف دينار وعشرين أسيراً كل سنة وحضر لذلك صاحب قبرس وكان جاء معزياً لبني البرنس ورجع الداودار إلى الظاهر فقفل إلى دمشق منتصف ذي الحجة والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. إيقاع الظاهر بالتتر في بلاد الروم ومقتل البرواناة بمداخلته في ذلك كان علاء الدين البرواناة متغلباً على غياث الدين كنخسرو صاحب بلاد الروم من بني قليج أرسلان وقد غلب التتر على جميع ممالك بلاد الروم وأبقوا على كنخسرو اسم الملك فتي كفالة البرواناة. وأقاموا أميراً من أمرائهم ومعه عسكر التتر حامية بالبلاد ويسمونه بالشحنة وكان أول أمير من التتر ببلاد الروم بيكو وهو الذي افتتحها وبعده صمغان وبعده توقوو وتداون شريكين في أمرهما لعهد الملك الطاهر. وكان البرواناة يتأفف من التتر لاستطالتهم عليه وسوء ملكهم. ولما استفحل أمر الطاهر بمصر والشام أفل البرواناة الطهور على التتر والكرة لبني قليج أرسلان بممالأة الطاهر فداخله في ذلك وكاتبه. وزحف أبغا ملك التتر إلى البيرة سنة أربع وسبعين وخرج الطاهر بالعساكر من دمشق وكاتبه البرواناة يستدعيه. وأقام الطاهر على حمص وأرسل إليه البرواناة يستحثه للقاء التتر. وعزم أبغا على البرواناة في الوصول فاعتذر ثم رحل متثاقلاً. وكتب إليه الأمراء بعده بأن الظاهر قد نهض إلى بلاد الروم بوصيته إليه بذلك فبعث إلى أبغا واستمده فأمده بعساكر المغل وأمره بالرجوع لمدافعة الظاهر واستحثوه للقدوم فسقط في أيديهم وحيل بينهم وبين مرامهم ورجع إلى مصر في رجب من السنة وأقام بها حولاً. ثم لقي توقوو وتدوان أمير التتر ببلاد الروم وسار إلى الثغور بالشام وبلغ السلطان خبرهما فسار من مصر في رمضان سنة خمس وسبعين وقصد بلاد الروم وانتهى إلى النهر الأزرق فبعث شمس الدين سنقر الأشقر فلقي مقدمة التتر فهزمهم. ورجع إلى السلطان وساروا جميعاً فلقوا التتر على البلنشين ومعهم علاء الدين البرواناة في عساكره فهزمهم. وقتل الأمير توقوو وتدوان وفر البرواناة وسلطانه كنخسرو لما كان منفرداً عنهم وأشر كثير من المغل منهم سلار بن طغرل ومنهم قفجاق وجاورصى. وأسر علاء الدين بن معين الدين البرواناة وقتل كثير منهم. ثم رحل السلطان إلى قيسارية ملكها وأقام عليها ينتظر البرواناة لموعد كان بينهما وأبطأ عليه وقفل راجعاً ورجع خبر الهزيمة إلى أبغا ملك التتر وأطلع من بعض عيونه على ما كان بين البرواناة والظاهر من المداخلة فتنكر للبروانة وجاء لوقته حتى وقف على موضع المعركة وارتاب لكثرة القتلى من المغل. وأن عسكر الروم لم يصب منهم أحد فرجع على بلادهم بالقتل التخريب والاكتساح وامتنع كثير من القلاع ثم أمنهم ورجع. وسار معه البرواناه وهم بقتله أولاً ثم رجع لتخليته لحفظ البلاد فأعول نساء القتلى من المغل عند بابه فرحم بكاءهن وبعث أميراً من المغل فقتله في بعض الطريق والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم. |
وفاة الظاهر وولاية ابنه السعيد
ولما رجع السلطان من واقعته بالتتر على البلستين وقيسارية طرقه المرض في محرم سنة ست وسبعين وهلك من آخره وكان ببليك الخزندار مستولياً على دولته فكتم موته ودفنه ورجع بالعساكر إلى مصر. فلما وصل القلعة جمع الناس وبايع لبركة ابن الملك الظاهر ولقبه السعيد وهلك ببليك أثر ذلك فقام بتدبير الدولة أستاذ داره شمس الدين الفارقاني وكان نائب مصر أيام مغيب الظاهر بالشام واستقامت أموره. ثم قبض على شمس الدين سنقر الأشقر وبدر الدين بيسري من أمراء الظاهر بسعاية بطانته الذين معهم عليه لأول ولايته وكانوا من أوغاد الموالي وكان يرجع إليهم لمساعدتهم له على هواه وصارت شبيبته. ولما قبض على هذين الأميرين نكر ذلك عليه خاله محمد بن بركة خان فاعتقله معهما فاستوحشت أمه لذلك فأطلق الجميع فارتاب الأمراء وأجمعوا على معاتبته فاستعتب واستحلفوه. ثم أغراه بطانته بشمس الدين الفارقاني مدبر دولته عليه واعتقله وهلك لأيام من اعتقاله وولى مكانه شمس الدين سنقر الألفي ثم سعى أولئك البطانة به فعزله وولى مكانه سيف الدولة كونك الساقي صهر الأمير سيف الدين قلاوون على أخت زوجته بنت كرمون كان أبوها من أمراء التتر قد خرج إلى الظاهر واستقر عنده وزوج بنته من الأمير قلاوون وبنته الأخرى من كوزبك. ثم حضر عند السعيد لاشين الربعي من حاشيته وغلب على هراة واستمال أهل الدولة بقضاء حاجاتهم واستمر معروفه لهم واستمر الحال على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. خلع السعيد وولاية أخيه شلامس ولما استقر السعيد بملكه في مصر أجمع المسير إلى الشام للنظر في مصالحه فسار لذلك سنة سبع وسبعين فاستقر بدمشق وبعث العساكر إلى الجهات. وسار قلاوون الصالحي وبدر الدين بيسري إلى سيس زين له ذلك لاشين الربعي والبطانة الذين معه وأغروه بالقبض عليهم عند مرجعهم. ثم حدث بين هؤلاء البطانة وبين النائب سيف الدين كونك وحشة وآسفوه بما يلقون فيه عند السلطان فغضب لذلك. وسارت العساكر فأغاروا على سيس واكتسحوا نواحيها ورجعوا فلقيهم النائب كونك وأسر إليهم ما أضمر لهم السلطان فخيموا بالمرج وقعدوا عن لقاء السلطان وبعثوا إليه بالعدل في بطانته وأن ينصف نائبه منهم فأعرض عنهم ودس لموالي أبيه أن يعاودوهم إليه فأطلعوهم على كتابه فزادهم ضغناً. وصرحوا بالانتقاض فبعث إليهم سنقر الأشقر وسنقر التركيتي أستاذ داره بالإستعطاف فردوهما فبعث أمه بنت بركة خان فلم يقبلوها وارتحلوا إلى القاهرة فوصلوها في محرم سنة ثمان وسبعين وبالقلعة عز الدين أيبك الأفرم الصالحي أمير جندار وعلاء الدين أقطوان الساقي وسيف الدين بليان أستاذ. داره فضبطوا أبواب القاهرة ومنعوهم من الدخول. وترددت المراسلة بينهم وخرج أيبك الأفرم واقطوان ولاشين التركماني للحديث فتقبضوا عليهم ودخلوا إلى بيوتهم ثم باكروا القلعة بالحصار ومنعوا عنها الماء. وكان السعيد بعد منصرفةم من دمشق سار في بقية العساكر واستنفر الأعراب وبث العطاء وانتهى إلى غزة فتفرقت عنه الأعراب واتبعهم الناس. ثم انتهى إلى بلبيس ورأى قلة العساكر فرد عن الشام مع عز الدين أيدمر الظاهري إلى دمشق والنائب بها يومئذ أقوش فقبض عليه وبعث به إلى الأمراء بمصر. ولما رحل السعيد من بلبيس إلى القلعة اعتزل عنه سنقر الأشقر. وسار الأمراء في العساكر لاعتراضه دون القلعة وألقى الله عليه حجاباً من الغيوم المتراكمة فلم يهتدوا إلى طريقه وخلص إلى القلعة وأطلق علم الدين سنجر الحنفي من محبسه ليستعين به. ثم اختلف عليه بطانته وفارقه بعضهم فرجع إلى مصانعة الأمراء بأن يترك لهم الشام أجمع فأبوا إلا حبسه فسألهم أن يعطوه الكرك فأجابوه وحلفهم على الأمان وحلف لهم أن لا ينتقض عليهم ولا يداخل أحداً من العساكر ولا يستميله فبعثوه من حينه إلى الكرك. وكتبوا إلى النائب بها علاء الدين أيدكز الفخري أن يمكنه منها ففعل واستمر السعيد بالكرك وقام بدولته أيدكز الفخري واجتمع الأمراء بمصر وعرضوا الملك على الأمير قلاوون وكان أحق به فلم يقبل وأشار إلى شلامش بن الظاهر وهو ابن ثمان سنين فنصبوه للملك في ربيع سنة ثمان وسبعين ولقبوه بدر الدين. وولى الأمير قلاوون أتابك الجيوش وبعث مكان جمال الدين أقوش نائب دمشق بتسلمها منه. وسار أقوش إلى حلب نائباً وولى قلاوون في الوزارة برهان الحصري السنحاوي. وجمع المماليك الصالحية ووفر إقطاعاتهم وعمر بهم مراتب الدولة وأبعد الظاهريه وأودعهم السجون ومنع الفساد. ولم يقطع عنهم رزقاً إلى أن بلغ العقاب فيهم أجله فأطلقهم تباعاً واستقام أمره والله تعالى أعلم. خلع شلامش وولاية المنصور قلاوون أصل هذا السلطان قلاوون من القفجاق ثم من قبيلة منهم يعرفون برج أعلى وقد مر ذكرهم. وكان مولى لعلاء الدين أقسنقر الكابلي موالي الصالح نجم الدين أيوب. فلما مات علاء الدين صار من موالي الصالح وكان من نفرتهم واستقامتهم ما قدمناه. ثم قدم إلى مصر في دولة المظفر قطز مع الظاهر بيبرس. ولما ملك الظاهر قربه واختصه وأصهر إليه ثم بايع لابنه السعيد من بعده. ولما استوحش الأمراء من السعيد وخلعوه رغبوا من الأمير قلاوون في الولاية عليهم كما قدمناه ونصب أخاه شلامش بن الظاهر فوافقه الأمراء على ذلك طواعية له. واتصلت رغبتهم في ولايته مدة شهرين حتى أجابهم إلى ذلك فبايعوه في جمادى سنة ثمان وسبعين فقام بالأمر ورفع كثيراً من المكوس والظلامات. وقسم الوظائف بين الأمراء وولى جماعة من ممالكيه إمرة الألوف وزادهم في الإقطاعات. وأفرج لوقته عن عز الدين أيبك الأفرم الصالحي وولاه نائباً بمصر. ثم استبقاه فأعفاه وولى مملوكه حسام الدين طرنطاي مكانه ومملوكه علم الدين سنجر الشجاعي رئاسة الدواوين. وأقر الصاحب برهان الدين السنجاري في الوزارة ثم عزله بفخر الدين إبراهيم بن لقمان. وبعث عز الدين أيدمر الظاهري الذي كان اعتقله جمال الدين أقوش حين رجع بعساكر الشام عن السعيد بن الظاهر من بلبيس فجيء به مقيداً واعتقله والله تعالى ولي التوفيق. انتقاض السعيد بن الظاهر بالكرك ووفاته وولاية أخيه خسرو مكانه ولما ملك السلطان قلاوون شرع السعيد بالكرك وكاتب الأمراء بمصر والشام في الإنتقاض وخاطبه السلطان بالعتاب على نقض العهد فلم يستعتب. وبعث عساكره مع حسام الدين لاشين الجامدار إلى الشوبك فاستولى عليها فبعث السلطان نور الدين ببليك الأيدمري في العساكر فارتدها في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين. وقارن ذلك وفاة السعيا بالكرك واجتمع الأمراء الذين بها ومقدمهم نائبه أيدكين الفخري. وقال أيدكين أن نائبه كان أيدغري الحراني فنصبوا أخاه خسرو ولقبوه المسعود نجم الدين واستولى الموالي على رأيه وأفاضوا المال من غير تقدير ولا حساب حتى أنفقوا ما كان بالكرك من الذخيرة التي ادخرها الملك الظاهر وبعض أمراء الشام وبعثوا العساكر فاستولوا على الصليب وحاصروا صرخد فامتنعت وكاتبوا سنة الأشقر المتظاهر على الخلاف فبعث السلطان أيبك الأفرم في العساكر لحصار الكرك فحاصرها وضيق عليها. ثم سأل المسعود في الصلح على ما كان الناصر داود بن المعظم فأجابه السلطان قلاوون وعقد له ذلك. ثم انتقض ثانية ونزع عنه نائبه علاء الدين أيدغري الحراني ونزع عنه إلى السلطان فصدق ما نقل عنه من ذلك. ثم بعث السلطان سنة خمس وثمانين نائبه حسام الدين طرنطاي في العساكر لحصار الكرك فحاصروها واستنزل المسعود وأخاه شلامش منها على الأمان وملكها. وجاء بهما إلى السلطان قلاوون فأكرمهما وخلطهما بولده إلى أن توفي ففر بهما الأشرف إلى القسطنطينية. |
انتقاض سنقر الأشقر بدمشق هزيمته
