منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب تاريخ ابن خلدون (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8921)

ميارى 8 - 8 - 2010 03:22 PM

انتقاض النواب بالشام ومسرهم إلى التتر
وولاية تنكز على الشام كان قفجق نائب حلب قد توفي بعد أن ولاه السلطان فنقل مكانه إلى حلب الكرجي من حماة سنة عشر فتظلم الناس منه فقبض عليه ونقل إليها قرا سنقر المنصوري في نيابة دمشق وولى مكانه بدمش سيف الدين كراي المنصوري سنة إحدى عشرة‏.‏ ثم سخطه واعتقله وولى مكانه بدمشق جمال الدين اقوش الأشرفي نقله إليها من الكرك‏.‏ وتوفي وبها محمد نائب طرابلس فنقل إليها أقوش الأفرم من صرخد‏.‏ ثم قبض على بكتمر الجو كندار نائب مصر وحبسه بالكرك وجعل مكانه في الثانية بيبرس الدوادار‏.‏ غم ارقاب قرا سنقر نائب حلب فهرب إلى البرية واجتمع مع مهنا بن عيسى ويقال أنه استأذن السلطان في الحج فأذن له فلما توسط البرية استوعرها فرجع فمنعه الأمراء الذين بحلب من دخولها إلا بإذن السلطان فرجع إلى الفرات وبعث مهنا بن عيسى شافعاً له عند السلطان فقبله ورده إلى نياية حلب‏.‏ ثم بلغ السلطان أن خوبندا ملك التتر زاحف إلى الشام فجهز العساكر من مصر وتقدم إلى عساكر الشام بأن يجتمعوا معهم بحمص فارتاب قرا سنقر وخرج من حلب وعبر الفرات ثم راجع نفسه واستأمن السلطان على أن يقيم بالفرات فأقطعه السلطان الشوبك يقيم بها فلم يفعل وبقي بمكان من الفرات مع مهنا بن عيسى‏.‏ ثم ارتاب جماعة من الأمراء فلحقوا به وفيهم أقوش الأفرم نائب طرابلس وأمضوا عزمهم على اللحاق بخربندا فوصلوا إلى ماردين فتلقاهم صاحيها بالكرامة‏.‏ وحمل إليهم تسعين ألف درهم ورتب لهم الأتاوات‏.‏ ثم ساروا إلى خلاط إلى أن جاءهم إذن خربندا فساروا إليه واستحثوه للشام‏.‏ وبلغ الخبر إلى السلطان فاتهم الأمراء الذين في خدمته بالشام بمداخلة قرا سنقر وأصحابه فاستدعاهم وعساكرهم وبعث على حلب سيف الدين مكان قرا سنقر وعلى طرابلس بكتمر الساقي مكان أقوش‏.‏ وبعث على العرب فضل بن عيسى مكان أخيه مهنا‏.‏ ووصل الأمراء إلى مصر فقبض عليهم جميعاً وعلى أقوش الأشوقي نائب دمشق وولى مكانه تنكز الناصري سنة اثنتي عشرة وجعل له الولاية على سائر الممالك الإسلامية‏.‏ وقبض على نائبه بمصر بيبرس الدوادار وحبسه بالكرك وولى مكانه أرغون الدوادار وعسكر يظاهر القلعة‏.‏ وارتحل بعد عيد الفطر من السنة فلقيه الخبر أثناء طريقه بأن خربندا وصل إلى الرحبة ونازلها وانصرف عنها راجعاً فانكفأ السلطان إلى دمشق وفرق العساكر بالشام‏.‏ ثم سار إلى الكرك واعتزم على قضاء فرضه تلك السنة وخرج حاجاً من الكرك‏.‏ ورجع سنة ثلاث عشرة إلى الشام وبعث إلى مهنا بن عيسى يستميله وعاد الرسول بامتناعه‏.‏ ثم لحق سنة ست عشرة بخربندا وأقطعه بالعراق وأقام هنالك‏.‏ قلم يرجع إلا بعد مهلك خربندا والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ قد كان تقدم لنا أن حماة كانت من أقطاع تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب أقطعه إياها عمه صلاح الدين بن أيوب سنة أربع وسبعين وخمسمائة فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة فأقطعها ابنه ناصر الدين محمداً ولقبه المنصور‏.‏ وتوفي سنة سبع عشرة وستمائة بعد عمه صلاح الدين والعادل فوليها ابنه قليج أرسلان ويلقب الناصر سنة ست وعشرين وكان أخوه المظفر ولي عهد أبيه عند الكامل بن العادل فجهزة بالعساكر من دمشق وملكها من يد أخيه وأقام بها إلى أن هلك سنة ثلاث وأربعين وولى ابنه محمد ويلقب المنصور ولم يزل في ولايتها إلى أن سار يوسف بن العزيز ملك الشام من بني أيوب هارباً إلى مصر أيام التتر فسار معه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل‏.‏ ثم خشي من الترك بمصر فرجع إلى هلاكو واستمر المنصور إلى مصر فأقام بها‏.‏ وملك هلاكو الشام وقتل الناصر وسائر بني أيوب كما مر‏.‏ ثم سار قطز إلى الشام عندما رجع هلاكو عنه عندما شغل عنه بفتنة قومه فارتجعه من ملكة التتر وولى على قواعده وأمصاره ورد المنصور إلى حماة فلم يزل والياً عليها‏.‏ وحضر واقعة قلاوون على التتر بحمص سنة ثلاثين وكان يتردد إلى مصر سائر أيامه ويخرج مع البعوث إلى بلاد الأرمن وغيرها‏.‏ ويعسكر مع ملوك مصر متى طلبوه لذلك‏.‏ ثم توفي سنة ثلاث وثمانين وأقر قلاوون ابنه المظفر على ما كان أبوه وجرى هو معهم على سننه إلى أن توفي سنة ثمان وتسعين عندما بويع الناصر محمد بن قلاوون بعد لاشين وانقطع عقب المنصور فولى السلطان عليها قرا سنقر من أمراء الترك نقله إليها من الضبينة وأمره باستقرار بني أيوب وسائر الناس على إقطاعهم‏.‏ ثم كان استيلاء قازان على الشام ورجوعه سنة تسع وتسعين ومسير بيبرس وسلار وانتزاع الشام من التتر‏.‏ وكان كتبغا العادل الذي ملك مصر وخلعه لاشين نائباً بصرخد فجلا في هذه الوقائع وتنصح لبيبرس وسلار وحضر معهم بدمشق فولوه على حماة‏.‏ وغزا بالعساكر بلاد الأرمن وحضر هزيمة التتر مع الناصر سنة اثنتين وسبعمائة فرجع إلى حماة فمات بها‏.‏ وولى السلطان بعده سيف الدين قفجق استدعاه إليها من إقطاعه بالشوبك‏.‏ وكان الأفضل علاء الدين أخو المنصور صاحب حماة توفي أيام أخيه المنصور وخلف ولداً اسمه إسماعيل ولقبه عماد الدين ونشأ في دولتهم عاكفاً على العلم والأدب حتى توفر منهما حظه ولى كتاب في التاريخ مشهور‏.‏ ولما رجع السلطان الناصر من الكرك إلى كرسيه وسطا ببيبرس وسلار راجع نظره في الإحسان إلى أهل هذا البيت واختار منهم عماد الدين إسماعيل هذا وولاه على حماة مكان قومه سنة ست عشرة وسبعمائة‏.‏ وكان عند رجوعه إلى ملكه قد ولى نيابة حلب سيف الدين قفجق وجعل مكانه بحماة أيدمر الكرجي‏.‏ وتوفي قفجق فنقل أيدمر من حماة إلى حلب مكانه وولى إسماعيل على حماة كما قلنا ولقبه المؤيد ولم يزل عليها إلى أن توفي سنة اثنتين وثلاثين‏.‏ وولى الناصر ابنه الأفضل محمد برغبة أبيه إلى السلطان في ذلك‏.‏ ثم مات الملك الناصر في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وقام بعده بالأمر مولاه قوص ونصب ابنه أبا بكر محمداً فكان أول شيء أحدثه عزل الأفضل من حماة‏.‏ وبعث عليها مكانه صقر دمول النائب وسار الأفضل إلى دمشق فمات بها سمنة اثنتين وأربعين وانقرضت إيالة بني أيوب من حماة والبقاء لله وحده لا رب غيره ولا معبود سواه‏.‏ غزو العرب بالصعيد وفتح ملطية وآمد ثم خرج السلطان سنة ثلاث عشرة فعسكر بالأهرام مورياً بالنزهة وقد بلغه ما نزل بالصعيد من عيث العرب وفسادهم في نواحيه وأضرارهم بالسابلة فسرح العساكر في كل ناحية منه وأخذ الهلاك منهم مأخذه إلى أن تغلب عليهم واستباحهم من كل ناحية وشرد بهم من خلفهم‏.‏ ثم سرح العساكر سنة أربع عشرة بعدها إلى ملطية وهي للأرمن وملكها عنوة‏.‏ وسار لذلك تنكز نائب دمشق بعساكر الشام وستة من أمراء مصر ونازلوها في محرم سنة خمس عشرة وبها جموع من نصارى الأرمن والعربان وقليل من المسلمين تحت الجزية فقاتلوهم حتى ألقوا باليد واقتحموها عنوة واستباحوها وجاؤوا بملكها مع الأسرى فأبقاه السلطان وأنعم عليه‏.‏ ثم نمي عنه أنه يكاتب ملوك العراق فحبسه‏.‏ ثم بعث السلطان العساكر من حلب سنة خمس عشرة إلى عرقية من أعمال آمد ففتحوها وجاءت العساكر سنة سبع عشرة ثانية إلى آمد ففتحوها واستباحوها وغنموا منها أموالاً جمة‏.‏ والله تعالى ينصر من يشاء من عباده‏.‏ الولايات وفي سنة خمس عشرة سخط السلطان سيف الدين بكتمر نائب طرابلس الذي وليها بعد أقوش الأفرم وأمده به وسيق معتقلاً إلى مصر وولي مكانه سيف الدين كستاي‏.‏ ثم هلك فولى مكانه شهاب الدين قرطاي نقله إليها من نيابة حمص وولى نيابة حمص سيف الدين أقطاي ثم قبض سنة ثمان عشرة على طغاي الحسامي من الجاشنكيرية وصرف نائباً إلى صفد مكان بكتمر الحاجب ثم سخطه فأحضره معتقلاً وحبسه بالإسكندرية‏.‏ وبعث على صفد سيف الدين أقطاي نقله إليها من حمص وبعث على حمص بدر الدين بكتوت القرماني والله تعالى أعلم‏.‏

العمائر ابتدأ السلطان
سنه إحدى عشرة وسبعمائة ببناء الجامع الجديد بمصر وأكمله ووقف عليه الأوقاف المغلة‏.‏ ثم أمر سنة أربع عشرة ببناء القصر الأبلق من قصور الملك فجاء من أفخر المصانع الملوكية‏.‏ وفي سنة ثمان عشرة أمر بتوسعة جامع القلعة فهدم ما حوله من المساكن وزيد فيه إلى الحد الذي هو عليه بهذا العهد‏.‏ ثم أمر في سنة ثلاث وعشرين بعمارة القصور لمنازله بسرياقوس وبنى بازائها الخانقاه الكبيرة المنسوبة إليه‏.‏ وفي سنة ثلاث وثلاثين أمر بعمارة الإيوان الضخن بالقلعة وجعله مجلس ملكه وبيت كرسيه ودعاه دار العدل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

حجات السلطان
وحج الملك الناصر محمد بن قلاوون في أيام دولته ثلاث حجات أولاً سنة ثلاث عشرة عند ما انقرض قرا سنقر نائب حلب وأقوش الأفرم نائب طرابلس ومهنا بن عيسى أمير العرب‏.‏ وجاء خربندا إلى الشام ورجع من الرحبة فسار السلطان من مصر إلى الشام وبلغه رجوع خربندا فسار من هناك حاجاً وقضى فرضه سنة ثلاث عشرة ورجع إلى الشام‏.‏ ثم حج الثانية سنة تسع عشرة ركب إليها من مصر في أواخر ذي القعدة ومعه المؤيد صاحب حماة والأمير محمد ابن أخت علاء الدين ملك الهند صاحب دلى ولما قضى حجه انطلق الأمير محمد ابن أخت علاء الدين من هناك إلى اليمن ورجع إلى مصر فأفرج عن رميثة أمير مكة عن بني حسن وعن المعتقلين بمحبسه ووصله ووصلهم‏.‏ عادة أبيه في مراكبة السلطان وقفل من حجه سنة ثلاث وثلاثين فأمر بعمل باب الكعبة مصفحاً بالفضة أنفق فيه خمسة وثلاثين ألف درهم‏.‏ وفي منصرفة من هذه الحجة مات بكتمر الساقي من أعظم أمرائه وخواصه ويقال أنه سمه مما وهو من مماليك بيبرس الجاشنكير‏.‏ وانتقل إلى الناصر فجعله أمير السقاة وعظمت منزلته عنده ولطفت خلته حتى كانا لا يفترقان إما في بيت السلطان وإما في بيته‏.‏ وكان حسن السياسة في الغاية وخلف بعد وفاته من الأموال والجواهر والذخائر ما يفوت الحصر والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه‏.‏ أخبار النوبة وإسلامهم قد تقدم لنا غزو الترك إلى النوبة أيام الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون لما كان عليهم من الجزية التي فرضها عمرو بن العاص عليهم وقررها الملوك بعد ذلك‏.‏ وربما كانوا يماطلون بها أو يمتنعون من أدائها فتغزوهم عسكر المسلمين من مصر حتى بستقيموا‏.‏ وكان ملكهم بدنقلة أيام سارت العساكر من عند قلاوون إليها سنة ثمانين وستمائة واسمه سمامون‏.‏ ثم كان ملكهم لهذا العهد اسمه آي لا أدري أكان معاقباً لسمامون أو توسط بينهما متوسط‏.‏ وتوفي آي سنة ست عشرة وسبعمائة وملك بعده في دنقلة أخوه كربيس‏.‏ ثم نزع من بيت ملوكهم رجل إلى مصر اسمه نشلي وأسلم فحسن إسلامه وأجرى له رزقاً وأقام عنده‏.‏ فلما كانت سنة عشرة امتنع كربيس من أداء الجزية فجهز السلطان إليه العساكر وبعث معها عبد الله نشلي المهاجر إلى الإسلام من بيت ملكهم فخام كربيس عن لقائهم وفر إلى بلد الأبواب‏.‏ ورجعت العساكر إلى مصر واستقر نشلي في ملك النوبة على حاله من الإسلام‏.‏ وبعث السلطان إلى ملك الأبواب في كربيس فبعث به إليه وأقام بباب السلطان‏.‏ ثم إن أهل النوبة اجتمعوا على نشلي وقتلوه بممالأة جماعة من العرب سنة تسع وبعثوا عن كربيس ببلد الأبواب فألفوه بمصر‏.‏ وبلغ الخبر إلى السلطان فبعثه إلى النوبة فملكها وانقطعت الجزية بإسلامهم‏.‏ ثم انتشرت أحياء العرب من جهينة في بلادهم واستوطنوها وملأوها عيثاً وفساداً‏.‏ وذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم فعجزوا‏.‏ ثم ساروا إلى مصانعتهم بالصهر فافترق ملكهم وثار لبعض أبناء جهينة من أمهاتهم على عادة الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت فتمزق ملكهم واستولى أعراب جهينة على بلادهم وليس في طريقه شيء من السياسة الملوكية للآفة التي تمنع من انقياد بعضهم إلى بعض فصاروا شيعاً لهذا العهد‏.‏ ولم يبق لبلادهم رسم للملك وإنما هم الآن رجالة بادية يتبعون مواقع القطر شأن بوادي الإعراب‏.‏ ولم يبق في بلادهم رسم للملك لما أحلته صبغة البداوة العربية من صبغتهم بالخلطة والإلتحام والله غالب على أمره والله تعالى ينصر من يشاء من عباده‏.‏ إلى فتح إياس ثم فتح سيس وانقراض أمرهم قد كنا قدمنا أخبار الأرمن إلى قتل ملكهم هيثوم على يد أيدغدي شحنة التتر ببلاد الروم سنة سبع واستقرار الملك بسيس لأخيه أوسير بن ليون‏.‏ وكان بينه وبين قزمان ملك التركمان مصاف سنة تسع عشرة فهزمه قزمان ولم يزل أوسير بن ليون ملكاً عليهم إلى سنة اثنتين وسبعين فهلك ونصبوا للملك بعده ابنه ليون صغيراً ابن اثنتي عشرة سنة‏.‏ وكان الناصر قد طلب أوسير أن ينزل له عن القلاع التي تلي الشام فاتسع وجهز إليه عساكر الشام فاكتسحوا بلاده وخربوها وهلك أوسير على أثر ذلك‏.‏ ثم أمر الناصر كتبغا نائب حلب بغزو سيس فدخل إليها بالعساكر سنة ست وثلاثين واكتسح جهاتها وحصر قلعة النقير وافتتحها‏.‏ وأسر من الأرمن عدة يقال بلغوا ثلاثمائة وبلغ خبرهم إلى النصارى باياس فثاروا بمن عندهم من المسلمين وأحرقوهم غضباً للأرمن لمشاركتهم في دين النصرانية‏.‏ ولم يثبت أن بعث إلى السلطان دمرداش بن جوبان شحنة المغل ببلاد الروم يعرفه بدخوله في الإسلام ويستنفر عساكره لجهاد نصارى الأرمن فأسعفه بذلك وجهز إليه عساكر الشام من دمشق وحلب وحماة سنة سبع وثلاثين ونازلوا مدينة أياس ففتحوها وخربوها ونجا فلهم إلى الجبال فاتبعتهم عساكر حلب وعادوا إلى بلادهم‏.‏ ثم سار سنة إحدى وستين بندمر الخوارزمي نائب حلب لغزو سيس ففتح أذنة وطرطوس والمصيصة ثم قلعتي كلال والجريدة وسنباط كلا وتمرور‏.‏ وولى نائبين في أذنة وطرطوس وعاد إلى حلب وولى بعده على حلب عشقيم النصارى فسار سنة ست وسبعين وحصر سيس وقلعتها شهرين إلى أن نفدت أقواتهم‏.‏ وجهدهم الحصار فاستأمنوا ونزلوا على حكمه فخرج ملكهم النكفور وأمراؤه وعساكره إلى عشقيم فبعث بهم إلى مصر واستولى المسلمون على سيس وسائر قلاعها وانقرضت منها دولة الأرمن والبقاء لله وحدة انتهى‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:22 PM

الصلح مع ملوك التتر
وصهر الناصر مع ملوك الشمال منهم كان للتتر دولتان مستفحلتان إحداهما دولة بني هلاكو آخذ بغداد والمستولي على كرسي الإسلام بالعراق وأصارها هو وبنوه كرسياً لهم‏.‏ ولهم مع ذلك عراق العجم وفارس وخراسان وما وراء النهر ودولة بني دوشي خان بن جنكز خان بالشمال متصلة إلى خوارزم بالمشرق إلى القرم وحدود القسطنطينية بالجنوب وإلى أرض بلغار بالمغرب‏.‏ وكان بين الدولتين فتن وحروب كما تحدث بين الدول المجاورة وكانت دولة الترك بمصر والشام مجاورة لدولة بني هلاكو وكانوا يطمعون في ملك الشام ويرددون الغزو إليه مرة بعد أخرى ويستميلون أولياءهم وأشياعهم من العرب والتركمان فيستظهرون بهم عليهم كما رأيت ذلك في أخبارهم‏.‏ وكانت بين ملوكهم من الجانبين وقائع متعددة وحروبهم فيها سجال وربما غلبوا من الفتنة بين دولة دوشي وبين بني هلاكو‏.‏ ولبعدهم عن فتنة بني دوشي خان لتوسط الممالك بين مملكتهم ومملكة مصر والشام فتقع لهم الصاغية إليهم وتتجدد بينهم المراسلة والمهاداة في كل وقت ويستحث ملك الترك ملك صراي من بني دوشي خان لفتنة بني هلاكو والأجلاب عليهم في خراسان وما إليها من حدود مملكتهم ليشغلوهم عن الشام ويأخذوا بحجزتهم عن النهوض إليه‏.‏ وما زال دأبهم من أول دولة الترك‏.‏ وكانت رغبة بني دوشي خان في ذلك أعظم يفتخرون به على بني هلاكو‏.‏ ولما ولي صراي أنبك من بني دوشي خان ثلاث عشرة وكان نائباً ببلاد الروم قطلغمير وفدت عليه الرسل من مصر على العادة فعرض لهم قطلغمير بالصهر مع السلطان الناصر ببعض نساء ذلك البيت على شرطية الرغبة من السلطان في ظاهر الأمر والتمهل منهم في إمضاء ذلك‏.‏ وزعموا أن هذه عادة الملوك منهم ففعل السلطان ذلك وردد الرسل والهدايا أعواماً ستة إلى أن استحكم ذلك بينهم وبعثوا إليه بمخطوبته طلبناش بنت طغاجي بن هند وابن بكر بن دوشي سنة عشرين مع كبير المغل وكان مقلداً يحمل على الأعناق ومعهم جماعة من أمرائهم وبرهان الدين إمام أزبك ومروا بالقسطنطينية فبالغ لشكري في كرامتهم‏.‏ يقال أنه أنفق عليهم ثم ساروا بها إلى مصر محمولة على عجلة وراء ستور من الذهب والحرير يجرها كديش يقوده اثنان من مواليها في مظهر عظيم من الوقار والتجلة‏.‏ ولما قاربوا مصر ركب للقائهم النائباًن أرغون وبكتمر الساقي في العساكر وكريم الدين وكيل السلطان وأدخلت الخاتون إلى القصر واستدعى ثالث وصولها القضاء والفقهاء وسائر الناس على طبقاتهم إلى الجامع بالقلعة وحضر الرسل الوافدون عندهم بعد أن خلع عليهم‏.‏ وانعقد النكاح بين وكيل السلطان ووكيل أزبك وانفض ذلك المجمع وكان يوماً مشهوداً‏.‏ ووصلت رسل أبي سعيد صاحب بغداد والعراق سنة اثنين وعشرين وفيهم قاضي توريز يسألون الصلح وانتظام الكلمة واجتماع اليد على إقامة معالم الإسلام من الحج وإصلاح السابلة وجهاد العدو فأجاب السلطان إلى ذلك وبعث سيف الدين أيتمش المحمدي لأحكام العقد معهم وامتضاء إيمانهم فوجهه لذلك بهدية سنية وعاد سنة ثلاث وعشرين ومعه رسل أبي سعيد ومعه جوبان لمثل ذلك فتم ذلك وانعقد بينهم‏.‏ وقد كانت قبل ذلك تجددت الفتنة بين أبو سعيد وصاحب صراي نفرة من أزبك صاحب صراي من تغلب جوبان على أبي سعيد وفتكه في المغل‏.‏ وكانت بين جوبان وبين سبول صاحب خوارزم وما وراء النهر فتنة ظهر فيها أزبك وأمده‏.‏ بالعساكر فاستولى أزبك على أكثر بلاد خراسان وطلب من الناصر بعد الإلتحام بالصهر المظاهرة على أبي سعيد وجوبان فأجابه إلى ذلك‏.‏ ثم بعث إليه أبو سعيد في الصلح كما قلناه فآثر وعقد له‏.‏ وبلغ الخبر إلى أزبك ورسل الناصر عنده فأغلظ في القول وبعث بالعتاب‏.‏ واعتذر له الناصر بأنهم إنما دعوه لإقامة شعائر الإسلام ولا يسع التخلف عن ذلك فقبل‏.‏ ثم وقعت بينه وبين أبي سعيد مراوضة في الصلح بعد أن استرد جوبان ما ملكه أزبك من خراسان فتوادع كل هؤلاء الملوك واصطلحوا ووضعوا أوزار الحرب حيناً من الدهر إلى أن تقلبت الأحوال وتبدلت الأمور والله مقلب الليل والنهار‏.‏

مقتل أولاد بني نمي أمراء مكة من بني حسن
قد تقدم لنا استيلاء قتادة على مكة والحجاز من يد الهواشم واستقرارها لبنيه إلى أن استولى منهم أبو نمي وهو محمد بن أبي سعيد علي بن قتادة‏.‏ ثم توفي سنة اثنتين وسبعمائة وولي مكانه ابناه رميثة وخميصة واعتقلا أخويهما عطيفة وأبا الغيث ولما حج الأميران كافلا المملكة بيبرس وسلار هربا إليهما من مكان اعتقالهما وشكيا ما نالهما من رميثة وخميصة فأشكاهما الأميران واعتقلا رميثة وخميصة وأوصلاهما إلى مصر ووليا عطيفة وأبا الغيث وبعثا بهما إلى السلطان صحبة الأمير أيدمر الكوكبي الذي جاء بالعساكر معهما‏.‏ ثم رضي السلطان عنهما وولاهما مكان رميثة وخميصة وبعث معهما العساكر ثانياً سنة ثلاث عشرة وفر رميثة وخميصة عن البلاد ورجع العسكر‏.‏ وأقام أبو الغيث وعطيفة فرجع إليهما رميثة وخميصة وتلاقوا فانهزم أبو الغيث وعطيفة فسارا إلى المدينة في جوار منصور بن جماد فأمدهما ببني عقبة وبني مهدي ورجع إلى حرب رميثة وخميصة فاقتتلوا ثانياً ببطن مرو فانهزم أبو الغيث وقتل‏.‏ واستمر رميثة وخميصة ولحق أخوهما عطيفة وسار معهما‏.‏ ثم تشاجروا سنة خمس عشرة ولحق رميثة بالسلطان مستعدياً على أخويه فبعث معه العساكر ففر خميصة بعد أن استصفى أهل مكة وهرب إلى السبعة مدن ولحقته العساكر فاستلحق أهل تلك المدن ولقيهم فانهزموا ونجا خميصة بنفسه‏.‏ ثم رجعت العساكر فرجع وبعث رميته يستنجد السلطان فبعث إليه العساكر ففر خميصة‏.‏ ثم رجع واتفق مع أخويه رميثة وعطيفة ثم لحق عطيفة بالسلطان سنة ثمان عشرة وبعث معه العساكر فقبضوا على رميثة وأوصلوه معتقلاً فسجن بالقلعة‏.‏ واستقر عطيفة بمكة وبقي خميصة مشرداً‏.‏ ثم لحق بملك التتر ملك العراق خربندا واستنجده على ملك الحجاز فأنجده بالعساكر وشاع بين الناس أنه داخل الروافض الذين عند خربندا في إخراج الشيخين من قبريهما وعظم ذلك على الناس‏.‏ ولقيه محمد بن عيسى أخو مهنا حسبة وامتعاضاً للدين‏.‏ وكان عند خربندا فأتبعه واعترضه وهزمه‏.‏ ويقال إنه أخذ منه المعاول والفؤوس التي أعدوها لذلك‏.‏ وكان سبباً لرضا السلطان عنه‏.‏ وجاء خميصة إلى مكة سنة ثماني عشرة وبعث الناصر العساكر إليه فهرب وتركها‏.‏ ثم أطلق رميثة سنة تسع عشرة فهرب إلى الحجاز ومعه وزيره علي بن هنجس فرد من طريقه واعتقل وأفرج عنه السلطان بعد مرجعه من الحج سنة عشرين‏.‏ ثم أن خميصة استأمن السلطان سنة عشرين وكان معه جماعة من المماليك هربوا إليه فخاموا أن يحضروا معه إلى السلطان فاغتالوه وحضروا‏.‏ وكان السلطان قد أطلق رميثة من الاعتقال فأمكنه منهم فثأر من المباشر قتل أخيه وعفا عن الباقين‏.‏ ثم صرف السلطان رميثة إلى مكة وولاه مع أخيه عطيفة واستمرت حالهما‏.‏ ووفد عطيفة سنة إحدى وعشرين على الأبواب ومعه قتادة صاحب الينبع يطلب الصريخ على ابن عمه عقيل قاتل ولده فأجابه السلطان وجهز العساكر لصريخه وقوبل كل منهما بالأكراد وانصرفوا‏.‏ وفي سنة إحدى وثلاثين وقعت الفتنة بمكة وقتل العبيد جماعة من الأمراء والترك فبعث السلطان أيدغمش ومعه العساكر فهرب الشرفاء والعبيد وحضر رميثة وبذل الطاعة وحلف متبرئاً مما وقع فقبل منه السلطان وعفا له عنها واستمرت حاله على ذلك إلى أن هلك سنة‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ وتداولت الإمارة بين إبنيه عجلان وبقية‏.‏ ثم استبد عجلان كما نذكوه في أخبارهم حج ملك التكرور كان ملك السودان بصحراء المغرب في الإقليم الأول والثاني منقسماً بين أمم من السودان‏.‏ أولهم مما يلي البحر المحيط أمة صوصو وكانوا مستولين على غانة ودخلوا في الإسلام أيام الفتح وذكر صاحب كتاب رجار في الجغرافيا أن بني صالح من بني عبد الله بن حسن بن الحسن كانت لهم بها دولة وملك عظيم ولم يقع لنا في تحقيق هذا أكثر من هذا‏.‏ وصالح من بني حسن مجهول وأهل غانة منكرون أن يكون عليهم ملك لأحد غير صوصو‏.‏ ثم يلي أمة صوصو أمة مالي من شرقهم وكرس ملكهم بمدينة بني ثم من بعدهم شرقاً عنهم أمة كوكو‏.‏ ثم التكرور بعدهم وفيما بينهم وبين النوبة أمة كانم وغيرها‏.‏ وتحولت الأحوال باستمرار العصور فاستولى أهل مالي على ما وراءهم وبين أيديهم من بلاد صوصو وكوكو وآخر ما استولوا عليه بلاد التكرور‏.‏ واستفحل ملكهم إلى الغاية وأصبحت مدينتهم بني حاضرة بلاد السودان بالمغرب ودخلوا في دين الإسلام منذ حين من السنين‏.‏ وحج جماعة من ملوكهم‏.‏ وأول من حج منهم برمندار وسمعت في ضبطه من بعض فضلائهم برمندانه وسبيله في الحج هي التي اقتفاها ملوكهم من بعده‏.‏ ثم حج منهم منساولي بن ماري جاطة أيام الظاهر بيبرس‏.‏ وحج بعده منهم مولاهم صاكوره وكان تغلب على ملكهم وهو الذي افتتح مدينة كوكو‏.‏ ثم حج أيام الناصر وحج من بعده منهم منسا موسى حسبما ذلك مذكور في أخبارهم عند دول البربر عند ذكر صنهاجة ودولة لمتونة من شعوبهم‏.‏ ولما خرج منسا موسى من بلاد المغرب للحج ملك على طريق الصحراء وخرج عند الأهرام بمصر وأهدى إلى الناصر هدية حفيلة يقال إن فيها خمسين ألف دينار وأنزله بقصر عند القرافة الكبرى وأقطعه إياها ولقيه السلطان بمجلسه وحدثه ووصله وزوده وقرب إليه الخيل والهجن وبعث معه الأمراء يقومون بخدمته إلى أن قضى فرضه سنة أربع وعشرين ورجع فأصابته في طريقه بالحجاز نكبة تخلصه منها أجله‏.‏ وذلك أنه ضل في الطريق عن المحمل والركب وانفرد بقومه عن العرب وهي كلها مجاهل لهم فلم يهتدوا إلى عمران ولا وقفوا على مورد وساروا على السمت إلى أن نفذوا عند السويس وهم يأكلون لحم الحيتان إذا وجدوها والأعراب تتخطفهم من أطرافهم إلى أن خلصوا‏.‏ ثم جدد السلطان له الكرامة ووسع له في الحباء وكان أعد لنفقته من بلاده فيما يقال مائة حمل من التبر في كل حمل ثلاثة قناطير فنفدت كلها وأعجزته النفقة فاقترض من أعيان التجار وكان في صحبته منهم بنو الكويك فأقرضوه خمسين ألف دينار وابتاع منهم القصر الذي أقطعه السلطان وأمضى له ذلك‏.‏ وبعث سراج الدين الكويك معه وزيره يرد له منه ما أقرضه من المال فهلك هنالك‏.‏ وأتبعه سراج الدين آخراً بابنه فمات هنالك‏.‏ وجاء ابنه فخر الدين أبو جعفر بالبعض وهلك منسا موسى قبل وفاته فلم يظفروا منه بشيء انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:23 PM

انجاد المجاهد ملك اليمن
قد تقدم لنا استبداد علي بن رسول فملك بعد مهلك سيده يوسف أتسز بن الكامل بن العادل بن أيوب ويلقب المسعود وكان علي بن رسول أستاذ داره ومستولياً على دولته‏.‏ فلما هلك سنة ست وعشرين وستمائة نصب ابن رسول ابنه موسى الأشرف لملكه وكفه قريباً‏.‏ واستولى ابن رسول وأورث ملكه باليمن لبنيه لهذا العهد وانتقل الأمر للمجاهر منهم علي بن داود والمؤيد بن يوسف المظفر بن عمر بن المنصور بن علي بن رسول سنة إحدى وعشرين‏.‏ وانتقض عليه جلال الدين ابن عمه الأشرف فظهر عليه المجاهد واعتقله‏.‏ ثم انتقض عليه عمه المنصور سنة ثلاث وعشرين وحبسه وأطلق من محبسه واعتقل عمه المنصور‏.‏ وكان عبد الله الظاهر بن المنصور قائماً بأمر أبيه ومنازلة المجاهد سنة أربع وعشرين فبعث بالصريخ إلى الناصر سليمان الترك بمصر وكان هو وقومه يعطونهم الطاعة ويبعثون إليهم الأتاوة من الأموال والهدايا وطرف اليمن وماعونه فجهزهم الناصر صحبة بيبرس الحاجب وطبنال من أعظم أمرائه فساروا إلى اليمن ولقيهم المجاهد بعدن فأصلحوا بين الفريقين على أن تكون‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ويستقر المجاهد في سلطانه باليمن ومالوا على كل من كان سبباً في الفتنة فقتلوهم ودوخوا اليمن وحملوا أهله على طاعة المجاهد ورجعوا إلى محلهم من الأبواب السلطانية والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

ولاية أحمد ابن الملك الناصر على الكرك
ولما استفحل ملك السلطان الناصر واستمر وكثر ولده طمحت نفسه إلى ترشيح ولده لتقر عينه بملكهم فبعث كبيرهم أحمد إلى قلعة الكرك سنة ست وعشرين ورتب الأمراء المقيمين بوظائف السلطان فسار إلى الكرك وأقام بها أربع سنين ممتعاً بالملك والدولة وأبوه قرير العين بإمارته في حياته‏.‏ ثم استقدمه سنة ثلاثين وأقام فيه سنة الختان واحتفل في الصنيع له وختن معه من أبناء الأمراء والخواص جماعة انتقاهم ووقع اختياره عليهم‏.‏ ثم صرفه إلى مكان إمارته بالكرك فأقام بها إلى أن توفي الملك الناصر وكان ما نذكره والله تعالى أعلم‏.‏

وفاة دمرداش بن جوبان شحنة بلاد الروم ومقتله
كان جوبان نائب مملكة التتر مستولياً على سلطانه أبي سعيد بن خربندا لصغره وكانت حاله مع أبيه خربندا قريباً من الاستيلاء فولى على مملكة بلاد الروم دمرداش‏.‏ ثم وقعت الفتنة بينهم وبين ملك الشمال أزبك من بني دوشي خان على خراسان وسار جوبان من بغداد سنة تسع وعشرين لمدافعته كما يأتي في أخبارهم‏.‏ وترك عند السلطان أبي سعيد ببغداد ابنه خواجا دمشق فسعى به أعداؤه وأنهوا عنه قبائح من الأفعال لم يحتملها له فسطا به وقتله‏.‏ وبلغ الخبر إلى أبيه جوبان فانتقض وعاجله أبو سعيد بالمسير إلى خراسان فتفرقت عنه أصحابه وفر فأدرك بهراة وقتل‏.‏ وأذه السلطان أبو سعيد لأهله أن ينقلوه إلى التربة التي اختطها بالمدينة النبوية لدفنه فاحتملوه ولم يتوفقوا على إذن صاحب مصر فمنعهم صاحب المدينة ودفنوه بالبقيع‏.‏ ولما بلغ الخبر بمقتله إلى ابنه دمرداش في إمارته ببلاد الروم خشي على نفيه فهرب إلى مصر وترك مولاه أرتق مقيماً لأمر البلد وأنزله بسيواس‏.‏ ولما وصل إلى دمشق وركب النائب لتلقيه وسار معه إلى مصر فأقبل عليه السلطان وأحله محل الكرامة وكان معه سبعة من الأمراء ومن العسكر نحو ألف فارس فأكرمهم السلطان وأجرى عليهم الأرزاق وأقاموا عنده‏.‏ وجاءت على أثره رسل السلطان أبي سعيد وطلبه بذمة الصلح الذي عقده مع الملك الناصر وأوضحوا العلم السلطان من فساد طويته وطوية أبيه جوبان وسعيهم في الأرض بالفساد ما أوجب إعطاءه باليد وشرط السلطان عليهم إمضاء حكم الله تعالى في قرا سنقر نائب حلب الذي كان فر سنة اثنتي عشرة مع أقوش الأفرم إلى خربندا وأغروه بملك الشام ولم يتم ذلك‏.‏ وأقاموا عند خربندا وولى أقوش الأفرم على همذان فمات بها سنة ست عشرة فولى صاحبه قرا سنقر مكانه بهمذان‏.‏ فلما شرط عليهم السلطان قتله كما قتل دمرداش أمضوا فيه حكم الله تعالى وقتلوه جزاء بما كان عليه من الفساد في الأرض والله متولي جزاءهم‏.‏ ثم وصل على أثر ذلك ابن السلطان أبي سعيد ومعه جماعة من قومه في تأكيد الصلح والإصهار من السلطان فقوبلوا بالكرامة التي تليق بهم واتصلت المراسلة والمهاداة بين هذين السلطانين إلى أن توفيا والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏

وفاة مهنا بن عيسى أمير العرب بالشام وأخبار قومه
هذا الحي من العرب يعرفون بآل فضل رحالة ما بين الشام والجزيرة وتربة نجد من أرض الحجاز يتقلبون بينها في الرحلتين وينتسبون في طيء ومعهم أحياء من زبيد وكلب وهذيل ومذحج أحلاف لهم‏.‏ ويناهضهم في الغلب والعدد آل مراد يزعمون أن فضلاً ومراد أبناء ربيعة ويزعمون أيضاً أن فضلاً ينقسم ولده بين آل مهنا وآل علي وأن آل فضل كلهم بأرض حوران فغلبهم عليها آل مراد وأخرجوهم منها فنزلوا حمص ونواحيها‏.‏ وأقامت زبيد من أحلافهم بحوران فهم بها حتى الآن لا يفارقونها‏.‏ قالوا ثم اتصل آل فضل بالدولة السلطانية وولوهم على أحياء العرب وأقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام والعراق فاستظهروا برياستهم على آل مراد وغلبوهم على المشاتي فصار عامة رحلتهم في حدود الشام قريباً من التلول والقرى لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل‏.‏ وكانت معهم أحياء من أفاريق العرب مندرجون في لفيفهم وحلفهم من مذحج وعامر وزبيد كما كان آل فضل إلا أن أكثر من كان مع آل مراد من أولئك الأحياء وأوفرهم عدة بنو حارثة بن سنبس إحدى شعوب طيء‏.‏ هكذا ذكر لي الثقة عندي من رجالاتهم‏.‏ وبنو حارثة هؤلاء متغلبون لهذا العهد في تلول الشام لا يجاوزونها إلى العمران ورياسة آل فضل لهذا العهد لبني مهنا وينسبونه هكذا مهنا بن مانع بن جديلة بن فضل بن بدر بن ربيعة بن علي بن مفرج بن بدر بن سالم بن جصة بن بدر بن سميع ويقفون عند سميع‏.‏ ويقول رعاعهم أن سميعاً هذا هو الذي ولدته العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي وحاشى لله من هذه المقالة في الرشيد وأخته وفي انتساب كبراء العرب من طيء إلى موالي العجم من بني برمك وانسابهم ثم إن الوجدان يحيل رياسة هؤلاء على هذا الحي إن لم يكونوا من نسبتهم وقد تقدم مثل ذلك في مقدمة الكتاب وكان مبدأ رياستهم من أول دولة بني أيوب‏.‏ قال العماد الأصفهاني في كتاب البرق السامي نزل العادل بمرج دمشق ومعه عيسى بن محمد بن ربيعة شيخ الأعراب في جموع كثيرة أنتهى‏.‏ وكانت الرياسة قبلهم لعهد الفاطميين لبني جراح من طيء وكان كبيرهم مفرج بن دغفل بن جراح وكان من إقطاعه الرملة وهو الذي قبض على افتكين مولى في بويه لما انهزم مع مولاه بختيار بالعراق وجاء به إلى المعز فأكرمه ورقاه في دولته‏.‏ ولم يزل شأن مفرج هكذا وتوفي سنة أربع وأربعمائة وكان من ولده حسان ومحمود وعلي وجران وولي حسان بعده وعظم صيته‏.‏ وكان بينه وبين خلفاء الفاطميين نفرة واستجاشة وهو الذي هدم الرملة وهزم قائدهم هاروق التركي وقتله وسبى‏.‏ نساءه وهو الذي مدحه التهامي‏.‏ وقد ذكر المسبحي وغيره من مؤرخي دولة العبيديين في قرابة حسان بن مفرج فضل بن ربيعة بن حازم بن جراح وأخاه بدر بن ربيعة‏.‏ ولعل فضلاً هذا جد آل فضل‏.‏ وقال ابن الأثير وفضل بن ربيعة بن حازم كان آباؤه أصحاب البلقاء والبيت المقدس وكان فضل تارة مع الإفرنج وتارة مع خلفاء مصر‏.‏ ونكره لذلك طغركين أتابك دمشق وكافل بني تتش وطرده من الشام فنزل على صدقة بن مزيد وحالفه ووصله حين قدم من دمشق بتسعة آلاف دينار‏.‏ فلما خالف صدقة بن مزيد على السلطان محمد بن ملك شاه سنة خمسمائة وما بعدها ووقعت بينهما الفتنة اجتمع فضل هذا وقرواش بن شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وبعض أمراء التركمان كانوا أولياء صدقة فساروا في الطلائع بين يدي الحرب وهربوا إلى السلطان فأكرمهم وخلع عليهم وأنزل فضل بن ربيعة بدار صدقة ابن مزيد ببغداد حتى إذا سار السلطان لقتال صدقة استأذنه فضل في الخروج إلى البرية ليأخذ بحجزة صدقة فأذن له وعبر إلى الأنبار‏.‏ ولم يرجع للسلطان بعدها انتهى كلام ابن الأثير‏.‏ ويظهر من كلامه وكلام المسبحي أن فضلاً هذا وبدراً من آل جراح من غير شك ويظهر من سياقة هؤلاء نسبهم أن فضلاً هذا هو جدهم لأنهم ينسبونه فضل بن علي بن مفرج وهو عند الآخرين فضل بن علي بن جراح فلعل هؤلاء نسبوا ربيعة إلى مفرج الذي هو كبير بني الجراح لطول العهد وقلة المحافظة على مثل هذا من البادية الغفل‏.‏ وأما نسبة هذا الحي في طيء فبعضهم يقول إن الرياسة في طيء كانت لأياس بن قبيصة من بني سنبس بن عمرو بن الغوث بن طيء وأياس هو الذي ملكه كسرى على الحيرة بعد آل المنذر عندما قتل النعمان بن المنذر وهو الذي صالح خالد بن الوليد على الحيرة ولم تزل الرياسة على طيء في بني قبيصة هؤلاء صدراً من دولة الإسلام‏.‏ فلعل آل فضل هؤلاء وآل الجراح من أعقابهم وإن كان انقرض أعقابهم فهم من أقرب الحي إليه لأن الرياسة في الأحياء والشعوب إنما تتصل في أهل العصبية والنسب كما مر أول الكتاب‏.‏ وقال ابن حزم عند ما ذكر أنساب طيء أنهم لما خرجوا من اليمن نزلوا أجأ وسلمى وأوطنوهما وما بينهما‏.‏ ونزل بنو أسد ما بينهما وبين العراق وفضل كثير منهم وهم بنو خارجة بن سعد بن عبادة من طيء ويقال لهم جديلة نسبة إلى أمهم بنت تيم الله وحبيش والأسعد إخوتهم رحلوا عن الجبلين في حرب الفساد فلحقوا بحلب وحاضر طيء وأوطنوا تلك البلاد إلا بني رمان بن جندب بن خارجة بن سعد فإنهم أقاموا بالجبلين‏.‏ فكان يقال لأهل الجبلين الجبليون ولأهل حلب وحاضر طيء من بني خارجة السهليون انتهى‏.‏ فلعل هذه أحياء الذين بالشام من بني الجراح وآل فضل من بني خارجة هؤلاء الذين ذكرل ابن حزم أنهم انتقلوا إلى حلب وحاضر طيء لأن هذا الموطن أقرب إلى مواطنهم لهذا العهد من مواطن بني الجراح بفلسطين من جبل أجأ وسلمى اللذين هما موطن الآخرين‏.‏ والله أعلم في ذلك يصح من أنسابهم‏.‏ ولنرجع الآن إلى سرد الخبر عن رياسة آل فضل أهل هذا البيت منذ دولة بني أيوب فنقول كان الأمير منهم لعهد بني أيوب عيسى بن محمد بن ربيعة أيام العادل كما قلناه ونقلناه عن العماد الأصبهاني الكاتب‏.‏ ثم كان بعده حسام الدين مانع بن خدينة بن غصينة بن فضل وتوفي سنة ثلاثين وستمائة وولي عليهم بعده ابنه مهنا‏.‏ ولما ارتجع قطز ثالث ملوك الترك بمصر وملك الشام من يد التتر وهزم عسكرهم بعين جالوت أقطع سلمية لمهنا بن مانع وانتزعها من عمل المنصور بن شاهنشاه صاحب حماة ولم أقف على تاريخ وفاة مهنا‏.‏ ثم ولي الظاهر على أحياء العرب بالشام عندما استفحل أمر الترك وسار إلى دمشق لتشييع الخليفة الحاكم عم المستعصم لبغداد فولى على العرب عيسى بن مهنا بن مانع ووفر له الإقطاعات على حفظ السابلة وحبس ابن عمه زامل بن علي بن ربيعة من آل علي لإعناته وإعراضه‏.‏ ولم يزل أميراً على أحياء العرب وصلحوا في أيامه لأنه خالف أباه في الشدة عليهم‏.‏ وهرب إليه سنقر الأشقر سنة تسع وتسعين وكاتبوا أبغا واستحثوه لملك الشام‏.‏ وتوفي عيسى بن مهنا سنة أربع وثمانين فولى المنصور قلاوون بعده ابنه مهنا‏.‏ ثم سار الأشرف بن قلاوون إلى الشام ونزل حمص ووفد عليه مهنا بن عيسى في جماعة من قومه فقبض عليه وعلى ابنه موسى وأخوية محمد وفضل ابني عيسى بن مهنا وبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها حتى أفرج عنهم العادل كتبغا عندما جلس على التخت سنة أربع وتسعين ورجع إلى إمارته‏.‏ ثم كان له في أيام الناصر نفرة واستجاشة وميل إلى ملوك التتر بالعراق ولم يحضر شيئاً من وقائع غازان‏.‏ ولما انتقض سنقر وأقوش الأفرم وأصحابهما سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لحقوا به وساروا من عنده إلى خربندا‏.‏ واستوحش هو من السلطان وأقام في أحيائه منقبضاً عن الوفادة‏.‏ ووفد أخوه فضل سنة اثنتي عشرة فرعى له حق وفادته وولاه على العرب مكان أخيه مهنا وبقي مهنا مشرداً‏.‏ ثم لحق سنة ست عشرة بخربندا ملك التتر فأكرمه وأقطعه بالعراق‏.‏ وهلك خربندا في تلك السنة فرجع إلى أحيائه وأوفد ابنيه أحمد وموسى وأخاه محمد بن عيسى مستعتبين للناصر ومتطارحين عليه فأكرم وفادتهم وأنزلهم بالقصر الأبلق وشملهم بالإحسان‏.‏ وأعتب مهنا ورده على إمارته وإقطاعه وذلك سنة سبع عشرة‏.‏ وحج هذه السنة ابنه عيسى وأخوه محمد وجماعة من آل فضل اثنا عشر ألف راحلة‏.‏ ثم رجع مهنا إلى ديدنه فلي ممالأة التتر والأجلاب على الشام واتصل ذلك منه فنقم السلطان عليه وسخطه قومه أجمع‏.‏ وكتب إلى نواب الشام سنة عشرين بعد مرجعه من الحج فطرد آل فضل عن البلاد وأدال منهم آل علي عديلة نسبهم‏.‏ وولى منهم على أحياء العرب محمد بن أبي بكر وصرف إقطاع مهنا وولده إلى محمد وولده فأقام مهنا على ذلك مدة‏.‏ ثم وفد سنة إحدى وثلاثين مع الأفضل بن المؤيد صاحب حماة متوسلاً به ومتطارحاً على السلطان فأقبل عليه ورد عليه إقطاعه وإمارته‏.‏ وذكر لي بعض أكابر الأمراء بمصر ممن أدرك وفادته أو حدث عنها أنه تجافى في هذه الوفادة عن قبول شيء من السلطان حتى أنه ساق من النياق المحلوبة واستقاها وإنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سألهم شيئاً من حاجته‏.‏ ثم رجع إلى أحيائة وتوفي سنة أربع وثلاثين فولى ابنه مظفر الدين موسى‏.‏ وتوفي سنة اثنين وأربعين عقب مهلك الناصر وولي مكانه أخوه سليمان‏.‏ ثم هلك سليمان سنة ثلاث وأربعين فولي مكانه شرف الدين عيسى ابن عمه فضل بن عيسى‏.‏ ثم توفي سنة أربع وأربعين بالقدس ودفن عند قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه وولي مكانه أخوه سيف بن فضلي‏.‏ ثم عزله السلطان بمصر الكامل بن الناصر سنة ست وأربعين وولي مكانه مهنا بن عيسى‏.‏ ثم جمع سيف بن مهنا ولقيه فياض بن مهنا فانهزم سيف‏.‏ ثم ولى السلطان حسين بن الناصر في دولته الأولى وهو في كفالة بيقاروس أحمد بن مهنا فسكنت الفتنة بينهم‏.‏ ثم توفي سنة تسع وأربعين فولي مكانه أخوه فياض‏.‏ وهلك سنة اثنتين وستين فولي مكانه أخوه خيار بن مهنا ولاه حسين بن الناصر في دولته الثانية‏.‏ ثم انتقض سنة خمس وستين وأقام سنين بالقفر ضاحياً إلى أن شفع فيه نائب حماة فأعيد إلى إمارته ثم انتقض سنة سبعين فولى السلطان الأشرف مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى وجاء إلى نواحي حلب واجتمع إليه بنو كلاب وغيرهم وعاثوا في البلاد وعلى حلب يومئذ قشتمر المنصوري فبرز إليهم وانتهى إلى مخيمهم واستاق نعمهم وتخطى إلى الخيام فاستماتوا دونها وهزموا عساكره وقتل قشتمر وابنه في المعركة وتولى ذلك زامل بيده وذهب إلى القفر منتقضاً فولى مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى‏.‏ ثم بعث معيقيل صاحبه سنة إحدى وسبعين يستأمن لخيار فأمنه‏.‏ ثم وفد خيار بن مهنا سنة خمس وسبعين فرضي عنه السلطان فأعاده إلى إمارته‏.‏ ثم توفي سنة سبع وسبعين فولي أخوه قارة إلى أن توفي سنة إحدى وثمانين فولي مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى وزامل بن موسى بن مهنا شريكين في إمارتهما‏.‏ ثم عزلا لسنة من ولايتهما وولي بصير بن جبار بن مهنا واسمه محمد وهو لهذا العهد أمير على آل فضل وجميع أحياء طيء والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:24 PM

وفاة أبي سعيد ملك العراق وانقراض أمر بني هلاكو
ثم توفي أبو سعيد ملك العراق من التتر ابن خربندا بن بغو بن أبغا بن هلاكو بن طولي خان بن جنكز خان سنة ست وثلاثين وسبعمائة لعشرين سنة من ملكه ولم يعقب فانقرض بموته ملك بني هلاكو‏.‏ وصار الأمر بالعراق لسواهم وافترق ملك التتر في سائر ممالكهم كما نذكر في أخبارهم‏.‏ ولما استبد ببغداد الشيخ حسن من أسباطهم كثر عليه المنازعون فبعث رسله إلى الناصر قبل وفاته يستنجده على أن يسلم له بغداد ويعطي الرهن في العساكر حتى يقضي بها في أعدائه فأجابه الناصر إلى ذلك ثم توفي قريباً فلم يتم والأمر لله وحده‏.‏ وصول هدية ملك المغرب الأقصى مع رسله وكريمته صحبة الحاج كان ملك بني قرين بالمغرب الأقصى قد استحفل لهذه العصور وصار للسلطان أبي الحسن علي بن السلطان أبي سعيد عثمان بن السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق جد ملوكهم وأسف إلى ملك جيرانهم من الدول فزحف إلى المغرب الأوسط وهو في ملكة بني عبد الواد أعداء قومه من زناتة وملكهم أبو تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو موسى بن أبي سعيد عثمان بن السلطان يغمراسن بن زيان جد ملوكهم أيضاً وكرسيه تلمسان سبعة وعشرين شهراً‏.‏ ونصب عليها المجانيق وأدار بالأسوار سياجاً لمنع وصول الميرة والأقوات إليها‏.‏ وتقرى أعمالها بلداً بلداً فملك جميعها‏.‏ ثم افتتحها عنوة آخر رمضان سنة سبع وثلاثين ففض جموعها وقتل سلطانها عند باب قصره كما نذكره في أخبارهم‏.‏ ثم كتب للملك الناصر صاحب مصر يخبره بفتحها وزوال العائق عن وفادة الحاج وإنه ناظر في ذلك بما يسهل سبيلهم ويزيل عللهم‏.‏ وكانت كريمة من كرائم أبيه السلطان أبي سعيد ومن أهل فراشه قد اقتضت منه الوعد بالحج عندما ملك تلمسان‏.‏ فلما فتحها وأذهب عدوه منها جهز تلك المرأة للحج بما يناسب قرابتها منه وجهز معها للملك الناصر صاحب مصر هدية فخمة مشتملة على خمسمائة من الجياد المغربيات بعدتها وعدة فرسانها من السروج واللجم والسيوف وطرف المغرب وماعونه من شتى أصنافه ومن ثياب الحرير والصوف والكتان وصنائع الجلد حتى ليزعموا أنه كان فيها من أواني الخزف وأصناف الدر والياقوت وما يشبههما في سبيل التودد‏.‏ وعرض أحوال المغرب على سلطان المشرق‏.‏ ولعظم قدر هذه الوافدة عند الناصر أوفد معها من عظماء قومه ووزرائه وأهل مجلسه فوفدوا على الناصر سنة ثمان وثلاثين وأحلهم بأشرف محل من التكرمة وبعث من اصطبلاته ثلاثين خطلاً من البغال يحملون الهدية من بحر النيل سوى ما تبعها من البخاتي والجمال‏.‏ وجلس لهم في يوم مشهود ودخلوا عليه وعرضوا الهدية فعم بها أهل دولته إحساناً في ذلك المجلس‏.‏ واستأثر منها على ما زعموا بالدر والياقوت فقط‏.‏ ثم فرقهم في منازله وأنزلهم دار كرامته وقد هيئت بالفرش والمعون ووفر لهم الجرايات واستكثر لهم من الأزودة‏.‏ وبعث أمراء في خدمتهم إلى الحجاز حتى قضوا فرضهم في تلك السنة وانقلبوا إلى سلطانهم فجهز الناصر معهم هدية إلى ملك المغرب تشتمل على ثياب الحرير المصنوعة بالإسكندرية وعين منها الحمل المتعارف في كل سنة لخزانة السلطان وقيمته لذلك العهد خمسون ألف دينار‏.‏ وعلى خيمة من خيم السلطان المصنوعة بالشام فيها أمثال البيوت والقباب والكفات مرساة أطرافها في الأرض بأوتاد الحديد والخشب كأنها قباب مائلة وعلى خيمة مؤزر باطنها من ثياب الحرير العراقية وظاهرها من ثياب القطن الصرافية مستجادة الصنعة بين الحدل والأوتاد أحسن ما يراه من البيوت وعلى صوان من الحرير مربع الشكل يقام بالحدل الحافظ ظله من الشمس‏.‏ وعلى عشرة من الجياد المقربات الملوكية بسروج ولجم ملوكية مصنوعة من الذهب والفضة مرصعة باللآلي والفصوص‏.‏ وبعث مع تلك الجياد خدماً يقومون بنبائها المتعارف فيها‏.‏ ووصلت الهدية إلى سلطان المغرب فوقعت منه أحسن المواقع وأعاد الكتب والرسل بالشكر واستحكمت المودة بين هذين السلطانين واتصلت المهاداة إلى أن مضيا لسبيلهما والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

وفاة الخليفة أبي الربيع وولاية ابنه
قد ذكرنا أيام الظاهر وأنه أقام خليفة بمصر من ولد الراشد وصل يومئذ من بغداد واسمه أحمد بن محمد وذكرنا نسبه هنالك إلى الراشد وأنه بويع له بالخلافة سنة ستين وستمائة ولقبه الحاكم فلم يزل في خلافته إلى أن توفي سنة إحدى وسبعمائة وقد عهد لابنه سليمان فبايع له أهل دولة الناصر الكافلون لها‏.‏ ولقبوه المستكفي فبقي خليفة سائر أيام الناصر‏.‏ ثم تنكر له السلطان سنة ست وثلاثين لشيء نمي له عن بنيه فأسكنه بالقلعة ومنعه من لقاء الناس فبقي حولاً كذلك‏.‏ ثم ترك سبيله ونزل إلى بيته‏.‏ ثم كثرت السعاية في بنيه فغربه سنة ثمان وثلاثين إلى قوص هو وبنيه وسائر أقاربه‏.‏ وأقام هنالك إلى أن هلك سنة أربعين قبل مهلك الناصر وقد عهد بالخلافة لابنه أحمد ولقبه الحاكم فلم يمض الناصر عهده في ذلك لأن أكثر السعاية المشار إليها كانت فيه فنصب للخلافة بعد المستكفي ابن عمه إبراهيم بن محمد ولقبه الواثق وهلك لأشهر قريبة فاتفق الأمراء بعده على إمضاء عهد المستكفي في ابنه أحمد فبايعوه سنة إحدى وأربعين‏.‏ وأقام في الخلافة إلى سنة ثلاث وخمسين فتوفي وولي أخوه أبو بكر ولقب المعتضد‏.‏ ثم هلك سنة ثلاث وستين لعشرة أشهر من خلافته ونصب بعده ابنه محمد ولقبه المتوكل ونورد من أخباره في أماكنها ما يحضرنا ذكره والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه‏.‏ نكبة تنكز ومقتله كان تنكز مولى من موالي لاشين اصطفاه الناصر وقربه وشهد معه وقائع التتر وسار معه إلى الكرك وأقام في خدمته مدة خلعه‏.‏ ولما رجع إلى كرسيه ومهد أمور ملكه ورتب الولاية لمن يرضاه من أمرائه بعث تنكز إلى الشام وجعله نائباً بدمشق ومشارفاً لسائر بلاد الروم ففتح ملطية ودوخ بلاد الأرمن‏.‏ وكان يتردد بالوفادة على السلطان يشاوره وربما استدعاه للمفاوضة في المهمات واستفحل في دفاع التتر وكيادهم‏.‏ ولما توفي أبو سعيد وانقرض ملك بني هلاكو وافترق أمر بغداد وتورين وكانا معاً يجاورانه ويستنجدانه وسخطه بعضهم فراسل السلطان بغشه وادهانه في طاعته وممالأة أعدائه‏.‏ وشرع السلطان في استكشاف حاله وكان قد عقد له على بنته فبعث دواداره بإجار يستقدمه للأعراس بها وكان عدواً له للمنافسة والغيرة فأشار على تنكز بالمقام وتخليه عن السلطان وغشه في النصيحة‏.‏ وحذر السلطان منه فبعث الملك الناصر إلى طشتمر نائب صفد أن يتوجه إلى دمشق ويقبض عليه فقبض عليه سنة أربعين لثمان وعشرين سنة لولايته بدمشق‏.‏ وبعث الملك الناصر مولاه لشمك إلى دمشق في العساكر فأحاط على موجوده وكان شيئاً لا يعبر عنه من أصناف الممتلكات وجاء به مقيداً فاعتقل بالإسكندرية ثم قتل في محبسه والله تعالى أعلم‏.‏

وفاة الملك الناصر وابنه انوك قبله
وولاية ابنه أبي بكر ثم كجك ثم توفي الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون أمجد ما كان ملكاً وأعظم استبداداً توفي على فراشه في ذي الحجة آخر إحدى وأربعين وسبعمائة بعد أن توفي قبله بقليل ابنه أنوك فاحتسبه‏.‏ وكانت وفاته لثمان وأربعين سنة من ولايته الأولى في كفالة طنبغا وثلاث وثلاثين من حين استبداده بأمره بعد بيبرس‏.‏ وصفا الملك له وولى النيابة في هذه ثلاثة من أمرائه بيبرس الدوادار المؤرخ ثم بكتمر الجوكندار ثم أرغون الدوادار ولم يود أحداً النيابة بعده‏.‏ وبقيت الوظيفة عطلاً آخر أيامه‏.‏ وأما دواداريته فأيدمر ثم سلار ثم الحلي ثم يوسف بن الأسعد ثم بغا ثم طاجار وكتب عنه شرف الدين بن فضل الله ثم علاء الدين بن الأمير ثم محي الدين بن فضل الله ثم ابنه شهاب الدين ثم ابنه الآخر علاء الدين‏.‏ وولى القضاء في دولته تقي الدين بن دقيق العيد ثم بدر الدين بن جماعة‏.‏ وإنما ذكرت هذه الوظائف وإن كان ذلك ليس من شرط الكتاب لعظم دولة الناصر وطول أمدها واستفحال دولة الترك عندها وقدمت الكتاب على القضاة وإن كانوا أحق بالتقديم لأن الكتاب أمس بالدولة فإنهم من أعوان الملك‏.‏ ولما اشتد المرض بالسلطان وكان قوصون أحظى عظيم من أمرائه فبادر القصر في مماليكه متسلحين وكان بشتك يضاهيه فارتاب وسلح أصحابه وبدا بينهما التنافس ودس بشتك الشكوى إلى السلطان فاستدعاهما وأصلح بينهما‏.‏ وأراد أن يعهد بالملك إلى قوصون فامتنع فعهد لابنه أبي بكر ومات فمال من عماله بشتك إلى ولاية أحمد صاحب الكرك وأبى قوصون إلا الوفاء بعهد السلطان‏.‏ ثم رجع إليه بشتك بعد مراوضة فبويع أبو بكر ولقب المنصور وقام بأمر الدولة قرصون وردفه قطلو بغا الفخري فولوا على نيابة السلطان طقرمرد وبعثوا على حلب طشتمر وعلى حمص أخضر عوضاً عن طغراي وأقروا كتبغا الصالحي على دمشق‏.‏ ثم استوحش بشتك من استبداد قوصون وقطلو بغا دونه فطلب نيابة دمشق وكان يعجب بها من يوم دخلها للحوطة على تنكز فاستعفوه‏.‏ فلماجاء للوداع قبض عليه قطلوبغا الفخري وبعث به إلى الإسكندرية ثم أقبل السلطان أبو بكر على لذاته ونزع عن الملك وصار يمشي في سكك المدينة في الليل متنكراً مخالطاً للسوقة فنكر ذلك الأمراء وخلعه قوصون وقطلو بغا لسبعة وخمسين يوماً من بيعته وبعثوا به إلى قوص فحبس بها وولوا أخاه كجك ولقبوه الأشرف وعزلوا طقرمرد عن النيابة‏.‏ وقام بها قوصون وبعثوا طقرمرد نائباً على حماة وأدالوا به من الأفضل بن المؤيد فكان آخر من وليها من بني المظفر وقبضوا على طاجا الدويدار وبعثوا به إلى الإسكندرية فغرق في البحر وبعثوا بقتل بشتك في محبسه بالإسكندرية والله تعالى ينصر من يشاء من عباده‏.‏

مقتل قوصون ودولة أحمد بن الملك الناصر
لما بلغ الخبر إلى الأمراء بالشام باستبداد قوصون على الدولة غصوا من مكانه واعتزموا على البيعة لأحمد بن الملك الناصر وكان يومئذ بالكرك مقيماً منذ ولاه أبوه إمارتها كما قدمناه فكاتبه طشتمر نائب حمص وأخضر نائب حلب‏.‏ واستدعاه إلى الملك وبلغ الخبر إلى مصر فخرج قطلو بغا في العساكر لحصار الكرك وبعثوا إلى طنبغا الصالحي نائب دمشق فسار في العساكر إلى حلب للقبض على طشتمر نائب حمص وأخضر‏.‏ وكان قطلو بغا الفخري قد استوحش من صاحبه قوصون وغص باستبداده عليه‏.‏ فلما فصل بالجند من مصر بعث ببيعته إلى أحمد بن الملك الناصر بالكرك وسار إلى الشام فأقام دعوته في دمشق ودعا إليها طقرمرد نائب حماة فأجابه وقدم عليه وانتهى الخبر إلى طنبغا نائب دمشق وهو يحاصر حلب فأفرج عنها ودعاه قطلو بغا إلى بيعة أحمد فانتقض عليه أصحابه وسار إلى مصر واستولى قطلو بغا الفخري على الشام أجمع بدعوة أحمد‏.‏ وبعث إلى الأمراء بمصر فأجابوا إليها‏.‏ واجتمع أيدغمش وأقسنقر السلاري وغازي ومن تبعهم من الأمراء على البيعة لأحمد واستراب بهم قوصون كافل المملكة‏.‏ وهم بالقبض عليهم وشاور طنبغا اليحياوي من عنده من أصحابه في ذلك فغشوه وخذلوه وركب القوم ليلاً‏.‏ وكان أيدغمش عنده بالإسطبل وهو أمير الماصورية وهم قوصون بالركوب فخذله وثنى عزمه‏.‏ ثم ركب معهم واتصلت الهيعة ونادى في الغوغاء بنهب بيوت قوصون فنهبوها وخربوها وخربوا الحمامات التي بناها بالقرافة تحت القلعة‏.‏ ونهب شيخها شمس الدين الأصفهاني فسلبوه ثيابه وانطلقت أيدي الغوغاء في البلد ولحقت الناس منهم مضرات في بيوتهم‏.‏ واقتحموا بيت حسام الدين الغوري قاضي الحنفية فنهبوه وسبوا عياله‏.‏ وقادهم إليه بعض من كان يحنق عليه من الخصوم فجرت عليه معرة من ذلك‏.‏ ثم اقتحم أيدغمش وأصحابه القلعة وتقبضوا على قوصون وبعثوا به إلى الإسكندرية فمات في محبسه وكان قوصون قد أخرج جماعة من الأمراء للقاء طنبغا الصاحي فسار قرا سنقر السلاري في أثرهم وتقبض عليهم وعلى الصالحي وبعث بهم جميعاً إلى الإسكندرية فيما بعد سنة خمس وأربعين‏.‏ وبعث لأحمد بن الملك الناصر وطير إليه بالخبر وتقبض على جماعة من الأمراء واعتقلهم‏.‏ ثم قدم السلطان أحمد من الكرك في رمضان سنة اثنين وأربعين ومعه طشتمر نائب حمص وأخضر نائب حلب وقطلو بغا الفخري فولى طشتمر نائباً بمصر وقطلو بغا الفخري بعثه إلى دمشق نائباً‏.‏ ثم قبض على أخضر لشهر أو نحوه‏.‏ وقبض على أيدغمش وأقسنقر السلاري‏.‏ ثم ولى أيدغمش على حلب وبلغ الخبر إلى قطلو بغا الفخري قبل وصوله إلى دمشق فعدل إلى حلب واتبعته العساكر فلم يدركوه‏.‏ وتقبض على أيدغمش بحلب وبعث به إلى مصر فاعتقل مع طشتمر وارتاب الأمراء بأنفسهم‏.‏ واستوحش السلطان منهم انتهى والله أعلم‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:25 PM

مسير السلطان أحمد إلى الكرك
واتفاق الأمراء على خلعه والبيعة لأخيه الصالح ولما استوحش الأمراء من السلطان وارتاب بهم ارتحل إلى الكرك لثلاثة أشهر من بيعته واحتمل معه طشتمر وأيدغمش معتقلين واستصحب الخليفة الحاكم واستوحش نائب صفد بيبرس الأحمدي‏.‏ وسار إلى دمشق وهي يومئذ فوضى فتلقاه العسكر وأنزلوه وبعث السلطان في القبض عليه فأبى من أعطاه يده‏.‏ وقال إنما الطاعة لسلطان مصر وأما صاحب الكرك فلا‏.‏ وطالت غيبة السلطان أحمد بالكرك واضطرب الشام فبعث إليه الأمراء بمصر في الرجوع إلى دار ملكه فامتنع وقال هذه مملكتي أنزل من بلادها حيث شئت‏.‏ وعمد إلى طشتمر وأيدغمش الفخري فقتلهما فاجتمع الأمراء بمصر وكبيرهم بيبرس العلاني وأرغون الكاملي وخلعوه وبايعوا لأخيه إسماعيل في محرم سنة ثلاث وأربعين ولقبوه الصالح‏.‏ فولى أقسنقر السلاري ونقل أيدغمش الناصري من نيابة حلب إلى نيابة دمشق‏.‏ وولى مكانه بحلب طقرمرد‏.‏ ثم عزل أيدغمش من دمشق ونقل إليها طقرمرد وولى بحلب طنبغا المارداني ثم هلك المارداني فولي مكانه طنبغا اليحياوي واستقامت أموره والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

ثورة رمضان بن الناصر ومقتله وحصار الكرك
ومقتل السلطان أحمد ثم أن بعض المماليك داخل رمضان بن الملك الناصر في الثورة بأخيه وواعده قبة النصر فركب إليهم وأخلفوه فوقف في مماليكه ساعة يهتفون بدعوته‏.‏ ثم استمر هارباً إلى الكرك واتبعه العسكر مجدين السير في الطريق وجاؤوا به فقتل بمصر‏.‏ وارتاب السلطان بالكثير من الأمراء وتقبض على نائبه أقسنقر السلاري وبعث به إلى الإسكندرية فقتل هنالك وولى مكانه انجاح الملك‏.‏ ثم سرح العساكر سنة أربع وأربعين لحصار الكرك مترادفة ونزع بعض العساكر عن السلطان أحمد من الكبهرك فلحقوا بمصر وكان آخر من سار من الأمراء لحصار الكرك قماري ومساري سنة خمس وأربعين فأخذوا بمخنقة‏.‏ ثم اقتحموا عليه وملكوه وقتلوه فكان لبث بالملك في مصر ثلاثة أشهر وأياماً وانتقل إلى الكرك في محرم سنة ثلاث وأربعين إلى أن حوصر ومثل به‏.‏ وتوفي في أيامه طنبغا المارداني نائب حلب فولي مكانه طنبغا اليحياوي وسيف الدين طراي الجاشنكي نائب طرابلس فولي مكانه أقسنقر الناصري والله تعالى أعلم‏.‏

وفاة الصالح بن الناصر
وولاية أخيه الكامل ثم توفي الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر حتف أنفه سنة ست وأربعين لثلاث سنين وثلاثة أشهر من ولايته وبويع بعده أخوه زين الدين شعبان ولقب الكامل وقام بأمره أرغون العلاوي وولي نيابة مصر‏.‏ وعرض انجاح الملك إلى صفد ثم ره من طريقه معتقلاً إلى دمشق وبعث إلى القماري الكبير فبعثه إلى حبس الإسكندرية واستدعى طقرمرد نائب دمشق وكجك الأشرف المخلوع بن الناصر الذي ولاه قوصون وهلك انجاح الملك الجوكندار في حبسه بدمشق انتهى والله أعلم‏.‏

مقتل الكامل وبيعة أخيه المظفر حاجي
كان السلطان الكامل قد أرهف حده في الاستبداد على أهل دولته فراراً مما يتوهم فيهم من الحجر عليه فتراسل الأمراء بمصر والشام وأجمعوا الادالة منهم‏.‏ وانتقض طنبغا اليحياوي ومن معه بدمشق سنة سبع وأربعين وبرز في العساكر يريد مصر‏.‏ وبعث الكامل منجو اليوسفي يستطلع أخبارهم فحبسه اليحياوي‏.‏ واتصل الخبر بالكامل فجرد العساكر إلى الشام واعتقل حاجي وأمير حسين بالقلعة واجتمع الأمراء بمصر للثورة وركبوا إلى قبة النصر مع أيدمر الحجازي وأقسنقر الناصري وأرغون شاه فركب إلى الكامل في مواليه ومعه أرغون العلاوي نائبه فكانت بينهما جولة هلك فيها أرغون العلاوي‏.‏ ورجع الكامل إلى القلعة منهزماً ودخل‏!‏ ن باب السر مختفياً وقصد محبس أخويه ليقتلهما فحال الخدام دونهما وغلقوا الأبواب وجمع الذخيرة ليحملها فعاجلوه عنها ودخلوا القلعة وقصدوا حاجي بن الناصر فأخرجوه من معتقله وجاؤوا به فبايعوه ولقبوه المظفر‏.‏ وافتقدوا الكامل وتهددوا جواريه بالقتل فدلوا عليه واعتقل مكان حاجي بالدهشة وقتل في اليوم الثاني وأطلق حسين وقام بأمر المظفر حاجي أرغون شاه الحجازي وولوا طقتمر الأحمدي نائباً بحلب والصلاحي نائباً بحمص وحبس جميع موالي الكامل وأخرج صندوق من بيت الكامل قيل إن فيه السحر فأحرق بمحضر الأمراء ونزع المظفر حاجي إلى الاستبداد كما نزع أخوه فقبض على الحجازي والناصري وقتلهما لأربعين يوماً من ولايته وعلى أرغون شاه وبعثه نائباً إلى صفد‏.‏ وجعل مكان طقتمر الأحمدي في حلب تدمر البدري وولى على نيابته الحاج أرطاي وأرهف حده في الاستبداد‏.‏ وإرتاب الأمراء بمصر والشام وانتقض اليحياوي بدمشق سنة ثمان وأربعين وداخله نواب الشام في الخلاف‏.‏ ووصل الخبر إلى مصر فاجتمع الأمراء وتواعدوا للوثوب‏.‏ ونمي الخبر إلى المظفر فأركب مواليه من جوف الليل وطافوا بالقلعة وتداعى الأمراء إلى الركوب واستدعاهم من الغد إلى القصر وقبض على كل من اتهمه منهم بالخلاف وهرب بعضهم فأدرك بساحة البلد واعتقلوا جميعاً وقتلوا من تلك الليلة‏.‏ وبعث بعضهم إلى الشام فقتلوا بالطريق وولى من الغد مكانهم خمسة عشرة أميراً ووصل الخبر إلى دمشق فلاذ اليحياوي بالمغالطة يخادع بها وقبض على جماعة من الأمراء‏.‏ وكان السلطان المظفر قد بعث الأمير ألجيقا من خاصته إلى الشام عندما بلغه انتقاض طنبغا اليحياوي يستطلع أخباره فحمل الناس على طاعة المظفر وأغراهم باليحياوي حتى قتلوه وبعثوا برأسه إلى مصر وسكنت الفتنة واستوسق الملك للمظفر والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

مقتل المظفر حاجي بن الناصر
وبيعة أخيه حسن الناصر ودولته الأولى قد كنا قدمنا أن السلطان بعث جبقا إلى الشام حتى مهده ومحا أثر الخلاف منه ورجع إلى السلطان سنة ثمان وأربعين وقد استوسق أمره فوجد الأمراء مستوحشين من السلطان ومنكرين عليه اللعب بالحمام فتنصح له بذلك يريد إقلاعه عنه فسخط ذلك منه وأمر بالحمام فذبحت كلها‏.‏ وقبال لجبقا أنا أذبح خياركم كما ذبحت هذه فاستوحش جبقا وغدا على الأمراء والنائب بيقاروس وثاروا بالسلطان وخرجوا إلى قبة النصر وركب المظفر في مواليه والأمراء الذين معه قد داخلوا الآخرين في الثورة ورأيهم واحد في خلعه فبعث إليهم الأمير شيخو يتلطف لهم فأبوا إلا خلعه فجاءهم بالخبر‏.‏ ثم رجع إليهم وزحف معهم ولحق بهم الأمراء الذين مع المظفر عندما تورط في اللقاء وحمل عليه بيقاروس فأسلمه أصحابه وأمسكه باليد فذبحه في تربة أمه خارج القلعة‏.‏ ودفن هناك ودخلوا القلعة في رمضان من السنة وأقاموا عامة يومهم يتشاورون فيمن يولونه حتى هم أكثر الموالي بالثورة والركوب إلى قبة النصر فحينئذ بايعوا حسن بن الملك الناصر ولقبوه الناصر بلقب أبيه فوكل بأخيه حسين ومواليه لنفسه ونقل المال الذي بالحوش فوضعه بالخزانه‏.‏ وقام بالدولة ستة من الأمراء وهم شيخوا وطاز والجبقا وأحمد شادي والشرنخاناه وأرغون الإسماعيلي والمستبد عليهم جميعاً بيقاروس ويعرف بالقاسمي فقتل الحجازي وأقسنقر القائمين بدولة المظفر بمحبسها بالقلعة‏.‏ وولى بيقاروس نائباً بمصر فكان أرقطاي وأرغون شاه نائباً بحلب مكان تدمر البدري‏.‏ ثم نقله إلى دمشق منذ مقتل اليحياوي وولى مكانه بحلب أياس الناصر‏.‏ ثم تقبض بيقاروس على رفيقه أحمد شادي الشرنخاناه وغربه إلى صفد وأبعد الجبقا من رفقته وبعثه نائباً على طرابلس‏.‏ وبعث أرغون الإسماعيلي منهم نائباً على حلب‏.‏ وفي هذه السنة وقعت الفتنة بينه وبين مهنا بن عيسى ولقيه فهزمه ووفد أحمد أخوه على السلطان فولاه إمارة العرب وهدأت الفتنة بينهم ثم هلك سنة تسع وأربعين بعدها وولى أخوه فياض كما مر في أخبارهم والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:26 PM

مقتل أرغون شاه نائب دمشق
كان خبر هذه الواقعة الغريبة أن الجبقا بعتوه نائباً على طرابلس وسار صحبة أياس الحاجب نائباً على حلب سنة خمسين وانتهوا إلى دمشق‏.‏ ونما إلى الجبقا عن أرغون شاه أنه تعرض لبعض حرمه بصنيع جمع فيه نسوان أهل الدولة بدمشق فكتب إليه ليلاً وطرقه في بيته‏.‏ فلما خرج إليه قبض عليه وذبحه في ربيع وصنع مرسوماً سلطانياً دافع به الناس والأمراء واستصفى أمواله ولحق بطرابلس‏.‏ وجاء الأمر من مصر باتباعه وانكار المرسوم الذي أظهروه فزحفت العساكر من دمشق وقبضوا على الجبقا وأياس الحاجب بطرابلس وجاؤوا بهما إلى مصر فقتلا‏.‏ وولي الشمس الناصري نيابة دمشق مع أرغون شاه وصلب أرغون الكافلي وذلك في جمادى سنة خمسين‏.‏ وأصل أرغون شاه من بلاد الصين جلب إلى السلطان أبي سعيد ملك التتر ببغداد فأعطاه للأمير خواجا نائب جوبان وأهداه خواجا للملك الناصر فحظي عنده وقدمه رأس نوبة وزوجه بنت عبد الواحد‏.‏ ثم ولاه الكامل أستاذ دار ثم عظمت مرتبته أيام المظفر وجعل نائباً في صفد ثم في حلب‏.‏ ولما حبس طنبغا اليحياوي على دمشق بسعاية الجبقا كما مر ولى أرغون شاه بدمشق والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ نكبة بيقاروس ثم أن السلطان حسن شرع في الاستبداد وقبض على منجك اليوسفي أستاذ داره وعلى السلحدار واعتقلهما من غير مشورة بيقاروس وأصحابه‏.‏ وكان لمنجك اختصاص ببيقاروس وأخوه معه فارتاب واستأذن السلطان في الحج هو وطاز فأذن لهما ودس إلى طاز بالقبض على بيقاروس وسارا لشأنهما فلما نزلا بالينبع قبض طاز على بيقاروس فخرج ورغب إليه أن يتركه يحج مقيداً فتركه‏.‏ فلما قضى نسكه ورجعوا حبسه طاز بالكرك بأمر السلطان وأفرج عنه بعد ذلك وولي نيابة حلب وانتقض بها كما نذكر بعد إن شاء الله تعالى‏.‏ وبلغ خبر اعتقاله إلى أحمد شادي الشرنخاناه بصفد فانتقض وجهز السلطان إليه العساكر فقبض عليه وجيء به إلى مصر فاعتقل بالإسكندرية وقام بالدولة مغلطاي من أمرائها والله تعالى أعلم‏.‏