ثم امتناعه بصهيون كان شمس الدين سنقر الأشقر لما استقر في نيابة دمشق أجمع الإنتقاض والاستبداد وتسلم القلاع من الظاهرية وولى فيها وطالب المنصور قلاوون دخول الشام بأسرها من العريش إلى الفرات في ولايته وزعم أنه عاهده على ذلك. وولى السلطان على قلعة دمشق مولاه حسام الدين لاشين الصغير سلحدارا في ذي الحجة سنة ثمان وسبعين فنكر سنقر وانتقض ودعا لنفسه. ثم بلغه خبر قلاوون وجلوسه على التخت فدعا الأمراء وأشاع أن قلاوون قتل واستحلفهم على منعته وحبس من امتنع من اليمين وتلقب الكامل وذلك في ذي الحجة من السنة. وقبض على لاشين نائب القلعة. وجهز سيف الدين إلى الممالك الشامية والقلاع للاستحلاف وولى في وزارة الشام مجد الدين إسماعيل بن كسيرات وسكن سنقر بالقلعة. ثم بعث السلطان أيبك الأفرم بالعساكر إلى الكرك لما توفي السعيد صاحبها وانتهى إلى غزة واجتمع إليه ببليك الأيدمري منقلباً من الشوبك بعد فتحه فحذرهم سنقر الأشقر وخاطب الأفرم يتجنى على السلطان بأنه لم يفرده بولاية الشام. وولى في قلعة دمشق وفي حلب وبعث الأفرم بالكتاب إلى السلطان قلاوون فأجابه وتقدم إلى الأفرم يكاتبه بالعزل فيما فعله وارتكبه فلم يرجع عن شأنه وجمع العساكر من عمالات الشام واحتشد العربان وبعثهم مع قرا سنقر المقري إلى غزة فلقيهم الأفرم وأصحابه وهزموهم وأسروا جماعة من أمرائهم وبعثوا بهم إلى السلطان قلاوون فأطلقهم وخلع عليهم. ولما وصلت العساكر مفلولة إلى دمشق عسكر سنقر الأشقر بالمرج وكاتب الأمراء بغزة يستميلهم وبعث السلطان العساكر بمصر مع علم الدين سنجر لاشين المنصوري وبدر الدين بكتاش الفخري السلحدار فساروا إلى دمشق فلقيهم الأشقر على الجسر بالكسرة فهزموه في صفر سنة تسع وسبعين وتقدموا إلى دمشق فملكوها وأطلق علم الدين سنجر لاشين المنصوري من الإعتقال وولاه نيابة دمشق. وولى على القلعة سيف الدين سنجار المنصوري وكتب إلى السلطان بالفتح. وسار سنقر إلى الرحبة فامتنع عليه نائبها فسار إلى عيسى بن مهنا ورجع عنه إلى الفل وكاتبوا أبغا ملك التتر واستحثوه لملك الشام يستميلونه فلم يجب وبعث إليه العساكر فأجفلوا إلى صهيون وملكها سنقر ملك معها شيزر. وبعث السلطان لحصار شيزر مع عز الدين الأفرم فحاصرها وجاءت الأخبار بزحف أبغا ملك التتر إلى الشام في مواعدة سنقر وابن مهنا واستدعى صغار صاحب بلاد الروم فيمن معه من المغل وأنه بعث بيدو ابن أخيه طرخان صاحب ماردين وصاحب سيس من ناحية أذربيجان وجاء هو على طريق الشام في مقدمته أخوه منوكتمر. فلما تواترت الأخبار بذلك أفرج الأفرم عن حصار شيزر ودعا الأشقر إلى مدافعة عدو المسلمين فأجابه ورفع عن موالاة أبغا. وسار من صهيون للإجتماع بعساكر المسلمين. وجمع السلطان العساكر بمصر وسار إلى الشام واستخلف على مصر ابنه أبا الفتح علياً بعد أن ولاه عهده وقرأ كتابه بذلك على الناس. وخرج لجمع العساكر في جمادى سنة تسع وسبعين وانتهى إلى غزة ووصل التتر إلى حلب وقد أجفل عنها أهلها وأقفرت منازلها فأضرموا النار في بيوتها ومساجدها. وتولى كبر ذلك صاحب سيس والأرمن وبلغهم وصول السلطان إلى غزة فأجفلوا راجعين إلى بلادهم وعاد السلطان إلى مصر بعد أن جرد العساكر إلى حمص وبلاد السواحل بحمايتها من الإفرنج. ورجع سنقر الأشقر إلى صهيون وفارقه كثير من عسكره فلحقوا بالشام وأقام معه سنجر الدوادار وعز الدين أردين والأمراء الذين مكنوه من قلاع الشام عند انتقاضه والله سبحانه وتعالى أعلم. مسير السلطان لحصار المرقب ثم الصلح منهم ومع سنقر الأشقر بصهيون ومع بني الظاهر بالكرك كان الإفرنج الذين بحصن المرقب عندما بلغهم هجوم التتر على الشام شنوا الغارات في بلاد المسلمين من سائر النواحي فلما رجع التتر عن الشام استأذنه بليان الطباخي صاحب حصن الأكراد في غزوهم وسار إليهم في حامية الحصون بنواحيه وجمع التركمان وبلغ حصن المرقب ووقف أسفله واستطرد له أهل الحصن حتى تورط في أوعار الجبل. ثم هجموا عليه دفعة فانهزم ونالوا من المسلمين وبلغ الخبر إلى السلطان فخرج من مصر لغزوهم آخر سنة تسع وسبعين. واستخلف ابنه مكانه وانتهى إلى الروحاء فوصله هنالك رسل الإفرنج في تقرير الهدنة مع أهل المرقب على أن يطلقوا من أسروه من المسلمين في واقعة بليان فعقد لهم في المحرم سنة ثمانين وعقد لصاحب ييت الإسبتار وابنه ولصاحب طرابلس سمند بن تيمند ولصاحب عكا على بلادهم وعلى قلاع الإسماعيلية وعلى جميع البلاد المستجدة الفتح وما سيفتحه على أن يسكن عمال المسلمين باللاذقية وأن لا يستنجدوا أسير قلعة ولا غيرها ولا يداخلوا التتر في فتنة ولا يمروا عليهم إلى بلاد المسلمين إن أطاقوا ذلك. وعقد معهم ذلك لإحدى عشرة سنة. وبعث السلطان من أمرائه من يستحلف الإفرنج على ذلك وبلغه الخبر بأن جماعة من أمرائه أجمعوا الفتك به وداخلوا الإفرنج في ذلك وكان كبيرهم كوندك. فلما وصل إلى بيسان قبض عليه وعليهم وقتلهم واستراب من داخلهم في ذلك ولحقوا بسنقر في صهيون. ودخل السلطان دمشق وبعث العساكر لحصار شيزر. ثم ترددت الرسل بينه وبين الأشقر في الصلح على أن ينزل عن شيزر ويتعوض عنها بالشعر وبكاس وعلى أن يقتصر في حامية الحصون التي لقطره على ستمائة من الفرسان فقط ويطرد عنه الأمراء الذين لحقوا به فتم الصلح على ذلك وكتب له التقليد بتلك الأعمال. ورجع من عنده سنجر الدوادار فأحسن إليه السلطان وولى على نيابة شيزر بليان الطباخي. وكان بنو الظاهر بالكرك يسألون السلطان في الصلح بالزيادة على الكرك كما كان السلطان داود. فلما تم الصلح مع سنقر رجعوا إلى القنوع بالكرك. وبعث إليهم السلطان بأقاربهم من القاهرة وأتم لهم العقد على ذلك وبعث الأمير سلحدار والقاضي تاج الدين بن الأثير لاستحلافهم والله تعالى أعلم. ثم زحف التتر سنة ثمانين إلى الشام من كل ناحية متظاهرين فسار أبغا في عساكر المغل وجموع التتر وانتهى إلى الرحبة فحاصرها ومعه صاحب ماردين وقدم أخوه كوتمر في العساكر إلى الشام. وجاء صاحب الشمال منكوتمر من بني دوشي خان من كرسيهم بصراي مظاهراً لأبغا بن هلاكو على الشام فمر بالقسطنطينية ثم نزل بين قيسارية وتفليس ثم سار إلى منكوتمر بن هلاكو وتقدم معه إلى الشام. وخرج السلطان من دمشق في عساكر المسلمين وسابقهم إلى حمص ولقيه هناك سنقر الأشقر فيمن معه من أمراء الظاهريه. وزحف التتر ومن معهم من عساكر الروم والإفرنج والأرمن والكرج ثمانون ألفاً أو يزيدون والتقى الفريقان على حمص. وجعل السلطان في ميمنته صاحب حماة محمد بن المظفر ونائب دمشق لاشين السلحدار وعيسى بن مهنا فيمن إليه من العرب. وفي الميسرة سنقر الأشقر في الظاهرية مع جموع التركمان ومن إليهم جماعة من أمرائه. وفي القلب نائبه حسام الدين طرنطاي والحاجب ركن الدين أياحي وجمهور العساكر والمماليك. ووقف السلطان تحت الرايات في مواليه وحاشيته. ووقفت عساكر التتر كراديس وذلك منتصف رجب سنة ثمانين واقتتلوا ونزل الصبر. ثم انفضت ميسرة المسلمين واتبعهم التتر وانفضت ميسرة التتر ورجعوا على ملكهم منكوتمر في القلب فانهزم ورجع التتر من اتباع ميسرة المسلمين فمروا بالسلطان وهو ثابت في مقامه لم يبرح ورجع ونزل السلطان في خيامه ورحل من الغد في اتباع العدو وأوعز إلى الحصون التي في ناحية الفرات باعتراضهم على المقابر فعدلوا عنها وخاضوا الفرات في المجاهل فغرقوا ومر بعضهم ببر شقفية فهلكوا وانتهى الخبر إلى أبغا وهو على الرحبة فأجفل إلى بغداد. وصرف السلطان العساكر إلى أماكنهم وسار سنقر الأشقر إلى مكانه بصهيون. وتخلفه عنه كثير من الظاهرية عند السلطان وعاد السلطان إلى دمشق ثم إلى مصراً آخر شعبان من السنة فبلغه الخبر بمهلك منكوتمر بن هلاكو بهمذان ومنكوتمر صاحب الشمال بصراي فكان ذلك تماماً للفتح. ثم هلك أبغا بن هلاكو سنة إحدى وثمانين وكان سبب مهلكه فيما يقال أنه اتهم شمس الدين الجريض وزيره باغتيال أخيه منكوتمر منصوفه من واقعة حمص فقبض عليه وامتحنه واستصفاه فدس له الجويني من سمه ومات. وكان أبغا اتهم بأخيه أيضاً أميراً من المغل كان شحنة بالجزيرة ففر منها وأقام مشركاً. وبعث السلطان قلاوون بعثاً إلى ناحية الموصل للإغارة عليها وانتهوا إلى سنجر فصادفوا هذا الأمير وجاؤوا به إلى السلطان فحبسه. ثم أطلقه وأثبت اسمه في الديوان وكان يحدث بكثير من أخبار التتر وكتب بعضها عنه. وبعث السلطان في هذه السنة بعوثاً أخرى إلى نواحي سيس من بلاد الروم جزاء بما كان من الأرمن في حلب ومساجدها فاكتسحوا تلك النواحي ولقيهم بعض أمراء التتر بمكان هنالك فهزموه ووصلوا إلى جبال بلغار ورجعوا غانمين. وبعث السلطان شمس الدين قرا سنقر المنصوري إلى حلب لإصلاح ما خرب التتر من قلعتها وجامعها فأعاد ذلك إلى أحسن ما كان عليه. ثم أسلم ملوك التتر فبعث أولاً بكدار بن هلاكو صاحب العراق بإسلامه وأنه تسمى أحمد وجاءت رسله بذلك إلى السلطان وهم شمس الدين أتابك ومسعود بن كيكاوس صاحب بلاد الروم وقطب الدين محمود الشيرازي قاضي سيواس وشمس الدين محمد بن الصاحب من حاشية صاحب ماردين وكان كتابه مؤرخاً بجمادى سنة إحدى وثمانين وحملوا على الكرامة وأجيب سلطانهم بما يناسبه. ثم وصل رسول قودان بن طقان المتولي بكرسي الشمال بعد أخيه منكوتمر سنة اثنين وثمانين بخبر ولايته ودخوله في دين الإسلام وبطلب تقليد الخليفة واللقب منه والراية للجهاد فيمن يليه من الكفار فأسعف بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. |
استيلاء السلطان قلاوون على الكرك وعلى صهيون ووفاة صاب حماة
ثم توفي المنصور محمد بن المظفر صاحب حماة في شوال سنة اثنتين وثمانين وولى السلطان ابنه المظفر وبعث بالخلع له ولأقاربه. وسار السلطان قلاوون إلى الشام في ربيع سنة ثلاث وثمانين لمحاصرة المرقب بما فعلوه من ممالأة العدو فحاصره حتى استأمنوا إليه وملك الحصن من أيديهم وانتظر وصول سنقر الأشقر من صهيون فلم يصل فرجع إلى مصر. وجهز النائب حسام الدين طرنطاي في العساكر لحصار الكرك بما وقع من شلامش وخسرو من الإنتقاض فسار سنة خمس وثمانين وحاصرهم حتى استأمنوا. وجاء بهم إلى السلطان فركب للقائهم وبالغ في إكرامهم ثم ساءت سيرتهم فاستراب بهم واعتقلهم وغربهم إلى القسطنطينية. وولى على الكرك عز الدين المنصوري وبعده بيبرس الدويدار مؤلف أخبار الترك ثم جهز السلطان ثانياً النائب طرنطاي بالعساكر لحصار سنقر الأشقر بصهيون لانتقاضه وإغارته على بلاد السلطان فسار لذلك سنة ست وثمانين وحاصره حتى استأمن هو ومن معه. وجاء به إلى السلطان وأنزله بالقلعة ولم يزل عنده إلى أن هلك السلطان فقبض عليه وتولى ابنه الأشرف من بعده كما نذكره إن شاء الله. وفاة ميخائيل ملك القسطنطينية قد تقدم لنا كيف تغلب الإفرنج على القسطنطينية من يد الروم سنة ستمائة وكان ميخائيل هذا من بطارقتهم أقام في بعض الحصون بنواحيها فلما أمكنته الفرصة بيتها وقتل من كان بها من الإفرنج وفر الباقون في مراكبهم. واجتمع الروم إلى ميخائيل هذا وملكوه عليهم وقتل الملك الذي قبله. وكان بينه وبين صاحب مصر والناصر قلاوون من بعده اتصال ومهاداة ونزل بنو الظاهر عليه عندما غربوا من مصر. ثم مات ميخائيل سنة إحدى وثمانين وولى ابنه ماندر ويلقب الراونس وميخائيل هذا يعرف بالأشكري وبنوه من بعده بنو الأشكري وهم ملوك القسطنطينية إلى هذا العهد والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. أخبار النوبة كان الملك الظاهر وفد عليه أعوام سنة خمس وسبعين ملك النوبة من تشكيل مستنجداً به على ابن أخيه داود لما كان تغلب عليه وانتزع الملك من يده فوعده السلطان وأقام ينتظر. واستفحل ملك داود وتجاوز حدود مملكته إلى قرب أسوان من آخر الصعيد فجهز السلطان العساكر إليه مع أقسنقر الفارقاني وأيبك الأفرم أستاذ داره وأطلق معهم مرتشكين ملك النوبه فساروا لذلك واستنفروا العرب وانتهوا إلى رأس الجنادل واستولوا على تلك البلاد وأمنوا أهلها. وساروا في البلاد فلقيهم داود الملك فهزموه وأثخنوا في عساكره وأسروا أخاه وأخته وأمه. وسار إلى مملكة السودان بالأبواب ورآه فقاتله ملكها وهزمه وأسره وبعث به مقيداً إلى السلطان فاعتقل بالقلعة إلى أن مات. واستقر مرتشكين في سلطان النوبه على جراية مفروضة وهدايا معلومة في كل سنة وعلى أن تكون الحصون المجاورة لأسوان خالصة للسلطان وعلى أن يمكن ابن أخيه داود وجميع أصحابه من كل ما لهم في بلادهم فوفى بذلك. ثم مات الطاهر وانقرضت دولته ودولة بنيه وانتقل الملك إلى المنصور قلاوون فبعث سنة ست وثمانين العساكر إلى النوبة مع علم الدين سنجر الخياط وعز الدين الكوراني وسار معهم نائب قوص عز الدين أيدمر السيفي بعد أن استنفر الغربان أولاد أبي بكر وأولاد عمر وأولاد شريف وأولاد شيبان وأولاد كنز الدولة وجماعة من الغرب وبني هلال وساروا على العدوة الغربية والشرقية في دنقلة وملكهم بيتمامون. هكذا سماه النووي وأظنه أخا مرتشكين وبرزوا للعساكر فهزمتهم واتبعتهم خمسة عشر يوماً وراء دنقلة. ورتب ابن أخت بيتمامون في الملك ورجعت العساكر إلى مصر فجاء بيتمامون إلى دنقله فاستولى على البلاد ولحق ابن أخته بمصر صريخاً بالسلطان فبعث معه عز الدين أيبك الأفرم في العساكر ومعه ثلاثة من الأمراء وعز الدين نائب قوص وذلك سنة ثمان وثمانين. وبعثوا المراكب في البحر بالأزودة والسلاح. ومات ملك النوبة بأسوان ودفن بها وجاء نائبه صريخاً إلى السلطان فبعث معه داود ابن أخي مرتشكين الذي كان أسيراً بالقلعة وتقدم جريس بين يدي العساكر فهرب بيتمامون وامتنع بجزيرة وسط النيل على خمس عشرة مرحلة وراء دنقلة. ووقف العساكر على ساحل البحر وتعذر وصول المراكب إلى الجزيرة من كثرة الحجر وخرج بيتمامون منها فلحق بالأبواب ورجع عنه أصحابه ورجعت العساكر إلى دنقلة فملكوا داود ورجعوا إلى مصر سنة تسع وثمانين لتسعة أشهر من مسيرهم بعد أن تركوا أميراً منهم مع الملك داود ورجعوا إلى مصر ورجع بيتمامون إلى دنقلة وقتل داود وبعث الأمير الذي كان معهم إلى السلطان وحمله رغبة في الصلح على أن يؤدي الضريبة المعلومة فأسعف لذلك واستقر في ملكه انتهى والله تعالى أعلم. فتح طرابلس كان الإفرنج الذين بها قد نقضوا الصفح وأغاروا على الجهات فاستنفر السلطان العساكر من مصر والشام وأزاح عللهم وجهز آلات الحصار وسار إليها في محرم سنة ثمان وثمانين فحاصرها ونصب عليها المجانيق وفتحها عنوة لأربعة وثلاثين يوماً من حصارها واستباحها. وركب بعضهم الشواني للنجاة فردتهم الريح إلى السواحل فقتلوا وأسروا وأمر السلطان بتخريبها فخربت وأحرقت. وفتح السلطان ما إليها من الحصون والمعاقل وأنزل حاميتها وعاملها بحصن الأكراد. ثم اتخذ حصناً آخر لترك النائب والحامية في العمل وسمي باسم المدينة وهو الموجود لهذا العهد وكان من خبر هذه المدينة من المدن الفتح أن معاوية أيام ولايته الشام لعهد عثمان بن عفان رضي الله عنه بعث إليها سفيان بن مخنف الإزدي فحاصرها وبنى عليها حصناً حتى جهد أهلها الحصار وهربوا منها في البحر. وكتب سفيان إلى معاوية بالفتح. وكان يبعث ثم جاء إلى عبد الملك بن مروان بطريق من الروم وسأله في عمارتها والنزول بها مجمعاً على أن يعطيه الخراج فأجابه وأقام قليلاً ثم غدر بمن عنده من المسلمين. وذهب إلى بلاد الروم فتخطفته شواني المسلمين في البحر وقتله عبد الملد ويقال الوليد وملكها المسلمون. وبقي الولاة يملكونها من دمشق إلى أن جاءت دولة العبيديين فأفردوها بالولاية ووليها رمان الخادم ثم سر الدولة ثم أبو السعادة علي بن عبد الرحمن بن جبارة ثم نزال ثم مختار الدولة بن نزال وهؤلاء كلهم من أهل دولته. ثم تغلب قاضيها أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار وتوفي سنة أربع وستين وأربعمائة. وكان من فقهاء الشيعة وهو الذي صنف الكتاب الملقب بخراب الدولة ابن منقذ بن كمود فقام بولاية أخيه أبي الحسن بن محمد بن عمار ولقبه جلال الدين. وتوفي سنة اثنتين وتسعين صنجيل من ملوكهم واسمه ميمنت ومعناه ميمون. وصنجيل اسم مدينة عرف بها وأقام صنجيل يحاصرها طويلاً وعجز ابن عمار عن دفاعه. ثم قصد سلطان السلجوقية بالعراق محمد بن ملكشاه مستنجداً به واستخلف بالمناقب ابن عمه على طرابلس ومعه سعد الدولة فتيان بن الأغر فقتله أبو المناقب ودعا للأفضل ابن أمير الجيوش المستبد على خلفاء العبيديين بمصر لذلك العهد. ثم هلك صنجيل وهو محاصر لها وولي مكانه السرداني من زعمائهم. وبعث الأفضل قائداً إلى طرابلس فأقام بها وشغل عن مدافعة العدو ونمي عنه إلى الأفضل أنه يروم الاستبداد فبعث آخر مكانه ونافر أهل البلد لسوء سيرته فتبين وصول المراكب من مصر بالمدد وقبض على أعيانهم وعلى مخلف فخر الملك بن عمار من أهله وولده وبعث بهم إلى مصر. وجاء فخر الملك بن عمار بعد أن قطع جبل الرجاء في يده من إنجاد السلجوقية لما كانوا فيه من الشغل بالفتنة ورما علله بعضهم بولاية الوزارة له. ثم رجع إلى دمشق سنة اثنتين وخمسمائة ونزل على طغتكين الأتابك. ثم ملكها السرداني سنة ثلاث وخمسمائة بعد حصارها سبع سنين. وجاء ابن صنجيل من بلاد الإفرنج فملكها منه وأقامت في مملكته نحواً من ثلاثين سنة. ثم ثار عليه بعض الزعماء وقتله بطرس الأعور واستخلف في طرابلس القوش بطرار. ثم كانت الواقعة بين صاحب القدس ملك الإفرنج وبين زنكي الأتابك صاحب الموصل وانهزم الإفرنج وأسر القوش في تلك الوقعة ونجا ملك الإفرنج إلى تغريب فتحصن بها وحصره زنكي حتى اصطلحا على أن يعطي تغريب ويطلق زنكي الأسرى في الواقعة فانطلق القوش إلى طرابلس فأقام بها مدة ووثب الإسماعيلية به فقتلوه وولي بعده رهند صبياً وحضر مع الإفرنج سنة سبع وخمسين وقعة حارم التي هزمهم فيها العادل. وأسر رهند يومئذ وبقي في اعتقاله إلى أن ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب فأطلقه سنة سبعين وخمسمائة ولحق بطرابلس ولم تزل في ملكه وملك ولده إلى أن فتحها إنشاء المدرسة والمارستان بمصر كان المنصور قلاوون قد اعتزم على إنشاء المارستان بالقاهرة ونظر له الأماكن حتى وقف نظره على الدار القطبية من قصور العبيديين وما يجاورها من القصرين أعتمد إنشاءه هنالك وجعل الدار أصل المارستان وبنى بازائه مدرسة لتدريس العلم وقبة لدفنه. وجعل النظر في ذلك لعلم الدين الشجاعي فقام بإنشاء ذلك لأقرب وقت وكملت العمارة سنة اثنتين وثمانين وستمائة. ووقف عليها أملاكاً وضياعاً بمصر والشام وجلس بالمارستان في يوم مشهود. وتناول قدحاً من الأشربة الطبية وقال وقفت هذا المارستان على مثلي فمن دوني من أصناف الخلق فكان ذلك من صالح آثاره والله أعلم. وفاة المنصور قلاوون وولاية ابنه خليل الأشرف كان المنصور قلاوون قد عهد لابنه علاء الدين ولقبه الصالح وتوفي سنة سبع وثمانين فولي العهد مكانه ابنه الآخر خليل. ثم انتقض الإفرنج بعكا وأغاروا على النواحي ومرت بهم رفقة من التجار برقيق من الروم والترك جلبوهم للسلطان فنهبوهم وأسروهم فأجمع السلطان غزوهم وخرج في العساكر بعد الفطر من سنة تسع وثمانين. واستخلف ابنه خليلاً على القاهرة ومعه زين الدين سيف وعلم الدين الشجاعي الوزير وعسكر بظاهر البلد فطرقه المرض ورجع إلى قصره فمرض. وتوفي في ذي القعدة من السنة فبويع ابنه خليل ولقب الأشرف وكان حسام الدين طرنطاي نائب المنصور إليه فأقره وأشرك معه زين الدين سيف في نيابة العتبة وأقر علم الدين الشجاعي على الوزارة وبدر الدين بيدو أستاذ داره وعز الدين أيبك خرندار. وكان حسام الدين لاشين السلحدار نائباً بدمشق وشمس الدين قرا سنقر الجوكندار نائباً بحلب فأقرهما وجمع ما كان بالشام من ولاة أبيه. ثم قبض على النائب حسام الدين طرنطاي لأيام قلائل وقتله واستولى على مخلفه وكان لا يعبر عنه. كان الناض منها ستمائة ألف دينار وحملت كلها لخزانته واستقل بدر الدين بالنيابة وبعث إلى محمد بن عثمان بن السلعوس من الحجاز فولاه الوزارة وكان تاجراً من تجار الشام وتقرب له أيام أبيه واستخدم له فاستعمله في بعض إقطاعه بالشام ووفر جبايتها فولاه ديوانه بمصر فأسرف في الظلم وأنهى أمره إلى طرنطاي النائب فصادره المنصور وامتحنه ونفاه عن الشام. وحج في هذه السنة وولي الأشرف فكان أول أعماله البحث عنه وولاه الوزارة فبلغ المبالغ في الظهور وعلو الكلمة واستخدم الخواص له وترفع عن الناس واستقل الرتب وقبض الأشرف على شمس الدين سنقر وحبسه وكان قد قبض مع طرنطاي النائب عن عز الدين سيف لما بلغه أنه فتح عكا وتخريبها ثم سار الأشرف أول سنة تسعين وستمائة لحصار عكا متماً عزم أبيه فيها فجهز العساكر واستنفر أهل الشام وخرج من القاهرة فأغذ السير إلى عكا ووافاه بها أمراء الشام والمظفر بن المنصور صاحب حماة فحاصرها ورماها بالمجانيق فهدم كثير من أبراجها وتلاها المقاتلة لاقتحامها فرشقوهم بالسهام فا من اللبود وزحفوا في كنها وردموا الخندق بالتراب فحمل كل واحد منهم ما قدر عليه حتى طموه وانتهوا إلى الأبراج المتهدمة فألصقوها بالأرض واقتحموا البلد من ناحيتها واستلحموا من كان فيها وأكثروا القتل والنهب ونجا الفل من العدو إلى أبراجها الكبار التي بقيت ماثلة فحاصرها عشراً آخراً ثم اقتحمها عليهم فاستوعبهم السيف. وكان الفتح منتصف جمادى سنة سبعين لمائة وثلاث سنين من ارتجاع الكفار لها من يد صلاح الدين سنة سبع وثمانين وخمسمائة. وأمر الأشرف بتخريبها فخربت وبلغ الخبر إلى الإفرنج بصور وصيدا وعتلية وحيفا فأجفلوا عنها وتركوها خاوية