واقعة الظاهر ملك اليمن بمكة واعتقاله ثم اطلاقه
كان ملك اليمن وهو المجاهد علي بن داود المؤيد قد جاء إلى مكة حاجاً سنة إحدى وخمسين وهي السنة التي حج فيها طاز وشاع في الناس عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر وفد المصريين لوفد اليمنيين ووقعت في بعض الأيام هيعة في ركب الحاج فتحاربوا وانهزم المجاهد وكان بيقاروس مقيداً فأطلقه وأركبه ليستعين به فجلا في تلك الهيعة وأعيد إلى اعتقاله ونهب حاج اليمن‏.‏ وقيد المجاهد إلى مصر فاعتقل بها حتى أطلق في دولة الصالح سنة اثنتين وخمسين وتوجه معه قشتمر المنصوري ليعيده إلى بلاده‏.‏ فلما انتهى إلى الينبع أشيع عنه أنه هم بالهرب فقبض عليه قشتمر المنصوري وحبسه بالكرك‏.‏ ثم أطلق بعد ذلك وأعيد إلى ملكه والله أعلم‏.‏

خلع حسن الناصر وولاية أخيه الصالح
لما قبض السلطان حسن على بيقاروس وحبسه وتنكر لأهل دولته ورفع عليهم مغلطاي واختصه واستوحشوا لذلك وتفاوضوا وداخل طاز وهو كبيرهم جماعة من الأمراء في الثورة‏.‏ وأجابه إلى ذلك بيقو الشمسي في آخرين واجتمعوا لخلعه‏.‏ وركبوا في جمادى سنة اثنتين وخمسين فلم يمانعهم أحد وملكوا أمرهم ودخلوا القلعة وقبض طاز على حسن الناصر واعتقله وأخرج أخاه حسيناً من اعتقاله فبايعه ولقبه الصالح وقام بحمل الدولة‏.‏ وأخرج بيقو الشمسي إلى دمشق وبيقر إلى حلب أسيرين وانفرد بالأمر‏.‏ ثم نافسه أهل الدولة واجتمعوا على الثورة وتولى كبر ذلك مغلطاي ومنكلي وبيبقا القمري وركبوا فيمن اجتمع إليهم إلى قبة النصر للحرب فركب طاز وسلطانه الصالح في جموعه وحمل عليهم ففض جمعهم وأثخن فيهم‏.‏ وقبض على مغلطاي ومنكلي فحبسهما بالإسكندرية وأفرج عن منجك وعن شيخو وجعله أتابكه على العساكر وأشركه في سلطانه وولى سيف الدين ملاي نيابته واختص سرغتمش ورقاه في الدولة وقبض على الشمسي المحمدي نائب دمشق ونقل إليها لمكانة أرغون الكاملي من حلب وأفرج عن بيقاروس بالكرك وبعثه مكانه إلى حلب ثم تغير منجك واختفى بالقاهرة والله تعالى أعلم‏.‏

انتقاض بيقاروس واستيلاؤه على الشام
ومسير السلطان إليه ومقتله قد تقدم لنا ذكر بيقاروس وقيامه بدولة حسن الأولى ونكبته في طريقه إلى الحج بالكرك ولما أطلقه طاز وولاه على حلب أدركته المنافسة والغيرة من طاز واستبداده بالدولة فحدثته نفسه بالخلاف وداخل نواب الشام‏.‏ ووافقه في ذلك بالكمش نائب طرابلس وأحمد شادي الشرنخاناه نائب صفد وخالفه أرغون الكاملي نائب دمشق وتمسك بالطاعة وتعاقد هؤلاء على الخلاف مع شيخو وسرغتمش في رجب سنة ثلاث وخمسين‏.‏ ثم دعا بيقاروس العرب والتركمان إلى الموافقة فأجابه خبار بن مهنا من العرب وقراجا بن العادل من التركمان في جموعهما‏.‏ وبرز من حلب يقصد دمشق فأجفل عنها أرغون النائب إلى غزة واستخلف عليها الجبقا العادلي ووصل بيقاروس فملكها وامتنعت القلعة فحاصرها وكثر العيث من عساكره في القرى‏.‏ وسار السلطان الصالح وأمراء الدولة من مصر العساكر في شعبان من السنة وأخرج معه الخليفة المعتضد أبا الفتح أبا بكر بن المستكفي وعثر بين يدي خروجه على منجك ببعض البيوت لسنة من اختفائه فبعث به سرغتمش إلى الإسكندرية وبلغ بيقاروس خروج السلطان من مصر فأجفل عن دمشق وثار العوام بالتركمان فأثخنوا فيهم‏.‏ ووصل السلطان إلى دمشق ونزل بالقلعة وجهز العساكر في اتباع بيقاروس فجاؤوا بجماعة من الأمراء الذين كانوا معه فقتل السلطان بعضهم ثالث الفطر وحبس الباقين‏.‏ وولى على دمشق الأمير علياً المارداني ونقل منها أرغون الكاملي إلى حلب وسرح العساكر في طلب بيقاروس من مغلطاي الدوادار‏.‏ وعاد إلى مصر فدخلها في ذي القعدة من السنة وسار مغلطاي في طلب بيقاروس وأصحابه فأوقع بهم وتقبض على بيقاروس وأحمد وقطلمش وقتلهم وبعث برؤوسهم إلى مصر أوائل سنة أربع وخمسين‏.‏ وأوعز السلطان إلى أرغون الكاملي نائب حلب بأن يخرج في العساكر لطلب قراجا بن العادل مقدم التركمان فسار إلى بلده البلسين فوجدها مقفرة وقد أجفل عنها فهدمها أرغون واتبعه إلى بلاد الروم‏.‏ فلما أحس بهم أجفل ولحق بابن أرشا قائد المغل في سيواس ونهب العساكر أحياءه واستاقوا مواشيه‏.‏ ثم قبض عليه ابن أرشا قائد المغل وبعث به إلى مصر فقتل بها وسكنت الفتنة وأطلق المعتقلون بالإسكندرية وتأخر منهم مغلطاي ومنجك أياماً‏.‏ ثم أطلقا وغربا إلى الشام والله تعالى أعلم‏.‏ وفي أثناء هذه الفتن كثر فساد العرب بالصعيد وعيثهم وانتهبوا الزروع والأموال وتولى كبر ذلك الأحدب وكثرت جموعه فخرج السلطان في العسكر سنة أربع وخمسين ومعه طاز‏.‏ وسار شيخو في العساكر بغنائمهم‏.‏ وخلص السلطان من الظهر والسلاح ما لا يعبر عنه‏.‏ وأسر جماعة منهم فقتلوا وهرب الأحدب حتى استأمن بعد رجوع السلطان فأمنه على أن يمتنعوا من ركوب الخيل وحمل السلاح ويقبلوا على الفلاحة والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:27 PM

خلع الصالح وولاية حسن الناصر الثانية
كان شيخو أتابك العساكر قد ارتاب بصاحبه طاز فداخل الأمراء بالثورة بالدولة وتربص بها إلى أن خرج طاز سنة خمس وخمسين إلى البحيرة متصيداً وركب إلى القلعة فخلع الصالح ابن بنت تنكز وقبض عليه وألزمه بيته لثلاث سنين كوامل من دولته‏.‏ وبايع لحسن الناصر أخيه وأعاده إلى كرسيه وقبض على طاز فاستدعاه من البحيرة فبعثه إلى حلب نائباً‏.‏ وعزل أرغون الكاملي فلحق بدمشق حتى تقبض عليه سنة ست وخمسين وسيق إلى الإسكندرية فحبس بها وبلغ الخبر بوفاة الشمسي الأحمدي نائب طرابلس وولى مكانه منجك‏.‏ واستبد شيخو بالدولة وتصرف بالأمر والنهي‏.‏ وولى على مكة عجلان بن رميثة وأفرده بإمارتها وكانت له الولاية والعزل والحل والعقد سائر أيامه واعتمده الملوك من النواحي شرقاً وغرباً بالمخاطبات‏.‏ وكان رديفه في حمل الدولة سرغتمش من موالي السلطان والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده بمنه‏.‏ مهلك شيخو ثم سرغتمش بعده واستبداد السلطان بأمره لم يزل شيخو مستبداً بالدولة وكافلاً للسطان حتى وثب عليه يوماً بعض الموالي بمجلس السلطان في دار العدل في شعبان سنة ثمان وخمسين واعتمده في دخوله من باب الإيوان وضربه بالسيف ثلاثاً أصاب بها وجهه ورأسه وذراعيه فخر لليدين ودخل السلطان بيته وانفض المجلس‏.‏ واتصلت الهيعة بالعسكر خارج القلعة فاضطربوا واقتحم موالي شيخو القلعة إلى الإيوان يقدمهم خليل بن قوصون وكان ربيبه لأن شيخو تزوج بأمه فاحتمل شيخو إلى منزله‏.‏ وأمر الناصر بقتل المملوك الذي ضربه فقتل ليومه وعاده الناصر من الغد وتوجل من الوثبة أن تكون بأمره‏.‏ وأقام شيخو عليلاً إلى أن هلك في ذي القعدة من السنة وهو أول من سمي الأمير الكبير بمصر‏.‏ واستقل سرغتمش رديفه بحمل الدولة‏.‏ وبعث عن طاز فأمسكه بحلب وحبسه بالإسكندرية وولى مكانه الأمير علياً المارداني نقله إليها من دمشق وولى مكانه بدمشق منجك اليوسفي‏.‏ ثم تقبض السلطان على سرغتمش في رمضان سنة تسع وخمسين وعلى جماعة من الأمراء معه مثل مغلطاي الدوادار وطشتمر القامسي الحاجب وطنبغا الماجاري وخليل بن قوصون ومحا السلحدار وغيرهم وركب مواليه وقاتلوا مماليك السلطان في ساحة القلعة صدر نهار ثم انهزموا وقتلوا واعتقل سرغتمش وجماعته المنكوبون بالإسكندرية وقتل بمحبسه لسبعين يوماً من اعتقاله‏.‏ وتخطت النكبة إلى شيعته وأصحابه من الأمراء والقضاة والعمال‏.‏ وكان الذي تولى نكبة هؤلاء كلهم بأمر السلطان منكلي بيبقا الشمسي‏.‏ ثم استبد السلطان يملكه واستولى على أمره وقدم مملوكه بيبقا القمري وجعله أمير ألف‏.‏ وأقام في الحجابة الجاي اليوسفي‏.‏ ثم بعثه إلى دمشق نائباً واستقدم منجك نائب دمشق‏.‏ فلما وصل إلى غزة استتر واختفى فولى الناصر مكانه بدمشق الأمير علياً المارداني نقله من حلب وولى على حلب سيف الدين بكتمر المؤمني‏.‏ ثم أدال من علي المارديني في دمشق باستدمر ومن المؤمني في حلب بمندمر الحوراني وأمره السلطان سنة إحدى وستين بغزو سيس وفتح أذنة وطرسوس والمصيصة في حصون أخرى وولى عليها ورجع فولاه السلطان نيابة دمشق مكان استدمر وولى على حلب أحمد بن القتمري‏.‏ ثم عثر بدمشق سنة إحدى وستين على منجك بعد أن نال العقاب بسببه جماعة من الناس‏.‏ فلما حضر عفا عنه السلطان وأمده وخيره في النزول حيث شاء من بلاد الشام‏.‏ وأقام السلطان‏.‏ بقية دولته مستبداً على رجال دولته وكان يأنس بالعلماء والقضاة ويجمعهم في بيته متبدلاً ويفاوضهم في مسائل العلم ويصلهم ويحسن إليهم ويخالطهم أكثر ممن سواهم إلى أن انقرضت دولته والبقاء لله وحده‏.‏

ثورة بيبقا ومقتل السلطان حسن وولاية منصور ابن المعظم حاجي في كفالة بيبقا
كان بيبقا هذا من موالي السلطان حسن وأعلاهم منزلة عنده وكان يعرف بالخاصكي نسبة إلى خواص السلطان‏.‏ وكان الناصر قد رقاه في مراتب الدولة وولاه الإمارة ثم رفعه إلى الاتابكية وكان لجنوحه إلى الاستبداد كثيراً ما يبوح بشكاية مثل ذلك‏.‏ فأحضره بعض الليالي بين حرمه وصرفه في جملة من الخدمة لبعض مواليه وقادها فأسرها بيبقا في نفسه واستوحش‏.‏ وخرج السلطان سنة اثنتين وستين إلى كوم برى وضرب بها خيامه وأذن للخاصكي في مخيمه قريباً منه‏.‏ ثم نمي عنه خبر الإنتقاض فأجمع القبض عليه واستدعاه فامتنع من الوصول وربما أشعره داعيه بالإسترابة فركب إليه الناصر بنفسه فيمن حضره من مماليكه وخواص أمرائه تاسع جمادى من السنة‏.‏ وبرز إليه بيبقا وقد أنذر به واعتد له فصدقه القتال في ساحة مخيمه‏.‏ وانهزم أصحاب السلطان عنه ومضى إلى القلعة وبيبقا في اتباعه فامتنع الحراس بالقلعة من إخافة طارقة جوف الليل فتسرب في المدينة واختفى في بيت الأمير ابن الأزكشي بالحسينية وركب الأمراء من القاهرة مثل ناصر الدين الحسيني وقشتمر المنصوري وغيرهما لمدافعة بيبقا فلقيهم ببولاق وهزمهم واجتمع ثانية وثالثة وهزمهم‏.‏ وتنكر الناصر مع أيدمر الدوادار يحاولان النجاة إلى الشام واطلع عليهما بعض المماليك فوشى بهما إلى بيبقا فبعث من أحضره فكان آخر العهد به‏.‏ ويقال إنه امتحنه قبل القتل فدله على أموال السلطان وذخائره وذلك لست سنين ونصف من تملكه‏.‏ ثم نصب بيبقا للملك محمد بن المظفر حاجي ولقبه المنصور وقام بكفالته وتدبير دولته وجعل طنبغا الطويل رديفه‏.‏ وولى قشتمر المنصوري نائباً وغشتمر أمير مجلس وموسى الازكشي أستاذ دار‏.‏ وأفرج عن القاسمي وبعثه نائباً بالكرك وأفرج عن طاز وقد كان عمي فبعثه إلى القدس بسؤاله ثم إلى دمشق‏.‏ ومات بها في السنة بعدها وأقر عجلان في ولاية مكة وولى على عرب الشام جبار بن مهنا وأمسك جماعة من الأمراء فحبسهم والله تعالى أعلم‏.‏

انتقاض استدمر بدمشق
ولما اتصل بالشام ما فعله بيبقا وأنه استبد بالدولة‏.‏ وكان استدمر نائباً بدمشق كما قدمناه امتعض لذلك وأجمع الانتقاض وداخله في ذلك مندمر وألبري ومنجك اليوسفي واستولى على قلعة دمشق‏.‏ وسار في العساكر ومعه السلطان المنصور ووصل إلى دمشق واعتصم القوم بالقلعة‏.‏ وترددت بينهما القضاة بالشام حتى نزلوا على الأمان بعد أن حلف بيبقا‏.‏ فلما نزلوا إليه بعث بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها وولى الأمير المارداني نائباً بدمشق وقطلو بغا الأحمدي نائباً بحلب مكان أحمد بن القتمري بصفد وعاد السلطان المنصور وبيبقا إلى مصر والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وفاة الخليفة المعتضد بن المستكفي وولاية ابنه المتوكل
قد تقدم لنا أن الخليفة المستكفي لما توفي قبل وفاة الملك الناصر عهد لابنه أحمد ولقبه الحاكم وأن الناصر عدل عنه إلى إبراهيم بن محمد عم المستكفي ولقبه الواثق‏.‏ فلما توفي الناصر آخر سنة إحدى وأربعين وأغار الأمراء القائمون بالدولة والأمير أحمد الحاكم بن المستكفي ولي عهده فلم يزل في خلافته إلى أن هلك سنة ثلاث وخمسين لأول دولة الصالح سبط تنكز‏.‏ وولى بعده أخوه أبو بكر بن المستكفي ولقب المعتضد‏.‏ ثم توفي سنة ثلاث وستين لعشرة أعوام من خلافته وعهد إلى ابنه أحمد فولي مكانه ولقب المستكفي والله تعالى أعلم‏.‏

خلع المنصور وولاية الأشرف
ثم بدا البيبقا الخاصكي في أمر المنصور محمد بن حاجي فخلعه استرابة به في شعبان سنة أربع وستين لسبعة وعشرين شهراً من ولايته ونصب مكانه شعبان بن الناصر حسن بن الملك الناصر وكان أبوه قد توفي في ربيع الآخر من تلك السنة‏.‏ وكان آخر بني الملك الناصر فمات فولي ابنه شعبان ابن عشر سنين ولقبه الأشرف وتولى كفالته‏.‏ وفي سنة خمس وستين عزل المارداني من دمشق وولى مكانه منكلي بغا نقله من حلب وولى مكانه قطلو بغا الأحمدي‏.‏ وتوفي قطلو بغا فولى مكانه غشقتمر المارداني‏.‏ ثم عزل غشقتمر سنة ست وستين فولى مكانه سيف الدين فرجي وأوعز إليه سنة سبع وستين أن يسير في العساكر لطلب خليل بن قراجا بن العادل أمير التركمان فيحضره معتقلاً فسار إليه وامتنع في خرت برت فحاصره أربعة أشهر واستأمن خليل بعدها وجاء إلى مصر فأمنه السلطان وخلع عليه وولاه ورجع إلى بلده وقومه والله تعالى أعلم‏.‏

واقعة الإسكندرية
كان أهل جزيرة قبرص من أمم النصرانية وهم من بقايا الروم وإنما ينتسبون لهذا العهد إلى الإفرنج لظهور الإفرنج على سائر أمم النصرانية‏.‏ وإلا فقد نسبهم هروشيوش إلى كيتم وهم الروم عندهم ونسب أهل رودس إلى دوداتم وجعلهم أخوة كيتم ونسبهما معاً إلى رومان‏.‏ وكانت على أهل قبرص جزية معلومة يؤدونها لصاحب مصر وما زالت مقررة عليهم من لدن فتحها على يد معاوية أمير الشام أيام عمر‏.‏ وكانوا إذا منعوا الجزية يسلط صاحب الشام عليهم أساطيل المسلمين فيفسدون مراسيها ويعيثون في سواحلها حتى يستقيموا لأداء الجزية‏.‏ وتقدم لنا آنفاً في دولة الترك أن الظاهر بيبرس بعث إليها سنة تسع وستين وستمائة أسطولاً من الشواني وطرقت مرساها ليلاً فتكسرت لكثرة الحجارة المحيطة بها في كل ناحية‏.‏ ثم غلب لهذه العصور أهل جنوة من الإفرنج على جزيرة رودس حازتها من يد لشكري صاحب القسطنطينية سنة ثمان وسبعمائة وأخذوا بمخنفها‏.‏ وأقام أهل قبرص معهم بين فتنة وصلح وسلم وحرب آخر أيامهم‏.‏ وجزيرة قبرص هذه على مسافة يوم وليلة في البحر قبالة طرابلس منصوبة على سواحل الشام ومصر‏.‏ واطلعوا بعض الأيام على غرة في الإسكندرية وأخبروا حاجبهم وعزم على انتهاز الفرصة فيها فنهض في أساطيله واستنفر من سائر الإفرنج ووافى مرساها سابع عشر من المحرم سنة سبع وستين في أسطول عظيم يقال بلغ سبعين مركباً مشحونة بالعدة وبالعدد ومعه الفرسان المقاتلة بخيولهم‏.‏ فلما أرسى بها قدمهم إلى السواحل وعبى صفوفه وزحف وقد غص الساحل بالنظارة برزوا من البلد على سبيل النزهة لا يلقون بالاً لما هو فيه ولا ينظرون مغبة أمره لبعد عهدهم بالحرب وحاميتهم يومئذ قليلة وأسوارهم من الرماة المناضلين دون الحصون خالية‏.‏ ونائبها القائم بمصالحها في الحرب والسلم وهو يومئذ خليل بن عوام غائب في قضاء فرضه فما هو إلا أن رجعت تلك الصفوف على التعبية ونضحوا العوام بالنبل فأجفلوا متسابقين إلى المدينة وأغلقوا أبوابها وصعدوا إلى الأسوار ينظرون ووصل القوم إلى الباب فأحرقوه واقتحموا المدينة واضطرب أهلها وماج بعضهم في بعض‏.‏ ثم أجفلوا إلى جهة البر بما أمكنهم من عيالهم وولدهم وما اقتدروا عليه من أموالهم وسالت بهم الطرق والأباطح ذاهبين في غير وجه حيرة ودهشة‏.‏ وشعر بهم الأعراب أهل الضاحية فتخطفوا الكثير منهم وتوسط الإفرنج المدينة ونهبوا ما مروا عليه من الدور وأسواق البر ودكاكين الصيارفة ومودعات التجار وملأوا سفنهم من المتاع والبضائع والذخيرة والصامت واحتملوا ما استولوا عليه من السبي والأسرى وأكثر ما فيهم الصبيان والنساء‏.‏ ثم تسايل إليهم الصريخ من العرب وغيرهم فانكفأ الإفرنج إلى أساطيلهم وانكمشوا فيها بقية يومهم وأقلعوا من الغد‏.‏ وطار الخبر إلى كافل الدولة بمصر الأمير بيبقا فقام في ركائبه وخرج لوقته بسلطانه وعساكره ومعه ابن عوام نائب الإسكندرية منصرفة من الحج وفي مقدمته خليل بن قوصون وقطلو بغا الفخري من أمرائه وعزائمهم مرهفة ونياتهم في الجهاد صادقة حتى بلغهم الخبر في طريقهم بإقلاع العدو فلم يثنه ذلك واستمر إلى الإسكندرية وشاهد ما وقع بها من معرة الخراب وآثار الفساد فأمر بهدم ذلك وإصلاحه ورجع أدراجه إلى دار الملك وقد امتلأت جوانحه غيطاً وحنقاً على أهل قبرص فأمر بإنشاء مائة أسطول من الأساطيل التي يسمونها القربان معتزماً على غزو قبرص فيها بجميع من معه من عساكر المسلمين بالديار المصرية واحتفل في الاستعداد لذلك واستكثر من السلاح وآلات الحصار وكمل غرضه من ذلك كله في رمضان من السنة لثمانية أشهر من الشروع فيه فلم يقدر على تمام غرضه من الجهاد لما وقع من العوائق كما نقصه والله تعالى ولي التوفيق‏.‏ ثورة الطويل ونكبته كان طنبغا الطويل من موالي السلطان حسن وكانت وظيفته في الدولة أمير سلاح وهو مع ذلك رديف بيبقا في أمره وكان يؤمل الاستبداد ثم حدثت له المنافسة والغيرة من بيبقا كما حدثت لسائر أهل الدولة عندما استكمل أمره واستفحل سلطانه وداخلوا الطويل في الثورة وكان دوادار السلطان أرغون الأشقري وأستاذ دار المحمدي‏.‏ وبينا هم في ذلك خرج الطويل للسرحة بالعباسية في جمادى سنة سبع وستين وفشا الأمر بين أهل الدولة فنمي إلى بيبقا واعتزم على إخراج الطويل إلى الشام وأصدر له المرسوم السلطاني بنيابة دمشق وبعث به إليه وبالخلعة على العادة مع أرغون الأشقري الدوادار وروس المحمدي أستاذ دار من المداخلين له ومعه أرغون الأرفي وطنبغا العلائي من أصحاب بيبقا فردهم الطويل وأساء إليهم‏.‏ وواعد بيبقا قبة النصر ثم شفع للسلطان في الطويل في شهر شعبان من السنة وبعثه إلى القدس ثم أطلق الأشقري والمحمدي وبعث بهما إلى الشام وولى مكان الطويل طيدمر الباسلي ومكان الأشقري في الدويدارية طنبغا الأبي بكري‏.‏ ثم عزله بيبقا العلائي وولى مكانه روس العادل المحمدي‏.‏ وكان جماعة من الأمراء أهل وظائف في الدولة قد خرجوا مع الطويل وحبسوا فولى في وظائفهم أمراء آخرين ممن لم تكن له وظيفة واستدعى منكلي بيبقا الشمسي نائب دمشق إلى مصر يطلبه فقدم نائباً بحلب مكان سيف الدين برجي وآذن له في الاستكثار من العساكر وجعلت رتبته فوق نائب دمشق وولى مكانه بدمشق اقطمر عبد العزيز انتهى والله تعالى أعلم‏.‏ المماليك ثورة المماليك ببيبقا ومقتله واستبداد استدمر كان طنبغا قد طال استبداده على السلطان وثقلت وطأته على الأمراء وأهل الدولة وخصوصاً على مماليكه وكان قد استكثر من المماليك وأرهف حده لهم في التأديب وتجاوز الضرب فيهم بالعصا إلى جدع الأنوف واصطلام الآذان فكتموا الأمر في نفوسهم وضمائرهم لذلك وطووا على الغش وكان كبير خواصه استدمر واقتفان الأحمدي ووقع في بعض الأيام بمثل هذه العقوبة في أخي استدمر فاستوحش له وارتاب وداخل سائر الأمراء في الثورة يرون فيها نجاتهم منهم‏.‏ وخلصوا النجوى مع السلطان فيه واقتضوا منه الإذن‏.‏ وسرح السلطان بيبقا إلى البحيرة في عام ثمان وسبعين وانعقد هؤلاء المماليك المتفاوضون في الثورة بمنزل الطرانة وبيتوا له فيها ونمي إليه خبرهم ورأى العلامات التي قد أعطيها من أمرهم فركب مركباً في بعض خواصه وخاض النيل إلى القاهرة وتقدم إلى نواتية البحر أن يرسوا سفنهم عند العدوة الشرقية ويمنعوا العبور كل من يرومه العدوة الغربية‏.‏ وخالفه استدمر واقتفان إلى السلطان في ليلتهم وبايعوه على مقاطعة بيبقا ونكبته ولما وصل بيبقا إلى القاهرة جمع من كان بها من الأمراء والحجاب من مماليكه وغيرهم وكان بها أيبك البدري أمير ماخورية فاجتمعوا عليه‏.‏ وكان يقتمر النظامي وأرغون ططن بالعباسية سارحين فاجتمعوا إليه فخلع الأشرف ونصب أخاه أتوك ولقبه المنصور وأحضر الخليفة فولاه واستعد للحرب وضرب مخيمه بالجزيرة الوسطى على عدوة البحر‏.‏ ولحق به من كانت له معه صاغية من الأمراء الذين مع السلطان بصحابة أو أمر أو ولاية مثل بيبقا العلائي الدوادار ويونس الرمام وكمشيقا الحموي وخليل بن قوصون ويعقوب شاه وقرابقا البدري وابتغا الجوهري‏.‏ ووصل السلطان الأشرف من الطرانة صبيحة ذلك اليوم على التعبية قاصداً دار ملكه وانتهى إلى عدوة البحر فوجدها مقفرة من السفن فخيم هنالك وأقام ثلاثاً وبيبقا وأصحابه قبالتهم بالجزيرة الوسطى ينضحونهم بالنبل ويرسلون عليهم الحجارة من المجانيق وصواعق الأنقاط وعوالم النظارة في السفن إلى أن تتوسط فيركبونها ويحركونها بالمجاذيف إلى ناحية السلطان حتى كملت منها عدة وأكثرها من القربان التي أنشأها بيبقا وأجاز فيها السلطان وأصحابه إلى جزيرة الفيل‏.‏ وسار على التعبية وقد ملأت عساكره وتابعه بسيط الأرض وتركم القتام بالجو وغشيت سحابة موكب بيبقا وأصحابه فتقدموا للدفاع وصدقتهم عساكر السلطان القتال فانفضوا عن بيبقا وتركوه أوحش من وتد في قلاع فولى منهزماً ومر بالميدان فصلى ركعتين عند بابه واستمر إلى بيته والعوام ترجمه في بطريقه‏.‏ وسار السلطان في تعبيته إلى القلعة ودخل قصره وبعث عن بيبقا فجيء به واعتقل بحبس القلعة سائر يومه‏.‏ فلما غشي الليل ارتاب المماليك بحياته وجاؤوا إلى السلطان يطلبونه وقد اضمروا الفتك به وأحضره السلطان‏.‏ وبينما هو مقبل على التضرع للسلطان ضربه بعضهم فأبان رأسه وارتاب من كان منهم خارج القصر في قتله فطلبوا معاينته ولم يزالوا يناولون رأسه من واحد إلى واحد حتى رماه آخرهم في مشعل كان بازائه‏.‏ ثم دفن وفرغ من أمره وقام بأمر الدولة استدمر الناصري ورديفه بيبقا الأحمدي ومعهما بحماس الطازي وقرابقا السرغتمشي وتغري بردي المتولون كبر هذه الفعلة‏.‏ وتقبضوا على الأمراء الذين عدلوا عنهم إلى بيبقا فحبسوهم بالإسكندرية‏.‏ وقد مر ذكرهم وعزل خليل بن قوصون وألزم بيته وولوا أمراء مكان المحبوسين وأهل وظائف من كانت له‏.‏ واستقر أمر الدوة على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم‏.

ميارى 8 - 8 - 2010 03:28 PM

واقعة الأجلاب ثم نكبتهم ومهلك استدمر وذهاب دولته
ثم تنافس هؤلاء القائمون بالدولة وحبسوا قرابقا السرغتمشي صاحبهم وامتعض له تغري بردي وداخل بعض الأمراء في الثورة ووافقه أيبك البدري وجماعة معه وركب منتصف رجب سنة ثمان وستين للحرب فركب له استدمر وأصحابه فتقبضوا عليهم وحبسوهم بالإسكندرية وعظم ظغيان هؤلاء الأجلاب وكثر عيثهم في البلد وتجاوزهم حدود الشريعة والملك‏.‏ وفاوض السلطان أمراءه في شأنهم فأشاروا بمعاجلتهم وحسم دائهم فنبذ السلطان إليهم العهد وجلس على كرسيه بالأساطيل وتقدم إلى الأمراء بالركوب فركب الجائي اليوسفي وطغتمر النظامي وسائر أمراء السلطان ومن استخدموه من مماليك بيبقا وتحيز إليهم أيبقا الجلب وبحماس الظازي عن صاحبهما استدمر‏.‏ وركب لقتالهم استدمر وأصحابه وسائر الأجلاب وحاصروا القلعة إلى أن خرج عند الطلحساه السلطانية فاختل مركز الأمراء وفارقهم وثبت الجائي اليوسفي وأرغون التتر في سبعين من مماليكهم فوقفوا قليلاً ثم انهزموا إلى قبة النصر وقتل دروط ابن أخي الحاج الملك وقبض على أيبقا الجلب جريحاً وعلى طغتمر النظامي وعلى بحماس الطازي والجائي اليوسفي وأرغون التتر وكثير من أمراء الألوف ومن دونهم‏.‏ واستولى استدمر وأصحابه الأجلاب على السلطان كما كانوا وولى مكان المحبوسين من الأمراء وأهل الوظائف وعاد خليل بن قوصون على إمرته‏.‏ وعزل قشتمر عن طرابلس وحبس بالإسكندرية واستبدل بكثير من أمراء الشام واستمر الحال على ذلك بقية السنة والأجلاب على حالهم في الإستهتار بالسلطان والرعية‏.‏ فلما كان محرم سنة تسع وستين عادوا إلى الأجلاب على الدولة فركب أمراء السلطان إلى استدمر يشكونهم ويعاتبونهم في شأنهم فقبض على جماعة منهم كسر بهم الفتنة وذلك يوم الأربعاء سادس صفر فلما كان يوم السبت وعاودوا الركوب ونادوا بخلع السلطان فركب السلطان في مماليكه ونحو المائتين‏.‏ والتف عليهم العوام وقد حنقوا على الأجلاب بشراشرهم فيهم‏.‏ وركب استدمر في الأجلاب على التعبية وهم ألف وخمسمائة وجاؤوا من وراء القلعة على عادتهم حتى شارفوا القوم فأحجموا ووقفوا وأدلفتهم الحجارة من أيدي العوائم بالمقاليع وحملت عليهم العساكر فانهزموا وقبض على أبقا السرغتمشي وجماعة معه فحبسوا بالخزانة‏.‏ ثم جيء باستدمر أسيراً وشفع فيه الأمراء فشفعهم السلطان وأطلقه باقياً على أتابكيته ونزل إلى بيته بقبض الكيس‏.‏ وكان خليل بن قوصون تولى أتابكاً في تلك الفترة فأمره السلطان أن يباكر به لحبسه من الغد فركب خليل إلى بيته وحمله على الأنتقاض على أن يكون الكرسي لخليل بعلاقة نسبته إلى الملك الناصر من أمه‏.‏ فاجتمع منهم جماعة من الأجلاب وركبوا بالرميلة فركب إليهم السلطان والأمراء في العساكر فانهزموا وقتل كثير منهم‏.‏ وبعثوا بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها وقتل كثير ممن أسر في تلك الواقعة منهم وطيف بهم على الجمال في أقطار المدينة‏.‏ ثم تتبع بقية الأجلاب بالقتل والحبس بالثغور القاصية وكان ممن حبس منهم بالكرك برقوق العثماني الذي ولي الملك بعد ذلك بمصر وبركه الجولاني وطنبغا الجوباني وجركس الخليلي ونعنع وأقاموا كلهم متلفين بين السجن والنفي إلى أن اجتمع شملهم بعد ذلك كما نذكره‏.‏ واستبد السلطان بأمره بعض الشيء وأفرج عن الجائي اليوسفي وطغتمر النظامي وجماعة من المسجونين من أمرائه وولى الجائي أمير سلاح وولى بيبقا المنصوري وبكتمر المحمدي من أمراء الأجلاب في الأتابكية شريكين‏.‏ ثم نمي عنهما أنهما يرومان الثورة وإطلاق المسجونين من الأجلاب والاستبداد على السلطان فقبض عليهما‏.‏ وبعث عن منكلي بغا الشمسي من حلب وأقامه في الأتابكية‏.‏ واستدعى أمير علي المارداني من دمشق وولاه النيابة وولى في جميع الوظائف وكان منهم مولاه أرغون الأشرفي‏.‏ وما زال يرقيه في الوظائف إلى أن جعله أتابك دولته وكان خالصته كما سنذكر‏.‏ وولى على حلب مكان منكلي بغا طنبغا الطويل وعلى دمشق مكان المارداني بندمر الخوارزمي‏.‏ ثم اعتقله وصادره على مائة ألف دينار ونفاه إلى طرطوس وولى مكانه منجك اليوسفي نقله إليها من طرابلس وأعاد إليها غشقتمر المارداني كما كان قبله‏.‏ ثم توفي طنبغا الطويل بحلب آخر سنة تسع وستين بعد أن كان يروم الانتقاض فولى مكانه استبغا الأبو بكري‏.‏ ثم عزله سنة سبعين وولى مكانه قشتمر المنصوري والله تعالى ولي التوفيق بمنه وفضله‏.‏

مقتل قشتمر المنصوري بحلب في واقعة العرب
كان جماز بن مهنا أمير العرب من آل فضل قد انتقض وولى السلطان مكانه ابن عمه نزال بن موسى بن عيسى واستمر جماز على خلافه ووطئ بلاد حلب أيام المصيف واجتمع إليه بنو كلاب وامتدت أيديهم على السابلة فخرج إليهم نائب حلب قشتمر المنصوري في عساكره فأغار على أحيائه واستاق نعمهم ومواشيهم وشره إلى اصطلامهم فتذامروا دون أحيائهم وكانت بينه وبينهم جولة أجلت عن قشتمر المنصوري وابنه محمد قتيلين ويقال قتلهما يعبر بن جماز ورجعت عساكر الترك منهزمين إلى حلب وذهب جماز إلى القفر ناجياً به وولى السلطان على العرب معيقيل بن فضل‏.‏ ثم استأمن له جماز بن مهنا وعاود الطاعة فأعاده السلطان إلى إمارته والله تعالى أعلم‏.‏ استبداد الجائي اليوسفي ثم انتقاضه ومقتله لما أذهب السلطان الأشرف أثر الأجلاب من دولته وقام بعض الشيء بأمره فاستدعى منكلي بغا من حلب وجعله أتابكاً وأمير علي المارداني من دمشق وجعله نائباً‏.‏ وولى الجائي اليوسفي أمير سلاح وولى أصبغا عبد الله دوادار بعد أن كان الأجلاب ولوا في الدوادارية منهم واحداً بعد واحد‏.‏ ثم سخطه وولى مكانه أقطمر الصباحي وعمر سائر الخطط السلطانية بمن وقع عليه اختياره ورقى مولاه أرغون شاه في المراتب من واحدة إلى أخرى إلى أن أربى به على الأتابكية كما يأتي‏.‏ وولى بهادر الجمالي أستاذ دار ثم أمير الماخورية تردد بينهما‏.‏ ثم استقر آخراً في الماخورية وولى محمد بن اسقلاص أستاذ دار وولى بيبقا الناصري بالحجابة بعد وظائف أخرى نقله منها‏.‏ وزوج أمه الجائي اليوسفي فعلت رتبته بذلك في الدولة واستغلظ أمره وأغلظ له الدوادار يوماً في القول فنفي وولى مكانه منكوتمر عبد الغني‏.‏ ثم عزل سنة اثنتين وسبعين لسنة من ولايته وولى السلطان مكانه طشتمر العلائي الذي كان دوادار البيبقا واستقرت الدولة على هذا النمط والجائي اليوسفي مستبد فيها ووصل وفود منجك من الشام سنة أربع وسبعين بما لا يعبر عنه‏.‏ اشتمل على الخيل والبخاتي المجللة والجمال والهجن والقماش والحلاوات والحلي والطرف والمواعين حتى كان فيها من الكلاب الصائدة والسباع والإبل ما لم ير مثله في أصنافه‏.‏ ثم وصل وفود قشتمر المارداني من حلب على نسبة ذلك والله تعالى أعلم‏.‏

انتقاض الجائي اليوسفي ومهلكه واستبداد الأشرف بملكه
من بعده لم تزل الدولة مستقرة على ما وصفناه إلى أن هلك الأمير منكلي بغا بالأتابك منتصف سنة أربع وسبعين واستضاف الجائي اليوسفي الأتابكية إلى ما كان بيده ورتبته أشد من ذلك كله وهو القائم المستبد بها‏.‏ ثم توفيت أم السلطان وهي في عصمته فاستحق منها ميراثاً دعاه لؤم الأخلاق فيه إلى المماحكة في المخلف وتجافى السلطان له عن ذلك إلا أنه كان ضيق الصدر شرس الأخلاق فكان يغلظ القول بما يخشن الصدور فأظلم الجو بينه وبين السلطان وتمكنت فيه السعاية‏.‏ وذكرت بهذه انتقاضه الأول وذلك أنه كان سخط في بعض النزعات على بعض العوام من البلد فأمر بالركوب إلى العامة وقتلهم فقتل منهم كثير ونمي الخبر إلى السلطان على ألسنة أهل البصائر من دولته وعدلوه عنده فاستشاط السلطان وزجره وأغلظ له فغضب وركب إلى قبة النصر منتقضاً‏.‏ وذهب السلطان في مداراة أمره إلى الملاطفة واللين‏.‏ وكان الأتابك منكلي بغا يرم ذاك حياً فأوعز السلطان إليه فرجع وخلع عليه وأعاده إلى أحسن ما كان‏.‏ فلما بدرت هذه الثانية حذر السلطان بطانته من شأنه وخرج هو منتقضاً وركب في مماليكه بساحة القلعة‏.‏ وجلس السلطان وترددت الرسل بينهما بالملاطفة فأصر واستكبر ثم أذن السلطان لمماليكه في قتاله وكان أكثرهم من الأجلاب مماليك بيبقا وقد جمعهم السلطان واستخدمهم في جملة ابنه أمير علي ولي عهده فقاتلوه في محرم سنة خمس وتسعين وكان موقفه في ذلك المعترك إلى حائط الميدان المتصل بالأساطيل فنفذت له المقاتلة من داخل الأساطيل ونضحوه بالسهام فتنحى عن الحائط حتى إذا حل مركزه ركبوا خيولهم وخرجوا من باب الأساطيل‏.‏ وصدقوا عليه الحملة فانهزم إلى بركة الحبش ورجع من وراء الجبل إلى قبة النصر فأقام بها ثلاثاً والسلطان يراوضه وهو يشتط وشيعه يتسللون عنه‏.‏ ثم بعث إليه بالسلطان لمة من العسكر ففر أمامهم إلى قليوب واتبعوه فخاض البحر وكان آخر العهد به‏.‏ ثم أخرج شلوه ودفن وأسف السلطان لمهلكه ونقل أولاده إلى قصره ورتب لهم ولحاشيته الأرزاق في ديوانه‏.‏ وقبض على من اتهمه بمداخلته وأرباب وظائفه فصودروا كلهم وعزلوا وغربوا إلى الشام‏.‏ واستبد السلطان بأمره واستدعى القري الدوادار وكان نائباً بطرابلس فولاه أتابكاً مكان الجائي ورفع رتبته‏.‏ وولى أرغون شاه وجعله أمير مجلس وولى سرغتمش من مواليه أمير سلاح واختص بالسلطان طشتمر الدوادار وناصر الدين محمد بن اسقلاص أستاذ دار فكانت أمور الدولة منقسمة بينهما وتصاريفها تجري بسياستهما إلى أن كان ما نذكره والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:29 PM

استقدام منجك للنيابة
كان أمير علي المارداني قد توفي سنة اثنتين وسبعين وبقيت وظيفته خلواً المكان الجائي اليوسفي وأحكامه‏.‏ ولما هلك سنة خمس وسبعين ولى السلطان أقطمر عبد الغني نائباً‏.‏ ثم بدا له أن يولي في النيابة منجك اليوسفي لما رآه فيه من الأهليه لذلك والقيام به ولتقلبه في الإمارة منذ عهد الناصر حسن وأنه كان من مواليه أخاً لبيبقا روس وطاز وسرغتمش فهو بقية المناجب‏.‏ فلما وقع نظره عليه بعث في استقدامه بيبقا الناصري من أمراء دولته وولى مكانه بندمر الخوارزمي وأعاد عشقتمر إلى حلب مكانه‏.‏ ووصل منجك إلى مصر آخر سنة خمس وسبعين ومعه مماليكه وحاشيته وصهر إلى روس المحمدي فاحتفل السلطان في تكرمته وأمر أهل الدولة بالركوب لتلقيه فتلقاه الأمراء والعساكر وأرباب الوظائف من القضاء والدواوين وأذن له في الدخول من باب السر راكباً وخاصة السلطان مشاة بين يديه حتى نزل عند مقاعد الطواشية بباب القصر حيث يجلس مقدم المماليك‏.‏ ثم استدعي إلى السلطان فدخل وأقبل عليه السلطان وشافهه بالنيابة المطلقة وفوض إليه الولاية والعزل في سائر المراتب السلطانية من الوزراء والخواص والقضاة والأوقاف وغيرها وخلع عليه وخرج‏.‏ ثم قرر تقليده بذلك في الإيوان ثاني يوم وصوله فكان يوماً مشهوداً‏.‏ وولى الأشرف في ذلك اليوم بيبقا الناصري الذي قدم به حاجباً‏.‏ ثم سافر عشقتمر نائب حلب آخر سنة ست وسبعين بعدها بالعساكر إلى بلاد الأرمن ففتح سائر أعمالها واستولى على ملكها النكفور بالأمان فوصل بأهله وولده إلى الأبواب السلطانية ورتب لهم الأرزاق وولى السلطان على سيس وانقرض منها ملك الأرمن‏.‏ وتوفي منجك آخر هذه السنة فولى السلطان اقتمر الصاجي المعروف بالحلي‏.‏ ثم عزله ورفع جلسه وولى مكانه اقتمر الألقني‏.‏ ثم توفي جبار بن مهنا أمير العرب بالشام فولى السلطان ابنه يعبرا مكانه‏.‏ ثم توفي أمير مكة من بني حسن فولى الأشرف مكانه واستقرت الأمور على ذلك والله أعلم‏.‏

الخبر عن مماليك بيبقا وترشيحهم في الدولة
كان السلطان الأشرف بعد أن سطا بمماليك بيبقا تلك السطوة وقسمهم بين القتل والنفي وأسكنهم السجون وأذهب أثرهم من الدولة بالجملة أرجع جملة منهم بعد ذلك‏.‏ وعاتبه منكلي أبغا في شأنهم وأن في اتلافهم قص جناح الدولة وإنهم ناشئة من الجند يحتاج الملك لمثلهم فندم على من قتل منهم وأطلق من بقي من المحبوسين بعد خمس من السنين وسرحهم إلى الشام يستخدمون عند الأمراء‏.‏ وكان فيمن أطلق الجماعة الذين بحبس الكرك وهم برقون العثماني وبركة الجوباني وطنبقا الجوباني وجركس الخليلي ونعنغ فأطلقوا إلى الشام‏.‏ ودعا منجك صاحب الشام كبراءهم إلى تعليم المماليك ثقافة الرمح وكانوا بصراء بها فأقاموا عنده مدة أخبرني بذلك الطنبقا الجيرباني أيام اتصالي به قال وأقمنا عند منجك إلى أن استدعاه السلطان الأشرف وكتب إليه الجائي اليوسفي بمثل ذلك فاضطرب في أيهما يجيبه فيها‏.‏ ثم أراد أن يخرج من العهدة فرد الأمر إلينا فأبينا إلا امتثال أمره فتحير‏.‏ ثم اهتدى إلى أن يبعث إلى الجائي اليوسفي ودس إلى قرطاي كافل الأمير علي ابن السلطان وكان صديقه بطلبنا من الجائي بخدمة ولي العهد وصانع الجهتين بذلك قال وصرنا إلى ولي العهد فعرضنا على السلطان أبيه واختصنا عنده بتعليم الثقافة لمماليكه إلى أن دعانا السلطان يوم واقعة الجائي وهو جالس بالإسطبل فندبنا لحربه وذكرنا حقوقه وأزاح عللنا بالجياد والأسلحة فجلبنا في قتله إلى أن انهزم وما زال السلطان بعدها يرعى لنا ذلك ويقدمنا‏.‏ انتهى خبر الجوباني‏.‏ وكان طشتمر الدوادار قد لطف محله عند الأشرف وخلا له وجهه وكان هواه في اجتماع مماليك بيبقا في الدولة يستكثر بهم فيما يؤمله من الاستبداد على السلطان‏.‏ فكان يشير في كل وقت على الأشرف باستقدامهم من كل ناحية واجتماعهم عصابة للدولة يخادع بذلك عن قصده وكان محمد بن اسقلاص أستاذ دار يساميه في الدولة ويزاحمه في مخالصة بالأشرف ولطف المحل عنده ينهى السلطان عن ذلك ويحذره مغبة اجتماعهم فغص طشتمر بذلك‏.‏ وكان عند السلطان مماليك دونه من مماليكه الخاصكية شباباً قد اصطفاهم وهذبهم وخالصهم بالمحبة والصهر ورشحهم للمراتب وولى بعضهم‏.‏ وكان الأكابر من أهل الدولة يفضون إليهم بحاجاتهم ويتوسلون بمساعيهم فصرف طشتمر إليهم وجه السعاية وغشي مجالسهم وأغراهم بابن اسقلاص وإنه يصد السلطان أكثر الأوقات عن أغراضهم منه ولبعد أبواب الانعام والصلات منه‏.‏ وصدق ذلك عندهم كثرة حاجاتهم في وظيفته وتقرر الكثير منها عليهم عنده فوغرت صدورهم منه وأغروا به السلطان بأطباق إغراء طشتمر طاهراً حتى تمت عليهم نكبته وجمعت الكلمة وقبض عليه منتصف جمادى سنة سبع وثمانين ونفاه إلى القدس فخلا لطشتمر وجه السلطان وانفرد بالتدبير واجتمع المماليك البيبقاوية من كل ناحية حتى كثروا أهل الدولة وعمروا مراتبها ووظائفها واحتازوها من جوانبها إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم‏.‏

حج السلطان الأشرف وانتقاض المماليك عليه بالعقبة
لما استقر السلطان في دولته على أكمل حالات الاستبداد والظهور وأذعن الناس لطاعته في كل ناحية وأكمل الله له الامتاع بملكه ودنياه سمت نفسه إلى قضاء فرضه فأجمع الحج سنة ثمان وسبعين وتجهز لذلك واستكثر من الرواحل المستجادة والأزودة المثقلة من سائر الأصناف‏.‏ واستعد للسفر واحتفل في الأبهة بما لم يعهد مثله واستخلف ابنه ولي العهد في ملكه وأوصى النائب اكتمر عبد النبي بمباكرة بابه والانتهاء إلى مراسمه‏.‏ وأخرج بني الملك الناصر المحجوبين بالقلعة مع سرد الشيخوني إلى الكرك يقيمون به إلى منصرفة‏.‏ وتجهز الخليفة العباسي محمد المتوكل بن المعتضد والقضاة للحج معه وجهز جماعة إلى الأمراء أهل دولته وأزاح عللهم وملأ بمعروفه حقائبهم‏.‏ وخرج ثاني عشر شوال في المراكب والقطارات يروق الناظرين كثرة ومخافة وزينة والخليفة والقضاة والأمراء حفافيه‏.‏ وبرز النظارة حتى العواتق من خدورهن وتجللت بمركبهم البسيطة وماجت الأرض بهم موجاً وخيم بالبركة منزل الحاج وأقام بها أياماً حتى فرغ الناس من حاجاتهم‏.‏ وارتحل فما زال يتنقل في المنازل إلى الكعبة‏.‏ ثم أقام فيها على عادة الحاج وكان في نفوس المماليك وخصوصاً البيبقاوية وهم الأكثر شجى يتشوقون به إلى الاستبداد من الدولة فتنكروا واشتطوا في اقتضاء أرزاقهم والمباشرون يعللونهم وانتهى أمرهم إلى الفساد‏.‏ ثم طلبوا العلوفة المستقبلة إلى دار الأزلم فاعتذر المباشرون بأن الأقوات حملت إلى الأمام فلم يقبلوا وكشفوا القناع في الأنقاض وباتوا ليلتهم على تعبية‏.‏ واستدعى الأشرف طشتمر الدوادار وكان كبيرهم ففاوضه في الأمر ليفل من عزمهم فأجمل العذر عنهم وخرج إليهم‏.‏ فخرجوا ثم ركبوا من الغد واصطفوا وأركبوا طشتمر معهم ومنعوه من معاودة السلطان‏.‏ وتولى كبر ذلك منهم مبارك الطازي وسراي تمر المحمدي وبطلقمر العلائي وركب السلطان في خاصته يظن أنهم يرعوون أو يجنح إليه بعضهم فأبوا إلا الأحفاف على قتاله‏.‏ ونضحوا موكبه بالنبل لما عاينوه فرجع إلى خيامه منهزماً‏.‏ ثم ركب البحر في لفيف من خواصه ومعه أرغون شاه الأتابك وبيبقا الناصري ومحمد بن عيسى صاحب الدرك من لفائف الأعراب أهل الضاحية وفي ركابه جماعة الشباب الذين أنشأهم في مخالصته ورشحهم للوظائف في دولته كما مر‏.‏ وخام الفل إلى القاهرة وقد كان السلطان عندما سافر عن القاهرة ترك بها جماعة من الأمراء والمماليك مقيمين في وظائفهم كان منهم قرطاي الطازي كافل أمير علي ولي العهد واقتمر الخليلي وقشتمر واستدمر السرغتمشي وأيبك البدري‏.‏ وكان شيطان من المتمردة قد أوحى إلى قرطاي بأنه يكون صاحب الدولة بمصر فكان يتشوف لذلك ويترصد له‏.‏ وربما وقع بينه وبين وزير الدولة منازعة في جراية مماليك مكفوله ولي العهد وعلوفاتهم وأغلظ له فيها الوزير فوجم وأخذ في أسباب الانتقاض‏.‏ وداخل في ذلك بعض أصحابه وواعدهم ثالث ذي القعدة وتقدم إلى داية ولي العهد ليلة ذلك اليوم بأن يصلح من شأنه ويفرغ عليه ملابس السلطان ويهيئه لجلوس التخت‏.‏ وركب هو صبيحة ذلك اليوم ووقف بالرميلة عند مصلى العيد‏.‏ وتناول قطعة من ثوب فنصبها لواء وكان صبيان المدينة قد شرعوا في اتخاذ الدبادب والطبيلات للعيد فأمر بتناول بعضها منهم‏.‏ وهرعت بين يديه وتسايل الناس إليه من كل أوب ونزل من كان بطباق القصر وغرفه وبالقاهرة من المماليك واجتمعوا إليه حتى كظ ذلك الفضاء‏.‏ وجاؤوا تعادي بهم الخيل فاستغلظ لفيفهم ثم اقتحم القلعة في جمعه من باب الاصطبل إلى بيت مكفوله ولي العهد أمير علي عند باب الستارة يطلبونه وقضوا على زمام الذود وكانوا عدة حتى أحضروا ولي العهد وجاؤوا به على الأكتاف إلى الإيوان فأجلسوه على التخت وأحضروا أيدمر نائب القلعة فبايع له‏.‏ ثم أنزلوه إلى باب الإسطبل وأجلسوه هناك على الكرسي‏.‏ واستدعى الأمراء القائمين بالقاهرة فبايعوه وحبس بعضهم بالقلعة‏.‏ وبعث أكتمر الحلي إلى الصعيد يستكشف أحواله واختص منهم أيبك فجعله رديفاً في دولته‏.‏ وباتوا كذلك وأصبحوا يسائلون الركبان ويستكشفون خبر السلطان‏.‏ وكان السلطان لما انهزم من العقبة سار ليلتين وجاء إلى البركة آخر الثانية وجاءه الخبر بواقعة القاهرة وما فعله قرطاي وتشاوروا فأشار محمد بن عيسى بقصد الشام وأشار آخرون بالوصول إلى القاهرة‏.‏ وسار السلطان إليها واستمروا إلى قبة النصر وتهافتوا عن رواحلهم باطلاح وقد أنهكهم التعب وأضناهم السير فما هو إلا أن وقعوا لمناكبهم وجنوبهم وغشيهم النعاس‏.‏ وجاء الناصري إلى السلطان الأشرف من بينهم فتنصح له بأن يتسلل من أصحابه ويتسرب في بعض البيوت بالقاهرة حتى يتبين له وجه مذهبه وانطلق بين يديه فقصد بعض النساء ممن كان ينتاب قصده واختفى فظن النجاة في ذلك وفارقه الناصري يطلب نفقاً في الأرض وقد كانوا بعثوا من قبة النصر بعض المماليك عنهم روائد يستوضحون الحنبر فأصبحوا بالرميلة أمام القلعة وتعرف الناس أنه من الحاج فرفعوه إلى صاحب الدولة وعرض عليه العذاب حتى أخبره عن السلطان وأنه وأصحابه بقبة النصر مصرعين من غشي النوم فطار إليهم شراد العسكر مع استدمر السرغتمشي والجمهور في ساقتهم حتى وقفوا عليهم في مضاجعهم‏.‏ وافتقدوا السلطان من بينهم وقتلوهم جميعاً وجاؤوا برؤوسهم ووجموا لافتقاد السلطان ونادوا بطلبه وعرضوا العذاب والقتل على محمد بن عيسى صاحب الدرك فتبرأ وحبس رهينة من ثقاته‏.‏ ثم جاءت امرأة إلى أيبك فدلته عليه في بيت جارتها فاستخرجوه من ذلك البيت ودفعوه إلى أيبك فامتحنه حتى دلهم على الذخيرة والأموال‏.‏ ثم قتلوه خنقاً وجددوا البيعة لابنه الأمير علي ولقبوه المنصور‏.‏ واستقل بدولته كافله من قبل الأميرة قرطاي ورديفه أيبك البدري واستقر الأمر على ذلك‏.‏ مجيء طشتمر من العقبة وانهزامه ثم مسيره إلى الشام وتجديد البيعة للمنصور بإذن الخليفة وتقديمه لما انهزم السلطان من العقبة ومضى إلى القاهرة اجتمع أهل الثورة على قشتمر وألقوا إليه القياد ودعوا الخليفة إلى البيعة له فتفادى من ذلك‏.‏ ومضى الحاج من مكة مع أمير المحمل بهادر الجمالي على العادة‏.‏ ورجع القضاة والفقهاء إلى القدس وتوجه طشتمر والأمراء إلى مصر لتلافي السلطان أو تلفه فلقيهم خبر مهلكة بعجرود وما كان من بيعة ابنه واستقلال قرطاي بالملك فثاب لهم رأي آخر في حرب أهل الدولة وساروا على التعبية وبعثوا في مقدمتهم قطلقتمر ولقي طلائع مصر فهزمهم وسار في اتباعهم إلى ساحة القلعة فلم يشعر إلا وقد تورط في جمهور العسكر فتقبضوا عليه‏.‏ وكان قرطاي قد بعث عن اقتمر الصاحبي الحنبلي من الصعيد ويرجع في العساكر لحرب قشتمر وأصحابه فبرز إليهم والتقوا في ساحة القلعة‏.‏ وانهزم قشتمر إلى الكيمان بناحية مصر ثم استأمن فأمنوه واعتقلوه‏.‏ ثم جمع الناس ليوم مشهود وحضر الخليفة والأمراء والقضاة والعلماء وعقد الخليفة للمنصور بن الأشرف وفوض إليه‏.‏ وقام قرطاي بالدولة وقسم الوظائف فولى قشتمر اللفاف واستأمر السرغتمشي أمير سلاح وقطلوبغا البدري أمير مجلس وقرطاي الطازي رأس نوبة وأياس السرغتمشي دوادار وأيبك البدري أمير الماخورية وسردون جركس أستاذ دار واقتمر الحنبلي نائباً وجعل له الإقطاع للأجناد والأمراء والنواب‏.‏ وأفرج عن طشتمر العلائي الدوادار وأقطعه الإسكندرية وأحضر بني الملك الناصر من الكرك مع حافظهم سردون الشيخوني وولاه حاجباً وكذلك قلوط السرغتمشي وأصاب الناس في آخر السنة طاعون إلى أول سنة تسع وسبعين فهلك طشتمر اللفاق الأتابك وولي مكانه قرطاي الطازي في وظيفته‏.‏ واستدعي بيبقا الناصري من الشام فاختصه الأمير الكبير قرطاي بالمخالصة والمشاورة‏.‏ نكبة قرطاي واستقلال أيبك بالدولة ثم مهلكه كان أيبك الغزي هذا قد ردف قرطاي في حمل الدولة من أول ثورتهم وقيامهم على السلطان فخالصه وخلطه بنفسه في الإصهار إليه‏.‏ وكان أيبك يروم الإستبداد بشأن أصحابه وكان يعرف من قرطاي عكوفه على لذاته وانقسامه مع ندمائه فعمل قرطاي في صفر سنة تسع وسبعين ضيافة في بيته وجمع ندماءه مثل سودون جركس ومبارك الطازي وغيرهم‏.‏ وأهدى له أيبك نبيذاً أذيب فيه بعض المرقدات فباتوا يتعاطونه حتى غلبهم السكر على أنفسهم ولم يفيقوا‏.‏ فركب أيبك من ليلته وأركب السلطان المنصور معه واختار الأمر لنفسه واجتمع إليه الناس وأفاق قرطاي بعد ثلاث وقد انحلت عنه العقدة واجتمع الناس على أيبك فبعث إليه قرطاي يستأمن فأمنه ثم قبض عليه فسيره إلى صفد واستقل أيبك بالملك والدولة‏.‏ ثم بلغه منتصف صفر من السنة انتقاض طشتمر بالشام وانتقاض الأمراء هنالك في سائر الممالك على الخلاف معه فنادى في الناس بالمسير إلى الشام فتجهزوا وسرح المقدمة آخر صفر مع ابنه أحمد وأخيه قطلوفجا وفيها من مماليكه ومماليك السلطان وجماعة من الأمراء كان منهم الأميران برقوق وبركة المستبدان بعد ذلك‏.‏ ثم خرج أيبك ثاني ربيع في الساقة بالسلطان والأمراء والعساكر وانتهوا إلى بلبيس‏.‏ وثار الأمراء الذين كانوا مع أخيه في المقدمة ورجع إليه منهزماً فأجفل راجعاً إلى القلعة بالسلطان والعساكر‏.‏ وخرج عليه ساعة وصوله يوم الاثنين جماعة من الأمراء وهم قطلتمر العلائي الطويل والطنبقا السلطاني والنعناع وواعدوه قبة النصر فسرح إليهم العساكر مع أخيه قطلوفجا فأوقعوا به وقبضوا عليه‏.‏ وبلغ الخبر إلى أيبك فسرح من حضره من الأمراء للقائهم وهم أيدمر الشمسي واقطمر عبد الغني وبهادر الجمالي ومبارك الطازي في آخرين‏.‏ ولما تواروا عنه ركب هو هارباً إلى كيمان مصر واتبعه أيدمر القنائي فلم يقف له على خبر‏.‏ ودخل الأمراء من قبه النصر إلى الإسطبل وأمضوا الأمراء إلى قطلتمر العلائي وهم يحاذونه وأشير عليه بخلع المنصور والبيعة لمن يقوم على هذا الأمر من أبناء السلطان فأبى‏.‏ ثم وصل صبيحة الثلاثاء الأمراء الذين ثاروا فجاء أخو أيبك في مقدمة العسكر وفيهم بيبقا الناظري وفى مرداش اليوسفي وبلاط من أمراء الألوف وبرقوق وبركة وغيرهما من الطلخامات فنازعوهم الأمر وغلبوهم عليه وبعثوا بهم إلى الإسكندرية معتقلين‏.‏ وفوض الأمراء إلى بيبقا الناظري فقام بأمرهم وهو شعاع وآراؤهم مختلفة‏.‏ ثم حضر يوم الأحد التاسع مع ربيع أيبك صاحب الدولة وظهر من الاختفاء وجاء إلى بلاط منهم وأحضره عند بيبقا الناظري فبعث به إلى الإسكندرية فحبسه بها وكان بيبقا الناظري يختص برقوق وبركة بالمفاوضة استرابة بالآخرين فاتفق رأيهم على أن يستدعى طشتمر من الشام وينصبوه للإمارة فبعثوا إليه بذلك وانتظروه‏.‏ استبداد الأميرين أبي سعيد برقوق وبركة بالدولة من بعد أيبك ووصول طشتمر من الشام وقيامه بالدولة ثم نكبته لما تغلب هؤلاء الأمراء على الدولة ونصبوا بيبقا الناظري ولم يمضوا له الطاعة بقي أمرهم مضطرباً وآراؤهم مختلفة‏.‏ وكان برقوق وبركة أبصر القوم بالسياسة وطرق التدبير وكان الناظري يخالصهما كما مر فتفاوضوا في القبض على هؤلاء المتصدين للمنازعة وكبح شكائمهم وهم دمرداش اليوسفي وترباي الحسيني وافتقلاص السلجوقي واستدمر بن العثماني في آخرين من نظرائهم‏.‏ وركبوا منتصف صفر وقبضوا عليهم أجمعين وبعثوا بهم إلى الإسكندرية فحبسوهم بها واصطفوا بلاطاً منهم وولوه الإمارة وخلطوه بأنفسهم وأبقوا بيبقا الناظري على أتابكيته كما كان وأنزلوه من القلعة فسكن بيت شيخو قبالته وولى برقوق أمير الماخورية ونزل باب الإسطبل وولى بركة الجوباني أمير مجلس واستقرت الدولة على ذلك‏.‏ وكان طشتمر نائب الشام قد انتقض واستبد بأمره وجمع عساكر الشام وأمراءه واستنفر العرب والتركمان وخيم بظاهر دمشق يريد السير إلى مصر‏.‏ وبرز أيبك من مصر بالسلطان والعسكر يريد الشام لمحاربته فكان ما قدمناه من نكبته وخروج الأمراء عليه ومصيرهم إلى جماعة البيبقاوية الظافرين بأيبك ومقدمهم بيبقا الناظري‏.‏ ثم تفاوض بيبقا الناظري مع برقوق وبركة في استدعاء طشتمر فرافقاه ونظراه رأياً وفيه طلب الصلح من الذين معه وحسم الداء منه بكونهم في مصر فكتبوا إليه بالوصول إلى مصر للأتابكية وتدبير الدولة وأنه شيخ البيبقاوية وكبيرهم فسكنت نفسه لذلك ووضع أوزار الفتنة وسار إلى مصر فلما وصلها اختلفوا في أمره وأركبوا السلطان إلى الزيدانية لتلقيه ودفعوا الأمراء إليه‏.‏ وأشاروا له إلى الأتابكية ووضعوا زمام الدولة في يده فصار إليه التولية والعزل والخل والعقد‏.‏ وولى بيبقا الناظري أمير سلاح مكان سباطا وبعثوا بلاطاً إلى الكرك لاستقلال طشتمر بمكانه‏.‏ وولى بندمر الخوارزمي نائباً بدمشق على سائر وظائف الدولة وممالك الشام كما اقتضاه نظره‏.‏ ووافق عليه أستاذ دار برقوق وبركة وولى أيبك اليوسفي فرتب برقوق رأس نوبة مكان الناظري‏.‏ واستمر الحال على ذلك وبرقوق وبركة أثناء هذه الأمور يستكثران من المماليك استغلاظاً لشوكتهما واكتنافاً لعصبيتهما إن يمتد الأمير إلى مراتبهما فيبذلان الجاه لتابعهما ويوفران الإقطاع لمن يستخدم لهما ويخصان بالإمرة من يجنح من أهل الدولة إليهما وإلى أبوابهما‏.‏ وانصرفت الوجوه عن سواهما‏.‏ وارتاب طشتمر بنفسه في ذلك وأغراه أصحابه بالتوثب بهذين الأميرين فلما كان ذو الحجة ستة تسع وسبعين استعجل أصحابه على غير روية وبعثوا إليه فأحجم وقعد عن الركوب‏.‏ واجتمع برقوق وبركة بالإسطبل فركن إليه وقاتل مماليك طشتمر بالرميلة ساعة من نهار وانهزموا وافترقوا واستأمن طشتمر فأمنوه واستدعوه إلى القلعة فقبضوا عليه وعلى جماعة من أصحابه منهم أطلمش الأرغوني ومدلان الناظري وأمير حاج بن مغلطاي ودواداره أرغون‏.‏ وبعث بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها‏.‏ وبعث معهم بيبقا الناصري كذلك‏.‏ ثم أفرج عنه لأيام وبعثه نائباً عن طرابلس‏.‏ ثم أفرج عن طشتمر بعد ذلك إلى دمياط ثم إلى القدس إلى أن مات سنة سبع وثمانين‏.‏ واستقامت الدولة للأميرين بعد اعتقالهما وخلت لهما من المنازعين‏.‏ وولى الأمير برقوق أتابكاً وولى الماخورية الجابر الشمسي وولى قريبه أنيال أمير سلاح مكان بيبقا الناصري وولى اقمتر العثماني دواداراً مكان أطلمش الأرغوني‏.‏ وولى الطنبغا الجوباني رأس نوبة ثانياً ودمرداش أمير مجلس‏.‏ وتوفي بيبقا النظامي نائب حلب فولى مكانه عشقتمر المارداني‏.‏ ثم استأذن عشقتمر فأذن له وحبس بالإسكندرية وولى بحلب تمرتاش الحسيني الدمرداشي‏.‏ ثم أفرج عنه وأقام بالقدس قليلاً‏.‏ ثم استدعاه بركة وأكرم نزله وبعثه نائباً إلى حلب‏.‏ ثورة أنيال ونكبته كان أنيال هذا أمير سلاح وكان له مقام في الدولة وهو قريب الأمير برقوق وكان شديد الإنحراف على الأمير بركة ويحمل قريبه على منافرته ولا يجيبه إلى ذلك فاعتزم على الثورة وتحين لها سفر الأمير بركة إلى البحيرة يتصيد فركب الأمير برقوق في بعض تلك الأيام متصيداً بساحة البلد فرأى أن قد خلا له الجو فركب وعمد إلى باب الإسطبل فملكه ومعه جماعة من مماليكه ومماليك الأمير برقوق‏.‏ وتقبضوا على أمير الماخورية جركس الخليلي‏.‏ واستدعوا السلطان المنصور ليظهروه للناس فمنعه المقدمون من باب الستارة‏.‏ وجاء الأمير برقوق من صيده ومعه الأتابك الشمسي فوصلوا إلى منزله خارج القلعة وأفرغوا السلاح على سائر مماليكهم وركبوا إلى ساحة الإسطبل‏.‏ ثم قصدوا إلى الباب فأحرقوه وتسلق الأمير قرطاي المنصوري من جهة باب السر وفتحه لهم فدخلوا منه ودافعوا أنيال وانتقض عليه المماليك الذين كانوا معه من مماليك الأمير برقوق‏.‏ ورموه بالسهام فانهزم ونزل إلى بيته جريحاً‏.‏ وأحضر إلى الأمير برقوق فاعتذر له بأنه لم يقصد بفعلته إلا التغلب على بركة فبعث به إلى الإسكندرية معتقلاً وأعاد بيبقا الناصري أمير سلاح كما كان واستدعي لها من نيابة طرابلس‏.‏ ووصل الخبر إلى بركة فأسرع الكر من البحيرة وانتظم الحال ونظروا في الوظائف التي خلت في هذه الفتنة فعمروها بمن يقوم بها‏.‏ واختصوا بها من حسن غناؤه في هذه الواقعة مثل قردم وقرط وذلك سنة إحدى وثمانين‏.‏ وأقام أنيال معتقلاً بالإسكندرية‏.‏ ثم أفرج عنه في صفر سنة اثنتين وثمانين وولاه على طرابلس‏.‏ ثم توفي منكلي بقا الأحمدي نائب حلب فولى أنيال مكانه‏.‏ ثم تقبض عليه آخر السنة وحبس بالكرك وولى مكانه بيبقا الأحمدي فولى مكانه بندمر الخوارزمي‏.‏ ثم توفي سنة إحدى وثمانين جبار بن المهنا أمير العرب بالشام فولي مكانه معيقل بن فضل ابن عيسى وزامل بن موسى بن ثورة بركة ونكبته واستقلال الأمير برقوق بالدولة كان هذا الأمير بركة يعادل الأمير برقوق في حمل الدولة كما ذكرناه وكان أصحابه يقوضون إليه الاستبداد في الأموال‏.‏ وكان الأمير برقوق كثير التثبت في الأمور والميل إلى المصالح فيعارضهم في الغالب ويضرب على أيديهم في الكثير من الأحوال فغضوا بمكانه وأغروا بركة بالتوثب والاستقلال بالأمر وسعوا عنده بأشمس من كبار أصحاب الأمير برقوق وأنه يحمل برقوق على مقاطعة بركة ويفسد ذات بينهما وأنه يطلب الأمر لنفسه‏.‏ وقد اعتزم على الوثوب عليهما فجاء بركة بذلك إلى الأمير برقوق وأراد القبض على أشمس فمنعه الأمير برقوق ودفع عنه وعظم انحراف بركة على أشمس ثم عن الأمير برقوق‏.‏ وسعى في الإصلاح بينهما الأكابر حتى كمال الدين شيخ التكية والخلدي شيخ الصوفية من أهل خراسان‏.‏ وجاؤوا بأشمس إلى بركة مستعتباً فأعتبه وخلع عليه‏.‏ ثم عاود انحرافه ثانية فمسح أعطافه وسكن وهو مجمع الثورة والفتك‏.‏ ثم عاود حاله تلك ثالثة‏.‏ واتفق أن صنع في بيت الأمير برقوق لسرور وليمة في بعض أيام الجمعة في شهر ربيع سنة اثنتين وثمانين وحضر عنده أصحاب بركة كلهم وأهل شوكته وقد جاءه النصيح بأن بركة قد أجمع الثورة غداة يومه فقبض الأمير برقوق على من كان عنده من أصحاب بركة ليقص جناحه منهم‏.‏ وأركب حاشيته للقبض عليه وأصعد بدلان الناصري على مأذنة مدرسة حسن فنضحه بالنبل في اسطبله وركب بركة إلى قبة النصر وخيم بها ونودي في العامة بنهب بيوته فنهبوها للوقت وخربوها‏.‏ وتحيز إليه بيبقا الناصري فخرج معه وجلس الأمير برقوق بباب القلعة من ناحية الإسطبل وسرح الفرسان للقتال‏.‏ واقتتلوا عامة يومهم فزحف بركة على تعبيتين إحداهما لبيبقا الناصري‏.‏ وخرج الأق الشعباني للقائه وأشمس للقاء بيبقا الناصري فانهزم أصحاب بركة ورجع إلى قبة النصر وقد أثخنوا بالجراح وتسلل أكثرهم إلى بيته وأقام الليل ثم دخل إلى جامع البلدة وبات به‏.‏ ونمي إلى الأمير برقوق خبره فأركب إليه الطنبقا الجوباني وجاء به إلى القلعة‏.‏ وبعث به الأمير برقوق إلى الإسكندرية فحبس بها إلى أن قتله النائب صلاح الدين بن عزام وقتل به في خبر يأتي شرحه إن شاء الله تعالى‏.‏ وتقبض على بيبقا الناصري وسائر شيعته من الأمراء وأودعهم السجون إلى أن استحالت الأحوال وولى وظائفهم من أوقف عليه نظره من أمراء الدولة‏.‏ وأفرج عن أنيال الثائر قبله وبعثه نائباً على طرابلس واستقل بحمل الدولة وانتظمت به أحوالها‏.‏ واستراب سندمر نائب دمشق لصحابته مع بركة فتقبض عليه وعلى أصحابه بدمشق وولي نيابة دمشق عشتمر ونيابة حلب أنيال‏.‏ وولى أشمس الأتابكية مكان بركة والأق الشعباني أمير سلاح والطنبقا الجوباني أمير مجلس وأبقا العثماني دوادار وجركس الخليلي أمير الماخورية والله تعالى ولي التوفيق‏.‏ انتقاض أهل البحيرة وواقعة العساكر كان هؤلاء الظواعن الذين عمروا الدولة من بقايا هوارة ومزاته وزناته يعمرونها عن تحت أيديهم من هذه القبائل وغيرهم يقومون بخراج بالسلطان كل سنة في إبانه وكانت الرياسة عليهم حتى في أداء الخراج لبدر بن سلام وآبائه من قبله وهو من زناتة إحدى شعوب لواتة‏.‏ وكان للبادية المنتبذين مثل أبي ذئب شيخ أحياء مهرانة وعسرة ومثل بني التركية أمراء العرب بعقبة الإسكندرية اتصال بهم لاحتياجهم إلى الميرة من البحيرة‏.‏ ثم استخدوا لأمراء الترك في مقاصدهم وأموالهم واعتزوا بجاههم وأسفوا على نظائرهم من هوارة وغيرهم‏.‏ ثم حدثت الزيادة في وظائف الجباية كما هي طبيعية الدولة فاستثقلوها وحدثتهم أنفسهم بالامتناع منها لما عندهم من الاعتزاز فأرهقوا في الطلب وحبس سلام بالقاهرة وأجفل ابنه بدر إلى الصعيد بالقبلية واعترضته هناك عساكر السلطان فقاتلهم وقتل الكاشف في حربه‏.‏ وسارت إليه العساكر سنة ثمانين مع الأق الشعباني وأحمد بن بيبقا وأنيال قبل ثورته فهربوا وعاثت العساكر في مخلفهم ورجعوا‏.‏ وعاد بدر إلى البحيرة وشغلت الدولة عنهم بما كان من ثورة أنيال وبركة بعده واتصل فساد بدر وامتناعه فخرجت إليه العساكر مع الأتابك أشمس والأمير سلام والجوباني أمير مجلس وغيرهم من الأمراء الغربية‏.‏ ونزلت العساكر البحيرة واعتزم بدر على قتالهم فجاءهم النذير بذلك فانتبذوا عن الخيام وتركوها خاوية‏.‏ ووقفوا على مراكزهم حتى توسط القوم المخيم وشغلوا بنهبه فكرت عليهم العساكر فكادوا يستلحمونهم ولم يفلت منهم إلا الأقل‏.‏ وبعث بدر بالطاعة واعتذر بالخوف وقام بالخراج فرجعت العساكر وولى بكتمر الشريف على البحيرة‏.‏ ثم استبدل منه بقرط بن عمر‏.‏ ثم عاد بدر إلى حاله فخرجت العساكر فهرب أمامها وعاث القرط فيهم وقتل الكثير من رجالهم وحبس آخرين ورجع عن بدر أصحابه مع ابن عمه ومات ابن شادي وطلب الباقي الأمان فأمنوا وحبس رجال منهم وضمن الباقون القيام بالخراج‏.‏ واستأمن بدر فلم يقبل فلحق بناحية الصعيد واتبعته العساكر فهرب واستبيح مخلفه وأحياؤه ولحق ببرقة ونزل على أبي ذئب فأجاره وأستقام أمر البحيرة‏.‏ وتمكن قرط من جبايتها وقتل رحاب وأولاد شادي‏.‏ وكان قرطاي يستوعب رجالتهم بالقتل‏.‏ وأقام بدر عند أبي ذئب يتردد ما بين أحيائه وبين الواحات حتى لقيه بعض أهل الثأر عنده فثأروا منه سنة تسع وثمانين وذهب مثلاً في الآخرين والله تعالى أعلم‏.‏ كان الأمير بركة استعمل أيام إمارته خليل بن عزام أستاذ داره ثم اتهمه في ماله وسخطه ونكبه وصادره على مال امتحنه عليه‏.‏ ثم أطلقه فكان يطوي له على النكث‏.‏ ثم صار بركة إلى ما صار إليه من الاعتقال بالإسكندرية وتولى ابن عزام نيابتها فحاول على حاجة نفسه في قتل بركة‏.‏ ووصل إلى القاهرة متبرئاً من أمره متخوفاً من مغبته ورجع‏.‏ وقد طوى من ذلك على الدغل‏.‏ ثم حمله الحقد الكامن في نفسه على اغتياله في جنح الليل فأدخل عليه جماعة متسلحين فقتلوه وزعم أنه أذن له في ذلك‏.‏ وبلغ الخبر إلى كافل الدولة الأمير برقوق وصرح مماليكه بالشكوى إليه فأنكر ذلك وأغلظ على ابن عزام‏.‏ وبعث دواداره الأمير يونس يكشف عن سببه وإحضار ابن عزام فجاء به مقيداً وأوقفه على شنيع مرتكبه في بركة فحلف الأمير ليقادن منه به‏.‏ وأحضر إلى القلعة في منتصف رجب من سنة اثنتين وثمانين فضرب بباب القلعة أسواطاً‏.‏ ثم حمل على جمل مشتهراً وأنزل إلى سوق الخيل فتلقاه مماليك بركة فتناولوه بالسيوف إلى أن تواقعت أشلاؤه بكل ناحية وكان فيه عظة لمن يتعظ أعادنا الله من درك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء انتهى‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:31 PM

وفاة السلطان المنصور علي بن الأشرف
كان هذا السلطان علي بن الأشرف قد نصبه الأمير قرطاي في ثورته على أبيه الأشرف وهو ابن اثنتي عشرة سنة فلم يزل منصوراً والأمر ينتقل من دولة إلى دولة كما ذكرناه إلى أن هلك لخمس سنين من ولايته في صفر سنة ثلاث وثمانين فحضر الأمير برقوق واستدعى الأمراء واتفقوا على نصب أخيه أمير حاج ولقبوه الصالح وأركبوه إلى الإيوان فأجلسوه على التخت‏.‏ وقلده الخليفة على العادة وجعل الأمير برقوق كافله في الولاية والنظر للمسلمين لصغره حينئذ عن القيام بهذه العهدة‏.‏ وأفتى العلماء يومئذ بذلك وجعلوه من مضمون البيعة وقرئ كتاب التقليد على الأمراء والقضاة والخاصة والعامة في يوم مشهود وانفض الجمع وانعقد أمر السلطان وبيعته وضرب فيها للأمير برقوق بسهم والله تعالى مالك الأمور‏.‏ وصول أنس الغساني والد الأمير برقوق وانتظامه في الأمراء أصل هذا الأمير برقوق من قبيلة جركس الموطنين ببلاد الشمال في الجبال المحيطة بوطء القفجاق والروس واللان من شرقيها المطلة على بسائطهم‏.‏ ويقال إنهم من غسان الداخلين إلى بلاد الروم مع أميرهم جبلة بن الأيهم عندما أجفل هرقل إلى الشام وسار إلى القسطنطينية‏.‏ وخبر مسيره من أرض الشام وقصته مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه متناقلة معروفة بين المؤرخين‏.‏ وأما هذا الرأي فليس على ظاهره وقبيلة جركس من الترك معروفة بين النسابين ونزولهم بتلك المواطن قبل دخول غسان‏.‏ وتحقيق هذا الرأي أن غسان لما دخلوا مع جبلة إلى هرفل أقاموا عنده ويئسوا من الرجوع لبلادهم‏.‏ وهلك هرقل واضطرب ملك الروم وانتشرت الفتنة هنالك في ممالكهم‏.‏ واحتاجت غسان إلى الحلف للمدافعة في الفتن وحالفوا قبائل جركس ونزلوا في بسيط جبلهم من جانبه الشرقي مما يلي القسطنطينية وخالطوهم بالنسب والصهر واندرجوا فيهم حتى تلاشت أحياؤهم‏.‏ وصاروا إلى تلك الأماكن وأووا من البسائط إلى الجبال مع جركس فلا يبعد مع هذا أن تكون أنسابهم تداخلت معهم ممن انتسب إلى غسان من جركس وهو مصدق في نسبه ويستأنس له بما ذكرناه فهو نسبة قوية في صحته والله تعالى أعلم‏.‏ وجلب هذا الأمير برقوق على عهد الأمير بيبقا عثمان قراجا من التجار المعروفين يومئذ بتلك الجهات فملكه بيبقا وربي في أطباق بيته وأوى من قصده وشد في الرماية والثقافة‏.‏ وتعلم آداب الملك وانسلخ من جلده الخشونة وترشح للرياسة والإمارة والسعادة تشير إليه والعناية الربانية تحوم عليه‏.‏ ثم كان ما ذكرناه من شأن مماليك بيبقا ومهلك كبيرهم يومئذ استدمر وكيف تقسموا بين الجلاء والسجن‏.‏ وكان الأمير برقوق أعزه الله تعالى ممن أدركه التمحيص فلبث في سجن الكرك خمس سنين بين أصحاب له منهم فكانت تهويناً لما لقي من بوائقه ثم خلص من ذلك المحبس مع أصحابه وخلا سبيله فانطلقوا إلى الشام واستخلصهم الأمير منجك نائب الشام يومئذ‏.‏ وكان بصيراً مجرباً فألقى محبته وعنايته على هذا الأمير لما رأى عليه من علامات القبول والسعادة‏.‏ ولم يزل هناك في خالصته إلى أن هجس في نفس السلطان الأشرف استدعاه المرشحين من مماليكه‏.‏ وهذا الأمير يقدمهم وأفاض فيهم الإحسان وأستضافهم لولده الأمير علي‏.‏ ولم يكن إلا أيام وقد انتقض الجائي القائم بالدولة وركب على السلطان فأحضرهم السلطان الأشرف وأطلق أيديهم في خيوله المقربة وأسلحته المستجادة فاصطفوا منها ما اختاروه وركبوا في مدافعة الجائي وصدقوه القتال حتى دافعوه على الرميلة‏.‏ ثم اتبعوه حتى ألقى نفسه في البحر فكان آخر العهد به‏.‏ واحتلوا بمكان من أثره السلطان واختصاصه فسوغ لهم الإقطاعات وأطلق لهم الجرايات‏.‏ ولهذا الأمير بين يديه من بينهم مزيد مكانة ورفيع محل إلى أن خرج السلطان الأشرف إلى الحج وكان ما قدمناه من انتقاض قرطاي واستبداده ثم استبداد أيبك من بعده وقد عظم محل هذا الأمير من الدولة ونما عزه وسمت رتبته‏.‏ ثم فسد أمر أيبك وتغلب على الأمر جماعة من الأمراء مفترقي الأهواء‏.‏ وخشي العقلاء انتقاض الأمر وسوء المغبة فبادر هذا الأمير وتناول الحبل بيده وجعل طرفه في يد بركة رديفه فأمسك معه برهة من الأيام‏.‏ ثم إضطرب وانتقض وصار إلى ما صار إليه من الهلاك وكان من جميل الصنع الرباني له أن كيف الله غريبة في اجتماع شمل أبيه به فقدم وفد التجار بأبيه من قاصية بلادهم بعد أن أعملوا الحيلة في استخلاصه وتلطفوا في استخراجه وكان اسمه أنس فاحتفل ابنه الأمير برقوق من مبرته وأركب العساكر وسائر الناس على طبقاتهم لتلقيه وأعد الخيام بسرياقوس لنزوله فحضروا هنالك جميعاً في ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين‏.‏ وجلس الأمير أنس الوافد صدر المجلس وهم جميعاً حفافيه من القضاة والأمراء ونصب السماط فطعم الناس وانتشروا‏.‏ ثم ركبوا إلى البلد وقد زينت الأسواق وأوقدت الشموع وماجت السكك بالنظارة من عالم لا يحصيهم إلا خالقهم‏.‏ وكان يوماً مشهوداً‏.‏ وأنزله بالإسطبل تحت المدينة الناصرية ونظمه السلطان في أقربائه وبني عمه وبني إخوانه واجتمع شملهم به وفرض لهم الأرزاق وقررهم في الوظائف‏.‏ ثم مات هذا الأب الوافد وهو الأمير أنس رحمه الله في أواسط وثمانين بعد أن أوصى بحجة إسلامه وشرفت مراتب الإمارة بمقامه‏.‏ ودفنه السلطان بتربة الدوادار يونس‏.‏ ثم نقله إلى المدفن بجوار المدرسة التي أنشأها بين القصرين سنة ثمان وثمانين والله يؤتي الملك من يشاء‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:32 PM

خلع الصالح أمير حاج وجلوس برقوق على التخت واستبداده بالسلطان
كان أهل الدولة من البيبقاوية - وممن ولي منهم هذا الأمير برقوق - قد طمعوا في الاستبداد وظفروا بلذة الملك والسلطان ورتعوا في ظل الدولة والأمان‏.‏ ثم سمت أحوالهم إلى أن يستقل أميرهم بالدولة ويستبد بها دون الأصاغر المنتصبين بالمملكة‏.‏ وربما أشار بذلك بعض أهل الفتيا يوم بيعة أمير حاج وقال لا بد أن يشرك معه في تفويض الخليفة الأمير القائم بالدولة لتشد الناس إلى عقدة محكمة فأمضى الأمر على ذلك وقام الأمير بالدولة فأنس الرعية بحسن سياسته وجميل سيرته‏.‏ واتفق أن جماعة من الأمراء المختصين بهذا الصبي المنصوب غصوا بمكان هذا الأمير وتفاوضوا في الغدر به‏.‏ وكان متولي ذلك منهم أبقا العثماني دوادار السلطان‏.‏ ونمي الخبر إليه بذلك فتقبض عليهم وبعث أبقا إلى دمشق على إمارته وغرب الآخرين إلى قوص فاعتقلوا هنالك حتى أنفذ الله فيهم حكمه وأشفق الأمراء من تدبر مثل هؤلاء عليهم وتفاوضوا في محو الأصاغر من الدست وقيامه بأمرهم مستقلاً فجمعهم لذلك في تاسع عشر رمضان سنة أربع وثمانين‏.‏ وحضر الخاصة والعامة من الجند والقضاة والعلماء وأرباب الشورى والفتيا وأطبقوا على بيعته وعزل السلطان أمير حاج فبعث إليه أميرين من الأمراء فأدخلوه إلى بيته وتناولوا السيف من يده فأحضروها‏.‏ ثم ركب هذا السلطان من مجلسه بباب الإسطبل وقد لبس شعار السلطنة وخلعة الخلافة فدخل إلى القصور السلطانية وجلس بالقصر الأبلق على التخت وأتاه الناس ببيعتهم إرسالاً‏.‏ وانعقد أمره يومئذ ولقب الملك الظاهر وقرعت الطبول وانتشرت البشائر وخلع على أمراء الدولة مثل أشمس الأتابك والطنبقا الجوباني أمير مجلس وجركس الخليلي أمير الماخورية وسودون الشيخوني نائباً والطنبقا المعلم أمير سلاح ويونس النوروي دوادار وقردم الحسيني رأس نوبة‏.‏ وعلى كتابه أوحد الدين بن ياسين كاتب سره أدال به من بدر الدين بن فضل الله كاتب سر السلطان من قبل وعلى جميع أرباب الوظائف من وزير وكاتب وقاض ومحتسب وعلى مشاهير العلم والفتيا والصوفية‏.‏ وانتظمت الدولة أحسن انتظام وسر الناس بدخولهم في إيالة السلطان يقدر للأمور قدرها ويحكم أواخيها‏.‏ وأستأذنه الطنبقا الجوباني أمير مجلس في الحج تلك السنة وأذن له فانطلق لقضاء فرضه وعاد انتهى والله تعالى أعلم‏.‏

مقتل قرط وخلع الخليفة ونصب ابن عمه الواثق للخلافة
كان قرط بن عمر من التركمان المستخدمين في الدولة وكان له إقدام وصرامة رقابهما إلى محل من مرادفة الأمراء في وجوههم ومذاهبهم‏.‏ ودفع إلى ولاية الصعيد ومحاربة أولاد الكنز من العرب الجائلين في نواحي أسوان فكان له في ذلك غناء وأحسن في تشريدهم عن تلك الناحية‏.‏ ثم بعث إلى البحيرة والياً عند انتقاض بدر بن سلام وفراره ومرجع العساكر من تمهيدها فقام بولايتها وتتبع آثار أولئك المنافقين وحسم عللهم‏.‏ وحضر في فورة أنيال فجلا في ذلك اليوم لشهامته وإقدامه‏.‏ وكان هو المتولي تسور الحائط وإحراق الباب الظهراني الذي ولجوا عليه وأمسكوه فكان يمت بهذه الوسائل أجمع والسلطان يرعى له إلا أنه كان ظلوماً غشوماً فكثرت شكايات الرعايا والمتظلمين به فتقبض عليه لأول بيعته وأودعه السجن‏.‏ ثم عفا عنه وأطلقه وبقي مباكراً باب السلطان مع الخواص والأولياء وطوى على الغث وتربص بالدولة‏.‏ ونمي عنه أنه فاوض الخليفة المتوكل بن المعتضد في الانتقاض والأجلاب على الدولة بالعرب المخالفين بنواحي برقة من أهل البحيرة وأصحاب بدر بن سلام وأن يفوض الخليفة الأمر إلى سوى هذا السلطان القائم بالدولة وبأنه داخل في ذلك بعض ضعفاء العقول من أمراء الترك ممن لا يؤبه له فأحضرهم من غداته وعرض عليهم الحديث فوجموا وتناكروا وأقر بعضهم واعتقل الخليفة بالقلعة‏.‏ وأخرج قرط هذا لوقته فطيف به على الجمل مسمراً بلاغاً في عقابه‏.‏ ثم سيق إلى مصرعه خارج البلد وقد بالسيف نصفين‏.‏ وضم الباقون إلى السجون وولى السلطان الخلافة عمر بن إبراهيم الواثق من أقاربه وهو الذي كان الملك الناصر ولى أباه إبراهيم بعد الخليفة أبي الربيع وعزل عن ابنه أحمد كما مر وكان هذا كله في ربيع سنة خمس وثمانين وولي مكانه أخوه زكريا ولقب المعتصم واستقرت الأحوال إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏ كان هذا الناصري من مماليك بيبقا وأرباب الوظائف في أيامه وكان له مع السلطان الظاهر ذمة وداد وخلة من لدن المربى والعشرة فقد كانوا أتراباً بها وكانت لهم دالة عليه لعلو سنه‏.‏ وقد ذكرنا كيف استبدوا بعد أيبك ونصبوا الناصري أتابكاً ولم يحسن القيام عليها‏.‏ وجاء طشتمر بعد ذلك فكان معه حتى في النكبة والمحبس‏.‏ ثم أشخص إلى الشام وولي على طرابلس‏.‏ ثم كانت ثورة أنيال ونكبته في جمادى سنة إحدى وثمانين فاستقدمهم من طرابلس وولي أمير سلاح مكان أنيال واستخلثه الأمير بركة وخلطه بنفسه‏.‏ وكانت نكبته فحبس معه ثم أشخص إلى الشام‏.‏ وكان أنيال قد أطلق من اعتقاله وولي على حلب سنة اثنتين وثمانين مكان منكلي بقري الأحمدي فأقام بها سنة أو نحوها‏.‏ ثم نمي عنه خبر الانتقاض فقبض عليه وحبس بالكرك‏.‏ وولى مكانه على حلب بيبقا الناصري في شوال سنة ثلاث وثمانين وقعد الظاهر على التخت لسنة بعدها واستبد بملك مصر‏.‏ وكان الناصري لما عنده من الدالة يتوقف في انفاذ أوامره لما يراه من المصالح بزعمه والسلطان ينكر ذلك ويحقده عليه‏.‏ وكان له مع الطنبقا الجوباني أمير مجلس أحد أركان الدولة حلف لم يغن عنه وأمر السلطان بالقبض على سولي بن بلقادر حين وفد عليه بحلب فأبى من ذلك صوناً لوفائه بزعمه ودس بذلك إلى سولي فهرب ونجا من النكبة‏.‏ ووفد على السلطان سنة خمس وثمانين وجدد حلفه مع الجوباني ومع أشمس الأتابك ورجع إلى حلب‏.‏ ثم خرج بالعساكر إلى التركمان آخر سنة خمس وثمانين دون إذن السلطان فانهزم وفسدت العساكر ونجا بعد ثالثة جريحاً وأحقد عليه السلطان هذه كلها‏.‏ ثم استقدمه سنة سبع وثمانين فلما انتهى إلى سرياقوس تلقاه بها أستاذ دار فتقبض عليه وطير به إلى الإسكندرية فحبس بها عامين وولى مكانه بحلب الحاجب سودون المظفر وكان عيبة نصح للسلطان وعيناً على الناصري فيما يأتيه ويذره لأنه من وظائف الحاجب للسلطان في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو بطانة السلطان بما يحدث في عمله ويعترض شجى في صدر من يروم الانتقاض من ولاته‏.‏ وكان هذا الحاجب سودون هو الذي ينمي أخباره إلى السلطان ويطلعه على مكامن مكره فلما حبس الناصري بالإسكندرية ولاه مكانه بحلب وارتاب الجوباني من نكبة الناصري لما كان بينهما من الوصلة والحلف فوجم واضطرب وتبين السلطان منه النكر فنكبه كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى وأقصاه والله أعلم‏.‏

اقصاء الجوباني إلى الكرك ثم ولايته على الشام بعد واقعة بندمر
أصل هذا الأمير الجوباني من قبائل الترك واسمه الطنبقا وكان من موالي بيبقا الخاصكي المستولي على السلطان الأشرف وقد مر ذكره ربي في قصره وجو عزه ولقن الخلال والأداب في كنفه‏.‏ وكانت بينه وبين السلطان خلة ومصافاة أكسبتها تلك الكفالة بما كانا رضيعي ثديها وكوكبي أفقها وتربي مرقاها‏.‏ وقد كان متصلاً فيما قبله بينهما من لدن المربى في بلادهم واشتمل بعضهم على بعض واستحكم الإتحاد حتى بالعشرة أيام التمحيض والإغتراب كما مر‏.‏ فلقد كان معتقلاً معه بالكرك أيام المحنة خمساً من السنين أدال الله لهذا السلطان حزنها بالمسرة والنحوسة بالسعادة والسجن بالملك‏.‏ وقسمت للجوباني بها شائبة من رحمة الله وعنايته في خدمة السلطان بدار الغربة والمحنة وألقته به في المنزل الخشن لتعظم له الوسائل وتكرم الأذمة والعهود إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن ثم كان انطلاقهما إلى الشام ومقامهما جميعاً واستدعاؤهما إلى دار الملك ورقيهما في درج العز والتغريب كذلك وكان للسلطان أصحاب سراة يمتون إليه بمثل هذا الوسائل وينتظمون في سلكها وكان متميز الرتبة عنهم سابقاً في مرقى درجات العز أمامهم مجلياً في الحلبة التي فيها طلقهم إلى أن ظفر بالملك واستولى على الدولة‏.‏ وهو يستتبعهم في مقاماته ويوطئهم عقبه ويذلل لهم الصعاب فيقتحمونها ويحوز لهم الرتب فيستهمون عليها‏.‏ ثم اقتعد منبر الملك والسلطان واستولى على كرسيه وقسم مراتب الدولة ووظائفها بين هؤلاء الأصحاب‏.‏ وآثر الجوباني منهم بالصفاء والمرباع فجعله أمير مجلسه ومعناه صاحب الشورى في الدولة وهو ثاني الأتابك وتلو رتبته فكانت له القدم العالية من أمرائه وخلصائه والحظ الوافر من رضاه وإيثاره‏.‏ وأصبح أحد الأركان التي بها عمد دولته بأساطينها وأرسى ملكه بقواعدها‏.‏ إلى أن دبت عقارب الحسد إلى مهاده وحومت شباة السعاية على قرطاسه وارتاب السلطان بمكانه وأعجل الحزم على إمهاله فتقبض عليه يوم الاثنين لسبع بقين من سنة سبع وثمانين وأودعه بعض حجر القصر عامة يومه‏.‏ ثم أقصاه إلى الكرك وعواطف الرحمة تنازعه وسجايا الكرم والوفاء تقض من سخطه‏.‏ ثم سمح وهو بالخير أسمح وجنح وهو إلى الأدنى من الله أمنح فسرح إليه من الغد بمرسوم النيابة على تلك الأعمال فكانت غريبة لم يسمع بمثلها من حلم هذا السلطان وأناقه وحسن نيته وبصيرته وكرم عهده وجميل وفائه‏.‏ وانطلقت الألسن بالدعاء له وامتلأت القلوب بالمحبة‏.‏ وعلم الأولياء والخاصة والشيع والكافة أنهم في كفالة أمن ولطف وملكة إحسان وعدل‏.‏ ثم مكث حولاً يتعقب أحواله ويتتبع سيره وأخباره طاوياً شأنه في ذلك عن سائر الأولياء إلى أن وقف على الصحيح من أمره وعلم خلوص مصادقته وجميل خلوصه‏.‏ فأخفق سعي الداعين وخابت ظنون الكاشحين وأداله العتبى من العتاب والرضا من النكرى واعتقد أن يمحو عنه هواجس الاسترابة والاستيحاش ويرده إلى أرفع الإمارة‏.‏ وبينما هو يطوي على ذلك ضميرة ويناجي سره إذ حدثت واقعة بندمر بالشام فكانت ميقاتاً لبدر السعادة وعلماً على فوزه بذلك الحظ كما نذكر إن شاء الله تعالى‏.‏ وخبر هذه الواقعة أن بندمر الخوارزمي كان نائباً بدمشق وقد مر ذكره غير مرة وأصله من الخوارزمية أتباع خوارزم شاه صاحب العراق عند استيلاء التتر وافترقوا عند مهلكه على يد جنكز خان في ممالك الشام واستخدموا لبني أيوب والترك أول استبدادهم بمصر‏.‏ وكان هذا الرجل من أعقاب أصلهم وكان له نجابة جذبت بضبعه ونصب عند الأمراء من سوقه فاستخدم بها إلى ترشح للولاية في الأعمال وتداول إمارة دمشق مع منجك اليوسفي وعشقتمر الناصري وكان له انتقاض بدمشق عند تغلب الخاصكي وحاصره واستنزله بأمانه‏.‏ ثم أعيد إلى ولايته‏.‏ ثم تصرمت تلك الدول وتغلب هذا السلطان على الأمر ورافه فيه فولوه على دمشق وكانت صاغيته مع بركة‏.‏ فلما حدث انتقض بركة كتب إليه إلى بقرى بدمشق أولياؤه هنالك بالاستيلاء على القلعة‏.‏ وكتب برقوق إلى نائب القلعة حذرهم فركب جنتمر أخ طاز وابن جرجي ومحمد بيك وقاتلوه ثلاثاً‏.‏ ثم أمسكوه وقيدوه معه بقري بن برقش وجبريل مرتبه وسيقوا إلى الإسكندرية فحبسوا‏.‏ فلما قتل بركة طلق بندمر ومن كان حبس من أصحاب بركة مثل بيبقا الناصري ودمرداش الأحمدي‏.‏ ثم استخلصه السلطان برقوق ورده إلى عمله الأول بعد جلوسه على التخت والشام له‏.‏ كان جماعاً للأموال شديد الظلامة فيها متحيلاً على استخلاصها من أيدي أهلها بما يطرق لهم من أسبابها العقاب‏.‏ مصانعاً للحاشية بماله من حاميته إلى أن سئم الناس إيالته وترحمت القلوب منه‏.‏ وكان بدمشق جماعة من الموسوسين المسامرين لطلب العلم بزعمهم متهمون في عقيدتهم بين مجسم ورافضي وحلولي جمعت بينهم أنساب الضلال والحرمان وقعدوا عن نيل الرتب بما هم فيه‏.‏ تلبسوا بإظهار الزهد والنكير على الخلق حتى على الدولة في توسعة بطلان الأحكام والجباية عن الشرع والسياسة التي تداولها الخلفاء وأرخص فيها العلماء وأرباب الفتيا وحملة الشريعة بما تمس إليه الحاجة من الوازع السلطاني والمعونة على الدفاع‏.‏ وقديماً نصبت الشرطة الصغرى والكبرى ووظيفة المظالم ببغداد دار السلام ومقر الخلافة وإيوان الدين والعلم وتكلم الناس فيها بما هو معروف وفرضت أرزاق العساكر في أثمان البياعات عند حاجة الدولة الأموية فليس ذلك من المنكر الذي يعتد بتغييره فلبس هؤلاء الحمقى على الناس بأمثال هذه الكلمات وداخلوا من في قلبه مرض من الدولة‏.‏ وأوهموا أن قد توثقوا من الحل والعقد في الإنتقاض فرية انتحلوها وجمعاً أنهوه نهايته‏.‏ وعدوا على كافل القلعة بدمشق وحاميتها يسألونهم الدخول معهم في ذلك لصحابة كانت بين بعضهم وبينه فاعتقلهم وطالع السلطان بأمرهم‏.‏ وتحدث الناس أنهم داخلوا في ذلك بندمر النائب بمداخلة بعضهم كابنه محمد شاه‏.‏ ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فارتاب به وعاجله بالقبض والتوثق منه ومن حاشيته‏.‏ ثم أخرج مستوفي الأموال بالحضرة لاستخلاص ما احتازه من أموال الرعايا واستأثر به على الدولة وأحضر هؤلاء الحمقى ومن بسوء سيرتهم مقتدون إلى الأبواب العالية فقذفوا في السجون وكانوا أحق بغير ذلك من أنواع العذاب والنكال‏.‏ وبعث السلطان لعشقتمر الناصري وكان مقيماً بالقدس أن يخرج نائباً على دمشق فتوجه إليها وأقام رسم الإمارة بها أياماً ظهر فيها عجزه وبين عن تلك الرتبة قعوده بما أصابه من وهن الكبر وطوارئ الزمانة والضعف حتى زعموا أنه كان يحمل على الفراش في بيته إلى منعقد حكمه فعندها بعث السلطان عن هذا الأمير الجوباني وقد خلص من الفتن أبريزه وأينع بنفحات الرضا والقبول عوده وأفرح بمطالعة الأنس والقرب روعه‏.‏ فجاء من الكرك على البريد وقد أعدت له أنواع الكرامة وهيء له المنزل والركاب والفرش والثياب والآنية والخوان والخرثى والصوان واحتفل السلطان لقدومه وتلقيه بما لم يكن في أمله‏.‏ وقضى الناس العجب من حلم هذا السلطان وكرم عهده وجميل وفائه وتحدث به الركبان‏.‏ ثم ولاه نيابة دمشق وبعثه لكرسيه مطلق اليد ماضي الحكم عزيز الولاية وعسكر بالزيدانية ظاهر القاهرة ثالث ربيع الأول من سنة سبع وثمانين وارتحل من الغد وسعادة السلطان تقدمه ورضاه ينقله إلى أن قارب دمشق والناس يتلقونه إرسالاً‏.‏ ثم دخل المدينة غرة ربيع الثاني وقد احتفل الناس لقدومه وغصت السكك بالمتنزهين وتطاول إلى دولته أرباب الحدود‏.‏ وتحدث الناس بجمال هذا المشهد الحفيل وتناقلوا خبره‏.‏ واستقل بولاية دمشق وعناية السلطان تلاحظه ومذاهب الطاعة والخلوص تهديه بحسن ذكره‏.‏ وأفاض الناس الثناء في حسن اختياره وجمال مذهبه وأقام السلطان بفي وظيفته أحمد ابن الأمير بيبقا فكان أمير مجلس والله غالب على أمره‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:32 PM

هدية صاحب إفريقية
كان السلطان لهذا العهد بإفريقية من الموحدين ومن أعقاب الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي المستبد بإفريقية على بني عبد المؤمن ملوك مراكش أعوام خمس وعشرين وستمائة‏.‏ وهو أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يحيى ابن إبراهيم أبي زكريا سلسلة ملوك كلهم‏.‏ ولم تزل ملوك المغرب على القدم ولهذا العهد يعرفون لملوك الترك بمصر حقهم ويوجبون لهم الفضل والمزية بما خصهم الله من ضخامة الملك وشرف الولاية بالمساجد المعظمة وخدمة الحرمين‏.‏ وكانت المهاداة بينهم تتصل بعض الأحيان ثم تنقطع بما يعرض في الدولتين من الأحوال‏.‏ وكان لي اختصاص بذلك السلطان ومكان من محبسه ولما رحلت إلى هذا القطر سنة أربع وثمانين واتصلت بهذا السلطان بمصر الملك الظاهر سألني عنه لأول لقيه فذكرته له أوصافه الحميدة وما عنده من الحب والثناء ومعرفة حقه على المسلمين أجمع وعلى الملوك خصوصاً في تسهيل سبيل الحج وحماية البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود أحسن الله جزاءه ومثوبته‏.‏ ثم بلغني أن السلطان بإفريقية صد أهلي وولدي عن اللحاق بي اغتباطاً بمكاني وطلباً لفيئتي إلى بابه ورجوعي فتطارحت على هذا السلطان في وسيلة شفاعة تسهل منه الأذن فاسعفني بذلك وخاطبت ذلك السلطان كان الله له أغبطه بمودة هذا السلطان والعمل على مواصلته ومهاداته كما كان بين سلفهم في الدولتين فقبل مني وبادر إلى إتحافه بمقربات إذ ليس عندنا في المغرب تحفة تطرف بها ملوك الشرق إلا الجياد العرب‏.‏ وأما ما سوى ذلك من أنواع الطرف والتحف بالمغرب فكثير لديهم أمثاله ويقبح أن يطرف عظماء الملوك بالتافه المطروح لديهم‏.‏ واختار لتلك سفينته التي أعدها لذلك وأنزل بها أهلي وولدي بوسيلة هذا السلطان أيده الله لسهولة سبيل البحر وقرب مسافته‏.‏ فلما قاربوا مرسى الإسكندرية عاقتهم عواصف الرياح عن احتلال السفينة وغرق معظم ما فيها من الحيوان والبضائع وهلك أهلي وولدي فيمن هلك‏.‏ ونفقت تلك الجياد وكانت رائعة الحسن صافية النسب وسلم من ذلك المهلك رسول جاء من ذلك السلطان لمد العهد‏.‏ وتقرر المودة فتلقي بالقبول والكرامة وأوسع النزل والقرى‏.‏ ثم اعتزم على العودة إلى مرسله فانتقى السلطان ثياباً من الوشي المرقوم من عمل العراق والإسكندرية يفوت القيمة واستكثر منها واتحف بها السلطان ملك إفريقية على يد هذا الرسول على عادة عظماء الملوك في اتحافهم وهداياهم‏.‏ وخاطبت ذلك السلطان معه بحسن الثناء على قصده وجميل موقع هديته من السلطان واستحكام مودته له‏.‏ وأجابني بالعذر من الموقع وأنه مستأنف من الاتحاف للسلطان واستحكام مودته بما يسره الحال‏.‏ فلما قدم الحاج من المغرب سنة ثمان وثمانين وصل فيهم من كبار الغرب بدولته وأبناء الأعاظم المستبدين على سلفه عبيد بن القائد أبي عبد الله محمد بن الحكيم بهدية من المقربات رائقة الحلي رائعة الأوصاف منتخبة الأجناس والأنساب غريبة الألوان والأشكال‏.‏ فأعترضها السلطان وقابلها بالقبول وحسن الموقع‏.‏ وحضر الرسول بكتابه فقرئ وأكرم حامله وأنعم عليه بالزاد لسفر الحج‏.‏ وأوصى أمراء المحمل فقضى فرضه على أكمل الأحوال وكانت أهم أمنياته‏.‏ ثم أنقلب ظافراً بقصده وأعاده السلطان إلى مرسله بهدية نحو من الأولى من أجناس تلك الثياب ومستجادها مما يجاوز الكثرة ويفوت واستحكمت عقدة المودة بين هذين السلطانين‏.‏ وشكرت الله على ما كان فيها من أثر مسعاي ولو قل‏.‏ وكان وصل في جملة الحاج من المغرب كبير العرب من هلال وهو يعقوب بن علي بن أحمد أمير رياح الموطنين بضواحي قسنطينة وبجاية والزاب في وفد من بنيه وأقربائه‏.‏ ووصل في جملتهم أيضاً عون بن يحيى طالب بن مهلهل من الكعوب أحد شعوب سليم الموطنين بضواحي تونس والقيروان والجريد وبنو أبيه فقضوا فرضهم أجمعون وانقلبوا إلى مواطنهم أواسط شهر ربيع الآخر من سنة تسع وثمانين واطردت أحوال هذه الدولة على أحسن ما يكون والله متولي أمرها بمنه وكرمه انتهى‏.‏ حوادث مكة وأمرائها قد تقدم لنا أن ملك مكة سار في هذه الأعصار لبني قتادة من بني مطاعن الهواشم بني حسن وذلك منذ دولة الترك‏.‏ وكان ملكهم بها بدوياً وهم يعطون الطاعة لملك مصر ويقيمون مع ذلك الدولة العباسية للخليفة الذي ينصبه الترك بمصر إلى أن استقر أمرها آخر الوقت لأحمد بن عجلان من رميثة بن أبي نمي أعوام سنة ستين وسبعمائة بعد أبيه عجلان فأظهر في سلطان عدلاً وتعففاً عن أموال الناس وقبض أيدي أهل العيث والظلم وحاشيتهم وعبيدهم وخصوصاً عن المجاورين‏.‏ وأعانه على ذلك ما كان له من الشوكة بقوة أخواله ويعرفون بني عمر من اتباع هؤلاء السادة ومواليهم فاستقام أمره وشاع بالعدل ذكره وحسنت سيرته‏.‏ وامتلأت مكة بالمجاورين والتجار حتى غصت بيوتها بهم‏.‏ وكان عنان ابن عمه مقامس بن رميثة ومحمد ابن عمه مقامس بن رميثة ينفسون عليه ما آتاه الله من الخير ويجدون في أنفسهم إذ ليس يقسم لهم برظاهم في أموال جبايته فتنكروا له‏.‏ وهموا بالإنتقاض فتقبض عليهم وكان لهم حلف مع أخيه محمد بن عجلان فراوده على تركهم أو حبسهم فحبسوا ولبثوا في محبسهم ذلك حولاً أو فوقه‏.‏ ثم نقبوا السجن ليلاً وفروا فأدركوا من ليلتهم وأعيدوا إلى محبسهم وأفلت منهم عنان بن مقامس ونجا إلى مصر سنة ثمان وثمانين صريخاً بالسلطان‏.‏ وعن قليل وصل الخبر بوفاة أحمد بن عجلان على فراشه وأن أخاه كبيش بن عجلان نصب ابنه محمداً مكانه وقام بأمره وأنه عمد إلى هؤلاء المعتقلين فسمهم صوناً للأمر عنهم لمكان ترشيحهم فنكر السلطان ذلك وسخطه من فعلاتهم وافتياتهم‏.‏ ونسب إلى كبيش وإنه يفسد بالفساد بين هؤلاء الأقارب‏.‏ ولما خرج الحاج سنة ثمان وثمانين أوصى أمير حاج بعزل بالصبي المنصوب والاستبدال عنه بابن عنان بن مقامس والقبض على كبيش‏.‏ ولما وصل الحاج إلى مكة وخرج الصبي لتلقي المحمل الخلافي وقد أرصد الرجال حفافيه للبطش بكبيش وأميره المنصوب فقعد كبيش عن الحضور وجاء الصبي وترجل عن فرسه لتقبيل الخف من راحلة المحمل على العادة فوثب به أولئك المرصدون طعناً بالخناجر يظنونه كبيشاً‏.‏ ثم غابوا فلم يوقف لهم على خبر وتركوه طريحاً بالبطحاء‏.‏ ودخل الأمير إلى الحرم فطاف وسعى وخلع على عنان بن مقامس الإمارة على عادة من سلف من قومه‏.‏ ونجا كبيش إلى جدة من سواحل مكة‏.‏ ثم لحق بأحياء العرب المنتبذين ببقاع الحجاز صريخاً فقعدوا عن نصرته وفاء بطاعة السلطان وافترق أمره وخذله عشيره وانقلب الأمير بالحاج إلى مصر فعنفه السلطان على قتله الصبي فاعتذر بافتيات أولئك الرجال عليه فعذره‏.‏ وجاء كبيش بعد منصرف الحاج وقد انضم إليه أوباش من العرب فقعد بالمرصد يخيف السابلة والركاب والمسافرين‏.‏ ثم زحف إلى مكة وحاصرها أول سنة تسع وثمانين وخرج عنان بن مقامس بعض الأيام وبارزه فقتله واضطرب الأمر بمكة وامتدت أيدي عنان والأشرار معه إلى أموال المجاورين فتسلطوا عليها ونهبوا زرع الأمراء هنالك وزرع السلطان للصدقة‏.‏ وولى السلطان علي بن عجلان واعتقله حسماً لمادة طوارق الفساد عن مكة واستقر الحال على ذلك إلى أن كانت فتنة الناصر كما نذكر إن شاء الله تعالى انتهى‏.‏ كان منطاش هذا وتمرتاي الدمرداشي الذي مر ذكره أخوين لتمراز الناصري من موالي الملك الناصر محمد بن قلاوون وربيا في كفالة أمهما‏.‏ وكان اسم تمرتاي محمداً وهو الأكبر واسم منطاش أحمد وهو الأصغر‏.‏ واتصل تمرتاي بالسلطان الأشرف وترقى في دولته في الوظائف إلى أن ولي بحلب سنة ثمانين وكانت واقعته مع التركمان‏.‏ وذلك إنه وفد عليه أمراؤهم فقبض عليهم لما كان من عيثهم في النواحي واجتمعوا فسار إليهم وأمده السلطان بعساكر الشام وحماة وانهزموا أمامهم إلى الدربند ثم كروا على العساكر فهزموها في المضايق وتوفي تمرتاي سنة اثنتين وثمانين وكان السلطان الظاهر برقوق يرعى لهما هذا الولاء فولى منطاش على ملطية‏.‏ ولما قعد على الكرسي واستبد بالسلطان بدت من منطاش علامات الخلاف فهم به‏.‏ ثم راجع ووفد وتنصل للسلطان وكان سودون باق من أمراء الألوف خالصة للسلطان ومن أهل عصبيته‏.‏ وكان من قبل ذلك في جملة الأمير تمرماي فرعا لمنطاش حق أخيه وشفع له عند السلطان وكفل حسن الطاعة منه وأنه يخرج على التركمان المخالفين ويحسم علل فسادهم‏.‏ وانطلق إلى قاعدة عمله بملطية‏.‏ ثم لم تزل آثار العصيان بادية عليه وربما داخل أمراء التركمان في ذلك ونمي الخبر إلى السلطان فطوى له وشعر هو بذلك فراسل صاحب سيواس قاعدة بلاد الروم وبها قاض مستبد على صبيي من أعقاب بني أرشى ملوكها من عهد هلاكو قد ولما وصلت رسل منطاش وكتبه إلى هذا القاضي بادر بإجابته وبعث رسلاً وفداً من أصحابه في إتمام الحديث معه فخرج منطاش إلى لقائهم واستخلف على ملطية دواداره وكان مغفلاً فخشي مغبة ما يرومه صاحبه من الانتقاض فلاذ بالطاعة وتبرأ من منطاش وأقام دعوة السلطان في البلد‏.‏ وبلغ الخبر إلى منطاش فاضطرب‏.‏ ثم استمر وسار مع وفد القاضي إلى سيواس فلما قدم عليه وقد انقطع الحبل في يده أعرض عنه وصار إلى مغالطة السلطان عما أتاه من مداخلة منطاش وقبض عليه وحبسه‏.‏ وسرح السلطان سنة تسع وثلاثين عساكره مع يونس الدوادار وقردم رأس نوبة والطنبقا الرماح أمير سلاح وسودون باق من أمراء الألوف‏.‏ وأوعز الناصري فأتى وطلب أن يخرج معهم بعساكره وإلى أنيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق وساروا جميعاً‏.‏ وكان يومئذ ملك التتر بما وراء النهر وخراسان تمر من نسب جفطاي قد زحف إلى العراقين وأذربيجان وملك توريز عنوة واستباحها وهو يحاول ملك بغداد‏.‏ فسارت هذه العساكر توري بغزوه ودفاعه حتى إذا بلغوا حلب أتى إليهم الخبر بأن تمر رجع بعساكره لخارج خرج عليه بقاصية ما وراء النهر فرجعت عساكر السلطان إلى جهة سيواس واقتحموا تخومها على حين غفلة من أهلها‏.‏ فبادر القاضي إلى إطلاق منطاش لوقته‏.‏ وقد كان أيام حبسه يوسوس إليه بالرجوع عن موالاة السلطان وممالأته‏.‏ ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب حتى جنح إلى قوله فبعث لإحياء التتر الذين كانوا ببلاد الروم فيئة بن أريثا بن أول فسار إليهم واستجاشهم على عسكر السلطان وحذرهم استئصال شأفتهم باستئصال ملك ابن أريثا وبلده‏.‏ ووصلت العساكر خلال ذلك إلى سيواس فحاصروها أياماً وضيقوا عليها وكادت أن تلقي باليد‏.‏ ووصل منطاش إثر ذلك بإحياء التتر فقاتلهم العساكر ودافعوهم ونالوا منهم‏.‏ وجلى الناصري في هذه الوقائع وأدرك العساكر الملل والضجر من طول المقام وبطء الظفر وانقطاع الميرة بتوغلهم في البلاد وبعد الشقة فتداعوا للرجوع ودعوا الأمراء إليه فجنح لذلك بعضهم فانكفئوا على تعبيتهم‏.‏ وسار بعض التتر في اتباعهم فكروا عليهم واستلحموهم وخلصوا إلى بلاد الشام على أحسن حالات الظهور ونية العود ليحسموا علل العدو ويمحوا أثر الفتنة والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:33 PM

نكبة الجوباني واعتقاله بالإسكندرية
كان الأمراء الذين حاصروا سيواس قد لحقهم الضجر والسآمة من طول المقام وفزع قردم والطنبقا المعلم منهم إلى الناصري مقدم العساكر بالشكوى من السلطان فيما دعاهم إليه من هذا المرتكب وتفاوضوا في ذلك ملياً وتداعوا إلى الإفراج عن البلد بعد أن بعثوا إلى القاضي بها واتخذوا عنده يداً بذلك‏.‏ وأوصوه بمنطاش والإبقاء عليه ليكون لهم وقوفاً للفتنة‏.‏ وعلم يونس الدوادار أنهم في الطاعة فلم يسعه خلافهم ففوض لهم‏.‏ ولما انتهى إلى حلب غدا عليه دمرداش من أمرائها فنصح له بأن الجوباني نائب بدمشق مداخل للناصر في تمريضه في الطاعة وأنهما مصران على الخلاف‏.‏ وقفل يونس إلى مصر فقص على السلطان نصيحته واستدعى دمرداش فشافه السلطان بذلك واطلع منه على جلي الخبر في شأنهما‏.‏ وكان للجوباني مماليك أوغاد قد أبطرتهم النعمة واستهواهم الجاه وشرهوا إلى التوثب وهو يزجرهم فصاروا إلى إغرائه بالحاجب يومئذ طرنطاي فقعد في بيته عن المجلس السلطاني وطير بالخبر إلى مصر فاستراب الجوباني وسابقه بالحضور عند السلطان لينضح عنه ما علق به من الأوهام وأذن له في ذلك فنهض من دمشق على البريد في ربيع سنة تسعين‏.‏ ولما انتهى إلى سرياقوس أزعج إليه أستاذ داره بهادر المنجكي فقبض عليه وطير به السفن إلى الإسكندرية‏.‏ وأصبح السلطان من الغد فقبض على قردم والطنبقا المعلم وألحقهما به فحبسوا هنالك جميعاً‏.‏ وانحسم ما كان يتوقع من انتقاضهم‏.‏ وولى السلطان مكان الجوباني بدمشق طرنطاي الحاجب ومكان قردم بمصر ابن عمه مجماس ومكان المعلم دمرداش واستمر الحال على ذلك‏.‏

فتنة الناصري واستيلاؤه على الشام ومصر
واعتقال السلطان بالكرك لما بلغ الناصري بحلب اعتقال هؤلاء الأمراء استراب واضطرب وشرع في أسباب الإنتقاض ودعا إليه من يشيع الشر وسماسرة الفتن من الأمراء وغيرهم فأطاعوه وافتتح أمره بالنكير للأمير سودون المظفري والإنحراف عنه لما كان منه في نكبته وإغراء السلطان به ثم ولايته مكانه‏.‏ ومن وظائف الحاجب في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو يطالع السلطان بما يحدث في عمله ويعترض شجى في صدر من يريد الإنتقاض من ولاته‏.‏ فأظلم الجو بين هؤلاء الرهط وبين المظفري وتفاقم الأمر وطير بالخبر إلى السلطان فأخرج للوقت دواداره الأصغر تلكتمر ليصلح بينهما ويسكن الثائرة‏.‏ وحينما سمعوا بمقدمه ارتابوا وارتبكوا في أمرهم وقدم تلكتمر فتلقاه الناصري وألقى إليه كتاب السلطان بالندب إلى الصلح مع الحاجب والإغضاء له فأجاب بعد أن التمس من حقائب تلكتمر مخاطبة السلطان وملاطفته للأمراء حتى وقف عليه‏.‏ ثم غلب عليه أولئك الرهط من أصحابه بالفتك بالحاجب فأطاعهم وباكرهم تلكتمر بدار السعادة ليتم الصلح بينهم وتذهب الهواجس والنفرة فدعاه الناصر إلى بعض خلواته‏.‏ وبينما هو يحادثه وإذا بالقوم قد وثبوا على الحاجب وفتكوا به‏.‏ وتولى كبر ذلك أنبقا الجوهري واتصلت الهيعة فوجم تلكتمر ونهض إلى محل نزوله‏.‏ واجتمع الأمراء إلى الناصري واعصوصبوا عليه‏.‏ ودعاهم إلى الخلعان فأجابوا وذلك في محرم سنة إحدى وتسعين‏.‏ واتصل الخبر بطرابلس وبها جماعة من الأمراء يرومون الإنتقاض منهم بدلار الناصري عميد الفتن فتولى كبرها وجمع الذين تمالأوا عليها وعمدوا إلى الإيوان السلطاني المسمى بدار السعادة وقبضوا على النائب وحبسوه ولحق بدلار الناصري في عساكر طرابلس وأمرائها‏.‏ وفعل مثل ذلك أهل حلب وحمص وسائر ممالك الشام‏.‏ وسرح السلطان العساكر لقتالهم‏.‏ فسار أيتمش الأتابك ويونس الدوادار والخليلي جركس أمير الماخورية وأحمد بن بيبقا أمير مجلس وأيدكاز صاحب الحجاب فيمن إليهم من العساكر‏.‏ وانتخب من أبطال مماليكهم وشجعانهم خمسمائة مقاتل واستضافهم إلى الخليلي وعقد لهم لواءه المسمى بالشاليش وأزاح عللهم وعلل سائر العساكر‏.‏ وساروا على التعبية منتصف ربيع السنة‏.‏ وكان الناصري لما فعل فعلته بعث عن منطاش وكان مقيماً بين أحياء التتر منذ رجوع العساكر عن سيواس فدعاه ليمسك معه حبل الفتنة والخلاف فجاء وملأه مبرة وإحساناً واستنفر طوائف التركمان والعرب ونهض في جموعه يريد دمشق وطرنطاي نائبها يواصل تعريف السلطان بالأخبار ويستحث العساكر من مصر على نائبها الأمير الصفوي وبينه وبين الناصر علاقة وصحبة فاسترابوا به وتقبضوا عليه ونهبوا بيته وبعثوا به حبيساً إلى الكرك وولوا مكانه محمد باكيش بن جند التركماني كان مستخدماً عند بندمر هو وأبوه وولى لهذا العهد على ثم تقدموا إلى دمشق واختاروا من القضاة وفداً أوفدوه على الناصري وأصحابه للإصلاح فلم يجيبوا وأمسكو الوفد عندهم وساروا للقاء‏.‏ ولما تراءى الجمعان بالمرج نزع أحمد بن بيبقا وأيدكاز الحاجب ومن معهما إلى القوم فساروا معهم واتبعهم مماليك الأمراء وصدق القوم الحملة على من بقي فانفضوا ولجأ أيتمش إلى قلعة دمشق فدخلها وكان معه مكتوب السلطان بذلك متى احتاج إليه‏.‏ وذهب يونس حيران وقد أفرده مماليكه فلقيه عنقا أمير الأمراء وكان عقد له بعض النزعات أيام سلطانه فتقبض عليه وأحيط بجركس الخليلي ومماليك السلطان حوله وقد أبلوا في ذلك الموقف واستلحم عامتهم فخلص بعض العدو إليه وطعنه فأكبه ثم احتز رأسه‏.‏ وذهب ذلك الجمع شعاعاً وافترقت العساكر في كل وجه وجيء بهم أسرى من كل ناحية‏.‏ ودخل الناصري وأصحابه دمشق لوقتهم واستولوا عليها وعاثت عساكرهم من العرب والتركمان في نواحيها‏.‏ وبعث إليهم عنقا يستأذنهم في أمر يونس فأمر بقتله فقتله وبعث إليهم برأسه‏.‏ وأوعزوا إلى نائب القلعة بحبس أيتمس عنده وفرقوا المحبوسين من أهل الواقعة على السجون بقلعة دمشق وصفد وحلب وغيرها‏.‏ وأظهر ابن باكيس دعوته بغزة وأخذ بطاعتهم ومر به أنيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق ناجياً من الوقعة إلى مصر فقبض عليه وحبسه بالكرك‏.‏ واستعد السلطان للمدافعة وولى دمرداش أتابكاً مكان أيتمش وقرماش الجندار دوادار مكان يونس وعمر سائر المراتب عمن فقد منها وأطلق الخليفة المعتقل المتوكل بن المعتضد وأعاده إلى خلافته وعزل مكانه‏.‏ وأقام الناصري وأصحابه بدمشق أياماً ثم أجمعوا المسير إلى مصر ونهضوا إليها بجموعهم وعميت أنباؤهم حتى أطلت مقدمتهم على بلبيس‏.‏ ثم تقدموا إلى بركة الحاج وخيموا بها لسبع من جمادى الأخيرة من السنة‏.‏ وبرز السلطان في مماليكه ووقف أمام القلعة بقية يومه والناس يتسايلون إلى الناصري من العساكر ومن العامة حتى غصت بهم بسائط البركة واستأمن أكثر الأمراء مع السلطان إلى الناصري فأمنهم وأطلع السلطان على شأنهم وسارت طائفة من العسكر وناوشوهم القتال وعادوا منهزمين إلى السلطان‏.‏ وارتاب السلطان بأمره وعاين انحلال عقدته فدس إلى الناصري بالصلح وبعث إليه بالملاطفة وأن يستمر على ملكه ويقوم بدولته خدمه وأعوانه‏.‏ وأشار بأن يتوارى بشخصه أن يصيبه أحد من غير البيبقاوية بسوء‏.‏ فلما غشيه الليل‏.‏ أذن لمن بقي معه من مماليكه في الإنطلاق ودخل إلى بيته‏.‏ ثم خرج متنكراً وسرى في غيابات المدينة‏.‏ وباكرهم الناصري وأصحابه القلعة فاستولوا عليها ودعوا أمير حاج ابن الأشرف فأدوه إلى التخت كما كان ونصبوه للملك ولقبوه المنصور وبادروا باستدعاء الجوباني والأمراء المعتقلين بالإسكندرية فأغذوا السير ووصلوا ثاني يومهم‏.‏ وركب الناصري وأصحابه للقائهم وأنزل الجوباني عنده بالإسطبل وأشركه في أمره وأصبحوا ينادون بطلب لسلطان الظاهر بقية يومهم ذلك ومن الغد حتى دل عليه بعض مماليك الجوباني وحين رآه قبل الأرض وبالغ في الأدب معه وحلف له على الأمان وجاء به إلى القلعة فأنزله بقاعة الغصبة واشتوروا في أمره‏.‏ وكان حرص منطاش وزلار على قتله أكثر من سواهما‏.‏ وأبى الناصري والجوباني إلا الوفاء بما اعتقد معهم واستقر الجوباني أتابك والناصري رأس النوبة الكبرى ودمرداش الأحمدي أمير سلاح وأحمد بن بيبقا أمير مجلس والأبقا العثماني دوادار وأنبقا الجوهري أستاذ دار‏.‏ وعمرت الوظائف والمراتب‏.‏ ثم بعثوا زلار نائباً على دمشق وأخرجوه إليها وبعثوا كتبغا البيبقاوي على حلب وكان السلطان قد عزله عن طرابلس واعتقله بدمشق فلما جاء في جملة الناصري بعثه على حلب مكانه‏.‏ وقبضوا على جماعة من الأمراء فيهم النائب سودون باق وسودون الطرنطاي فحبسوا بعضهم بالإسكندرية وبعثوا آخرين إلى الشام فحبسوا هنالك وتتبعوا مماليك السلطان فحبسوا أكثرهم وأشخصوا بقيتهم إلى الشام يستخدمون عند الأمراء‏.‏ وقبضوا على أستاذ دار محمود قهرمان الدولة وقارون القصري فصادروه على ألف ألف درهم‏.‏ ثم أودعوه السجن‏.‏ وهم مع ذلك يتشاورون في مستقر السلطان بين الكرك وقوص والإسكندرية حتى أجمعوا على الكرك ووروا بالإسكندرية حذراً إليه من منطاش‏.‏ فلما أزف مسيره قعد له منطاش عند البحر رصداً وبات عامة ليله وركب الجوباني مع السلطان من القلعة وأركب معه صاحب الكرك موسى بن عيسى في لمة من قومه يوصلونه إلى الكرك‏.‏ وسار معه برهة من الليل مشيعاً‏.‏ ثم رجع وشعر منطاش من أمره وطوى على الغش وأخذ ثياب الثورة كما يذكر ونجا السلطان إلى الكرك في فل من غلمانه ومواليه ووكل الناصري به حسن الكشكي من خواصه وولاه على الكرك وأوصاه بخدمته ومنعه ممن يرومه بسوء فتقدمه إلى الكرك وأنزله القلعة وهيأ له النزول بما يحتاج إليه وأقام هنالك حتى وقع من لطائف الله في أمره ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى‏.‏ وجاء الخبر أن جماعة من مماليك الظاهر كانوا مختفين منذ الوقعة فاعتزموا على الثورة بدمشق وأنهم ظفروا بهم وحبسوا جميعاً ومنهم أيبقا الصغير والله تعالى أعلم‏.‏ ثورة منطاش واستيلاؤه على الأمر ونكبة الجوباني وحبس الناصري والأمراء البيبقاوية بالإسكندرية كان منطاش منذ دخل مع الناصري إلى مصر متربصاً بالدولة طاوياً جوانحه على الغدر لأنهم لم يوفروا حظه من الاقطاع ولم يجعلوا له اسماً في الوظائف حين اقتسموها ولا راعى له الناصري حق خدمته ومقارعته الأعداء‏.‏ وكان ينقم عليه مع ذلك إيثاره الجوباني واختصاصه فاستوحش وأجمع الثورة وكان مماليك الجوباني لما حبس أميرهم وانتقض الناصري بحلب لحقوا به وجاؤوا به في جملته واشتملوا على منطاش فكان له بهم في ذلك السفر أنس وله إليهم صفو فداخل جماعة منهم في الثورة وحملهم على صاحبهم وتطفل على الجوباني في المخالصة بغشيان مجلسه وملابسة ندمائه وحضور مائدته‏.‏ وكان البيبقاوية جميعاً ينقسمون على الناصري ويرون أنه مقصر في الرواتب والاقطاع وطووا من ذلك على النكث ودعاهم منطاش إلى التوثب فكانوا إليه أسرع وزينوه له وقعدوا عنه عند الحاجة‏.‏ ونمي الخبر إلى الناصري والجوباني فعزموا على إشخاص منطاش إلى الشام فتمارض وتخلف في بيته أياماً يطاولهم ليحكم التدبير عليهم‏.‏ ثم عدا عليه الجوباني يوم الاثنين وقد أكمن في بيته رجالاً للثورة فقبضوا على الجوباني وقتلوه لحينه‏.‏ وركب منطاش إلى الرميلة فنهب مراكب الأمراء بباب الإسطبل ووقف عند مأذنة المدرسة الناصرية وقد شحنها ناشبة ومقاتلة مع أمير من أصحابه ووقف في حمايتهم‏.‏ واجتمع إليه من داخله في الثورة من الأشرفية وغيرهم واجتمع إليه من كان بقي من مماليك الظاهر واتصلت الهيعة فركب الأمراء البيبقاوية من بيوتهم‏.‏ ولما أفضوا إلى الرميلة وقفوا ينظرون مآل الحال وبرز الناصري من الإسطبل فيمن حضر وأمر الأمراء بالحملة عليهم فوقفوا فأحجم هو عن الحملة وتخاذل أصحابه وأصحاب منطاش‏.‏ ومال إلى الناصري بمماليك الجوباني لنكبة صاحبهم فهددهم منطاش بقتله فافترقوا وتحاجز الفريقان آخر النهار وباكروا شأنهم من الغد‏.‏ وحمل الناصري فانهزم‏.‏ وأقاموا على ذلك ثلاثاً وجموع منطاش في تزايد‏.‏ ثم انفض الناس عن الناصري عشية الأربعاء لسبعين يوماً من دخول القلعة‏.‏ واقتحمها عليه منطاش ونهب بيوته وخزائنه وذهب الناصري حيران وأصحابه يرجعون عنه‏.‏ وباكر البيبقاوية مجلس منطاش من الغد فقبض عليهم وسيق من تخلف منهم عن الناصري أفذاذاً وبعث بهم جميعاً إلى الإسكندرية‏.‏ وبعث جماعة ممن حبسهم الناصري إلى قوص ودمياط‏.‏ ثم جدد البيعة لأمير حاج المنصور‏.‏ ثم نادى في مماليك السلطان بالعرض وقبض على جماعة منهم وفر الباقون‏.‏ وبعث بالمحبوسين منهم إلى قوص وصادر جماعة من أهل الأموال وأفرج عن محمود أستاذ دار وخلع عليه ليوليه في وظيفته‏.‏ ثم بدا له في أمره وعاود مصادرته وامتحانه واستصفى منه أموالاً عظيمة‏.‏ يقال ستين قنطارا من الذهب‏.‏ ولما استقل بتدبير الدولة عمر الوظائف والمراتب وولى فيها بنظره وبعث عن الأشقتمري من الشام وكان أخوه تمرتاي قد آخى بينهما فولاه النيابة الكبرى وعن استدمر بن يعقوب شاه فجعله أمير سلاح وعن أنبقا الصفوي فولاه صاحب الحجاب‏.‏ واختص الثلاثة بالمشورة وأقامهم أركاناً للدولة‏.‏ وكان إبراهيم بن باطلقتمر أمير جندار قد داخله في الثورة فرعى له ذلك وقدمه في أمراء الألوف‏.‏ ثم بلغه أنه تفاوض مع الأمراء في الثورة به واستبداد السلطان فقبض عليه ثم أشخصه إلى حلب على إمارته هناك وكان قد اختص أرغون السمندار وألقى عليه محبته وعنايته فغشيه الناس وباكروا بابه وعظم في الدولة صيته‏.‏ ثم نمي عنه أنه من المداخلين لإبراهيم أمير جندار فسطا به وامتحنه أن له على هؤلاء المداخلين لإبراهيم فلاذ بالإنكار وأقام في محبسه وأفرج عن سودون النائب فجاء إلى مصر فألزمه بيته واستمر الحال على ذلك انتهى‏.‏ ثورة بذلار بدمشق ولما بلغ الخبر إلى بذلار بدمشق باستقلال منطاش بالدولة أنف من ذلك وارتاب وداخلته الغيرة أجمع الإنتقاض وكاتب نواب الممالك بالشام في حلب وغيرها يدعوهم إلى الوفاق فأعرضوا عنه وتمسكوا بطاعتهم‏.‏ وكان الأمير الكبير بدمشق جنتمر أخو طاز يداخل الأمراء هناك في التوثب به وتوثق منهم للدولة وبلغ الخبر إلى بذلار فركب في مماليكه وشيعته يروم القبض عليه فلم يتمكن من ذلك واجتمعوا وظاهرهم عافة دمشق عليه فقاتلوه ساعة من نهار‏.‏ ثم أيقن بالغلب والهلكة فألقى بيده وقبضوا عليه وطيروا بالخبر إلى منطاش وهو صاحب الدولة فأمر باعتقاله وهلك مريضاً في محبسه وولى منطاش جنتمر نيابة دمشق واستقرت الأحوال على ذلك‏.‏ والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:34 PM

خروج السلطان من الكرك وظفره بعساكر الشام وحصاره دمشق
ولما بلغ الخبر إلى السلطان الظاهر بالكرك بأن منطاش استقل بالدولة وحبس البيبقاوية جميعاً وأدال منهم بأصحابه أهمته نفسه وخشي غائلته ولم يكن عند منطاش لأول استقلاله أهم من شأنه وشأن السلطان فكتب إلى حسن الكشكي نائب الكرك بقتله وقد كان الناصري أوصاه في وصيته حين وكله به أن لا يمكنه ممن يرومه بسوء فتجافى عن ذلك واستدعى البريدي وفاوض أصحابه وقاضي البلد وكاتب السر فأشاروا بالتحرز من دمه جهد الطاقة‏.‏ فكتب إلى منطاش معتذراً بالخطر الذي في ارتكابه دون إذن السلطان والخليفة فأعاد عليه الكتاب مع كتاب السلطان والخليفة بالإذن فيه واستحثه في الإجهاز عليه فأنزل البريدي وعلله بالوعد وطاوله يرجو المخلص من ذلك وكانوا يطوون الأمر عن السلطان شفقة وإجلالاً فشعر بذلك وأخلص اللجأ إلى الله والتوسل بإبراهيم الخليل لأنه كان يراقب مدفنه من شباك في بيته‏.‏ وانطلق غلمانه في المدينة حتى ظفروا برجال داخلوهم في حسن الدفاع عن السلطان وأفاضوا فيهم فأجابوا وصدقوا ما عاهدوا عليه‏.‏ واتعدوا لقتال البريدي وكان منزله بإزاء السلطان فتوافوا ببابه ليلة العاشر من رمضان وهجموا عليه فقتلوه ودخلوا برأسه إلى السلطان وشفار سيوفهم دامية‏.‏ وكان النائب حسن الكشكي يفطر على سماط السلطان تأنيساً لهم فلما رآهم دهش وهموا بقتله فأجاره السلطان وملك السلطان أمره بالقلعة وبايعه النائب وصعد إليه أهل المدينة من الغد فبايعوه‏.‏ ووفد عليه عرب الضاحية من بني عقبة وغيرههم فأعطوه طاعتهم وفشا الخبر في النواحي فتساقط إليه مماليكه من كل جهة وبلغت أخباره إلى منطاش فأوعز إلى ابن باكيش نائب غزة أن يسير في العساكر إلى الكرك وتردد السلطان بين لقائه والنهوض إلى الشام‏.‏ ثم أجمع المسير إلى دمشق فبرز من الكرك منتصف شوال فعسكر بالقبة وجمع جموعه من العرب وسار في ألف أو يزيدون من العرب والترك وطوى المراحل إلى الشام‏.‏ وسرح جنتمر نائب دمشق العساكر لدفاعه فيهم أمراء الشام وأولاد بندمر فالتقوا بشقحب وكانت بينهم واقعة عظيمة أجلت عن هزيمة أهل دمشق وقتل الكثير منهم وظفر السلطان بهم واتبعهم إلى دمشق ونجا الكثير منهم إلى مصر‏.‏ ثم أحس السلطان بأن ابن باكيش وعساكره في اتباعه فكر إليهم وأسرى ليلته وصبحهم على غفلة في عشر ذي القعدة فانهزموا ونهب السلطان وقومه جميع ما معهم وامتلأت أيديهم واستفحل أمره ورجع إلى دمشق ونزل بالميدان‏.‏ وثار العوام وأهل القبيبات ونواحيها بالسلطان وقصدوه بالميدان فركب ناجياً وترك أثقاله فنهبها العوام وسلبوا من لقوه من مماليكه ولحق بقبة بلبغا فأقام بها وأغلقوا الأبواب دونه فأقام يحاصرهم إلى محرم سنة اثنتين وتسعين‏.‏ وكان كمشيقا الحموي نائب حلب قد أظهر دعوته في عمله وكاتبه بذلك عندما نهض من الكرك إلى الشام كما نذكره‏.‏ ولما بلغه حصاره لدمشق تجهز للقائه واحتمل معه ما يزيح علل السلطان من كل صنف وأقام له أبهة‏.‏ ووصل أنيال اليوسفي وقجماش ابن عم السلطان وجماعة من الأمراء كانوا محبوسين بصفد وكان مع نائبها جماعة من مماليك السلطان يستخدمون فغدروا به وأطلقوا من كان من الأمراء في سجن صفد كما نذكر ولحقوا بالسلطان‏.‏ وتقدمهم أنيال وهو محاصر لدمشق فأقاموا معه والله تعالى أعلم‏.‏

ثورة المعتقلين بقوص ومسير العساكر إليهم وإعتقالهم
ولما بلغ الخبر إلى الأمراء المحبوسين بقوص خلاص السلطان من الإعتقال واستيلاؤه على الكرك واجتماع الناس إليه فثاروا بقوص أوائل شوال من السنة وقبضوا على الوالي بها وأخذوا من مودع القاضي ما كان فيه من المال‏.‏ وبلغ خبرهم إلى مصر فسرح إليهم العساكر‏.‏ ثم بلغه أنهم ساروا إلى أسوان وشايعوا الوالي بها حسن ابن قرط فلحن لهم بالوعد وعرض بالوفاق فطمعوا واعتزموا أن يسيروا من وادي القصب من الجهة الشرقية إلى السويس ويسيروا من هناك إلى الكرك‏.‏ ولما وصل خبر بن قرط أخرج منطاش سندمر بن يعقوب شاه ثامن وعشرين من السنة وانكفأ جموعه وسار على العدوة الشرقية في جموعه لاعتراضهم فوصل إلى قوص‏.‏ وبادر ابن قرط فخالفه إلى منطاش بطاعته فأكرمه ورده على عمله فوافى ابن يعقوب شاه بقوص وقد استولى على النواحي واستنزل الأمراء المخالفين‏.‏ ثم قبض عليهم وقتل جميع من كان معهم من مماليك السلطان الظاهر ومماليك ولاة الصعيد‏.‏ وجاء بالأمراء إلى مصر فدخل بهم منتصف ذي الحجة من السنة فأفرج عن أربعة منهم سوماي اللاي وحبس الباقين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثورة كمشيقا بحلب وقيامه بدعوة السلطان
قد كنا قدمنا أن الناصري ولى كمشيقا رأس نوبة نيابة حلب ولما استقل منطاش بالدولة ارتاب ودعاه بذلار لما ثار بدمشق إلى الوفاق فامتنع‏.‏ ثم بلغه الخبر بخلاص السلطان من الاعتقال بالكرك فأظهر الإنتقاض وقام بدعوة السلطان وخالفه إبراهيم بن أمير جندار‏.‏ واعصوصب عليه أهل باقوسا من أرباض حلب فقاتلهم كمضيقا جميعاً وهزمهم‏.‏ وقتل القاضي ابن أبي الرضا وكان معه في ذلك الخلاف واستقل بأمر حلب وذلك في شوال من السنة‏.‏ ثم بلغه أن السلطان هزم عساكر دمشق وابن باكيش وإنه مقيم بقبة بلبغا محاصراً لدمشق بعد أن نهبوا أثقاله وأخرجوه عن الميدان فتجهز من حلب إليه في العساكر والحشود وجهز له جميع ما يحتاج إليه من المال والأقمشة والسلاح والخيل والإبل وخيام الملك بفرشها وماعونها وآلات الحصار وتلقاه السلطان وبالغ في تكرمته وفوض إليه الأتابكية والمشورة وقام معه محاصراً لدمشق‏.‏ واشتد الحصار على أهل دمشق بعد وصوله واستكثار السلطان من المقاتلة وآلات الحصار وخرب كثيراً من جوانبها بحجارة المجانيق وتصدعت حيطانها وأضرم كثيراً من البيوت على أربابها فاحترقت واستولى الخراب والحريق على القبيبات أجمع وتفاحش فيها واشتد أهل القتال والدفاع من فوق الأسوار‏.‏ وتولى كبر ذلك منهم قاضي الشافعية أحمد بن القرشي بما أشار عليهم وفاه أهل العلم والدين بالنكير فيه‏.‏ وكان منطاش لما بلغه حصار دمشق بعث طنبقا الحلي دوادار الأشرف بمدد من المال يمد به العساكر هنالك وأقام معهم‏.‏ ثم بعث جنتمر إلى أمير آل فضل يعبر بن جبار بستنجد به فجاء لقتالهم وسار كمشيقا نائب حلب فلقيه وفض جموعه وأسر خادمه وجاء به أسيراً فمن عليه السلطان وأطلقه وكساه وحمله ورده إلى ثورة أنيال بصفد بدعوة السلطان كان أنيال لما انهزم يوم واقعة دمشق فر إلى مصر ومر بغزة فاعتقله ابن باكيش وحبس بالكرك فلما استولى الناصري أشخصه إلى صفد فحبس بها مع جماعة من الأمراء وولى على صفد قلطبك النظامي فاستخدم جماعة من مماليك برقوق واتخذ منهم بلبغا السالمي دوادار فلما بلغه خلاص السلطان من الإعتقال ومسيره إلى الشام داخل بلبغا مماليك أستاذه قطلوبقا في الخلاف واللحاق بالسلطان‏.‏ وهرب منهم جماعة فركب قطلوبقا في اتباعهم وأبقى بلبقا السالمي دوادار وحاجب صفد فأطلقوا أنيال وسائر المحبوسين من السلطان فملك أنيال القلعة ورجع قطلوبقا من اتباع الهاربين فوجدهم قد استولوا وامتنعوا‏.‏ وارتاب من مماليكه فسار عن صفد ونهب بيته ومخلفه ولحق بالشام فلقي الأمراء المنهزمين أمام السلطان بشقحب قاصدين مصر فسار معهم ولحق أنيال بالسلطان من صفد بعد أن ضبطها واستخلف عليها وأقام مع السلطان والله تعالى أعلم‏.‏

مسير منطاش وسلطانه أمير حاجي إلى الشام
وانهزامهم ودخول منطاش إلى دمشق وظفر السلطان الظاهر بأمير حاجي والخليفة والقضاة وعوده لملكه ولما تواترت الأخبار بهزيمة عساكر الشام وحصار السلطان الظاهر دمشق وظهور دعوته في حلب وصفد وسائر بلاد الشام‏.‏ ثم وصلت العساكر المنهزمون وأولاد بندمر ونائب صفد واستحثوه وتواترت كتب جنتمر نائب دمشق وصريخه أجمع منطاش أمره حينئذ على المسير إلى الشام فتجهز ونادى في العساكر وأخرج السلطان والخليفة والقضاة والعلماء سابع عشر ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وخيموا بالزيدانية من ناحية القاهرة حتى أزاح العلل‏.‏ واستخلف على القاهرة دواداره صراي تمر وأطلق يده في الحل والعقد والتولية والعزل‏.‏ واستخلف على القلعة بكا الأشرفي وعمد إلى خزانة من خزائن الذخيرة بالقلعة فسد بابها ونقبها من أعلاها حتى صارت كهيئة الجب ونقل إليها من كان في سحنه من أهل دولة السلطان‏.‏ ونقل سودون النائب إلى القلعة فأنزله بها وأمر بالقبض على من بقي من مماليك السلطان حيث كانوا فتسربوا في غيابات المدينة ولاذوا بالإختفاء‏.‏ وأوعز بسد كثير من أبواب الدروب بالقاهرة فسدت‏.‏ ورحل في الثاني والعشرين من الشهر بالسلطان وعساكره على التعبية وطووا المراحل ونمي إليه أثناء طريقه أن بعض مماليك السلطان المستخدمين عند الأمراء مجموعون على التوثب ومداخلون لغيرهم فأجمع السطوة بهم ففروا ولحقوا بالسلطان‏.‏ ولما بلغ خبر مسيرهم السلطان وهو محاصر دمشق ارتحل في عساكره إلى لقائهم ونزل قريباً من شقحب وأصبحوا على التعبية وكمشيقا بعساكر حلب في ميمنة السلطان ومنطاش قد عبى جيشه‏.‏ وجعل السلطان أمير حاجي والخليفة والقضاة والرماة من ورائهم ووقف معهم تمارتمر رأس نوبة وسندمر بن يعقوب شاه أمير سلاح‏.‏ ووقف هو في طائفة من مماليكه وأصحابه في حومة المعترك‏.‏ فلما تراءى الجمعان حمل هو وأصحابه على ميمنة السلطان ففضوها وانهزم كمشيقا إلى حلب ومروا في اتباعه ثم عطفوا على مخيم السلطان فنهبوه وأسروا قجماش ابن عمه كان هناك جريحاً‏.‏ ثم حطن السلطان على الذي فيه أمير حاجي والخليفة والقضاة فدخلوا في حكمه ووكل بهم واختلط الفريقان وصاروا في عمى من أمرهم والسلطان في لمة من فرسانه يخترق جوانب المعترك ويحطم الفرسان ويشردهم في كل ناحية وشراد مماليكه وأمرائه يتساقطون إليه حتى كثف جمعه‏.‏ ثم حمل على بقية العسكر وهم ملتئمون على الصفدي فهزمهم ولحقوا بدمشق وضرب خيامه بشقحب‏.‏ ولما وصل منطاش إلى دمشق أوهم النائب جنتمر أن الغلب له وأن السلطان أمير حاجي على الأثر ونادى العساكر بالخروج في السلاح لتلقيه وخرج من الغد مورياً بذلك فركب إليهم السلطان في العساكر فهزمهم وأثخن فيهم واستلحم كثيراً من عامة دمشق‏.‏ ورجع السلطان إلى خيامه‏.‏ وبعث أمير حاجي بالتبري من الملك والعجز عنه والخروج إليه من عهدته فأحضر الخليفة والقضاة فشهدوا عليه بالخلع وعلى الخليفة بالتفويض إلى السلطان والبيعة له والعود إلى كرسيه‏.‏ وأقام السلطان بشقحب تسعاً واشتد كلب البرد وافتقدت الأقوات لقلة الميرة فأجمع العود إلى مصر ورحل يقصدها‏.‏ وبلغ الخبر إلى منطاش فركب لاتباعه فلما أطل عليه أحجم ورجع واستمر السلطان لقصده وقدم حاجب غزة للقبض على ابن باكيش فقبض عليه‏.‏ ولما وافى السلطان غزة ولى عليها مكانه وحمله معتقلاً وسار وهو مستطلع لأحوال مصر حتى كان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ثورة بكا والمتقلين بالقلعة واستيلاؤهم عليها
بدعوة السلطان الظاهر وعوده إلى كرسيه بمصر وانتظام أمره كان منطاش لما فصل إلى الشام بسلطانه وعساكره كما مر واستخلف على القاهرة دواداره سراي تمر وأنزله بالإسطبل وعلى القلعة بكا الأشرفي ووكله بالمعتقلين هنالك فأخذوا أنفسهم بالحزم والشدة‏.‏ ويعد أيام نمي إليهم أن جماعة من مماليك السلطان مجتمعون للثورة وقد داخلوا مماليكهم فبيتوهم وقبضوا عليهم بعد جولة دافع فيها المماليك عن أنفسهم‏.‏ ثم تقبضوا على من داخلهم من مماليكهم وكانوا جماعة كثيرة وحدثت لهم بذلك رتبة واشتداد في الحزم فنادوا بالوعيد لمن وجد عنده أحد من مماليك السلطان ونقلوا ابن أخت السلطان من بيت أمه إلى القلعة وحبسوه وأوعزوا بقتل الأمراء المعتقلين بالفيوم فقتلوا وعميت عليهم أنباء منطاش ثم تلاوموا في ذلك ورجعوا إلى التضييق عليهم ومنع المترددين بأقواتهم فضاقت أحوالهم وضجروا وأهمتهم أنفسهم‏.‏ وفي خلال ذلك عثر بعضهم على منفذ إلى سرب تحت الأرض يفضي إلى حائط الإسطبل ففرحوا بذلك وتنسموا ريح الفرج ولما أظلتهم ليلة الأربعاء غرة صفر سنة اثنتين وتسعين مروا في ذلك السرب فوجدوا فيه آلة النقب فنقبوا الحائط وأفضوا إلى أعلى الإسطبل وتقدم بهم خاصكي من أكابر الخاصكية وهجموا على الحراس فثاروا إليهم فقتلوا بعضهم بالقيود من أرجلهم وهرب الباقون ونادوا شعبان بكا نائب القلعة يوهمون أنه انتقض‏.‏ ثم كسروا باب الإسطبل الأعلى والأسفل وأفضوا إلى منزل سراي تمر فأيقظه لغطهم وهلع من شأن بكا فأرمى نفسه من السور ناجياً ومر بالحاجب قطلو بقا ولحق بمدرسة حسن‏.‏ وقد كان منطاش أنزل بها ناشبة من التركمان لحماية الإسطبل وأجرى لهم الأرزاق وجعلهم لنظر تنكز رأس نوبة‏.‏ ثم هجم أصحاب بكا على بيت سراي تمر فنهبوا ماله وقماشه وسلاحه وركبوا خيله واستولوا على الإسطبل وقرعوا الطبول ليلتهم‏.‏ وقاتلهم بكا من الغد‏.‏ وسرب الرجال إلى الطبلخانات فملكها ثم أزعجوه عنها‏.‏ وزحف سراي تمر وقطلو بقا الحاجب إلى الإسطبل لقتالهم وبرزوا إليهم فقاتلوهم واعتصموا بالمدرسة‏.‏ واستولى بكا على أمره وبعث إلى باب السر من المدرسة ليحرقه فاستأمن إليه التركمان الذين به فأنزلهم على الأمان وسرب أصحابه في البلد لنهب بيوت منطاش وأصحابه فعاثوا فيها وتسلل إليه مماليك السلطان المختفون بالقاهرة فبلغوا ألفاً أو يزيد ون‏.‏ ثم استأمن بكا من الغد فأمنه سودون النائب وجاء به إلى الناصري أمير سلحخ ودمرداش وكان عنده فحبسهما بكا‏.‏ ثم وقف سودون على مدرسة حسن والأرض تموج بعوالم النظارة فاستنزل منها سراي تمر وقطلو بغا الحاجب فنزلا على أمانه‏.‏ وهم العوالم بهما فحال دونهما وجاء بهما بكا فحبسهما‏.‏ وركب سودون يوم الجمعة في القاهرة ونادى بالأمان والخطبة للسلطان فخطب له من يومه وأمر بكا بفتح السجون وإخراج من كان فيها في حبس منطاش وحكام تلك الدولة‏.‏ وهرب الوالي حسن بن الكوراني خوفاً على نفسه لما كان شيعة لمنطاش على مماليك السلطان‏.‏ ثم عثر عليه بكا وحبسه مع سائر شيعة منطاش وأطلق جميع الأمراء الذين حبسهم بمصر ودمياط والفيوم‏.‏ ثم بعث الشريف عنان بن مقامس أمير بني حسن بمكة وكان محبوساً وخرج معهم فبعثه مع أخيه أيبقا على الهجن لاستكشاف خبر السلطان‏.‏ ووصل يوم الأحد بعدها كتاب السلطان مع ابن صاحب الدرك سيف ين محمد بن عيسى العائدي بإعداد الميرة والعلوفة في منازل السلطان على العادة‏.‏ وقص خبر الواقعة وأن السلطان توجه إلى مصر وانتهى إلى الرملة‏.‏ ثم وصل أيبقا أخو بكا يوم الأربعاء ثامن صفر بمثل ذلك وتتابع الواصلون من عسكر السلطان ثم نزل بالصالحية وخرج السلطان لتلقيه بالعكرشة‏.‏ ثم أصبح يوم الثلاثاء رابع صفر في ساحة القلعة وقلده الخليفة وعاد إلى سريره‏.‏ ثم بعث عن الأمراء الذي كان حبسهم منطاش بالإسكندرية وفيهم الناصري والجوباني وابن بيبقا وقراد مرداش وأبغا الجوهري وسودون باق وسودون الطرنطاي وقردمر المعلم في آخرين متعددين واستعتبوا للسلطان فأعتبهم وأعادهم إلى مراتبهم وولى أنيال اليوسفي أتابكا والناصري أمير سلاح والجوباني رأس نوبة وسودون نائباً وبكا دوادار وقرقماش أستاذ دار وكمشيقا الخاصكي أمير مجلس وتطلميش أمير الماخورية وعلاء الدين كاتب سر الكرك كاتب سره بمصر وعمر سائر المراتب والوظائف‏.‏ وتوفي قرقماش فولى محمود أستاذ داره الأول ورعى له سوابق خدمته ومحنة العدو له في محبته وانتطم أمر دولته واستوثق ملكه‏.‏ وصرف نظره إلى الشام وتلافيه من مملكة العدو وفساده والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:35 PM

ولاية الجوباني علي دمشق واستيلاؤه عليها
من يد منطاش ثم هزيمته ومقتله وولاية الناصري مكانه لما استقر السلطان على كرسيه بالقاهرة وانتظمت أمور دولته صرف نظره إلى الشام وشرع في تجهيز العساكر لإزعاج العدو منه وعين المجوباني لنيابة دمشق ورياسة لعساكر والناصري لحلب لأن السلطان كان عاهد كمشيقا على أتابكية مصر وعين قرا دمرداش لطرابلس ومأموناً القلحطاوي لحماة فولى في جميع ممالك الشام ووطائفه وأمرهم بالتجهيز‏.‏ ونودي في العساكر بذلك وخرجوا ثامن جمادى الأولى من سنة اثنتين وتسعين‏.‏ وكان منطاش قد اجتهد جهده في طي خبر السلطان بمصر عن أمرائه وسائر عساكره وما زال يفشو حتى شاع وظهر بين الناس فانصرف هواهم إلى السلطان‏.‏ وبعث في أثناء ذلك الأمير يماز تمر نائباً على حلب فاجتمع أهل كانفوسا وحاصر كمشيقا بالقلعة نحواً من خمسة أشهر وشد حصارها وأحرق باب القلعة والجسر ونقب سورها من ثلاث مواضع‏.‏ واتصل القتال بين الفريقين في أحد الأنقاب لشهرين على ضوء الشموع‏.‏ ثم بعث العساكر إلى طرابلس مع ابن أيماز التركماني فحاصرها وملكوها من يد سندمر حاجب حجابها وكان مستولياً عليها بدعوة الظاهر‏.‏ ولما ملكها ولى عليها قشتمر الأشرفي‏.‏ ثم بعث العساكر إلى بعلبك مع محمد بن سندمر في نفر من قرابته وجنده فقتلهم منطاش بدمشق أجمعين‏.‏ ثم أوعز إلى قشتمر الأشرفي نائب طرابلس بالمسير إلى حصار صفد فسار إليها وبرز إليه جندها فقاتلوه وهزموه فجهز إليها العساكر مع أبقا الصفدي كبير دولته فسار إليها في سبعمائة من العساكر‏.‏ وقد كان لما تيقن عنده استيلاء السلطان على كرسيه بمصر جنح إلى الطاعة والإعتصام بالجماعة وكاتب السلطان بمغارمه ووعده فلما وصل إلى صفد بعث إلى نائبها بطاعته وفارق أصحاب منطاش ومن له هوى فيه وصفوا إليه وبات ليلته بظاهر صفد‏.‏ وارتحل من الغد إلى مصر فوصلها منتصف جمادى الأخيرة وأمراء الشام معسكرون مع الجوباني بظاهر القلعة فأقبل السلطان عليه وجعله من أمراء الألوف‏.‏ ولما رجع أصحابه من صفد إلى دمشق اضطرب منطاش وتبين له نكر الناس وارتاب بأصحابه وقبض جماعة من الأمراء وعلى جنتمر نائب دمشق وأبن جرجي من أمراء الألوف وابن قفجق الحاجب وقتله والقاضي محمد بن القرشي في جملة من الأعيان واستوحش الناس ونفروا عنه واستأمنوا إلى السلطان مثل محمد بن سندمر وغيره‏.‏ وهرب كاتب السر بدر الدين بن فضل الله وناظر الجيش‏.‏ وقد كانوا يوم الواقعة على شقحب لحقوا بدمشق يظنون أن السلطان يملكها يومه ذلك فبقوا في ملكة منطاش وأجمعوا الفرار مرة بعد أخرى فلم يتهيأ لهم‏.‏ وشرع منطاش في الفتك بالمنتمين إلى السلطان من المماليك المحبوسين بالقلعة وغيرهم وذبح جماعة من الجراكسة وهم بقتل أشمس فدفعه الله عنه‏.‏ وارتحل الأمراء من مصر في العساكر السلطانية إلى الشام مع الجوباني يطوون المراحل والأمراء من دمشق يلقونهم في كل منزلة هاربين إليهم حتى كان آخر من لقيهم ابن نصير أمير العرب بطاعة أبيه ودخلوا حدود الشام‏.‏ ثم ارتبك منطاش في أمره واستقر الخوف والهلع والإسترابة بمن معه فخرج منتصف جمادى الأخيرة هارباً من دمشق في خواصه وأصحابه ومعه سبعون حملاً من المال والأقمشة‏.‏ واحتمل معه محمد بن أينال وانتقض عليه جماعة من المماليك فرجعوا به إلى أبيه وكان يعبر بن جبار أمير آل فضل مقيماً في أحيائه ومعه أحياء آل مرو وأميرهم عنقا فلحق بهم هنالك منطاش مستجيراً فأجاروه ونزل معهم‏.‏ ولما فصل منطاش عن دمشق خرج أشمس من محبسه وملك القلعة ومعه مماليك السلطان معصوصبون عليه وأرسل إلى الجوباني بالخبر فأغذ السير إلى دمشق وجلس بموضع نيابته وقبض على من بقي من أصحاب منطاش وخدمه مع من كان حبس هو معهم ووصل الطنبقا الحلبي ودمرداش اليوسفي من طرابلس‏.‏ وكان منطاش استقدمهم وهرب قبل وصولهم وبلغ الخبر إلى أيماز تمر وهو يحاصر حلب وأهل كانفوسا معصوصبون عليه فأجفل ولحق بمنطاش وركب كمشيقا من القلعة إليهم بعد أن أصلح الجسر وأركب معه الحجاب وقاتل أهل كانفوسا ومن معهم من أشياع منطاش ثلاثة أيام‏.‏ ثم هزموهم وقتل كمشيقا منهم أكثر من ثمانمائة وخرب وبعث الجوباني العساكر إلى طرابلس وملكوها من يد قشتمر الأشرفي نائب منطاش من غير قتال وكذلك حماة وحمص‏.‏ ثم بعث الجوباني نائب دمشق وكافل الممالك الشامية إلى يعبر بن جبار أمير العرب بإسلام منطاش وإخراجه من أحيائه فامتنع واعتذر فبرز من دمشق بالعساكر ومعه الناصري وسائر الأمراء‏.‏ ونهض إلى مصر فلما انتهوا إلى حمص أقاموا بها وبعثوا إلى يعبر يعتذرون إليه فلج واستكبر وحال دونه‏.‏ وبعث إليه أشمس خلال ذلك من دمشق بأن جماعة شيعة بندمر وجنتمر يرومون الثورة فركب الناصري إلى دمشق وكبسهم وأثخن فيهم ورجع إلى المعسكر وارتحلوا إلى سلمية‏.‏ واستمر يعبر في غلوائه وترددت الرسل بينهما فلم تغن‏.‏ ثم كانت بين الفريقين حرب شديدة وحملت العساكر على منطاش والعرب فهزموهم إلى الخيام واتبع في مرداش منطاش حتى جاوز به الحي وارتحلت العرب وحملوا بطانتهم على العسكر فلم يثبتوا لحملتهم‏.‏ وكان معهم آل علي بجموعهم فنهبوهم من ورائهم وانهزموا‏.‏ وأفرد الجوباني مماليكه فأسره العرب وسيق إلى يعبر فقتله ولحق الناصري بدمشق وأسر جماعة من الأمراء وقتل منهم أيبقا الجوهري ومأمون المعلم في عدد آخرين ونهب العرب مخيمهم وأثقالهم‏.‏ ودخل الناصري إلى دمشق فبات ليلته وباكر من الغد آل علي في أحيائهم فكبسهم واستلحم منهم جماعة فثار منهم بما فعلوه في الواقعة‏.‏ ثم بعث إلى السلطان بنيابة دمشق منتصف شعبان من السنة فقام بأمرها وأحكم التصريف في حمايتها والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده‏.‏