ومر السلطان بها وأمر بهدمها فهدمت جميعاً وانكف راجعاً إلى دمشق. وتقبض في طريقه على لاشين نائب دمشق لأن بعض الشياطين أوحى إليه أن السلطان يروم الفتك به فركب للفرار واتبعه علم الدين سنجر الشجاعي وسار إلى بيروت ففتحها. ومر السلطان بالكرك فاستعفى نائبها ركن الدين بيبرس الدوادار وهو المؤرخ فولى مكانه جمال الدين أتسز الأشرفي ورجع السلطان إلى القاهرة فبعث شلامش وخسروا بني الظاهر من محبسهما بالإسكندرية إلى القسطنطينية. ومات شلامش هنالك وأفرج عن شمس الدين سنقر الأشقر وحسام الدين لاشين المنصوري اللذين اعتقلهما كما قدمناه. وقبض على علم الدين سنجار نائب دمشق وسبق إلى مصر معتقلاً. وأمر السلطان ببناء الرفوف بالقلعة على أوسع ما يكون وأرفعه وبني القبة بازائه لجلوس السلطان أيام الزينة والفرح فبنيت مشرفة على سوق الخيل والميدان والله سبحانه وتعالى أعلم. فتح قلعة الروم ثم سار السلطان سنة إحدى وتسعين في عساكره إلى الشام بعد أن أفرج عن حسام الدين لاشين ورد إلى إمارته وانتهى إلى دمشق. ثم سار إلى حلب ثم دخل منها إلى قلعة الروم فحاصرها في جمادى من السنة وملكها عنوة بعد ثلاثين يوماً من الحصار وقاتل المقاتلة الذريعة وخرب القلعة وأخذ فيها بطرك الأرمن أسيراً وانكف السلطان راجعاً إلى فأقام بها شعبان وولى عليها سيف الدين الطباقي نائباً مكان قرا سنقر الظاهري لأنه ولاه مقدم المماليك. ورحل إلى دمشق فقضى بها عيد الفطر واستراب لاشين النائب فهرب ليلة الفطر وأركب السلطان في طلبه وتقبض عليه بعض العرب في حيه. وجاء به إلى السلطان فبعثه مقيداً إلى القاهرة وولى على نيابة دمشق عز الدين أيبك الحميدي عوضاً عن علم الدين سنجر الشجاعي ورجع إلى مصر فأفرج عن علم الدين سنجر الشجاعي وتوفي لسنة بعد إطلاقه. ثم قبض على سنقر الأشقر وقتله وسمع نائبه بيدو ببراءة لاشين فأطلقه. وتوفي ابن الأثير بعد شهر فولى مكانه ابنه عماد الدين أيوب وكان أيوب قد اعتقله المنصور لأول ولايته فأطلقه الأشرف هذه السنة لثلاث عشرة سنة من اعتقاله واستخلصه للمجالسة والشورى. وتوفي القاضي فتح الدين محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر كاتب السر وصاحب ديوان الإنشاء وله التقدم عنده وعند أبيه فولى مكانه فتح الدين أحمد بن الأثير الحلي. وترك ابن عبد الظاهر ابنه علاء الدين علياً فألقى عليه النعمة منتظماً في جملة الكتاب. ثم سار السلطان إلى الصعيد يتصيد واستخلف بيدو النائب على دار ملكه وانتهى إلى قوص وكان ابن السلعوس قد دس إليه بأن بيدو احتجن بالصعيد من الزرع ما لا يحصى فوقف هنالك على مخازنها واستكثرها وارتاب بيدو لذلك. ولما رجع الأشرف إلى مصر ارتجع منه بعض إقطاعه وبقي بيدو مرتاباً من ذلك وأتحف السلطان بالهدايا من الخيام والهجن وغيرهما والله تعالى أعلم. |
مسير السلطان إلى الشام وصلح الأرمن
ومكثه في مصياف وهدم الشوبك ثم تجهز السلطان سنة اثنتين وتسعين إلى الشام وقدم بيدو النائب بالعساكر وعاج على الكرك على الهجن فوقف عليها وأصلح من أمورها ورجع. ووصل إلى الشام فوافاه رسول صاحب سيس ملك الأرمن راغباً في الصلح على أن يعطى تهسنا ومرعش وتل حمدون فعقد لهم على ذلك وملك هذه القلاع وهي في فم الدرب من ضياع حلب وكانت تهسنا للمسلمين. ولما ملك هلاكو حلب باعها النائب من ملك الأرمن سيس. ثم سار السلطان إلى حمص ووصل إليها في رجب من السنة ومعه المظفر صاحب حماة ونزل سلمية ولقيه مهنا بن عيسى أمير العرب فقبض عليه وعلى أخويه محمد وفضل وابنه موسى وبعثهم معتقلين مع لاشين إلى دمشق ومن هناك إلى مصر فحبسوا بها. وولى على الغرب مكانهم محمد بن أبي بكر بن علي بن جديلة وأوعز وهو بحمص إلى نائب الكرك بهدم قلعة الشوبك فهدمت وانكف راجعاً إلى مصر وقدم العساكر مع بيدو وجاء في الساقة على الهجن مع خواصه. ولما دخل علي مصر أفرج عن لاشين المنصوري والله تعالى أعلم. مقتل الأشرف وولاية أخيه محمد الناصر في كفالة كتبغا كان النائب بيدو مستولياً على الأشرف والأشرف مستريب به حتى كأنه مستبد وكان مستوحشاً من الأشرف. واعتزم الأشرف سنة ثلاث وتسعين على الصيد في البحيرة فخرج إليها. وبعث وزيره ابن السلعوس للإسكندرية لتحصيل الأموال والأقمشة فوجد بيدو قد سبقوا إليها واستصفوا ما هنالك فكاتب السلطان بذلك فغضب. واستدعى بيدو فوبخه وتوعده ولم يزل هو يلاطفه حتى كسر من سورة غضبه. ثم خلص إلى أصحابه وداخلهم في التوثب به. وتولى كبر ذلك منهم لاشين المنصوري نائب دمشق وقرا سنقر المنصوري نائب حلب وكان الأمراء كلهم حاقدين على الأشرف لتقديمه حاشيته عليهم. ولما كتب إليه السلعوس بقلة المال صرف مواليه إلى القلعة تخفيفاً من النفقة وبقي في القليل. وركب بعض أيامه يتصيد وهو مقيم على فرجة فاتبعوه وأدركوه في صيده فأوجس في نفسه الشر منهم فعاجلوه وعلوه بالسيوف ضربه أولاً بيدو وثنى عليه لاشين وتركوه مجندلاً بمصرعه منتصف محرم من السنة ورجعوا إلى المخيم وقد أبرموا أن يولوا بيدو فولوه ولقبوه القاهر. وتقبض على بيسري الشمسي وسيف الدين بكتمر السلحدار واحتملوهما وساروا إلى قلعة الملك. وكان زين الدين سيف قد ركب للصيد فبلغه الخبر في صيده فسار في اتباعهم ومعه سوس الجاشنكير وحسام الدين أستاذ دار وركن الدين سوس وطقجي في طائفة من الجاشنكيرية وأدركوا القوم على الطرانة. ولما عاينهم بيدو وبيسري وبكتمر المعتقلين في المخيم رجعوا إلى كيبغا وأصحابه وفر عن بيدو من كان معه من العربان والجند وقاتل قليلاً ثم قتل ويقال أن لاشين كان مختفياً في مأذنة جامع ابن طولون ووصل كتبغا وأصحابه إلى القلعة وبها علم الدين الشجاعي واستدعوا محمد بن قلاوون أخا الأشرف وبايعوه ولقبوه الناصر وقام بالنيابة كتبغا وبالأتابكية حسام الدين وبالوزارة علم الدين سنجر وبالأستاذ دارية ركن الدين سوس الجاشنكير. واستبدوا بالدولة فلم يكن الناصر يملك معهم شيئاً من أمره وجدوا في طلب الأمراء الذين داخلوا بيدو في قتل الأشرف فاستوعبوهم بالقتل والصلب والقطع وكان بهادر رأس نوبة وأقوش الموصلي فقتلا وأحرقت أشلاؤهما. وشفع كتبغا في لاشين وقرا سنقر المتوليين كبر ذلك فظهرا من الاختفاء وعادا إلى محلهما من الدولة. ثم تقبض على الوزير محمد بن السلعوس عند وصوله من الإسكندرية وصادره الوزير الشجاعي وامتحنه فمات تحت الامتحان وأفرج عن عز الدين أيبك الأفرم الصالحي وكان الأشرف اعتقله سنة اثنتين وتسعين والله سبحانه وتعالى أعلم. وحشة كتبغا ومقتل الشجاعي ثم إن الشجاعي لطف محله من الناصر واختصه بالمداخلة وأشار عليه بالقبض على جماعة من الأمراء فاعتقلهم وفيهم سيف الدين كرجي وسيف الدين طونجي. وطوى ذلك عن كتبغا وبلغه الخبر وهو في موكب بساحة القلعة. وكان الأمراء يركبون في خدمته فاستوحش وارتاب بالشجاعي وبالناصر. ثم جاء بعض مماليك الشجاعي إلى كتبغا في الموكب وجرد سيفه لقتله فقتله مماليكه وتأخر هو ومن كان معه من الأمراء عن دخول القلعة وتقبضوا على سوس الجاشنكير أستاذ دار وبعثوا به إلى الإسكندرية ونادوا في العسكر فاجتمعوا وحاصروا القلعة. وبعث إليهم السلطان أميراً فشرطوا عليه أن يمكنهم من الشجاعي فامتنع وحاصروه سبعاً واشتد القتال. وفر من كان بقي في القلعة من العسكر إلى كتبغا وخرج الشجاعي لمدافعتهم فلم يغن شيئاً. ورجع إلى السلطان وقد خامره الرعب فطلب أن يحبس قسه فمضى به المماليك إلى السجن وقتلوه في طريقهم. وبلغ الخبر إلى كتبغا ومن كان معه فذهبت عنهم الهواجس واستأمنوا للسلطان فأمنهم واستحلفوه فحلف لهم ودخلوا إلى القلعة وأفاض كتبغا العطاء في الناس وأخرج من كان في الطباق من المماليك بمداخلة الشجاعي فأنزلهم إلى البلد بمقاصر الكسر ودار الوزارة والجوار وكانوا نحواً من تسعة آلاف فأقاموا بها. ولما كان المحرم فاتح سنة أربع وتسعين اتعدوا ليلة وركبوا فيها جميعاً وأخروا من كان في السجون ونهبوا بيوت الأمراء وأعجلهم الصبح عن تمام قصدهم وباكرهم الحاجب بهادر ببعض العساكر فهزمهم. وافترقوا وتقبض على كثير منهم فأخذ منهم العقاب مأخذه قتلاً وضرباً وعزلاً وأفرج عن عز الدين أيبك الأفرم وأعيد إلى وظيفته أمير جندار ثم هلك قريباً. واستحكم أمر السلطان ونائبه كتبغا وهو مستبد عليه واستمر الحال على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله تعالى ولي التوفيق. خلع الناصر وولاية كتبغا العادل ولما وقعت الوحشة بين كتبغا والشجاعي وتلتها هذه الفتنة استوحش كتبغا في ظاهر أمره وانقطع عن دار النيابة متمارضاً وتردد السلطان لعيادته. ثم حمل بطانته على الاستبداد بالملك والجلوس على التخت وكان طموحاً لذلك من أول أمره فجمع الأمراء ودعاهم إلى بيعته فبايعوه. وخلع الناصر وركب إلى دار السلطان فجلس على التخت وتلقب بالعادل وأخرج السلطان من قصور الملك وكان مع أمه ببعض الحجر. وولى حسام الدين لاشين نائباً والصاحب فخر الدين عمر بن عبد العزيز الخليلي أستاذ الدار وزيراً نقله إليها من النظر في الديوان لعلاء الدين ولي العهد ابن قلاوون وعز الدين أيبك الأفرم الصالحي أمير جندار وبهادر الحلبي أمير حاجب وسيف الدين منماص أستاذ دار وقسم إمارة الدولة بين مماليكه. وكتب إلى نواب الشام بأخذ البيعة فأجابوا بالسمع والطاعة وقبض على عز الدين أيبك الخازندار نائب طرابلس وولى مكانه فخر الدين أيبك الموصلي. وكان الخازندار ينزل حصن الأكراد ونزل الموصلي بطرابلس وعادت دار إمارة. ثم وفد سنة خمس وتسعين على العادل كتبغا طائفة من التتر يعرفون بالأربدانية ومقدمهم طرنطاي كان مداخلاً لبدولي كنجاب ابن عمه ملك التتر. فلما سار الملك إلى غازان خافه طرنطاي وكانت أحياؤه بين غازان والموصل. وأوعز غازان إلى التتر الذين من مارتكن فأخذ الطرق عليهم. وبعث قطقرا من أمرائه للقبض على طرنطاي ومن معه من أكابر قبيله فسار لذلك في ثمانين فارساً فقتله طرنطاي وأصحابه وعبروا الفرات إلى الشام. وأتبعهم التتر من ديار بكر فكروا عليهم فهزموهم. وأمر العادل سنجر الدوادار أن يتلقاهم بالرحب واحتفل نائب دمشق لقدومهم. ثم ساروا إلى مصر فتلقاهم شمس الدين قراسقر وكانوا يجلسون مع الأمراء بباب القلعة فأنفوا لذلك وكان سبباً لخلع العادل كما نذكر. ووصل على أثرهم بقية قومهم بعد أن مات منهم كثير. ثم رسخوا في الدولة وخلطهم الترك بأنفسهم وأسلموا واستخدموا أولادهم وخلطوهم بالصهر والولاء والله سبحانه وتعالى أعلم. خلع العادل كتبغا وولاية لاشين المنصور كان أهل الدولة نقموا على السلطان كتبغا العادل تقديم مماليكه عليهم ومساواة الأربدانية من التتر بهم فتفاوضوا على خلعه. وسار إلى الشام في شوال