إعادة محمود إلى استاذية الدار واستقلاله في الدولة
هذا الرجل من ناشئة الترك وولدانهم ومن أعقاب كراي المنصوري منهم شب في ظل الدولة ومرعى نعمها ونهض بنفسه إلى الاضطلاع والكفاية وباشر كثيراً من أعمال الأمراء والوزراء حتى أوفى على ثنية النجابة وعرضته الشهرة على اختيار السلطان فعجم عوده ونقد جوهره‏.‏ ثم ألحق به أغراض الخدمة ببابه فأصاب شاكلة الرمية ومضى قدماً في مذاهب السلطان مرهف الحد قوي الشكيمة فصدق ظنه وشكر اختياره‏.‏ ثم دفعه إلى معاينة الحبس وشد الدواوين من وظائف الدولة فجلا فيهما‏.‏ وهلك خلال ذلك أستاذ الدار بهادر المنجكي سنة تسعين فأقامه السلطان مكانه قهرماناً لداره ودولته ونظارته على دواوين الجباية من قراب اختياره ونقده جماعة للأموال نمواصاً على استخراج الحقوق السلطانية قاروناً للكنوز اكسيراً للنقود مغناطيساً للقنية يسابق أقلام الكتاب ويستوفي تفاصيل الحساب بمدارك إلهامه وتصور صحيح وحدس ثاقب لا يرجع إلى حذاقة الكتاب ولا إلى أيسر الأعمال بل يتناول الصعاب فيذللها ويحوم على الأغراض البعيدة فيقربها‏.‏ وربما يحاضر بذكائه في العلوم فينفذ في مسائلها ويفحم جهابذتها موهبة من الله اختصه بها ونعمة أسبغ عليه لبوسها‏.‏ فقام بما دفع إليه السلطان من ذلك وأدر خروج الجباية فضاقت أفنية الحواصل والخزائن بما تحصل وتسرب إليها وكفى السلطان مهمة في دولته ومماليكه ورجاله بما يسوغ لهم من نعمة ويوسع من أرزاقه وعطائه حتى أزاح عللهم بتوالي إنفاقه وقرت عين السلطان باصطناعه وغص به الدواوين والحاشية ففوقوا إليه سهام السعاية وسلطوا عليه ألسنة المتظلمين فخلص من ذلك خلوص الإبريز ولم تعلق به ظنة ولا حامت عليه ريبة‏.‏ ثم طرق الدولة ما طرقها من النكبة والاعتقال وأودعته المحنة غيابات السجون وحفت به أنواع المكاره واصطلمت نعمته واستصفيت أمواله في المصادرة والامتحان حتى زعموا أن الناصري المتغلب يومئذ استأثر منه بخمسة قناطير من دنانير الذهب ومنطاش بعده بخمسة وخمسين‏.‏ ثم خلص ابريزه من ذلك السبك وأهل قمره بعد المحاق واستقل السلطان من نكبته وطلع بأفق مصره وتمهد أريكة ملكه ودفعه لما كان بسبيله فأحسن الكرة في الكفاية لمهمه وتوسيع عطاياه وأرزاقه وتمكين أحوال دولته‏.‏ وتسربت الجباية من غير حساب ولا تقرير إلى خزائنه وأحسن النظر في الصرف والخرج بحزمه وكفايته حتى عادت الأمور إلى أحسن معهودها بيمن تعبيته وسديد رأيه وصلابة عوده وقوة صرامته مع بذل معروفه وجاهه لمن تحت يده وبشاشته وكفايته لغاشيته‏.‏ وحسن الكرامة لمنتابه ومقابلة من يأتي إليه بكرم مقاصده فأصبح طرازاً للدولة وتاجاً للخواص‏.‏ وقذفه المنافسون بخطا السعايات فزلت في جهات حلم السلطان وجميل اعتباطه وتثبته حتى أعيتهم المذاهب وانسدت عليهم الطرق ورسخت قدمه في الدولة واحتل من السلطان بكرم العهد والذمة ووثق بغنائه واضطلاعه فرمى إليه مقاليد الأمور وأوطأ عقبه أعيان الخاصة والجمهور وأفرده في الدولة بالنظر في الأمور حسباناً وتقديراً وجمعاً وتقريراً وكنزاً موفراً وصرفاً لا يعرف تبذيراً وبطراً وفي الإنهاء بالعزل والإهانة مشهوراً مع ما يمتاز به من الأمر والشأن وسمو مرتبته على مر الأزمان‏.‏ وهو على ذلك لهذا العهد عند سفر السلطان إلى الشام لمدافعة سلطان المغل كما مر ذكره والله متولي الأمور لا رب غيره‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:36 PM

مسير منطاش ويعبر إلى نواحي حلب وحصارها
ثم مفارقة يعبر وحصاره عنتاب ثم رجوعه ولما انهزمت العساكر بسلمية كما قلنا ارتحل يعبر في أحيائه ومعه منطاش وأصحابه إلى نواحي حلب وسار يعبر إلى بلد سرمين من أقطاعه ليقسمها في قومه على عادتهم وكان كمشيقا نائب حلب قد أقطعها الجند من التركمان في خدمته‏.‏ فلما وافاها يعبر هربوا إلى حلب فلقوا في طريقهم أحمد بن المهدار في العساكر وقد نهض إلى يعبر فرجعوا عنه ولقيهم علي بن يعبر فقاتلوه وهزموه وقتلوا بعض أصحابه صبراً ورجع يعبر إلى أحيائه وارتحلوا إلى حلب فحاصروها وضيقوا عليها أيام رمضان‏.‏ ثم راجع يعبر نفسه وراسل كمشيقا نائب حلب في الطاعة واعتذر عما وقع منه وطوق الذنب بالجوباني وأصحابه أهل الواقعة وسأل الأمان مع حاجبه عبد الرحمن فأرسله كمشيقا إلى السلطان وأخبره بما اشترط يعبر فأجابه السلطان إلى سؤاله‏.‏ وشعر بذلك منطاش بمكانه من حصار حلب فارتاب وخادع يعبر إلى الغارة على التركمان بقربهم فأذن للعرب في المسير معه وسار معه منهم سبعمائة‏.‏ فلما جاوز الدربند أرجلهم عن الخيل وأخذها ولحق بالتركمان ونزل بمرعش بلد أميرهم سولي ورجع العرب مشاة إلى يعبر فارتحل إلى سبيله راجعاً وسار منطاش إلى عنتاب من قلاع حلب ونائبها محمد بن شهري فملكها واعتصم نائبها بالقلعة أياماً‏.‏ ثم نبت منطاش وأثخن في أصحابه وقتل جماعة من أمرائه وكانت العساكر قد جاءت من حلب وحماة وصفد لقتاله فهرب إلى مرعش وسار منها إلى بلاد الروم واضمحل أمره‏.‏ وفارقه جماعة من أصحابه إلى العساكر وراجعوا طاعة السلطان آخر ذي القعدة من سنة اثنتين وسبعين‏.‏ وبعث سولي بن دلقادر أمير التركمان في عشر ذي الحجة يستأمن إلى السلطان فأمنه وولاه على البلستين كما كان‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ قدوم كمشيقا من حلب قد كان تقدم لنا أن كمشيقا الحموي رأس نوبة بيبقا كان نائباً بطرابلس وأن السلطان عزله وحبسه بدمشق فلما استولى الناصري على دمشق أطلقه من الاعتقال وجاء في جملته إلى مصر‏.‏ فلما ولي على ممالك الشام وأعمالها ولاه على حلب مكانه منتصف إحدى وسبعين‏.‏ ولما استقل السلطان من النكبة وقصد دمشق كما مر أرسل كمشيقا إليه بطاعته ومشايعته على أمره وأظهر دعوته في حلب وما إليها من أعماله‏.‏ ثم سار السلطان إلى دمشق وحاصرها وأمده كمشيقا جميع ما يحتاج إليه‏.‏ ثم جاءه بنفسه في عساكر حلب صريخاً وحمل إليه جميع حاجاته وأزاح علله وأقام له رسوم ملكقه وشكر السلطان أفعاله في ذلك وعاهده على أتابكية مصر‏.‏ ثم كانت الواقعة على شقحب فانهزم كمشيقا إلى حلب فامتنع بهما وحاصره يمازتمر أتابك منطاش أشهراً كما مر‏.‏ ثم هرب منطاش من دمشق إلى العرزب فأفرج يمازتمرعن حلب‏.‏ ثم كانت واقعة الجوباني ومقتله وزحف منطاش ويعبر إلى حلب فحاصروها مدة‏.‏ ثم وقع الخلاف بينهما وهرب منطاش إلى بلاد التركمان ورجع يعبر إلى بلدة سلمية واستأمن إلى السلطان ورجع إلى طاعته منتصف شوال‏.‏ ولما أفرجوا عن حلب نزل كمشيقا من القلعة ورم خرابها وخرب بانقوسا واستلحم أهلها وأخذ في إصلاح أسوار حلب ورم ما سلم منها وكانت خراباً ولما استوسق أمر السلطان وانتظمت دولته بعث إليه يستدعيه في شهر ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وولى مكانه في حلب قرا دمرداش نقله إليها من طرابلس وولى مكانه أنيال الصغير فسار كمشيقا من حلب ووصل مصر تاسع صفر سنة ثلاث وتسعين فاهتز له السلطان وأركب الأمراء للقائه مع النائب‏.‏ ثم دخل إلى السلطان فحياه وبالغ في تكرمته وتلقاه بالرحب ورفع مجلسه فوق الأتابك أنيال وأنزله بيت منجك وقد هيأ فيه الفرش والماعون والخرثى ما فيه للمنزل‏.‏ ثم بعث إليه بالأقمشة وقرب إليه الجياد بالمراكب الثقيلة وتقدم للأمراء أن يتحفوه بهداياهم فتناغوا في ذلك وجاؤوا من وراء الغاية وحضر في ركابه من أمراء الشام الطنبقا الأشرفي وحسن الكشكي فأكرمهما السلطان واستقر كمشيقا بمصر في أعلى مراتب الدولة إلى أن توفي أنيال الأتابك في جمادى أربع وتسعين فولاه السلطان مكانه كما عاهده عليه بشقحب وجعل إليه نظر المارستان على عادة الأتابكية واستمر على ذلك لهذا العهد‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه‏.‏

استقدام ايتمش
كان ايتمش النجاشي أتابك الدولة قد نكبه السلطان وسار في العساكر إلى الشام منتصف ربيع إحدى وتسعين لقتال الناصري وأصحابه لما انتقض عليه وكانت الواقعة بينهم بالمرج من نواحي دمشق وانهزمت العساكر ونجا ايتمش إلى قلعة دمشق ومعه كتب السلطان في دخولها متى اضطر إليه فامتنع بها وملكها الناصري من الغد بطاعة نائبها ابن الحمصي فوكل بايتمش وأقام حبيساً موسعاً عليه ثم سار الناصري إلى مصر وملكها وعاد السلطان إلى كرسيه في صفر سنة اثنتين وتسعين كما فصل ذلك من قبل‏.‏ وايتمش في أثناء ذلك كله محبوس بالقلعة‏.‏ ثم زحف الجوباني في جمادى الأخيرة وخلص ايتمش من اعتقاله وفتق مماليك السلطان السجن الذي كانوا فيه بقلعة دمشق وخرجوا واعصوصبوا على ايتمش قبل مجيء الجوباني‏.‏ وبعث إليه بالخبر وبعث الجوباني إلى السلطان بمثل ذلك فتقدم إليه السلطان بالمقام بالقلعة حتى يفرغ عن أمر عدوه‏.‏ ثم كان بعد ذلك واقعة الجوباني مع منطاش والعرب ومقتله وولاية الناصري على دمشق مكانه‏.‏ ثم افترق العرب وفارقهم منطاش إلى التركمان وانتظمت ممالك الشام في ملكة السلطان واستوسق ملكه واستفحلت دولته فاستدعى الأمير ايتمش من قلعة دمشق وسار لاستدعائه قنوباي من مماليك السلطان ثامن ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين ووصل إلى مصر رابع جمادى الأولى من السنة‏.‏ ووصل في ركابه حاجب الحجاب بدمشق ومعه الأمراء الذين حبسوا بالشام منهم جنتمر نائب دمشق وابنه وابن أخته واستاذ داره طنبقا ودمرداش اليوسفي نائب طرابلس والطنبقا الحلي والقاضي أحمد بن القريشي وفتح الدين بن الرشيد وكاتب السر في ست وثلاثين نفراً من الأمراء وغيرهم‏.‏ ولما وصل ايتمش قابله السلطان بالتكرمة والرحب وعرض الحاجب المساجين الذي معه ووبخ السلطان بعضهم‏.‏ ثم حبسوا بالقلعة حتى نفذ فيهم قضاء الله وقتلوا مع غيرهم ممن أوجبت السياسة قتلهم‏.‏ والله تعالى مالك الأمور لا رب سواه انتهى‏.‏

هدية إفريقية
كان السلطان قد حصل بينه وبين سلطان إفريقية أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي حفص الموحدي مودة والتئام وكانت كثيراً ما تجددها الهدايا من الجانبين ونذكرها إن شاء الله تعالى‏.‏ ولما بلغ الخبر إلى تونس بما كان من نكبة السلطان وما كان من أمره امتعض له هذا السلطان بتونس وتفجع لشأنه وأقام يستطلع خبره ويستكشف من الجار التي تحضر إلى مصر من أهل تونس أنباءه حتى وقف على الجلي من أمره وما كيف الله من أسباب السعادة في خلاصه وعوده إلى كرسيه فملأ السرور جوانحه‏.‏ وأوفد عليه بالتهنئة رسوله بهدية من المقربات على سبيل الوداد مع خالصة من كبراء الموحدين محمد بن علي بن أبي هلال فوصل في العشر الأواخر من رمضان سنة اثنتين وتسعين فتلقاه السلطان بالكرامة وركب محمود أستاذ داره ليتلقاه عند نزوله من البحر بساحل بولاق وأنزل ببيت طشتمر بالزميلة قبالة الإسطبل وأجريت عليه النفقة بما لم يجر لأمثاله‏.‏ ورغب من السلطان في الحج فحج وأصحب هدية إلى مرسله من ثياب الوشي والديباج والسلاح بما لم يعهد مثلها وانصرف آخر ربيع سنة ثلاث وتسعين والله تعالى أعلم بغيبه‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:36 PM

حصار منطاش دمشق
ومسير السلطان من مصر إليه وفراره ومقتل الناصري لم يزل منطاش شريداً عند التركمان منذ فارق العرب ولما كان منتصف سنة ثلاث وتسعين اعتزم على قصد دمشق ويقال إن ذلك كان بإغراء الناصري يخادعه بذلك ليقبض عليه فسار منطاش من مرعش على نواحي حلب وتقدم خبره إلى حماة فهرب نائبها إلى طرابلس‏.‏ ودخل منطاش حماة ونادى فيها بالأمان ثم سار منها إلى حمص كذلك ثم إلى بعلبك وهرب نائبها إلى دمشق فخرج الناصري نائب دمشق في العساكر لمدافعته وسار على طريق الزبداني فخالفه منطاش إلى دمشق‏.‏ وقدم إليها أحمد شكار ابن أبي بندمر فثار شيعة الخوارزمية والبندمرية وفتحوا له أبواب البلد ومر بإسطبلات فقاد منها نحواً من ثمانمائة فرس‏.‏ وجاء منطاش من الغد على أثره فنزل بالقصر الأبلق وأنزل الأمراء الذين معه في البيوت حوالي القصر وفي جامع شكن وجامع بيبقا وشرع في مصادرة الناس والفريضة عليهم وأقام يومه في ذلك وإذا بالناصري قد وصل في عساكره فاقتتلوا عشية ذلك اليوم مرات ومن الغد كذلك‏.‏ وأقام كل واحد منهما في حومته والقتال متصل بينهما سائر رجب وشعبان‏.‏ ولما بلغ الخبر إلى السلطان إرتاب بالناصري واتهمه بالمداهنة في أمر منطاش‏.‏ وتجهز لقصد الشام ونادى في العساكر بذلك عاشر شعبان وقتل أهل الخلاف من الأمراء المحبوسين وأشخص البطالين من الأمراء إلى الإسكندرية ودمياط وخرج يوم عشرين شعبان فخيم بالريدانية حتى أزاح علل العساكر وقضوا حاجاتهم‏.‏ واستخلف على القاهرة الأتابك كمشيقا الحموي وأنزله الإسطبل وجعل له التصرف في التولية والعزل‏.‏ وترك بالقاهرة من الأمراء جماعة لنظر الأتابك وتحت أمره وأنزل النائب سودون بالقلعة وترك بها ستمائة من مماليكه الأصاغر وأخرج معه بالقضاة الأربعة والمفتين‏.‏ وارتحل غرة رمضان من السنة بقصد الشام‏.‏ وجاء الخبر رابع الشهر بأن منطاش لما بلغه مسيرة السلطان من مصر هرب من دمشق منتصف شعبان مع عنقا بن أمير آل مراء الصريخ بمنطاش فكانت بينهما وقعة انهزم فيها الناصري وقتل جماعة من أمراء الشام نحو خمسة عشر فيهم إبراهيم بن منجك وغيره‏.‏ ثم خرج الناصري من الغد في اتباع منطاش وقد ذكر له أن الفلاحين نزحوا من نواحي دمشق واحتاطوا به فركب إليه منطاش ليقاتله ففارقه أتابكه يماز تمر إلى الناصري في أكثر العساكر وولى هارباً‏.‏ ورجع الناصري إلى دمشق وأكرم يمازتمر وأجمل له الوعد وجاءه الخبر بأن السلطان قد دخل حدود الشام فسار ليلقاه فلقيه بقانون‏.‏ وبالغ السلطان في تكرمته وترجل حين نزوله وعانقه وأركبه بقربه ورده إلى دمشق‏.‏ ثم سار في أثره إلى أن وصل دمشق وخرج الناصري ثانية ودخل إلى القلعة ثاني عشر رمضان من السنة والأمراء مشاة بين يديه والناصري راكب معه يحمل الخبز على رأسه‏.‏ وبعث يعبر في كتاب نائب حماة بالعذر عما وقع منه وأنه اتهم الناصري في أمر منطاش فقصد حسم الفتنة في ذلك‏.‏ واستأمن السلطان وضمن له إحضار منطاش من حيث كان فأمنه وكتب إليه بإجابة سؤاله‏.‏ ولما قضى عيد الفطر برز من دمشق سابع شوال إلى حلب في طلب منطاش ولقيه أثناء طريقه رسول سولي بن دلقار أمير التركمان بهديته واستئمانه وعذره عن تعرضه لسيس وأنه يسلمها لنائب حلب فقبل السلطان منه وأمنه ووعده بالجميل‏.‏ ثم وفد عليه أمراء آل مهنا وآل عيسى في الطاعة ومظاهرة السلطان على منطاش ويعبر وأنهما نازلان بالرحبة من تخوم الشام فأكرم السلطان وفادتهم وتقبل صاعتهم وسار إلى حلب ونزل بالقلعة منها ثاني شوال‏.‏ ثم وصل الخبر إلى السلطان بأن منطاش فارق يعبر أو مر ببلاد ماردين فواقعته عساكر هناك وقبضوا على جماعة من أصحابه وخلص هو من الواقعة إلى سالم الرودكاري من أمراء التركمان فقبض عليه وأرسل إلى السلطان يطالعه بشأنه ويطلب بعض أمراء السلطان قرا دمرداش نائب حلب في عساكره إلى سالم الرودكاري لإحضار منطاش واتبعه بالناصري‏.‏ وأرسل الأتابك إلى ماردين لإحضار من حصل من أصحاب منطاش وانتهى أنيال إلى رأس العين وأتى أصحاب سلطان ماردين وتسلم منهم أصحاب منطاش‏.‏ وكتب سلطانهم بأنه معتمل في مقاصد السلطان ومرتصد لعدوه‏.‏ وانتهى قرا دمرداش إلى سالم الرودكاري وأقام عنده أربعة أيام في طلب منطاش وهو يماطله فأغار قرا دمرداش عليه ونهب أحياءه وفتك في قومه وهرب هو ومنطاش إلى سنجار‏.‏ وجاء الناصري على أثر ذلك ونكر على دمرداش ما أتاه وارتفعت بينهما حتى هم الناصري به ورفع الآلة بضربه ولم يحصل أحد منهم بطائل ورجعوا بالعساكر إلى السلطان‏.‏ وكتب إليه سالم الرودكاري بالعذر عن أمر منطاش وأن الناصري كتب إليه وأمره بالمحافظة على منطاش وأن فيه زبوناً للترك فجلس السلطان بالقلعة جلوساً ضخماً سادس ذي الحجة من السنة واستدعى الناصري فوبخه‏.‏ ثم قبض عليه وعلى ابن أخيه كشلي ورأس نوبة شيخ حسن وعلى أحمد بن الهمدار الذي أمكنه من قلعة حلب وأمر بقتله وقشتمر الأشرفي الذي وصل من ماردين معهم‏.‏ وولى على نيابة دمشق مكانه بكا الدوادار وأعطى إقطاعه لقرا دمرداش وأمره بال مسير إلى مصر‏.‏ وولى مكانه بحلب حلبان رأس نوبة وولى أبا يزيد دواداراً مكان بكا ورعى له وسائله في الخدمة وتردده في السفارة بينه وبين الناصري أيام ملك الناصري‏.‏ وأجلب على مصر وأشار عليه الناصري بالانتفاء كما ذكرناه فاختفى عند أصحاب أبي يزيد هذا بسعايته في ذلك‏.‏ ثم ارتحل من حلب ووصل إلى دمشق منتصف ذي الحجة وقتل بها جماعة من الأمراء أهل الفساد يبلغون خمسة وعشرين وولى على العرب محمد بن مهنا وأعطى إقطاع يعبر لجماعة من التركمان وقفل إلى مصر‏.‏ ولقيه الأتابك كمشيقا والنائب سودون والحاجب سكيس‏.‏ ثم دخل إلى القلعة على التعبية منتصف المحرم سنة أربع وتسعين في يوم مشهود ووصل الخبر لعاشر دخوله بوفاة بكا نائب دمشق فولى مكانه سودون الطرنطاي‏.‏ ثم قبض في منتصف صفر على قرا دمرداش الأحمدي وهلك في محبسه وقبض على طنبقا المعلم وقردم الحبشي‏.‏ وجاء الخبر أواخر صفر من السنة بأن جماعة من المماليك مقدمهم أيبقا دوادار وبذلار‏.‏ ولما هلك بكا واضطرب أصحابه وهرب بعضهم عمد هؤلاء المماليك إلى قلعة دمشق وهجموا عليها وملكوها ونقبوا السجن وأخرجوا المعتقلين به من أصحاب الناصري ومنطاش وهم نحو المائة‏.‏ وركبت العساكر إليها وحاصروها ثلاثاً ثم هجموا على الباب فأحرقوه ودخلوا إلى القلعة فقبضوا عليهم أجمعين وقتلوهم وفر أيبقا دوادار وبذلا في خمسة نفر وانحسمت عللهم‏.‏ ثم وصل الخبر آخر شعبان من السنة بوفاة سودون الطرنطاي فولى السلطان مكانه كمشيقا الأشرفي أمير مجلس وولى مكان كمشيقا أمير شيخ الخاجكي انتهى‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

مقتل منطاش
كان منطاش فر مع سالم الرودكاري إلى سنجار وأقام معه أياماً ثم فارقه ولحق بيعبر فأقام في أحيائه وأصهر إليه بعض أهل الحي بابنته فتزوجها وأقام معهم‏.‏ ثم سار أول رمضان سنة أربع وتسعين وعبر الفرات إلى نواحي حلب وأوقعت به العساكر هناك وهزموهم وأسروا جماعة من أصحابه‏.‏ ثم طال على يعبر أمر الخلاف وضجر قومه من افتقاد الميرة من التلول فأرسل حاجبه يسأل الأمان وأنه يمكن من منطاش على أن يقطع أربع بلاد منها المعرة فكتب له الدوادار أبو يزيد على لسانه بالإجابة إلى ذلك‏.‏ ثم وفد محمد بن سنة خمس وتسعين فأخبر أنه كان مقيماً بسلمية في أحيائه ومعه التركمان المقيمون بشيزر فركبوا إليهم وهزموهم وضرب بعض الفرسان منطاش فأكبه وجرحه ولم يعرف في المعركة لسوء صورته بما أصابه من الشظف والحفاء فأردفه ابن يعبر ونجا به وقتل منهم جماعة منهم ابن بردعان وابن أنيال وجيء برأسيهما إلى دمشق‏.‏ وأوعز السلطان إلى أمراء الشام أن يخرجوا بالعساكر وينفوه إلى أطراف البلاد لحمايتها حتى يرفع الناس زروعهم‏.‏ ثم زحف يعبر ومنطاش في العساكر أول جمادى الأخيرة من السنة إلى سلمية فلقيهم نائب حلب ونائب حماة فهزموهما ونهبوا حماة وخالفهم نائب حلب إلى أحياء يعبر فأغار عليها ونهب سوادها وأموالها واستاق نعمها ومواشيها وأضرم النار فيما بقي‏.‏ وأكمن لهم ينتظر رجوعهم‏.‏ وبلغهم الخبر بحماة فأسرعوا الكر إلى أحيائهم فخرج عليهم الكمناء وأثخنوا فيهم وهلك بين الفريقين خلق من العرب والأمراء والمماليك‏.‏ ثم وفد على السلطان أواخر شعبان عامر بن طاهر بن جبار طائعاً للسلطان ومنابذاً لعمه وذكوان بن يعبر على طاعة السلطان وأنهم يمكنون من منطاش متى طلب منهم فأقبل عليه السلطان وأثقل كاهله بالإحسان والمواعيد ودس معه إلى بني يعبر بإمضاء ذلك ولهم ما يختارونه‏.‏ فلما رجع عامر ابن عمهم طاهر بمواعيد السلطان تفاوضوا مع آل مهنا جميعاً ورغبوهم فيما عند السلطان ووصفوا ما هم فيه من الضنك وسوء العيش بالخلاف والإنحراف عن الطاعة‏.‏ وعرضوا على يعبر بأن يجيبهم إلى إحدى الحسنيين من إمساك منطاش أو تخلية سبيلهم إلى طاعة السلطان ويفارقهم هو إلى حيث شاء من البلاد فجزع لذلك ولم يسعه خلافهم وأذن لهم في القبض على منطاش وتسليمه إلى نواب السلطان فقبضوا عليه وبعثوا إلى نائب حلب فيمن يتسلمه‏.‏ واستحلفوه على مقاصدهم من السلطان لهم ولأبيهم يعبر فحلف لهم وبعث إليهم بعض أمرائه فأمكنوه منه وبعثوا معه الفرسان والرجالة حتى أوصلوه ودخل إلى حلب في يوم مشهود وحبس بالقلعة‏.‏ وبعث السلطان أميراً من القاهرة فاقتحمه وقتله وحمل رأسه وطاف به في ممالك الشام‏.‏ وجاء به إلى القاهرة حادي عشر رمضان سنة خمس وتسعين فعلقت على باب القلعة ثم طيف بها مصر والقاهرة وعلقت على باب زويلة ثم دفعت إلى أهله فدفنوها آخر رمضان من السنة‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:37 PM

حوادث مكة
قد كان تقدم لنا أن عنان بن مقابس ولاه السلطان على مكة بعد مقتل محمد بن أحمد بن عجلان في موسم سنة ثمان وثمانين وأن كنيش بن عجلان أقام على خلافه وحاصره بمكة فقتل في حومة الحرب سنة تسع بعدها‏.‏ وساء أثر عنان وعجز من مغالبة الأشراف من بني عمه وسواهم‏.‏ وامتدت أيديهم إلى أموال المجاورين وصادروهم عليها ونهبوا الزرع الواصل في الشواني من مصر إلى جدة للسلطان والأمراء والتجار ونهبوا تجار اليمن وساءت أحوال مكة بهم وبتابعهم وطلب الناس من السلطان إعادة بني عجلان لإمارة مكة‏.‏ ووفد على السلطان بمصر سنة تسع وثمانين صبي من بني عجلان اسمه علي فولاه على إمارة مكة وبعثه مع أمير الحاج وأوصاه بالإصلاح بين الشرفاء‏.‏ ولما وصل الأمير إلى مكة وكان بها يومئذ قرقماش خشي الأشراف منه واضطرب عنان وركب للقائه‏.‏ ثم توجس الخيفة وكر راجعاً واتبع الأشراف واجتمعوا على منابذة علي بن عجلان وشيعته من القواد والعبيد‏.‏ ووفد عنان بن مقامس على السلطان سنة تسعين فقبض عليه وحبسه ولم يزل محبوساً إلى أن خرج مع بكا عند ثورته بالقلعة في صفر سنة اثنتين وتسعين‏.‏ وبعثه مع أخيه أيبقا يستكشف خبر السلطان كما مر‏.‏ وانتظم أمر السلطان بسعاية بكا في العود إلى إمارته رعياً لما كان بينهما من العشرة في البحر وأسعفه السلطان بذلك وولاه شركاً لعلي بن عجلان في الإمارة فأقاما كذلك سنتين وأمرهما مضطرب والأشراف معصوصبون على عنان وهو عاجز عن الضرب على أيديهم وعلي بن عجلان مع القواد كذلك وأهل مكة على وجل من أمرهم في ضنك من اختلاف الأيدي عليهم‏.‏ ثم استقدمهم السلطان سنة أربع وتسعين فقدموا أول شعبان من السنة فأكرمهما ورفع مجلسهما ورفع مجلس علي على سائرهم‏.‏ ولما انقضى الفطر ولى علي بن عجلان مستقلاً واستبلغ في الإحسان إليه بأصناف الأقمشة والخيول والممالك والحبوب وأذن له في الجراية والعلوفة فوق الكفاية‏.‏ ثم ظهر عليه بعد شهر وقد أعد الرواحل ليلحق بمكة هارباً فقبض عليه وحبسه بالقلعة وسار علي بن عجلان إلى مكة وقبض على الأشراف لتستقيم إمارته‏.‏ ثم خودع عنهم فأطلقهم فنفروا عنه ولم يعاودوا طاعته فاضطرب أمره وفسد رأيه وهو مقيم على ذلك لهذا العهد‏.‏ والله غالب على أمره إنه على كل شيء قدير‏.‏

وصول أحياء من التتر وسلطانهم إلى صاحب بغداد واستيلاؤه عليها
ومسير السلطان بالعساكر إليه كان هؤلاء التتر من شعوب الترك وقد ملكوا جوانب الشرق من تخوم الصين إلى ما وراء النهر ثم خوارزم وخراسان وجانبيها إلى سجستان وكرمان جنوباً وبلاد القفجاق وبلغار شمالاً ثم عراق العجم وبلاد فارس وأذربيجان وعراق العرب والجزيرة وبلاد الروم إلى أن بلغوا حدود الفرات واستولوا على الشام مرة بعد أخرى كما تقدم في أخبارهم ويأتي إن شاء الله تعالى‏.‏ وكان أول من خرج منهم ملكهم جنكز خان أعوام عشر وستمائة واستقلوا بهذه الممالك كلها‏.‏ ثم انقسمت دولته بين بنيهم فيها فكان لبني دوشي خان منهم بلاد القفجاق وجانب الشمال بأسره ولبني هلاكو بن طولي خان خراسان والعراق وفارس وأذربيجان والجزيرة والروم ولبني جفطاي خوارزم وما إليها‏.‏ واستمرت هذه الدول الثلاث إلى هذا العهد في مائة وثمانين سنة اننقرض فيها ملك بني هلاكو في سنة أربعين من هذه المائة بوفاة أبي سعيد آخرهم ولم يعقب وافترق ملكه بين جماعة من أهل دولته في خراسان وأصفهان وفارس وعراق العرب وأذربيجان وتوريز وبلاد الروم فكانت خراسان للشيخ ولي وأصفهان وفارس وسجستان للمظفر الأزدي وبنيه وخوارزم وأعمالها إلى تركستان لبني جفطاي وبلاد الروم لبني أرشا مولى من موالي مرداش بن جوبان وبغداد وأذربيجان والجزيرة للشيخ حسن بن حسين بن إيبغا بن ايكان - وايكان سبط أرغو بن أبغا بن هلاكو - ولبنيه وهو من كبار المغل في نسبه‏.‏ ولم يزل ملكهم المفترق في هذه الدول متناقلاً بين أعقابهم إلى أن تلاشى واضمحل‏.‏ واستقر ملك بغداد وأذربيجان والجزيرة لهذا العهد لأحمد بن أويس ابن الشيخ حسن سبط أرغو كما في أخبار يأتي شرحها في دول التتر بعد‏.‏ ولما كان في هذه العصور ظهر بتركستان وبخارى فيما وراء النهر أمير اسمه تمر في جموع من المغل والتتر ينسب هو وقومه إلى جفطاي لا أدري هو جفطاي ابن جنكز خان أو جفطاي آخر شعوب المغل والأول أقرب لما قدمته من ولاية جفطاي بن جنكز خان على بلاد ما وراء النهر لعهد أبيه‏.‏ وإن اعترض معترض بكثرة هذا الشعب الذي مع تمر وقصر المدة‏.‏ إلى هذه المدة من لدن جفطاي تقارب مائتي سنة لأن جفطاي كان لعهد أبيه جنكز خان يقارب الأربعين فهذه المدة أزيد من خمسة من العصور لأن العصر أربعون سنة‏.‏ وأقل ما يتناسل من الرجل في العصر عشرة من الولد فإذا ضوعفت العشرة بالضرب خمس مراتب كانت مائة ألف‏.‏ وإن فرضنا أن المتناسلين تسعة لكل عصر بلغوا في الخمسة عصور إلى نحو من سبعين ألفاً وإن جعلناها ثمانية بلغوا فوق الاثنين وثلاثين وإن جعلناهم سبعة بلغوا ستة عشر ألفاً‏.‏ والسبعة أقل ما يمكن عن الرجل الواحد لا سيما مع البداوة المقتضية لكثرة النسل‏.‏ والستة عشر ألفاً عصابة كافية في استتباع غيرها من العصائب حتى تنتهي إلى غاية العساكر‏.‏ ولما ظهر هذا فيما وراء النهر عبر إلى خراسان فملكها مرت يد الشيخ ولي صاحبها أعوام أربعة وثمانين بعد مراجفات وحروب‏.‏ وهرب الشيخ ولي إلى توريز فعمد إليه تمر في جموعه سنة سبع وثمانين وملك توريز وأذربيجان وخربها وقتل الشيخ ولي في حروبه ومر بأصبهان فأعطوه طاعة معروفة‏.‏ وأطل بعد توريز على نواحي بغداد فأرجفوا منه وواقعت عساكره بأذربيجان جموع الترك أهل الجزيرة والموصل‏.‏ وكانت الحروب بينهم سجالاً‏.‏ ثم تأخر إلى ناحية أصفهان وجاءه الخبر بخارج خرج عليه من قومه يعرف بقمر الدين تطمش ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكز خان وهو صاحب كرسي صراي أمده بأمواله وعساكره فكر راجعاً إلى بلده وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وتسعين‏.‏ ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمر الدين الخارج عليه ومحا أثر فساده واستولى على كرسي صراي فكر تمر راجعاً وملكها‏.‏ ثم خطا إلى أصفهان وعراق العجم وفارس وكرمان فملك جميعها من يد بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكهم وبددت جموعهم‏.‏ وراسله صاحب بغداد أحمد بن أويس وصانعه بالهدايا والتحف فلم يغن عنه وما زال يخادعه بالملاطفة والمراسلة إلى أن فتر عزم أحمد وافترقت عساكره فصمد إليه يغذ السير حتى انتهى إلى دجلة وسبق النذير إلى أحمد فأسرى من ليله ومر بجسر الحلة فقطعه‏.‏ وصبح مشهد علي ووافى تمر وعساكره دجلة يوم الحادي والعشرين من شوال سنة خمس وتسعين وأجازوا دجلة سبحاً ودخلوا واستولوا عليها‏.‏ وبعث العساكر في أتباع أحمد فلحقوا بأعقابه وخاضوا إليه النهر عند الجسر المقطوع وأدركوه بالمشهد فكر عليهم في جموعه وقتل الأمير الذي كان في اتباعه ورجعوا عنه بعد أن كانوا استولوا على جميع أثقاله ورواحله بما فيها من الأموال والذخيرة فرجعوا بها ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره فأخرج إليه بعض خواصه بالنفقات والأزواد ليستقدمه فقدم به إلى حلب آخر ذي القعدة فأراح بها‏.‏ وطرقه مرض أبطأ به عن مصر‏.‏ وجاءت الأخبار بأن تمر عاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة‏.‏ وأقفرت جوانب بغداد من العيث‏.‏ ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخاً به على طلب ملكه والانتقام من عدوه فأجاب السلطان صريخه ونادى في عساكره بالتجهز إلى الشام وقد كان تمر بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت فأولى المخالفين وعثاء الحرابة ورصد السابلة وأناخ عليها بجموعه أربعين يوماً فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم ثم خربها وأسرها‏.‏ ثم انتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها ووقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها وأشفوا نعمتها وافترق أهلها‏.‏ وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالريدانية أياماً أزاح فيها علل عسكره وأفاض العطاء في مماليكه‏.‏ واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند‏.‏ واستخلف على القاهرة النائب مودود وارتحل إلى الشام على التعبية ومعه أحمد بن أويس صاحب بغداد بعد أن كفاه مهمة وسرب النفقات في تابعه وجنده‏.‏ ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وقد كان أوعز إلى حلبان نائب حلب بالخروج إلى الفرات واستيعاب العرب والتركمان للإقامة هنالك رصداً للعدو‏.‏ فلما وصل إلى دمشق وفد عليه حلبان وطالعه بمهماته وما عنده من أخبار القوم ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه‏.‏ وبعث السلطان على أثره العساكر مدداً له مع كمشيقا الأتابك وتلكمش أمير سلاح وأحمد بن بيبقا وكان العدو قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهراً ثم ملكها وعاثت عساكره فيها وامتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ومر بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها‏.‏ والسلطان لهذا العهد - وهو شعبان سنة ست وتسعين - مقيم بدمشق مستجمع للوثبة به متى استقبل جهته والله ولي الأمور‏.‏ وهذا آخر ما انتهت إليه دولة الترك بانتهاء الأيام وما يعلم أحد ما في غد والله مقدر الأمور وخالقها‏.‏

دولة بني رسول
الخبر عن دولة بني رسول مولى بني أيوب الملوك باليمن بعدهم ومبدأ أمرهم وتصاريف أحوالهم قد كان تقدم لنا كيف استولى بنو أيوب على اليمن واختلف عليها الولاة منهم إلى أن ملكها من بني المظفر شاهنشاه بن أيوب حافده سليمان بن ابن المظفر وانتقض أيام العادل سنة اثنتي عشرة وستمائة فأمر العادل ابنه الكامل خليفته على مصر أن يبعث ابنه يوسف المسعود إلى اليمن وهو أخو الصالح ويلقب بالتركي أطس ويقال أقسنس وقد تقدم ذكر هذا اللقب فملكها المسعود من يد سليمان وبعث به معتقلاً إلى مصر‏.‏ وهلك في جهاد الإفرنج بدمياط سنة سبع وأربعين‏.‏ وهلك العادل أخو المسعود سنة خمس عشرة وستمائة وولى بعده ابنه الكامل وجدد العهد إلى يوسف المسعود على اليمن‏.‏ وحج المسعود سنة تسع عشرة وكان من خبره تأخير أعلام الخليفة عن إعلامه ما مر في أخبار دولتهم‏.‏ ثم جاء سنة عشرين إلى مكة وأميرهم حسن بن قتادة من بني مطاعن إحدى بطون حسن فجمع لقتاله وهزمه المسعود وملك مكة وولى عليها‏.‏ ورجع إلى اليمن فأقام به ثم طرقه المرض سنة ست وعشرين فارتحل إلى مكة واستخلف على اليمن علي بن رسول التركماني أستاذ داره‏.‏ ثم هلك المسعود بمكة لأربع عشرة سنة من ملكه وبلغ خبر وفاته إلى أبيه وهو محاصر دمشق‏.‏ ورجع ابن قتادة إلى مكة‏.‏ ونصب علي بن رسول على اليمن موسى بن المسعود ولقبه الأشرف وأقام مملكاً على اليمن إلى أن خلع‏.‏ وخلف المسعود ولد آخر اسمه يوسف ومات وخلفه ابنه واسمه موسى وهو الذي نصبه الترك بعد أيبك ثم خلعوه‏.‏ ثم خلع ابن رسول موسى الأشرف بن المسعود واستبد بملك اليمن وأخذ بدعوة الكامل بمصر وبعث أخويه رهناً على الطاعة‏.‏ ثم هلك سنة تسع وعشرين وولى ابنه المنصور عمر بن علي بن رسول‏.‏ ولما هلك علي بن منصور ولى بعدمه الكامل ابنه عمر‏.‏ ثم توفي الكامل سنة خمس وثلاثين وشغل بنو أيوب بالفتنة بينهم فاستغلظ سلطان عمر باليمن وتلقب المنصور ومنع الأتاوة التي كان يبعث بها إلى مصر فأطلق صاحب مصر العادل بن الكامل عمومته الذين كان أبوه رهنهم على الطاعة لينازعوه في الأمر فغلبهم وحبسهم‏.‏ وكان أمر الزيدية بصفد قد خرج من بني الرسي وصار لبني سليمان بن داود كما مر في أخبارهم‏.‏ ثم بويع من بني الرسي أحمد بن الحسين من بني الهادي يحيى بن الحسن بن القاسم الرسي بايع له الزيدية بحصن ملا وكانوا من يوم أخرجهم السليمانيون من صفد قد أووا إلى جبل مكانه‏.‏ فلما بويع أحمد بن الحسين هذا لقبوه الموطئ وكان بحصن بملا وكان الحديث شائعاً بين الزيدية بأن الأمر يرجع إلى بني الرسي‏.‏ وكان أحمد فقيهاً أديباً عالماً بمذهب الزيدية مجتهداً في العبادة‏.‏ وبويع سنة خمس وأربعين وستمائة‏.‏ وأهم عمر بن رسول شأنه فشمر لحربه وحاصره بحصن ملا مدة ثم أفرج عنه وجهز العساكر لحصاره من الحصون المجاورة له‏.‏ ولم يزل قائماً بأمره إلى أن وثب عليه سنة ثمان وأربعين جماعة من مماليكه بممالأة بني أخيه حسن فقتلوه لثمان عشرة سنة من ولاية المظفر يوسف بن عمر‏.‏ ولما هلك المنصور علي بن رسول كما قلناه قام بالأمر مكانه ابنه المظفر شمس الدين يوسف وكان عادلاً محسناً وفرض الأتاوة عليه لملوك مصر من الترك لما استقلوا بالملك وما زال يصانعهم بها ويعطيهم إياها‏.‏ وكان لأول ملكه امتنع عليه حصن الدملوة فشغل بحصاره وتمكن أحمد الموطئ الثائر بحصن ملا من الزيدية من أعقاب بني الرسي فملك عشرين حصناً من حصون الزيدية‏.‏ وزحف إلى صفد فملكها من يد السليمانيين ونزل له أحمد المتوكل إمام الزيدية منهم فبايعه وأمنه‏.‏ ولما كانوا في خطابة لم يزل في كل عصر منهم إمام كما ذكرناه في أخبارهم قبل‏.‏ ولم يزل المظفر والياً على اليمن إلى أن هلك بغتة سنة أربع وتسعين لست وأربعين سنة من ملكة الأشرف عمر بن المظفر يوسف‏.‏ ولما هلك المظفر يوسف كما قلناه وولي بعده ابنه الأشرف ممهد الدين عمر وكان أخوه داود والياً على الشحر فدعاه لنفسه ونازعه الأمر فبعث الأشرف عساكره وقاتلوه وهزموه وقبضوا عليه وحبسه‏.‏ واستمر الأشرف في ملكه إلى أن سمته جاريته فمات سنة ست وتسعين لعشرين شهراً من ولايته أخوه داود بن المظفر المؤيد يوسف‏.‏ ولما هلك الأشرف بن عمر بن المظفر يوسف أخرجوا أخاه مؤيد الدين داود من معتقله وولوه عليهم وما زال يواصل ملوك الترك بهداياه وصلاته وتحفه والضريبة التي قررها سلفه وانتهت هديته سنة إحدى عشرة وسبعمائة إلى مائتي وقر بعير بالثياب والتحف وطرف اليمن ومائتين من الجمال والخيل‏.‏ ثم بعث سنة خمس عشرة بمثل ذلك وفسد ما بينه وبين ملوك الترك بمصر‏.‏ وبعث بهديته سنة ثمان عشرة فردوها عليه ثم هلك سنة إحدى وعشرين وسبعمائة لخمس وعشرين سنة من ملكه‏.‏ وكان فاضلاً شافعي المذهب وجمع الكتب من سائر الأمصار فاشتملت خزانته على مائة ألف مجلد وكان يتفقد العلماء بصلاته ويبعث لابن دقيق العيد فقيه الشافعية بمصر جوائزه‏.‏ ولما توفي المؤيد داود سنة إحدى وعشرين كما قلناه قام بملكه ابنه المجاهد سيف الدين علي ابن اثنتي عشرة سنة والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏ ثورة جلال الدين بن عمر الأشرف وحبسه ولما ملك المجاهد علي شغل بلذاته وأساء السيرة في أهل المناصب الدينية العزل والاستبدال بغير حق فنكره أهل الدولة وانتقض عليه جلال الدين ابن عمه عمر الأشرف وزحف إليه وكانت بينهما حروب ووقائع كان النصر فيها للمجاهد وغلب على جلال الدين وحبسه والله تعالى أعلم‏.‏

ثورة جلال الدين ثانياً وحبس المجاهد
وبيعة المنصور أيوب بن المظفر يوسف وبعد أن قبض المجاهد على جلال الدين ابن عمه الأشرف وحبسه لم يزل مشتغلاً بلهوه عاكفاً على لذاته وضجر منه أهل الدولة وداخلهم جلال الدين في خلعه فوافقوه فرحل إلى سنة اثنتين وعشرين فخرج جلال الدين من محبسه وهجم عليه في بعض البساتين وفتك بحرمه وقبض عليه وبايع لعمه المنصور أيوب بن المظفر يوسف واعتقل المجاهد عنده في نفر وأطلق جلال الدين ابن عمه‏.‏ والله تعالى أعلم بغيبه‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:38 PM

خلع المنصور أيوب
ومقتل ه وعود المجاهد إلى ملكه ومنازعة الظاهر بن المنصور أيوب له ولما حبس المجاهد بقلعة تعز واستقل المنصور بالملك اجتمع شيعة المجاهد وهجموا على المنصور في بيته بتعز وحبسوه وأخرجوا المجاهد وأعادوه إلى ملكه ورجع أهل اليمن لطاعته‏.‏ وكان أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب بالدملوة فعصى عليه وامتنع بها‏.‏ وكتب إليه المجاهد يهدده بقتل أبيه فلج واتسع الخرق بينهما وعظمت الفتنة وافترق عليهما العرب وكثر عيثهم وكثر الفساد‏.‏ وبعث المنصور من محبسه إلى ابنه عبد الله أن يسلم الدملوة خوفاً على نفسه من القتل فأبى عبد الله من ذلك وأساء الرد على أبيه‏.‏ ولما يئس المجاهد منه قتل أباه المنصور أيوب بن المظفر في محبسه واجتمع أهل الدملوة وكبيرهم الشريف ابن حمزة وبايعوا أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب وبعث عسكراً مع الشهاب الصفوي إلى زبيد فحاصروها وفتحوها‏.‏ وجهز المجاهد عسكره إليها مع قائده علي بن الدوادار ولما قاربوا زبيد أصابهم سيل وبيتهم أهل زبيد فنالوا منهم وأسروا أمراءهم‏.‏ واتهم المجاهد قائده علي بن الدوادار بمداخلة عدوه فكتب إليه أن يسير إلى عدن لتحصيل مواليها وكتب إلى والي عدن بالقبض عليه ووقع الكتاب بيد الظاهر فبعث به إلى الدوادار فرجع إلى عدن وحاصرها وفتحها‏.‏ وخطب بها للظاهر سنة ثلاث وعشرين وملك عدن بعدها‏.‏ ثم استمال صاحب صنعاء وخوص فقاموا بدعوة الظاهر وبعث المجاهد إلى مذحج والأكراد يستنجدهم فلم ينجدوه وهو بحصن المعدية وكتب الظاهر إلى أشراف مكة وقاضيها نجم الدين الطبري بأن الأمر قد استقر له باليمن والله تعالى ولي التوفيق لا رب سواه‏.‏

وصول العساكر من مصر مدداً للمجاهد واستيلاؤه
على أمره وصلحه مع الظاهر ولما غلب الظاهر بن المنصور أيوب على قلاع اليمن وانتزعها من المجاهد وحاصره بقلعة المعدية بعث المجاهد سنة أربع وعشرين بصريخه إلى السلطان بمصر من الترك الناصر محمد بن قلاوون سنة خمس وعشرين فبعث إليه العساكر مع بيبرس الحاجب وأنيال من أمراء دولته ووصلوا إليه سنة خمس وعشرين فسار إليهم المجاهد من حصن المعدية بنواحي عدن إلى تعز فاستأمن إليه أهلها فأمنهم وراسلوا الظاهر في الصلح فأجاب على أن تكون له الدملوة وتحالفوا على ذلك‏.‏ وطلب أمراء الترك الشهاب الصفوي الذي أنشأ الفتنة بين المجاهد والظاهر فامتنع من إجابتهم فركب بيبرس وهجم عليه في خيمته وقتله بسوق الخيل بتعز وأثخنوا في العصاة على المجاهد في كل ناحية حق أطاعوا وتمهد له الملك ورجعت العساكر إلى مصر سنة ست وعشرين والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

نزول الظاهر للمجاهد عن الدملوة
ومقتله ولما استقام الأمر للمجاهد باليمن واستخلفه الظاهر على الدملوة أخذ المجاهد في تأنيسه وإحكام الوصلة به حتى اطمأن وهو يفتل له في الذروة والغارب حتى نزل له عن الدملوة وولى عليها من قبله وصار الظاهر في جملته‏.‏ ثم قبض عليه وحبسه بقلعة تعز‏.‏ ثم قتله في محبسه سنة أربع وثلاثين والله تعالى أعلم‏.‏

حج المجاهد علي بن المؤيد داود وواقعته مع أمراء مصر
واعتقاله بالكرك ثم اطلاقه ورجوعه إلى ملكه ثم حج المجاهد سنة إحدى وخمسين أيام حسن الناصري الأولى وير السنة التي حج فيها طاز كافل المملكة أميراً وحج بيبقاروس الكافل الآخر مقيداً لأن السلطان أمر طاز بالقبض عليه في طريقه فلما قبض عليه رغب منه أن يخلي سبيله لأداء فرضه فأجابه وحج مقيداً‏.‏ وجاء المجاهد ملك اليمن للحج وشاع عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر أمراء مصر وعساكرها لأهل اليمن‏.‏ ووقعت في بعض الأيام هيعة في ركب اليمن فتحاربوا وانهزم وذهب سواده وركب أهل اليمن كافة وأطلق بيبقاروس للقتال فجلا في تلك الوقعة وأعيد إلى اعتقاله‏.‏ وحمل المجاهد إلى مصر معتقلاً فحبس ثم أطلق سنة اثنتين وخمسين في دولة الصالح‏.‏ وبعثوا معه قشتمر المنصوري إلى بلاده‏.‏ فلما انتهى إلى الينبع ظهر عليه قشتمر بأنه يروم الهرب فرده وحبسه بالكرك‏.‏ ثم أطلق بعد ذلك وأعيد إلى ملكه وأقام على مهاداة صاحب مصر ومصانعته إلى أن توفي سنة ست وستين لاثنتين وأربعين سنة من ملكه‏.‏

ولاية الأفضل عباس بن المجاهد علي
ولما توفي المجاهد سنة ست وستين ولي بعده ابنه عباس واستقام له ملك اليمن إلى أن هلك سنة ثمان وسبعين لاثنتي عشرة سنة من ملكه والله تعالى أعلم‏.‏

ولاية المنصور محمد بن الأفضل عباس
ولما توفي الأفضل عباس بن المجاهد سنة ثمان وسبعين ولي بعده ابنه المنصور محمد واستولى على أمره واجتمع جماعة من مماليكه سنة اثنتين وثمانين للثورة به وقتله واطلع على شأنهم فهربوا إلى الدملوة وأخذهم العرب في طريقهم وجاؤوا بهم وعفا عنهم واستمر في ملكه إلى أن هلك ولاية أخيه الأشرف بن الأفضل عباس ولما توفي المنصور محمد بن الأفضل سنة ولي أخوه الأشرف إسماعيل واستقام أمره وهو صاحب اليمن لهذا العهد لسنة ست وتسعين والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏

http://www.al-eman.com/Islamlib/images/up.gif الخبر عن دولة التتر من شعوب الترك
وكيف تغلبوا علن الممالك الإسلامية وانتزوا على كرسي الخلافة ببغداد وما كان لهم من الدول المفترقة وكيف أسلموا بعد ذلك ومبدأ أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدم لنا ذكر التتر وأنهم من شعوب الترك وأن الترك كلهم ولد كومر بن يافث على الصحيح وهو الذي وقع في التوراة‏.‏ وتقدم لنا ذكر أجناس الترك وشعوبهم وعددنا منهم الغز الذين منهم السلجوقية والهياطلة الذين منهم القلج وبلاد الصغد قريباً من سمرقند ويسمون بها أيضاً‏.‏ وعددنا منهم الخطا والطغرغر وهم التتر وكانت مساكن هاتين الأمتين بأرض طمغاج ويقال إنها بلاد تركستان وكاشغر وما إليها من وراء النهر وهي بلاد ملوكهم في الإسلام وعددنا منهم الخزلجية والغور والخزر والخفشاخ وهم القفجاق ويمك والعلان‏.‏ ويقال الآن وجركس وأركش‏.‏ وعد صاحب روجار في كتابه على الجغرافيا العسسة والتغزغزية والخرخيرية والكيماكية والخزلجية والخزر والخلخ وبلغار ويمناك وبرطاس وسنجرت وخرجان وأنكر وذكر مساكن أنكر في بلاد البنادقه من أرض الروم‏.‏ وجمهور هذه الأمم من الترك فيما وراء النهر شرقاً إلى البحر المحيط بين الجنوب والشمال من الإقليم إلى السابع والصين في وسط بلادهم‏.‏ وكان الصين أولاً لبني صيني إخوانهم من بني يافث‏.‏ ثم صار لهم واستولوا على معظمه إلا قليلاً من أطرافه على ساحل البحر وهم رحالة كما مر في ذكرهم أول الكتاب وفي دولة السلجوقية وأكثرهم في المفازة التي بين الصين وبلاد تركستان‏.‏ وكان لهم قبل الإسلام دولة ولهم مع الفرس حروب مذكورة وملكهم لذلك العهد في بني فراسيان‏.‏ وكان بينهم وبين العرب لأول الفتح حروب طويلة قاتلوهم على الإسلام فلم يجيبوا فأثخنوا فيهم وغليوهم على أطراف بلادهم وأسلم ملوكهم على بلادهم وذلك من بعد القرن الأول‏.‏ وكانت لهم في الإسلام دولة ببلاد تركستان وكاشغر ولا أدري من أي شعوبهم كان هؤلاء الملوك‏.‏ وقد قيل فيهم أنهم من ولد فراسيان ولا يعرف شعب فراسيان فيهم وكان هؤلاء الملوك يلقبون بالخاقان بالخاء والقاف سمة لكل من يملك منهم مثل كسرى للفرس وقيصر للروم‏.‏ وأسلم ملوكهم بعد صدر من الملة على بلادهم وملكهم فأقاموا بها وكان بينهم وبين بني سامان الملوك القائمين فيما وراء النهر بدولة بني العباس حرب وسلم اتصلت حالهم عليها إلى أن تلاشت دولتهم ودولة بني سامان جميعاً‏.‏ وقام محمود بن سبكتكين من موالي بني سامان بدولتهم وملكهم فيما وراء النهر وخراسان‏.‏ وقد ظهر لذلك العهد بنو سلجوق وغلبوا ملوك الترك على أمرهم وأصبحوا في عداد ولاتهم شأن الدول البادية الجديدة مع الدول القديمة الحاضرة ثم قارعوا بني سبكتكين وغلبوهم على ملكهم فيما بعد المائة الرابعة واستولوا على ممالك الإسلام بأسرها وملكوا ما بين الهند ونهاية المعمور في الشمال وما بين الصين وخليج القسطنطينية في الغرب وعلى اليمن والحجاز والشام وفتحوا كثيراً من بلاد الروم واستفحلت دولتهم بما لم تنته إليه دولة بعد العرب والخلفاء في الملة‏.‏ ثم تلاشت دولتهم وأنقرضت بعد مائتين من السنين شأن الدول وسنة الله في العباد‏.‏ وكانوا بعد خروج السلجوقية إلى خراسان قد خلفتهم في بلاد بضواحي تركستان وكاشغر من أمم الترك أمة الخطا ومن ورائهم أمة التتر ما إلى تركستان وحدود الصين‏.‏ ولم يقدر ملوك الخانية بتركستان على دفاعهم لعجزهم عن ذلك فكان أرسلان خان بن محمد بن سليمان ينزلهم مسالح على الدروب ما بينه وبين الصين ويقطعهم على ذلك ويوقع بهم على الفساد والعيث‏.‏ ثم زحف من الصين ملك الترك الأعظم كوخان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ولحقت به أمم الخطا ولقيهم الخان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بن بقراخان صاحب تركستان وما وراء النهر من الخانية وهو ابن أخت السلطان سنجر بن ملك شاه صاحب خراسان من ملوك السلجوقية فهزموه‏.‏ وبعث بالصريخ إلى خاله سنجر فاستنفر ملوك خراسان وعساكر المسلمين وعبر جيحون للقائهم‏.‏ وسارت إليه أمم التتر والخطا وتواقعوا في صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة وانهزم سنجر وأسرت زوجته ثم أطلقها كوخان ملك الترك واستولى على ما وراء النهر‏.‏ ثم مات كوخان سنة سبع وثلاثين وملكت بعده بنته ثم ماتت فملكت بعدها أمها زوجة كوخان وابنه محمد‏.‏ ثم انقرض ملكهم واستولى الخطا على ما وراء النهر‏.‏ ثم غلب على خوارزم علاء الدين محمد بن تكش كما قدمناه ويلقب هو وأبوه بخوارزم شاه‏.‏ وكان ملوك الخانية ببلادهم فيما وراء النهر فاستصرخوا به على الخطا لما كثر من عيثهم وفسادهم فأجاب صريخهم وعبر النهر سنة ست وستمائة وملكهم يومئذ كبير السن بصير في الحرب فلقيهم فهزموه وأسر خوارزم شاه ملكهم طانيكوه وحبسه بخوارزم وملك سائر بلاد الخطا إلى أوركندا وأنزل بها نوابه وزوج أخته من الخان صاحب سمرقند وأنزل معه شحنة كما كانت للخطا وعاد إلى بلاده‏.‏ وثار ملك الخانية بالشحنة بعد رجوعه بسنة وقتلهم وهم بقتل زوجته أخت خوارزم شاه وحاصره بسمرقند واقتحمها عليه عنوة وقتله في جماعة من أقاربه ومحا أثر الخانية وملكهم مما وراء النهر وأنزل في سائر البلد نوابه‏.‏ وكانت أمة التتر من وراء الخطا هؤلاء قد نزلوا في حدود الصين ما بينها وبين تركستان وكان ملكهم كشلي خان ووقع بينهم وبين الخطا من العداوة والحروب ما يقع بين الأمم المتجاورة‏.‏ فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بالخطا أرادوا الانتقام منهم وزحف كشلي خان في أمم التتر إلى الخطا لينتهز الفرصة فيهم فبعث الخطا إلى خوارزم شاه يتلطفون له ويسألونه النصر من عدوهم قبل أن يستحكم أمره وتضيق عنه قدرتهم وقدرته‏.‏ وبعث إليه كشلي ملك التتر بمثل ذلك فتجهز يوهم كل واحد من الفريقين أنه له وأقام منتبذاً عنهما وقد تواقعوا وانهزم الخطا فمال مع التتر عليهم واستلحموهم في كل وجه‏.‏ ولم ينج منهم إلا قليل تحصنوا بين جبال في نواحي تركستان وقليل آخرون لحقوا بخوارزم شاه فكانوا معه‏.‏ وبعث خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتر يعتد عليه بهزيمة الخطا وأنها إنما كانت بمظاهرته فأظهر له الاعتراف وشكره‏.‏ ثم نازعه في بلادهم وأملاكهم وبعث خوارزم شاه بحربهم‏.‏ ثم علم أنه لا طاقة له بهم فمكث يراوغهم عن اللقاء وكشلي خان بعذله في ذلك وهو يغالطه واستولى كشلي خان خلال ذلك على كاشغر وبلاد تركستان وساغون‏.‏ ثم عمد خوارزم شاه إلى الشاس وفرغانة واسبيجاب وقاشان وما حولها من المدن التي لم يكن في بلاد الله أنزه منها ولا أحسن عمارة فجلا أهلها إلى بلاد المسلمين وخرب جميعها خوفاً أن يملكها التتر بعد ذلك‏.‏ وخرج على كشلي خان طائفة أخرى يعرفون بالمغل وملكهم جنكز خان فشغل كشلي خان بحربهم عن خوارزم شاه وعبر النهر إلى خراسان ونزل خوارزم إلى أن كان من أمره ما نذكره والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:42 PM

استيلاء التتر على ممالك خوارزم شاه فيما وراء النهر وخراسان
ومهلك خوارزم شاه وتوليه محمد بن تكش ولما رحل السلطان إلى خراسان استولى على الممالك ما بينه وبين بغداد من خراسان ومازندان وباميان وغزنه إلى بلاد الهند وغلب الغورية على ما بأيديهم‏.‏ ثم ملك الري وأصفهان وسائر بلاد الجبل وسار إلى العراق وبعث إلى الخليفة في الخطبة كما كانت لملوك بني سلجوق فامتنع الخليفة من ذلك كما مر ذلك كله في أخبار دولتهم‏.‏ ثم عاد من العراق سنة ست عشرة وستمائة واستقر بنيسابور فوفدت عليه رسل جنكز خان بهدية من نقرة المعدنين ونوافج المسك وحجر اليشم والثياب الخطائية المنسوجة من وبر الإبل البيض وبخبر أنه ملك الصين وما بينها من بلاد الترك ويطلب الموادعة والإذن للتجار بالتردد لمتاجرهم من الجانبين وكان في خطابه إطراء السلطان خوارزم شاه بأنه مثل أعز أولاده فاستنكف السلطان من ذلك وامتعض له وأجمع عداوته واستدعى محموداً الخوارزمي من رسل جنكز خان واصطنعه ليكون عيناً له على صاحبه واستخبره عما قاله في كتابه من أنه ملك الصين‏.‏ واستولى على مدينة طوغاج فصدق له ذلك وسأله عن مقدار العساكر فقللها وغشه في ذلك‏.‏ ثم نكر عليه الخطاب بالولد‏.‏ ثم صرف الرسل بما طلبوه من الموادعة والإذن للتجار ووصل على أثر ذلك بعض التجار من بلادهم إلى أطرار وبها أنيال خان ابن خال السلطان خوارزم شاه فعثره على أموالهم ورفع إلى السلطان أنهم عيون على البلاد وليسوا بتجار فأمره بالاحتياط عليهم ففعل وأخذ أموالهم وقتلهم خفية‏.‏ وفشا الخبر إلى جنكز خان فبعث بالنكير على السلطان في ذلك وقال له إن كان فعله أنيال خان فابعثه إلي وتهدده على ذلك في كتابه فانزعج السلطان لها وقتل الرسل‏.‏ وبلغ الخبر إلى جنكز خان فسار في العساكر إلى بلاده وجبى السلطان من سمرقند خراج سنتين حصن به أسوار سمرقند وجبى ثالثة استخدم بها الفرسان لحمايتها‏.‏ ثم سار للقاء جنكز خان فكانت بينهما واقعة عظيمة هلك فيها كثير من الفريقين فكبسهم وهو غائب عنهم ورجع خوارزم شاه إلى جيحون وأقام عليه وفرق عساكره في أعمال ما وراء النهر بخارى وسمرقند وترمذ‏.‏ وأنزل آبنايخ من أكبر أمرائه وأصحاب دولته في بخارى وجعلهم لنظره‏.‏ ثم جاء جنكز خان إليه فعبر النهر مجفلاً وقصد جنكز خان أطرار فحاصرها وملكها غلاباً وأسر أميرها أنيال خان الذي قتل التجار فأذاب الفضة في أذنيه وعينيه‏.‏ ثم حاصر بخارى وملكها على الأمان وقاتلوا معه القلعة حتى خربها‏.‏ ثم غدر بهم فقتلهم وسباهم وفعل مثل ذلك في سمرقند سنة تسع عشرة‏.‏ ثم كتب كتباً إلى أمراء خوارزم شاه قرابة أمه كأنها أجوبة عن كتبهم إليه باستدعائه والبراءة من خوارزم وذمه بعقوق أمه فبسط آمالهم في كتبه ووعد تركمان خان أم السلطان‏.‏ وكانت في خوارزم فوعدها بزيارة خراسان وأن تبعث من يستخلفه على ذلك‏.‏ وبعث بالكتب من يعترض بها للسلطان‏.‏ فلما قرأها ارتاب بأمه وبقرابتها فاستوحشوا ووقع التقاطع والنفرة‏.‏ ولما استولى جنكز خان على ما وراء النهر ونجا نائب بخارى في الفل أجفل السلطان وعبر جيحون ورجع عنه طوائف الخطا الذين كانوا معه وتخاذل الناس وسرح جنكز خان العساكر في أثره نحواً من عشرين ألفاً كانوا يسمونهم التتر المغربة لتوغلهم في البلاد غربي خراسان إلى بلاد القفجاق ووصل السلطان إلى نيسابور فلم يلبث بها وارتحل إلى مازندران والتتر في أثره‏.‏ ثم انتهى إلى همذان فكبسوه هنالك وفرقوا جموعه ونجا إلى جبال طبرستان فأقام بقرية بساحل البحر في فل من قومه‏.‏ ثم كبسه التتر أخرى فركب البحر إلى جزيرة في بحيرة طبرستان وخاضوا في أثره فغلبهم الماء ورجعوا وأقام خوارزم شاه بالجزيرة ومرض بها ومات سنة سبع عشرة وستمائة وعهد لابنه جلال الدين سكري‏.‏ ولما بلغ خبر إجفاله إلى أمه تركمان خاتون بخوارزم خرجت سارية واعتصمت بقلعة أيلاز من مازندران ورجع التتر عن اتباع خوارزم شاه فافتتحوا قلاع مازندران وملكوها وملكوا قلعة أيلاز صلحاً وأسروا أم السلطان وبناته وتزوجهن التتر وتزوج دوشي خان بن جنكز خان واحدة وبقيت تركمان خاتون أسيرة عندهم في ذل وخمول‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

مسير التتر المغربة بعد خوارزم شاه إلى العراق وأذربيجان
واستيلاؤهم عليها إلى بلاد قفجاق والروس وبلاد الخزر ولما رجع التتر المغربة من اتباع خوارزم شاه سنة سبع عشرة عادوا إلى همذان وانتسفوا ما مروا عليه وصانعهم أهل همذان بما طلبوه‏.‏ ثم ساروا إلى سنجار كذلك ثم إلى قومس فامتنعوا منهم وحاصروها وملكوها غلاباً وقتلوا أكثر من أربعين ألفاً‏.‏ ثم ساروا إلى أذربيجان وصانعهم صاحب تبريز وانصرفوا إلى موقان ومروا ببلاد الكرج فاكتسحوها وجمعوا لهم فهزموهم وأثخنوا فيهم وذلك آخر سنة سبع عشرة‏.‏ ثم عادوا إلى مراغة فملكوها عنوة في صفر سنة ثمان عشرة واستباحوا ورحلوا عنها إلى إربيل وبها مظفر الدين كوكبري‏.‏ واستمد صاحب الموصل فأمده بالعساكر‏.‏ ثم استدعاهم الخليفة الناصر إلى دقوقا للمدافعة عن العراق مع عساكره وولى عليهم مظفر الدين صاحب أربل فخام عن لقائهم وخاموا عن لقائه‏.‏ وساروا إلى همذان وبها شحنتهم فامتنعوا من مصانعتهم وقاتلوهم فملكوها عنوة واستباحوها واستلحموا أهلها ورجعوا إلى أذربيجان فملكوا أردبيل وإستباحوها وخربوها وساروا إلى تبريز وقد فارقها أزبك بن البهلوان إلى نقجوان فصانعوهم بالأمان وساروا إلى بيلقان وملكوها عنوة وأفحشوا في القتل والمثلة واكتسحوا جميع الضاحية‏.‏ ثم ساروا إلى كنجة قاعدة أران فصانعهم أهلها فساروا إلى بلاد الكرج فهزموهم وحاصروهم بقاعدتهم تفليس وردهم كثرة الأوعار عن التوغل فيها‏.‏ ثم قصدوا دربند شروان وحاصروا مدينة سماجي ودخلوه عنوة وملكوه واستباحوه وأعجزهم الدربند عن المسير فراسلوا شروان في الصلح فبعث إليهم رجالاً من أصحابه فقتلوا بعضهم وقتلوا الباقين أذلاء‏.‏ وأفضوا من الدربند إلى أرض أسحمة وبها من القفجاق واللاز والغز وطوائف من الترك مسلمون وكفار أمم لا تحصى‏.‏ ولم يطيقوا مغالبتهم لكثرتهم فرجعوا إلى التضريب بينهم حتى استولوا على بلادهم‏.‏ ثم اكتسحوها وأوسعوهم قتلاً وسبياً وفر أكثرهم إلى بلاد الروس وراءهم واعتصم الباقون بالجبال والغياض‏.‏ وانتهى التتر إلى مدينتهم الكبرى سرداق على بحر نيطش المتصل بخليج القسطنطينية وهي مادتهم وفيها تجارتهم فملكها التتر وافترق أهلها في الجبال‏.‏ وركب أهلها البحر إلى بلاد الروم في إيالة بني قليج أرسلان‏.‏ ثم سار التتر سنة عشرين وستمائة من بلاد قفجاق إلى بلاد الروس المجاورة لها وهي بلاد فسيحة وأهلها يدينون بالنصرانية فساروا إلى مدافعتهم في تخوم بلاده ومعهم جموع من القفجاق أياماً‏.‏ ثم انهزموا وأثخن فيهم التتر قتلاً وسبياً ونهباً وركبوا السفن هاربين إلى بلاد الإسلام وتركوا بلادهم فاكتسحها التتر‏.‏ ثم عادوا عنها وقصدوا بلغار آخر السنة‏.‏ واجتمع أهلها وساروا للقائهم بعد أن أكمنوا لهم ثم استطردوا أمامهم وخرج عليهم الكمناء من خلفهم فلم ينج منهم إلا القليل‏.‏ وارتحلوا عائدين إلى جنكز خان بأرض الطالقان ورجع القفجاق إلى بلادهم واستقروا فيها‏.‏ والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه‏.‏

مسير جنكز خان إلى خراسان وتغلبه على أعمالها وعلى خوارزم شاه
كان جنكز خان بعد أن أجفل خوارزم شاه من جيحون و مسير التتر المغربة في طلبه ملك سمرقند فبعث عسكراً إلى ترمذ وعسكراً إلى خوارزم وعسكراً إلى خراسان‏.‏ وكان عسكر خوارزم أعظمها لأنها كرسي الملك ومأوى العساكر وبعث مع العساكر ابنه جفطاي وأركطاي فحاصروها خمسة أشهر وامتنعت فأمدهم جنكز خان بالعساكر متلاحقة وملكوها ناحية ناحية إلى أن استوعبوا‏.‏ ثم نقبوا السد الذي يمنع ماء جيجون عنها فسال إليها جيجون فغرقها وتقسم أهلها بين السند والعراق هكذا قال ابن الأثير‏.‏ وقال النسابي كاتب جلال الدين إن دوشي خان عرض عليهم الأمان وخرجوا إليه فقتلهم أجمعين وذلك في محرم سنة سبع عشرة وعاد دوشي خان والعساكر إلى جنكز خان فوجدوه بالطالقان‏.‏ وأما عسكر ترمذ فساروا إليها وملكوها وتقدموا إلى كلابة من قلاع جيجون فملكوها وخربوها وعسكر فرغانة كذلك‏.‏ وأما عسكر خوارزم فعبروا إلى بلخ وملكوها على الأمان سنة سبع عشرة وأنزلوا بها شحنة‏.‏ ثم ساروا إلى الزوزان وأيدحور ومازندران فملكوها وولوا عليها‏.‏ ثم ساروا إلى الطالقان وحاصروا قلعة صاركوه وكانت منيعة وجاءهم جنكز خان بنفسه بعد امتناعها ستة أشهر فحاصروها أربعة أشهر أخرى‏.‏ ثم أمر بنقل الخشب والتراب ليجتمع به تل يتعالى به البلد‏.‏ فلما استيقنوا الهلكة فتحوا الباب وصدقوا الحملة فنجا الخيالة وتفرقوا في البلاد والشعاب وقتل الرجالة ودخل التتر فاستباحوها‏.‏ وبعث جنكز خان عسكراً ويقال قتل فيها أكثر من سبعين ألفاً‏.‏ ثم بعث جنكز خان في العساكر إلى مدينة مرو وقد كان الناجون من هذه الوقائع انزووا إليها فاجتمعوا بظاهرها أكثر من مائتي ألف لا يشكون في الظفر فلما زحف إليهم التتر ولوا منهزمين وأثخنوا فيهم‏.‏ ثم حاصروا البلد خمسة أشهر واستنزلوا أميرها على الأمان‏.‏ ثم قتلوهم جميعاً وحضر جنكز خان قتلهم‏.‏ يقال قتل فيها سبعمائة ألف‏.‏ ثم ساروا إلى نيسابور فاقتحموها عنوة وقتلوا وعاثوا ثم إلى طرابلس كذلك‏.‏ ثم ساروا إلى هراة فملكوها على الأمان وأنزلوا عندهم الشحنة وعادوا إلى جنكز خان بالطالقان وهو يرسل العساكر والسرايا في نواحي خراسان حتى أتوا عليها تخريباً وذلك كله سنة سبع عشرة والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:42 PM

أجفال جلال الدين ومسير التتر في اتباعه وفراره إلى الهند
ثم بعث العساكر في طلب جلال الدين وقد كان بعد مهلك أبيه وخروج تركمان خاتون من خوارزم سار إليها وملكها واجتمع إليه الناس‏.‏ ثم نمي إليه أن قرابة تركمان خاتون وهم البياروتية مالوا إلى أخيه يولغ شاه وابن أختهم وأنهم يريدون الوثوب بجلال الدين ففر ولحق بنيسابور‏.‏ وجاءت عساكر التتر إلى خوارزم فأجفل يولغ شاه وأخواه ليلحقوا به بنيسابور فأدركهم التتر وهم محاصرون قلعة قندهار فاستلحمهم‏.‏ ثم سار إلى غزنة فلملكها من يد ولحق به أمراء أبيه الذين تغلبوا على نواحي خراسان في هذه الفتنة وأزعجهم التتر عنها فحضروا مع جلال الدين كبسة التتر بقلعة قندهار‏.‏ ولحق فلهم بجنكز خان‏.‏ وبعث ابنه طولي خان لقتال جلال الدين فهزمه جلال الدين وقتله‏.‏ ولحق الفل من عساكره بجنكز خان فسار في أمم التتر ولقي جلال الدين فانهزم ولم يفلت من التتر إلا الأقل ورجع جلال الدين فنزل على نهر السند وقد كان جماعة من أمرائه انعزلوا عنه يوم الواقعة الأولى بسبب الغنائم فبعث إليهم يستألفهم فعاجله جنكز خان وقاتله ثلاثاً ثم هزمه واعترضه نهر السند فاقتحمه وخلص إلى السند بعد أن قتل حرمه أجمعين وذلك سنة ثمان عشرة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

أخبار غياث الدين بن خوارزم شاه مع التتر
كان خوارزم شاه قد قسم الملك بين ولده فجعل العراق لغورنشاه وكرمان لغياث الدين تمرشاه فلم ينفذ إليها أيام أبيه‏.‏ فلما فر خوارزم شاه إلى ناحية الري لقيه ابنه غورنشاه صاحب العراق‏.‏ ثم كانت واقعة التترية على حدوى ولحق خوارزم شاه بجزيرة طبرستان ولحق غورنشاه بكرمان‏.‏ ثم رجع واستولى على أصفهان وعلى الري‏.‏ ثم زحف التتر إليه وحاصروه بقلعة أوند وقتلوه وكان أخوه غياث الدين بكرمان وملكه بينه وبين بقا طرابلسي أتابكه وفر إلى ناحية أذربيجان‏.‏ واستولى غياث الدين على العراق ومازندران وخوزستان فأقطع بقا ثم سار غياث الدين إلى أذربيجان فصانعه صاحبها أزبك بن البهلوان ولحق به من كان متغلباً من أمراء أبيه بخراسان‏.‏ وكان أبنايخ خان نائب بخارى قد تغلب بعد الواقعة على نسا ونواحيها وجرجان وعلى شيروان وعامة خراسان‏.‏ وكان تكين بهلوان متغلباً على مرو فعبر جيحون سنة سبع عشرة وكبس شحنة التتر واتبعوه إلى شيروان ولقوا أبنايخ خان على جرجان فهزموه‏.‏ ونجا فلهم إلى غياث الدين على العراق والري وما وراءها في الجنوب من موكان وأذربيجان وبقيت خوارزم طوائف وفي كل ناحية منها متغلب وعساكر التتر في كل وقت تدوخ بلاد العراق وغياث الدين منهمك في لذاته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

رجوع جلال الدين من الهند واستيلاؤه على العراق وكرمان وأذربيجان
ثم زحف التتر إليه ثم رجع جلال الدين من الهند سنة إحدى وعشرين واستولى على ملك أخيه غياث الدين بالعراق وكرمان وبعث إلى الخليفة يطلب الخطبة فلم يسعف فاستعد لمحاربته‏.‏ وقد كانت بلاد الري من بعد تخريب التتر المغربة لها عاد إليها بعض أهلها وعمروها فبعث إليها جنكز خان عسكراً من التتر فخربوها ثانية وخربوا سلوة وقم وقاشان وأجفل أمامهم عسكر خوارزم شاه من همذان فخربوها واتبعوهم فكبسوهم في حدود أذربيجان‏.‏ ولحق بعضهم بتبريز والتتر في اتباعهم فصانعهم صاحبها أزبك بن البهلوان وبعث بهم إلى التتر الذين في اتباعهم بعد أن قتل وسار جلال الدين إلى أذربيجان سنة اثنتين وعشرين فملكها وكانت له فيها أخبار ذكرناها في دولته‏.‏ ثم بلغ السلطان جلال الدين أن التتر زحفوا من بلادهم وراء النهر إلى العراق فنهض من تبريز للقائهم في رمضان سنة خمس وعشرين ولقيهم على أصفهان وانفض عنه أخوه غياث الدين في طائفة من العساكر‏.‏ وانهزمت ميسرة التتر وسار السلطان في اتباعهم وقد أكمنوا له وأحاطوا به واستشهد جماعة ثم صدق عليهم الحملة فأفرجوا له ومضى لوجهه وانهزمت العساكر إلى فارس وكرمان وأذربيجان ورجع المتبعون للتتر من قاشان فوجدوه قد انهزم فافترقوا أشتاتاً ولحق السلطان بأصفهان بعد ثمانية أيام فوجد التتر يحاصرون أصفهان فبرز إليهم في عساكرها وهزمهم واتبعهم إلى الري وبعث العساكر في اتباعهم إلى خراسان ورجع إلى أذربيجان وأقام بها وكانت له فيها أخبار مذكورة في دولته‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

مسير التتر إلى أذربيجان واستيلاؤهم على تبريز
ثم واقعتهم مع جلال الدين بآمد و مقتله كان التتر لما استقروا فيما وراء النهر عمروا تلك البلاد واختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوض عنها وبقيت خراسان خاوية‏.‏ واستبد بالمدن فيها طوائف من الأمراء أشباه الملوك يعطون الطاعة للسلطان جلال الدين منذ جاء من الهند‏.‏ وانفرد جلال الدين بملك العراق وفارس وكرمان وأذربيجان وأران وما إلى ذلك‏.‏ وبقيت خراسان مجالاً لغزاة التتر وعساكرهم وسارت طائفة منهم سنة خمس وعشرين إلى أصفهان وكانت بينهم وبين جلال الدين الواقعة كما مر‏.‏ ثم زحف جلال الدين إلى خلاط وملكها‏.‏ وزحف إليه صاحبها الأشرف بن العادل من الشام وعلاء الدين كيقباد صاحب بلاد الروم وأوقعوا به كما مر في أخباره سنة سبع وعشرين الواقعة التي أوهنت منه وحلت عرى ملكه‏.‏ وكان علاء الدين مقدم الإسماعيلية بقلعة الموت عدواً لجلال الدين بما أثخن في بلاده وقرر عليه وظائف الأموال فبعث إلى التتر يخبرهم أن الهزيمة أوهنته ويحثهم على قصده فسار إلى أذربيجان أول سنة ثلاث وعشرين‏.‏ وبلغ الخبر إلى السلطان بمسيرهم فرحل من تبريز إلى موقان وأقام بها في انتظار شحنة خراسان ومازندران وشغل بالصيد فكبسه التتر ونهبوا معسكره وخلص إلى نهر راس من أران‏.‏ ثم رجع إلى أذربيجان وشتى بماهان‏.‏ ثم جاءه النذير بمسير التتر إليه فرحل إلى أران وتحصن بها وثار أهل تبريز لما بلغهم خبر الوقعة الأولى بمن عندهم من عساكر الخوارزمية وقتلوهم ومنعهم رئيسهم الطغرياني من طاعة التتر‏.‏ ووصل للسلطان جلال الدين ثم هلك قريباً فسلموا بلادهم للتتر وكذا فعل أهل كنجة وأهل سلعار‏.‏ ثم سار السلطان إلى كنجة وارتجعها وقتل المعترضين للثورة فيها وساش إلى خلاط واستمد الأشرف بن العادل صاحب الشام فعلله بالمواعيد‏.‏ وسار إلى مصر ويئس من إنجاده فبعث إلى جيرانه من الملوك يستنجدهم مثل صاحب حلب وآمد وماردين‏.‏ وجرد عسكراً إلى بلاد الروم في خرت برت وملطية وأذربيجان فاقتحموها لما بين صاحبها كيقباد وبين الأشرف من الموالاة فاستوحش جميع الملوك من ذلك وقعدوا عن نصرته‏.‏ وجاءه الخبر وهو بخلاط أن التتر زحفوا إليه فاضطرب في رحله وبعث أتابكه أوترخان في أربعة آلاف فارس طليعة فرجع وأخبره أن التتر رجعوا من حدود ملاذ كرد وأشار عليه قومه بالمسير إلى أصفهان‏.‏ وزين له صاحب آمد قصد بلاد الروم وأطمعه في الاستيلاء عليها ليتصل بالقفجاق ويستظهر بهم على التتر ووعده الإمداد بنفسه يروم الانتقام من صاحب الروم لما ملك من قلاعه فخيم إلى رأيه وعدل عن أصفهان ونزل بآمد‏.‏ وبعث إليه التركمان بالنذير وأنهم رأوا نيران التتر فاتهم خبرهم‏.‏ وصحبه التتر على آمد منتصف شوال سنة ثمان وعشرين وأحاطوا بخيمته وحمل عليهم أتابكه أوترخان وكشفهم عن الخيمة‏.‏ وركب السلطان وأسلم أهله وسواده ورد أوترخان العساكر وانتبذ ليتوارى عن عين العدو‏.‏ وسار أوترخان إلى أصفهان واستولى عليها إلى أن ملكها التتر من يده سنة تسع ثلاثين‏.‏ وذهب السلطان منجفلاً وقد امتلأت الدربندات والمضايق بالمفسدين من غير صنوفهم بالقتل والنهب فأشار عليه أوترخان بالرجوع فرجع إلى قرية من قرى ميافارقين ونزل في بيدرها وفارقه أوترخان إلى حلب‏.‏ وهجم التتر على السلطان بالبيدر وقتلوا من كان معه وهرب فصعد جبل الأكراد وهم مترصدون الطرق للنهب فسلبوه وهموا بقتله‏.‏ وشعر بعضهم أنه السلطان فمضى به إلى بيته ليخلصه إلى بعض النواحي ودخل البيت في مغيبه بعض سفلتهم وهو يريد الثأر من الخوارزمية بأخ له قتل بخلاط فقتله ولم يغن عنه أهل البيت‏.‏ ثم انتشر التتر بعد هذه الواقعة في سواد آمد وأرزن وميافارقين وسائر ديار بكر فاكتسحوها وخربوها وملكوا مدينة أسعرد عنوة فاستباحوها بعد حصار خمسة أيام ومروا بميافارقين فامتنعت ثم وصلوا إلى نصيبين فاكتسحوا نواحيها ثم إلى سنجار وجبالها والخابور‏.‏ ثم ساروا إلى أيدس فأحرقوها ثم إلى أعمال خلاط فاستباحوا هاكرى وأرجيش‏.‏ وجاءت طائفة أخرى من أذربيجان إلى أعمال إربل ومروا في طريقهم بالتركمان الأيوبية والأكراد الجوزقان فنهبوا وقتلوا وخرج إليهم والي إربل مستمداً أهلها وعساكر الموصل فلم يدركوهم فعادوا وبقيت البلاد قاعاً صفصفاً‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:43 PM

التعريف بجنكز خان
وقسمة الأعمال بين ولده وانفراده بالكرسي في قراقوم وبلاد الصين هذا السلطان جنكز خان هو سلطان التتر لعهده ثم من المغل أحد شعوبهم وفي كتاب لشهاب الدين بن فضل الله أنه من قبيله أشهر قبائل المغل وأكبرهم وزايه التي بين الكاف والخاء ليست صريحة وإنما هي مشتملة بالصاد فينطق بها بين الصاد والزاي‏.‏ وكان اسمه تمرجين ثم أصاروه جنكز وخان تمام الاسم وهو بمعنى الملك عندهم‏.‏ وأما نسبته فهي هكذا جنكز بن بيسوكي بن بهادر ابن تومان برتيل خان بن تومينه بن باد سنقر بن تيدوان ديوم بن بقا بن مودنجه إحدى عشر اسماً أعجمياً صعبة الضبط وهذا منحاها‏.‏ وفي كتاب ابن فضل الله فيما نقله عن شمس الدين الأصفهاني أمام المعقولات بالمشرق أخذها عن أصحاب نظير الدين الطوسي قال إن مودنجه اسم امرأة وهي جدتهم من غير أب‏.‏ قالوا وكانت متزوجة وولدت ولدين اسم أحدهما بكتوت والآخر بلكتوت ويقال لولدها بنو الدلوكية‏.‏ ثم مات زوجها وتأيمت وحملت وهي أيم فنكر عليها قرباؤها فذكرت أنها رأت بعض الأيام نوراً دخل في فرجها ثلاث مرات وطرأ عليها الحمل بعده‏.‏ وقالت لهم إن في حملها ثلاثة ذكور فإن صدق ذلك عند الوضع وإلا فافعلوا ما بدا لكم‏.‏ فوضعت ثلاثة توائم من ذلك الحمل فظهرت براءتها بزعمهم اسم أحدهم برقد والآخر قونا والثالث نجعو وهو جد جنكز خان الذي في عمود نسبه كما مر وكانوا يسمونهم النورانيين نسبة إلى النور الذي ادعته‏.‏ ولذلك وأما أوليته فقال يحيى بن أحمد بن علي النسابي كاتب جلال الدين خوارزم شاه في تاريخ دولته إن مملكة الصين متسعة ودورها مسيرة تسعة أشهر وهي منقنسمة من قديم الزمان على تسعة أجزاء كل جزء منها مسيرة شهر‏.‏ ويتولى ملك كل جزء منها ملك يسمى بلغتهم خان ويكون نائباً على الخان الأعظم‏.‏ قال وكان الأعظم الذي عاصر خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش يقال له طرخان توارثها عن آبائه وكان مقيماً بطوغاج وهي وسط الصين‏.‏ وكان جنكز خان من أولئك الخانات الستة وكان من كان البدو ومن أهل النجدة والشرف وكان مشتاه فارعون من بلاد الصين‏.‏ وكان من خانتهم أيضاً ملك آخر اسمه دوشي خان كان متزوجاً بزوجة جنكز خان واتفقت وفاته فحضر جنكز خان يوم وفاة زوجها دوشي خان فولته مكانه وحملت قومها على طاعته‏.‏ وبلغ الخبر إلى الخان الأعظم طرخان فنكر ذلك وزحف إليهم فقاتلوه وهزموه وغلبوه على أثر بلاده‏.‏ ثم صالحهم عليها وأقام متغلباً‏.‏ ثم مات بقية الخانات الستة وانفرد جنكز خان بأمرهم جميعاً وأصبح ملكهم وكان بينه وبين خوارزم شاه من الحروب ما قدمناه‏.‏ وفي كتاب ابن فضل الله محكياً عن الصاحب علاء الدين عطاء وحدثه به قال كان ملك عظيم من التتر في قبيلة عظيمة من قبائلهم يدعى أزبك خان وكان مطاعاً في قومه فاتصل به جنكز خان فقربه واستخلصه ونافسه قرابة السلطان وسعوا به عنده حتى استفسدوه عليه وطوى له وتربص به‏.‏ وسخط أزبك خان على مملوكين عنده فاستجار بجنكز خان فأجارهما وضمن لهما أمانه وأطلعاه على رأي السلطان فيه فاستوحش وحذر وثبة السلطان فأجفل أمامه واتبعه السلطان في عساكره‏.‏ فلما أدركه كر عليه جنكز خان فهزمه وغنم سواده وما معه‏.‏ ثم استمرت العداوة وانتبذ عن السلطان واستألف العساكر والأتباع وأفاض فيهم الإحسان فاشتدت شوكته ودخل في طاعته قبيلتان عظيمتان من المغل وهما أورات ومنفورات فعظمت جموعه وأحسن إلى المملوكين اللذين حذراه من أزبك خان ورفع رتبتهما وكتب لهما العهود بما اختاراه وكتب فيها أن يستمر ذلك لهما إلى تسعة بطون من أعقابهما‏.‏ ثم جهز العساكر لحرب أزبك خان فهزمه وقتله واستولى على مملكة التتر بأسرها‏.‏ ولما توطأ أمره تسمى جنكز خان وكان اسمه تمرجين كما مر‏.‏ وكتب لهم كتاباً في السياسة في الملك والحروب والأحكام العامة شبه أحكام الشرائع‏.‏ وأمر أن يوضع في خزانته وأن تختص بقرابته ولم يكن يؤتى بمثله وإنما كان دينه ودين آبائه وقومه المجوسية حتى ملكوا الأرض واستفحلت دولتهم بالعراق والشمال وما وراء النهر وأسلم من ملوكهم من هداه الله للإسلام كما نذكره إن شاء الله تعالى فلخلوا في عداد ملوك الإسلام إلى أن وأما ولده فكثير وهو الذي يقتضيه حال بداوته وعصبيته إلا أن المشهور منهم أربعة أولهم دوشي خان ويقال جرجي وثانيهم جفطاي ويقال كداي وثالثهم أوكداي ويقال أوكتاي ورابعهم طولي بين التاء والطاء‏.‏ والثلاثة الأول لأم واحدة وهي أوبولي بنت تيكي من كبار المغل‏.‏ وعد شمس الدين الأصفهاني الأربعة فقال جرجي وكداي وطولي وأوكداي‏.‏ وقال نظام الدين يحيى بن الحليم نور الدين عبد الرحمن الصيادي كاتب السلطان أبي سعيد فيما نقله عنه شهاب الدين بن فضل الله إن كداي هو جفطاي وجرجي هو طوشي‏.‏ فلما ملك جنكز خان البلاد قسم الممالك فكان لولده طوشي بلاد فيلاق إلى بلغار وهي دست القفجاق وأضاف إليه أران وهمذان وتبريز ومراغه وعيرلان وكتاي حدود آمد وقوباق وما أدري تفسير هذه وجعله ولي عهده‏.‏ وعين لجفطاي من الأيقور إلى سمرقند وبخارى وما وراء النهر ولم يعين لطولي سيئاً‏.‏ وعين لأخيه أوتكين نوى بلاد أبخت ولا أدري معنى هذا الاسم‏.‏ ولما استفحل ملكه واستولى على هذه الممالك جلس على التخت وانتقل إلى وطنه القديم بين الخطا والأيقور وهي تركستان وكاشغر‏.‏ وفي ذلك الوطن مدينة قراقوم وبها كان كرسيه ومكانه بين أعمال ولده مكان المركز من الدائرة وكان كبير ولده طوشي ويقال دوشي ومات في حياته وخلف من الولد ناخوا وبركة وداوردة وطوفل هكذا قال ابن الحكيم‏.‏ وقال شمس الدين ناظو وبركة فقط‏.‏ ومات طولي أيضاً في حياته في حربه مع جلال الدين خوارزم شاه بنواحي غزنة وخلف من الولد منكو قبلاي وأزبيك وهلاكو‏.‏ والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم‏.‏

ملوك التخت بقراقوم من بعد جنكز خان
قال ابن فضل الله ولما هلك جنكز خان استقل أوكداي بالتخت وبدست القفجاق وما معه وكان أصغر ولده‏.‏ وانتقل إلى قراقوم بمكانهم الأصلي فأعطى وقراياق التي كانت بيده لابنه كغود ولم يتمكن كداي وهو جفطاي من مملكة ما وراء النهر ونازع ناظو بن دوشي خان في أران وهمذان وتبريز ومراغة وبعث أميراً من أمرائها لحمل أموالها والقبض على عماله بها‏.‏ وقد كان ناظو كتب إليهم بالقبض على ذلك الأمير فقبضوا عليه وحملوه إلى ناظو فطحنه‏.‏ وبلغ ذلك إلى كغود فسار إلى ناظو في ستمائة ألف من العساكر‏.‏ وهلك قبل أن يصل إليه بعشر مراحل فبعث القوم إلى ناظو أن يكون صاحب التخت فأبى وجعله لأخيه منكوفان بن طولي وبعثه إليه وأخويه معه قبلاي وهلاكو وبعث معهم أخاه بركة بن طولي في مائة ألف من العساكر ليجلسه على التخت‏.‏ فلما عاد من بخارى لقي الشيخ شمي الدين الباخوري من أصحاب نجم الدين كبير الصوفية فأسلم على يده وتأكدت صحبته معه وحرضه على التمسك بطاعة الخليفة وترددت الرسل بينه وبين المعتصم وتأكدت الموالاة واستقل منكوفان بالتخت وولى جفطاي عمه على ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكز خان لأبيهم التي مات دونها‏.‏ ووفد عليه جماعة من أهل قزوين وبلاد الجبل يشكون ما نزل بهم من ضرر الإسماعيلية وفسادهم فجهز أخاه هلاكو لقتالهم واستئصال قلاعهم فمضى لذلك وحسن لأخيه منكوفان الاستيلاء على أعمال الخليفة فأذن له فيه وبلغ ذلك بركة فنكره على أخيه ناظو الذي ولى منكوفان لما كان بين بركة والمعتصم من الولاية والوصلة بوصية الشيخ الباخوري فبعث ناظو إلى أخيه هلاكو بالنهي عن ذلك وأن لا يتعدى مكانه‏.‏ وبلغته رسل ناظو بذلك وهو فيما وراء النهر قبل أن يفصل بالعساكر فأقام سنين امتثالاً لأمره حتى مات ناظو وتولى بركة مكانه فاستأذن أخاه منكوفان ثانية وسار لقصد الملاحدة وأعمال الخليفة فأوقع بالملاحدة وفتح قلاعهم واستلحمهم وأوقع بأهل همذان واستباحهم لميلهم إلى بركة وأخيه ناظو‏.‏ ثم سار إلى بركة بدست القفجاق فزحف إليه بركة في جموع لا تحصى والتقيا واستمر القتل في أصحاب هلاكو وهم بالهزيمة‏.‏ ثم حال نهر الكر بين الفريقين وعاد هلاكو في البلاد واستحكمت العداوة بينهما‏.‏ وسار هلاكو إلى بغداد فكانت له الواقعة المشهورة كما مر ويأتي في أخبار دولته إن شاء الله تعالى‏.‏ وفي كتاب ابن فضل الله فيما نقله عن شمس الدين الأصفهاني أن هلاكو لم يكن مستقلاً بالملك وإنما كان نائباً عن أخيه منكوفان‏.‏ ولا ضربت السكة باسمه ولا ابنه أبغا وإنما ضربها منهم أرغو حين استقل فجعل اسمه في السكة مع اسم صاحب التخت قال وكان شحنة صاحب التخت لا يزال ببغداد إلى أن ملك قازان فطرد الشحنة وأفر اسمه في السكة‏.‏ وقال ما ملكتب البلاد إلا بسيفي وبيت جنكز خان يرون أن بني هلاكو إنما كانوا ثواراً وجنكز خان لم يملك طولي شيئاً وإن أخاه منكوفان الذي ولاه عليها إنما بعثه نائباً مع أن منكوفان إنما ولاه ناظو ابن دوشي خان كما مز‏.‏ قال ونقل عن ثقاة أنه لم يبق هلاكو من يحقق نسبة لكثرة ما وقع فيهم من القتل غيرة على الملك ومن نجا طلب الاختفاء بشخصه فخفي نسبه إلا ما قيل في محمل المنسوب إلى بحرحى‏.‏ قال شمس الدين الأصفهانى ونقله عن أمير كبير منهم أن أول من استقل بالتخت جنكز خان ثم ابنه أوكداي ثم أنه كفود بن أوكداي ثم منكوفان بن طولي ثم أخوه أربيكان ثم أخوهما قبلاي ثم دمرفاي ويقال تمرفاي‏.‏ ثم تربى كيزي ثم كيزقان ثم سندمر دقان بن طرمالا بن جنكمر بن قبلاي بن طولي انتهى كلام ابن فضل الله‏.‏ وعن غيره أن منكوفان جهز عساكر التتر أيام ملكه على التخت إلى بلاد الروم سنة مع أمير من أمراء المغل اسمه بيكو فملكها من يد بني قليج أرسلان كما هو مذكور في أخبارهم فأقامت في طاعة القان إلى أن انقرض أمر المغل منها‏.‏ ثم بعث منكوفان العساكر لغزو بلاد الخطا مع أخيه قبلاي بعد أن عهد له بالخانية‏.‏ ثم سار على أثره بنفسه واستخلف أخاه الآخر أزبك على كرسي قراقوم وهلك منكوفان في طريقه ذلك على نهر الطاي من بلاد الغور سنة ثمان وخمسين فجلس أزبك على التخت وعاد قبلاي من بلاد الخطا فزحف إليه أزبك فهزمه إلى بعض النواحي واستأثر بالغنائم عن أخوته وقومه فمالوا إلى قبلاي واستدعوه فجاء وقاتل أخاه أزبك فغلبه وتقبض عليه وحبسه واستقر في الغانية‏.‏ وبلغ الخبر إلى هلاكو وهو في الشام عندما استولى عليه فرجع لما كان يؤمله من الغانية‏.‏ ولما انتهى إلى جيحون بلغه استقلال أخيه قبلاي في الغانية وتبين له عجزه عنه فسالمه وقنع بما في يده ورجع إلى العراق‏.‏ ثم نازع قبلاي في الغانية لآخر دولته سنة سبع وثمانين بعض بني أوكداي صاحب التخت الأول وهو قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي‏.‏ ونزع إليه بعض أمراء قبلاي وزينوا له ذلك فسار له وبعث قبلاي العساكر للقائه مع ابنه تمقان فهزمه قيدو ورجع منهزماً إلى أبيه فسخطه وطرده إلى بلاد الخطا مات هنالك‏.‏ وسلط قبلاي على قيدو وكان غلب على ما وراء النهر براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي من بني جفطاي ملوك ما وراء النهر بوصية أبيهم جنكز خان فغلبه براق واستولى على ما وراء النهر‏.‏ ثم هلك قبلاي صاحب التخت سنة ثمان وثمانين وملك ابنه سرتموق‏.‏ هذا ما انتهى إلينا من أخبار ملوك التخت بقراقوم من بني جنكزخان ولم نقف على غيرها‏.‏ والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:44 PM

ملوك بني جفطاي بن جنكزخان بتركستان وكاشغر وما وراء النهر
هذا الإقليم هو مملكة الترك الأولى قبل الإسلام وأسلم ملوكهم على تركستان وكاشغر فأقاموا بها‏.‏ وملك بنو سامان نواحي بخارى وسمرقند واستبدوا ومنها كان ظهور السلجوقية والتتر من بعدهم‏.‏ ولما استولى جنكزخان على البلاد أوصى بهذه المملكة لابنه جفطاي ولم يتم ذلك في حياته‏.‏ ومات جفطاي دونه فلما ولي منكوفان بن طولي على التخت ولى أولاد جفطاي عمه على ما وراء النهر إمضاء لوصيه جنكزخان لأبيهم التي مات دونها وولى منكوفان‏.‏ فلما هلك ولى أخوه هلاكو ابنه مبارك شاه‏.‏ ثم غلب عليهم قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي بن جنكز خان وانتزع ما وراء النهر من أيديهم وكان جده كفوك صاحب التخت‏.‏ وبعده ولى منكوفان‏.‏ فلما ولي قيدو نازع صاحب التخت يومئذ وهو قبلاي وكانت بينهما حروب وأعان قبلاي في خلالها بني جفطاي على استرجاع ملكهم‏.‏ وولي منهم براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي وأمده بالعساكر والأموال فغلب قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي بن ثم هلك فولي من بعده دوا ثم من بعد دوا بنون له أربعة واحداً بعد واحد وهم كجك ثم اسعا ثم كبك ثم انجكداي‏.‏ ثم ولي بعد الأربعة دواتمر ثم ترماشين ثم توزون بن أوما كان ابن منكوفان بن جفطاي وتخلل هؤلاء من توثب على الملك ولم ينتظم له مثل سيساور بن أركتم بن بغاتمر بن براق ولم يزل ملكهم بعد ترماشين مضطرباً إلى أن ملك منهم جنقصو بن دواتمر بن حلو بن براق بن سنتف كانوا كلهم على دين المجوسية وخصوصاً دين جنكز خان وعبادته الشمس‏.‏ وكان فيما يقال على دين النجشية فكان بنو جفطاي يعضون عليها بالنواجذ ويتبعون سياسته مثل أصحاب التخت‏.‏ فلما صار الملك إلى ترماشين منهم أسلم رحمه الله سنة خمس وعشرين وسبعمائة وجاهد وأكرم التجار المترددين‏.‏ وكانت تجار مصر ممنوعين من بلاده فلما بلغهم ذلك قصدوها فحمدوها‏.‏ ولما انقرضت دول بني جنكزخان وتلاشت في جميع النواحي ظهر في أعقاب دولة بني جفطاي هؤلاء بسمرقند وما وراء النهر ملك اسمه تمر ولا أدري كيف كان يتصل نسبه فيهم ويقال أنه من غير نسبهم وإنما هو متغلب على صبي من أعقاب ملوكهم اسمه طغتمش أو محمود درج اسمه بعد مهلك أبيه واستبد عليه وإنه من أمرائهم‏.‏ وأخبرني من لقيته من أهل الصين أن أباه أيضاً كان في مثل مكانه من الإمارة والاستبداد وما أدري أهو طينة في نسب جفطاي أو من أحلافهم واتباعهم‏.‏ وأخبرني الفقيه برهان الدين الخوارزمي وهو من علماء خوارزم وأعيانها قال كان لعصره وأول ظهوره ببخارى رجل يعرف بحسن من أمراء المغل وآخر بخوارزم عن ملوك صراي أهل التخت يعرف بالحاج حسن الصوفي تهيأ وزحف إلى بخارى فملكها من يد حسن ثم إلى خوارزم وطالت حروبه مع الحاج حسن الصوفي وحاصرها مراراً‏.‏ وهلك حسن خلال ذلك وولي أخوه يوسف فملكها تمر من يده وخربها في حصار طويل‏.‏ ثم كلف بعمارتها بناء ما خرب منها وانتظم له الملك بما وراء النهر ونزل قجارى‏.‏ ثم زحف إلى خراسان فملك هراة من يد صاحبها وأظنه من بقايا ملوك الغورية‏.‏ ثم زحف إلى مازندان وطال تمرسه وحروبه مع صاحبها الشيخ ولي إلى أن ملكها عليه سنة أربع وثمانين‏.‏ ولحق الشيخ ولي بتوريز إلى أن ملكها تمر سنة ثمان وثمانين فهلك في حروبه معها‏.‏ ثم زحف إلى أصفهان فآتوه طاعة ممرضة وخالفه في قومه كبير من أهل نسبه يعرف بمعمر الدين وأمد طغطمش صاحب التخت بصراي فكر راجعاً وشغل بحربه إلى أن غلبه ومحا أثره‏.‏ وغلب طغطمش على ما بيده من البلاد‏.‏ ثم زحف إلى بغداد سنة خمس وتسعين فأجفل عنها ملكها أحمد بن أويس بن الشيخ حسن المتغلب عليه بعد بني هلاكو فلحق أحمد ببر الشام سنة ست وتسعين واستولى تمر على بغداد والجزيرة وديار بكر إلى الفوات‏.‏ واستعد ملك مصر للقائه ونزل الفرات فأحجم عنه وتأخر عنه إلى قلاع الأكراد وأطراف بلاد الروم وأناخ على قراباغ ما بين أذربيجان والأبواب ورجع خلال ذلك طغطمش صاحب التخت إلى صراي وملكه فسار إليه تمر أول سنة سبع وتسعين وغلبه على ملكه وأخرجه عن سائر ممالكه ثم وصل الخبر آخر السنة بظفره بطغطمش وقتله إياه واستيلائه على جميع أعماله والحال على ذلك لهذا العهد والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏ وفي خبر العجم أن ظهوره سنة عذب يعنون سنة اثنين وسبعين وسبعمائة بحساب الجمل في حروف هذه اللفظة‏.‏ والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه‏.‏

الخبر عن ملوك بني دوشي حان من التتر
ملوك خوارزم ودست القفجاق ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدم لنا أن جنكزخان عين هذه البلاد لابنه دوشي خان وملكه عليها وهي مملكة متسعة في الشمال آخذة من خوارزم إلى ناركند وصفد وصراي إلى مدينة ماجري وأران وسرادق وبلغار وباشقرد وجدلمان وفي حدود هذه المملكة مدينة باكو من مدن شروان وعندها باب الحديد ويسمونه دمرقفو وتمر حدود هذه المملكة في الجنوب إلى حدود القسطنطينية وهي قليلة المدن كثيرة العمارة والله تعالى أعلم‏.‏ وأول من وليها من التتر دوشي خان فلم يزل ملكاً عليها إلى أن هلك كما مر‏.‏ ناظو خان بن دوشي خان ولما هلك دوشي خان ولي مكانه ابنه ناظو خان ويقال صامر خان ومعناه الملك المغير فلم يزل ملكاً عليها إلى أن هلك سنة خمسين وستمائة‏.‏ طرطو بن دوشي خان ولما هلك ناظو ولي أخوه طرطو فأقام ملكاً سنتين وهلك سنة اثنتين وخمسين‏.‏ ولما هلك ولي مكانه أخوه بركة‏.‏ هكذا نقل ابن فضل الله عن ابن الحكيم‏.‏ وقال المؤيد صاحب حماة في تاريخه أنه لما هلك طرطو هلك من غير عقب وكان لأخيه ناظوخان ولدان وهما تدان وبركة وكان مرشحاً للملك فعدل عنه أهل الدولة وملكوا أخاه بركة‏.‏ وسارت أم تدان إلى هلاكو عندما ملك العراق تستحثه لملك قومها فردوها من الطريق وقتلوها واستمر بركة في سلطانه انتهى‏.‏ فنسب المؤيد بركة إلى ناظوخان بن دوشي خان وابن الحكيم على ما نقل ابن فضل الله جعله ابن دوشي خان نفسه‏.‏ وذكر المؤيد قصة إسلامه على يد شمس الدين الباخوري من أصحاب نجم الدين وأن الباخوري كان مقيماً ببخارى وبعث إلى بركة يدعوه إلى الإسلام فأسلم وبعث إليه كتابه بإطلاق يده في سائر أعماله بما شاء فرده عليه وأعمل بركة الرحلة إلى لقائه فلم يأذن له في الدخول حتى تطارح عليه أصحابه وسهلوا الإذن لبركة فدخل وجدد الإسلام‏.‏ وعاهده الشيخ على إظهاره الإسلام وأن يحمل عليه سائر قومه فحملهم واتخذ في جميع بلاده المساجد والمدارس وقرب العلماء والفقهاء ووصلهم‏.‏ وسياق القصة على ما ذكره المؤيد يدل على أن إسلامه كان أيام ملكه‏.‏ وعلى ما ذكر بن الحكيم أن إسلامه كان أيام أخيه ناظو ولم يذكر ابن الحكيم طرطو وإنما ذكر بعد ناظو أخاه بركه‏.‏ ولم نقف على تاريخ لدولتهم حتى يرجع إليه وهذا ما أدى إليه الاجتهاد‏.‏ وما بعدها مأخوذ من تاريخ المؤيد صاحب حماة من بني المظفر ابن شاهنشاه بن أيوب قال ثم بعث بركة أيام سلطانه أخاه ناظو إلى ناحية الغرب للجهاد وقاتل ملك اللمان من الإفرنج فانهزم ورجع ومات أسفاً‏.‏ ثم حدثت الفتنة بين بركة وبين قبلاي صاحب التخت وانتزع بركة الخاقانية من أعمال قبلاي وولى عليها سرخاد ابن أخيه ناظو وكان على دين النصرانية‏.‏ وداخله هلاكو في الانتقاض على عمه بركة إلى أخيه قبلاي صاحب التخت ويقطعه الخاقانية وما يشاء معها‏.‏ وشعر بركة بشأنه وأن سرخاد يحاول قتله بالسم فقتله‏.‏ وولى الخاقانية أخاه مكانه وأقام هلاكو طالباً بثأر سرخاد ووقعت الحرب بينه وبين بركة على نهر آمد سنة ستين‏.‏ ثم هلك هلاكو سنة ثلاث وستين‏.‏ وولى ابنه أبغا فسار إلى حربه وسرح بركة للقائه سنتاي بن بانيضان بن جفطاي ونوغيثة بن تتر بن مغل بن دوشي خان‏.‏ فلما التقى الجمعان أحجم سنتاي ورجع منهزماً وانهزم أبغا أمام نوغيثة وأثخن في عساكره‏.‏ وعظمت منزلة نوغيثة عند بركة وسخط بركة سنتاي وساءت منزلته عنده إلى أن هلك بركة سنة خمس وستين‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:45 PM

منكوتمر ين طغان بن ناظو خان
ولما هلك بركة ملك الدست بالشمال ملك مكانه منكوتمر بن طغان بن ناظو خان ين دوشي خان وطالت أيامه وزحف سنة سبعين إلى القسطنطينية لجدة وجدها على الأشكر ملكها فتلقاه بالخضوع والرغبة ورجع عنه‏.‏ ثم زحف سنة ثمانين إلى الشام في مظاهرة أبغا بن هلاكو ونزل بين قيسارية وابلستين من بلاد الروم‏.‏ ثم أجاز الدربند ومر بابغا وهو منازل الرحبة وتقدم مع أخيه منكوتمر بن هلاكو إلى حماة فنازلوها وزحف إليهم المنصور قلاوون ملك مصر والشام من دمشق ولقيهم بظاهر حمص‏.‏ وكانت الدائرة على ملوك التتر‏.‏ وهلك خلق من عساكرهم وأسر آخرون وأجفل أبغا من منازلة الرحبة ورجعوا إلى بلادهم منهزمين‏.‏ وهلك على أثر ذلك منكوتمر ملك الشمال ومنكوتمر بن هلاكو سنة إحدى وثمانين‏.‏ ولما هلك منكوتمر ملك مكانه ابنه تدان وجلس على كرسي ملكهم بصراي فأقام خمس سنين‏.‏ ثم ترهب وخرج عن الملك سنة ست وثمانين وانقطع إلى صحبة المشايخ الفقراء‏.‏ ولما ترهب تدان بن منكوتمر وخرج عن الملك ملك مكانه أخو قلابغا وأجمع على غزو بلاد الكرك‏.‏ واستنفر نوغيثة بن تتر بن مغل بن دوشي خان وكان حاكماً على طائفة من بلاد الشمال وله استبداد على ملوك بني دوشي خان فنقر معه في عساكره وكانت عظيمة‏.‏ ودخلوا جميعاً بلاد الكرك وأغاروا عليها وعاثوا في نواحيها وفصلوا منها‏.‏ وقد تمكن فصل الشتاء وملك السلطان مسافة اعتسف فيها البيداء وهلك أكثر عساكره من البرد والجوع وأكلوا دوابهم‏.‏ وسار نوغيثه من أقرب المسالك فنجا إلى بلاده سالماً من تلك الشدة فاتهمه السلطان قلابغا بالادهان في أمره وكان ينقم عليه استبداده حتى إنه قتل امرأة كنجك وكانت متحكمة في أيام أبيه وأخيه وشكت إلى نوغيثة فأمر بقتلها خنقاً وقتل أميراً كان في خدمتها اسمه بيطرا فتنكر له قلابغا وأجمع الفتك به وأرسل يستدعيه لما طوى له عليه‏.‏ ونمي الخبر بذلك إلى نوغيثة فبالغ في إظهار النصيحة والإشفاق على السلطان وخاطب أمه بأن عنده نصائح يود لو ألقاها إلى السلطان في خلوة فثنت ابنها عن رأيه فيه وأشارت عليه باستدعائه والاطلاع على ما عنده‏.‏ وجاء فوغيثة وقد بعث عن جماعة من أخوة السلطان قلابغا كانوا يميلون إليه ومنهم طغطاي وبولك وصراي وتدان بنو منكوتمر بن طغان فجاؤوا معه وقد توقفوا لما هجم السلطان قريغا وركب للقاء نوغيثة في لمة من عسكره وجاء نوغيثة وقد أكمن له طائفة من العسكر فلما التقيا تحادثا ملياً وخرج الكمناء وأحاطوا بالسلطان وقتلوه سنة تسعين وستمائة وأقبل طغطاي بن منكوتمر‏.‏ ولما قتل قلابغا ولوا مكانه طغطاي لوقته ورجع نوغيتة إلى بلاده‏.‏ وبعث إلى طغطاي في قتل الأمراء الذين داخلوا قلابغا في قتله فقتلهم طغطاي أجمعين‏.‏ ثم تنكر طغطاي لنوغيثه لما كان عليه من الاستبداد وأنف طغطاي منه وأظلم الجو بينهما‏.‏ واجتمع أعيان الدولة إلى نوغيثة فكان يوغر صدرهم على طغطاي وأصهر إلى طاز بن منجك منهم بابنته فسار إليه ولقيه نوغيثة فهزمه واعترضه نهر مل فغرق كثير من عسكره ورجع نوغيثة عن اتباعه‏.‏ واستولى على بلاد الشمال وأقطع سبطه قراجا بن طشتمر سنة ثمان وسبعين مدينة القرم‏.‏ وسار إليها لقبض أموالها فأضافوه وبيتوه وقتلوه من ليلته‏.‏ وبعث نوغيثة العساكر إلى القرم فاستباحوها وما يجاورها من القرى والضياع وخرب سائرها‏.‏ وكان نوغيثة كثير الإيثار لأصحابه فلما استبد بأمره آثر ولده على الأمراء الذين معه وأحسوا عليهم‏.‏ وكان رديفه من ملك المغل أياجي بن قرمش وأخوه قراجا‏.‏ فلما آثر ولده عليهما نزعا إلى طغطاي في قومهما وسار ولد نوغيثة في اتباعهما فرجع بعضهم واستمر الباقون وقتل ولد نوغيثة من رجع معه من أصحاب أياجي وقراجا وولدهم فامتعض لذلك أمراء المغل الذين معه ولحقوا بطغطاي واستحثوه لحرب نوغيثة فجمع‏.‏ وسار إليه سنة تسع وتسعين بكو كان لك فانهزمت عساكر نوغيثة وولده‏.‏ وقتل في المعركة وحمل رأسه إلى طغطاي فقتل قاتله وقال السوقة لا تقتل الملوك‏.‏ واستبيح معسكر نوغيثة وبيع سباياهم وأسراهم في الأقطار وكان بمصر منهم جماعة استرقوا بها وانتظموا في ديوان جندها‏.‏ ولما هلك نوغيثة خلفه في أعماله ابنه جكك وانتقض عليه أخوه فقتله فاستوحش لذلك أصحابه وأجمعوا الفتك به‏.‏ وتولى لك نائبه طغرلجاي وصهره على أخته طاز بن منجك‏.‏ ونمي الخبر بذلك إليه وهو في بلاد اللاز والروس غازياً فهرب ولحق ببلاده‏.‏ ثم لحق به عسكره فعاد إلى حربهم وغلبهم على البلاد‏.‏ ثم أمدهما طغطاي على جكا بن نوغيثة فانهزم ولحق ببلاد أولاق وحاول الامتناع ببعض القلاع من بلاد أولاق وفيها صهره فقبض عليه صاحب القلعة واستخدم بها لطغطاي فأمره بقتله سنة إحدى وسبعمائة‏.‏ ونجا أخوه طراي وابنه قراكسك شريدين‏.‏ وخلا الجو لطغطاي من المنازعين والمخالفين واستقرت في الدولة قدمه وقسم أعماله بين أخيه صراي بغا وبين ابنيه‏.‏ وأنزل منكلي بغا من ابنيه في عمل نهرطنا مما يلي باب الحديد‏.‏ ثم رجع صراي بن نوغيثة من مقره واستذم بصراي بغا أخي طغطاي فأذمه وأقام عنده‏.‏ فلما أنس به كشف له القناع عما في صدره واستهواه للانتقاض على أخيه طغطاي وكان أخوهما أزبك أكبر منه وكان مقيماً عند طغطاي فركب إليه صراي بغا ليفاوضه في الشأن فاستعظمه وأطلع عليه أخاهما طغطاي فأمره لوقته بإحضار أخيه صراي بغا وصراي بن نوغيثة وقتلهما واستضاف عمل أخيه صراي بغا لابنه إيل بهادر‏.‏ ثم بعث في طلب قراكسك بن نوغيثة فأبعد في ناحية الشمال واستذم ببعض الملوك هنالك‏.‏ ثم هلك سنة تسع وسبعمائة أخوه بذلك وابنه إيل بهادر وهلك طغطاي بعدهما سنة اثنتي عشرة والله تعالى أعلم‏.‏


أزبك بن طغرلجاي بن منكوتمر
ولما هلك طغطاي بايع نائبه قطلتمر لأزبك ابن أخيه طغرلجاي بإشارة الخاتون تنوفالون زوج أبيه طغرلجاي وعاهده على الإسلام فأسلم واتخذ مسجداً للصلاة‏.‏ وأنكر عليه بعض أمرائه فقتله وتزوج الخاتون بثالون وكانت المواصلة بين طغطاي وبين ملوك مصر‏.‏ ومات طغطاي ورسله عند الملك الناصر محمد بن قلاوون فرجعوا إلى أزبك مكرمين وجدد أزبك الولاية معه وحببه قطلتمر في بعض كرائمهم يرغبه وعين له بنت بذلك أخي طغطاي وتكررت الرسالة في ذلك إلى أن تم الأمر وبعثوا بكريمتهم المخطوبة إلى مصر فعقد عليها الناصر وبنى بها كما مر في أخباره‏.‏ ثم حدثت الفتنة بين أزبك وبين أبي سعيد ملك التتر بالعراق من بني هلاكو وبعث أزبك عساكره إلى أذر بيجان‏.‏ وكان بنو دوشي يدعون أن توريز ومراغة لهم وأن القان لما بعث هلاكو لغزو بلاد الإسماعيلية وفتح بغداد استكثر من العساكر وسار معه عسكر أهل الشمال هؤلاء وقررت لهم العلوفة بتوريز‏.‏ ولما مات هلاكو طلب بركة من ابنه أبغا أن يأذن له في بناء جامع تبريز ودار لنسج الثياب والطرز فأذن له فبناهما وقام بذلك‏.‏ ثم اصطلحوا وأعيدت فادعى بنو دوشي خان أن توريز ومراغة من أعمالهم ولم يزالوا مطالبين بهذه الدعوة‏.‏ فلما وقعت هذه الفتنة بين أزبك وأبي سعيد افتتح أمره بغزو موقان فبعث العساكر إليها سنة تسع عشرة فاكتسحوا نواحيها ورجعوا‏.‏ وجمع جوبان على دولته وتحكمه في بني جنكز خان وإنه يأنف أن يكون براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي ملكاً على خوارزم فأغزاه أزبك فملك خراسان وأمده بالعساكر مع نائبه قطلتمر وسار سيول لذلك‏.‏ وبعث أبو سعيد نائبه جوبان لمدافعتهما فلم يطق وغلب سيول على كثير من خراسان وصالحه جوبان عليها‏.‏ وهلك سيول سنة عشرين‏.‏ ثم عزل أزبك نائبه قطلتمر سنة إحدى وعشرين وولى مكانه عيسى كوكز ثم رده سنة أربع وعشرين إلى نيابته‏.‏ ولم تزل الحرب متصلة بين أزبك وأبي سعيد إلى أن هلك أبو سعيد سنة ست وثلاثين ثم هلك القان في هذه السنة‏.‏ ولما هلك أزبك بن طغرلجاي ولي مكانه ابنه جاني بك وكان أبو سعيد قد هلك قبله كما قلناه ولم يعقب‏.‏ وولي مكانه على العراق الشيخ حسن من أسباط أبغا بن هلاكو‏.‏ وافترق الملك في عمالاتهم طوائف وردد جاني بك العساكر إلى خراسان إلى أن ملكها سنة ثمان وخمسين‏.‏ ثم زحف إلى أذربيجان وتوريز وكان قد غلب عليها الشيخ الصغير ابن دمرداش بن جوبان وأخوه الأشرف من بعده كما يذكر في أخبارهم إن شاء الله تعالى‏.‏ فزحف جاني بك في العساكر إلى أذربيجان بتلك المطالبة التي كان سلفه يدعون بها فقتل الأشرف واستولى على توريز وأذربيجان وانكفأ راجعاً إلى خوزستان بعد أن ولي على توريز ابنه بردبيك واعتل جاني بك في طريقه ومات‏.‏ بردبيك بن جاني ولما اعتل جاني في ذهابه من توريز إلى خراسان طير أهل الدولة الخبر إلى ابنه بردبيك وقد استخلفه في توريز فولى عليها أميراً من قبله وأغذ السير إلى قومه ووصل إلى صراي وقد هلك أبوه جاني فولوه مكانه واستقل بالدولة‏.‏ وهلك لثلاث سنين من مهلكه‏.‏

ماماي المتغلب على مملكة هراي
ولما هلك بردبيك خلف ابنه طغطمش غلاماً صغيراً وكانت أخته بنت بردبيك تحت كبير من أمراء المغل اسمه ماماي وكان متحكماً في دولته‏.‏ وكانت مدينة المقرم من ولايته وكان يومئذ غائباً بها وكان جماعة من أمراء المغل متفرقين في ولايات الأعمال بنواحي صراي ففرقوا الكلمة واستبدوا بأعمالهم فتغلب حاجي شركس على ناحية منبج طرخان وتغلب أهل خان على عمله وأيبك خان كذلك وكانوا كلهم يسمون أمراء المسيرة‏.‏ فلما هلك بردبيك وانقرضت الدولة واستبد هؤلاء في النواحي خرج ماماي إلى القرم ونصب صبياً من ولد أزبك القان اسمه عبد الله وزحف به إلى صراي فهرب منها طغطمش ولحق بمملكة أرض خان في ناحية جبال خوارزم إلى مملكة بني جفطاي بن جنكزخان في سمرقند وما وراء النهر والمتغلب عليها يومئذ السلطان تمر من أمراء المغل وقد نصب صبياً منهم اسمه محمود وطغطمش وتزوج أمه واستبد عليه فأقام طغطمش هناك‏.‏ ثم تنافس الأمراء المتغلبون على أعمال صراي وزحف حاجي شركس صاحب عمل منج طرخان إلى ماماي فغلبه على صراي فملكها من يده‏.‏ وسار ماماي إلى القرم فاستبد بها‏.‏ ولما زحف حاجي شركس من عمله بعث أرض خان عساكره من نواحي خوارزم فحاصروا منج طرخان وبعث حاجي العساكر إليهم مع بعض أمرائه فأعمل الحيلة حتى هزمهم عن منج طرخان وفتك بهم وبالأمير الذي يقودهم‏.‏ وشغل حاجي شركس بتلك الفتنة فزحف إليه أيبك خان وملك صراي هن يده واستبد بها أياماً‏.‏ ثم هلك وولى بعده بصراي ابنه قاريخان‏.‏ ثم زحف إليه أرض خان من جبال خوارزم فغلبه عن صراي وهرب قاريخان بن أيبك خان وعادوا إلى عملهم الأول واستقر أرض خان بصراي وماماي بالقرم ما بينه وبين صراي في مملكته وكان هذا في حدود أعوام سنة ست وسبعين وطغطمش في خلال ذلك مقيم عند السلطان تمر فيما وراء النهر‏.‏ ثم طمحت نفس طغطمش إلى ملك آبائه بصراي فجهز معه السلطان تمر العساكر وسار بها فلما بلغ جبال خوارزم اعترضه هناك عساكر أرض خان فقاتلوه وانهزم ورجع إلى تمر‏.‏ ثم هلك أرض خان قريباً من منتصف تلك السنة فخرج السلطان تمر بالعساكر مع طغطمش مدداً له إلى حدود عمله ورجع واستمر طغطمش فاستولى على أعمال أرض خان بجبال خوارزم‏.‏ ثم سار إلى صراي وبها عمال أرض خان فملكها من أيديهم واسترجع ما تغلب عليه ماماي من ضواحيها وملك أعمال حاجي شركس في منج ظرخان واستنزع جميع ما كان بأيدي المتغلبين ومحا أثرهم وسار إلى ماماي بالقرم فهرب أمامه ولم يوقف على خبره ثم صح الخبر بمهلكه من بعد ذلك واستوسق الملك بصراي وأعمالها لطغطمش بن بردبيك كما كان لقومه‏.‏ قد ذكرنا فيما مر ظهور هذا السلطان تمر في دولة بني جفطاي وكيف أجاز من بخارى وسمرقند إلى خراسان أعوام أربعة وثمانين وسبعمائة فنزل على هراة وبها ملك من بقايا الغورية فحاصرها وملكها من يده‏.‏ ثم زحف إلى مازندران وبها الشيخ ولي تغلب عليها بعد بني هلاكو فطالت حروبه معه إلى أن غلبه عليها ولحق الشيخ ولي بتوريز في فل من أهل دولته‏.‏ ثم طوى تمر الممالك طيا وزحف إلى أصفهان فآتاه ابن المظفر بها طاعته ثم إلى توريز سنة سبع وثمانين فملكها وخربها وكان قد زحف قبلها إلى دست القفجاق بصراي فملكها من يد طغطمش وأخرجه عنها فأقام بأطراف الأعمال حتى أجاز تمر إلى أصبهان فرجع إلى كرسيه‏.‏ وكان للسلطان تمر قريع في قومه يعرف بقمر الدين فراسله طغطمش صاحب صراي وأغراه بالانتقاض على تمر وأمده بالأموال والعساكر فعاث في تلك البلاد وبلغ خبره إلى تمر منصرفة من فتحه فكر راجعاً وعظمت حروبه مع قمر الدين إلى أن غلبه وحسم علته وصرف وجهه إلى شأنه الأول‏.‏ وقرر الزحف إلى طغطمش وسار طغطمش للقائه ومعه اغلان بلاط من أهل بيته فداخله تمر وجماعة لأمراء معه واستراب بهم طغطمش وقد حان اللقاء وتصافوا للحرب فصدم ناحية من عسكر تمر وصدم من لقي فيها وتبدد عياله وافترق الأمراء الذين داخلوا تمر وساروا إلى الثغور فاستولوا عليها‏.‏ وجاء طغطمش إلى صراي فاسترجعها وهرب أغلان بلاط إلى القرم فملكها وزحف إليه طغطمش في العساكر فحاصرها وخالفه أرض خان إلى صراي فملكها طغطمش وانتزعها من يده‏.‏ ولم تزل عساكره تختلف إلى القرم وتعاهدها بالحصار إلى أن ملكها وظفر باغلان بلاط فقتله‏.‏ وكان السلطان تمر بعد فراغه من حروبه مع طغطمش سار إلى أصفهان فملكها أيضاً واستوعب ملوك بني المظفر وعاملهم بالقتل وانتظم له أعمالهم جميعاً في مملكته‏.‏ ثم زحف إلى بغداد فملكها من يد أحمد بن أويس سنة خمس وتسعين كما مر ذكره‏.‏ ولحق أحمد بالسلطان الظاهر صاحب مصر مستصرخاً به فخرج معه في العساكر وانتهى إلى الفرات وقد سار تمر عن بغداد إلى ماردين فحاصرها وملكها وامتنعت عليه قلعتها فعاج من هنالك إلى حصون الأكراد ثم إلى بلاد الأرمن ثم إلى بلاد الروم‏.‏ وبعث السلطان الظاهر صاحب مصر العساكر مدداً لابن أويس فسار إلى بغداد وبها شرذمة من عسكر تمر فملكها من أيديهم‏.‏ ورجع الملك الظاهر إلى مصر وقد أظل الشتاء ورجع تمر إلى نواحي أعماله فأقام في عمل قراباق ما بين أذربيجان وهمذان والأبواب‏.‏ ثم بلغ الخبر إلى تمر فسار من مكانه ذلك إلى محاربة طغطمش وعميت أنباؤه مدة‏.‏ ثم بلغ الخبر سنة سبع وتسعين إلى السلطان بأن تمر ظفر بطغطمش وقتله واستولى على سائر أعماله‏.‏ والله غالب على أمره

ميارى 8 - 8 - 2010 03:46 PM

ملوك غزنة وباميان من بني دوشي خان
كانت أعمال غزنة وباميان هذه قد صارت لدوشي خان وهي من أعمال ما وراء النهر من جانب الجنوب وتتاخم سجستان وبلاد الهند وكانت في مملكة بني خوارزم شاه فملكها التتر لأول خروجهم من أيديهم‏.‏ وملكها جنكز خان لابنه دوشي خان وصارت لابنه أردنو ثم لابنه انبجي بن أردنو‏.‏ وهلك على رأس المائة السابعة وخلف من الولد بيان وكبك ومنغطاي وانقسمت الأعمال بينهم وكان كبيرهم بيان في غزنة وقام بالملك بعد أنبجي ابنه كبك وانتقض عليه أخوه بيان واستمد بطغطاي صاحب صراي فأمده بأخيه بذلك واستنجد كبك بقندو فأمده ولم يغن عنه وانهزم ومات سنة تسع وسبعمائة‏.‏ واستولى بيان على الأعمال وأقام بغزنة وزحف إليه قوشناي ابن أخيه كبك وأستمد بقندو وغلب عمه على غزنة‏.‏ ولحق بيان بطغطاي واستقر قوشناي بغزنة ويقال أن الذي غلب عليها إنما هو أخوه طغطاي ولم نقف بعد على شيء من أخبارهم‏.‏ والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم‏.‏

دولة بني هولاكو دولة بني هلاكو ملوك التتر بالعراقيين وخراسان
ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدم لنا أن جنكز خان عهد بالتخت وهو كرسي الملك بقراقوم لابنه أوكداي ثم ورثه من بعده كفود بن أوكداي وأن الفتنة وقعت بينه وبين صاحب الشمال من بني جنكز خان وهو ناظو بن دوشي خان صاحب التخت بصراي وسار إليه في جموع المغل والتتر وهلك في طريقه‏.‏ وسلم المغل الذين معه التخت لناظو فامتنع من مباشرته بنفسه وبعث إليه أخاه منكوفان وبعث معه بالعساكر أخويه الآخرين قبلاي وهلاكو ومعهما أخوهما بركة ليجلسه على التخت فأجلسه سنة خمسين‏.‏ وذكرنا سبب إسلام بركة عند مرجعه وإن منكوفان استقل بالتخت وولى بني جفطاي بن جنكز خان على بلاد ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكز خان‏.‏ وبعث أخاه هلاكو لتدويخ عراق العجم وقلاع الإسماعيلية ويسمون الملاحدة والاستيلاء على ممالك الخليفة‏.‏

هلاكو بن طولي
ولما بعث منكوفان أخاه إلى العراق فسار لذلك سنة اثنتين وخمسين وستمائة وفتح الكثير من قلاعهم وضيق بالحصار مخنقهم وولى خلال ذلك في كرسي صراي بالشمال بركة بن ناظو بن دوشي خان فحدثت الفتنة بينه وبين هلاكو ونشأت من الفتنة الحرب وسار بركة ومعه نوغان بن ططر بن مغل بن دوشي خان والتقوا على نهر نول وقد جمد ماؤه لشدة البرد وانخسف من تحته فانهزم هلاكو وهلك عامة عسكره‏.‏ وقد ذكرنا أسباب الفتنة بينهما‏.‏ ثم رجع هلاكو إلى بلاد الإسماعيلية وقصد قلعة الموت وبها صاحبها علاء الدين فبلغه في طريقه وصية من ابن العلقمي وزير المستعصم ببغداد في كتاب ابن الصلايا صاحب إربل يستحثه للمسير إلى بغداد ويسهل عليه أمرها لما كان ابن العلقمي رافضياً هو وأهل محلته بالكرخ‏.‏ وتعصب عليهم أهل السنة وتمسكوا بأن الخليفة والدوادار يظاهرونهم وأوقعوا بأهل الكرخ‏.‏ وغضب لذلك ابن العلقمي ودس إلى ابن الصلايا بإريل وكان صديقاً له بأن يستحث التتر لملك بغداد وأسقط عامة الجند يموه بأنه يصانع التتر بعطائهم وسار هلاكو والتتر إلى بغداد‏.‏ واستنفر بنحو مقدم التتر ببلاد الروم فيمن كان معه من العساكر فامتنع أولاً ثم أجاب وسار إليه‏.‏ ولما أطل هلاكو على بغداد في عساكره برز للقائه أيبك الدوادار في عساكر المسلمين فهزموا عساكر التتر ثم تراجع التتر فهزموهم واعترضهم دون بغداد بثوق انبثقت في ليلتهم تلك من دجلة فحالت دونها فقتلوا أجمعين‏.‏ وهلك أيبك الدوادار وأسر الأمراء الذين معه ورجعوا إلى البلد فحاصروها مدة‏.‏ ثم استأمن ابن العلقمي للمستعصم ولنفسه آملاً بأن هلاكو يستبقيه فخرج إليه في موكب من الأعيان وذلك في محرم سنة ست وخمسين‏.‏ وقبض على المستعصم فشدخ بالمعاول في عدل تجافياً عن سفك دمه بزعمهم‏.‏ ويقال إن الذي أحصى فيها من القتلى ألف ألف وثلاثمائة ألف واستولوا من قصور الخلافة وذخائرها على ما لا يحصره العدد والضبط وألقيت كتب العلم التي كانت في خزائنهم بدجلة معاملة بزعمهم لما فعله المسلمون بكتب الفرس عند فتح المدائن واعتزم هلاكو على إضرام بيوتها ناراً فلم يوافقه أهل مملكته‏.‏ واستبقى ابن العلقمي على الوزارة ولرتبة ساقطة عندهم فلم يكن قصارى أمره إلا الكلام في الدخل والخرج متصرفاً من تحت آخر أقرب إلى هلاكو منه فبقي على ذلك مدة ثم اضطرب وقتله هلاكو‏.‏ ثم بعث هلاكو بعد فتح بغداد بالعساكر إلى ميافارقين وبها الكامل محمد بن غازي بن العادل فحاصروها سنين حتى جهد الحصار أهلها‏.‏ ثم اقتحموها عنوة واستلحموا حاميتها‏.‏ ثم بعث إليه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ابنه ركن الدين إسماعيل بالطاعة والهدية فتقبله وبعثه إلى القان الأعظم منكوفان بقراقوم وأبطأ على لؤلؤ خبره فبعث بالوالدين الآخرين شمس الدين إسحاق وعلاء الدين بهدية أخرى ورجعوا إليه بخبر ابنه وقرب إيابه فتوجه لؤلؤ بنفسه إلى هلاكو ولقيه بأذربيجان وحضر حصار ميافارقين‏.‏ وجاءه ابنه ركن الدين من عند منكوفان بولاية الموصل وأعمالها‏.‏ ثم هلك سنة سبع وخمسين وولي ابنه ركن الدين إسماعيل ويلقب الصالح‏.‏ وبعث هلاكو عسكراً إلى إربل فحاصرها ستة أشهر وامتنعت فأفرجت عنها العساكر فاغتنم ابن الصلايا الفرصة ونزل عنها لشرف الدين الكردي ولحق بهلاكو فقتله‏.‏ وكان صاحب الشام يومئذ الناصر بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين‏.‏ فلما بلغه استيلاء هلاكو على بغداد بعث إليه ابنه بالهدايا والمصانعة والعذر عن الوصول بنفسه لمكان الإفرنج من سواحل الشام فقبل هديته وعذره ورجع ابنه بالمواعيد‏.‏ ولم يتم لهلاكو الاستيلاء على الجزيرة وديار بكر وديار ربيعة وانتهى ملكه إلى الفرات وتاخم الشام‏.‏ وعبر الفرات سنة ثمان وخمسين فملك البيرة ووجد بها السعيد أخا الناصر بن العزيز معتقلاً فأطلقه ورده إلى عمله بالضبينة وبانياس‏.‏ ثم سار إلى حلب فحاصرها مدة ثم ملكها ومن عليه وأطلقه ووجد بها المعتقلين من البحرية مماليك الصالح أيوب الذين حبسهم الناصر وهم سنقر الأشقر وتنكز وغيرهما فأطلقهم وكان معهم أمير من أكابر القفجاق لحق به واستخدم له فجعلهم معه وولى على البلاد التي ملكها من الشام‏.‏ ثم جهز العساكر إلى دمشق وارتحل الناصر إلى مصر ورجع عنه الصالح بن الأشرف صاحب حمص إلى هلاكو فولاه دمشق وجعل نوابه بها لنظره وبلغ الناصر إلى هلاكو‏.‏ ثم استوحش الخليفة من قظز سلطان مصر لما كان بينهما من الفتنة فخرج إلى هلاكو فأقبل عليه واستشاره في إنزال الكتائب بالشام فسهل له الأمر في عساكر مصر ورجع إلى رأيه في ذلك وترك نائبه كيبغا من أمراء التتر في خف من الجنود فبعث كيبغا إلى سلطان مصر‏.‏ وأساء رسله بمجلس السلطان في الخطاب بطلب الطاعة فقتلهم وسار إلى الشام فلقي كيبغا بعين جالوت فانهزمت عساكر التتر وقتل كيبغا أميرهم والسعيد صاحب الضبينة أخو الناصر كان حاضراً مع التتر فقبض عليه وقتل صبراً‏.‏ ثم بعث هلاكو العساكر إلى البيرة والسعيد بن لؤلؤ على حلب ومعه طائفة من العساكر فبعث بعضهم لمدافعة التتر فانهزموا وحنق الأمراء على السعيد بسبب ذلك وحبسوه وولوا عليهم حسام الدين الجو كندار‏.‏ وزحف التتر إلى حلب فأجفل عنها واجتمع مع صاحبها المنصور على حمص وزحفوا إلى التتر فهزموهم‏.‏ وسار التتر إلى أفامية فحاصروها وهابوا ما وراءها وارتحلوا إلى بلادهم‏.‏ وبلغ الخبر إلى هلاكو فقتل الناصر صاحب دمشق لاتهامه إياه فيما أشار به من الاستهانة بأهل مصر‏.‏ وكان هلاكو لما فتح الشام سنة ثمان وخمسين بلغه مهلك أخيه القان الأعظم منكوفان في مسيره إلى غزو بلاد الخطا طمع في القانية وبادر لذلك فوجد أخاه قبلاي قد استقل فيها بعد حروب بدت بينه وبين أخيه أزبك تقدم ذكرها في أخبار القان الأعظم فشغل لذلك عن أمر الشام‏.‏ ثم لما يئس من القانية قنع بما حصل عنده من الأقاليم والأعمال ورجع إلى بلاده‏.‏ والأقاليم التي حصلت بيده وعراق العجم كرسيه أصفهان ومن مدنه قزوين وقم وقاشان وشهرزور وسجستان وطبرستان وطلان وبلاد الإسماعيلية‏.‏ وعراق العرب كرسيه بغداد ومن مدنه الدينور والكوفة والبصرة‏.‏ أدزبيجان وكرسيه توريز ومن مدنه حران وسلماس وقفجاق‏.‏ خوزستان كرسيها ششتر ومن مدنها الأهواز وغيرها‏.‏ فارس كرسيها شيراز ومن مدنها كش ونعمان ومحمل رزون والبحرين‏.‏ ديار بكر كرسيها الموصل ومن مدنها ميافارقين ونصيبين وسنجار وأسعرد ودبيس وحران والرها وجزيرة ابن عمر‏.‏ بلاد الروم كرسيها قونية ومن مدنها ملطية وأقصرا وأورنكار وسيواس وإنطاكية والعلايا‏.‏ ثم أجلاه أحمد الحاكم خليفة مصر فزحف إلى بغداد وهذا الحاكم هو عم المستعصم‏.‏ لحق بمصر بعد الواقعة ومعه الصالح بن لؤلؤ بعد أن أزاله التتر من الموصل فنصب الظاهر بيبرس أحمد هذا في الخلافة سنة تسع وخمسين وبعثه لاسترجاع بغداد ومعه الصالح بن لؤلؤ على الموصل‏.‏ فلما أجازوا الفرات وقاربوا بغداد كبسهم التتر ما بين هيث وغانة فكبسوا الخليفة وفر ابن لؤلؤ وأخوه إلى الموصل فنازلهم التتر سبعة أشهر ثم اقتحموها عليهم عنوة وقتلوا الصالح‏.‏ وخشي الظاهر بيبرس غائلة هلاكو‏.‏ ثم إن بركة صاحب الشمال قد بعث إلى الظاهر سنة ستمائة وسبعين بإسلامه فجعلها الظاهر وسيلة للوصلة معه والإنجاد وأغراه بهلاكو لما بينهما من الفتنة فسار بركة لحربه وأخذ بحجزته عن الشام‏.‏ ثم بعث هلاكو عساك التتر لحصار البيرة ومعه درباي من أكابر أمراء المغل وأردفه بابنه أبغا‏.‏ وبعث الظاهر عساكره لانجاد أهلها فلما أطلوا على عسكر درباي وعاينهم أجفل وترك المخيم والآلة ولحق بأبغا منهزماً فاعتقله وسخطه‏.‏ ثم هلك هلاكو سنة اثنتين وستين لعشر سنين من ولايته العراق والله أعلم‏.‏

أبغا بن هلاكو
ولما هلك هلاكو ولي مكانه ابنه أبغا وسار لأول ولايته لحرب بركة صاحب الشمال فسرح إليه بركة العساكر مع قريبه نوغاي بن ططر بن مغل بن دوشي خان ومع سنتف بن منكوفان بن جفطاي بن جنكزخان وخام سنتف عن اللقاء ورجع منهزماً وأقام نوغاي فهزم أبغا وأثخن في عساكره وعظمت منزلته بذلك عند بركة‏.‏ ثم بعث سنة إحدى وسبعين عساكره مع درباي لحصار البيرة وعبر الظاهر إليهم الفرات وهزمهم وقتل أميرين مع درباي ولحق درباي بأبغا منهزماً فسخطه وأدال منه بابطاي‏.‏ وفي سنة اثنتين وسبعين زحف أبغا إلى تكدار بن موجي بن جفطاي بن جنكز خان وكان صاحبه فاستنجد بابن عمه براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي فأمده بنفسه وعساكره‏.‏ واستنفر أبغا عساكر الروم وأميرهم طمقان والبرواناة والتقى الجمعان ببلاد الكرج فانهزم تكدار ولجأ إلى جبل هنالك حتى استأمن أبغا فأمنه وعهد أن لا يركب فرساً فارهاً ولا يمس قوساً‏.‏ ثم نمي إلى أبغا أن القاهر صاحب مصر سار إلى بلاد الروم فبعث العساكر إليها مع قائدين من قواد المغل وهما تدوران وتغوا فسارا وملك الظاهر قيسارية من تخوم بلادهم‏.‏ وبلغ الخبر إلى أبغا فجاء بنفسه إلى موضع الهزيمة وعاين مصارع قومه ولم يسمع ذكراً لأحد من عسكر البرواناة أنه صرع فاتهمه وبعث عنه بعد مرجعه فقتله‏.‏ ثم سار أبغا سنة ثمانين وعبر الفرات ونازل الرحبة وبعث إلى صاحب ماردين فنزل معه هناك‏.‏ وكان منكوتمر ابن أخي بركة ملك صراي فسار بعساكره من المغل وحشود الكرج والأرمن والروم ومر بقيسارية وابلسين وأجاز الدربند إلى الرحبة فنازلها‏.‏ وبعث أبغا إليه بالعساكر مع أخيه منكوتمر بن هلاكو وأقام هو على الرحبة‏.‏ وزحف الظاهر من مصر في عساكر المسلمين فلقيهم التتر على حمص‏.‏ وانهزم التتر هزيمة شنعاء هلك فيها عامة عساكرهم وأجفل أبغا من حصار الرحبة وهلك أخوه منكوتمر بن هلاكو مرجعه من تلك الواقعة يقال مسموماً وأنه مر ببعض أمرائه بجزيرة تسمى مومواغا كان يضطغن له بعض الفعلات فسقاه سماً عند مروره به وهرب إلى مصر فلم يدركوه وأنهم قتلوا أبناءه ونساءه‏.‏ ثم هلك أبغا سنة إحدى وثمانين بعدها ويقال مسموماً أيضاً على يد وزيره الصاحب شمس الدين الجوني مشير دولته وكبيرها حمله الخوف على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:47 PM

تكدار بن هلاكو
ويسمى أحمد ولما توفي أبغا كما ذكرناه وكان ابنه أرغو غائباً بخراسان فبايع المغل لأخيه تكدار فأسلم وتسمى أحمد‏.‏ وخاطب بذلك الملوك لعصره وأرسل إلى مصر يخبرهم ويطلب المساعدة وجاء بذلك قاضي سيواس قطب الدين الشيرازي وأتابك بلاد الروم وابن الصاحب من وراء ماردين‏.‏ وكان أخوه قنقرطاي مع صمغان الشحنة فبعث تكدار عن أخيه فامتنع من الإجابة‏.‏ وأجاره غياث الدين كنخسرو صاحب بلاد الروم فتوعده تكدار فخاف منه وسار هو وقنقرطاي إلى تكدار فقتل أخاه وحبس غياث الدين وولى مكانه أخاه عز الدين وأدال من صمغان الشحنة باولاطو من أمراء المغل‏.‏ ثم جهز العساكر إلى خراسان لقتال أخيه أرغو فسار إليهم أرغو وكبسهم وهزمهم وفتك فيهم فسار تكدار بنفسه فهزم أرغو وأسره وأثخن في عساكره وقتل اثني عشر أميراً من المغل فاستوحش أهل معسكره وكانوا ينقمون عليه إسلامه فثاروا عليه وقتلوا نائبه‏.‏ ثم قتلوه سنة اثنتين وثمانين وبعثوا إلى أرغو بن أبغا بطاعتهم والله تعالى

أرغو بن أبغا
ولما ثار المغل على تكدار وقتلوه وبعثوا بطاعتهم إلى أرغو فجاء وولوه أمرهم فقام بسلطانه وقتل غياث الدين كنخسرو صاحب بلاد الروم في محبسه اتهمه بمداهنته في قتل عمه قنقرطاي وتقبض لأول ولايته على الوزير شمس الدين الجوني وكان متهماً بأبيه وعمه فقتله وولى على وزارته سعد اليهودي الموصلي ولقبه سعد الدولة وكان عالماً بالحكمة‏.‏ وولى ابنيه قازان وخربندا على خراسان لنظر نيروز أتابكه‏.‏ ولما فرغ من أمور ملكه وكان قد عدل عن دين الإسلام وأحب دين البراهمة من عبادة الأصنام وانتحال السحر والرياضة له‏.‏ ووفد عليه بعض سحرة الهند فركب له دواء لحفظ الصحة واستدامتها فأصابه منه صرع فمات سنة سبعين والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

كتخاتو بن أبغا
ولما هلك أرغو بن أبغا وابناه قازان وخربندا غائبان بخراسان اجتمع المغل على أخيه كتخاتو فبايعوه وقدموه للملك‏.‏ ثم ساءت سيرته وأفحش في المناكر وإباحة الحرمات والتعرض للغلمان من أبنائهم‏.‏ وكان في عسكره بيدو بن عمر طرغاي بن هلاكو فاجتمع إليه أمراء المغل وبايعوه سراً وشعر بهم كتخاتو ففر من معسكره إلى جهة كرمان وساروا في أثره فأدركوه بأعمال غانة وقتلوه سنة ثلاث وتسعين لثلاث سنين وأشهر من ولايته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ ولما قتل أمراء المغل كتخاتو بن أبغا بايعوا مكانه لابن عمه بيدو بن طرغاي بن هلاكو وكان قازان بن أرغو بخراسان فسار لحرب بيدو ومعه الأتابك نيروز فلما تقاربا للقاء تردد الناس بينهما في الصلح على أن يقيم نيروز الأتابك عند بيدو واصطلحا وعاد قازان‏.‏ ثم أرسل نيروز الأتابك إلى قازان يستحثه فسار من خراسان‏.‏ ولما بلغ الخبر إلى بيدو فاوض فيه نيروز الأتابك فقال أنا أكفيكه فصبر حتى أتى إليه فسرحه‏.‏ ولما وصل إلى قازان أطلعه على شأن مراء بيدو وأنهم راغبون عنه وحرضه على المسير فامتعض لذلك بيدو وسار للقائهم فلما التقى الجمعان انتقض عليه أمراؤه بمداخلة نيروز فانهزم ولحق بنواحي همذان فأدرك هناك وقتل سنة خمس وتسعين لثمانية أشهر من ملكه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

قازان بن أرغو
ولما انهزم بيدو وقتل ملك على المغل مكانه قازان بن أرغو فجعل أخاه خربندا والياً على خراسان وجعل نيروز الأتابك مدبراً لمملكته‏.‏ وسعى لأول أمره في التدبير على طرغاي من أمرائه ومواليه من المغل الذي داخل بيدو في قتل كتخاتو الذي تولى كبر ذلك فخافه طرغاي على نفسه وكان نازلاً بين بغداد والموصل فبعث إلى كتبغا العادل صاحب مصر والشام يستأذنه في اللحاق به‏.‏ ثم ولى قازان على ديار بكر أميراً من أشياعه اسمه مولان فهزمه وقتل الكثير من أصحابه ونجا إلى الشام وبعث كيبغا من تلقاه وجاء به إلى مصر ودخل مجلس الملك‏.‏ ورفع مجلسه فيها قبل أن يسلم واستقر هو وقومه الأوبراتية بمصر وأقطع لهم‏.‏ وكان ذلك داعياً إلى الفتنة بين الدولتين‏.‏ ثم قتل قازان الأتابك نيروز وذلك أنه استوحش من قازان وكاتب لاشين سلطان مصر والشام المتولي بعد كيبغا‏.‏ وأحس نيروز بذلك فلحق بهراة مستجيراً بصاحبها وهو فخر الدين بن شمس الدين كرت صاحب سجستان فقبض عليه فخر الدين وأسلمه إلى قطلو شاه فقتله‏.‏ وقتل قازان بعد ذلك أخويه ببغداد وهما حاجي ولكري وقفل السفير إليه بالكتاب من مصر‏.‏ ثم كان بعد ذلك مفر شلامس بن أيال ثم منجو إلى مصر وكان أميراً في بلاد الروم على الطومار المحجر فيها - والطومار عندهم عبارة عن مائة ألف من العساكر - عن قازان فارتاب به وأرسل إلى لاشين يستأذنه في اللحاق به‏.‏ وبعث قازان العساكر إليه فقاتلوه وانفض عنه أكثر أصحابه ففر إلى مصر وترك أهله وولده وبعث معه صاحب مصر العساكر لتلقي أهله ومروا بسيس فاعترضه عساكر التتر هناك فهزموه وقتلوا أمير مصر الذي معه واعتصم هو ببعض القلاع فاستنزلوه منها وبعثوا به إلى قازان فقتله‏.‏ وأقام أخوه قطقطو بمصر في جملة عسكرها ونشأت بهذه كلها الفتن بين قازان أهل مصر ونزع إليه أمراء الشام فلحق نائب دمشق وبكتمر نائب حلب وألبكي الظاهري وعزاز الصالحي واسترابوا بسلطانهم الناصر محمد بن قلاوون فلحقوا به واستحثوه إلى الشام‏.‏ وسار سنة تسع وسبعين في عساكر المغل والأرمن ومعه نائبه قطلو شاه ومولي‏.‏ وجاء الملك الناصر من مصر في عساكر المسلمين‏.‏ ولما انتهى إلى غزة اطلع على تدبير بعض المماليك عليه من أصحاب كيبغا ومداخلة الأمراء الذين هاجروا من المغل إلى مملكة مصر لهم في ذلك فسبق جميعهم وارتحل إلى حمص للقاء التتر‏.‏ ثم سار فصبحهم بمرج المروج والتقى الجمعان وكانت الدبرة على المسلمين واستشهد منهم عدد‏.‏ ونجا السلطان إلى مصر وسار قازان على التعبية فملك حمص واستوعب مخلف السلطان فيها‏.‏ ثم تقدم إلى دمشق فملك المدينة وتقدم إلى قفجاق لجباية أموالها ولحصار القلعة وبها علاء الدين سنجر المنصور فامتنع وهدم ما حولها من العمران وفيها دار السعادة التي بها إيوان الملك‏.‏ وسار قازان إلى حلب فملكها وامتنعت عليه القلعة وعاثت عساكره في البلاد وانتهت غاراتهم إلى غزة‏.‏ ولما امتنعت عليه القلاع ارتحل عائداً إلى بلده وخلف قطلو شاه في عساكره لحماية البلد وحصار القلعة ويحيى بن جلال الدين لجباية الأموال‏.‏ وترك قفجاق على نيابة دمشق وبكتمر على نيابة حلب وحمص وحماة وكر الملك الناصر راجعاً إلى الشام بعد أن جمع العساكر وبث العطاء وأزاح العلل وعلى مقدمته سرمز الجاشنكير وسلار كافلا مملكته فتقدموا إلى حدود الشام وأقام هو بالصالحية‏.‏ واستأمن لهما قفجاق وبكتمر النائبان بدمشق وحلب وراجعا طاعة السلطان واستولى سرمز وسلار على الشام ورجع قطلوشاه إلى العراق‏.‏ ثم عاود قازان المسير إلى الشام سنة اثنتين وسبعين وعبر الفرات ونزل على الرحبة وكاتب أهل الشام يخادعهم‏.‏ وقدم قطلوشاه فأغار على القدس وبها أحياء التركمان فقاتلوه ونالوا منه وتوقفوا هنالك‏.‏ وسار الناصر من مصر في العساكر ثالث شعبان ولقي قطلوشاه بمرج الصفر فهزمه بعد حرب شديدة وسار في اتباعهم إلى الليل فاعتصموا بجبل في طريقهم وبات المسلمون يحرسونهم ثم تسللوا وأخذ القتل منهم كل مأخذ واعترضهم الوحل من أمامهم من بثوق بثقت لهم من نهر دمشق فلم ينج منهم أحد وقدم الفل على قازان بنواحي كيلان ومرض هنالك ومات في ذي الحجة من السنة ويقال انه مات أسفاً والله تعالى أعلم بالصواب‏.‏

خربندا بن أرغو
ولما هلك قازان ولي بعده أخوه خربندا وابتدأ أمره بالدخول في دين الإسلام وتسمى بمحمد وتلقب غياث الدين وأقر قطلوشاه على نيابته‏.‏ ثم جهزه لقتال الكرد في جبال كيلان وقاتلهم فهزموه وقتلوه وولى مكانه جوبان بن تدوان وأقام في سلطانه حسن الدين معظماً للخلفاء وكتب أسماءهم على سكته ثم صحب الروافض فساء اعتقاده وحذف ذكر الشيخين من الخطبة ونقش أسماء الأئمة الإثني عشر على سكته‏.‏ ثم أنشأ مدينة بين قزوين وهمذان وسماها السلطانية ونزلها واتخذ بها بيتاً لطيفاً بلبن الذهب والفضة وأنشأ بازائها بستاناً جعل فيه أشجار الذهب بثمر اللؤلؤ والفصوص وأجرى اللبن والعسل أنهاراً وأسكن به الغلمان والجواري تشبيهاً له بالجنة وأفحش في التعرض لحرمات قومه‏.‏ ثم سار إلى الشام سنة ثلاث عشرة وعبر الفرات ونزل الرحبة ورجع‏.‏ ثم هلك ويقال مات مسموماً على يد بعض أمرائه سنة ست عشرة والله تعالى أعلم‏.‏

أبو سعيد بن خربندا
ولما هلك خربندا خلف ابنه أبا سعيد طفلاً صغيراً ابن ثلاث عشرة سنة فاستصغره جوبان وأرسل إلى أزبك ملك الشمال بصراي يستدعيه لملك العراقين فحذره نائبه قطلقمر من ذلك وبايع جوبان لأبي سعيد بن خربندا على صغره وبدأ أمره بقتل أبي الطيب رشيد الدولة فضل الله بن يحيى الهمذاني المتهم بقتل أبيه فقتله‏.‏ وكان مقدماً في العلوم وسرياً في الغاية وله تاريخ جمع فيه أخبار التتر وأنسابهم وقبائلهم وكتبه مشجراً كما في كتابنا هذا‏.‏ وكان جوبان يومئذ بخراسان يقاتل عليها سيول بن براق بن سنتف بن ماسان بن جفطاي صاحب خوارزم أغراه أزبك صاحب الشمال بخراسان وأمده بعساكره‏.‏ وكان جوبان موافقاً له فلما هلك خربندا طمع سيول في الاستيلاء على خراسان وكاتب أمراء المغل بدولة أبي سعيد يرغبهم فأطمعوه فسار جوبان إلى الأردن ومعناه بلغتهم العسكر والمخيم‏.‏ وانتهى إلى أبي سعيد خبر أمرائه فقتل منهم أربعين ورجع جوبان إلى خراسان سنة ثمان عشرة وقد استولى سيول عليها وعلى طائفة من عراق العجم‏.‏ وبعث إليه أزبك صاحب الشمال نائبه قطلقتمر مدداً في العساكر فلقيهم جوبان وكانت بينهم حروب‏.‏ وانتزع جوبان ما ملكه سيول من بلاد خراسان وصالحه على ما بقي ورجع‏.‏ ثم سار أزبك ملك الشمال إلى مراغة فأغار عليها وغنم ورجع وأتبعه جوبان في العساكر فلم يدركه وهلك سيول سنة عشرين وارتجع أبو سعيد ما كان بيده من خراسان‏.‏ وكان أزبك صاحب الشمال ينقم على أبي سعيد استبداد جوبان عليه وتحكمه في بني جنكز خان ويحرض أهل النواحي على جوبان ويتوقع له المهالك‏.‏ وأوصل الملوك في النواحي للمظاهرة على جوبان وسلطانه أبي سعيد حتى لقد صاهر صاحب مصر على مثل ذلك ولم يتم الصلح لأبي سعيد معه كما مر في أخبارهم‏.‏ وجهز أزبك العساكر سنة عشرين لحرب جوبان فحاصرهم المدني بنهر كوزل الذي في حدود ملكهم فرجعوا‏.‏ ثم جهز جيشاً آخر مع قطلقتمر نائبه وكان جوبان نائب سعيد قد ولى على بلاد الروم ابنه دمرداش فزحف سنة إحدى وعشرين إلى بلاد سيس وافتتح منها قلاعاً ثلاثاً وخربها‏.‏ وبعث إلى الملك الناصر يطلب المظاهرة في جهاد الأرمن بسيس فبعث السلطان عساكره سنة اثنتين وعشرين ومعهم من المتطوعة عدد وحاصروا سيس‏.‏ ثم انعقد الصلح سنة ثلاث وعشرين بعدها بين الملك الناصر وبين أبي سعيد واستقامت الأحوال وحج أكابر المغل من قرابة أبي سعيد ملك التتر بالعراقين واتصلت المهاداة بينهما وسار نائبه جوبان سنة خمس وعشرين إلى خراسان في العساكر وقد زحف إليه كبك بن سيول فجرت بينهما حروب وانهزم جوبان واستولى كبك على خراسان‏.‏ ثم كبسه جوبان فهزمه وأثخن في عساكره وغلبه على خراسان فعادت إلى ملكة أبي سعيد‏.‏ وبينما جوبان مشتغل بتلك الفتنة والحروب في نواحي خراسان إذ بلغه الخبر بأن السلطان أبا سعيد تقبض على ابنه خوافي دمشق فلما بلغه الخبر بذلك انتقض وزحف إليه أبو سعيد فافترق عنه أصحابه ولحق بهراة فقتل بها سنة ست وعشرين‏.‏ وإذن أبو سعيد لولده أن ينقلوا شلوه إلى تربته التي بناها بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ونقلوه فلم يقدر دفنه بها‏.‏ وتوقف أمير المدينة على إذن السلطان بمصر في ذلك فدفن بالبقيع‏.‏ ولما بلغ خبر جويان لابنه دمرداش وهو أمير ببلاد الروم انزعج لذلك ولحق بمصر وأقبل السلطان الملك الناصر عليه وأحله محل التكرمة وجاءت على أثره رسل أبي سعيد يطلب حكم الله فيه لسعيه في الفساد والفتنة‏.‏ وأجابه السلطان إلى ذلك على أن يفعل مثل ذلك في قرا سنقر النازع إليهم من أمراء الشام فأمضى ذلك فيهما جزاء بما قدمت أيديهما‏.‏ ثم تأكدت أسباب المواصلة والالتحام بين هذين السلطانين بالإصهار والمهاداة واتصل ذلك وانقطع زبون العرب وفسادهم بين المملكتين‏.‏ وهلك السلطان أبو سعيد سنة ست وثلاثين ولم يعقب ودفن بالسلطانية واختلف أهل دولته‏.‏ وانقرض الملك من بني هلاكو وافترقت الأعمال التي كانت في ملكهم وأصبحت طوائف في خراسان وفي عراق العجم وفارس وفي أذربيجان كله في عراق العرب وفي بلاد الروم كما نذكر ذلك‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون‏.‏ اضطراب دولة بني هلاكو وانقسام الملك طوائف في أعمالهم وانفراد الشيخ حسن ببغداد و استيلاء بنيه معها على توريز وما كان لهم فيها من الملك والدولة وابتدائها ومصايرها ولما هلك أبو سعيد بن خربندا ملك التتر بكرسي بغداد سنة ست وثلاثين ولم يعقب نصب أمراء المغل الوزير غياث الدين وخلع أورخان‏.‏ ونصب للملك موسى خان من أسباطهم وقام بدولته الشيخ حسن بن حسين بن بيبقا بن أملكان وهو ابن عمه السلطان أبي سعيد سبط أرغو بن أبغا‏.‏ أنزله أبو سعيد بقلعة كانج من بلاد الروم ووكل به‏.‏ فلما هلك أبو سعيد وانحل عقاله وذهب أبو نور بن ماس عفى عليها وبلغه شأن أهل الدولة ببغداد فلم يرضه ونهض إليها فقتل على ماسا القائم بالدولة وعزل موسى خان الملك ونصب مكانه محمد بن عنبرجي وهو الذي تقدم في ملوك التخت صحة نسبه إلى هلاكو‏.‏ واستولى الشيخ حسن على بغداد وتوريز‏.‏ ثم سار إليه حسن بن دمرداش من مكان إمارته وإمارة أبيه ببلاد الروم وغلبه على توريز وقتل سلطانه محمد بن عنبرجي ولحق الشيخ حسن ببغداد واستقر حسن بن دمرداش في توريز ونصب للملك أخت السلطان أبي سعيد اسمها صالبيك وزوجها لسليمان خان من أسباط هلاكو واستقل بملك توريز وكان يعرف بالشيخ حسن الصغير لأن صاحب بغداد كان يشاركه في اسمه وهو أسن وأدخل في نسب الخان فميز بالكبير وميز هذا بالصغير‏.‏ ولما استقل حسن الصغير بالملك والخان عنده عجز عنه الشيخ حسن الكبير وغلبته أمم التركمان بضواحي الموصل إلى سائر بلاد الجزيرة‏.‏ فيقال أنه أرسل إلى الملك الناصر صاحب مصر بأن يملكه بغداد ويلحق به فيقيم عنده وطلب منه أن يبعث عساكره لذلك على أن يرهن فيهم ابنه فلم يتم ذلك لما اعترضه من الأحوال‏.‏ وافترقت مملكة بني هلاكو فكان هو ببغداد والصغير بتوريز ابن المظفر بعراق العجم وفارس والملك حسين بخراسان‏.‏ واستولى على أكثرها ملك الشمال أزبك صاحب التخت بصراي من بني دوشي خان بن جنكز خان‏.‏ ثم استوحش الشيخ حسن من سلطانه سليمان خان فقتله واستبد‏.‏ ثم هلك الشيخ حسن الصغير بن دمرداش بتوريز سنة أربع وأربعين وملك مكانه أخوه الأشرف‏.‏ ثم هلك الشيخ حسن الكبير سنة سبع وخمسين والله تعالى أعلم‏.‏ أويس بن الشيخ حسن ولما هلك الشيخ حسن الكبير ببغداد ولي مكانه ابنه أويس وكان بتوريز الأشرف بن دمرداش فزحف إليه ملك الشمال جاني بك بن أزبك سنة ثمان وخمسين وملكها من يده‏.‏ ورجع إلى خراسان بعد أن استخلف عليها ابنه واعتقل في طريقه فكتب أهل الدولة إلى ابنه بردبيك يستحثونه للملك فأغذ السير إليهم وترك بتوريز عاملها أخبجوخ فسار إليه أويس صاحب بغداد وغلبه عليها وملكها‏.‏ ثم ارتجعها منه أخبجوخ وأقام بها فزحف إليه ابن المظفر صاحب أصفهان وملكها‏.‏ من يده وقتله‏.‏ وانتظم في ملكه عراق العجم وتوريز وتستر وخوزستان‏.‏ ثم سار أويس فانتزعها من يد ابن المظفر واستقرت في ملكه ورجع إلى بغداد وجلس على التخت واستفحل أمره‏.‏ ثم هلك سنة ست وسبعين حسين بن أويس وقد خلف بنين خمسة وهم الشيخ حسن وحسين والشيخ علي وأبو يزيد وأحمد‏.‏ وكان وزيره زكريا وكبير دولته الأمير عادل كان كافلاً لحسين ومن أقطاعه السلطاني فاجتمع أهل الدولة وبايعوا لابنه حسين بتوريز وقتلوا الشيخ حسن وزعموا أن أباهم أويساً أوصاهم بقتله‏.‏ وكان الشيخ علي بن أويس ببغداد فدخل في طاعة أخيه حسين وكان قنبر علي بادك من أمرائهم نائباً بتستر وخوزستان فبايع لحسين وبعث إليه بطاعته واستولى على دولته بتوريز زكريا وزير أبيه‏.‏ وكان إسماعيل ابن الوزير زكريا بالشام هارباً أمام أويس فقدم على أبيه زكريا وبعث به إلى بغداد ليقوم بخدمة الشيخ علي فاستخلصه واستبد عليه فغلب شجاع بن المظفر على توريز وارتجعها منه‏.‏ ولما استقل حسين بتوريز كان بنو المظفر طامعين في ولايتها وقد ملكوها من قبل كما مر وانتزعها أويس منهم‏.‏ فلما توفي أويس سار شجاع إلى توريز في عساكره فأجفل عنها حسين بن أويس إلى بغداد واستولى عليها شجاع ولحق حسين بأخيه الشيخ علي ووزيره إسماعيل ببغداد مستجيشاً بهما فسرحوا معه العساكر ورجع أدراجه إليها فهرب عنها شجاع إلى خوزستان وحصن ملكه بها واستقر فيها‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:48 PM

مقتل إسماعيل واستيلاء حسين على بغداد ثم ارتجاعها منه
كان إسماعيل مستبداً على الشيخ علي ببغداد كما قدمناه فتوثب به جماعة من أهل الدولة منهم مبارك شاه وقنبر وقرا محمد فقتلوه وعمه أمير أحمد منتصف إحدى وثمانين واستدعوا قنبر علي بادك من تستر فولوه مكان إسماعيل واستبد على الشيخ علي ببغداد ونكر حسين عليهم ما آتوه وسار في عساكره من توريز إلى بغداد فارقها الشيخ علي وقنبر علي بادك إلى تستر‏.‏ واستولى حسين على بغداد واستمده فاتهمه بممالأة أخيه الشيخ علي ولم يمده ونهض الشيخ علي من تستر إلى واسط وجمع العرب من عبادان والجزيرة فأجفل أحمد من واسط إلى بغداد وسار الشيخ علي في أثره فأجفل حسين إلى توريز واستوسق ملك بغداد للشيخ علي واستقر كل ببلده والله تعالى أعلم‏.‏

انتقاض أحمد واستيلاؤه على توريز
ومقتل حسين ولما رجع حسين من بغداد إلى توريز عكف على لذاته وشغل بلهوه واستوحش منه أخوه أحمد فلحق باردبيل وبها الشيخ صدر الدين‏.‏ واجتمع إليه من العساكر ثلاثة آلاف أو يزيدون فسار إلى توريز وطرقها على حين غفلة فملكها‏.‏ واختفى حسين أياماً ثم قبض عليه أحمد وقتله والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده‏.‏

انتقاض عادل ومسيره لقتال أحمد
كان الأمير عادل والياً على السلطانية وكانت من أقطاعه فلما بلغه مقتل حسين امتعض له وكان عنده أبو يزيد بن أويس فسار إلى شجاع بن المظفر اليزدي صاحب فارس يستصرخانه على الأمير أحمد بن أويس فبعث العساكر لصريخهما وبرز الأمير أحمد للقائهم‏.‏ ثم تقاربوا واتفقوا أن يستقر أبو يزيد في السلطانية أميراً ويخرج الأمير عادل عن مملكتهم ويقيم عند شجاع بفارس واصطلحوا على ذلك‏.‏ وعاد أبو يزيد إلى السلطانية فأقام بها وأضر أمراؤه وخاصته بالرعايا فدسوا بالصريخ إلى أحمد بتوريز فسار في العساكر إليه وقبض عليه وكحله وتوفي بعد ذلك ببغداد‏.‏

مقتل الشيخ علي
و استيلاء أحمد على بغداد ولما قتل أحمد أخاه حسيناً جمع الشيخ علي العساكر واستنفر قرا محمد أمير التركمان بالجزيرة وسار من بغداد يريد توريز فبرز أحمد للقائه واستطرد له لما كان منه فبالغ في اتباعه إلى أن خفت عساكره فكر مستميتاً‏.‏ وكانت جولة أصيب فيها الشيخ علي بسهم فمات وأسر قرا محمد فقتل‏.‏ ورجع أحمد إلى توريز واستوسق له ملكها‏.‏ ونهض إليه عادل بن السلطان أبي سعيد يروم فرصة فيه فهزمه‏.‏ ثم سار أحمد إلى بغداد وقد كان استبد بها بعد مهلك الشيخ علي خواجا عبد الملك من صنائعهم بدعوة أحمد‏.‏ ثم قام الأمير عادل في السلطانية بدعوة أبي يزيد وبعث إلى بغداد قائداً اسمه برسق ليقيم بها دعوته فأطاعه عبد الملك وأدخله إلى بغداد‏.‏ ثم قتله برسق ثاني يوم دخوله واضطرب البلد شهراً‏.‏ ثم وصل أحمد من توريز وخرج برسق القائد لمدافعته فانهزم وجيء به إلى أحمد أسيراً فحبسه ثم قتله وقتل عادل بعد ذلك وكفى أحمد شره‏.‏ وانتظمت في ملكه توريز وبغداد وتستر والسلطانية وما إليها واستوسق أمره فيها‏.‏ ثم انتقض عليه أهل دولته سنة ست وثمانين وسار بعضهم إلى تمر سلطان بني جفطاي بعد أن خرج من وراء النهر بملكه يومئذ واستولى على خراسان فاستصرخه على أحمد فأجاب صريخه وبعث معه العساكر إلى توريز فأجفل عنها أحمد إلى بغداد واستبد بها ذلك الثائر ورجع تمر إلى مملكته الأولى‏.‏ وطمع طغطمش ملك الشمال من بني دوشي خان في انتزاع توريز من يد ذلك الثائر فسار إليها وملكها وزحف تمر في عساكره سنة سبع وثمانين إلى أصفهان‏.‏ وبعث العساكر إلى توريز فاستباحها وخربها واستولى على تستر والسلطانية وانتطمهما في أعماله وانفرد أحمد ببغداد وأقام بها‏.‏

استيلاء تمرو على بغداد ولحاق أحمد بالشام
كان تمر سلطان المغل بعد أن استولى على توريز خرج عليه خارج من قومه في بلاده يعرف بقمر الدين فجاءه الخبر عنه وأن طغطمش صاحب كرسي صراي في الشمال أمده بأمواله وعساكره فكر راجعاً من أصبهان إلى بلاده وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وسبعين‏.‏ ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمر الدين الخارج عليه ومحا أثر فساده‏.‏ ثم استولى على كرسي صراي وأعمالها‏.‏ ثم خطا إلى أصفهان وعراق العجم والري وفارس وكرمان فملك جميعها من بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكهم وبادت جموعهم‏.‏ وشد أحمد ببغداد عزائمه وجمع عساكره وأخذ في الاستعداد ثم عدل إلى مصانعته ومهاداته فلم يغن ذلك عنه وما زال تمر يخادعه بالملاطفة والمراسلة إلى أن فتر عزمه وافترقت عساكره فنهض إليه يغذ السير في غفلة منه حتى انتهى إلى دجلة وسبق النذير إلى أحمد فأسرى بغلس ليله وحمل ما أقلته الرواحل من أمواله وذخائره وخر ق سفن دجلة ومر بنهر الحلة فقطعه وصبح مشهد علي‏.‏ ووافى تمر وعساكره دجلة في حادي عشر شوال سنة خمس وتسعين ولم يجد السفن فاقتحم بعساكره النهر ودخل بغداد واستولى عليها وبعث العساكر في اتباع أحمد فساروا إلى الحلة وقد قطع جسرها فخاضوا النهر عندها وأدركوا أحمد بمشهد علي واستولوا على أثقاله ورواحله فكر عليهم في جموعه واستماتوا‏.‏ وقتل الأمير الذي كان في اتباعه ورجع بقية التتر عنهم ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره فسرح بعض خواصه لتلقيه بالنفقات والأزواد وليستقدمه فقدم به إلى حلب وأراح بها‏.‏ وطرقه مرض أبطأ به عن مصر‏.‏ وجاءت الأخبار بأن تمر عاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد المصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة وأقفرت جوانب بغداد من العيث ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستثرخاً به على طلب ملكه والانتقام من عدوه فأجاب السلطان صريخه ونادى في عسكره بالتجهز إلى الشام‏.‏ وقد كان تمر بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت مأوى المخالفين وعش الحرابة ورصد السابلة وأناخ عليها بجموعه أربعين يوماً فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم‏.‏ ثم خربها وأقفرها وانتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها وقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها وانتسفوا نعمها وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالزيدانية أياماً أزاح فيها علل عساكره وأفاض العطاء في مماليكه واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند واستخلف على القاهرة النائب سودون‏.‏ وارتحل إلى الشام على التعبية ومعه أحمد بن أويس بعد أن كفاه مهمة وسرب النفقات في تابعه وجنده ودخل دمشق آخر جمادى الأولى‏.‏ وقد كان أوعز إلى جلبان صاحب حلب بالخروج إلى الفرات واستنفار العرب والتركمان للإقامة هناك رصداً للعدو‏.‏ فلما إلى دمشق وفد عليه جلبان وطالعه بمهماته وما عنده من أخبار القوم ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه‏.‏ وبعث السلطان على أثره العساكر مدداً له كمشيقا الأتابك وتكلتمش أمير سلاح وأحمد بن بيبقا‏.‏ وكان العدو تمر قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهراً وملكها‏.‏ وعاثت عساكره فيها واكتسحت نواحيها وامتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ومر بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها والسلطان لهذا العهد وهو شعبان سنة ستمائة وتسعين مقيم بدمشق مستجمع لنطاحه والوثبة به متى استقبل جهته‏.‏ والله سبحاه وتعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه‏.‏ الشيخ علي أحمد بن أويس ابن الشيخ حسن بن أقبغا بن أيلكان سبط أرغو بن أبغا الشيخ حسن أبو زيد‏.‏

الخبر عن بني المظفر اليزدي المتغلبين على أصفهان وفارس
بعد انقراض دولة بني هلاكو وابتدء أمورهم ومصايرها كان أحمد المظفر من أهل يزد وكان شجاعاً واتصل بالدولة أيام أبي سعيد فولوه حفظ السابلة بفارس وكان منها مبدأ أمرهم‏.‏ وذلك أنه لما توفي أبو سعيد سنة ست وثلاثين وسبعمائة ولم يعقب اضطربت الدولة ومرج أمر الناس وافترق الملك طوائف‏.‏ وغلب أزبك صاحب الشمال على طائفة من خراسان فملكها‏.‏ واستبد بهراة الملك حسين واللان محمود فرشحه من أهل دولة السلطان أبي سعيد عاملاً على أصفهان وفارس فاستبد بأمره واتخذ الكرسي بشيراز إلى أن هلك وولي بعده ابنه أبو اسحق أمير شيخ سالكاً سبيله في الاستبداد‏.‏ وكانت له آثار جميلة وله صنف الشيخ عضد الدين كتاب المواقف والشيخ عماد الدين الكاشي شرح كتاب المفتاح وسموهما باسمه‏.‏ وتغلب أيضاً محمد بن المظفر على كرمان ونواحيها فصارت بيده‏.‏ وطمع في الاستيلاء على فارس‏.‏ وكان أبو اسحق أمير شيخ قد قتل شريفاً من أعيان شيراز فنادى بالنكير عليه ليتوصل إلى غرض انتزاع الملك من يده‏.‏ وسار في جموعه إلى شيراز ومال إليه أهل البلد لنفرتهم عن أمير شيخ لفعلته فيهم فأمكنوه من البلد وملكها واستولى على كرسيها‏.‏ وهرب أبو اسحق أمير شيخ إلى أصفهان وأتبعه ففر منه أيضاً وملك أصفهان وبث الطلب في الجها حتى قبض عليه وقتله قصاصاً بالشريف الذي قتله بشيراز وكان له من الولد أربعة شاه ولي ومحمود وشجاع وأحمد‏.‏ وتوفي شاه ولي أبيه وترك ابنيه منصوراً ويحيى وملك ابنه محمود أصفهان وابنه شجاع شيراز وكرمان‏.‏ واستبد عليه محمود وشجاع وخلفاه في ملكه سنة ستين وكحلاه‏.‏ وتولى ذلك شجاع وسار إليه محمود من أصفهان بعد أن استجاش بأويس بن حسن الكبير فأمده بالعساكر سنة خمس وستين وملك شيراز‏.‏ ولحق شجاع بكرمان من أعماله وأقام بها واختلف عليه عماله ثم استقاموا على طاعته‏.‏ ثم جمع بعد ثلاث سنين ورجع إلى شيراز ففارقها أخوه محمد إلى أصفهان وأقام بها إلى أن هلك سنة ست وسبعين فاستضافها شجاع إلى أعماله وأقطعها لابنه زين العابدين وزوجه بابنه أويس التي كانت تحت محمود‏.‏ وولى على مردى ابن أخيه شاه ولي‏.‏ ثم هلك شجاع سنة سبع وثمانين واستقل ابنه زين العابدين بأصفهان وخلفه في شيراز وفارس منصور ابن أخيه شاه ولي‏.‏ وكان عادل كبير دولة بني أويس بالسلطانية كما مر ولحق به منصور بن شاه ولي هارباً من شيراز أمام عمه زين العابدين فحبس ثم فر من محبسه ولحق بأحمد بن أويس مستصرخاً به فصارخه وأنزله بتستر من أعماله‏.‏ ثم سار منها إلى شيراز ففارقها عمه زين العابدين إلى أصفهان وأخوه يحيى بيزد وعمهما أحمد بن محمد المظفر بكرمان‏.‏ ثم زحف تمر سلطان التتر من بني جفطاي بن جنكز خان سنة ثمان وثمانين وملك توريز وخربها كما مر في أخباره فأطاعه يحيى صاحب يزد وأحمد صاحب كرمان‏.‏ وهرب زين العابدين من أصفهان وملكها عليه تمر فلحق بشيراز ورجع تمر إلى بلاده فيما وراء النهر وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وتسعين فزحف إلى بلاد فارس‏.‏ وجمع منصور بن شاه ولي العساكر لحربه فخادعه تمر بولايته وانكفأ راجعاً إلى هراة فافترقت عساكر منصور بن شاه ولي وجاءت عيون تمر بخبر افتراقها إليه فأغذ السير وكبس منصور بن شاه ولي بظاهر شيراز وهو في قل من العساكر لا يجاوزون ألفين فهرب الكثير من أصحابه إلى تمر واستمات هو والباقون وقاتلوا أشد قتال‏.‏ وفقد هو في المعركة فلم يوقف له على خبر وملك تمر شيراز واستضافها إلى أصفهان وولى عليها من قبله‏.‏ وقتل أحمد بن محمد صاحب كرمان وابنيه وولى على كرمان من قبله وقتل يحيى بن شاه ولي صاحب يزد وابنيه وولى على يزد من قبله واستلحم بني المظفر واستصفى زين العابدين بن شجاع بن محمود وهرب ابنه فلحق بخاله أحمد بن أويس وهو لهذا العهد مقيم معه بمصر‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون‏.‏ زين العابدين بن شجاع بن محمود بن محمد بن المظفر اليزدي‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:49 PM

الخبر عن بني أرتنا ملوك بلاد الروم من المغل بعد بني هلاكو
والإلمام بمبادئ أمورهم ومصايرهم قد سبق لنا أن هذه المملكة كانت لبني قليج أرسلان من ملوك السلجوقية وهم الذين أقاموا فيها دعوة الإسلام وانتزعوها من يد ملوك الروم أهل قسطنطينية واستضافوا إليها كثيراً من أعمال الأرض ومن ديار بكر فانفسحت أعمالهم وعظمت ممالكهم‏.‏ وكان كرسيهم بقونية ومن أعمالهم أقصر وإنطاكية والعلايا وطغرل ودمرلو وقراحصار‏.‏ ومن ممالكهم أذربيجان ومن أعمالها أقشهر وكامخ وقلعة كعونية ومن ممالكهم قيسارية ومن أعمالها نكرة وعداقلية ومنال‏.‏ ومن ممالكهم أيضاً سيواس وأعمالها ملكوها من يد الوانشمند كما مر في أخبارهم ومن أعمالها نكسار وأقاسية وتوقات وقمنات وكنكرة كورية وسامسون وصغوى وكسحونية وطرخلوا وبرلوا‏.‏ ومما استضافوه من بلاد الأرمن خلاط وأرمينية الكبرى واني وسلطان وأرجيس وأعمالها‏.‏ ومن ديار بكر خرت برت وملطية وسميساط ومسارة فكانت لهم هذه الأعمال وما يتصل بها من الشمال إلى مدينة بورصة ثم إلى خليج القسطنطينية‏.‏ واستفحل ملكهم فيها وعظمت دولتهم‏.‏ ثم طرقها الهرم والفشل كما يطرق الدول‏.‏ ولما استولى التتر على ممالك الإسلام وورثوا الدول في سائر النواحي واستقر التخت الأعظم لمنكوفان أخي هلاكو‏.‏ وجهز عساكر المغل سنة أربع وخمسين وستمائة إلى هذه البلاد وعليهم بيكو من أكابر أمرائهم‏.‏ وعلى بلاد الروم يومئذ غياث الدين كنخسرو بن علاء الدين كيقباد وهو الثاني عشر من ملوكهم من ولد قطلمش فنزلوا على أرزن الروم وبها سنان الدين ياقوت مولى علاء الدين فملكوها بعد حصار شهرين واستباحوها‏.‏ وتقدموا أمامهم ولقيهم غياث الدين بالصحراء على أقشهر وزنجان وانهزم غياث الدين واحتمل ذخيرته وعياله ولحق بقونية واستولى بيكو على مخلفه‏.‏ ثم سار إلى قيسارية فملكوها‏.‏ وهلك غياث الدين أثر ذلك وملك بعده ابنه علاء وعاثت عساكر التتر في البلاد فسار علاء الدين كيقباد إلى منكوفان صاحب التخت واختلف أخواه من بعده وغلب عز الدين كيكاوس واعتقل أخاه ركن الدين بقونية وبعث في أثر أخيه علاء الدين من يستفسد له منكوفان فلم يحصل من ذلك على طائل‏.‏ وهلك علاء الدين في طريقه وكتب منكوفان بتشريك الملك بين عز الدين وركن الدين والبلاد بينهما مقسومة فلعز الدين من سيواس إلى تخوم القسطنطينية ولركن الدين من سيواس إلى أرزن الروم متصلاً من جهة الشرق ببلاد التتر‏.‏ وأفرج عز الدين عن ركن الدين واستقر في طاعة التتر‏.‏ وسار بيكو في بلاد الروم قبل أن يرجع عز الدين فلقيه أرسلان دغمش من أمراء عز الدين فهزمه بيكو إلى قونية فأجفل عنها عز الدين إلى العلايا وحاصرها بيكو فملكها على يد خطيبها‏.‏ وخرج إلى بيكو فأسلمت زوجته على يده ومنع التتر من دخولها إلا وحداناً وأن لا يتعرضوا لأحد‏.‏ واستقر عز الدين وركن الدين في طاعة التتر ولهما اسم الملك والحكم للشحنة بيكو‏.‏ ولما زحف هلاكو إلى بغداد سنة ست وخمسين استنفر بيكو وعساكره فامتنع واعتذر بمن في طريقه من طوائف الأكراد الفراسيلية والباروقية فبعث إليه هلاكو العساكر ومروا بأذربيجان وقد أجفل أهلها وهم قوم من الأكراد فملكوها‏.‏ وساروا مع بيكو إلى هلاكو وحضروا معه فتح بغداد وما بعدها‏.‏ ولما نزل هلاكو حلب استدعى عز الدين وركن الدين فحضرا معه فتحها وحضر معهما وزيرهما معين الدين سليمان البرواناة واستحسنه هلاكو وتقدم إلى ركن الدين بأن يكون السفير إليه عنه فلم يزل على ذلك‏.‏ ثم هلك بيكو مقدم التتر ببلاد الروم وولى مكانه صمقار من أمراء المغل‏.‏ ثم اختلف الأميران عز الدين وغياث الدين سنة تسع وخمسين واستولى عز الدين على أعمال ركن الدين فسار ومعه البرواناة إلى هلاكو صريخاً فأمده بالعساكر وسار إلى عز الدين فهزمهم واستمده ثانياً فأمده هلاكو وانهزم عز الدين فلحق بالقسطنطينية وأقام عند صاحبها لشكري واستولى ركن الدين قليج أرسلان على بلاد الروم وامتنع التركمان الذين بتلك الأعمال بأطراف الأعمال والثغور والسواحل‏.‏ وطلبوا الولاية من هلاكو فولاهم وأعطاهم الله الملك فهم الملوك بها من يومئذ كما يأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى‏.‏ وأقام عز الدين بالقسطنطينية وأراد التوثب بصاحبها لشكري ووشى به أخواله من الروم فاعتقله لشكري في بعض قلاعه ثم هلك‏.‏ ويقال إن ملك الشمال منكوتمر صاحب التخت بصراي حدثت بينه وبين صاحب القسطنطينية فتنة فغزاه واكتسح بلاده ومر بالقلعة التي بها عز الدين معتقلاً فاحتمله معه إلى صراي وهلك عنده‏.‏ ولحق ابنه مسعود بعد ذلك بابغا بن هلاكو فأكرمه وولاه على بعض القلاع ببلاد الروم‏.‏ ثم إن معين الدين سليمان البرواناة ارتاب بركن الدين فقتله غيلة سنة ست وستين ونضب ابنه كنخسرو للملك ولقبه غياث الدين وكان متغلباً عليه مقيماً مع ذلك على طاعة التتر‏.‏ وربما كان يستوحش منهم فيكاتب سلطان مصر بالدخول في طاعته واطلع أبغا على كتابه بذلك إلى الظاهر بيبرس فنكره‏.‏ وهلك صمغار الشحنة فبعث أبغا مكانه أميرين من أمراء المغل وهما تدوان وتوقر فتقدما سنة خمس وسبعين إلى بلاد الشام ونزلا بأبلستين ومعهما غياث الدين كنخسرو وكافله البرواناة في العساكر‏.‏ وسار الظاهر من دمشق فلقيهم بأبلستين وقد قعد البرواناة لما كان تواعد مع الظاهر عليه‏.‏ وهزمهما الظاهر جميعاً وقتل الأميرين تداون وتوقر في جماعة من التتر‏.‏ ونجا البرواناة وسلطانه فلم يصب منهم أحد واستراب السلطان بالبرواناة لذلك‏.‏ وملك الظاهر قيسارية كرسي بلاد الروم وعاد إلى مصر‏.‏ وجاء أبغا ووقف على مكان الملحمة ورأى مصارع قومه فصدق الريبة بممالأة الظاهر والبرواناة وأصحابه فاكتسح البلاد وخربها ورجع‏.‏ ثم استدعى البرواناة إلى معسكره فقتله وأقام مكانه في كفالة كنخسرو أخاه عز الدين محمداً‏.‏ ولم يزل غياث الدين والياً على بلاد الروم والشحنة من المغل حاكم في البلاد إلى أن ولي تكدار بن هلاكو وكان أخوه قنقرطاي مقيماً ببلاد الروم مع صمغار فبعث عنه وامتنع من الوصول فأوعز إلى غياث الدين واعتقله بارزنكان وولى على بلاد الروم على الشحنة أولاكو من أمراء المغل وذلك سنة إحدى وثمانين‏.‏ ويقال أن أرغو بن أبغا هو الذي ولى أولاكو شحنة ببلاد الروم بعد صمغار وأن تدوان وتوقر إنما بعث بهما أبغا لقتال الظاهر ولم يرسلهما شحنة‏.‏ ثم أقام مسعود بن عز الدين كيكاوس في سلطانه ببلاد الروم والحكم لشحنة التتر وليس له من الملك إلا اسمه إلى أن افترق واضمحل أمره‏.‏ وبقي أمراء المغل يتعاقبون في الشحنة ببلاد الروم وكان منهم أول المائة الثامنة الأمير علي وهو الذي قتل ملك الأرمن هيشوش بن ليعون صاحب سيس واستعدى أخوه عليه بخربندا فأعداه وقتله كما مر في أخبار الأرمن في دولة الترك‏.‏ وكان منهم سنة عشرين وسبعمائة الأمير ألبغا‏.‏ ثم ولى السلطان أبو سعيد على بلاد الروم دمرداش بن جوبان سنة ثلاث وعشرين واستفحل بها ملكه وجاهد الأرمن بسيس‏.‏ واستمد الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر عليهم فأمده بالعساكر وافتتحوا إياس عنوة ورجعوا‏.‏ ثم نكب السلطان أبو سعيد نائبه جوبان بن بروان وقتله كما مر في أخبارهم‏.‏ وبلغ الخبر إلى دمرداش ابنه ببلاد الروم فاضطرب لذلك ولحق بمصر في عساكره وأمرائه فأقبل السلطان عليه وتلقاه بالتكرمة والإيثار‏.‏ وجاءت رسل أبي سعيد في اتباعه تطلب حكم الله تعالى فيه بسعيه في الفساد وإثارة الفتنة على أن يفعل مثل ذلك في قرا سنقر النازع إليهم من أمراء الشام فقتلوه وقتل دمرداش بمصر وذهبا بما كسبا‏.‏ وكان دمرداش لما هرب من بلاد الروم إلى مصر ترك من أمرائه أرتنا وكان يسمى النوير اسم أبناء الملوك فبعث إلى أبي سعيد بطاعته فولاه على البلاد فملكها‏.‏ ونزل سيواس واتخذها كرسي ملكه‏.‏ ثم استبد حسن بن دمرداش بتوريز فبايع له أرتنا‏.‏ ثم انتقض وكاتب الملك الناصر صاحب مصر ودخل في طاعته وبعث إليه بالولاية والخلع فجمع له حسن بن دمرداش وسار إليه بسيواس‏.‏ وسار أرتنا للقائه بصحراء كسينوك وهزمه وأسر جماعة من أمرائه وذلك سنة أربع وأربعين‏.‏ واستفحل ملك أرتنا من يومئذ وعجز جوبان وحسن بن دمرداش عن طلبه إلى أن توفي سنة ثلاث وخمسين‏.‏ وأما بنوه من بعده فلا أدري من ملك منهم ولا ترتيب ولايتهم إلا أنه وقع في أخبار الترك أن السلطان أوعز سنة ست وستين إلى نائب حلب أن يسير في العساكر لإنجاد محمد بك بن أرتنا فمضوا وظفروا‏.‏ وما زال أرتنا وبنوه مستبدين بلاد الروم وأعمالها‏.‏ واقتطع لهم التركمان منها بلاد الأرمن سيس وما إليها فاستولى عليها بنو دلقادر على خلافة وزحفوا إليه وهي في أيديهم لهذا العهد‏.‏ ولما خالف سعاروس من أمراء الترك سنة اثنتين وخمسين ظاهره قراجا بن دلقادر على خلافه وزحف إليه السلطان من مصر فافترقت جموعه واتبعته العساكر فقتل‏.‏ وبعث السلطان سنة أربع وخمسين عسكرا في طلب قراجا فساروا إلى البلستين وأجفل عنها نائبها فنهبوا أحياءه ولحق هو بابن أرتنا بسيواس فقبض عليه وبعث به إلى السلطان بمصر فقتله‏.‏ واقتطع التركمان ناحية الشمال من أعمالهم إلى القسطنطينية وأثخنوا في أمم النصرانية وراءهم واستولوا على كثير من تلك الممالك وراء القسطنطينية وأميرهم لهذا العهد في عداد الملوك الأعاظم ودولتهم ناشئة متجددة‏.‏ وكان صبياً بسيواس منذ أعوام الثمانين وهو من أعقاب بني أرتنا فاستبد عليه قاضي البلد لما كان كافلاً له بوصية أبيه‏.‏ ثم قتل القاضي ذلك الصبي أعوام اثنتين وتسعين واستبد بذلك الملك‏.‏ وكانت هناك أحياء التتر يناهزون ثلاثين ألفاً أو نحوها مقيمين بتلك النواحي‏.‏ ملكهم دمرداش بن جوبان ومن قبله من أمراء المغل فكانوا شيعة لبني أرتنا وعصابة لهم وهم الذين استنجد بهم القاضي حين وجهت إليه عساكر مصر في طلب منطاش الثائر الذي فر ثم لحق به وسارت عساكر مصر في طلبه سنة تسع وثمانين فاستنجد القاضي بأحياء التتر هؤلاء وجاؤوا لإنجاده‏.‏ ورجعت عساكر مصر عنهم كما تقدم ذلك كله في أخبار الترك والحال على ذلك لهذا العهد والله مصير الأمور بحكمته وهو على كل شيء قدير‏.‏ إبراهيم بن محمد بك بن أرتنا النوير عامل أبي سعيد على بلاد الروم‏.‏ في شمال بلاد الروم إلى خليج القسطنطينية وما وراءه لبني عثمان وأخوته قد تقدم لنا في أنساب العالم ذكر هؤلاء التركمان وإنهم من ولد يافث بن نوح أي من توغرما بن كومر بن يافث كذا وقع في التوراة وذكر الفيومي من علماء بني إسرائيل ونسابتهم أن توغرما هم التركمان أخوة الترك ومواطنهم فيما وجدناه من بحر طبرستان ويسمى بحر الخزر إلى جوفي القسطنطينية وشرقها إلى ديار بكر‏.‏ وبعد انقراض العرب والأرمن ملكوا نواحي الفرات من أوله إلى مصبه في دجلة وهم شعوب متفرقون وأحياء مختلفون لا يحصرهم الضبط ولا يحويهم العد‏.‏ وكان منهم ببلاد الروم جموع مستكثرة كان ملوكها يستكثرون بهم في حروبهم مع أعدائهم‏.‏ وكان كبيرهم فيها لعهد المائة الرابعة جق وكانت أحياؤهم متوافرة وأعدادهم متكاثرة‏.‏ ولما ملك سليمان بن قطلمش قونية بعد أبيه وفتح إنطاكية سنة سبع وسبعين من يد الروم طالبه مسلم بن قريش بما كان له على الروم فيها من الجزية فأنف من ذلك وحدثت بينهما الفتنة‏.‏ وجمع قريش العرب والتركمان مع أميرهم جق وسار إلى حرب سليمان بإنطاكية فلما التقيا مال التركمان إلى سليمان لعصبية الترك وانهزم مسلم بن قريش وقتل‏.‏ وأقام أولئك التركمان ببلاد الروم أيام بني قطلمش موطنين بالجبال والسواحل‏.‏ ولما ملك التتر ببلاد الروم وأبقوا على بني قطلمش ملكهم وولوا ركن الدولة قليج أرسلان بعد أن غلب أخوه عز الدين كيكاوس وهرب إلى القسطنطينية‏.‏ وكان أمراء هؤلاء التركمان يومئذ محمد بك وأخاه إلياس بك وصهره علي بك وقريبه سونج والظاهر أنهم من بني جق فانتقضوا على ركن الدولة وبعثوا إلى هلاكو بطاعتهم وتقرير الأثر عليهم وأن يبعث إليهم باللواء على العادة وأن يبعث شحنة من التتر يختص بهم فأسعفهم بذلك وقلدهم وهم من يومئذ ملوك بها‏.‏ ثم أرسل هلاكو إلى محمد بك الأمير يستدعيه فامتنع من المسير إليه واعتذر فأوعز هلاكو إلى الشحنة الذي ببلاد الروم وإلى السلطان قليج أرسلان بمحاربته فساروا إليه وحاربوه ونزع عنه صهره علي بك‏.‏ ووفد على هلاكو فقدمه مكان محمد صهره‏.‏ ولقي محمد العساكر فانهزم وأبعد في المفر‏.‏ ثم جاء إلى قليج أرسلان مستأمناً فأمنه وسار معه إلى قونية فقتله واستقر صهره علي بك أميراً على التركمان وفتحت عساكر التتر نواحي بلاد الروم إلى اسطنبول‏.‏ والظاهر أن بني عثمان ملوكهم لهذا العهد من أعقاب علي بك أو أقاربه يشهد بذلك اتصال هذه الإمارة فيهم مدة هذه المائة سنة‏.‏ ولما اضمحل أمر التتر من بلاد الروم واستقر بنو أرتنا بسيواس وأعمالها غلب هؤلاء التركمان على ما وراء الدروب إلى خليج القسطنطينية ونزل ملكهم مدينة بورصة من تلك الناحية وكان يسمى أورخان بن عثمان جق فاتخذها داراً لملكهم ولم يفارق الخيام إلى القصور وإنما ينزل بخيامه في بسيطها وضواحيها وولي بعده ابنه مراد بك وتوغل في بلاد النصرانية وراء الخليج وافتتح بلادهم إلى قريب من خليج البنادقة وجبال جنوة وصار أكثرهم ذمة ورعايا‏.‏ وعاث في بلاد الصقالبة بما لم يعهد لمن قبله وأحاط بالقسطنطينية من جميع نواحيها حتى اعتقل ملكها من أعقاب لشكري‏.‏ وطلب منه الذمة وأعطاه الجزية ولم يزل على جهاد أمم النصرانية وراءه إلى أن قتله الصقالبة في حروبه معهم سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وولى ابنه أبو يزيد وهو ملكهم لهذا العهد‏.‏ وقد استفحل ملكهم واستجدت بالعز دولتهم وكان قد غلب على قطعة من بلاد الروم ما بين سيواس وبلادهم من إنطاكية والعلايا بحيال البحر إلى قونية بنو قرمان من أمراء التركمان وهم الذين كانوا في حدود أرمينية وجدهم هو الذي هزم هيشوش بن ليعون ملك سيس من الأرمن سنة عشرين وسبعمائة‏.‏ ثم كان بين بني عثمان جق وبين بني قرمان اتصال ومصاهرة وكان ابن قرمان لهذا العهد صهر السلطان مراد بك على أخته فغلبه السلطان مراد بك على ما بيده ودخل ابن قرمون صاحب العلايا في طاعته بل والتركمان كلهم‏.‏ وفتح سائر البلاد ولم يبق له إلا سيواس بلد بني أرتنا في استبداد القاضي الذي عليها وما أدري ما الله صانع بعد ظهور هذا الملك تمر المتغلب على ملك المغل من بني جفطاي بن جنكز خان‏.‏ وملك ابن عثمان لهذا العهد مستفحل بتلك الناحية الشمالية ومتسع في أقطارها ومرهوب عند أمم النصرانية هنالك ودولته مستجدة عزيزة على تلك الأمم والأحياء والله غالب على أمره‏.‏ وإلى هنا انتهت أخبار الطبقة الثالثة من العرب ودولهم وهم الأمم التابعة للعرب بما تضمنه من الدول الإسلامية شرقاً وغرباً لهم ولمن تبعهم من العجم فلنرجع الآن إلى ذكر الطبقة الرابعة من العرب وهم المستعجمة أهل الجيل الناشئ بعد انقراض اللسان المضري ودروسه‏.‏ ونذكر أخبارهم ثم نخرج إلى الكتاب الثالث في أخبار البربر ودولهم فنفرغ بفراغها من الكتاب إن شاء الله تعالى والله ولي العون والتوفيق بمنه وكرمه‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:50 PM

العرب المستعجمة الطبقة الرابعة
- من العرب المستعجمة الطبقة الرابعة من العرب المستعجمة أهل الجيل الناشىء لهذا العهد من بقية أهل الدولة الإسلامية من العرب لما استقلت مضر وفرسانها وأنصارها من اليمن بالدولة الإسلامية فيمن تبع دينهم من إخوانهم ربيعة ومن وافقهم من الأحياء اليمنية وغلبوا الملل والأمم على أمورهم وانتزعوا الأمصار من أيديهم وانقلبت أحوالهم من خشونة البداوة وسذاجة الخلافة إلى عز الملك وترف الحضارة ففارقوا الحلل وافترقوا على الثغور البعيدة والأقطار البائنة عن ممالك الإسلام فنزلوا بها حامية ومرابطين عصباً وفرادى‏.‏ وتناقل الملك من عنصر إلى عنصر ومن بيت إلى بيت واستفحل ملكهم في دولة بني أمية وبني العباس من بعدهم بالعراق ثم دولة بني أمية الأخرى بالأندلس وبلغوا من الترف والبذخ ما لم تبلغه دولة من دول العرب والعجم من قبلهم‏.‏ فانقسموا في الدنيا ونبتت أجيالهم في ماء النعيم واسشأثروا مهاد الدعة واستطابوا خفض العيش وطال نومهم في ظل الغرف والسلم حتى ألفوا الحضارة ونسوا عهد البادية وانفلتت من أيديهم الملكة التي نالوا بها الملك وغلبوا الأمم من خشونة الدين وبداوة الأخلاق ومضاء المضرب‏.‏ فاستوت الحامية والرعية لولا الثقافة وتشابه الجند والحضر إلا في الشارة‏.‏ وأنف السلطان من المساهمة في المجد والمشاركة في النسب فجدعوا أنوف المتطاولين إليه من أعياصهم وعشائرهم ووجوه قبائلهم وغضوا من عنان طموحهم واتخذوا البطانة مقرهم من موالي الأعجام وصنائع الدولة حتى كثروا بهم قبيلتهم من العرب الذين‏.‏ أقاموا الدولة ونصروا الملة ودعموا الخلافة وأذاقوهم وبال الخلابة من القهر وساموهم خطة الخسف والذل فأنسوهم ذكر المجد وحلاوة العز وسلبوهم نصرة العصبية حتى صاروا أجزاء على الحامية وخولاً لمن استعبدهم من الخاصة وأوزاعاً متفرقين بين الأمة وصيروا لغيرهم الحل والعقد والإبرام والنقض من الموالي والصنائع فداخلتهم أريحية الغز وحدثوا أنفسهم با لملك فجحدوا الخلفاء وقعدوا بدست الأمر والنهي‏.‏ واندرج العرب أهل الحماية في القهر واختلطوا بالهمج ولم يراجعوا أحوال البداوة لبعدها ولا تذكروا عهد الأنساب لدروسها‏.‏ فدثروا وتلاشوا شأن من قبلهم وبعدهم‏.‏ الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً‏.‏ وكان المولدون لتمهيد قواعد الأمر وبناء أساسه من أول الإسلام والدين والخلافة بعده والملك قبائل من العرب موفورة العدد عزيزة الأحياء‏.‏ فنصروا الإيمان والمة ووطدوا أكناف الخلافة وفتحوا الأمصار والأقاليم وغلبوا عليها الأمم والدول‏.‏ أما من مضر‏:‏ فقريش وكنانة وخزاعة وبنو أسد وهذيل وتميم وغطفان وسليم وهوازن وبطونها من ثقيف وسعد بن بكر وعامر بن صعصعة ومن إليهم من الشعوب والبطون والأفخاذ والعشائر والخلفاء والموالي‏.‏ وأما من ربيعة فبنو تغلب بن وائل وبنو بكر بن وائل وكافة شعوبهم من بني شكر وبني حنيفة وبني عجل وبني ذهل وبني شيبان وتيم ثم بنو النمر من قاسط ثم عبد القيس ومن إليهم‏.‏ وأما من اليمنية ثم من كهلان بن سبأ منهم‏:‏ فأنصار الله الخزرج والأوس أبناء قيلة من شعوب غسان وسائر قبائل الأزد‏.‏ ثم همدان وخثعم وبجيلة ثم مذحج وكافة بطونها من عبس ومراد وزبيد والنخع والأشعريين وبني الحرث بن كعب‏.‏ ثم لحى وبطونها ولخم وبطونها ثم كندة وملوكها‏.‏ وأما من حمير بن سبأ فقضاعة وجميع بطونها ومن إلى هذه القبائل والأفخاذ والعشائر والأحلاف‏.‏ هؤلاء كلهم أنفقتهم الدولة الإسلامية العربية فنبا منهم الثغور القصية وأكلتهم الأقطار المتباعدة واستلحمتهم الوقائع المذكورة فلم يبق منهم حي ولا حلة تنجع ولا عشير يعرف ولا قليل يذكر ولا عاقلة تحمل جناية ولا عصابة لصريخ إلا سمع من ذكر أسمائهم في أنساب أعقاب متفرقين في الأمصار ألوى الخمول بجملتهم فتقطعوا في البلاد ودخلوا بين الناس فامتهنوا واستهينوا وأصبحوا خولاً للأمراء وبهما للذائد وعالة على الحرف‏.‏ وقام بالإسلام والملة غيرهم وصار الملك والأمر في أيدي سواهم وجلبت بضائع العلوم والصنائع إلى غير سوقهم فغلب أعاجم المشرق من الديلم والسلجوقية والأكراد والغز والترك على ملكه ودولته فلم يزل مناقلة فيهم إلى هذا العهد‏.‏ وغلب أعاجم المغرب من زناتة والبربر على أمره أيضاً فلم تزل الدول تتناقل فيهم على ما نذكره بعد إلى هذا العهد‏.‏ وغلب أعاجم المغرب والبربر على أمره وانقرض أكثر الشعوب الذين كان لهم الملك من هؤلاء فلم يبق لهم ذكر‏.‏ وانتبذ بقية هذه الشعوب من هذه الطبقة بالقفار وأقاموا أحياء بادين لم يفارقوا الحلل ولا تركوا البداوة والخشونة فلم يتورطوا في مهلكة الترف ولا غرقوا في بحر النعيم ولا فقدوا في غيابات الأمصار والحضارة ولهذا أنشد شاعرهم‏:‏ فمن ترك الحضارة أعجبته بأي رجال بادية ترانا وقال المتنبي يمدح سيف الدولة ويعرض بذكر العرب الذين أوقع بهم لما كثر عيثهم وفسادهم‏:‏ وكانوا يروعون الملوك بأن بدوا وأن نبتت في الماء بنت الغلافق فهاجوك أهدى في الفلا من نجومه وأبدى بيوتاً من أداحي النقانق وأقامت هذه الأحياء في صحارى الجنوب من الغرب والمشرق بإفريقية ومصر والشام والحجاز والعراق وكرمان كما كان سلفهم من ربيعة ومضر وكهلان في الجاهلية وعتوا وكثروا وانقرض الملك العربي الإسلامي‏.‏ وطرق الدول الهرم الذي هو شأنها واعتز بعض أهل هذا الجيل غرباً وشرقاً فاستعملتهم الدول وولوهم الإمارة على أحيائهم وأقطعوهم في الضاحية والأمصار والتلول وأصبحوا جيلاً في العالم ناشئاً كثروا سائر أهله من العجم‏.‏ ولهم في تلك الإمارة دول فاستحقوا أن تذكر أخبارهم وتلحق بالأجيال من العرب سلفهم‏.‏ ثم إن اللسان المضري الذي وقع به الإعجاز ونزل به القرآن فثوى فيهم وتبدل أعرابه فمالوا إلى العجمة‏.‏ وإن كانت الأوضاع في أصلها صحيحة واستحقوا أن يوصفوا بالعجمة من أجل الأعراب فلذلك قلنا فيهم العرب المستعجمة‏.‏ فلنذكر الآن بقية هؤلاء الشعوب من هذه الطبقة من المغرب والمشرق ونخص منهم أهل الأحياء الناجعة والأقدار النابهة ونلغي المندرجين في غيرهم‏.‏ ثم نرجع إلى ذكر المنتقلين من هذه الطبقة إلى إفريقية والمغرب فنستوعب أخبارهم لأن العرب لم يكن المغرب لهم في الأيام السابقة بوطن وإنما انتقل إليه في أواسط المائة الخامسة أفاريق من بني هلال وسليم اختلطوا في الدول هنالك فكانت أخبارهم من أخبارها لذلك استوعبناها‏.‏ وأما آخر مواطن العرب فكانت برقة وكان فيها بنو قرة بن هلال بن عامر‏.‏ وكان لهم في دول العبيديين أخبار وحكايتهم في الثورة أيام الحاكم والبيعة لأبي ركوة من بني أمية في الأندلس معروفة وقد أشرنا إليها في دولة العبيديين‏.‏ ولما أجاز بنو هلال وسليم إلى المغرب خالطوهم في تلك المواطن ثم ارتحلوا معهم إلى المغرب كما نذكره في دخول العرب إلى إفريقية والمغرب‏.‏ وبقي في مواطنهم ببرقة لهذا العهد أحياء بني جعفر وكان شيخهم أوسط هذه المائة الثامنة أبو ذئب وأخوه حامد بن حميد وهم ينسبون في المغرب تارة في العزة ويزعمون أنهم من بني كعب سليم وتارة في الهيب كذلك وتارة في فزارة والصحيح في نسبهم أنهم من مسراتة إحدى بطون هوارة‏.‏ سمعته من كثير من نسابتهم وبعدهم فيما بين برقة والعقبة الكبيرة أولاد وما بين العقبة الكبيرة والإسكندرية أولاد مقدم وهم بطنان أولاد التركية وأولاد قائد‏.‏ ومقدم وسلام معاً ينسبون إلى لبيد‏.‏ فبعضهم يقول لبيد بن لعتة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر وبعضهم يقول في مقدم‏:‏ مقدم بن عزاز بن كعب بن سليم‏.‏ وذكر لي سلام شيخ أولاد التركية‏:‏ أن أولاد مقدم من ربيعة بن نزار ومع هؤلاء الأحياء حي محارب ينتمون بآل جعفر‏.‏ ويقال إنهم من جعفر بن كلاب وهي رواحة ينتمون بآل زبيد ويقال من جعفر أيضاً‏.‏ والناجعة من هؤلاء الأحياء كلهم ينتمون في شأنهم إلى الواحات من بلاد القبلة‏.‏ وقال ابن سعيد‏:‏ ومن غطفان في برقة مهيب ورواحة وفزارة فجعل هؤلاء من غطفان والله أعلم بصحة ذلك‏.‏ وفيما بين الإسكندرية ومصر قبائل رحالة ينتقلون في نواحي البحيرة هنالك ويعمرون أرضها بالسكنى والفلح ويخرجون في المشاتي إلى نواحي العقبة وبرقة من مزانت وهوارة وزنارة إحدى بطون لواتة وعليهم مغارم الفلح‏.‏ ويندرج فيهم أخلاط من العرب والبربر لا يحصون كثرة‏.‏ وبنواحي الصغير قبائل من العرب من بني هلال وبني كلاب من ربيعة‏.‏ وهؤلاء أحياء كثيرة يركبون الخيل ويحملون السلاح ويعمرون الأرض بالفلاحة ويقومون بالخراج للسلطان‏.‏ وبينهم مع ذلك من الحروب والفتن ما ليس يكون بين أحياء القفر‏.‏ وبالصعيد الأعلى من أسوان وما وراءها إلى أرض النوبة إلى بلاد الحبشة قبائل متعددة وأحياء متفرقة كلهم من جهينة إحدى بطون قضاعة ملأوا تلك القفار وغلبوا النوبة على مواطنهم وملكهم وزاحموا الحبشة في بلادهم وشاركوهم في أطرافها‏.‏ والذين يلون أسوان هم يعرفون بأولاد الكنز كان جدهم كنزل الدولة وله مقامات مع الدول مذكورة ونزل معهم في تلك المواطن من أسوان إلى قوص بنو جعفر بن أبي طالب حين غلبهم بنو الحسن على نواحي المدينة وأخرجوهم منها‏.‏ فهم يعرفون بينهم بالشرفاء الجعافرة ويحترفون في غالب أحوالهم بالتجارة‏.‏ وبنواحي مصر من جهة القبلة إلى عقبة أيلة أحياء من جذام جمهورهم من العائد وعليهم درك السابلة بتلك الناحية‏.‏ ولهم على ذلك الأقطاع والعوائد من السلطان‏.‏ ويليهم من جهة الشرق بالكرك ونواحيها أحياء بني عقبة من جذام أيضاً رحالة ناجعة تنتهي رحلتهم إلى المدينة النبوية‏.‏ وعليهم درك السابله فيما يليهم‏.‏ وفيما وراء عقبة أيلة إلى القلزم قبائل من قضاعة ومن القلزم إلى الينبع قبائل من جهينة‏.‏ ومن الينبع إلى بدر ونواحيه من زبيد إحدى بطون مذحج‏.‏ ولهم مع الأمراء بمكة من بني حسن حلف ومواخاة‏.‏ وفيما بين مكة والمهجم مما يلي اليمن قبائل بني شعبة من كنانة‏.‏ وفيما بين الكرك وغزة شرقاً قبائل جذام من قضاعة في جموع وافرة ولهم أمراء أعزة يقطعهم السلطان على العسكر وحفظ السابلة وينجعون في المشاتي إلى معان وما يليها من أسافل نجد مما يلي تيماء وبعدهم في أرض الشام بنو حارثة بن سنبس وآل مراء من ربيعة إخوة آل فضل الملوك على العرب في برية الشام والعراق ونجد‏.‏ وأخبرني بعض أمراء حارثة بن سنبس عن بطون‏.‏ فلنذكر الآن خبر أولاد فضل أمراء الشام والعراق من طيء فنبين أعراب الشام جميعاً‏.‏ آل فضل ودولتهم بالشام والعراق خبر آل فضل وبني مهنا منهم ودولتهم بالشام والعراق هذا الحي من العرب يعرفون بآل فضل وهم رحالة ما بين الشام والجزيرة وبرية نجد من أرض الحجاز ينتقلون هكذا بينها في الرحلتين وينتهون في طيء ومعهم أحياء زبيد وكلب هزنم ومذحج أحلاف لهم باين بعضهم في الغلب والعدد آل مراء‏.‏ ويزعمون أن فضلاً ومراء آل ربيعة ويزعمون أيضاً أن فضلاً ينقسم ولده بين آل مهنا وآل علي وأن آل فضل كلهم كانوا بأرض حوران فغلبهم عليها آل مراء وأخرجوهم منها فنزلوا حمص ونواحيها‏.‏ وأقامت زبيد من أحلافهم بحوران أحلافهم بها حتى الآن لا يفارقونها‏.‏ قالوا‏:‏ ثم اتصل آل فضل باللد من السلطنة وولوهم على أحياء العرب وأقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام والعراق فاستظهروا برئاستهم على آل مراء وغلبوهم على المشاتي فصار عامة رحلتهم في حدود الشام قريباً من التلول والقرى لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل‏.‏ وكانت معهم أحياء من أفاريق الأعراب يندرجون في لفيفهم وحلفهم من مذحج وعامر وزبيد كما كان لآل فضل‏.‏ إلا أن أكثر من كان من آل مراء أولئك الأحياء وأوفرهم عدداً بنو حارثة من إحدى بطون طيء‏.‏ هكذا ذكر الثقة عنهم من رجالاتهم‏.‏ وحارثة هؤلاء متغلبون لهذا العهد في تلول الشام لا يجاوزونها إلى القفار‏.‏ ومواطن طيء بنجد قد اتسعت وكانوا أول خروجهم من اليمن نزلوا جبلي أجأ وسلمى وغلبوا عليهما بني أسد وجاوروهم‏.‏ وكان لهم من المواطن سميراء وفيد من منازل الحاج‏.‏ ثم انقرض بنو أسد وورثت طيء بلادهم فيما وراء الكرخ من أرض غفرو وكذلك ورثوا منازل تميم بأرض نجد فيما بين البصرة والكوفة واليمامة‏.‏ وكذلك ورثوا غطفان ببطن مما يلي وادي القرى‏.‏ هكذا قال ابن سعيد‏.‏ وقال‏:‏ أشهر الحجازيين منهم الآن بنو لام وبنو نبهان والصولة بالحجاز لبني لام بين المدينة والعراق ولهم حلف مع بني الحسين أمراء المدينة‏.‏ قال‏:‏ وبنو صخرمنهم في جهة تيماء بين الشام وخيبر‏.‏ قال‏:‏ وغربة من طيء بنو غربة بن أفلت بن معبد بن معن بن عمرو بن عنبس بن سلامان ومن بعد بلادهم حي الأنمر والأساور ورثوها من عنزة‏.‏ ومنازلهم لهذا العهد في مصايفهم بالكيبات وفي مشاتيهم مع بني لام ومن بطونهم الأجود والبطنين وإخوانهم زبيد نازلون بالموصل فقد جعل ابن سعيد‏:‏ زبيد هؤلاء من بطون طيء ولم يجعلهم من مذحج‏.‏ ورياسة آل فضل في هذا العهد في بني مهنا‏.‏ وينسبونه هكذا‏:‏ كنا بن مايع بن مدسة بن عصية بن فضل بن بدر بن علي بن مفرج بن بدر بن سالم بن قصية بن بدر بن سميع‏.‏ ويقفون عند سميع‏.‏ ويقول زعماؤهم إن سميعاً هذا هو الذي ولدته العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي‏.‏ وحاشا الله من هذه المقالة في الرشيد وأخته وفي بنات كبراء العرب من طيء إلى موالي العجم من بني برمك وأمثالهم‏.‏ ثم إن الوجود يحيل رياسة مثل هؤلاء على هذا الحي إذا لم يكونوا من نسبهم‏.‏ وقد تقدم مثل ذلك في مقدمات الكتاب‏.‏ وكان مبدأ رياستهم من أول دولة بني يعقوب‏.‏ قال العماد الأصفهاني نزل العادل بمرج دمشق ومعه عيسى بن محمد بن ربيعة شيخ الأعراب في جموع كثيرة‏.‏ وكانت الرئاسة فيهم لعهد الفاطميين لبني جراح من طيء‏.‏ وكان كبيرهم مفرج بن دغفل بن جراح‏.‏ وكان من أقطاعه التي معه وهو الذي قبض على أسكى مولى بني بويه لما انهزم مع مولاه بختيار بالعراق‏.‏ وجاء إلى الشام سنة أربع وستين وثلثمائة وملك دمشق وزحف مع القرامطة لقتال العزيز بن المعز لدين الله صاحب مصر فهزمهم العزيز وهرب أفتكين فلقيه مفرج بن دغفل وجاء به إلى العزيز فأكرمه ورقاه في دولته‏.‏ ولم يزل شأن مفرج هكذا وتوفي سنة أربع وأربعمائة‏.‏ وكان من ولده حسان ومحمود وعلي وجرار‏.‏ وولي حسان بعده وعظم صيته‏.‏ وكان بينه وبين خلفاء الفاطميين معزة واستقامة وهو الذي هزم الرملة وهزم قائدهم باروق التركي وقتله وسبى نساءه وهو الذي مدحه التهامي‏.‏ ويذكر المسمى وغيره أن موطىء دولة العبيديين في قرابة حسان بن مفرج هذا فضل بن ربيعة بن حازم وأخوه بدر بن ربيعة وابنا بدر‏.‏ ولعل فضلاً هذا هو جد آل فضل‏.‏ قال ابن الأثير‏:‏ إن فضل بن ربيعة بن حازم كان آباؤه أصحاب البلقاء والبيت المقدس‏.‏ وكان الفضل تارة مع الفرنج وتارة مع خلفاء مصر‏.‏ ونكره لذلك طغركين أتابك دمشق وكافل بني تتش فطرده من الشام فنزل على صدقة بن مزيد بالحلة وحالفه‏.‏ ووصله صدقة بتسعه آلاف دينار‏.‏ فلما خالف صدقة بن مزيد على السلطان محمد بن ملكشاه سنة خمسمائة وما بعدها ووقعت بينهما الفتنة اجتمع له فضل هذا وقرواش بن شرف الدولة ومسلم بن قريش صاحب الموصل وبعض أمراء التركمان وكانوا كلهم أولياء صدقة فصار في الطلائع بين يدي الحرب‏.‏ وهربوا إلى السلطان فأكرمهم وخلع عليهم وأنزل فضل بن ربيعة بدار صدقة بن مزيد ببغداد حتى إذا سار السلطان لقتال صدقة واستأذنه فضل في الخروج إلى البرية ليأخذ بحجرة صدقة فأذن له وعبر إلى الأنبار فلم يراجع السلطان بعدها كلام ابن الأثير‏.‏ ويظهر من كلامه وكلام المسبحي أن فضلاً هذا وبدراً من آل جراح بلا شك‏.‏ ويظهرمن سياقة هؤلاء نسبهم أن فضلاً هذا هوجدهم لأنهم ينسبونه‏:‏ فضل بن ربيعة بن الجراح‏.‏ فلعل هؤلاء نسبوا ربيعة مفرج الذي هو كبير بني الجراح لبعد العهد وقلة المحافظة على مثل هذا من البادية القفر‏.‏ وأما نسبة هذا الحي من آل فضل بن ربيعة بن فلاح من مفرج في طيء‏:‏ فبعضهم يقول إن الرئاسة في طيء كانت لأياس بن قبيصة من بني سبأ بن عمرو بن الغوث من طيء وأياس هو الذي ملكه كسرى على الحيرة بعد آل المنذر لما قتل النعمان بن المنذر وهو الذي صالح خالد بن الوليد عن الحيرة على الجزية‏.‏ ولم تزل الرئاسة على طيء إلى بني قبيصة هؤلاء صدراً من دولة الإسلام‏.‏ فلعل بني الجراح وآل فضل هؤلاء من أعقابهم وإن كان انقرض أعقابهم فهم من أقرب الحي إليهم لأن الرئاسة على الأحياء والشعوب إنما تتصل في أهل العصبية والنسب كما مر أول الكتاب‏.‏ وقال ابن حزم عندما ذكر أنساب طيء وأنهم لما خرجوا من اليمن مع بني أسد نزلوا جبلي أجأ وسلمى وأوطنوهما وما بينهما ونزل بنو أسد ما بينهم وبين العراق‏.‏ وفضل كثير منهم وهم‏:‏ بنو حارثة نسبة إلى أمهم وتيم الله وحبيش والأسعد إخوتهم رحلوا عن الجبلين في حرب الفساد فلحقوا بحلب وحاضر طيء وأوطنوا تلك البلاد إلا بني رومان بن جندب بن خارجة بن سعد فإنهم أقاموا بالجبلين فكانوا جبلين ولأهل حلب وحاضرطيء من بني خارجة السهيليون‏.‏ فلعل هذه الأحياء الذين بالشام من بني الجراح وآل فضل من بني خارجة هؤلاء الذين ذكر ابن حزم أنهم انتقلوا إلى حلب وحاضر طيء لأن هذا الموطن أقرب إلى مواطنهم لهذا العهد من مواطن بني الجراح بفلسطين من جبلي أجأ وسلمى الذي هو موضع الآخرين‏.‏ فالله أعلم أي ذلك يصح من أنسابهم‏.‏ وتحت خفارتهم بنواحي الفرات ابن كلاب بن ربيعة بن عامر دخلوا مع قبائل عامر بن صعصعة من نجد إلى الجزيرة‏.‏ ولما افترق بنو عامر على الممالك الإسلامية اختص هؤلاء بنواحي حلب وملكها منهم بنو صالح بن مرداس من بني عمرو بن كلاب‏.‏ ثم تلاشى ملكهم ورجعوا عنها إلى الأحياء وأقاموا بالفرات تحت خفارة هؤلاء الأمراء من طيء‏.‏ وأما ترتيب رئاستهم على العرب بالشام والعراق منذ دولة بني أيوب العادل وإلى هذا العهد وهو آخر ست وتسعين وسبعمائة فقد ذكرنا ذلك في دولة الترك ملوك مصر والشام وذكرناهم واحداً بعد واحد على ترتيبهم‏.‏ وسنذكرهم ههنا على ذلك الترتيب فنقول‏:‏ كان الأمير لعهد بني أيوب عيسى بن محمد بن ربيعة أيام العادل كما كان بعده حسام الدين مانع بن حارثة مصر والشام‏.‏ وفي سنة ثلاثين وستمائة ولي عليهم بعده ابنه مهنا‏.‏ ولما ارتجع قطز بن فضل أحد ملوك الترك بمصر والشام من أيدي التتر وهزمهم بعين جالوت أقطع سلمية لمهنا بن مانع وانتزعها من عمل المنصور بن مظفر بن شاهنشاه صاحب حماة ولم أقف على تاريخ وفاة مهنا‏.‏ ثم ولي الظاهر على أحياء العرب بالشام عندما استفحل ملك الترك‏.‏ وسار إلى دمشق لتشييع الخليفة الحاكم عم المستعصم إلى بغداد عيسى بن مهنا بن مانع وجر له الإقطاعات على حفظ السابلة وحبس ابن عمه زامل بن علي بن ربيعة من آل فضل على سعايته وإغرامه‏.‏ ولم يزل يغير على أحياء العرب وصلحوا في أيامه لأنه خالف أباه في الشدة عليهم وهرب إليه سنقر الأشقر سنة تسع وسبعين وكاتبوا أبغا واستحثوه لملك الشام‏.‏ وتوفي عيسى بن مهنا سنة أربم وثمانين فولى المنصور قلاوون من بعده ابنه مهنا‏.‏ ثم سار الأشرف بن قلاوون إلى الشام ونزل حمص ووفد عليه مهنا بن عيسى في جماعة من قومه فقبض عليه وعلى ابنه موسى وإخوته محمد وفضل ابني مهنا‏.‏ وبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها حتى أفرج عنهم العادل كتبغا عندما جلس على التخت سنة أربع وتسعين ورجع إلى إمارته‏.‏ وكان له في أيام الناصر نصرة واستقامة وميلة إلى ملوك التتر بالعراق ولم يحضر شيئاً من وقائع غازان‏.‏ ولما انتقض قراسنقر وأقوش الأفرم وأصحابهما سنة عشر وسبعمائة لحقوا به وساروا من عنده إلى خربندا واستوحش هو من السلطان وأقام في أحيائه منقبضاً عن الوفادة‏.‏ ووفد أخوه فضل سنة اثنتي عشرة فرعى له حق وفادته وولاه على العرب مكان أخيه مهنا وبقي مهنا مشرداً‏.‏ ثم لحق سنة ست عشرة بخربندا ملك التتر فأكرمه وأقطعه بالعراق‏.‏ وهلك خربندا في تلك السنة فرجع مهنا إلى أحيائه‏.‏ ووفد ابنه أحمد وموسى وأخوه محمد بن عيسى مستعتبين على الناصر ومتطارحين عليه فأكرم وفادتهم وأنزلهم بالقصر الأبلق وشملهم بالإحسان وأعتب مهنا ورده إلى إمارته وأقطاعه وذلك سنة سبع عشرة‏.‏ وحج هذه السنة ابنه عيسى وأخوه محمد وجماعة من آل فضل في اثني عشر ألف راحلة‏.‏ ثم رجع مهنا إلى دينه في ممالأة التتر والأجلاب على الشام‏.‏ واتصل ذلك منه فنقم السلطان عليه وسخط عليه قومه أجمع‏.‏ وتقدم إلى نواب الشام سنة عشرين بعد مرجعه من الحج فطرد آل فضل عن البلاد وأدال منهم مالكاً على عدالته بينهم وولى منهم على أحياء العرب محمد بن أبي بكر وصرف أقطاع مهنا وولده إلى محمد وولده فأقام مهنا على ذلك مدة‏.‏ ثم وفد سنة إحدى وثلاثين مع الأفضل بن المؤيد صاحب حماة متوسلاً به ومتطارحاً على السلطان فأقبل عليه ورد عليه أقطاعه وأمارته‏.‏ وذكر لي بعض أمراء الكبراء بمصر ممن أدرك وفادته أو حدث بها‏:‏ أنه تجافى في هذه الوفادة من قبول شيء من السلطان حتى أنه ساق عنده النياق الحلوبة والعراب وأنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سأل منهم شيئاً من حاجاته ثم رجع إلى أحيائه وتوفي في سنة أربع وثلاثين فولي ابنه مظفر الدين موسى وتوفي سنة اثنتين وأربعين عقب مهلك الناصر وولي مكانه أخوه سليمان‏.‏ ثم هلك سليمان سنة ثلاث وأربعين فولي مكانه شرف الدين عيسى ابن عمه فضل بن عيسى‏.‏ ثم توفي سنة أربع وأربعين بالقريتين ودفن عند قبر خالد بن الوليد‏.‏ وولي مكانه أخوه سيف بن فضل ثم عزله السلطان بمصر الكامل ابن الناصر سنة ست وأربعين وولي مكانه أحمد بن مهنا بن عيسى‏.‏ ثم جمع سيف بن فضل ولقيه فياض بن مهنا بن عيسى وانهزم سيف‏.‏ ثم ولي السلطان حسن الناصر في دولته الأولى وهو في كفالة بيبغاروس أحمد بن مهنا فسكنت الفتنة بينهم‏.‏ ثم توفي سنة سبع وأربعين فولي مكانه أخوه فياض وهلك سنة تسع وأربعين وولي مكانه أخوه خيار بن مهنا ولاه حسن الناصر في دولته الثانية‏.‏ ثم انتقض سنة خمس وستين وأقام سنتين بالقصر عاصياً إلى أن شفع فيه نائب حماة فأعيد إلى أمارته‏.‏ ثم انتقض سنة سبعين فولى السلطان الأشرف مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى‏:‏ وجاء إلى نواحي حلب واجتمع إليه بنو كلاب وغيرهم وعاثوا في البلاد وعلى حلب يومئذ قشتمر المنصوري فبرز إليهم وانتهى إلى خيمهم واستاق نعمهم وتخطى إلى الخيام فاستجاشوا بها وهزموا عساكره وقتل قشتمر ابنه في المعركة تولى هو قتله بيده وذهب إلى القفر منتقضاً‏.‏ فولى الأشرف مكانه ابن عمه معيقل بن فضل بن عيسى‏.‏ ثم بعث معيقل صاحبه سنة إحدى وسبعين يستأمن لخيار فأمنه‏.‏ ثم وفد خيار بن مهنا سنة خمس وسبعين فرضي عنه السلطان وأعاده إلى أمارته‏.‏ ثم توفي سنة سبع وسبعين فولي أخوه مالك إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين فولي مكانه معيقل بن موسى بن عيسى وابن مهنا شريكين في أمارتهما‏.‏ ثم عزلا لسنة وولى نعير بن خيار بن مهنا واسمه محمد وهو لهذا العهد أمير على آل فضل وجميع أحياء طيء بالشام‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:50 PM

والسلطان الظاهر لعهده يزاحمه بمحمد بن عمه قاري‏.‏
ثم وصل انتقاضه على السلطان وخلافه وظاهر السلطان على موالاة محمد بن قاري فسخطه وولى مكانهما ابن عمهما محمد بن كوكتين ابن عمه موسى بن عساف بن مهنا فقام بأمر العرب وبقي نعير منتبذاً بالقفر وعجز عن الميرة لقلة ما بيده واختلت أحواله وهو على ذلك لهذا العهد والله ولي الأمور ولا رب سواه‏.‏ ولنرجع إلى من بقي من شعوب هذه الطبقة فنقول‏:‏ كان بنو عامر بن صعصعة كلهم بنجد وبنو كلاب في خناصرة والربذة من جهات المدينة وكعب بن ربيعة فيما بين تهامة والمدينة وأرض الشام‏.‏ وبنو هلال بن عامر في بسائط الطائف ما بينه وبين جبل غزوان‏.‏ ونمير بن حامد معهم‏.‏ وجشم محسوبون منهم بنجد‏.‏ وانتقلوا كلهم في الإسلام إلى الجزيرة الفراتية فملك نمير حران ونواحيها‏.‏ وأقام بنو هلال بالشام إلى أن ظعنوا إلى المغرب كما نذكر في أخبارهم‏.‏ وبقي منهم بقية بجبل بني هلال المشهور بهم الذي فيه قلعة صرخد‏.‏ وأكثرهم اليوم يتعاطون الفلح‏.‏ وبنو كلاب بن ربيعة ملكوا أرض حلب ومدينتها كما ذكرناه‏.‏ وبنو كعب بن ربيعة دخلت إلى الشام منهم قبائل عقيل وقشير وجريش وجعدة فانقرض الثلاثة في دولة الإسلام ولم يبق إلا بنو عقيل‏.‏ وذكر ابن حزم‏:‏ أن عددهم يفي عدد جميع مضر‏.‏ فملك منهم الموصل بنو مالك بني حمدان وتغلب‏.‏ واستولوا عليها وعلى نواحيها وعلى حلب معها‏.‏ ثم انقرض ملكهم ورجعوا للبادية وورثوا مواطن العرب في كل جهة‏.‏ فمنهم بنو المنتفق بن عامر بن عقيل وكان بنو مالك بن عقيل في أرض تيماء من نجد وهم الآن بجهات البصرة في الآجام التي بينها وبين الكوفة المعروفة بالبطائح والإمارة منهم في بني معروف‏.‏ وبالمغرب من بني المنتفق أحياء دخلوا مع هلال بن عامر يعرفون بالخلط ومواطنهم بالمغرب الأقصى ما بين فاس ومراكش‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ إن بني المنتفق كلهم يعرفون بالخلط ويليهم في جنوب البصرة إخوتهم بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف بن عامر وعوف أخو المنتفق قد غلبوا على البحرين وغمارة وملكوها من يدي أبي الحسين الأصغر بن تغلب‏.‏ وكانت هذه المواطن للأزد وبني تميم وعبد القيس فورث هؤلاء أرضهم فيها وديارهم‏.‏ قال ابن سعيد‏:‏ وملكوا أيضاً أرض اليمامة من بني كلاب وكان ملوكهم فيها لعهد الخمسين والستمائة بنو عصفور‏.‏ وكان من بني عقيل خفاجة بن عمرو بن عقيل كان انتقالهم إلى العراق فأقاموا به وملكوا ضواحيه وكانت لهم مقامات وذكر وهم أصحاب صولة وكثرة وهم الآن ما بين دجلة والفرات‏.‏ ومن عقيل هؤلاء بنو عبادة بن عقيل ومنهم الأجافل لأن عبادة كان يعرف بالأجفل‏.‏ وهم لهذا العهد بالعراق مع بني المنتفق‏.‏ وفي البطايح التي بين البصرة والكوفة وواسط الامارة فيهم على ما يبلغنا لرجل اسمه قيان بن صالح وهو في عدد ومنعة‏.‏ وما أدري أهو من بني معروف أمراء البطائح بني المنتفق أو من عبادة الأخائل‏.‏ هذه أحوال بني عامر بن صعصعة فأما بنو كهلان فلم يبق لهم أحياء فيما يسمع‏.‏ وأما ربيعة فأجازوا بلاد فارس وكرمان فهم ينتجعون هنالك ما بين كرمان وخراسان‏.‏ وبقيت بالعراق منهم طائفة ينزلون البطائح وانتسب إلى الكوفة منهم بنو صباح ومعهم لفائف من الأوس والخزرج‏.‏ فأمير ربيعة اسمه الشيخ ولي وعلى الأوس والخزرج طاهر بن خضر منهم هذه شعوب الطبقة الثالثة من العرب لهذا العهد في ديار المشرق بما أدى إليه الإمكان‏.‏ ونحن الآن نذكر شعوبهم الذين انتقلوا إلى المغرب‏:‏ فإن أمة العرب لم يكن لهم إلمام قط بالمغرب لا في الجاهلية ولا في الإسلام لأن أمة البربر الذين كانوا به كانوا يمانعون عليه الأمم‏.‏ وقد غزاه أفريقش بن ضبيع الذي سميت به إفريقية من ملوك التبابعة وملكها‏.‏ ثم رجع عنها وترك كتامة وصنهاجة من قبائل حمير فاستحالت طبيعتهم إلى البربر واندرجوا في عدادهم وذهب ملك العرب منهم‏.‏ ثم جاءت الملة الإسلامية وظهر العرب على سائر الأمم بظهور الدين فسارت عساكرهم في المغرب وافتتحوا سائر أمصاره ومدنه وعانوا من حروب البربر شدة‏.‏ وقد تقدم لنا ما ذكره ابن أبي زيد من أنهم ارتدوا اثنتي عشر مرة‏.‏ ثم رسخ فيهم الإسلام ولم يسكنوا بأجيالهم في الخيام ولا نزلوا أحياء لأن الملك الذي حصل لهم يمنعهم من سكنى الضاحية ويعدل بهم إلى المدن الأمصار‏.‏ فلهذا قلنا إن العرب لم يوطنوا بلاد المغرب‏.‏ ثم أنهم دخلوا إليه في منتصف المائة الخامسة وأوطنوه وافترقوا بأحيائهم وحللهم في جهاته كما نذكر الآن ونستوعب أسبابه‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:51 PM