سنة خمسة وتسعين فعزل عز الدين أيبك الحموي نائب دمشق واستصفاه وولى مكانه سيف الدين عزلو من مواليه. ثم سار إلى حمص متصيداً ولقيه المظفر صاحب حماة فأكرمه ورده إلى بلده. وسار إلى مصر والأمراء مجمعون خلعه والفتك بمماليكه وانتهى إلى العوجاء من أرض فلسطين وبلغه عن بيسري الشمسي أنه كاتب التتر فنكر عليه وأغلظ له في الوعيد. وارتاب الأمراء من ذلك وتمشت رجالاتهم واتفقوا. وركب حسام الدين لاشين وبدر الدين بيسري وشمس الدين قرا سنقر وسيف الدين قفجاق وبهادر الحلبي الحاجب وبكتاش الفخري وببليك الخازندار وأقوش الموصلي وبكتمر السلحدار وسلار وطغجي وكرجي ومعطاي ومن انضاف إليهم بعد أن بايعوا لاشين وقصدوا مخيم بكتوت الأزرق فقتلوه. وجاءهم ميحاص فقتلوه أيضاً. وركب السلطان كتبغا في لفيفه فحملوا عليه فانهزم إلى دمشق وبايع القوم لاشين ولقبوه المنصور وشرطوا عليه أن لا ينفرد عنهم برأي فقبل وسار إلى مصر ودخل القلعة. ولما وصل كتبغا إلى دمشق لقيه نائبه سيف الدين عزلو وأدخله القلعة واحتاط على حواصل لاشين والأمراء الذين معه وأمن جماعة من مواليه. ووصلت العساكر التي كانت مجردة بالرحبة ومقدمهم جاغان وكانوا قد داخلوا لاشين في شأنه ونزلوا ظاهر دمشق واتفقوا على بيعة لاشين وأعلنوا بدعوته. وانحل أمر العادل وسأل ولاية صرخد وألقى بيده فحبس بالقلعة لسنتين من ولايته. وبعث الأمراء بيعتهم للاشين ودخل سيف الدين جاغان إلى القلعة. ثم وصل كتاب لاشين ببعثه إلى مصر وبعث إلى كتبغا بولاية صرخد كما شأل ووصل قفجق المنصوري نائباً عن دمشق. وأفرج لاشين بمصر عن ركن الدين بيبرس الجاشنكير وغيره من المماليك وولى قرا سنقر نائباً وسيف الدين سلار أستاذ دار سيف الدين بكتمر السلحدار أمير جاندار وبهادر الحلبي صاحب وأقر فخر الدين الخليلي على وزارته ثم عزله وولى مكانه شمس الدين سنقر الأشقر وقبض على قرا سنقر النائب وسيف الدين سلار أستاذ دار آخر سنة ست وتسعين وولى مكانه سيف الدين منكوتمر الحسامي مولاه واستعمل سيف الدين قفجق المنصوري نائباً. ثم أمر بتجديد عمارة جامع ابن طولون وندب لذلك علم الدين سنجر الدوادار وأخرج للنفقة فيه من خالص ماله عشرين ألف دينار ووقف عليه أملاكاً وضياعاً. ثم بعث سنة تسع وسبعين بالناصر محمد بن قلاوون إلى الكرك مع سيف الدين سلار أستاذ دار وقال لزين الدين بن مخلوف فقيه بيته هو ابن استاذي وأنا نائبه في الأمر ولو علمت أنه يقوم بالأمر لأقمته. وقد خشيت عليه في الوقت فبعثته إلى الكرك فوصلها في ربيع. وقال النووي إنه بعث معه جمال الدين بن أقوش. ثم قبض السلطان في هذه السنة على بدر الدين بيسري الشمسي بسعاية منكوتمر نائبه لأن لاشين أراد أن يعهد إليه بالأمر فرده بيسري عن ذلك وقبحه عليه فدس منكوتمر بعض مماليك بيسري وأنهوا إلى السلطان أنه يريد الثورة فقبض عليه آخر ربيع الثاني من السنة وأودعه السجن فمات في محبسه. وقبض في هذه السنة على بهادر الحلبي وعلى عز الدين أيبك الحموي. ثم أمر في هذه السنة برد الإقطاعات في النواحي وبعث الأمراء والكتاب لذلك. وتولى ذلك عبد الرحمن الطويل مستوفي الدولة. وقال مؤرخ حماة المؤيد كانت مصر منقسمة على أربعة وعشرين قيراطاً أربعة منها للسلطان والكلف والرواتب وعشرة للأمراء والإطلاقات والزيادات وعشرة للأجناد الجلقة. فصيروها عشرة للأمراء والإطلاقات والزيادات والأجناد وأربعة عشر للسلطان فضعف الجيش. وقال النووي قرر للخاص في الروك الجيزة وأطفيح ودمياط ومنفلوط والكوم الأحمر وحولت السنة الخراجية من سنة ست وتسعين. وهذا في العدد إنما هو بعد انقضاء ثلاثة وثلاثين سنة واحدة هي تفاوت ما بين السنين الشمسية والقمرية وهو حجة ديوان الجيش في انقضاء التفاوت الجيشي وهو تحويل بالأقلام فقط. وليس فيه نقص شيء. ثم أقطعت البلاد بعد الروك واستثنيت المراتب الجسرية والرزق الإحباسية. انتهى كلام النووي رحمه الله والله |
فتح حصون سيس
ولما ولي سيف الدين منكوتمر النيابة وكان مختصاً بالسلطان استولى على الدولة وطلب من السلطان أن يعهد له بالملك فنكر ذلك الأمراء وثنوا عنه السلطان فتنكر لهم منكوتمر وأكثر السعاية فيهم حتى قبض على بعضهم وتفرق الآخرون في النواحي. وبعث السلطان جماعة منهم سنة سبع وتسعين لغزو سيس وبلاد الأرمن كان منهم بكتاش أمير سلاح وقرا سنقر وبكتمر السلحدار وتدلار وتمراز ومعهم الألفي نائب صفد في العساكر ونائب طرابلس ونائب حماة ثم أردفهم بعلم الدين سنجر الدوادار. وجاءت رسل صاحب سيس وأغاروا عليها ثلاثة أيام واكتسحوها. ثم مروا ببغراس ثم بمرج إنطاكية وأقاموا بها ثلاثاً ومروا بجسر الحديد ببلاد الروم. ثم قصدوا تل حمدون فوجدوها خاوية وقد انتقل الأرمن الذين بها إلى قلعة النجيمة وفتحوا قلعة مرعش وحاصروا قلعة النجيمة أربعين يوماً وافتتحوها صلحاً وأخذوا أحد عشر حصناً منها المصيصة وحموم وغيرهما. واضطرب أهلها من الخوف فأعطوا طاعتهم ورجع العساكر إلى حلب. وبلغ السلطان لاشين أن التتر قاصدون الشام فجهز العساكر إلى دمشق مع جمال الدين أتوش الأفرم وأمره أن يخرج العساكر من دمشق إلى حلب مع قفجق النائب فسار إلى حمص وأقام بها. ثم بلغهم الخبر برجوع التتر ووصل أمر السلطان إلى سيف الدين الطباخي نائب حلب بالقبض على بكتمر السلحدار والألفي نائب صفد وجماعة من الأمراء بحلب بسعاية بكتمر. وحاول الطباخي ذلك فتعذر عليه وبرز تدلار إلى بسار فتوفي بها وأقام الآخرون. وشعروا بذلك فلحقوا بقفجق النائب على حمص فأمنهم وكتب إلى السلطان يشفع فيهم فأبطأ جوابه. وعزله سيف الدين كرجي وعلاء الدين أيدغري من إجارتهم فاستراب وولى السلطان مكانه على دمشق جاغان فكتب إلى قفجق بطلبهم فنفروا وافترق عسكره وعبر الفرات إلى العراق ومعه أصحابه بعد أن قبضوا على نائب حمص واحتملوه. ولحقهم الخبر بقتل السلطان لاشين وقد تورطوا في بلاد العدو فلم يمكنهم الرجوع. ووفدوا على غازان بنواحي واسط وكان قفجق من جند التتر وأبوه من جند غازان خصوصاً. ولما وقعت الفتنة بين لاشين وغازان وكان فيروز أتابك غازان مستوحشاً من سلطانه فكاتب لاشين في اللحاق به واطلع سلطانه على كتبه فأرسل إلى شاه نائب حران فقبض على فيروز وقتله وقتل غازان أخويه في بغداد والله تعالى أعلم. مقتل لاشين وعود الناصر محمد بن قلاوون إلى ملكه كان السلطان لاشين قد فوض أمر دولته إلى مولاه منكوتمر فاستطال وطمع في الاستبداد ونكره الأمراء كما قدمناه فأغرى السلطان بهم وشردهم كل مشرد بالنكبة والإبعاد. وكان سيف الدين كرجي من الجاشنكير ومقدماً عليهم كما كان قرا سنقر مع الأشرف. وكان جماعة المماليك معصوصبين عليه. وسعى منكوتمر في نيابته على القلاع التي افتتحت من الأرمن ببلاد سيس فاستعفى من ذلك وأسرها في نفسه وأخذ في السعاية على منكوتمر وظاهره على أمره قفجي من كبار الجاشنكيرية. وكان لطقجي صهر من كبار الجاشنكيرية اسمه طنطاي أغلظ له منكوتمر يوماً في المخاطبة فامتعض وفزع إلى كرجي وطقجي فاتفقوا على اغتيال السلطان. وقصدوه ليلاً وهو يلعب بالشطرنج وعنده حسام الدين قاضي الحنفية فأخبره كرجي بغلق الأبواب على المماليك فنكره ولم يزل يتصرف أمامه حتى ستر سيفه بمنديل طرحه عليه. فلما قام السلطان لصلاة العتمة نحاها عنه وعلاه بالسيف. وافتقد السلطان سيفه فتعاوروه بسيوفهم حتى قتلوه وهموا بقتل القاضي ثم تركوه. وخرج كرجي إلى طقجي بمكان انتظاره وقصدوا منكوتمر وهو بدار النيابة فاستجار بطقجي فأجاره وحبسه بالجب ثم راجعوا رأيهم واتفقوا على قتله فقتلوه. وكان مقتل لاشين في ربيع سنة ثمان وتسعين وكان من موالي علي بن المعز أيبك فلما غرب للقسطنطينية تركه بالقاهرة واشتراه المنصور قلاوون من القاضي بحكم البيع على الغائب بألف درهم وكان يعرف بلاشين الصغير لأنه كان هناك لاشين آخر أكبر منه وكان ولما قتل اجتمع الأمراء وفيهم ركن الدين بيبرس الجاشنكير وسيف الدين سلار أستاذ دار وحسام الدين لاشين الرومي وقد وصل على البريد من بلاد سيس جمال الدين أقوش الأفرم وقد عاد من دمشق بعد أن أخرج النائب والعساكر إلى حمص وعز الدين أيبك الخزندار وبدر الدين السلحدار فضبطوا القلعة. وبعثوا إلى الناصر محمد بن قلاوون بالكرك يستدعونه للملك فاعتزم طقجي على الجلوس على التخت واتفق وصول الأمراء الذين كانوا بحلب منصرفين من غزاة سيس وفيهم سيف الدين كرجي وشمس الدين سرقنشاه ومقدمهم بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح فأشار الأمراء على طقجي بالركوب للقائهم فأنف أولاً ثم ركب ولقيهم وسألوه عن السلطان فقال قتل فقتلوه. وكان كرجي عند القلعة فركب هارباً وأدرك عند القرافة وقتل ودخل بكتاش والأمراء القلعة لحول من غزاة سيس. ثم اجتمعوا بمصر وكان الأمر دائراً بين سلار وبيبرس وأيبك الجامدار وأقوش الأفرم وبكتمر أمير جندار وكرت الحاجب وهم ينتظرون وصول الناصر من الكرك وكتبوا إلى الأمراء بدمشق بما فعلوه فوافقوا عليه ثم قبضوا على نائبها جاغان الحسامي. وتولى ذلك بهاء الدين قرا أرسلان السيفي فاعتقل ومات لأيام قلائل فبعث الأمراء بمصر مكانه سيف الدين قطلوبك المنصوري. ثم وصل الناصر محمد بن قلاوون إلى مصر في جمادى سنة ثمان وتسعين فبايعوا له وولى سلار نائباً وبيبرس أستاذ دار وبكتمر الجو كندار أمير جندار وشمس الدين الأعسر وزيراً وعزل فخر الدين بن الخليلي بعد أن كان أقرة وبعث على دمشق جمال الدين أقوش الأفرم عوضاً عن سيف الدين قطلوبك واستدعاه إلى مصر فولاه حاجباً وبعث على طرابلس سيف الدين كرت وعلى الحصون سيف الدين كراي وأقر بليان الطباخي على حلب وأفرج عن قرا سنقر المنصوري وبعثه على الضبينة ثم نقله إلى حماة عندما وصله وفاة صاحبها المظفر آخر السنة وخلع على الأمراء وبث العطايا والأرزاق. واستقر في ملكه وبيبرس وسلار مستوليان عليه والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. الفتنة مع التتر قد كنا قدمنا ما كان من فرار قفجق نائب دمشق إلى غازان وحدوث الوحشة بين المملكتين فشرع غازان في تجهيز العساكر إلى الشام وبعث شلامش بن أمال بن بكو في خمسة وعشرين ألفاً في عساكر المغل ومعه أخوه قطقطو وأمره بالمسير من جهة سيس فسار لذلك. ثم حدثته نفسه بالملك فخاضع وطلب الملك لنفسه وكاتب ابن قزمان أمير التركمان فسار إليه في عشرة آلاف فارس. وسار في ستين ألف فارس وسار إلى سيواس فامتنعت عليه وكتب إلى صاحب مصر مع خلص الرومي يستنجده فبعث إلى نائب دمشق بإنجاده وبلغ الخبر غازان فبعث لقتاله مولاي من أمراء التتر في خمسة وثلاثين ألف فارس ولحقه إلى سيواس فانتقض عليه العسكر ورجع التتر إلى مولاي. ولحق التركمان بالجبال ولحق هو بسيس في فل من العسكر وسار إلى دمشق ثم إلى مصر وسأل من السلطان لاشين أن يمده بعسكر ينقل به عياله إلى الشام فأمر السلطان نائب حلب أن ينجده على ذلك فبعث معه عسكراً عليهم بكتمر الحلبي وساروا إلى سيواس فاعترضهم التتر وهزموهم وقتل الحلبي ونجا شلامش إلى بعض القلاع فاستنزله غازان وقتله واستقر أخوه قطقطو ومخلص بمصر وأقطع لهما وانتظما في عسكر مصر والله تعالى أعلم. |