دخول العرب المغرب
الخبر عن دخول العرب من بني هلال وسليم المغرب من الطبقة الرابعة وأخبارهم هنالك كانت بطون هلال وسليم من مضر لم يزالوا بادين منذ الدولة العباسية وكانوا أحياء ناجعة بمجالاتهم من قفر الحجاز بنجد‏.‏ فبنو سليم مما يلي المدينة وبنو هلال في جبل غزوان عند الطائف‏.‏ وربما كانوا يطوفون رحلة الصيف والشتاء أطراف العراق والشام فيغيرون على الضواحي ويفسدون السابلة ويقطعون على الرفاق وربما أغار بنو سليم على الحاج أيام الموسم بمكة وأيام الزيارة بالمدينة‏.‏ وما زالت البعوث تجهز والكتائب تكتب من باب الخلافة ببغداد للإيقاع بهم وصون الحاج من معرات هجومهم‏.‏ ثم تحيز بنو سليم والكثير من ربيعة بن عامر إلى القرامطة عند ظهورهم وصاروا جنداً لهم بالبحرين وعمان‏.‏ ولما تغلب شيعة ابن عبيد الله المهدي على مصر والشام وكان القرامطة قد تغلبوا على أمصار الشام فانتزعها العزيز منهم وغلبهم عليها وردهم على أعقابهم إلى قرارهم بالبحرين ونقل أشياعهم من العرب من بني هلال وسليم فأنزلهم بالصعيد وفي العدوة الشرقية من بحر النيل فأقاموا هناك وكان لهم أضرار بالبلاد‏.‏ ولما انساق ملك صنهاجة بالقيروان إلى المعز بن باديس بن المنصور سنة ثمان وأربعمائة قلده الظاهر لدين الله علي بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معد أمر إفريقية على عادة آبائه كما نذكره لك بعد وكان لعهد ولايته غلاماً يفعة ابن ثمان سنين فلم يكن مجرباً للأمور ولا بصيراً بالسياسة ولا كانت فيه عزة وأنفة‏.‏ ثم هلك الظاهر سنة سبع وعشرين وولي المستنصر بالله معد الطويل أمر الخلافة بما لم ينله أحد من خلفاء الإسلام‏.‏ يقال ولي خمساً وسبعين وقيل خمساً وتسعين والصحيح ثلاث وسبعون لأن مهلكه كان على رأس المائة الخامسة وكانت أذن المعز بن باديس صاغية إلى مذاهب أهل السنة وربما كانت شواهدها تظهر عليه وكبا به فرسه في أول ولايته لبعض مذاهبه‏.‏ فنادى مستغيثا بالشيخين أبي بكر وعمر وسمعته العامة فثاروا بالرافضة وقتلوهم وأعلنوا بالمعتقد الحق ونادوا بشعار الإيمان وقطعوا من الأذان حي على خير العمل‏.‏ وأغضى عنه الظاهر من ذلك وابنه معد المستنصر من بعد‏.‏ واعتذر بالعامة فقبل واستمر على إقامة الدعوة والمهاداة وفي أثناء ذلك يكاتب وزيرهما وحاجب دولتهما المضطلع بأمورهما أبا القاسم أحمد بن علي الجرجاني ويستميله ويعرض ببني عبيد وشيعتهم‏.‏ وكان الجرجاني يلقب بالأقطع بما كان أقطعه الحاكم بجناية ظهرت عليه في الأعمال وانتهضته السيدة بنت الملك عمة المستنصر‏.‏ فلما ماتت استبد بالدولة سنة أربع عشرة وأربعمائة إلى أن هلك سنة ست وثلاثين وولي الوزارة بعده أبو محمد الحسن بن على اليازوري أصله من قرى فلسطين وكان أبوه ملاحاً بها‏.‏ فلما ولي الوزارة خاطبه أهل الجهات ولم يولوه فأنف من ذلك فعظم عليه وحنق عليه ثمال بن صالح صاحب حلب والمعز بن باديس صاحب إفريقية وانحرفوا عنه وحلف المعز لينقضن طاعتهم وليحولن الدعوة إلى بني عباس ويمحون اسم بني عبيد من منابره ولج في ذلك وقطع أسماءهم من الطراز والرايات وبايع القائم أبا جعفر بن القادر من خلفاء بني العباس وخاطبه ودعا له على منابره سنة سبع وثلاثن وبعث بالبيعة إلى بغداد‏.‏ ووصله أبو الفضل البغدادي وحظي من الخليفة بالتقليد والخلع وقرىء كتابه بجامع القيروان ونشرت الرايات السود وهدمت دار الإسماعيلية‏.‏ وبلغ الخبر إلى المستنصر معد الخليفة بالقاهرة وإلى الشيعة الرافضة من كتامة وصنائع الدولة فوجموا وطلع عليهم المقيم المقعد من ذلك وارتبكوا في أمرهم‏.‏ وكان أحياء هلال هؤلاء الأحياء من جشم والأثبج وزغبة ورياح وربيعة وعدي في محلاتهم بالصعيد كما قدمناه‏.‏ وقد عم ضررهم وأحرق البلاد والدولة شررهم فأشار الوزير أبو محمد الحسن بن علي اليازوري باصطناعهم والتقدم لمشايخهم وتوليتهم أعمال إفريقية وتقليدهم أمرها ودفعهم إلى حرب صنهاجة ليكونوا عند نصر الشيعة والسبب في الدفاع عن الدولة‏.‏ فإن صدقت المخيلة في ظفرهم بالمعز وصنهاجة كانوا أولياء للدعوة وعمالاً بتلك القاصية‏.‏ وارتفع عدوانهم من ساحة الخلافة وإن كانت الأخرى فلها ما بعدها‏.‏ وأمر العرب البادية أسهل من أمر صنهاجة الملوك فتغلبوا على هديه وشورانة‏.‏ وقيل إن الذي أشار بذلك وفعله وأدخل العرب إلى إفريقية إنما هو أبو القاسم الجرجاني وليس ذلك بصحيح فبعث المستنصر وزيره على هؤلاء الأحياء سنة إحدى وأربعين وأرضخ لأمرائهم في العطاء ووصل عامتهم بعير ودينار لكل واحد منهم وأباح لهم إجازة النيل‏.‏ وقال لهم‏:‏ قد أعطيتكم المغرب وملك المعز بن بلكين الصنهاجي العبد الآبق قلاتفتقرون وكتب اليازوري إلى المغرب‏:‏ أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولاً فحولاً وأرسلنا عليها رجالاً كهولا ليقضي الله أمراً كان مفعولاً فطمعت العرب إذ ذاك وأجازوا النيل إلى برقة نزلوا بها وافتتحو أمصارها واستباحوها وكتبوا لإخوانهم بشرقي النيل يرغبونهم في البلاد فأجازوا إليهم بعد أن أعطوا لكل رأس دينارين فأخذ منهم أضعاف ما أخذوه وتقارعوا على البلاد‏:‏ فحصل لسليم الشرق وأقامت هيب من سليم وأحلافها رواحة وناصرة وغمرة بأرض برقة‏.‏ وسارت قبائل دياب وعوف وزغب وجميع بطون هلال إلى إفريقية كالجراد المنتشر لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه حتى وصلوا إلى إفريقية سنة ثلاث وأربعين‏.‏ وكان أول من وصل إليهم أمير رياح مؤنس بن يحيى الصنبري فاستماله المعز واستدعاه واستخلصه لنفسه وأصهر إليه‏.‏ وفاوضه في استدعاء العرب من قاصية وطنه للاستغلاظ على نواحي بني عمه‏.‏ فاستنفر القرى وأتى عليهم فاستدعاهم فعاثوا في البلاد وأظهروا الفساد في الأرض ونادوا بشعار الخليفة المستنصر‏.‏ وسرح إليهم من صنهاجة الأولياء فأوقعوا بها فتمخط المعز لكبره وأشاط بغضبه وتقبض على أخي مؤنس وعكسر بظاهر القيروان‏.‏ وبعث بالصريخ إلى ابن عمه صاحب القلعة القائد بن حامد بن بلكين فكتب إليه كتيبة من ألف فارس سرحهم إليه استنفروا زناتة فوصل إليه المستنصر بن خزرون المغراوي في ألف فارس من قومه‏.‏ وكان بالبدو من إفريقية مع الناجعة من زناتة وهوم أعظم ساداتهم‏.‏ وارتحل المعز في أولئك النفر ومن لف لفهم من الأتباع والحشم والأولياء ومن في إيالتهم من بقايا عرب الفتح وحشد زناتة والبربر وصمد نحوهم في أمم لا تحصى يناهز عددهم فيما يذكر ثلاثين ألفاً‏.‏ وكانت رياح وزغبة وعدي حيدران من جهة فاس‏.‏ ولما تزاحف الفريقان انخذل بقية عرب الفتح وتحيزوا إلى الهلاليين للعصبية القديمة وخانته زناتة وصنهاجة وكانت الهزيمة على المعز وفر بنفسه وخاصته إلى القيروان‏.‏ وانتهبت العرب من جمع مخلفه من المال والمتاع والذخيرة والفساطيط والرايات وقتلوا فيها من البشر ما لا يحصى‏.‏ يقال إن القتلى من صنهاجة بلغوا ثلاثة آلاف وثلثمائة‏.‏ وفي ذلك يقول علي بن رزق الرياحي كلمته‏.‏ ويقال إنها لابن شداد وأولها‏:‏ لقد زار وهنأ من أميم خيال وأيدي المطايا بالزميل عجال وإن ابن باديس لأفضل مالك لعمري ولكن ما لديه رجال ثلاثون ألفاً منهم قد هزمتهم ثلاثة آلاف وذاك ضلال ثم نازلوه بالقيروان وطال عليه أمر الحصار وهلكت الضواحي والقرى بإفساد العرب وعيثهم وانتقام السلطان منهما بانتمائهم في ولاية العرب‏.‏ ولجأ الناس إلى القيروان وكثر النهب واشتد الحصار وفر أهل القيروان إلى تونس وسوسه وعم النهب والعيث في البلاد‏.‏ ودخلت تلك الأرض سنة خمس وأربعين وأحاطت زغبة ورياح بالقيروان‏.‏ ونزل مؤنس قريباً من ساحة البلد‏.‏ وفر القرابة والأعياص من آل زير فولاهم موسى قابس وغيرها‏.‏ ثم ملكوا بلاد قسطنطينة كلها وغزا عامل ابن أبي الغيث منهم‏:‏ زناتة ومغراوة فاستباحهم ورجع‏.‏ واقتسمت العرب بلاد إفريقية سنة ست وأربعين‏:‏ وكان لزغبة طرابلس وما يليها ولمرداس بن رياح باجة وما يليها‏.‏ ثم اقتسموا البلاد ثانية فكان لهلال من تونس إلى الغرب وهم‏:‏ رياح وزغبة والمعقل وجشم وقرة والأثبج والخلط وسفيان‏.‏ وتصرم الملك من يد المعز وتغلب عائذ بن أبي الغيث على مدينة تونس وسباها‏.‏ وملك أبو مسعود من شيوخهم بونة صلحاً‏.‏ وعامل المعز على خلاص نفسه وصاهر ببناته ثلاثة من أمراء العرب‏:‏ فارس بن أبي الغيث وأخاه عائذاً والفضل بن أبي علي المرادي‏.‏ وقدم ابنه تميم إلى المهدية سنة ثمان وأربعين ولسنة تسع بعدها بعث إلى أصهاره من العرب وترحم بهم ولحق بهم بالقيروان واتبعوه فركب البحر من الساحل وأصلح أهل القيروان فأخبرهم ابنه المنصور بخبر أبيه فساروا بالسودان والمنصور‏.‏ وجاء العرب فدخلوا البلد واستباحوه واكتسحوا المكاسب وخربوا المباني وعاثوا في محاسنها وطمسوا من الحسن والرونق معالمها‏.‏ واستصفوا ما كان لال بلكين في قصورها وشملوا بالعيث والنهب سائر من فيها وتفرق أهلها في الأقطار فعظمت الرزية وانتشر الداء وأعضل الخطب‏.‏ ثم ارتحلوا إلى المهدية فنزلوها وضيقوا عليها بمنع المرافق وإفساد السابلة‏.‏ ثم حاربوا زناتة بعد صنهاجة وغلبوهم على الضواحي واتصلت الفتنة بينهم وأغزاهم صاحب تلمسان من أعقاب محمد بن خزر جيوشه مع وزيره أبي سعدى خليفة اليفرني فهزموه وقتلوه بعد حروب طويلة‏.‏ واضطرب أمر إفريقية وخرب عمرانها وفسدت سابلتها‏.‏ وكانت رياسة الضواحي من زناتة والبربر لبني يفرن ومغراوة وبني يمانوا وبني يلومان‏.‏ ولم يزل هذا دأب العرب وزناتة حتى غلبوا صنهاجة وزناتة على ضواحي إفريقية والزاب وغلبوا عليها صنهاجة وقهروا من بها من البربر وأصاروهم عبيداً وخدماً بباجة‏.‏ وكان في هؤلاء العرب لعهد دخولهم إفريقية رجالات مذكورون‏.‏ وكان من أشرفهم حسن بن سرحان وأخوه بدر وفضل بن ناهض وينسبون هؤلاء في دريد بن الأثبج وماضي بن مقرب وينسبونه في قرة وسلامة بن رزق في بني كثيرمن بطون كرفة بن الاثبج وشبان بن الأحيمر وأخوه صليصل وينسبونهم في بني عطية من كرفة وذياب بن غانم وينسبونه في في بني ثور وموسى بن يحيى وينسبونه في مرداس رياح لا مرداس سليم فاحذر من الغلط في هذا‏.‏ وهو من بني صنبر بطن من بطون مرداس رياح وزيد بن زيدان وينسبونه في الضحاك ومليحان بن عباس وينسبونه في حمير وزيد العجاج بن فاضل ويزعمون أنه مات بالحجاز قبيل دخولهم إلى إفريقية وفارس بن أبي الغيث وعامر أخوه والفضل بن أبي علي ونسبهم أهل الأخبار منهم في مرداس كل هؤلاء يذكرون في أشعارهم‏.‏ وكان زياد بن عامر رائدهم في دخول إفريقية ويسمونه لذلك أبا مخيبر وشعوبهم لذلك العهد كما قلناه زغبة ورياح الأثبج وقرة وكلهم من هلال بن عامر‏.‏ وربما ذكر فيهم بنو عدي ولم نقف على أخبارهم وليس لهم لهذا العهد حي معروف‏.‏ فلعلهم دثروا وتلاشوا وافترقوا في القبائل‏.‏ وكذلك ذكر فيهم ربيعة ولم نعرفهم لهذا العهد إلا أن يكونوا هم المعقل كما تراه في نسبهم‏.‏ وكان فيهم من غير هلال كثير من فزارة وأشجع من بطون غطفان وجشم بن معاوية بن بكر بن هوازن وسلول بن مرة بن صعصعة بن معاوية والمعقل من بطون اليمنية وعمرة بن أسد من بني ربيعة بن نزار وبني ثور بن معاوية بن عبادة بن ربيعة البكاء بن عامر بن صعصعة وعدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان‏.‏ وطرود بطن من فهم بن قيس إلا أنهم كلهم مندرجون في هلال وفي الأثبج منهم خصوصاً لأن الرياسة كانت عند دخولهم للأثبج وهلال فأدخلوا فيهم وصاروا مندرجين في جملتهم وفرقة من هؤلاء الهلاليين لم يكونوا من الذين أجازوا الفيل لعهد اليازوري أو الجرجاني‏.‏ وإنما كانوا من قبل ذلك ببرقة أيام الحاكم العبيدي ولهم فيها أخبار من الصنهاجيين ببرقة والشيعة بمصر خطوب ونسبهم إلى عبد مناف بن هلال كما ذكر شاعرهم في قوله‏:‏ طلبنا القرب منهم وجزيل منهم بلا عيب من عرب سحاح جمودها وبيت عرت أمره منا وبينها طرود أنكاد اللي يكودها وقال الآخر منهم‏:‏ أيا رب جير الخلق من نائح البلا إلا القليل انجار ما لا يجيرها وخص بها قرة مناف وعينها ديما لأرياد البوادي تشيرها فذكر نسبهم في مناف وليس في هلال‏.‏ مناف هكذا منفرداً إنما هو عبد مناف والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:52 PM

كان شيخهم أيام الحاكم مختار بن القاسم
ولما بعث الحاكم يحيى بن علي الأندلسي لصريخ فلفول بن سعيد بن خزروك بطرابلس على صنهاجة كما نذكره في أخبار بني خزروك أوعز لهم في السير معه فوصلوا إلى طرابلس وجروا الهزيمة على يحيى بن علي ورجعوا إلى برقة‏.‏ وبعث عنهم فامتنعوا ثم بعث لهم بالأمان ووصل وفدهم إلى الإسكندرية فقتلوا عن آخرهم سنة أربع وتسعين وثلثمائة‏.‏ وكان عندهم معلم للقرآن اسمه الوليد بن هشام ينسب إلى المغيرة بن عبد الرحمن من بني أمية وكان يزعم أن لديه أثارة من علم في احتياز ملك آبائه وقبل ذلك منه البرابرة من مزاتة وزناتة ولواتة‏.‏ وتحدثوا بشأنه فنصبه بنو قرة وبايعوه بالخلافة سنة خمس وتسعين وتغلبوا على مدينة برقة‏.‏ وزحف إليهم جيوش الحاكم فهزموها وقتل الوليد بن هشام قائدها من الترك‏.‏ ثم زحفوا به إلى مصر فانهزموا ولحق الوليد بأرض النجاء من بلاد السودان‏.‏ ثم أخفرت ذمته وسيق إلى مصر وقتل وهدرت لبني قرة جنايتهم هذه وعفا عنهم‏.‏ ولما كانت سنة اثنتين وأربعمائة اعترضوا هدية باديس بن المنصور ملك صنهاجة من إفريقية إلى مصر فأخذوها وزحفوا إلى برقة فغلبوا العامل عليها وفر في البحر واستولوا على برقة‏.‏ ولم يزل هذا شأنهم ببرقة‏.‏ فلما زحف إخوانهم الهلاليون من زغبة ورياح والأثبج وأتباعهم إلى إفريقية كانوا ممن زحف معهم‏.‏ وكان من شيوخهم ماضي بن مقرب المذكور في أخبار هلال‏.‏ ولهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى إفريقية طرق في الخبر غريبة‏:‏ يزعمون أن الشريف بن هاشم كان صاحب الحجاز ويسمونه شكر بن أبي الفتوح وأنه أصهر الحسن بن سرحان في أخته الجازية فأنكحه إياها وولدت منه ولداً اسمه محمد وأنه حدث بينهم وبين الشريف مغاضية وفتنة وأجمعوا الرحلة عن نجد إلى إفريقية وتحيلوا عليه في استرجاع هذه الجازية فطلبته في زيارة أبويها فأزارها إياهم وخرج بها إلى حللهم فارتحلوا به وبها‏.‏ وكتموا رحلتها عنه وموهوا عليه بأنهم يباكرون به للصيد والقنص ويروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه وصار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم ففارقوه فرجع إلى مكانه من مكة وبين جوانحه من حبها داء دخيل وأنهاه من بعد ذلك كلفت به مثل كلفه إلى أن ماتت من حبه‏.‏ ويتناقلون من أخبارها في ذلك ما يعفى عن خبر قيس وكثير ويروون كثيراً من أشعارها محكمة المباني متفقة الأطراف وفيها المطبوع والمنتحل والمصنوع لم يفقد البلاغة شيء وإنما أخلوا فيها بالأعراب فقط ولا مدخل له في البلاغة كما قررناه الكتاب الأول من كتابنا هذا‏.‏ إلا أن الخاصة من أهل العلم بالمدن يزهدون في ويستنكفون عنها لما فيها من خلل الإعراب ويحسبون أن الإعراب هو أصل وليس كذلك‏.‏ وفي هذه الأشعار كثير دخلته الصنعة وفقدت فيه صحة الرواية لا يوثق به‏.‏ ولو صحت روايته لكانت فيه شواهد بأيامهم ووقائعهم مع زناتة وحروبهم وضبط لأسماء رجالاتهم وكثير من أحوالهم‏.‏ لكنا لا نثق بروايتها‏.‏ وربما يشعر البصير بالبلاغة بالمصنوع منها ويتهمه وهذا قصارى الأمر فيه‏.‏ وهم متفقون على الخبر عن حال هذه الجازية والشريف خلفاً عن سلف وجيلاً عن جيل‏.‏ ويكاد القادح فيها والمستريب في أمرها أن يرمى عندهم بالجنون والخلل المفرط لتواترها بينهم‏.‏ وهذا الشريف الذي يشيرون إليه هو من الهواشم وهو شكر بن أبي الفتوح الحسن بن أبي هاشم محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون بن عبد الله بن إدريس وأبوه أبو الفتوح هو الذي خطب لنفسه بمكة أيام الحاكم العبيدي وبايع له بنو أمراء طيىء بالشام وبعثوا عنه فوصل إلى أحيائهم وبايع له كافة العرب‏.‏ ثم غلبتهم عساكر الحاكم العبيدي ورجع إلى مكة وهلك سنة ثلاثين وأربعمائة فولي بعده هذا وهلك سنة ثلاث وخمسين وولي ابنه محمد الذي يزعم هؤلاء الهلاليون أنه من الجازية هذه‏.‏ وتقدم ذلك في أخبار العلوية هكذا نسبه ابن حزم‏.‏ وقال ابن سعيد‏:‏ هو من السليمانيين من ولد محمد بن سليمان بن داود بن حسن بن الحسين السبط الذي بايع له أبو الزاب الشيباني بعد ابن طباطبا ويسمى الناهض‏.‏ ولحق بالمدينة فاستولى على الحجاز واستقرت إمارة مكة في بيته إلى أن ظبهم عليها هؤلاء الهواشم‏.‏ جداً قريباً من الحسن والحسين‏.‏ وأما هاشم الأعلى فاشترك بين سائر الشرفاء فلا يكون مميزاً لبعضهم عن بعض‏.‏ وأخبرني من أثق به من الهلاليين لهذا العهد أنه وقف على بلاد الشريف شكر وأنها بقعة من أرض نجد مما يلي الفرات وأن ولده بها لهذا العهد والله أعلم‏.‏ ومن مزاعمهم أن الجازية لما صارت إلى إفريقية وفارقت الشريف خلفه عليها منهم ماضي بن مقرب من رجالات دريد وكان المستنصر لما بعثهم إلى إفريقية عقد لرجالاتهم على أمصارها وثغورها وقلدهم أعمالها فعقد لموسى بن يحيى المرداسي على القيروان وباجة وعقد لزغبة على طرابلس وقابس وعقد لحسن بن سرحان على قسطنطينة‏.‏ فلما غلبوا صنهاجة على الأمصار وملك كل ما عقد له سيمت الرعايا بالأمصار عسفهم وعيثهم باختلاف الأيدي إذ الوازع مفقود من أهل هذا الجيل العربي مذ كانوا فثاروا بهم وأخرجوهم من الأمصار وصاروا إلى ملك الضواحي والتغلب عليها وسيم الرعايا بالخسف في النهب والعيث وإفساد السابلة هكذا إلى هلم‏.‏ ولما غلبوا صنهاجة اجتهد زناتة في مدافعتهم بما كانوا أملك للبأس والنجدة بالبداوة فحاربوهم وزحفوا إليهم من إفريقية والمغرب الأوسط‏.‏ وجهز صاحب تلمسان من بني خزر قائده أبا سعدى اليفرني فكانت بينهم وبينه حروب إلى أن قتلوه بنواحي الزاب وتغلبوا على الضواحي في كل وجه‏.‏ وعجزت زناتة عن مدافعتهم بإفريقية والزاب‏.‏ وصار الملتحم بينهم في الضواحي بجبل راشد ومصاب من بلاد المغرب الأوسط‏.‏ فلما استقر لهم الغلب وضعت الحرب أوزارها وصالحهم الصنهاجيون على خطة خسف في انفرادهم بملك الضواحي دونهم وصاروا إلى التفريق بينهم وظاهروا الأثبج على رياح وزغبة وحشد الناصر بن علناس صاحب القلعة لمظاهرتهم وجمع زناتة‏.‏ وكان فيهم المعز بن زيري صاحب فاس من مغراوة ونزلوا الأربس جميعاً‏.‏ ولقيهم رياح وزغبة بسببه‏.‏ ومكر المعز بن زيري المغراوي بالناصر وصنهاجة بدسيسة زعموا من تميم بن المعز بن باديس صاحب القيروان فجر عليهم الهزيمة واستباحت العرب وزناتة خزائن ناصر ومضاربه‏.‏ وقتل أخوه القاسم ونجا إلى قسطنطينية ورياح في أتباعه‏.‏ ثم لحق قلعة فنازلوها وخربوا جنباتها وأحبطوا عروشها وعاجوا على ما هنالك من الأمصار مثل طبنة والمسيلة فخربوها وأزعجوا ساكنيها وعطفوا على المنازل والقرى والضياع والمدن فتركوها قاعاً صفصفاً أقفر من بلاد الجن وأوحش من جوف العير وغوروا المياه واحتطبوا الشجر وأظهروا في الأرض الفساد وهجروا ملوك إفريقية والمغرب من صنهاجة وولاة أعمالهم في الأمصار وملكوا عليهم الضواحي يتحيفون جوانبهم ويقعدون لهم بالمراصد ويأخذون لهم الأتاوة على التصرف في أوطانهم‏.‏ ولم يزل هذا دأبهم حتى لقد هجر الناصر بن علناس سكنى القلعة واختط بالساحل مدينة بجاية ونقل إليها ذخيرته وأعدها لنزله‏.‏ نزلها المنصور ابنه من بعده فراراً من ضيم هذا الجيل وفسادهم بالضواحي إلى منعة الجبال وتوعر مسالكها على رواحلهم‏.‏ واستقروا بها بعد وتركوا القلعة وكانوا يختصون الأثبج من هؤلاء الأحياء بالرئاسة سائر أيامهم ثم افترق جمع الأثبج وذهبت بذهاب صنهاجة دولتهم‏.‏ ولما غلب الموحدون سائر الدول بالمغرب في سني إحدى وأربعين وخمسمائة وزحف شيخ الموحدين المؤمن إلى إفريقية وفد عليه بالجزائر أميران منهم لذلك العهد أبو الجليل بن شاكر الأثبج وحباس بن مشيفر من رجالات جشم فتلقاهما بالمبرة وعقد لهما على قومهما ومضى لوجهه‏.‏ وفتح بجاية سنة تسع وخمسين‏.‏ ثم انتقض العرب الهلاليون واعصوصبوا على دعوة صنهاجة وكان أمير رياح فيهم محرز بن زناد بن بازخ إحدى بطون بني علي بن رياح فلقيتهم جيوش الموحدين بسطيف وعليهم عبد الله بن المؤمن فتواقفوا ثلاثاً علقوا فيها رواحلهم وأثبتوا في مستنقع الموت أقدامهم ثم انتفض في الرابعة جمعهم واستلحمهم الموحدون وغلبوا عليهم وغنموا أموالهم وأسروا رجالهم وسبوا نساءهم واتبعوا أدبارهم إلى فحص سبتة ثم راجعوا من بعد ذلك بصائرهم واستكانوا لغز الموحدين وغلبهم فدخلوا في دعوتهم وتمسكوا بطاعتهم وأطلق عبد المؤمن أسراهم ولم يزالوا على استقامتهم ولم يزل الموحدون يستنفرونهم في جهادهم بالأندلس وربما بعثوا إليهم في ذلك المخاطبات الشعرية فأجازوا مع عبد المؤمن ويوسف ابنه كما هو في أخبار دولتهم‏.‏ ولم يزالوا في استقامتهم إلى أن خرج عن الدولة بنو غانية المسوفيون أمراء ميورقة أجازوا البحر في أساطيلهم إلى بجاية فكبسوها سنة إحدى وثمانين وخمسمائة لأول دولة المنصور وكشفوا القناع في نقض طاعة الموحدين ودعوا العرب بها فعادت هيف إلى أديانها‏.‏ وكانت قبائل جشم ورياح وجمهور الأثبج من هؤلاء الهلاليين أسرع إجابة إليها‏.‏ ولما تحركت جيوش الموحدين إلى إفريقية لكف عدوانهم تحيزت قبائل زغبة إليهم وكانوا في جملتهم ولحق بنو غانية بفاس ومعهم كافة جشم ورياح ولحق بهم جل قومهم من مسوفة وإخوانهم لمتونة من أطراف البقاع واستمسكوا بالدعوة العباسية التي كان أمراؤهم بنو تاشفين بالمغرب يتمسكون بها فأقاموها فيمن إليهم من القبائل والمسالك ونزلوا بفاس‏.‏ وطلبوا من الخليفة ببغداد المستنصر تجديد العهد لهم بذلك وأوفدوا عليه كاتبهم عبد البر بن فرسان فعقد لابن غانية وأذن له في حرب الموحدين‏.‏ واجتمعت إليه قبائل بني سليم بن منصور وكانوا جاؤوا على أثر الهلاليين عند إجازتهم إلى إفريقية‏.‏ وظاهره على أمره ذلك قراقوش الأرمني‏.‏ ونذكر أخباره في أخبار الميورقي‏.‏ فاجتمع لعلي بن غانية من الملثمين والعرب والعجم عساكر جمة وغلب الضواحي وافتتح بلاد الجريد وهلك قفصة وتوزر ونفطة‏.‏ ونهض إليه المنصور من مراكش يجر أمم المغرب من زناتة والمصامدة وزغبة من الهلاليين وجمهور الأثبج فأوقعوا بمقدمته بفحث غمرة من جهات قفصة‏.‏ ثم زحف إليهم من تونس فكانت الكرة عليهم وفل جمعهم واتبع آثارهم إلى أن شردهم إلى صحارى برقة وانتزع بلاد قسطيلية وقابس وقفصة من أيديهم‏.‏ وراجعت قباثل جشم ورياح من الهلاليين طاعته ولاذوا بدعوته فنفاهم إلى المغرب الأقصى‏.‏ وأنزل جشم ببلاد تامستا ورياحاً ببلاد الهبط وأزغار مما يلي سواحل طنجة إلى سلا‏.‏ وكانت تخوم بلاد زناتة منذ غلبهم الهلاليون على إفريقية وضواحيها أرض مصاب ما بين صحراء إفريقية وصحراء المغرب الأوسط وبها قصور اتخذوها فسميت باسم من ولي خطتها من شعوبهم‏.‏ وكان بنو بادين وزناتة وهم بنو عبد الواد وتوجين ومصاب وبنو زردال وبنو راشد شيعة للموحدين منذ أول دولتهم فكانوا أقرب إليهم من أمثالهم بنو مرين وأنظارهم كما يأتي وكانوا يتولون من أرياف المغرب الأوسط وتلوله ما ليس يليه أحد من زناتة ويجوسون خلاله فى رحلة الصيف بما لم يؤذن لأحد ممن سواهم في مثله حتى كأنهم من جملة عساكر الموحدين وحاميتهم‏.‏ وأمرهم إذ ذاك راجع إلى صاحب تلمسان من سادة القرابة ونزل هذا الحي من زغبة مع بني بادين هؤلاء لما اعتزلوا إخوانهم الهلاليين وتحيزوا إلى فئتهم وصاروا جميعاً قبلة المغرب الأوسط من مصاب إلى جيل راشد بعد أن كانت قسمتهم الأولى بقابس وطرابلس‏.‏ وكانت لهم حروب مع أولاد خزرون أصحاب طرابلس‏.‏ وقتلوا سعيد بن خزرون فصاروا إلى هذا الوطن الآخر لفتنة ابن غانية وانحرافهم عنه إلى الموحدين وانعقد ما بينهم ويين بني بادين حلف على الجوار والذب عن الأوطان وحمايتها من معرة العدو في اهتبال غرتها وانتهاز الفرصة فيها‏.‏ فتعاقدوا على ذلك واجتوروا وأقامت زغبة في القفار وبنو بادين بالتلول والضواحي ثم فر مسعود بن سلطان بن زمام أمير الرياحيين من بلاد الهبط ولحق ببلاد طرابلس ونزل على زغبة وذياب من قبائل بني سليم‏.‏ ووصل إلى قراقش بن رياح وحصر معه طرابلس حين افتتحها وهلك هنالك‏.‏ وقام إلى الميروني ولحق ولقيه بالحمة فهزمه وقتل الكثير من قومه‏.‏ وانهزت طائفة من قوم محمد بن مسعود منهم‏:‏ ابنه عبد الله وابن عمه حركات بن أبي الشيخ بن عساكر بن سلطان وشيخ من شيوخ قرة فضرب أعناقهم‏.‏ وفر يحيى بن غانية إلى مسقطه من الصحراء‏.‏ واستمرت على ذلك أحوال هذه القبائل من هلال وسليم وأتباعها‏.‏ ونحن الآن نذكر أخبارهم ومصائر أمورهم ونعددهم فرقة فرقة‏.‏ ونخص منهم بالذكر من كان لهذا العهد بحيه وناجعته ونطوي ذكر من انقرض عنهم‏.‏ ونبدأ بذكر الأثبج لتقدم رياستهم أيام صنهاجة كما ذكرناه‏.‏ ثم نقفي بذكر جشم لأنهم معدودون فيهم ثم نذكر رياحاً وزغبة ثم المعقل لأنهم من عداد هلال‏.‏ ثم نأتي بعدهم بذكر سليم لأنهم جاؤوا من بعدهم والله الخلاق العليم‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:52 PM

الاثبج الخبر عن الأثبج
وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة كان هؤلاء الأثبج من الهلاليين أوفر عدداً وأكثر بطوناً وكان التقدم لهم في جملتهم‏.‏ وكان منهم‏:‏ الضحاك وعياض ومقدم والعاصم ولطيف ودريد وكرفة وغيرهم حسبما يظهر في نسبهم وفي دريد بطنان‏:‏ توبة وعنز‏.‏ ويقولون بزعمهم أن أثبج هو ابن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال‏.‏ فكرفة هو ابن الأثبج
وكان لهم جمع وقوة وكانوا أحياء غزيرة من جملة الهلاليين الداخلين لإفريقية وكانت مواطنهم حيال جبلى أوراس من شرقية‏.‏ ولما استقر أمر الأثبج بإفريقية على غلب صنهاجة على الضواحي ووقعت الفتنة بينهم وذلك أن حسن بن سرحان وهو من دريد قتل شبانة بن الأحيمر من كرفة غيلة فطوت كرفة على الهائم‏.‏ ثم إن أخته الجازية غاضبت زوجها ماضي بن مقرب بن قرة ولحقت بأخيها فمنعها منه فاجتمعت قرة وكرفة على فتنة حسن وقومه وظاهرتهم عياض‏.‏ ولم تزل الفتنة إلى أن قتل حسن بن سرحان قتله أولاد شبانة بن الأحيمر وثأروا منه بأبيهم‏.‏ ثم كان الغلب بعده لدريد على كرفة وعياض وقرة‏.‏ واستمرت الفتنة بين هؤلاء الأثابج وافترق أمرهم‏.‏ وجاءت دولة الموحدين وهم على ذلك الشتات والفتنة وكانت لبطونهم ولاية لصنهاجة‏.‏ فلما ملك الموحدون إفريقية نقلوا منهم إلى المغرب العاصم ومقدماً وقرة وتوابع لهم من جشم وأنزلوا جميعهم بالمغرب كما نذكر‏.‏ واعتزت رياح بعهدهم بإفريقية وملكوا ضواحي قسطنطينة ورجع إليهم شيخهم مسعود بن زمام من المغرب فاعتز الدواودة على الأمراء والدول‏.‏ وساء أثرهم فيها وغلبوا بقايا الأثابج فنزلوا قرى الزاب وقعدوا عن الطعن وأوطنوا بالقرى والأطام‏.‏ ولما نبذ بنو أبي حفص العهد للدواودة كما يأتي في أخبارهم واستجاش عليهم بنو سليم وأنزلوهم القيروان اصطنعوا كرفة من بطون الأثابج فكانوا حرباً لرياح وشيعة للسلطان‏.‏ وأقطعتهم الدولة لذلك جباية الجانب الشرقي من جبل أوراس وكثيراً من بلاد الزاب الشرقية حيث كانت محلاتهم الشتوية‏.‏ حتى إذا اختل ريح الدولة وأخلقت جدتها واعتزت رياح عليها وملكوا المجالات على من يظعن فها نزل كرفة هؤلاء بجبل أوراس حيث إقطاعاتهم وسكنوه حللاً متفرقة واتخذوه وطناً‏.‏ وربما يظعن بعضهم إلى تخوم الزاب كما نذكر عن بطونهم وهم بطون كثيرة فأولهم‏:‏ بنو محمد بن كرفة ويعرفون بالكلبية وأولاد سهيب بن محمد بن كليب ويعرفون بالشبه وأولاد صبيح بن فاضل بن محمد بن كليب ويعرفرن بالصبحة وأولاد سرحان بن فاضل أيضاً ويعرفون بالسرحانية‏.‏ وهؤلاء هم المودعات وهم موطنون بجبل أوراس مما يلي زاب تهود‏.‏ ثم أولاد نابت بن فاضل وهم أهل الرياسة في كرفة‏.‏ ولهم إقطاعات السلطان التي ذكرناها وهم ثلاثة أفخاذ‏:‏ أولاد مساعد وأولاد ظافر وأولاد قطيفة‏.‏ والرياسة أخص بأولاد مساعد في أولاد علي بن جابر بن فتاح بن مساعد بن ثابت‏.‏ وأما بنو محمد والمراونة فهم ظواعن جائلة في القفار تلقاء مواطن أولاد نابت‏.‏ ويكتالون الحبوب لأقواتهم من زروع أهل الجبل وأولاد نابت‏.‏ وربما يستعملهم صاحب الزاب في تصاريف أمره من عسكر وإخفار وغير ذلك من أغراضه‏.‏ وأما دريد فكانوا أعز الأثبج وأعلاهم كعباً بما كانت الرئاسة على الأثبج كلهم عند دخولهم إلى إفريقية لحسن بن سرحان بن وبرة إحدى بطونهم وكانت مواطنهم ما بين العناب إلى قسطنطينه إلى طارف مصقلة وما يحاذيها من القفر‏.‏ وكانت بينهم وبين كرفة الفتنة التي هلك فيها حسن بن سرحان كما ذكرناه وقبره هنالك‏.‏ وكانوا بطوناً كثيرة منهم‏:‏ أولاد عطية بن دريد وأولاد سرور بن دريد وأولاد جار الله من ولد عبد الله بن دريد‏.‏ وتوبة من ولد عبد الله أيضاً وهو توبة بن عطاف بن جبر بن عطاف بن عبد الله وكانت لهم بين هلال رياسة كبيرة ومدحهم شعراؤهم بشعر كثير فمن ذلك قول بعض شعرائهم‏:‏ تحن إلى أوطان مرة ناقتي لكن معها جملة دريد كان موارها وهم عربوا الأعراب حتى تعربت بنوف المعالي ما ينفي قصارها وتركوا طريق النار برهة وقد كان ما تقوى المطايا حجارها فأما أولاد عطية فكانت رئاستهم في أولاد بني مبارك بن حباس وكانت لهم تلة بن حلوف من أرض قسطنطينة‏.‏ ثم دثروا وتلاشوا وغلبتهم توبة علي على تلة بن حلوف زحفوا إليها من مواطنهم بطارف مصقلة فملكوها وما إليها‏.‏ ثم عجزوا عن رحلة القفر وتركوا الإبل واتخذوا الشاة والبقر وصاروا في عداد القبائل الغارمة وربما طالبهم سلطان بالعسكرة معه فيعينون له جنداً منهم ورياستهم في أولاد وشاح بن عطوة بن عطية بن كمون بن فرج بن توبة‏.‏ وفي أولاد مبارك بن عابد بن عطية بن عطوة وهم على ذلك لهذا العهد‏.‏ ويجاورهم أولاد سرور وأولاد جار الله على سننهم في ذلك‏.‏ فأما أولاد وشاح فرئاستهم لهذا العهد منقسمة بين سجم بن كثير بن جماعة بن وشاح وبين أحمد بن خليفة بن رشاش بن وشاح‏.‏ وأما أولاد مبارك بن عابد فرئاستهم أيضاً منقسمة بين نجاح بن محمد بن منصور بن عبيد بن مبارك وعبد الله بن أحمد بن عنان بن منصور ورثها عن عمه راجح بن عثمان بن منصور وأما أولاد جار الله فرئاستهم في ولد عنان بن سلام منهم‏.‏ وأما العاصم ومقدم والضحاك وعياض فهم أولاد مشرف بن أثبج ولطيف وهو ابن سرح بن مشرف وكان لهم عدد وقوة بين الأثابج‏.‏ وكان العاصم ومقدم انحرفوا عن طاعة الموحدين إلى ابن غانية فأشخصهم يعقوب المنصور إلى المغرب وأنزلهم تامستا مع جشم ويأتي خبرهم وبقيت عياض والضحاك بمواطنهم بإفريقية‏:‏ فعياض نزلوا بجبل القلعة قلعة بني حماد وملكوا قبائله وغلبوهم على أمرهم وصاروا يتولون جبايتهم‏.‏ ولما غلبت عليهم الدولة بمظاهرة رياح صاروا إلى المدافعة عن تلك الرعايا وجبايتهم للسلطان‏.‏ وسكنوا ذلك الجبل بطوله من المشرق إلى المغرب ما بين ثنية غنية والقصاب إلى وطن بني يزيد بن زغبة‏.‏ فأولهم مما يلي غنية للمهاية‏.‏ ورئاستهم في أولاد ديفل ومعهم بطن منهم يقال لهم الزير وبعدهم المرتفع والخراج من بطونهم‏.‏ فأما المرتفع فثلاثة بطون‏:‏ أولاد تبان ورياستهم في أولاد محمد بن موسى وأولاد حناش ورياستهم في بني عبد السلام‏.‏ وأولاد عبدوس ورياستهم في بني صالح‏.‏ ويدعى أولاد حناش وأولاد تبان جميعاً أولاد حناش‏.‏ وأما الخراج فرياستهم لأولاد زائد بني عباس بن خفير ويجاور الخراج من جانب الغرب أولاد صخر وأولاد رحمة من بطون عياض وهم مجاورون لبني يزيد بن زغبة في آخر وطن الأثابج من الهلاليين‏.‏ وأما الضحاك فكانوا بطوناً كثيرة وكانت رياستهم مفترقة بين أمرين منهم وهما أبو عطية وكلب بن منيع وغلب كلب أبا عطية على رئاسة قبيلتهما لأول دولة الموحدين فارتحل فيما زعموا إلى المغصب وسكن صحراء سجلماسة وكانت له فيها آثار حتى قتله الموحدون أو غربوه إلى الأندلس هكذا ينقل أصحاب أخبارهم‏.‏ وبقي تجمعهم بالزاب حتى غلب مسمعود بن زمام والدواودة عليهم وأصاروهم في جملتهم‏.‏ ثم عجزوا عن الطعن ونزلوا بلاد الزاب واتخذوا بها المدن فهم على ذلك لهذا العهد‏.‏ وأما لطيف فهم بطون كثيرة منهم اليتامى وهم أولاد كسلان بن خليفة بن لطيف بني ذوي مطرف وذوي أبي الخليل وذوي جلال بن معافى‏.‏ ومنهم اللقامنة أولاد أقمان بن خليفة بن لطيف ومنهم‏:‏ أولاد جرير بن علوان بن محمد بن لقمان ونزار بن معن بن محيا بن جري بن علوان وجرير يزعمون أنهم من محيا بن جري ومزنة من ديفل بن محيا وإليه يرجع نسب بني مزنى الولاة بالزاب لهذا العهد‏.‏ وكان للطيف هؤلاء كثرة ونجعة‏.‏ ثم عجزوا عن الظعن وغلبهم على الضواحي الدواودة من بعدهم لما قل جمعهم وافترق ملوكهم وصار إلى المغرب من صار منهم من جمهور الأثبج فاهتضموا وغلبهم رياح والدواودة فنزلوا بلاد الزاب واتخذوا بها الآطام والمدن مثل الدوسن وغريبوا وتهودة وتنومة وبادس‏.‏ وهم لهذا العهد من جملة الرعايا الغارمة لأمير الزاب‏.‏ ولهم عنجهية منذ رياستهم القديمة لم يفارقوها وهم على ذلك لهذا العهد وبينهم في قصورهم بالزاب فتن متصلة بين المتجاورين منهم وحروب وقتل وعامل الزاب يدرأ بعضاً ببعض ويستوفي جبايته منهم جميعاً والله خير الوارثين‏.‏ ويلحق بهؤلاء الأثبج العمور ويغلب على الظن أنهم من ولد عمرو بن عبد مناف بن هلال إخوة قرة بن عبد مناف وليسوا من ولد عمر بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال لأن رياحاً وزغبة والأثبج من أبي ربيعة ولا نجد بينهم انتماء بالجملة‏.‏ ونجد بينهم وبين قرة وغيرهم من بطون هلال الانتماء فدل على أنهم لعمرو بن عبد مناف أو يكونون من عمرو بن رويبة بن عبد الله بن هلال وكلهم معروف‏.‏ ذكره ابن الكلبي والله أعلم بذلك‏.‏ وهم بطنان‏:‏ قرة وعبد الله وليس لهم رئاسة على أحد من هلال ولا ناجعة تظعن لقلتهم وافتراق ملتهم‏.‏ إنما هم ساكنون بالضواحي والجبال وفيهم الفرسان أكثرهم رجالة‏.‏ وموطنهم ما بين جبل أوراس شرقاً إلى جبل راشد‏.‏ وكان كل ذلك من ناحية الحضنة‏.‏ والصحراء وأما التلول فهم مدفوعون عنها بقلتهم وخوفهم من حامية الدول فتجدهم أقرب إلى موطن القفر والجدب‏.‏ فأما بنو قرة منهم فبطن متسع إلا أنهم مفترقون في القبائل والمدن وحدانا‏.‏ وبنو عبد الله منهم على رئاسة فيهم وهم‏:‏ عبد الله بن علي وبنوه محمد وماضي بطنان وولد محمد عنان وعزيز بطنان وولد عنان شكر وفارس بطنان‏.‏ من ولد شكر أولاد يحيى بن سعيد بن بسيط بن شكر بطن أيضاً‏.‏ فأما أولاد فارس وأولاد عزيز وأولاد ماضي فموطنهم بسفح جبل أوراس المطل على بسكرة قاعدة الزاب متصلين كذلك غرباً إلى مواطن غمرة وهم في جوار رياح وتحت أيديهم وخول لأولاده وخصوصاً من الدواودة المتولين موطنهم بالمجال‏.‏ ولصاحب الزاب عليهم طاعة لقرب جواره وحاجتهم إلى سلطانه فيصرفهم لذلك في حاجته متى عنت من إخفار العير ومقارفة مدن الزاب مع رجله وغير ذلك‏.‏ وأما أولاد شكر وهم أكبر رياسة فيهم فنزلوا جبل راشد وكانوا فريقين فنزلوا واحتربوا وغلب أولاد محيا بن سعيد منهم أولاد زكرير ودفعوهم عن جبل راشد فصاروا إلى جبل كسال محاذيه من ناحية الغرب وأوطنوه واتصلت فتنتهم معهم على طول الأيام وافتتحهم رجال زغبة باقتسام المواطن‏:‏ فصار أولاد يحيى أهل جبل راشد في إيالة سويد بن زغبة وأحلافاً لهم وأولاد زكرير أهل جبل كسال في إيالة بني عامر وأحلافاً لهم‏.‏ وربما يقتحمون بادية زغبة مع النفر أحلافاً لهم في فتنتهم كما نذكر في أخبار زغبة‏.‏ وكان شيخهم من أولاد محيا فيما قرب من عهدنا عامر بن أبي يحيى بن محيا‏.‏ وكان له فيهم ذكر وشهرة‏.‏ وكان ينتحل العبادة وحج ولقي بمصر شيخ الصوفية لعصره يوسف الكوراني وأخذ عنه ولقن طرق هدايته ورجع إلى قومه وعاهدهم على طريقته ونحلته فاتبعه الكثير منهم وغزا المفسدون من بادية النضر في جواره وجاهدهم إلى أن اغتالوه بعض الأيام في الصيد فقتلوه‏.‏ وكان شيخ أولاد زكرير يغمور بن موسى بن بوزير بن زكرير وكان يسامي عامراً ويناهضه في شرفه إلا أن عامراً كان أسود منه بنحلة العبادة والله مصرف الأمور والخلق‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:54 PM

جشم الخبر عن جشم
الموطنين بسائط المغرب وبطونهم من هذه الطبقة هؤلاء الأحياء بالمغرب لهذا العهد فيهم بطون من قرة والعاصم ومقدم والأثبج وجشم والخلط‏.‏ وغلب عليهم جميعاً اسم جشم فعرفوا به‏.‏ وهم‏:‏ جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن‏.‏ وكان أصل دخولهم إلى المغرب‏:‏ إن الموحدين لما غلبوا على إفريقية أذعنت لهم هؤلاء القبائل من العرب طوعاً وكراهية‏.‏ ثم كانت فتنة ابن غانية فأجلبوا فيها وانحرفوا عن الموحدين وراجعوا الطاعة لعهد المنصور فنقل جمهور هؤلاء القبائل إلى المغرب ممن له كثرة وشوكة وظواعن ناجعة‏.‏ فنقل العاصم ومقدم من بطون الأثبج ومعهم بطون ونقل جشم هؤلاء الذين غلب اسمهم على من معهم من الأحياء وأنزلهم تامستا‏.‏ ونقل رياحاً وأنزلهم الهبط فنزل جشم بتامستا البسيط الأفيح ما بين سلا ومراكش أوسط بلاد المغرب الأقصى وأبعدها عن الثنايا المفضية إلى القفار لإحاطة جبل درن بها وشموخه بأنفه حذاءها ووشوج أعراقه حجراً عليها فلم ينتجعوا بعدها قفراً ولا أبعدوا رحلة وأقاموا بها أحياء حلولاً وافترقت شعوبهم بالمغرب إلى الخلط وسفيان وبنى جابر‏.‏ وكانت الرئاسة لسفيان من بينهم في أولاد جرمون سائر أيام الموحدين‏.‏ ولما وهن أمر بني عبد المؤمن وفشلوا وذهبت ريحهم استكثروا بجموعهم فكانت لهم سورة غلب واعتزاز على الدولة بكثرتهم وقرب عهدهم بالبداوة وضربوا بين الأعياص وظاهروا الخلافة وأكثروا الفساد وساءت آثارهم في البغي‏.‏ ولما اقتحم بنو مرين بلاد المغرب على الموحدين وملكوا فاس وقريتها لم تكن فيه حامية أشد منهم بأساً ومن رياح لقرب العهد بالبداوة فكانت لهم معهم وقائع وحروب استلحمهم فيها بنو مرين إلى أن حق الغلب واستكانوا لعز بني مرين وصولتهم وأعطوهم صفقة الطاعة وأصهر بنو مرين منهم إلى الخلط في بيت بني مهلهل فكان في جملة بني مرين وكانت لهم الجولة للملك‏.‏ واستقرت رياسة جشم وأكثرهم في الخلط منهم في لبث مهلهل بعد أن كانت على عهد الموحدين في سفيان‏.‏ ثم ضربت الأيام ضرباتها وأخلقت جدتهم وفشلوا وذهبت ريحهم ونسوا عهد البداوة والناجعة وصاروا في عداد القبائل الغارمة للجباية والعسكرة مع السلطان ولنذكر الآن فرقهم الأربع وأحياء كل واحدة منها ونحقق الكلام في أنسابهم‏:‏ فليست راجعة إلى جشم على ما يتبين‏.‏ ولكن الشهرة بهذا النسب متصلة والله أعلم بحقائق الأمور‏.‏

هفه القبائل معدودة في جشم
وجشم المعهود هو جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن أو لعله جشم آخر من غيرها‏.‏ وكان شيخهم المشهور لعهد المأمون وبنيه جرمون بن عيسى‏.‏ ونسبه فيما يزعم بعض المؤرخين أيام الموحدين في بني قرة وكانت بينهم وبين الخلط فتن طويلة وكان الخلط شيعة للمأمون وبنيه فصار سفيان لذلك شيعة ليحيى بن الناصر منازعه في الخلافة بمراكش‏.‏ ثم قتل الرشيد مسعود بن حميدان شيخ الخلط كما نذكر بعد فصاروا إلى يحيى بن الناصر‏.‏ وصار سفيان إلى الرشيد‏.‏ ثم ظهر بنو مرين بالمغرب واتصلت حروبهم مع الموحدين‏.‏ ونزع جرمون سنة ثمان وثلاثين عن الرشيد ولحق بمحمد بن عبد الحق أمير بني مرين حياء مما وقع له معه وذلك سنة ثمان وثلاثين‏.‏ وذلك أنه نادمه ذات ليلة حتى سكر وحمل عليه وهو سكران يرقص فرقص طرباً‏.‏ ثم أفاق فندم وفر إلى محمد بن عبد الحق وذلك سنة ثمان وثلاثين وستمائة وهلك سنة تسع وثلاثين بعدها‏.‏ وعلا كعب كانون ابنه من بعده عند السعيد وخالف عليه عند نهوضه إلى بني مرين سنة ثلاث وأربعين‏.‏ ورجع إلى أزمور فملكها‏.‏ وفت ذلك في عضد السعيد فرجع عن حركته وقصد كانون بن جرمون ففر أمامه وحضر حركته إلى تامزردكت وقتل قبل مهلكه بيوم قتله الخلط في فتنة وقعت بينهم في محلة السعيد وهي التي جرت عليها تلك الواقعة‏.‏ وقام بأمر سفيان من بعده أبوه يعقوب بن جرمون وقتل محمد ابن أخيه كانون‏.‏ وقام بأمر سفيان وحضر مع المرتضى حركة أمان إيملولين سنة تسع وأربعين فرحل عن السلطان واختل عسكره ورجع فاتبعه بنو مرين وكانت الهزيمة‏.‏ ثم رجع المرتضى وعفا له عنها ثم قتله سنة تسع وخمسين مسعود وعلي ابنا أخيه كانون بثأر أبيهما ولحقا بيعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين وقدم المرتضى ابنه عبد الرحمن فعجز عن القيام بأمره فقدم عمه عبيد الله بن جرمون فعجز فقدم مسعود بن كانون ولحق عبد الرحمن ببني مرين‏.‏ ثم تقبض المرتضى على يعقوب بن قيطون شيخ بني جابر وقدم عوضاً منه يعقوب بن كانون السفياني‏.‏ ثم راجع عبد الرحمن بن يعقوب سنة أربع وخمسين فتقبض عليه واعتقل‏.‏ وأقام مسعود بن كانون شيخاً على سفيان‏.‏ وكان لابني عمه معه ظهوروهما‏:‏ حطوش وعيسى ابنا يعقوب بن جرمون‏.‏ ونزع مسعود عن يعقوب مقامه إلى أن هلك سنة سبع وستين ابن عبد الحق ولحق بسكورة وشب نار الفتنة والحرب وأقيم حطوش بن يعقوب مقامه إلى أن هلك سنة تسع وستين فولي مكانه أخوه عيسى‏.‏ وهلك مسعود بسكورة سنة ثمانين ولحق ابنه منصور بن مسعود بالسكسيوي إلى أن راجع الخدمة أيام يوسف بن يعقوب‏.‏ ووفد عليه بعسكره من حصار تلمسان سنة ست وسبعمائة فتقبله‏.‏ واتصلت الرئاسة على سفيان في بني جرمون هؤلاء إلى عهدنا‏.‏ وأدركت شيخاً عليهم لعهد السلطان أبي عنان يعقوب بن علي بن منصور بن عيسى بن يعقوب بن جرمون بن عيسى‏.‏ وكان سفيان هؤلاء حياً حلولاً بأطراف تامستا مما يلي أسفى وملك بسائطها الفسيحة عليهم الخلط‏.‏ وبقي من أحيائهم الحرث والكلابية ينتجعون أرض السوس وقفاره ويطلبون ضواحي بلاد جاجة من المصامدة فبقيت فيهم لذلك شدة وبأس ورياستهم في أولاد مطاوع من الحرث‏.‏ وطال عيثهم في ضواحي مراكش وإفسادهم‏.‏ فلما استبد سلطان مراكش الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن علي ابن السلطان أبي علي سنة ست وسبعين وسبعمائة كما نذكر استخلصهم ورفع منزلتهم‏.‏ واستقدمهم بعض أيامه للعرض بفرسانهم ورجلهم على العادة وشيخهم منصور بن يعيش من أولاد مطاع‏.‏ وتقبض عليهم أجمعين وقتل من قتل منهم وأودع الآخرين سجونه فذهبوا مثلاً في الأيام وخصدت شوكتهم والله قادر على ما يشاء‏.‏

الخلط من جشم
هذا القبيل يعرف بالخلط وهم في عداد جشم هؤلاء لكن المعروف أن الخلط بنو المنتفق من بني عامر بن عقيل بن كعب كلهم شيعة للقرامطة بالبحرين ولما ضعف أمر القرامطة استولى بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة‏.‏ ثم غلبهم عليها بنو أبي الحسين من بطون تغلب بالدعوة العباسية فارتحل بنو سليم وبنو المنتفق من هؤلاء المسمون بالخلط إلى إفريقية وبقي سائر بني عقيل بنواحي البحرين إلى أن غلب منهم على التغلبيين بنوعامر بن عوف بن مالك بن عوف بن مالك بن عوف بن عامر بن عقيل إخوة الخلط هؤلاء لأنهم فى المغرب منسوبون إلى جشم تخليطاً في النسب ممن يحققه العوام‏.‏ ولما أدخلهم المنصور إلى المغرب كما قلناه استقروا ببسائط تامستا فكانوا أولي عدد وقوة وكان شيخهم هلال بن حميدان بن مقدم بن محمد بن هبيرة بن عواج لا نعرف من نسبه أكثر من هذا‏.‏ فلما ولي العادل بن منصور خالفوا عليه وهزموا عساكره وبعث هلال ببيعته إلى المأمون سنة خمس وعشرين واتبعه الموحدون في ذلك‏.‏ وجاء المأمون وظاهروه على أمره وتحيز أعداؤهم سفيان إلى يحيى بن الناصر منازعه‏.‏ ولم يزل هلال مع المأمون إلى أن هلك في حركة سبتة وبايع بعده لابنه الرشيد وجاء به إلى مراكش وهزم سفيان واستباحهم‏.‏ ثم هلك هلال وولي أخوه مسعود وخالف على الرشيد عمر بن أوقاريط شيخ الهساكرة من الموحدين وكان صديقاً لمسعود بن حميدان فأغراه بالخلاف على إكسز السلطان فخالف‏.‏ وحاول عليه الرشيد حتى قدم عليه بمراكش وقتله في جماعة من قومه سنة اثنتين وثلاثين‏.‏ وولي أمر الخلط بعده يحيى ابن أخيه هلال وتحيز بقومه إلى يحيى بن القاص وحصروا مراكش ومعهم ابن أوقاريط‏.‏ وخرج الرشيد إلى سجلماسة واستولوا على مراكش وعاثوا فيها‏.‏ ثم جاء الرشيد سنة ثلاث وثلاثين وغلبهم عليها ولحق ابن أوقاريط بالأندلس‏.‏ وأبدى علي بن هود بيعة الخلط وعلموا أنها حيلة من ابن أوقاريط وأنه تخلص من الورطة فطردوا عنهم يحيى بن الناصر إلى معقل‏.‏ وراجعوا الرشيد فتقبض على علي ووشاح ابني هلال وسجنهم بأزمور سنة خمس وثلاثين‏.‏ ثم أطلقهم ثم غدر بعد ذلك بمشيختهم بعد الاستدعاء والتأنيس وقتلهم جميعاً مع عمر بن أوقاريط كان أهل إشبيلية بعثوا به إليه ثم حضروا مع السعيد في حركته إلى بني عبد الواد وجروا عليه الواقعة حتى قتل فيها بفتنتهم مع سفيان يومئذ‏.‏ فلم يزل المرتضى يعمل الحيلة فيهم إلى أن تقبض على أشياخهم سنة اثنتين وخمسين وقتلهم ولحق عواج بن هلال ببني مرين وقدم المرتضى عليهم علي بن أبي علي من بيت الرئاسة فيهم‏.‏ ثم رجع عواج سنة أربع وخمسين وأغزاه علي بن أبي علي فقتل في غزاته‏.‏ ثم كانت واقعة أم الرجلين على المرتضى سنة ستين فرجع علي بن أبي علي إلى بني مرين‏.‏ ثم صار الخلط كلهم إلى بني مرين‏.‏ وكانت الرئاسة فيهم لأول سلطان لبني مرين لمهلهل بن يحيى بن مقدم‏.‏ وأصهر إليه يعقوب بن عبد الحق فأنكحه ابنته التي كان منها ابنه السلطان أبو سعيد‏.‏ ولم يزل مهلهل عليهم إلى أن هلك سنة خمس وتسعين ثم ابنه عطية‏.‏ وكان لعهد السلطان أبي ولما هلك قام بأمره أخوه عيسى بن عطية ثم ابن أخيهما زمام بن إبراهيم بن عطية وبلغ إلى المبالغ من العز والترف والدالة على السلطان والقرب من مجلسه إلى أن هلك فولي أمره ابنه أحمد بن إبراهيم ثم أخوه سليمان بن إبراهيم ثم أخوهما مبارك على مثل حالهم أيام السلطان أبي عنان ومن بعده إلى أن كانت الفتنة بالمغرب بعد مهلك السلطان أبي سالم واستولى على المغرب أخوه عبد العزيز وأقطع ابنه أبا الفضل ناحية مراكش فكان مبارك هذا معه‏.‏ ولما تقبض على أبي الفضل تقبض على مبارك وأودع السجن إلى أن غلب السلطان عبد العزيز على عامر بن محمد وقتله فقتل معه مبارك هذا لما كان يعرف به من صحابته ومداخلته في الفتن كما يذكر في أخبار بني مرين وولي ابنه محمد على قبيل الخلط إلا أن الخلط اليوم دثرت كأن لم تكن بما أصابهم من الخصب والترف منذ مائتين من السنين بذلك البسيط الأفيح زيادة للعز والدعة فأكلتهم السنون وذهب بهم الترف والله غالب على أمره‏.‏ بنو جابر بن جشم بنو جابر هؤلاء من عداد جشم بالمغرب وربما يقال إنهم من سدراتة إحدى فرق زناتة أو لواتة والله أعلم بذلك‏.‏ وكان لهم أثر في فتنة يحيى بن الناصر بما كانوا معه من أحزابه ولما هلك يحيى بن الناصر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بعث الرشيد بقتل شيخهم قائد بن عامر وأخيه قائد وولي بعده يعقوب بن محمد بن قيطون‏.‏ ثم اعتقله يعلو قائد الموحدين بعثة المرتضى لذلك‏.‏ وقدم يعقوب بن جرموق وولي مشيخة بني جابر إسمعيل بن يعقوب بن قيطون‏.‏ ثم تحيز بنو جابرهؤلاء من أحياء جشم إلى سفح الجبل بتادلا ومأ إليها بجاورون هناك صناكة الساكنين بقشته وهضابه من البربر فيسهلون إلى البسيط تارة ويأوون إلى الجبل في حلف البربر وجوارهم أخرى إذا دهمتهم مخافة من السلطان أو ذي غلبة‏.‏ والرئاسة فيهم لهذه العصور في ورديقة من بطونهم أدركت شيخاً عليهم لعهد السلطان أبي عنان حسين بن علي الورديقي‏.‏ ثم هلك وأقيم مقامه الناصر ابنه‏.‏ ولحق بهم الوزير الحسن بن عمر عند نزوعه عن السلطان أبي سالم سنة ستين وسبعمائة‏.‏ ونهضت إليهم عساكر السلطان فأمكنوا منه‏.‏ ثم لحق بهم أبو الفضل بن السلطان أبي سالم عند فراره عن مراكش سنة ثمان وستين‏.‏ ونازله السلطان عبد العزيز وأحيط به فلحق برابرة صناكة من قومه‏.‏ ثم أمكنوا منه على مال حمل إليهم ولحق بهم أثناء هذه الفتن الأمير عبد الرحمن يغلوسن على عهد الوزير عمر بن عبد الله المتغلب على المغرب‏.‏ وطلبه عمر فأخرجوه عنهم وطال بذلك مراس الناصر هذا للفتنة فنكرته الدولة وتقبض عليه وأودع السجن فمكث فيه سنين وتجافت الدول عنه من بعد ذلك وأطلق عقالهم‏.‏ ثم رجع من المشرق فتقبض عليه الوزير أبو بكر بن غازي المستبد بالمغرب على ابن السلطان عبد العزيز وأودعه السجن ونقلوا الرئاسة عن بني علي هؤلاء والله يقلب الليل والنهار‏.‏ وقد يزعم كثير من الناس أن ورديقة من بني جابر ليسوا من جشم وأنهم بطن من بطون سدراتة إحدى شعوب لواتة من البربر ويستدلون على ذلك بمواطنهم وجوارهم للبربر والله أعلم بحقيقة ذلك‏.‏ العاصم ومقدم من الأثبج هؤلاء الأحياء من الأثبج كما ذكرنا في أنسابهم ونزلوا تامستا معهم وكانت لهم عزة وعلياء إلا أن جشم أعز منهم لمكان الكثرة‏.‏ وكان موطنهم بسيط تامستا وكانت للسلطان عليهم عسكرة وجباية شأن إخوانهم من جشم‏.‏ وكان شيخ العاصم لعهد الموحدين ثم عهد المأمون منهم حسن بن زيد وكان له أثر في فتنة يحيى بن الناصر‏.‏ ولما هلك سنة ثلاث وثلاثين أمر الرشيد بقتل حسن بن زيد مع قائد وفائد ابني عامر شيوخ بني جابر فقتلوا جميعاً‏.‏ ثم صارت الرئاسة لأبي عياد وبنيه وكان بينهم لعهد بني مرين عياد بن أبي عياد وكان له تغلب في النفرة والاستقامة‏.‏ فر إلى تلمسان ورجع منها أعوام تسعين وستمائة‏.‏ وفر إلى السوس ورجع منه سنة سبع وسبعمائة ولم يزل دأبه هذا‏.‏ وكانت له ولاية مع يعقوب بن عبد الحق من قبل ذلك ومقاماته في الجهاد مذكورة‏.‏ وبقيت رئاسته في بنيه إلى أن انقرض أمرهم وأمر مقدم ودثروا وتلاشوا والله خير الوارثين‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:55 PM

رياح وبطونهم من هلال
الخبر عن رياح وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة كان هذا القبيل من أعز قبائل هلال وأكثرهم جمعاً عند دخولهم إفريقية وهم فيما ذكره ابن الكلبي‏:‏ رياح بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر وكانت رئاستهم حينئذ لمؤنس بن يحيى الصنبري من بطون مرداس بن رياح‏.‏ وكان من رجالاتهم لذلك العهد الفضل بن علي مذكور في حروبهم مع صنهاجة وكانت بطونهم عمرو ومرداس وعلى كلهم بنو رياح وسعيد بن رياح وخضر بن عامر بن رياح وهم الأخضر‏.‏ ولمرداس بطون‏.‏ كثيرة‏:‏ داود بن مرداس وصنبر بن حواز بن عقيل بن مرداس وإخوتهم‏:‏ مسلم بن عقيل‏.‏ ومن أولاد عامر بن يزيد بن مرداس بطون أخرى منهم‏:‏ بنو موسى بن عامر وجابر بن عامر‏.‏ وقد يقال إنهم من لطيف كما قدمناه وسودان ومشهور ومعاوية بنو محمد بن عامر بطون ثلائة‏.‏ واسم سودان علي بن محمد‏.‏ وقد يقال أيضاً أن المشاهرة وهم بنو مشهور بن هلال بن عامر من نمير رياح والله أعلم‏.‏ والرئاسة على رياح في هذه البطون كلها لمرداس وكانت عند دخولهم إفريقية في صنبر منهم‏.‏ ثم صارت للدواودة أبناء داود بن مرداس بن رياح‏.‏ ويزعم بنو عمرو بن رياح أن أباهم كفله ورباه‏.‏ وكان رئيسهم لعهد الموحدين مسعود بن سلطان بن زمام بن رديني بن داود وكان يلقب البلط لشدته وصلابته‏.‏ ولما نقل المنصور رياحاً إلى المغرب تخلف عساكر أخو مسعود في جماعات منهم لما بلاه السلطان من طاعته وانحياشه وأنزل مسعوداً وقومه لبلاد الهبط ما بين قصور كتامة المعروف بالقصر الكبير إلى إزغار البسيط الفسيح هناك إلى ساحل البحر الأخضر واستقروا هنالك‏.‏ وفرمسعود بن زمام من بينهم في لمة من قومه سني تسعين وخمسمائة ولحق ‏"‏ بإفريقية واجتمع إليه بنو عساكر أخيه ولحقوا بطرابلس ونزلوا على زغب وذياب يتقلبون بينهم‏.‏ ثم نزع إلى خدمة قراقش وحضر معه بقومه فتح طرابلس كما نذكره في أخبار قراقش‏.‏ ثم رجع إلى ابن غانية الميورقي ولم يزل في خلافة ذلك إلى أن هلك وقام بأمره من بعده ابنه محمد‏.‏ وكانت له رئاسة وغناء في فتنة الميورقي مع الموحدين‏.‏ ولما غلب أبو محمد بن أبي حفص يحيى الميورقي مع الموحدين سنة ثماني عشرة على الحمة من بلاد الجريد وقتل من العرب من قتل كان فيمن قتله ذلك اليوم عبد الله بن محمد هذا وابن عمه أبو الشيخ بن حركات بن عساكر‏.‏ ولما هلك الشيخ أبو محمد رجع محمد بن مسعود إلى إفريقية وغلب عليها واجتمع إليه حلف الأثبج ظواعن من الضحاك ولطيف فكاثروه واعتزوا به على أقتالهم من دريد وكرفة إلى أن عجزت ظواعن الضحاك ولطيف عن الرحلة وافترقوا في قرى الزاب وصدرة‏.‏ وبقي محمد بن مسعود يتغلب في رحلته‏.‏ وصارت رئاسة البدو في ضواحي إفريقية ما بين قسطيلية والزاب والقيروان والمسيلة له ولقومه‏.‏ ولما هلك يحيى بن غانية من العرب من بني سليم والرياح سنة إحدى وثلاثين كما نذكره انقطع ملكهم واستغلظ سلطان أبي حفص‏.‏ واستقل منهم الأمير يحيى بن عبد الواحد بخطبة الخلافة عندما فسد كرسيها بمراكش وافترق أتباع يحيى بن غانية من العرب من بني سليم والرياح فنكر آل أبي حفص هؤلاء الدواودة ومكانهم من الوطن مما سلف من عنادهم ومشايعتهم لابن الغانية‏.‏ عدوهم فجاجاً الأمير أبو زكريا في بني سليم من مواطنهم لذلك العهد بقابس وطرابلس وما إليها‏.‏ والتقدم فيهم يومئذ لمرداس والكعوب كما نذكره في أخبارهم واصطنعوهم لمشايعة الدولة‏.‏ وضربوا بينهم وبين قبائل رياح وأنزلوهم بالقيروان وبلاد قسطيلية وكانت أبة لمحمد بن مسعود‏.‏ ووفد عليه في بعض السنين وفد مرداس يطلبون المكيل وينزلون عليهم فشرهوا إلى نعمتهم وقاتلوهم عليها وقتلوا رزق بن سلطان عم محمد بن مسعود فكانت بينهم وبين رياح أيام وحروب حتى رحلوهم عن جانب المشرق من إفريقية وأصاروهم إلى جانبها الغربي‏.‏ وملك الكعوب ومرداس من بني سليم ضواحي الجانب الشرقي كلها من قابس إلى بونة ونفطة‏.‏ وامتاز الدواودة بملك ضواحي قسطنطينة وبجاية من التلول ومجالات الزاب وريغ وواركلا وما وراءها من القفار في بلاد القبلة‏.‏ وهلك محمد بن مسعود فولى رئاسته موسى بن محمد وكان له صيت وغناء في قومه واعتزاز على الدولة‏.‏ ولما هلك يحيى بن عبد الواحد بويع ابنه محمد المستنصر الطائر الذكر المشهود له في الشهرة‏.‏ وخرج عليه أخوه إبراهيم فلحق بالدواودة هؤلاء فبايعوه بجهات قسطنطينة واتفقوا على تقديمه ونهض إليه المستنصر سنة ست وستين وستمائة ففروا أمامه وافترق جمعهم وتحيز إليه بنو عساكر ابن سلطان منهم ورئاستهم يومئذ لولد مهدي بن عساكر‏.‏ ونبذوا العهد إلى إبراهيم بن يحيى ولحقوا بتلمسان‏.‏ وأجاز البحر إلى الأندلس وأقام بها في جوار الشيخ ابن الأحمر‏.‏ ثم هلك موسى بن محمد وولي رياسته ابنه شبل بن موسى واستطال على الدولة وكثر عيشهم فنبذ المستنصر عهدهم ونهض إليه بعساكره وجموعه من الموحدين والعرب من بني سليم وأولاد عساكر إخوانهم وعلى مقدمته الشيخ أبو هلال عياد بن محمد الهتاني وكان يومئذ أميراً ببجاية‏.‏ وحاول عليهم فاستقدم رؤساءهم شبل بن موسى بن محمد بن مسعود وأخاه يحيى وسباع بن يحيى بن دريد بن مسعود‏.‏ وحداد بن مولاهم بن خنفر بن مسعود وفضل بن ميمون بن دريد بن مسعود ومعهم دريد بن تازير شيخ أولاد نابت من كرفة فتقبض عليهم لحين قدومهم وضرب أعناقهم في مصرع واحد ابن راية حيث بايعوا أبا إسحق أخاه والقاسم بن أبي زيد بن أبي حفص النازع إليهم لطلب الخروج على الدولة‏.‏ وافترقت ظواعنهم وفروا أمامه واتبعهم إلى آخر الزاب‏.‏ وترك شبل بن موسى سباعاً ابنه طفلاً صغيراً فكفله عمه مولاهم ابن موسى ولم تزل الرئاسة بهم وترك سباع ابنه يحيى أيضاص طفلاً فكفله عمه طلحة بن يحيى ولحق فلهم بملوك زناتة بالمغرب فأولاد محمد لحقوا بيعقوب بن عبد الحق بفاس وأولاد سباع بن يحيى لحقوا بيغمراسن بن زيان بتلمسان فكسوهم وحملوهم فارتاشوا وقاتلوا واحتالوا وزحفوا إلى مواطنهم فتغلبوا على أطراف الزاب من واركلان وقصور ريغ وصيروها سهاماً بينهم وانتزعوها للموحدين فكان آخر عهدهم بملكها‏.‏ ثم تقدموا إلى بلاد الزاب وجمع لهم عاملها أبو سعيد عثمان بن محمد بن عثمان ويعرف بابن عتوا من رؤساء الموحدين‏.‏ وكان منزله بمقرة فزحف إليهم بمكانهم من الزاب وأوقعوا به وقتلوه بقلطاوة وغلبوا على الزاب وضواحيه لهذا العهد‏.‏ ثم تقدموا إلى جبل أوراس فغلبوا على من به من القبائل‏.‏ ثم تقدموا إلى التل وجمع لهم من كان به من أولاد عساكر وعليهم موسى بن ماضي بن مهدي بن عساكر فجمع قومه ومن في حلفهم من عياض وغيرهم‏.‏ وتزاحفوا فغلبهم أولاد مسعود وقتلوا شيخهم موسى بن ماضي وتولوا الوطن بما فيه‏.‏ ثم تلافت الدولة أمرهم بالاصطناع والاستمالة وأقطعوهم ما غلبوا عليه من البلاد بجبل أوراس والزاب ثم الأمصار التي بالبسيط الغربي من جبل أوراس المسمى عندهم بالحصنة وهي نقاوس ومقرة والمسيلة واختص أقطاع المسيلة بسباع بن شبل بن يحيى من بعد ذلك فهي في قسم بنيه وسهامهم‏.‏ واختص أقطاع مقرة بأحمد بن عمر بن محمد وهو ابن عم شبل بن موسى بن سباع ونقاوس بأولاد عساكر‏.‏ ثم هلك سباع بن شبل وقام بأمرهم ابنه عثمان ويعرف بالعاكر فنازعه الرئاسة بنو عمه علي بن أحمد بن عمر بن محمد بن مسعود بن دريد بن مسعود وفرقوا جماعة بني مسعود هؤلاء بعد أن كانوا جميعاً وصاروا فريقين‏:‏ أولاد محمد بن مسعود وأولاد سباع بن يحيى وسليمان بن علي بن سباع بن يحيى‏.‏ ولم يزالوا كذلك لهذا العهد ولهم تغلب على ضواحي بجاية وقسطنطينة ومن بها من سدويكش وعياض وأمثالهم‏.‏ ورئاسة أولاد محمد الآن ليعقوب بن علي بن أحمد وهو كبير الدواودة بمكانه وسنه وله شهرة وذكر ومحل من السلطان متوارث‏.‏ ورياسة أولاد سباع في أولاد علي بن سباع وأولاد عثمان بن سباع‏.‏ وأولاد علي أشرف منهم وأعز بالكثرة والعدد‏.‏ ورئاستهم في بلد يوسف بن سليمان بن علي بن سباع ويرادفهم أولاد يحيى بن علي بن سباع‏.‏ واختص أولاد محمد بنواحي قسطنطينة وأقطعتهم الدول كثيراً من أريافها‏.‏ واختص أولاد سباع بنواحي بجاية وأقطاعهم فيها قليل لمنعة بجاية وضواحيها عن ضيم العرب ولغلبهم بالجبال المطيفة بها وتوعر مسالكها على رواحل الناجعة‏.‏ وأما ريع وواركلا فقسمت بينهم منذ عهد سلفهم كما قلناه‏.‏ وأما الزاب فالجانب الغربي منه وقاعدته طولقة لأولاد محمد وأولاد سباع بن يحيى وكانت لأبي بكر بن مسعود فلما ضعف بنوه ودثروا اشتراها منهم علي بن أحمد شيخ أولاد محمد وسليمان بن علي شيخ أولاد سباع‏.‏ واتصلت بينهم بسببها الفتنة وصارت في مجالات أولاد سباع بن يحيى فصار غلب سليمان وبنيه عليها أكثر‏.‏ والجانب الوسط وقاعدته بسكرة لأولاد محمد وفي مجالاتهم‏.‏ وليعقوب بن علي على عامله بسبب ذلك سلطان وعزة وله به تمسك وإليه انحياش في منعته من الدولة واستبداده بوطنه وحماية ضواحيه من عبث الأعراب وفسادهم غالب الأوقات‏.‏ وأما الجانب الشرقي من الزاب وقاعدته بادس وتنومة فهو لأولاد نابت رؤساء كرفة بما هو من مجالاتهم وليس هو من مجالات رياح‏.‏ إلا أن عمال الزاب تأخذ منه في الأكثر جباية غير مستوفاة بعسكر لها إلا في بعض الأحايين ببادية رياح بإذن من كبيرهم يعقوب وإشراكه في الأمر‏.‏ وبطون رياح كلها تبع لهؤلاء الدواودة ومقتسمون عليهم وملتمسون مما في أيديهم وليس لهم في البلاد ملك يستولون عليه‏.‏ وأشدهم قوة وأكثرهم جمعاً بطون سعيد ومسلم والأخضر يبعدون النجعة في القفار والرمال ويسخرون الدواودة في فتنة بعضهم مع بعض ويختصون بالحلف فريقاً دون آخر‏.‏ فسعيد أحلاف لأولاد محمد سائر أيامهم إلا قليلاً من الأحيان ينابذونهم ثم يراجعونهم ومسلم والأخضر أحلاف لأولاد سباع كذلك إلا في بعض الأحايين‏.‏ فأما سعيد فرئاستهم لأولاد يوسف بن زيد منهم في ولد ميمون بن يعقوب بن عريف بن يعقوب بن يوسف وأردافهم أولاد عيسى بن رحاب بن يوسف وهم ينتسبون بزعمهم إلى بني سليم في أولاد القرس من سليم‏.‏ والصحيح من نسبهم أنهم من رياح بالحلف والموطن‏.‏ ومع أولاد يوسف هؤلاء لفائف من العرب يعرفون بالمخادمة والغيوث والفجور فاما المخادمة والغيوث من أبناء مخدم فمن ولد مشرف بن أثبج وأما الفجور فمنهم من البرابر لواتة وزناتة إحدى بطونهم وفيهم من نفاث‏.‏ فأما نفاث فمن بطون جزام وسيأتي ذكرهم وأما زناتة فهم من بطون لواتة كما ذكرناه في بني جابر وتادلا كثير منهم وأجاز منهم إلى العدوة لعهد بني الأحمر سلطان الزناري وكانت له في الجهاد آثار‏.‏ وذكروا أن منهم بأرض مصر والصعيد كثيراً‏.‏ وأما أحلاف أولاد محمد من الدواودة فبطن من رباب بن سودات بن عامر بن صعصعة اندرجوا في أعداد رياح ولهم معهم ظعن ونجعة ولهم مكان من حلفهم ومظاهرتهم‏.‏ وأما أحلاف أولاد سباع من مسلم والأخضر فقد قدمنا أن مسلماً من أولاد عقيل بن مرداس بن رياح أخو حواز بن رياح بعضهم ينتسب إلى الزبير بن العوام وهو غلط‏.‏ ويقول بعض من ينكر عليهم إنما هو نسب إلى الزبير بن المهاية الذين هم من بطون عياض كما ذكرناه‏.‏ ورئاسته في أولاد جماعة بن مسلم بن حماد بن مسلم بين أولاد تساكر بن حامد بن كسلان بن غيث بن رحال بن جماعة‏.‏ وبين أولاد زرارة بن موسى بن قطران بن جماعة‏.‏ وأما الأخضر فيقولون إنهم من ولد خضر بن عامر وليس عامر بن صعصعة‏.‏ فإن أبناء عامر بن صعصعة معروفون كلهم عند النسابين‏.‏ وإنما هو والله أعلم عامر آخر من أولاد رياح‏.‏ ولعله عامر بن زيد بن مرداس المذكور في بطونهم‏:‏ أولهم من الخضر الذين هم ولد مالك بن طريف بن مالك بن حفصة بن فيس عيلان‏.‏ ذكرهم صاحب الأغاني وقال‏:‏ إنما سموا الخضر لسوادهم والعرب تسمي الأسود أخضر‏.‏ قال‏:‏ وكان مالك شديد السمرة فأشبهه ولده‏.‏ ورياستهم في أولاد تامر بن علي بن تمام بن عمار بن خضر بن عامر بن رياح واختصت مرين بأولاد عامر ولد عامر بن صالح بن عامر بن عطية بن تامر‏.‏ وفيهم بطن آخر لزائده بن تمام بن عمار‏.‏ وفي رياح أيضاً بطن من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار ويظعنون مع باديتهم‏.‏ وأما من نزل من رياح ببلاد الهبط حيث أنزلهم المنصور فأقاموا هنالك بعد رحلة رئيسهم مسعود بن زنان بتلك المواطن إلى أن انقرضت دولة الموحدين وكان عثمان بن نصر رئيسهم أيام المأمون وقتله سنة ثلاثين وستمائة‏.‏ ولما تغلب بنو مرين على ضواحي المغرب ضرب الموحدون على رياح هؤلاء البعث مع عساكرهم فقاموا بحماية ضواحيهم وتحيز لهم بنو عسكر بن محمد بن محمد من بني مرين حين كانوا حرباً لإخوانهم بني حمامة بن محمد سلف الملوك منهم لهذا العهد فكانت بين الفريقين جولة قتل فيها عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن جماعة أبو الملك وابنه إدريس فأوجدوا السبيل لبني مرين على أنفسهم في طلب الترة والدماء فأثخنوا فيهم واستلحموهم قتلاً وسبياً مرة بعد أخرى‏.‏ وكان آخر من أوقع بهم السلطان أبو ثابت حافد يوسف بن يعقوب سنة سبع وسبعمائة تتبعهم بالقتل إلى أن لحقوا برؤوس الهضاب وأسنمة الربى المتوسطة في المرج المستبحر بازغار فصاروا إلى عدد قليل ولحقوا بالقبائل الغارمة‏.‏ ثم دثروا وتلاشوا شأن كل أمة والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين لا رب غيره ولا معبود سواه وهو نعم المولى ونعم النصير عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير‏.‏ نسأله سبحانه وتعالى من فيض فضله العميم ونتوسل إليه بجاه نبيه الكريم أن يرزقنا إيماناً دائماً وقلباً خاشعاً وعلماً نافعاً ويقيناً صادقاً وديناً قيماً والعافية من كل بلية وتمام العافية ودوام العافية والشكر على العافية والغنى عن الناس وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الأخرة وأن يرزقنا من فضله وكرمه إيماناً لا يرتد ونعيماً لا ينفد وقرة عين لا تنقطع‏.‏ ومرافقة نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنان الخلد بمنه وكرمه إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:56 PM

الخبر عن سعادة القائم بالسنة في رياح ومال أمره وتصاريف أحواله
كان هذا الرجل من مسلم إحدى شعوب رياح ثم من رحمان منهم‏.‏ وكانت أمه تدعى حضيبة وكانت في أعلى مقامات العبادة والورع‏.‏ ونشأ هو منتحلاً للعبادة والزهد وارتحل إلى المغرب ولقي شيخ الصالحين والفقهاء لذلك العهد بنواحي تازة أبا إسحق التسولي وأخذ عنه ولزمه وتفقه عليه‏.‏ ورجع إلى وطن رياح بفقه صحيح وورع وافر ونزل طولقة من بلاد الزاب وأخذ بنفسه في تغيير المنكر على أقاربه وعشريته ومن عرفه أو صحبه فاشتهر بذلك وكثرت غاشيته لذلك من قومه وغيرهم‏.‏ ولزم صحابته منهم أعلام عاهدوه على التزام طريقته كان من أشهرهم‏:‏ أبو يحيى بن أحمد بن عمرشيخ بني محمد بن مسعود من الدواودة وعطية بن سليمان بن سباع شيخ أولاد سباع بن يحيى منهم وعيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد إدريس من أولاد عساكر منهم وحسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة بن يحيى بن دريد بن مسعود منهم وهجرس بن علي من أولاد يزيد بن زغبة ورجالات من العطاف من زغبة في كثير من أتباعهم والمستضعفين من قومهم‏.‏ فكثر بذلك تابعه واستظهر بهم على شأنه في إقامة السنة وتغيير المنكر على من جاء به‏.‏ واشتد على قاطع الطريق من شرار البوادي‏.‏ ثم تخطى ذلك إلى العمار فطلب عامل الزاب يومئذ منصور بن فضل بن مزني بإعفاء الرعايا من المكوس والظلامات فامتنع من ذلك واعتزم على الإيقاع به فحال دونه عشائر أصحابه وبايعوه على إقامة السنة والموت دونه في ذلك‏.‏ وآذنهم ابن مزني في الحرب ودعا لذلك أمثالهم ونظراءهم من قومهم‏.‏ وكان لذلك العهد علي بن أحمد بن عمر بن محمد قد قام برئاسة أولاد محمد وسليمان بن علي بن سباع قد قام برئاسة أولاد يحيى‏.‏ واقتسموا رئاسة الدواودة فظاهروا ابن مزني على مدافعة سعادة وأصحابه المرابطين من إخوانهم‏.‏ وكان أمر ابن مزني والزاب يومئذ راجعاً إلى صاحب بجاية من بني أبي حفص وهو الأمير خالد ابن الأمير أبي زكريا والقائم بدولته أبو عبد الرحمن بن عمر وبعث إليه ابن مزني في المدد فأمده بالعساكر والجيوش وأوعز إلى أهل طولقة بالقبض على سعادة فخرج ثم جمع أصحابه المرابطين وكان يسميهم السنية‏.‏ وزحفوا إلى بسكره وحاصروا ابن مزني سنة ثلاث وسبعمائة وقطعوا نخيلها وامتنعت عليهم فرحلوا عنها‏.‏ ثم أعادوا حصارها سنة إلى أربع وسبعمائة وامتنعت‏.‏ ثم انحدر أصحاب سعادة من الدواودة إلى مشاتيهم سنة خمس وسبعمائة‏.‏ وأقام المرابط سعادة بزاويته من زاب طولقة وجمع من كان إليه من المرابطين المتخلفين عن الناجعة وغزا مليلي وحاصرها أياماً‏.‏ وبعثوا بالضريخ إلى ابن مزني والعسكر السلطاني مقيم عندهم ببسكرة فأركبهم ليلاً مع أولاد حرب من الدواودة‏.‏ وصبحوا سعادة وأصحابه على مليلي فكانت بينهم جولة قتل فيها سعادة واستلحم الكثير من أصحابه وحمل رأسه إلى ابن مزني‏.‏ وبلغ الخبر إلى أصحابه بمشاتيهم فظهروا إلى الزاب ورؤساؤهم أبو يحيى بن أحمد بن عمر شيخ أولاد محرز وعطية بن سليمان شيخ أولاد سباع وعيسى بن يحيى شيخ أولاد عساكر ومحمد بن حسن شيخ أولاد عطية ورئاستهم جميعاً راجعة لأبي يحيى بن أحمد‏.‏ ونازلوا بسكرة وقطعوا نخيلها وتقبضوا على عمال ابن مزني فأحرقوهم في النار واتسع الخرق بينهم وبينه‏.‏ ونادى ابن مزني في أوليائه من الدواودة‏.‏ واجتمع إليه علي بن أحمد شيخ أولاد محمد وسليمان بن علي شيخ أولاد سباع وهما يومئذ أجلاء الدواودة‏.‏ وخرج ابنه علي بينهم بعساكر السلطان وتزاحفوا بالصحراء سنة ثلاث عشر فغلبهم المرابطون وقتل علي بن مزني‏.‏ وتقبض على علي بن أحمد فقادوه‏.‏ ثم أطلقه عيسى بن أحمد رعياً لأخيه أبي يحيى بن أحمد‏.‏ واستفحل أمر هؤلاء السنية ما شاء الله أن يستفحل‏.‏ ثم هلك أبو يحيى بن أحمد وعيسى بن يحيى وخلت أحياء أولاد محرز من هؤلاء السنية‏.‏ وتفاوض السنية فيمن يقيمونه بينهم في الفتيا في الأحكام والعبادات فوقع نظرهم على الفقيه أبي عبد الله محمد بن الأزرق من فقهاء مقرة‏.‏ وكان أخذ العلم ببجاية على أبي محمد الزواوي من مشيختها فقصدوه بذلك وأجابهم وارتحل معهم‏.‏ ونزل على حسن بن سلامة شيخ طلحة‏.‏ واجتمع إليه السنية واستفحل بهم جانب أولاد سباع واجتمعوا على الزاب وحاربوا علي بن أحمد طويلاً‏.‏ وكان السلطان أبو تاشفين حين كان يجلب على أوطان الموحدين يخيب عليهم أولياؤهم من العرب يبعث إلى هؤلاء السنية بالجوائز يستدعي بذلك ولايتهم‏.‏ ويبعث معهم للفقيه أبي الأزرق بجائزة معلومة في كل سنة‏.‏ ولم يزل ابن الأزرق مقيماً لرسمهم إلى أن غلبهم على أمرهم ذلك علي بن أحمد شيخ أولاد محمد وهلك حسن بن سلامة وانقرض أمر السنيه من رياح‏.‏ ونزل ابن الأزرق بسكرة فاستدعاه يوسف بن مزني لقضائها تفريقاً لأمر السنية فأجابه ونزل عنده فولاه القضاء ببسكرة إلى أن هلك سنة‏.‏ ثم قام علي بن أحمد بهذه السنية بعد حين ودعا إليها وجمع لابن مزني سنة أربعين وسبعمائة‏.‏ ونزل بسكرة وجاءه مدد أهل ريغ وأقام محاصراً لها أشهراً‏.‏ وامتنعت عليه فأقلع عنها وراجع يوسف بن مزني وصاروا إلى الولاية إلى أن هلك علي بن أحمد‏.‏ وبقي من عقب سعادة في زاويته بنون وحفدة يوجب لهم ابن مزني الرعاية وتعرف لهم أعراب الفلاة من رياح حقاً في إجازة من يجيزونه من أهل السابلة‏.‏ وبقي هؤلاء الدواودة ينزع بعضهم أحياناً إلى إقامة هذه الدعوة فيأخذون بها أنفسهم غير متصفين من الدين والتعمق في الوزع بما يناسبها ويقضي حقها بل يجعلونها ذريعة لأخد الزكوات من الرعايا ويتظاهرون بتغيير المنكر يسرون بذلك حسواً في ارتقاه فينحل أمرهم بذلك وتخفق مساعيهم ويتنازعون على ما تحصل بأيديهم ويفترقون على غير شيء والله متولي الأمور لا إله إلا هو سبحانه يحيي ويميت‏.‏

زعبة وبطونهم من هلال
الخبرعن زغبة وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة هذه القبيلة إخوة رياح‏.‏ ذكر ابن الكلبي‏:‏ إن زغبة ورياحاً أبناء أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر هكذا نسبهم وهم لهذا العهد مما يزعمون أن عبد الله يجمعهم بكسر دال عبد ولم يذكر ابن الكلبي ذلك وذكر عبد الله في ولد هلال فلعل انتسابهم إليه بما كفلهم واشتهر دونهم وكثيراً ما يقع مثل هذا في أنساب العرب أعني انتساب الأبناء لعمهم أو كافلهم والله أعلم‏.‏ وكانت لهم عزة وكثرة عند دخولهم إفريقية وتغلبوا على نواحي طرابلس وقابس وقتلوا سعيد بن خزرون من ملوك مغراوة بطرابلس‏.‏ ولم يزالوا بتلك الحال إلى أن غلب الموحدون على إفريقية وثار بها ابن غانية وتحيزت إليه أفاريق هلال بن رياح وجشم فنزعت زغبة إلى الموحدين‏.‏ انحرفوا عن ابن غانية فرعوا لهم حق نزوعهم وصاروا يداً واحدة مع بني بادين من زناتة في حماية المغرب الأوسط من ابن غانية وأتباعه واتصلت مجالاتهم ما بين المسيلة وقبلة تلمسان في القفار وملك بنو بادين وزناتة دليهم التلول‏.‏ ولما ملكت زناتة بلاد المغرب الأوسط ونزلوا بأمصاره دخل زغبة هؤلاء التلول وتغلبوا فيها ووضعوا الأتاوة على الكثير من أهلها بما جمعهم وزناتة من البداوة وعصبية الحلف وخلا قفرهم من ظعونهم وحاميتهم فطرقته عرب المعقل المجاورون لهم من جانب المغرب وغلبوا على من وجدوا من مخلف زغبة هؤلاء بتلك القفار وجعلوا عليهم خفارة يأخذونها من إبلهم ويختارون عليهم البكرات منها‏.‏ وأنفوا لذلك وتآمروا وتعاقدوا على دفع هذه الهضمة وتولى كبرها من بطونهم ثوابة بن جوثة من سديد كما نذكره بعد فدفعوهم عن أوطانهم من ذلك القفر‏.‏ ثم استفحلت دولة زناتة وكفحوا العرب عن وطىء تلولهم لما انتشأ عنهم من العبث والفساد فرجعوا إلى صحرائهم وملكت الدولة عليهم التلول والحبوب واستصعبت الميرة وهزل الكراع وتلاشت أحوالهم وضربت عليهم البعوث وأعطوا الأتاوة والصدقة حتى إذا فشل ريح زناتة وداخل الهرم ودولتهم وانتزى الخوارج من قرابة الملك بالقاصية وجدوا السبيل بالفتن إلى طروق التلول ثم إلى الغلب فيها ثم غالبوا زناتة عليها فغلبوهم في أكثر الأحايين وأقطعتهم الدولة الكثير من نواحي المغرب الأوسط وأمصاره في سبيل الاستظهار بهم تمشت ظعونهم فيه وملكوه من كل جانب كما نذكره‏.‏ وبطون زغبة هؤلاء يتعددون من يزيد وحصين ومالك وعامر وعروة وقد اقتسموا بلاد المغرب الأوسط كما نذكر في أخبارهم‏.‏ كان لبني يزيد هؤلاء محل من زغبة بالكثرة والشرف وكان للدول به عناية فكانوا لذلك أول من أقطعته الدول من العرب التلول والضواحي‏.‏ أقطعهم الموحدون في أرض حمزة من أول من أوطان مما يلي بلاد رياح والأثابج فنزلوا هنالك وولجوا تلك الثنايا المفضية إلى تلول حمزة والدهوس وأرض بني حسن ونزلوها ريفاً وصحراء‏.‏ وصار للدولة استظهار بهم على جباية تلك الرعايا من صنهاجة وزوارة‏.‏ فلما عجزت عساكر بجاية من جبايتهم دفعوهم لها فأحسنوا في اقتضائها وزادت الدول بهم تكرمة وعناية لذلك واقتطعهم الكثير من تلك الأوطان‏.‏ ثم غلب زناتة الموحدين على تلك الأوطان فاقتطعوها عن أوطان بجاية وأصارها عن ممالكهم‏.‏ فلما فشل ريح زناتة وجاش بحر فتنتهم مع العرب استبد بنو يزيد هؤلاء بملكة تلك الأوطان وغلبوا عليها من جميع جوانبها وفرغوا لجبايتها واقتضاء مغارمها وهم على ذلك لهذا العهد‏.‏ وهم بطون كثيرة منهم‏:‏ حميان بن عقبة بن يزيد وجواب وبنو كرز وبنو موسى والمرابعة والخشنة‏.‏ وهم جميعاً بنو يزيد بن عبس بن زغبة وإخوانهم عكرمة بن عبس من ظعونهم وكانت الرئاسة في بني يزيد لأولاد لاحق ثم لأولاد معافى‏.‏ ثم صارت فى بيت سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن مهدي بن يزيد بن عيسى بن زغبة وهم يزعمون أنه مهدي بن عبد الرحمن بن أبي بكر وربما نسبهم آخرون إلى سلول وهم بنو مرة بن صعصعة أخي عامر بن صعصعة وليس بصحيح كما قلناه‏.‏ وقد يقال إن سلولاً وبني يزيد إخوة ويقال لهم جميعاً أولاد فاطمة‏.‏ وبنو سعد هؤلاء ثلاثة بطون‏:‏ بنو ماضي بن رزق بن سعد وبنو منصور بن سعد وبنو زغلي بن رزق بن سعد‏.‏ واختصت الرئاسة على الظعون والحلول ببني زغلي‏.‏ وكانت لريان بن زغلي فيما علمناه ثم من بعده لأخيه ديفل ثم لأخيهما أبي بكر ثم لابنه ساسي بن أبي بكر ثم لأخيه معتوق بن أبي بكر ثم لموسى ابن عمهم أبي الفضل بن زغلي ثم لأخيه أحمد بن أبي الفضل ثم لأخيهما علي بن أبي الفضل‏.‏ ثم لأبي الليل بن أبي موسى بن أبي الفضل وهو رئيسهم لهذا العهد‏.‏ وتوفي سنة إحدى وتسعين وخلفه في قومه ابنه‏.‏ وكان من أحلافهم فيما تقدم بنو عامر بن زغبة يظعنون معهم في مجالاتهم ويظاهرونهم في حروبهم‏.‏ وكانت بين رياح وزغبة فتنة طويلة لعهد موسى بن حمد بن مسعود وابنه شبل أيام المستنصر بن أبي حفص‏.‏ فكان بنو يزيد هؤلاء يتولون كبرها لمكان الجوار‏.‏ وكان بنو عامر أحلافهم فيها وظهراؤهم‏.‏ وكان لهم على مظاهرتهم وضيعة من الزرع تسمى الغرارة وهي ألف غرارة من الزرع‏.‏ وكان سببها فيما يزعمون‏:‏ أن أبا بكر بن زغلي غلبته رياح على الدهوس من وطن حمزة أزمان فتنته معهم فاستصرخ لبني عامر فجاءه أولاد شافع وعليهم صالح بن بالغ وبنو يعقوب وعليهم داود بن عطاف وحميد وعليهم يعقوب بن معروف‏.‏ واسترجع وطنه وفرض لهم على وطنه ألف غرارة ص الزرع واستمرت لبني عامر‏.‏ فلما ملك يغمراسن بن زيان تلمسان ونواحيها ودخلت زناتة إلى التلول والأرياف كثر عبث المعقل وفسادهم في وطنها فجاء يغمراسن ببني عامر هؤلاء من مجالاتهم بصحراء بني يزيد وأنزلهم في جواره بصحراء تلمسان كياداً للمعقل ومزاحمة لهم بأفيالهم فنزلوا هنالك‏.‏ وتبعتهم حميان من بطون بني يزيد بما كانوا بطوناً وناجعه ولم يكونوا حلولاً فصاروا في عداد بني عامر لهذا العهد‏.‏ وتولت بنو يزيد بلاد الريف وخصبه فأوطن فيه أكثرهم‏.‏ وقل أهل الناجعة منهم إلا أفاريق من عكرمة وبعض بطون عبس يظعنون مع أولاد زغلي في قفرهم‏.‏ وأقصروا عن الظعن في القفر إلا في القليل ومع أحلافهم من ظعون رياح أو زغبة وهم على ذلك لهذا العهد‏.‏ ومن بطون بني يزيد بن عبس زغبة بنو خشين وبنو موسى وبنو معافى وبنو لاحق‏.‏ وكانت الرئاسة لهم ولبني معافى قبل بني سعد بن مالك وبنو جواب وبنو كرز وبنو مربع وهم المرابعة وهؤلاء كلهم بطن حمزة لهذا العهد‏.‏ ومن المرابعة حي ينجعون بضواحي تونس لهذا العهد وغلب عليهم بسبب زغبة والله الخلاق العليم‏.‏ أبو الفضل بن موسى بن زغلي بن رزق بن سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن حطين بن زغبة وأما أولاد حصين بن زغبة فكانت مواطنهم بجوار بني يزيد إلى المغرب عنهم‏.‏ كانوا حياً حلوا هنالك وكان الريف للحاذي من تيطري ونواحي المرية مواطن للثعالبة من بطون البعوث ويأخذون منهم الأتاوات والصدقات‏.‏ حتى إذا ذهب سلطان بني توجين من أرض المرية وغلبهم عليهم بنو عبد الواد ساموا حصيناً هؤلاء خطة الخسف والذل وألزموهم الوضائع والمغارم واستلحموهم بالقتل وهضموهم بالتكاليف وصيروهم في عداد القبائل الغارمة‏.‏ وبأثر ذلك كان تغلب بني مرين على جميع زناتة كما نذكره فكانوا لهم أطوع ولدولتهم أذل‏.‏ فلما عاد بنوعبد الواد إلى ملكهم لعهد أبي حمو موسى بن يوسف بعد مهلك السلطان أبي عنان هبت ريح العز للعرب وفشل ريح زناتة ولحق دولتهم ما يلحق الدول من الهرم ونزل حصين بتيطري وهو جبل أشير وملكوه وتحصنوا وكان أبو زيان ابن عم السلطان أبي حمو لما ملك من قبله لحق بتونس مفلتاً من جبالة بني مرين وخرج طالباً لمملك أبيه ومنازلاً لابن عمه هذا ونزل في خبر طويل نذكره بقبائل حصين هؤلاء أحوج ما كانوا لمثلها لما راموه من خلع ما كان بأعناقهم من الذل وطرق الاهتضام والعسف فتلقوه بما يجب له‏.‏ ونزل منهم بأكرم نزل وأحسن مثوى‏.‏ وبايعوه وأرسلوا إخوانهم وكبراءهم من رؤساء زغبة بني سويد وبني عامر فأصفقوا عليه‏.‏ وترددت ونهض إليهم السلطان أبو حمو بعساكره فقتلوه ونالوا منه ونالت زغبة بذلك ما أرادوه من الاعتزاز على الدولة آخر الأيام وتملكوا البلاد إقطاعات وسهماناً ورجع أبو زيان إلى رياح فنزل بهم على سلم عقد مع ابن عمه وبقي لحصين أثر الاعتزاز من جرائه‏.‏ واقطعتهم الدولة ما ولوه من نواحي المرية وبلاد صنهاجة‏.‏ ولحصين هؤلاء بطنان عظيمان جندل وخراش‏.‏ فمن جندل أولاد خنفر بن مبارك بن فيصل بن سنان بن سباع بن موسى بن كمام بن علي بن جندل ورئاستهم في بني خليفة بن سعد ليلى وسيدهم أولاد خشعة بن جندل‏.‏ وكانت رئاستهم على جندل قبل أولاد الخليفة ورئيسهم الآن علي بن صالح بن دياب بن مبارك بن يحيى بن مهلهل بن شكر بن عامر بن محمد بن خشعة‏.‏ ومن خراش أولاد مسعود بن مظفر بن محمد الكامل بن خراش‏.‏ ورئاستهم لهذا العهد في ولد رحاب بن عيسى بن أبي بكر بن زمام بن مسعود‏.‏ وأولاد فرج بن مظفر ورئاستهم في بني خليفة بن عثمان بن موسى بن فرج‏.‏ وأولاد طريف بن معبد بن خراش ويعرفون بالمعابدة ورئاستهم في أولاد عريف بن طريف لزيان بن بدر بن مسعود بن معرف بن عريف‏.‏ ولمصباح بن عبد الله بن كثير بن عريف‏.‏ وربما انتسب أولاد مظفر من خراش إلى بني سليم ويزعمون أن مظفر بن محمد الكامل جاء بني سليم ونزل بهم والله أعلم بحقيقة الأمر‏.‏ وأما بنو مالك بن زغبة فهم بطون ثلاثة‏:‏ سويد بن عامر بن مالك والحرث بن مالك وهم بطنان للعطاف من ولد عطاف بن رومي بن حارث‏.‏ والديالم من ولد ديلم بن حسن بن إبراهيم بن رومي فأما سويد فكانوا أحلافاً لبني بادين قبل الدولة‏.‏ وكان لهم اختصاص ببني عبد الواد‏.‏ وكانت لهم لهذا العهد أتاوات على بلد سيرات والبطحاء وهوارة‏.‏ ولما ملك بنو بادين تلول المغرب الأوسط وأمصاره كان قسم بني توجين منه سياج التلول القبلية مما بين قلعة سعيدة في الغرب إلى المرية في الشرق‏.‏ فكان لهم قلعة بن سلامة ومنداس وأنشريس ورينة وما بينهما فاتصل جوارهم لبني مالك هؤلاء في القفر والتل‏.‏ ولما ملك بنو عبد الواد تلمسان ونزلوا بساحتها وضواحيها كان بنو سويد هؤلاء أخص بحلفهم وولايتهم من سائر زغبة‏.‏ وكانت لسويد هؤلاء بطون مذكورون من فليتة وشبانة ومجاهر وجوثة كلهم من بني سويد‏.‏ والحساسنة بطن من شبانة إلى حسان بن شبانة وغفير وشافع وما لف‏.‏ كلهم بنو سليمان بن مجاهر وبو رحمة وبو كامل وحمدان بنو مقدر بن مجاهر‏.‏ ويزعم بعض نسابتهم أن مقدرا ليس بجد لهم وإنما وضع ذلك أولاد بو كامل‏.‏ وكانت رئاستهم لعهدهم في يغمراسن وما قبله في أولاد عيسى بن عبد القوي بن حمدان وكانوا ثلاثة‏:‏ عمر بن مهدي وعطية وطراد‏.‏ واختص مهدي بالرئاسة عليهم ثم ابنه سيف بن مهدي ثم أخوه عمر بن مهدي وأقطع يغمراسن يوسف بن مهدي ببلاد البطحاء وسيرات وأقطع عنتر بن طراد بن عبسي قرارة البطحاء وكانوا يقتضون أتاواتهم على الرعايا ولا يناكرهم فيها‏.‏ وربما خرج في بعض خروجه واستخلف عمر بن مهدي على تلمسان وما إليها من ناحية المشرق‏.‏ وفي خلال ذلك خلت مجالاتهم بالقفر من ظعونهم وناجعتهم إلا أحياء من بطونهم قليلي العدد من الجوثة وفليتة وما لف وغفير وشافع وأمثالهم فغلب عليهم هنالك للمعقل وفرضوا عليهم أتاوة من الإبل يعطونها ويختارونها عليهم من البكرات‏.‏ وكان المتولي لأخذها منهم من شيوخ المعقل أبو الريش بن نهار بن عثمان بن عبيد الله وقيل علي بن عثمان أخو نهار‏.‏ وقيل إن البكرات إنما فرضها للمعقل على قومه بن عامر جميل لأجل مظاهرة له على عدوه وبقيت للمعقل عاعة إلى أن تمشت رجالات من زغبة في نقض ذلك وغدرا برجال المعقل ومنعوا تلك البكرات‏.‏ أخبرني يوسف بن علي ثم غانم عن شيوخ قومه من المعقل أن سبب البكرات وفروضها على زغبة كما ذكرناه‏.‏ وأما سبب رفعها فهو أن المعقل كانوا يقولون غرامتها إدالة بينهم‏.‏ فلما دالت لعبيد الله الدولة في غرامتها جمع ثوابة بن جوثة قومه وحرضهم على منعها فاختلفوا واحتربوا مع عبيد الله ودفعوهم إلى جانب الشرق وحالوا بينهم وبين أحيائهم وبلادهم‏.‏ وطالت الحرب ومات فيها بنو جوثة وابن مرمح من رجالاتهم‏.‏ وكتب بنوعبد الله إلى قومهم من قصيدة‏:‏ بني معقل إن لم تصرخوناعلى العدو فلا بد لكم تذكر ماطرا لنا قتلنا ابن جوثة والهمام بن مرهج على الوجه مكبوب وذا من فعالنا فاجتمعوا وجاءوا إلى قومهم وقرت أحياء زغبة واجتمع بنو عبيد الله وإخوانهم من ذوي منصور وذوي حسان وارتفع أمر البكرات من زغبة لهذا العهد‏.‏ ثم حدث بين يغمراسن وبينهم فتنة هلك فيها عمر بن مهدي وارتحلوا عن التلول والأرياف من بلاد عبد الواد إلى القفر المحاذي لأوطان بني توجين على المهادنة والمصاهرة فصاروا لهم حلفاء على بني عبد الواد‏.‏ ومن عجزمنهم من الظعن نزل ببسائط البطحاء‏.‏ وسارت بطونهم كلها من شبابة ومجاهر وغفير وشافع ومالف وبو رحمة وبو كامل ونزل محيسن بن عمارة وأخوة سويد بضواحي وهران فوضعت عليهم الأتاوات والمغارم وصاروا من عداد الرعايا أهل الجباية وولي عثمان بن عمر أمر الظعون من سويد‏.‏ ثم هلك وقام بأمره ابنه ميمون وغلب عليه أخوه سعيد واستبد‏.‏ وكان سويد وبين بني عامر بن زغبة فتنة اتصلت على الأيام وثقلت وطأة الدولة الزيانية عليهم‏.‏ وزحف يوسف بن يعقوب إلى منازلة تلمسان وطال مقامه عليها فوفد عليه سعيد بن عثمان بن عمر بن مهدي شيخهم لعهده فأتى مجلسه وأكرم وفادته‏.‏ ثم أجمع قتله ففر ولحق بقومه وأجلب على أطراف التلول وملك السرسو قبلة بلاد توجين ونزعت إليه طائفة من عكرمة بني يزيد وعجزوا عن الظعن وأنزلهم بجبل كريكرة قبلة السرسو ووضع عليهم الأتاوة‏.‏ ولم يزل كذلك إلى أن هلك يوسف بن يعقوب واتصل سلطان آل يغمراسن‏.‏ ولما ولي أبو تاشفين بن موسى بن عثمان بن يغمراسن استخلص عريف بن يحيى لديه صحابة كانت له معه قبل الملك‏.‏ ثم آسفه ببعض النزعات الملوكية‏.‏ وكان هلال مولاه المستولي عليه يغص بما كان عريف منه فنزع عريف بن يحيى إلى بني مرين ملوك المغرب الأقصى ونزل على السلطان أبي سعيد منهم سنة عشرين وسبعمائة واعتقل أبو تاشفين عمه سعيد بن عثمان إلى أن هلك في محبسه قبيل فتح تلمسان‏.‏ ولحق أخوه ميمون بن عثمان وولده بملك المغرب وأنزل عريف بن يحيى من سلطان بني مرين أكرم نزل وأدنى مجلسه وأكرم مثواه‏.‏ ثم اتخذه ابنه السلطان أبو الحسن من بعده بطانة لشوراه ونجياً لخلواته ولم يزل يحرضهم على آل زيان بتلمسان‏.‏ ونفس ميمون بن عثمان وولده عريف رتبته عند السلطان أبو الحسن فنزعوا إلى أخيه أبي علي بتافيلالت فلم يزالوا بها إلى أن هلك ميمون‏.‏ ثم تغلب السلطان أبو الحسن على أخيه أبي علي وصار أولاد ميمون في جملته‏.‏ وزحف السلطان أبو الحسن إلى تلمسان يجر أمم المغرب وأحجر على زيان بتلمسان ثم اقتحمها عليهم عنوة وابتزهم ملكهم وقتل السلطان أبا تاشفين عند شدونة وبعث كلمته في أقطار المغرب الأقصى والأدنى إلى تخوم الموحدين من أندلس وجع كلمة زناتة واستتبعهم تحت لوائة‏.‏ وفر بنو عامر من زغبة أولياء بني عبد الواد إلى القفر كما نذكره‏.‏ ورفع السلطان أبو الحسن قوم عريف بن يحيى بمحلته على كل عربي في إيالته من زغبة والمعقل‏.‏ وكان عقد سمعون بن سعيد على الناجعة من سويد‏.‏ وهلك أيام نزول السلطان بتاسالة سنة اثنتين وثلاثين قبل فتح تلمسان‏.‏ وولي من بعده أخوه عطية هلك لأشهر من ولايته بعد فتح تلمسان فعقد السلطان لونزمار بن عريف على سويد وسائر بني مالك وجعل له رئاسة البدو حيث كانوا من أعماله وأخذ الصدقات منهم والأتاوات فعكفت على بيته أمم البدو واقتدى بشوراه رؤساؤهم‏.‏ وفر ابن عمه المسعود بن سعيد ولحق ببني عامر وأجلبوا على السلطان بدعاء جزارشبة ابنه أبي عبد الرحمن فجمع لهم ونزمار وهزمهم كما نذكره‏.‏ وسفر عريف بين السلطان أبي الحسن وبين الملوك لعهده من الموحدين بإفريقية وبني الأحمر بالأندلس والترك بالقاهرة‏.‏ ولم يزل على ذلك إلى أن هلك السلطان أبو الحسن‏.‏ ولما تغلب السلطان أبو عنان على تلمسان كما سنذكره رعى لسويد ذمة الانقطاع إليه فرفع ونزمار بن عريف على سائر رؤساء البدو من زغبة وأقطعه السرمو وقلعة ابن سلامة وكثيراً من بلاد توجين‏.‏ وهلك أبو عريف بن يحيى فاستقدمه من البدو وأجلسه بمكان أبيه من مجلسه جوار أريكته ولم يزل على ذلك‏.‏ وعقد لأخيه عيسى على البدو من قومه ثم بن عبد الواد بعد ملك السلطان أبي عنان عادت لهم الدولة بأبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن أبي يغمراسن من أعياص ملوكهم‏.‏ وتولى كبر ذلك صغير بن عامر وقومه لما لهم مع آل زيان من الولاية وما كان لبني مرين فيهم من النقمات فملكوا تلمسان ونواحيها وعقدوا على سويد لميمون بن سعيد بن عثمان‏.‏ ونال لونزمار بن عريف ورأى الترهب والخروج عن الرئاسه فبنى حصناً بوادي ملوية من تخوم بني مرين ونزل به وأقام هنالك لهذا العهد‏.‏ وملوك بني مرين يرعون له ذمة اختصاصه سلفهم فيؤثرونه بالشورى والمداخلة في الأحوال الخاصة مع الملوك والرؤساء من سائر النواحي فتوجهت إليه بسبب ذلك وجوه أهل الجهات من الملوك وشيوخ العرب ورؤساء الأقطار‏.‏ ولحق أخواه أبو بكر ومحمد بقومهم فمكروا بالميمون ودسوا عليه من قتله غيلة من ذويهم وحاشيتهم واستبدوا برئاسة البدو‏.‏ ثم لما نصب بنو حصين بن زيان ابن عم السلطان أبي حمو للملك كما نذكره ورشحوه للمنازعة سنة سبع وستين وسبعمائة هبت من يومئذ ريح العرب وجاش مرجلهم على زناتة ووطئوا من تلول بلادهم بالمغرب الأوسط ما عجزوا عن حمايته وولجوا من فروجها ما قصروا عن سده ودبوا فيها دبيب الظلال في الفيوم فتملكت زغبة سائر البلاد بالأقطاع عن السلطان طوعاً وكرهاً رعياً لخدمتة وترغيباً فيها وعدة وتمكيناً لقوته حتى أفرجت أثم زناتة عن كثيرها ولجأوا إلى سيف البحر‏.‏ وحصل كل منهم في الفلول على ما يلي موطنه من بلاد القفر‏.‏ فاستولى بنو يزيد على بلاد حمزة وبني حسن كما كانوا من قبل ومنعوا المغارم واستولى بنوحسين على ضواحي المدينة أقطاعاً والعطاف على نواحي مليمانة والديالم على وزينة وسويد على بلاد بني توجين كلها ما عدا جبل ونشريس لتوعره بقيت فيه لمة من توجين رئاستهم لأولاد عمر بن عثمان من الجشم بني تيغرين كما نذكره وبني عامر على تاسالة وميلانة إلى ميدور إلى كيدزة الجبل المشرف على وهران‏.‏ وتماسك السلطان بالأمصار وأقطع منها كلميتو لأبي بكر بن عريف ومازونة لمحمد بن عريف ونزلوا لهم عن سائر الضواحي فاستولوا عليها كافة‏.‏ وأوشك بهم أن يستولوا على الأمصار‏.‏ وكل أول فإلى آخر ولكل أجل كتاب وهم على ذلك لهذا العهد‏.‏ ومن بطون سويد هؤلاء بطن بنواحي البطحاء يعرفون بهبرة ينسبهم الناس إلى مجاهد بن سويد وهم يزعمون أنهم من قوم المقداد بن الأسود وهم بهذا من قضاعة‏.‏ ومنهم من يزعم أنهم من تجيب إحط ى بطون كندة والله أعلم‏.‏ ومن ظواعن سويد هؤلاء ناجعة يعرفون بصبيح ونسبهم إلى صبيح بن علاج بن مالك ولهم عدد وقوة وهم يظعنون لعن سويد ويقيمون بمقامهم‏.‏ وأما الحرث بن مالك وهم العطاف والديالم فموطن العطاف قلة مليانة ورئاسة ظعونهم لولد يعقوب بن نصر بن عروة من منصور بن أبي الذئب بن حسن بن عياض بن عطاف بن زيان بن يعقوب وابن أخيه علي بن أحمد وبنيه ومعهم طائفة من براز إحدى بطون الأثبج‏.‏ وأقطعهم السلطان مغارم جبل دراك وما إليه من وادي شلب‏.‏ وحال بينهم وبين موطن سويد ونشريس ولهم بلاد وزينة في قبلة المجبل رئاستهم في ولد إبراهيم بن رزق بن رعاية من مزروع بن صالح بن ديلم والسعد بن العباس بن إبراهيم منهم لهذا العهد‏.‏ وكانت من قبل لعمه أبي يحيى بن إبراهيم‏.‏ وتقبض عليه السلطان أبو عثمان بإشارة عريف بن يحيى وأغرى به وهلك في محبسه‏.‏ وفيهم بطون كثيرة منهم بنو زيادة بن إبراهيم بن رومي والدهاقنة أولاد هلال بن حسن وبنو نوال بن حسن أيضاً وكلهم إخوة ديلم بن حسن وابن عكرمة من مزروع بن صالح ويعرفون بالعكارمة‏.‏ وهؤلاء العطاف والديالم أقل عدداً من سويد وأولياؤهم في فتنتهم مع بني عامر لمكان العصبية من نسب مالك ولسويد عليهم اعتزاز بالكثرة‏.‏ والديالم أبعد مجالاً منهم في القفر ويحاذيهم في مواطنهم من جانب التلول بطن من بطون الحرث يعرفون بغريب نسبهم إلى غريب بن حارث حي حلول بتلك المواطن طلبهم السلطان في العسكرة ويأخذ منهم المغارم وهم أهل شاة وبقر‏.‏ ورئاستهم في أبناء مزروع بن خليفة بن خلوف بن يوسف بن بكرة بن منهاب بن مكتوب بن منيع بن مغيث بن محمد الغريب وهو جدهم بن حارث‏.‏ وترادفهم في رئاستهم على غريب أولاد يوسف وهم جميعاً أولاد بني منيع وسائر غريب من الأحلاف شيوخهم أولاد كامل والله مالك الخلق والأمر‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:57 PM

بنو عامر بن زغبة
وأما بنو عامر بن زغبة فمواطنهم في آخر مواطن زغبة من المغرب الأوسط قبلة تلمسان مما يلي المعقل وكانت مواطنهم من قبل ذلك في آخرها مما يلي المشرق وكانوا مع بني يزيد حياً جميعاً وكانوا يغلبون غيرهم في مواطن حمزة والدهوس وبني حسن لميرة أقواتهم في المصيف‏.‏ ولهم على وطن بني يزيد ضريبة من الزرع متعارفة بين أهله لهذا العهد‏.‏ يقال أنها كانت لهم أزمان تغلبهم في ذلك الوطن وقيل إن أبا بكر بن زغبي في فتنته مع رياح غلبوه على الدهوس من وطنه فاستصرخ بني عامر فجاءوا لصريخه وعلى بني يعقوب داود بن عطاف وعلى بني حميد يعقوب بن معروف وعلى شافع صالح بن بالغ وغلبوا رياحاً بعزلان‏.‏ وفرض لهم على وطن بني يزيد ألف غرارة واستمرت لهم عادة عليهم‏.‏ ولما نقلهم يغمراسن إلى مواطنهم هذه لمحاذاة تلمسان ليكونوا حجزاً بين المعقل وبين وطنها استقروا هنالك يتقلبون في قفارها في المشاتي ويظهرون إلى التلول في المرابع والمصايف‏.‏ وكان فيهم ثلاثة بطون‏:‏ بنو يعقوب بن عامر وبنو حميد بن عامر وبنو شافع بن عامر وهم بنو شقارة وبنو مطرف‏.‏ ولكل واحد من البطتين الآخرين أفخاذ وعماثر‏.‏ ولبني حميد فصائل أخرى فمنهم‏:‏ بنو حميد‏.‏ ومن عبيد الحجز وهم بنو حجاز بن عبيد‏.‏ وكان له من الولد حجاز وهجيش ابني حجاز‏.‏ ولجحرش حامد ومحمد ورباب‏.‏ ومن محمد الولالدة بنو ولاد بن محمد‏.‏ ومن رباب بنو رباب وهم معروفون لهذا العهد‏.‏ ومن عبيد أيضاً العقلة بنو عقيل بن عبيد والمحارزة بنو محرز بن حمزة بن عبيد‏.‏ وكانت الرئاسة على حميد لعلاق من هؤلاء المحارزة وهم الذين قبل جحرش جذبني رباب‏.‏ وكانت الرئاسة على بني عامر كافة لبني يعقوب على عهد يغمراسن وابنه لداود بن هلال بن عطاف بن رداد بن ركيش بن عياد بن منيع بن يعقوب منهم‏.‏ وكان بنو حميد أيضاً برئيسهم وشيخهم إلا أنه رديف لشيخ بني يعقوب - منهم‏.‏ وكانت رئاسه حميد لأولاد رباب بن حامد بن جحرش بن حجاز بن عبيد بن حميد ويسمون الحجز‏.‏ وعلى عهد يغمراسن لمعرف بن سعيد بن رباب منهم وهو رديف لداود كما قلناه‏.‏ ووقعت بين عثمان وبين داود بن عطاف مغاضبة وسخطه عثمان لما أجاز الأمير أبا زكريا ابن السلطان أبي إسحق من آل أبي حفص حين فر من تلمسان طالباً الخروج على الخليفة بتونس وكان عثمان بن يغمراسن في بيعته فاعتزم على رجعه فأبى داود من إخفار ذمته في ذلك‏.‏ ورحل معه حتى لحق بعطية بن سليمان من شيوخ الدواودة وتغلب على بجاية وقسطنطينة كما يذكر في أخباره‏.‏ وأقطع داود بن هلال رعياً لفعلته وطناً من بلاد حمزة يسمى كدارة وأقام داود هنالك في مجالاتهم الأولى إلى أن نازل يوسف بن يعقوب تلمسان وطال حصاره لها فوفد عليه داود مؤملاً صلاح حاله لديه وحمله صاحب بجاية رسالة إلى يوسف بن يعقوب فاستراب به من أجلها‏.‏ فلما قفل من وفادته بعث في أثره خيالة من زناتة بيتوه ببني يبقى في سد وقتلوه‏.‏ وقام بأمره في قومه ابنه سعيد ونفس مخنق الحصارعلى تلمسان‏.‏ وكان قبل بني مرين لأبيه وسيلة رعاها لهم بنو عثمان بن يغمراسن فرجعوهم إلى مواطنهم ومع قومهم‏.‏ وقد اغتر أولاد معرف بن سعيد في غيبتهم تلك يساجلونهم في رئاسة بني عامر وغص كل واحد بمكان صاحبه واختص بنو معرف بإقبال الدولة عليهم لسلامتهم من الحزازة والخلاف‏.‏ ونزع سعيد بن داود لأجل هذه الغيرة إلى بني مرين‏.‏ ووفد على السلطان أبي ثابت من ملوكهم يؤمل به الكرة فلم يصادف لها محلاً ورجع إلى قومه‏.‏ وكانوا مع ذلك حياً جميعاً ولم تزل السعاية بينهم ندب حتى عدا إبراهيم بن يعقوب بن معرف على سعيد بن داود فقتله وتناول قتله ماضي بن ردان من أولاد معرف بن عامر بمجالاته وتعصبة عليه أولاد رباب كافة فافترق أمر بني عامر وصاروا حيين‏:‏ بنو يعقوب وبنو حميد‏.‏ وذلك لعهد أبي حمو موسى بن عثمان من آل زيان وقام بأمر بني يعقوب بعد سعيد ابنه عثمان‏.‏ ثم هلك بعد حين إبراهيم بن يعقوب شيخ بني حميد وقام مقامه من بني قومه ابنه عامر بن إبراهيم وكان شهماً حازماً وله ذكر ونزل المغرب قبل عريف بن يحيى ونزل على السلطان أبي سعيد وأصهر إليه ابنته فأنكحه عامر إياها وزفها إليه ووصله بمال له خطر فلم يزل عثمان يحاول أن يثأر منه بأبيه بالفتنة تارة والصلح والاجتماع أخرى حتى غدره في بيته وقتله وارتكب فيه الشنعاء التي تنكرها العرب فتقاطع الفريقان لذلك آخر الدهر‏.‏ وصارت بنو يعقوب أحلافاً لسويد في فتنتهم مع بني حميد هؤلاء‏.‏ ثم تلاحقت ظواعن سويد بعريف بن يحيى في مكانه عند بني مرين واستطال ولد عامر بن إبراهيم بقومهم على بني يعقوب فلحقوا بالمغرب ولم يزالوا به إلى أن جاؤوا في عساكر السلطان أبي الحسن وهلك شيخهم عثمان‏.‏ قتله أولاد عريف بن سعيد بثأر عامر بن إبراهيم وولي بعده ابن عمه هجرس بن غانم بن هلال فكان رديفاً له في حياته‏.‏ ثم هلك وقام بأمره عمه سليمان بن داود‏.‏ ولما تغلب السلطان أبو الحسن على تلمسان فر بنو عامر بن إبراهيم إلى الصحراء وكان شيخهم لذلك العهد صغير ابنه‏.‏ واستألف السلطان على يد عريف بن يحيى سائر بطون حميد وأولاد رباب فخالفوا صغيراً وإخوانه إلى السلطان‏.‏ وولى عليهم شيخاً من بني عمهم عريف بن سعيد وهو يعقوب بن العباس بن ميمون بن عريف‏.‏ ووفد بعد ذلك عمر بن إبراهيم عم صغير فولاه عليهم واستخدمهم ولحق بنو عامر بن إبراهيم بالدوادة ونزلوا على يعقوب بن علي ولم يزالوا هناك حتى شبوا نار الفتنة بالدعي بن هيدور المهيمن بشعبه أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن‏.‏ وأعانه على ذلك أهل الحقود على الدولة والأضغان من الديالم وأولاد ميمون بن غنم بن سويد نقموا على الدولة مكان عريف وابنه ونزمار منها فاجتمعوا وبايعوا لهذا الدعي‏.‏ وأوعز السلطان إلى وزنزمار بحربهم فنهض إليهم بالعرب كافة وأوقع بهم وفضهم ومزق جموعهم‏.‏ وطال مفر صغير بن عامر وإخوته في القفار وأبعدوا في الهرب قطعوا العرق الرمل الذي هو سياج على مجالات العرب ونزل قليعة والد وأوطنها‏.‏ ووفد بعد ذلك على السلطان أبي الحسن متذمماً به فقبل وفادته واسترهن أخاه أبا بكر وصحب السلطان إلى إفريقية وحضر معه واقعة القيروان‏.‏ ثم رجع إلى قومه وعادوا جميعاً لولاية بني يغمراسن واستخدموا قبائلهم لأبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن الدائل بتلمسان بعد واقعة القيروان أعوام خمسين وسبعمائة فكان له ولقومه فيها مكان‏.‏ ولحق سويد وبنو يعقوب بالمغرب حتى جاءوا في مقدمة السلطان أبي عنان‏.‏ ولما هلك بنو عبد الواد وافترق جمعهم فر صغير إلى الصحراء على عادته وأقام بالقفر يترقب الخوارج ولحق به أكثر قومه من بني معرف بن سعيد فأجلب بهم على كل ناحية‏.‏ وخالف أولاد حسين بالمعقل على السلطان أبي عنان أعوام خمسة وخمسين وما بعدها ونازلوا سجلماسة فكاثرهم وكان معهم وأوقعت بهم عساكر بني مرين في بعض سني خلائهم وهم بنكور يمتارون فاكتسحوا عامه أموالهم وأثخنوا فيهم قتلاً وأسراً‏.‏ ولم يزالوا كذلك شريداً في الصحراء وسويد وبنو يعقوب بمكانهم من المجالات وفي حظهم عند السلطان حتى هلك السلطان أبوعنان وجاء أبوحمو موسى بن يوسف أخو السلطان أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن لطلب ملك قومه بتلمسان وكان مستقراً بتونس منذ غلبهم أبو علي على أمرهم فرحل صغير إلى وطن الدواودة ونزل على يعقوب بن علي أزمان خلافه على السلطان أبي عنان وداخله في استخلاص أبي حمو هذا من إيالة الموحدين للأجلاب على وطن تلمسان وبني مرين الذين به فأرسلوه معه وأعطوه الآلة‏.‏ ومضى به مقير وصولة بن يعقوب بن علي وزيان بن عثمان بن سباع وشبل اين أخيه ملوك بني عثمان‏.‏ ومن بادية رياح دغار بن عيسى بن رحاب بقومه من سعيد وبلغوا معهم إلى تخوم بلادهم فرجع عنهم رياح إلا دغار بن عيسى وشبل بن ملوك ومضوا لوجههم‏.‏ ولقيتهم جموع سويد وكان الغلب لبني عامر‏.‏ وقتل يومئذ شيخ سويد بن عيسى عريف وأسر أخوه أبو بكر‏.‏ ثم من عليه علي بن عمر بن إبراهيم وأطلقه‏.‏ ولم يتصل الخبر بفاس إلا والناس منصرفون من جنازة السلطان أبي عنان‏.‏ ثم أجلب أبو حمو بالمغرب على تلمسان فأخذها وغلب عساكر بني مرين عليها واستوسق ملكه بها‏.‏ ثم هلك مقير لسنتين أو نحوهما حمل نفسه في جولة فتنة في الحي يروم تسكينها على بعض الفرسان فاعترضه سنان رمح على غير قصد فأنفذه وهلك لوقته‏.‏ وولي رئاستهم من بعده أخوه خالد بن عامر يرادفه عبد الله ابن أخيه مقير‏.‏ وخلصت رغبة كلها للسلطان أبي حمو فأساء بني مرين لما كان بينهم من الفتنة واستخدمهم جميعاً على مضاربهم وعوائدهم من سويد وبني يعقوب والديالم والعطاف حتى إذا كانت فتنة أبي زيان بن السلطان أبي سعيد عم أبي حمو كما نذكره في خبرهم جأش مرجل الفتنة من زغبة واختلفوا على أبي حمو وتقبض على محمد بن عريف أمير سويد لاتهامه إياه بالإدهان في أمره فنزع أخوه أبو بكر وقومه إلى صاحب المغرب عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن سنة سبعين وسبعمائة وجاؤوا في مقدمته واستولى على مواطنهم‏.‏ ولحق بنو عامر وأبو حمو بالصحراء وطال ترددهم فيها وسعى عند أبي حمو في خالد من عمومته وأقاربه عبد الله بن عسكر بن معرف بن يعقوب ومعرف هو أخو إبراهيم بن يعقوب‏.‏ وكان عبد الله هذا بطانة للسلطان وعيناً فاستفسد بذلك قلب خالد وتغير ونبذ إليه عهده ونزع عنه إلى السلطان عبد العزيز‏.‏ وجاءت به عساكر بني مرين أوقع بالسلطان أبي حمو ومن معه من العرب‏.‏ وهلك عبد العزيز سنة أربع وسبعين فارتحل إلى المغرب هو وعبد الله ابن أخيه مقير ولحقهم ساسي بن سليم بن داود شيخ بني يعقوب‏.‏ كان قومه بني يعقوب قتلوا أبناء محمد بن عريف فحدثت بينهم فتنة ولحق ساسي هذا وقومه بالمغرب وصحب خالداً يؤمل به الكرة ويئسوا من صريخ بني مرين لما بينهم من الفتنة فرجعوا إلى أوطانهم سنة سبع وسبعين وأضرموا نار الفتنة‏.‏ وخرجت إليهم عساكر السلطان أبي حمو مع ابنه أبي تاشفين وزحف معه سويد والديالم والعطاف فأوقعوا بهم على وادي مينا قبلة القلعة‏.‏ وقتل عبد الله بن مقير وأخوه ملوك في قرابة لهم آخرين وسار فلهم شريداً إلى الصحراء ولحقوا بالديالم والعطاف واجتمعوا جميعاً إلى سالم بن إبراهيم كبير الثعالبة وصاحب وطن متيجه وكان يتوجس من أبي حمو الخيفة فاتفقوا على الخلاف وبعثوا إلى الأمير أبي زيان بمكانه من وطن رياح فجاءهم وتابعوه وأمكنه سالم من الجزائر‏.‏ ثم هلك خالد في بعض تلك الأيام فافترق أمرهم وولي على بني عامر المسعود بن مقير وزحف إليهم أبو حمو في سويد وأوليائه من بني عامر واستخدم سالم بن إبراهيم وخرج أبو زيان إلى مكانه من وطن رياح ولحق المسعود بن عامر وقومه بالقفر‏.‏ ولحق ساسي بن سليم بيعقوب بن علي وقومه من الدواودة‏.‏ ثم راجعوا جميعاً خدمة السلطان وأوفدوا عليه فأمنهم وقدموا عليه وأظهروا البر والرحب بالمسعود وساسي وطوى لهم على السوء‏.‏ ثم داخل بطانة من بني عامر وسويد في نكبتهم فأجابوه ومكر بهم وبعث ابنه أبا تاشفين لقبض الصدقات من قومهم حتى اجتمع له ما أراد من الجموع فتقبض على المسعود وعشرة من إخوانه بني عامر بن إبراهيم‏.‏ ونهض أبو تاشفين والعرب جميعاً إلى أحياء بني يعقوب وكانوا بسيرات وقد أرصد لهم سويد بوادي مينا فصبحهم بنو عامر بمكانهم واكتسحوهم‏.‏ وصار فلهم إلى الصحراء فاعترضهم أبو تاشفين ببني راشد فلم يبق لهم باقية ونجا ساسي بن سليم إلى الصحراء في فل قليل من قومه ونزل على النضر بن عروة واستبد برئاسة بني عامر سليمان بن إبراهيم بن يعقوب عم مقير ورديفه عبد الله بن عسكر بن ثم بعث صاحب المغرب السلطان أبو العباس أحمد بن الولي أبا سالم بالشفاعة في المسعود وإخوانه بوسيلة من ونزمار بن عريف بعد أن كان مداخلاً لأبي حمو ولإخوانه في نكبتهم فأطلقهم أبو حمو بتلك الشفاعة فعادوا إلى الخلاف وخرجوا إلى الصحراء واجتمع إليهم الكثير من أولاد إبراهيم بن يعقوب‏.‏ واجتمع أيضاً فل بني يعقوب من مطارحهم إلى شيخهم ساسي بن سليم ونزلوا جميعاً مع عروة‏.‏ وأوفد إخوانه على السلطان أبي العباس صاحب إفريقية لهذا العهد متذمماً به وصريخاً على عدوه فتلقاه من البر والإحسان ما يناسبه وأفاض في وفده العطاء وصرفه بالوعد الجميل‏.‏ وشعر بذلك أبو حمو فبعث من عيونه من اغتاله ووفد بعدها على السلطان أبي العباس صاحب إفريقية علي بن عمر بن إبراهيم وهو ابن عم خالد بن محمد وكبير النفر المخالفين من بني عامر على أبي حمو‏.‏ ووفد معه سليمان بن شعيب بن عامر فوفدوا عليه بتونس يطلبون صريخه فأجابهم ووعدهم وأحسب بالإحسان والمبرة أمامهم ورجعوا إلى قومهم‏.‏ ثم راجع علي بن عمر خدمة أبي حمو وقدمه على بني عامر وأدال به من سليمان بن إبراهيم بن عامر فخرج سليمان إلى أهل بيته من ولد عامر بن إبراهيم الذين بالصحراء ونزلوا مع بني يعقوب بأحياء أبي بكر بن عريف وهو على ذلك لهذا العهد والله مقدر الليل والنهار‏.‏ وأما عروة بن زغبة فهم بطنان‏:‏ النضر بن عروة‏.‏ وبطون خميس ثلاثة‏:‏ عبيد الله وفرغ ويقظان‏.‏ ومن بطون فرغ بنو قائل أحلاف أولاد يحيى من المعمور القاطنين بجبل راشد‏.‏ وبنو يقظان وعبيد الله أحلاف لسويد يظعنون لظعنهم ويقيمون لإقامتهم ورئاستهم لأولاد عابد من بطن راشد‏.‏ وأما النضر بن عروة فمنتبذون بالقفر ينتجعون في رماله ويصعدون إلى أطراف التلول في إيالة الديالم والعطاف وحصين وتخوم أوطانهم وليس لهم ملك ولا إقطاع لعجزهم عن دخول التلول بلغتهم وممانعة بطون زغبة الآخرين عنها إلا ما تغلبوا عليه في أذناب الوطن بجبل المستند مما يلي وطن رياح يسكنه قوم من غمرة وزناتة استمر عليهم غلب الغرب منذ سنين‏.‏ فوضع النضر هؤلاء عليهم الأتاوة وأصاروهم خولاً ورعية‏.‏ وربما نزل منهم مع هؤلاء البرابر من عجز عن الظعن في بيوتهم ولهم بطون مذكورة أولاد خليفة والخماننة وشريعة والسحاوى وذوي زيان وأولاد سليمان‏.‏ ورئاستهم جميعاً في أولاد خليفة بن النضر بن عروة وهي لهذا العهد لمحمد بن زيان بن عسكر بن خليفة ورديفه سمعون بن أبي يحيى بن خليفة بن عسكر وأكثر السحارى موطنون بجبل المشنتل الذي ذكرناه ورئاستهم في أولاد وناجعة‏.‏ هؤلاء النضر أحلاف لزغبة دائماً فتارة للحرب وحصين جيرانهم في المواطن وتارة لبني عامر في فتنتهم مع سويد ونديتهم مع بني عامر فيما يزعمون بآل قحافة وسمعت من مشايخهم أنه ليس بأب لهم وإنما هو اسم واد كان به حلفهم قديماً وربما يظاهرون سويداً على ابن عامر إلا أنه في الأقل والندرة‏.‏ وهم إلى حلف بني عامر أقرب وأسرع لما ذكرناه‏.‏ وربما ظاهروا رياحاً بعض المرات في فتنتهم لجوإر الوطن إلا أنه قليل أيضاً وفي النادر‏.‏ ويتناولون في الأكثر مع البادية من رياح مثل مسلم وسعيد وربما وقعت بنيهم حروب في القفر يصيب فيها بعض من دماء بعض هذه بطون زغبة وما تأدى إلينا من أخبارهم‏.‏ ولله الخلق والأمر وهو رب العالمين‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:57 PM

المعقل من بطون الطبقة الرابعة
الخبر عن المعقل من بطون هذه الطبقة الرابعة وأنسابهم وتصاريف أحوالهم هذا القبيل لهذا العهد من أوفر قبائل العرب ومواطنهم بقفار المغرب الأقصى مجاورون لبني عامر من زغبة في مواطنهم بقبلة تلمسان وينتهون إلى البحر المحيط من جانب الغرب وهم ثلاثة بطون‏:‏ ذوي عبيد الله وذوي منصور وذوي حسان‏.‏ فذوي عبيد الله منهم هم المجاورون لبني عامر ومواطنهم بين تلمسان وتاوريرت في التل وما يواجهها من القبلة‏.‏ ومواطن ذوي منصور من تاوريرت إلى بلاد درعة فيستولون على ملوية كلها إلى سجلماسة وعلى درعة وعلى ما يحاذيها من التل مثل تاري وغساسة ومكناسة وفاس وبلاد تادلا والمقدر‏.‏ ومواطن ذوي حسان من درعة إلى البحر المحيط وينزل شيوخهم في بلد نول قاعدة السوس فيستولون على السوس الأقصى وما إليه وينتجعون كلهم في الرمال إلى مواطن الملثمين من كدالة ومستوفة ولمتونة‏.‏ وكان دخولهم إلى المغرب مع الهلاليين في عدد قليل يقال أنهم لم يبلغوا المائتين‏.‏ واعترضهم بنو سليم فأعجزوهم وتحيزوا إلى الهلاليين منذ عهد قديم ونزلوا بآخر مواطنهم مما يلي ملوية ورمال تافيلالت وجاوروا زناتة في القفار والغربية فعفوا وكثروا وأنبتوا في صحارى المغرب الأقصى فعمروا رماله وتغلبوا على فيافيه‏.‏ وكانوا هناك أحلافاً لزناتة سائر أيامهم‏.‏ وبقي منهم بإفريقية جمع قليل اندرجوا في جملة بني كعب بن سليم وداخلوهم حتى كانوا وزراء لهم في الاستخدام للسلطان واستئلاف للعرب‏.‏ فلما ملكت زناتة بلاد المغرب ودخلوا إلى الأمصار والمدن‏.‏ قام هؤلاء المعقل في القفار وتفردوا في البيداء فنموا نمواً لا كفاء له وملكوا قصور الصحراء التي اختطها زناتة بالقفر مثل قصور السوس غرباً ثم توات ثم بودة ثم تامنطيت ثم واركلان ثم تاسبيبت ثم تيكورارين شرقاً‏.‏ وكل واحد من هذه وطن منفرد يشتمل على قصور عديدة ذات نخيل وأنهار وأكثر سكانها من زناتة وبينهم فتن وحروب على رياستها‏.‏ فجاز عرب المعقل هؤلاء الأوطان في مجالاتهم ووضعوا عليها الأتاوات والضرائب وصارت لهم جباية يعتدون فيها ملكاً‏.‏ وكانوا من تلك السالفة يعطون الصدقات لملوك زناتة ويأخذونهم بالدماء والطوائل ويسمونها حمل الرحيل‏.‏ وكان لهم الخيار في تعيينها‏.‏ ولم يكن هؤلاء العرب يستبيحون من أطراف المغرب وتلوله حمى ولا يعرضون لسابلة سجلماسة ولا غيرها من بلاد السودان بأذية ولا مكروه لما كان بالمغرب من اعتزاز الدول وسد الثغور وكثرة الحامية أيام الموحدين وزناتة بعدهم‏.‏ وكان لهم بإزاء ذلك أقطاع من الدول يمدون إلى أخذه اليد السفلى وفيهم‏:‏ من مسلم سعيد بن رياح والعمور من الأثبج وعددهم كما قلنا قليل‏.‏ وإنما كثروا بمن اجتمع إليهم من القبائل من غير نسبهم‏.‏ فإن فيهم من فزارة ومن أشجع أحياء كبيرة وفيهم الشظة من كرفة والمهاية من عياض والشعراء من حصين والصباح من الأخضر ومن بني سليم وغيرهم‏.‏ وأما أنسابهم عند الجمهور فخفية ومجهولة ونسابة العرب من هلال يعدونهم من بطون هلال وهو غير صحيح وهم يزعمون أن نسبهم في أهل البيت إلى جعفر بن أبي طالب وليس ذلك أيضا بصحيح‏.‏ لأن الطالبيين والهاشميين لم يكونوا أهل بادية ونجعة‏.‏ والصحيح والله أعلم من أمرهم أنهم من عرب اليمن فإن فيهم بطنين يسمى كل واحد منهما بالمعقل‏.‏ ذكرهما ابن الكلبي وغيره فأحدهما من قضاعة بن مالك بن حمير وهو معقل بن كعب بن غليم بن خباب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد بن اللات بن رفيدة بن ثور بن كعب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة‏.‏ والآخر من بني الحرث بن كعب بن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج واسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زير بن كهلان وهو معقل واسمه ربيعة بن كعب بن ربيعة بن كعب بن الحرث‏.‏ والأنسب أن يكونوا من هذا البطن الآخر الذي من مذحج كان اسمه ربيعة وقد عده الإخباريون في بطون هلال الداخلين إلى إفريقية لأن مواطن بني الحرث بن كعب قريب من البحرين حيث كان هؤلاء العرب مع القرامطة قبل دخولهم إلى إفريقية‏.‏ ويؤيده أن ابن سعيد لما ذكر مذحج وأنهم بجهات الجبال من اليمن وذكر من بطونهم زبيد ومراد ثم قال‏:‏ وبإفريقية منهم فرقة وبرية ترتحل وتنزل وهؤلاء الذين ذكر إنما هم المعقل الذين هم بإفريقية وهم فرقه من هؤلاء الذين بالمغرب الأقصى‏.‏ ومن إملاء نسابتهم‏:‏ أن معقل جدهم له من الولد سحير ومحمد فولد سحير عبيد الله وثعلب‏.‏ فمن عبيد الله ذوي عبيد الله البطن الكبير منهم‏.‏ ومن ثعلب الثعالب الذين كانوا ببسيط متيجة من نواحي الجزائر‏.‏ وولد محمد‏:‏ مختار ومنصور وجلال وسالم وعثمان‏.‏ فولد مختار بن محمد‏:‏ حسان وشبانة‏.‏ فمن حسان‏:‏ ذوي حسان البطن المذكور أهل السوس الأقصى‏.‏ ومن شبانة الشبانات جيرانهم هنالك‏.‏ ومنهم بطنان‏:‏ بنو ثابت وموطنهم تحت جبل السكسيوي من جبال أدرن وشيخهم لهذا العهد أوما قبله يعيش بن طلحة‏.‏ والبطن الآخر آل علي وموطنهم في برية هنكيسة تحت جبل كزولة وشيخهم لهذا العهد أو ما قرب منه حريز بن علي‏.‏ ومن جلال وسالم وعثمان الرقيطات بادية لذوي حسان ينتجعون معهم‏.‏ وولد منصور بن محمد حسين وأبو الحسين وعمران ونسباً يقال لهم جميعاً ذوي منصور وهو أحد بطونهم الثلاثة المذكورة والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم‏.‏ ذوي عبيد الله فأما ذوي عبيد الله فهم المجاورون لبني عامر بن زغبة وفي سلطان بني عبد الواد من زناتة فمواطنهم ما بين تلمسان إلى وجدة إلى مصب وادي ملوية في البحر ومنبعث وادي صا من القبلة‏.‏ وتنتهي رحلتهم في القفار إلى قصور توات وتمنطيت وربما عاجوا ذات الشمال إلى تاسابيت وتوكرارين‏.‏ وهذه كلها رقاب السفر إلى بلاد السودان‏.‏ وبينهم وبين بني عامر فتن وحروب موصولة‏.‏ وكان لهم مع بني عبد الواد مثلها قبل السلطان والدولة فما كانوا أحلافاً لبني مرين‏.‏ وكان المنبات من ذوي منصور أحلافاً لبني عبد الواد فكان يغمراسن يوقع بهم أكثر أوقاته وينال منهم إلى أن صحبوا بسبب الجوار واعتزت عليهم الدولة فأعطوا الصدقة والطوائل وعسكروا مع السلطان في حروبه‏.‏ ولم يزل ذلك إلى أن لحق الدولة الهرم الذي يلحق مثلها فوطنوا التلول وتملكوا وجدة وندرومة وبني يزناسن ومديونة وبني سنوس أقطاعاً من السلطان إلى ما كان لهم عليها قبل من الأتاوات والوضائع فصار معظم جبايتها لهم وضربوا على بلاد هنين بالساحل ضريبة الإجازة منها إلى تلمسان فلا يسير ما بينهما مسافر أيام حلولهم بساحتها إلا بإجازتهم وعلى ضريبة يؤديها إليهم‏.‏ وهم بطنان‏:‏ الهراج والخراج فالخراج من ولد فزاج بن مطرف بن عبيد الله ورئاستهم في أولاد عبد الملك وفرج بن علي بن أبي الريش بن نهار بن عثمان بن خراج لأولاد عيسى بن عبد الملك ويعقوب بن عبد الملك ويغمور بن عبد الملك‏.‏ وكان يعقوب بن يغمور شيخهم لعهد السلطان أبي الحسن ولما تغلب على تلمسان استخدم له عبيدالله هؤلاء‏.‏ وكان يحيى بن العز من رجالة بني يزناسن أهل الجبل المطل على وجدة‏.‏ وكان له قدم في خدمة الدول فاتصل بالسلطان أبي الحسن ورغبه في ملك قصور هذه الصحراء فبعثه مع هؤلاء العرب في عسكر ودخل معهم إلى الصحراء وملك تلك القصور واستولى عليها‏.‏ وأسف عبيد الله بانتزاع أملاكهم وسوء المعاملة لهم فوثبوا به وقتلوه في خبائه وانتهبوا عسكر السلطان الذين معه ونقضوا الطاعة‏.‏ وفر يعقوب بن يغمور فلم يزل شريداً بالصحراء سائر أيامه ورجع بعد ذلك‏.‏ ثم عادت دولة بني عبد الواد فصدوا في ولايتها فلم يزل على ذلك وخلفه ابنه طلحة وكان أيام خلاف يعقوب وانتقاضه رأس على الخراج من أهل بيته منصور بن يعقوب بن عبد الملك وابنه رحو من بعده‏.‏ وجاء أبو حمو فكان له في خدمته ومخالطته قدم فقدمه شيخاً عليهم‏.‏ فرئاستهم لهذا العهد منقسمة بين رجو بن منصور بن يعقوب بن عبد الملك وبين طلحة بن يعقوب المذكور آنفاً وربما نازعه‏.‏ ولهم بطون كثيرة فمنهم‏:‏ الجعاونة من جعوان بن خراج والغسل من غاسل بن خراج والمطارفة من مطرف بن خراج والعثامنة من عثمان بن خراج‏.‏ وفيهم رياستهم كما قلناه ومعهم ناجعة يسمون بالمهاية ينسبون تارة إلى المهاية بن عياض وقدمنا ذكرهم وتارة إلى مهيا بن مطرف‏.‏ وأما الهراج فمن ولد الهراج بن مهدي بن محمد بن عبيد الله ومواطنهم في ناحية المغرب عن الخراج فيجاورون بني منصور ولهم تاوريرت وما إليها‏.‏ وخدمتهم في الغالب لبني مرين وإقطاعاتهم من أيديهم ومواطنهم تحتهم ورجوعهم إلى عبد الواد في الأقل‏.‏ وفي بعض الأحايين ورئاستهم في ولد يعقوب بن هبا بن هراج لأولاد مرين بن يعقوب وأولاد مناد بن رزق الله بن يعقوب وأولاد فكرون بن محمد بن عبد الرحمن بن يعقوب من ولد حريز بن يحيى الصغير بن موسى بن يوسف بن حريز كان شيخاً عليهم أيام السلطان عبد العزيز وهلك عقبه ورأس عليهم ابنه‏.‏ ومن ولد مناد أبو يحيى الكبير بن مناد كان شيخاً قبل أبي يحيى الصغير وبالإضافة إليه وصف بالصغير‏.‏ ومنهم أبو حيمدة محمد بن عيسى بن مناد وهو لهذا العصر رديف لشيخهم من ولد أبي يجيى الصغير وهو كثير التقلب في القفار والغزو للقاصية ولأهل الرمال والملثمين‏.‏ والله ملك الأمور لا رب غيره ولا معبود سواه وهو نعم المولى ونعم النصير‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:58 PM

الثعالبة
وأما الثعالبة إخوتهم من ولد ثعلب بن علي بن بكر بن صغير أخي عبيد الله بن صغير فموطنهم لهذا العهد بمتيجة من بسيط الجزائر وكانوا قبلها بقطيري وطن حصين لهذا العهد نزلوها منذ عصور قديمة وأقاموا بها حياً حلولاً‏.‏ ويظهر أن نزولهم لها حين كان ذوو عبيد الله في مواطن بني عامر لهذا العهد وكان بنو عامر في مواطن بني سويد فكانت مواطنهم لذلك العهد متصلة بالتلول الشرقية فدخلوا من ناحية كزول وتدرجوا في المواطن إلى ضواحي المدينه ونزلوا جبل تيطري وهو جبل أشير الذي كانت فيه المدينة الكبيرة‏.‏ فلما تغلب بنو توجين على التلول وملكوا ونشريش زحف محمد بن عبد القوي إلى المدينة فملكها وكانت بينه وبينهم حرب وسلم إلى أن وفدت عليه مشيختهم فتقبض عليهم وأغزى من ورائهم من بقية الثعالبة واستلحمهم واكتسح أموالهم‏.‏ وغلبهم بعدها على تيطري وأزاحهم عنها إلى متيجة وأنزل قبائل حصين بتيطري وكانوا معه في عداد الرعايا يؤدون إليه المغارم والوظائف ويأخذهم بالعسكرة معه‏.‏ ودخل الثعالبة هؤلاء في إيالة ملكيش من صنهاجة ببسيط متيجة وأوطنوا تحت ملكتهم‏.‏ وكان لهم عليهم سلطان كما نذكره‏.‏ حتى إذا غلب بنو مرين على المغرب الأوسط وأذهبوا ملك ملكيش منها استبد الثعالبة هؤلاء بذلك البسيط وملكوه‏.‏ وكانت رياستهم في ولد سباع بن ثعلب بن علي بن مكن بن صغير‏.‏ ويزعمون أن سباعاً هذا كان ذا وفد على الموحدين يجعلون من فوق عمامته ديناراً يزن عدداً من الدنانير سابقة في تكرمته وترفيعه‏.‏ وسمعت من بعض مشيختنا أن ذلك لما كان من كرامته للإمام المهدي حين أجاز بهم فإنه مر بهم ساعياً فحملوه‏.‏ واستقرت الرئاسة في ولد سباع هذا في بني يعقوب بن سباع أولاً فكانت لهم مدداً ثم في عقب حنيش منهم‏.‏ ثم غلب السلطان أبو الحسن على ممالك بني عبد الواد ونقلهم إلى المغرب وصارت الولاية لهم لأبي الحملات ابن عائد بن ثابت وهو ابن عم حنيش‏.‏ وهلك في الطاعون الجارف أواسط هذه المائة الثامنة لعهد نزول السلطان أبي الحسن بالجزائر من ولم تزل رئاستهم إليه إلى أن هلك بعد استيلاء السلطان أبي عنان على المغربين كما نذكره في أخباره‏.‏ وقام برئاستهم ابنه سالم‏.‏ وكانوا أهل مغارم ووضيعة لمليكش ومن بعدهم من ولاة الجزائر حتى إذا هبت ريح العرب أيام خروج أبي زيان وحصين على أبي حمو أعوام ستين وسبعمائة كما ذكرناه‏.‏ وكان شيخهم لذلك العهد سالم بن إبراهيم بن نصر بن حنيش بن أبي حميد بن نابت بن محمد بن سباع فأخب في تلك الفتنة وأوضع وعاقد أبو حمو وانتقض عليه مراراً‏.‏ وغلب بنو مرين على تلمسان فتحيز إليهم‏.‏ وكانت رسله ووفده تقدموا إليهم بالمغرب‏.‏ ثم هلك السلطان عبد العزيز ورجع أبو حمو إلى ملكه ونزلت الغوائل فخشيه سالم‏.‏ واستدعى أبا زيان ونصبه بالجزائر وزحف إليه أبو حمو سنة تسع وسبعين ففض جمعه وراجع سالم خدمته‏.‏ وفارق أبا زيان كما نذكره في أخباره ثم زحف إليه أبو حمو وحاصره بجبال متيجة أياماً قلائل واستنزله على عهده‏.‏ ثم أخفره وتقبض عليه وقاده إلى تلمسان أسيراً وقتله قعصاً بالرماح‏.‏ وذهب أثره وما كان له من الرئاسة التي لم تكن الثعالبة لها بأهل‏.‏ ثم تتبع إخوانه وعشيره وقبيله بالقتل والسبي والنهب إلى أن دثروا والله يخلق مايشاء‏.‏
ذوي منصور
وأما أولاد منصور بن محمد فهم معظم هؤلاء المعقل وجمهورهم ومواطنهم تخوم المغرب الأقصى من قبلته ما بين ملوية ودرعة‏.‏ وبطونهم أربعة‏:‏ أولاد حسين وأولاد أبي الحسين وهما شقيقان والعمارنة أولاد عمران والمنبات أولاد منبا وهما شقيقان أيضاً‏.‏ ويقال لهذين البطنين جميعاً الأحلاف‏.‏ فأما أولاد أبي الحسن فعجزوا عن الظعن ونزلوا قصوراً اتخذوها بالقفر ما بين تافييلات وتيكورارين‏.‏ وأما أولاد حسين فهم جمهور ذوي منصور ولهم العزة عليهم ورئاستهم أيام بني مرين في أولاد خالد بن جرمون بن جرار بن عرفة بن فارس بن علي بن فارس بن حسين بن منصور كانت أيام السلطان أبي لحسن لعلي بن غانم‏.‏ وهلك إثر كائنة طريف‏.‏ وصارت لأخيه يحيى ثم لابنه عبد الواحد بن يحيى ثم لأخيه زكريا ثم لابن عمه أحمد بن رحو بن غانم ثم لأخيه يعيش ثم لابن عمه يوسف بن علي بن غانم لهذا العهد‏.‏ وكانت لبني مرين فيهم وقائع أيام يعقوب بن عبد الحق ابنه يوسف وسيأتي في أخبار بني مرين غزوة يوسف بن يعقوب من مراكش إليهم وكيف أوقع بهم بصحراء درعة‏.‏ ولما أقام بالشرق على تلمسان محاصراً لها أحلف هؤلاء العرب من المعقل على أطراف المغرب ما بين درعة وملوية إلى تاوريرت‏.‏ وكان العامل يومئذ بدرعة عبد الوهاب بن صاعد من صنائع الدولة وكبار ولاتها فكانت بينه وبينهم حروب قتل في محضها‏.‏ ثم هلك يوسف بن يعقوب ورجع بنو مرين إلى المغرب فأخذوا منهم بالثأر حتى استقاموا على الطاعة‏.‏ وكانوا يعطون الصدقة أطوع ما يكون إلى أن فشل ريح الدولة واعتزت العرب فصاروا يمنعون الصدقة إلا في الأقل يغلبهم السلطان على إعطائها‏.‏ ولما استولى السلطان أبو عنان على تلمسان أعوام خمسمين وسبعمائة وفر صغير بن عامر إلى الصحراء ونزل عليهم واستجار بهم فأجاروه‏.‏ ونكر السلطان عليهم ذلك فأجمعوا نقض طاعته وأقاموا معه بالصحراء وصغير متولي كبير ذلك الخلاف حتى إذا هلك أبو عنان وكان من سلطان أبي حمو بتلمسان نحن ذاكروه وزحف بنو مرين إلى تلمسان ففر منها أبو حمو وصغير ونزلوا عليهم فأوقعوا بعسكر بني مرين بنواحي تلمسان واتسع الخرق بينهم وبين بني مرين فانحازوا إلى أبي حمو وسلطانه وأقطعهم بضواحيه‏.‏ ثم رجعوا إلى أوطانهم بعد مهلك السلطان أبي سالم أعوام ثلاث وستين على حين اضطراب المغرب بفتنة أولاد السلطان أبي علي ونزولهم بسجلماسة فكان لهم في تلك الفتنة آثار إلى أن انقشعت‏.‏ ثم كان لأحمد بن رحو مع أبي حمو جولة وأجلب عليه بأبي زيان حافد أبي تاشفين فقتل في تلك الفتنة كما نذكره ثم اعتزوا على الدولة من بعد ذلك وأكثر مغارم درعة لهذا العهد وأقطع لهم ببلاد تادلا والمعدن من تلك الثنايا التي منها دخولهم إلى المغرب للمربع والمصيف ولميرات الأقوات‏.‏ وسجلماسة من مواطن إخوانهم الأحلاف كما نذكره وليست من مواطنهم فأما درعة فهي من بلاد القبلة موضوعة حقاً في الوادي الأعظم المنحدر من جبل درن من فوهة يخرج منها وادي أم ربيع ويتساهل إلى البسائط والتلول ووادي دريعة ينحدر إلى القبلة مغرباً إلى أن يصب في الرمل ببلاد السوس وعليه قصور درعة وواد آخر كبير أيضاً ينحدر إلى القبلة مشرقاً بعض الشيء إلى أن يصب فى الرمل دون تيكورارين وفي قبلتها‏.‏ وعليه من جهة المغرب قصور توات ثم بعدها تمنطيت ثم بعدها وركلان‏.‏ وعندها يصب في الرمل‏.‏ وفي الشمال عن ركان قصور تسابيت‏.‏ وفي الشمال عنها إلى الشرق قصور تيكورارين والكل وراء عرق الرمل‏.‏ وجبال درن هي الجبال العظيمة الجاثمة سياجاً على المغرب الأقصى من آسفي إلى تازي وفي قبلتها جبل نكيسة لصنهاجة وآخره جبل ابن حميدي من طرف هسكورة‏.‏ ثم ينعطف من هنالك جبال أخرى متوازية حتى تنتهي إلى ساحل بادس من البحر الرومي‏.‏ وصار المغرب لذلك كالجزيرة أحاطت الجبال به من القبلة والشرق والبحر ومن المغرب والجوف‏.‏ واعتمر هذه الجبال والبسائط التي بينها أمم