واقعة التتر مع الناصر واستيلاء غازان علي الشام ثم ارتجاعه منه
قد كنا قدمنا ما حدث من الوحشة بين التتر وبين الترك بمصر وقدمنا من أسبابها ما قدمناه. فلما بويع الناصر بلغه أن غازان زاحف إلى الشام فتجهز وقدم العساكر مع قطلبك الكبير وسيف الدين غزار. وسار على أثرهم آخر سنة ثمان وسبعين وانتهى إلى غزة فنمي إليه أن بعض المماليك مجمعون للتوثب عليه وأن الأربدانية الذين وفدوا من التتر على كتبغا داخلوهم في ذلك. وبينما هو يستكشف الخبر إذ بمملوك من أولئك قد شهر سيفه وأخرق صفوف العسكر وهم مصطفون بظاهر غزة فقتل لحينه وتتبع أمرهم من هذه البادرة حتى ظهرت جليتها فسبق الأربدانية ومقدمهم طرنطاي وقتل بعض المماليك وحبس الباقين بالكرك. ورحل السلطان إلى عسقلان ثم إلى دمشق. ثم سار ولقي غازان ما بين سلمية وحمص بمجمع المروج ومعه الكرج والأرمن وفي مقدمته أمراء الترك الذين هربوا من الشام وهم قفجق المنصوري وبكتمر السلحدار وفارس الدين ألبكي وسيف الدين غزار فكانت الجولة منتصف ربيع فانهزمت ميمنة التتر وثبت غازان. ثم حمل على القلب فانهزم الناصر واستشهد كثير من الأمراء وفقد حسام الدين قاضي الحنفية وعماد الدين إسماعيل ابن الأمير وسار غازان إلى حمص فاستولى على الذخائر السلطانية. وطار الخبر إلى دمشق فاضطربت العامة وثار الغوغاء وخرج المشيخة إلى غازان يقدمهم بدر الدين بن جماعة وتقي الدين بن تيمية وجلال الدين القزويني. وبقي البلد فوضى وخاطب المشيخة غازان في الأمان فقال قد خالفكم إلى بلدكم كتاب الأمان. ووصل جماعة من أمرائه فيهم إسماعيل ابن الأمير والشريف الرضي وقرأ كتاب الأمان ويسمونه بلغاتهم الفرمان. وترجل الأمراء بالبساتين خارج البلد وامتنع علم الدين سلحدار بالقلعة فبعث إليه إسماعيل يستنزله بالأمان فامتنع فبعث إليه المشيخة من أهل دمشق فزاد امتناعاً ودس إليه الناصر بالتحفظ. وأن المدد على غزة ووصل قفجق بكتمر فنزلوا الميدان وبعثوا إلى سنجر صاحب القلعة في الطاعة فأساء جوابهم وقال لهم إن السلطان وصل وهزم عساكر التتر التي اتبعته. ودخل قفجق إلى دمشق فقرأ عهد غازان له بولاية دمشق والشام جميعاً وجعل إليه ولاية القضاء وخطب لغازان في الجامع وانطلقت أيدي العساكر في البلد بأنواع جميع العيث وكذا في الصالحية والقرى التي بها والمزة وداريا. وركب ابن تيمية إلى شيخ الشيوخ نظام الدين محمود الشيباني. وكان نزل بالعادلية فأركبه معه إلى الصالحية وطردوا منها أهل العيث وركب المشيخة إلى غازان شاكين فمنعوا من لقائه حذراً من سطوته بالتتر فيقع الخلاف ويقع وبال ذلك على أهل البلد. فرجعوا إلى الوزير سعد الدين ورشد الدين فأطلقوا لهم الأسرى والسبي. وشاع في الناس أن غازان أذن للمغل في البلد وما فيه ففزع الناس إلى شيخ الشيوخ وفرضوا على أنفسهم أربعمائة ألف درهم مصانعة له على ذلك وأكرهوا على غرمها بالضرب والحبس حتى كملت. ونزل التتر بالمدرسة العادلية فأحرقها أرجواش نائب القلعة ونصب المنجنيق على القلعة بسطح جامع بني أمية فأحرقوه فأعيد عمله. وكان المغل يحرسونه فانتهكوا حرمة المسجد بكل محرم من غير استثناء وهجم أهل القلعة فقتلوا النجار الذي كان يصنع المنجنيق وهدم نائب القلعة أرجواش ما كان حولها من المساكن والمدارس والأبنية ودار السعادة وطلبوا ما لا يقدرون عليه وامتهن القضاة والخطباء وعطلت الجماعات والجمعة وفحش القتل والسبي وهدمت دار الحديث وكثير من المدارس. ثم قفل إلى بلده بعد أن ولي على دمشق والشام قفجق وعلى حماة بكتمر السلحدار وعلى صفد وطرابلس والساحل فارس الدين ألبكي وخلف نائبه قطلوشاه في ستين ألفاً حامية للشام واستصحب وزيوه بدر الدين بن فضل الله وشرف الدين ابن الأمير وعلاء الدين بن القلانسي. وحاصر قطلوشاه القلعة فامتنعت عليه فاعتزم على الرحيل وجمع له قفجق الأوغاد في جمادى من السنة وبقي قفجق منفرداً بأمره فأمن الناس بعض الشيء وأمر مماليكه ورجعت عساكر التتر من اتباع الترك بعد أن وصلوا إلى القدس وغزة والرملة واستباحوا ونهبوا وقائدهم يومئذ مولاي من أمراء التتر فخرج إليه ابن تيمية واستوهبه بعض الأسرى فأطلقهم. وكان الملك الناصر لما وصل إلى القلعة ووصل معه كتبغا العادل وكان حضر معه المعركة من محل نيابته بصرخد. قلما وقعت الهزيمة سار مع السلطان إلى مصر وبقي في خدمة النائب سلار وجرد السلطان العساكر وبث النفقات وسار إلى الصالحية وبلغه رحيل غازان عن الشام. ووصل إليه بليان الطباخي نائب حلب على طريق طرابلس وجمال الدين الأفرم نائب دمشق وسيف الدين كراي نائب طرابلس. واتفق السلطان في عساكرهم وبلغه أن قطلوشاه نائب غازان وحل من الشام على أثر غازان فتقدم بيبرس وسار في العساكر ووقعت المراسلة بينه وبين قفجق وبكتمر والبكى فأذعنوا للطاعة ووصلوا إلى بيبرس وسلار فبعثوا بهم إلى السلطان وهو في الصالحية في شعبان من السنة فركب للقائهم وبالغ في تكرمتهم والإقطاع لهم. وولى قفجق على الشوبك ورحل عائداً إلى مصر. ودخل بيبرس وسلار إلى مصر وقرروا في ولايتها جمال الدين أقوش الأفرم بدمشق وفي نياية حلب قرا سنقر المنصوري الجوكندار لاستعفاء بليان الطباخي عنها وفي طرابلس سيف الدين قطلبك وفي حماة كتبغا العادل وفي قضاء دمشق بدر الدين بن جماعة لوفاة إمام الدين بن سعد الدين القزويني. وعاد بيبرس وسلار إلى مصر منتصف شوال وعاقب الأفرم كل من استخدم للتتر من أهل دمشق. وأغزى عساكره جبل مروان والدرزية لما نالوا من العسكر عند الهزيمة وألزم أهل دمشق بالرماية وحمل السلاح. وفرضت على أهل دمشق ومصر الأموال عن بعث الخيالة والمسكن لأربعة أشهر وضمان للقرى وكثر الأرجاف سنة سبعمائة بحركة التتر فتوجه السلطان إلى الشام بعد أن فرض على الرعية أموالاً واستخرجها لتقوية عساكره. وأقام بظاهر غزة أياماً يؤلف فيها الأمصار. ثم بعث ألفي فارس إلى دمشق وعاد إلى مصر منسلخ ربيع الآخر. وجاء غازان بعساكره وأجفلت الرعايا أمامه حتى ضاقت بهم السبل والجهات فنزل ما بين حلب ومرس ونازلها واكتسح البلاد إلى إنطاكية وجبل السمر وأصابهم هجوم البرد وكثرة الأمطار والوحل وانقطعت الميرة عنهم وعدمت الأقوات وصوعت المراعي من كثرة الثلج وارتحلوا إلى بلادهم. وكان السلطان قد جهز العساكر كما قلنا إلى الشام صحبة بكتمر السلحدار نائب صفد وولى مكانه سيف الدين فنحاص المنصوري. ثم وقعت المراسلة بين السلطان الناصر وبين غازان وجاءت كتبه وبعث الناصر كتبه ورسله وولى السلطان على حمص فارس الدين البكي والله سبحاه وتعالى أعلم. وفاة الخليفة الحاكم وولاية ابنه المستكفي والغزاة إلى العرب بالصعيد ثم توفي الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد وهو الذي ولاه الظاهر وبايع له سنة ستين فتوفي سنة إحدى وسبعمائه لإحدى وأربعين سنة من خلافته وقد عهد لابنه أبي الربيع سليمان فبايع له الناصر ولقبه المستكفي وارتفعت شكوى الرعايا في الصعيد من الأعراب وكثر عيثهم فجهز إليهم السلطان العساكر مع شمس الدين قرا سنقر فاكتسحهم. وراجعوا الطاعة وقرر عليهم مالاً حملوه ألف ألف وخمسمائة ألف درهم وألف فرس واحداً وألفي جمل اثنين وعشرة آلاف من الغنم. وأظهروا الإستكانة ثم أظهروا النفاق فسار إليهم كافل المملكة سلار وبيبرس في العساكر فاستلحموهم وأبادوهم وأصابوا أموالهم ونعمهم ورجعوا. وأستأذن بيبرس في قضاء فرضه فخرج حاجاً وكان أبو نمي أمير مكة قد توفي وقام بأمره في مكة ابناه رميثة وخميصة واعتقلا أخويهما عطيفة وأبا الغيث فنقبا السجن وجاءا إلى بيبرس مستعدين على أخويهما فقبض عليهما بيبرس وجاء بهما إلى القاهرة. وفي سنة ستين وسبعمائة بعدها خرجت الشواني مشحونة بالمقاتلة إلى جزيرة أرواد في بحر طرطوس وبها جماعة من الإفرنج قد حصنوها وسكنوها فملكوها وأسروا أهلها وخربوها وأذهبوا آثارها والله تعالى ولي انتوفيق. |
تقرير العهد لأهل الذمة
حضر في سنة سبعمائة وزير من المغرب في غرض الرسالة فرأى حال أهل الذمة وترفهم وتصرفهم في أهل الدولة فنكره وقبح ذلك واتصل بالسلطان نكيره فأمر بجمع الفقهاء للنظر في الحدود التي تقف عندها أهل الذمة بمقتضى عهود المسلمين لهم عند الفتح وأجمع الملأ فيهم على ما نذكر وهو أن يميز بين أهل الذمة بشعار يخصهم فالنصارى بالعمائم السود واليهود بالصفر والنساء منهن بعلامات تناسبهن. وأن لا يركبوا فرساً ولا يحملوا سلاحاً إذا ركبوا الحمير يركبونها عرضاً ويتنحون وسط الطريق ولا يرفعوا أصواتهم فوق صوت المسلمين ولا يعلوا بناءهم على بناء المسلمين ولا يظهروا شعائرهم ولا يضربوا بالنواقيس ولا ينصروا مسلماً ولا يهودوه ولا يشتروا من الرقيق مسلماً ولا من سباة مسلم ولا من جرت عليه سهام المسلمين. ومن دخل منهم الحمام يجعل في عنقه جرساً يتميز به. ولا ينقشوا فص الخاتم بالعربي ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يخدموا أعمالهم الشاقة مسلماً. ولا يرفعوا النيران. ومن زنى منهم بمسلمة قتل. وقال البطرك بحضرة العدول حرمت على أهل ملتي وأصحابي مخالفة ذلك والعدول عنه. وقال رئيس اليهود أوقعت الكلمة على أهل ملتي وطائفتي وكتب بذلك إلى الأعمال. ولنذكر في هذا الموضع نسخة كتاب عمر بالعهد لأهل الذمة بعد كتاب نصارى الشام ومصر ونصه هكذا كتاب لعبد لله عمر أمير المؤمنين من نصارى أهل الشام ومصر لما قدمتم علينا سألناك الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا على منا أن لا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا علية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا ما كان في خطط. وأن نوسع أبوابنا للمارة ولبني السبيل وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوساً ولا نكتم عيباً للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شرعنا ولا ندعو إليه أحداً ولا نمنع أحداً من ذي قرابتنا الدخول في دين الإسلام إن أرادوه. وأن نوقر مسلمين ونقوم لهم في مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من سهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتسمى بأسمائهم ولا نتكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد بالسيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش على خواتمنا بالعربية. وأن نجر مقدم رؤوسنا ونكرم نزيلنا حيث كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا ولا نظهر صلباننا ولا نفتح كنفنا في طريق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب بنواقيسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانيننا ولا طواغيتنا. ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نوقد النيران في طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين ولا نطلع في منازلهم ولا نعلي منازلنا. فلما أتي عمر بالكتاب زاد فيه. ولا نضرب أحداً من المسلمين شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطنا لكم علينا وضمناه على أنفسنا وأهل ملتنا فلا ذمة لنا عليكم وقد حل بنا ما حل بغيرنا من أهل المعاندة والشقاق. فكتب عمر رضي الله عنه أمض ما سألوه وألحق فيه حرفاً اشترطه عليهم مع ما اشترطوه من ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده. وعلى أحكام هذا الكتاب جرت فتاوى الفقهاء في أهل الذمة نصاً وقياساً. وأما كنائسهم فقال أبو هريرة أمر عمر بهدم كل كنيسة استحدثت بعد الهجرة ولم يبق إلا ما كان قبل الإسلام. وسير عروة بن محمد فهدم الكنائس بصنعاء وصالح القبط على كنائسهم وهدم بعضها ولم يبق من الكنائس إلا ما كان قبل الهجرة. وفي إباحة رمها وإصلاحها لهم خلاف معروف بين الفقهاء والله تعالى ولي التوفيق. ثم تواترت الأخبار سنة اثنتين وسبعمائة بحركة التتر وأن قطلو شاه وصل إلى جهة الفرات وأنه قدم كتابه إلى نائب حلب بأن بلادهم محلة وأنهم يرتادون المراعي بنواحي الفرات فخادع بذلك عن قصده ويوهم الرعية أن يجفلوا من البسائط. ثم وصلت الأخبار بإجازتهم الفرات فأجفل الناس أمامهم كل ناحية ونزل التتر مرعش. وبث العساكر من مصر مدداً لأهل الشام فوصلوا إلى دمشق وبلغهم هنالك أن السلطان قازان وصل في جيوش التتر إلى مدينة الرحبة ونازلها فقدم نائبها قرى وعلوفة واعتذر له بأنه في طاعته إلى أن يرد الشام فإن ظفر به فالرحبة أهون شيء وأعطاه ولده رهينة على ذلك فأمسك عنه ولم يلبث أن عبر الفرات راجعاً إلى بلاده. وكتب إلى أهل الشام كتاباً مطولاً ينذرهم فيه أن يستمدوا عسكر السلطان أو يستجيشوه ويخادعهم بلين القول وملاطفته وتقدم قطلو شاه وجوبان إلى الشام بعساكر التتر يقال في تسعين ألفاً أو يزيدون. وبلغ الخبر إلى السلطان فقدم العساكر من مصر وتقدم بيبرس كافل المملكة إلى الشام والسلطان وسلار على أثره ومعهم الخليفة أبو الربيع. وساروا في التعبية. وفى خل بيبرس دمشق وكان النائب بحلب قرا سنقر المنصوري وقد اجتمع إليه كتبغا العادل نائب حماة وأسد الدين كرجي نائب طرابلس بمن معهم من العساكر فأغار التتر على القريتين وبها أحياء من التركمان كانوا أجفلوا أمامهم من الفرات فاستاقوا أحياءهم بما فيها وأتبعهم العساكر من وزحف قطلو شاه وجوبان بجموعهما إلى دمشق يظنان أن السلطان لم يخرج من مصر والعساكر والمسلمون مقيمون بمرج الصفر وهو المسمى بشقحب مع ركن الدين بيبرس ونائب دمشق أقوش الأفرم ينتظرون وصول السلطان فارتابوا لزحف التتر وتأخروا عن مراكزهم قليلاً وارتاعت الرعايا من تأخرهم فأجفلوا إلى نواحي مصر. وبينما هم كذلك إذ وصل السلطان في عساكره وجموعه غرة رمضان من السنة فرتب مصافه وخرج لقصدهم فالتقى الجمعان بمرج الصفر وحمل التتر على ميمنة السلطان فثبت الله أقدامهم وصابروهم إلى أن غشيهم الليل واستشهد جماعة في الجولة. ثم انهزم التتر ولجأوا إلى الجبل يعتصمون به واتبعهم السلطان فأحاط بالجبل إلى أن أظل الصباح. وشعر المسلمون باستماتتهم فأفرجوا لهم من بعض الجوانب وتسلل معظمهم مع قطلوشاه وجوبان وحملت العساكر الشامية على من بقي منهم فاستلحموهم وأبادوهم. وأتبعت الخيول آثار المنهزمين وقد اعترضتهم الأحوال بما كان السلطان قدم إلى أهل الأنهار بين أيديهم فبثقوها ووحلت خيولهم فيها فاستوعبوهم قتلاً وأسراً. وكتب السلطان إلى قازان بما يجدد عليه الحسرة ويملأ قلبه رعباً وبعث البشائر إلى مصر. ثم دخل إلى دمشق وأقام بها عيد الفطر وخرج لثالثه منها إلى مصر فدخلها آخر شوال في موكب حفل ومشهد عظيم وقر الإسلام بنصره وتيمن بنقيب نوابه وأنشده الشعراء في ذلك. وفي هذه السنة توفي كتبغا العادل نائب حماة وهو الذي كان ولي الملك بمصر كما تقدم ذكره فدفن بدمشق. وتوفي أيضاً بليان الجو كندار نائب حمص. وتوفي أيضاً القاضي تقي الدين بن دقيق العيد بمصر لولايته ست سنين بها وولي مكانه بدر الدين بن جماعة. وهلك قازان ملك التتر يقال أصابته حمى حادة للهزيمة التي بلغته فهلك وولي أخوه خربندا. وفيها أفرج السلطان عن رميثة وحميصة ولدي الشريف أبي نمي وولاهما بدلاً من أخويهما عطيفة وأبي الغيث والله تعالى أعلم. أخبار الأرمن أخبار الأرمن وغزو بلادهم وادعاؤهم الصلح ثم مقتل ملكهم صاحب سيس على يد التتر قد كان تقدم لنا ذكر هؤلاء الأرمن وإنهم وأخوتهم الكرج من ولد قويل بن ناحور بن آزر وناحور أخو إبراهيم عليه السلام. وكانوا أخذوا بدين النصرانية قبل الملة وكانت مواطنهم أرمينية وهي منسوبة إليهم. وقاعدتها خلاط وهي كرسي ملكهم ويسمى ملكهم النكفور. ثم ملك المسلمون بلادهم وضربوا الجزية على من بقي منهم واختلف عليهم الولاة ونزلت بهم الفتن وخربت خلاط فانتقل ملكهم إلى سيس عند الدروب المجاورة لحلب وانزووا إليها وكانوا يؤذون الضريبة للمسلمين. وكان ملكهم لعهد نور الدين العادل قليج بن اليون وهو صاحب ملك الدروب واستخدم للعادل وأقطع له وملك المصيصة وأردن من يد الروم. وأبقاه صلاح الدين بعد العادل نور الدين على ما كان عليه من الخدمة. وغدر في بعض السنين بالتركمان فغزاهم صلاح الدين وأخنى عليهم حتى أذعنوا ورجع إلى حاله من أداء الجزية والطاعة وحسن الجوار بثغور حلب. ثم ملكها لعهد الظاهر هيثوم بن قسطنطين بن يانس ويظهر أنه من أعقاب قليج أو من أهل بيته. ولما ملك هلاكو العراق والشام دخل هيثوم في طاعته وأقره على سلطانه وأجلب مع التتر في غزواتهم على الشام. وغزا سنة اثنتين وستين صاحب بلاد الروم من التتر واستنفر معه بني كلاب من أعراب حلب. وعاثوا في نواحي عنتاب. ثم ترهب هيثوم بن قسطنطين ونصب ابنه ليون للملك. وبعث الظاهر العساكر سنه أربع وستين ومعه قلاوون المنصور صاحب حماة إلى بلادهم فلقيهم ليون في جموعه قبل الدربند فانهزم وأسر وخرب العساكر مدينة سيس. وبذل هيثوم الأموال والقلاع في فداء ابنه ليون فشرط عليه الظاهر أن يستوهب سنقر الأشقر وأصحابه من أبغا بن هلاكو. وكان هلاكو أخذهم من سجن حلب فاستوهبهم وبعث بهم وأعطى خمساً من القلاع منها رغبان ومرزبان لما توفي هيثوم سنة تسع وستين. وملك بعده ابنه ليون وبقي الملك في عقبه. وكان بينهم وبين الترك نفرة واستقامة لقرب جوارهم من حلب. والترك يرددون العساكر إلى بلادهم حتى أجابوا بالصلح على الطاعة والجزية وشحنة التتر مقيم عندهم بالعساكر من قبل شحنة بلاد الروم. ولما توفي ليون ملك بعده ابنه هيثوم ووثب عليه أخوه سنباط فخلعه وحبسه بعد أن سمل عينه الواحدة وققل أخاهما الأصغر يروس. ونازلت عساكر الترك لعهده قلعة حموض من قبل العادل كتبغا فاستضعف الأرمن سنباط وهموا به فلحق بالقسطنطينية وقدموا عليهم أخاه رندين فصالح المسلمين وأعطاهم مرعش وجميع القلاع على جيحان وجعلوها تخماً ورجعت العساكر عنهم. ثم أفرج رندين عن أخيه هيثوم الأعور سنة تسع وستين فأقام معه قليلاً. ثم وثب برندين ففر إلى القسطنطينية. وأقام هيثوم بسيس في ملك الأرمن وقدم ابن أخيه تروس معسول أتابكاً واستقامت دولته فيهم. وسار مع قازان في وقعته مع الملك الناصر فعاث الأرمن في البلاد واستردوا بعض قلاعهم وخربوا تل حمدون. فلما هزم الناصر التتر سنة اثنتين وسبعمائة بعث العساكر إلى بلادهم فاسترجعوا القلاع وملكوا حمص واكتسحوا بسائط سيس وما إليها ومنع الضريبة المقررة عليهم فأنقذ نائب حلب قرا سنقر المنصوري سنة سبع وستمائة العساكر إليهم مع أربعة من الأمراء فعاثوا في بلادهم. واعترضهم شحنة التتر بسيس فهزموهم وقتل أميرهم وأسر الباقون. وجهز العساكر من مصر مع بكتاش الفخري أمير سلاح من بقية البحرية وانتهوا إلى غزة وخشي هيثوم مغبة هذه الحادثة فبعث إلى نائب عب بالجزية التي عليهم لسنة خمس وقبلها. وتوسل بشفاعته إلى السلطان فشفعه وأمنه وكان شحنة التتر ببلاد الروم لهذا العهد أرفلي وكان قد أسلم لما أسلم أبغا وبنى مدرسة بإذنه وشيد فيها مئذنة. ثم حدث بينه وبين هيثوم صاحب سيس وحشة فسعى فيه هيثوم عند خربندا ملك التتر بأنه مداخل لأهل الشام وقد واطأهم على ملك سيس وما إليها وشهد له بالمدرسة والمئذنة وكتب بذلك إلى أرفلي بعض قرابته فأسرها في نفسه واغتاله في صنيع دعاه إليه. وقبض على وافد من مماليك الترك كان عند هيثوم من قبل نائب حلب يطلب الجزية المقررة عليه وهو ايدغدي الشهرزوري. ولم يزل في سجن التتر إلى أن فر من محبسه بتوريز سنة عشر وسبعمائة. ونصب لملك سيس أوشني بن ليون وسار أرفلي إلى خربندا بفسابقه ألتاق أخو هيثوم بنسائه وولده مستعدين عليه فتفجع لهم خربندا وسط أرفلي وقتله وأقر أوشين أخاه في ملكه لسيس فبادر إلى مراسلة الناصر بمصر وتقرير الجزية عليه كما كانت وما زال يبعثها مع الأحيان والله |
مراسلة ملك المغرب ومهاداته
كان ملك المغرب الأقصى من بني مرين المتولين أمره من بعد الموحدين وهو يوسف بن يعقوب بن عبد الحق قد بعث إلى السلطان الناصر سنة أربع وسبعمائة رسوله علاء الدين ايدغدي الشهرزوري من الشهرزورية المقربين هنالك أيام الظاهر بيبرس ومعه هدية حافلة من الخيل والبغال والإبل وكثير من ماعون المغرب وسائر طرفه وجملة من الذهب العين في ركب عظيم من المغاربة ذاهبين لقضاء فرضهم. فقابلهم السلطان بأبلغ وجوه بالتكرمة وبعث معهم أميراً لإكرامهم وقراهم في طريقهم حتى قضوا فرضهم وعاد الرسول ايدغدي المذكور من حجه سنة خمس فبعث السلطان معه مكافأة هديتهم بما يليق بها من النفاسة وعين لذلك أميرين من بابه ايدغدي البابلي وايدغدي الخوارزمي كل منهما لقبه علاء الدين فانتهوا إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان كما هو في ربيع الآخر سنة ست فقابلهم بما بجب لهم ولمرسلهم وأوسع لهم في الكرامة والحباء وبعثهم إلى ممالكه بفاس ومراكش ليتطوفا بها ويعاينا مسرتها. وهلك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان وانطلق الرسولان المذكوران من فاس راجعين من رسالتهما في رجب سنة سبع في ركب عظيم من أهل المغرب اجتمعوا عليهم لقصد الحج ولقوا السلطان أبا ثابت الجزولي من بعد يوسف بن يعقوب في طريقهم فبالغ في التكرمة والإحسان إليهم. وبعث إلى مرسلهم الملك الناصر بهدية أخرى من الخيل والبغال والإبل. ثم مروا بتلمسان وبها أبو زيان وأبو حمو ابنا عثمان بن يغمراسن فلم يصرفا إليهما وجهاً من القبول وطلبا منهما خفيراً يخفرهما إلى تخوم بلادهما لما كانت نواحي تلمسان قد اضطربت بعد مهلك يوسف بن يعقوب وما كان من شأنه فبعت معهما بعض العرب فلم يغن عنهم واعترضهم في طريقهم أشرار حصن من زغبة بنواحي المرية فبالغوا في الدفاع فلم يغن عنهم. واستولى الأشرار على الركب بما فيه ونهبوا جميع الحجاج ورسل الملك الناصر معهم. وخلصوا برؤوسهم إلى الشيخ بكر بن زغلي شيخ بني يزيد بن زغبة بوطن حمزة بنواحي بجاية فأوصلهم إلى السلطان ببجاية أبي البقاء خالد من ولد الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص من ملوك إفريقية فكساهم وحملهم إلى حضرة تونس وبها السلطان أبو عصيدة محمد بن يحيى الواثق من بني عمه فبالغ في تكرمتهم. وسافر معهم إبراهيم بن عيسى من بني وسنار أحد أمراء بني مرين كان أميراً على الغزاة بالأندلس وخرج لقضاء فرضه فمر بتونس واستنهضه سلطانها على الإفرنج بجزيرة جربة فسار إليها بقومه ومعه عبد الحق بن عمر بن رحو من أعيان بني مرين. وكان الشيخ أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني يحاصرها في عسكر تونس فأقام معهم مدة. ثم استوحش أبو يحيى اللحياني من سلطانه بتونس فلحق بطرابلس وساروا جميعاً إلى مصر وتقدم السلطان بإكرامهم حتى قضوا فرضهم وعادوا إلى المغرب. واستمد أبو يحيى اللحياني السلطان الناصر فأمده بالأموال والمماليك وكان سبباً لاستيلائه على الملك بتونس كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى. وحشة الناصر من كافليه بيبرس وسلار ولحاقه بالكرك وخلعه والبيعة لبيبرس ثم عرضت وحشة بين السلطان الناصر وبين كافليه بيبرس وسلار سنة سبع فامتنع من العلامة على المراسم وترددت بينه وبينهم السعاة بالعتاب وركب بعض الأمراء في ساحة القلعة من جوف الليل ودفعتهم الحامية وافترقوا. وامتعض السلطان لذلك وازداد وحشة. ثم سعى بكتمر الجوكندار في إصلاح الحال وحمل السلطان على تغريب بعض الخواص من مماليكه إلى القدس. وكان بيبرس ينسب إليهم هذه الفتنة ونشأتها من أجلهم ففر بهم السلطان وأعتب الأميرين. ثم أعيد الموالي من القدس إلى محلهم من خدمتهم واتهم السلطان الجوكندار في سعايته فسخطه وأبعده وبعثه نائباً عن صفد. ثم غص بما فيه من الجحر والاستبداد وطلب الحج فهجره بيبرس وسلار وسار على الكرك سنة ثمان. وودعه الأمراء واستصحب بعضاً منهم. فلما مر بالكرك دخل القلعة وأخرج النائب جمال الدين أقوش الأشرف إلى مصر وبعث عن أهله وولده مع المحمل الحجازي فعادوا إليه من العقبة وصرف الأمراء الذين توجهوا معه وأظهر الإنقطاع بالكرك للعبادة وأذن لهم في إقامة من يصلح لأمرهم فاجتمعوا بدار النيابة وتشاوروا واتفقوا على أن يكون بيبرس سلطاناً عليهم وسلار على نيابته. وبايعوا بيبرس في شوال سنة ثمان ولقبوه المظفر. وقلده الخليفة أبو الربيع وكتب للناصر بنيابة الكرك وعينت له أقطاع يختص بها. وقام سيف الدين سلار بالنيابة على عادة من قبله وأقر أهل الوظائف والرتب على مراتبهم. وبعث أهل الشام بطاعتهم واستقر بيبرس في سلطانه والله تعالى أعلم. انتقاض الأمير بيبرس وعود الناصر إلى ملكه ولما دخلت سنة تسع هرب بعض موالي الناصر فلحقوا بالكرك وقلق الظاهر بيبرس المظفر وبعث في أثرهم فلم يدركوهم واتهم آخرون فقبض عليهم ونشأت الوحشة لذلك. واتصلت المكاتبة من الأمراء الذين بالشام إلى السلطان بالكرك وخرج من مكانه يريد النهوض إليهم. ثم رجع ووصل كتاب نائب دمشق أقوش الأفرم فتسكن الحال وبعث الجاشنكير بيبرس إلى السلطان برسالة مع الأمير علاء الدين مغلطاي ايدغلي وقطلوبغا تتضمن الأرجاف فثارت لها حفائظه وعاقب الرسولين وكاتب أمراء الشام يتظلم من بيببرس وأصحابه بمصر ويقول سلمت لهم في الملك ورضيت بالضنك رجاء الراحة فلم يرجعوا عني ووبعثوا إلي بالوعيد وإنهم فعلوا ما فعلوا بأولاد المعز أيبك وبيبرس الظاهر ومثل ذلك من القول ويستنجدهم ويمت إليهم بوسائل التربية والعتق في دفاع هؤلاء عنه وإلا لحقت ببلاد التتر. وبعث بهذه الرسالة مع بعض الجند كان مستخدماً بالكرك من عهد أقوش الأشرفي وأقام هنالك وكان مولعاً بالصيد فاتصل بالسلطان في مصايده. وبث إليه ذات يوم يشكواه فقال أنا أكون رسولك إلى أمراء الشام فبعث إليهم بهذه الرسالة فامتعضوا وأجابوه بالطاعة كما يحب منهم. وسار السلطان إلى البلقاء وأرسل جمال الدين أقوش الأفرم نائب دمشق إلى مصر فأخبر الجاشنكير بيبرس بالخال واستمده بالعساكر للدفاع فبعث إليه بأربعة آلاف من العساكر مع كبار الأمراء وأزاح عللهم وأنفق في سائر العساكر بمصر وكثر الأرجاف وشغبت العامة وتعين مماليك السلطان للخروج إلى النواحي استرابة بمكانهم. ووصل الخبر برجوع السلطان من البلقاء إلى الكرك لرأي رآه واستراب لرجعته سائر أصحابه وحاشيته. وخاف أن يهجمهم عساكر مصر بما كان يشاع عندهم من اعتزام بيبرس على ذلك. ثم دس السلطان إلى مماليكه وشيع إليهم فأجابوه وأعاد الكتاب إلى نواب الشام مثل شمس الدين أقسنقر نائب حلب وسيف الدين نائب حمص فأجابوه بالسمع والطاعة وبعث نائب حلب ولده إليه واستنهضوه للوصول فخرج من الكرك في شعبان سنة تسع ولحق به طائفة من أمراء دمشق. وبعث النائب أقوش أميرين لحفظ الطرقات فلحقا بالسلطان. وكتب بيبرس الجاشنكير إلى نواب الشام بالوقوف مع جمال الدين أقوش نائب دمشق والاجتماع على السلطان الناصر عن دمشق فأعرضوا ولحقوا بالسلطان وسار أقوش إلى البقاع والشقيف واستأمن إلى السلطان فبعث إليه بالأمان مع أميرين من أكابر أمرائه. وسار إلى دمشق فدخلها وهي خالصة يومئذ لسيف الدين بكتمر أمير جامدار جاءه من صفد وهاجر إلى خدمته فتلقاه وجازاه أحسن الجزاء. ثم وصل أقوش الأفرم فتلقاه السلطان بالميرة والتكرمة وأقره على نيابة دمشق. واضطربت أمور الجاشنكير بمصر وخرجت طائفة من مماليك السلطان هاربين إلى الشام فسرح في أثرهم العساكر فأدركوهم ونال الهاربون منهم قتلاً وجراحة ورجعوا وثاب العامة والغوغاء وأحاصوا بالقلعة وجاهروا بالخلعان. وقبض على بعضهم وعوقب فلم يزدهم إلا عتواً وتحاملاً. وارتاب الجاشنكير لحاله واجتمع الناس للحلف وحضر الخليفة وجدد عليه وعليهم الحلف وبعث نسخة البيعة لتقرأ بالجامع يوم الجمعة فصاح الناس بهم وهموا أن يحصبوهم على المنابر فرجع إلى النفقة وبذل المال واعتزم على المسير إلى الشام. وقدم أكابر الأمراء فلحقوا بالسلطان وزاد اضطراب بيبرس وخرج السلطان من دمشق منتصف رمضان وقدم بين يديه أميرين من أقراء غزة فوصلاها واجتمعت إليه العرب والتركمان وبلغ الخبر إلى الجاشنكير فجمع إليه شمس الدين سلار وبدر الدين بكتوت الجو كندار وسيف الدين السلحدار وفاوضهم في الأمر فرأوا أن الخرق قد اتسع ولم يبق إلا البدار بالرغبة إلى السلطان أن يقطعه الكرك أو حماة أو صهيون ويتسلم السلطان ملكه فأجمعوا على ذلك وبعثوا بيبرس الدوادار وسيف الدين بهادر بعد أن اشهد الجاشنكير بالخلع وخرج من القلعة إلى أطفيح بمماليكه فلم يستقر بها وتقدم قاصداً أسوان واحتمل ما شاء من المال والذخيرة وخيول الإسطبل. وقام بحفظ القلعة صاحبه سيف الدين سلار وكاتب السلطان يطالعه بذلك وخطب للسلطان على المنابر ودعي باسمه على المآذن وهتف باسمه العامة في الطرقات. وجهز سلار سائر شعار السلطنة ووصلت رسل الجاشنكير إلى السلطان بما طلب فأسعفه بصهيون وردهم إليه بالأمان والولاية ووافى السلطان عيد الفطر بالبركة ولقيه هنالك سيف الدين سلار وأعطاه الطاعة. ودخل السلطان إلى القلعة وجلس باقي العيد بالإيوان جلوساً فخماً واستخلف الناس عامة. وسأله سلار في الخروج إلى إقطاعه فأذن له بعد أن خلع عليه فخرج ثالث شوال وأقام ولده بباب السلطان. ثم بعث السلطان الأمراء إلى أخميم فانتزعوا من الجاشنكير ما كان احتمله من المال والذخيرة وأوصلوها إلى الخزائن ووصل معهم جماعة من مماليكه كانوا أمراء واختاروا الرجوع إلى السلطان. وولى السلطان سيف الدين بكتمر الجو كندار أمير جاندار نائباً بمصر وقرا سنقر المنصور نائباً بدمشق. وبعث نائبها الأفرم نائباً بصرخد وسيف الدين بهادر نائباً بطرابلس وخرجوا جميعاً إلى الشام. وقبض السلطان على جماعة من الأمراء ارتاب بهم وولى على وزارته فخر الدين عمر بن الخليلي عوضاً عن ضياء الدين أبي بكر ثم انصرف بيبرس الجاشنكير متوجهاً إلى صهيون وبها بهادر بها الأشجعي موكل به إلى حيث قصد ورجع عنه الأمراء الذين كانوا عنده إلى السلطان فاستضاف بعضهم إلى مماليكه واعتقل بعضهم. ثم بدا للسلطان في أمره وبعث إلى قرا سنقر وبهادر وهما مقيمان بغزة ولم ينفصلا إلى الشام أن يقبضا عليه فقبضا عليه وبعثا به إلى القلعة آخر ذي القعدة فاعتقل ومات هنالك والله تعالى ولي التوفيق. خبر سلار ومآل أمره لما انتقل السلطان الناصر إلى ملكه بمصر وكان لسلار من السعي في أمر وتمكين سلطانه ما ذكرناه وكانت له ذمه عند السلطان يعتني برعيها له. وكانت الشوبك من إقطاعه فرغب إلى السلطان في المسير إليها فيها فأذن له وخلج عليه وزاده في إقطاعه وإقطاع مماليكه واتبعه مائة من الطواشية بإقطاعهم. وسار من مصر إلى الشوبك في شوال سنة ثمان وسبعمائة. ثم بعث له داود المقسور بالكرك مضافاً إلى الشوبك وباللواء وبخلعة مذهبة ومركب ثقيل ومنطقة مجوهرة وأقام هنالك فلما كانت سنة عشر بعدها نمي إلى السلطان عن جماعة من الأمراء أنهم معتزمون على الثورة وفيهم أخو سلار فقبض عليهم جميعاً وعلى شيع سلار وحاشيته المذين بمصر وبعث علم الدين الجوالي لاستقدامه من الكرك تأنيساً له وتسكيناً فقدم في ربيع من السنة واعتقل إلى أن هلك في معتقله واستصفيت أمواله وذخائره بمصر والكرك وكانت شيئاً لا يعبر عنه من الأموال والفصوص واللآلئ والأقمصة والدروع والكراع والإبل. ويقال أنه كان يغل كل يوم من أقطاعه وضياعه ألف دينار. وأما أوليته فإنه لما خلص من أسر التتر صار مولى لعلاء الدين علي بن المنصور قلاوون ولما مات صار لأبيه قلاوون ثم لابنه الأشرف ثم لأخيه محمد بن الناصر. وظهر في دولهم كلها وكان بينه وبين لاشين موده فاستخدم له وعظم في دولته متقرباً في المراكب متحرياً لمحبة السلطان إلى أن انقرض أمره. ويقال أنه لما احتضر في محبسه قيل له قد رضي عنك السلطان فوثب قائماً ومشى خطوات ثم مات والله أعلم. |
الساعة الآن 12:07 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |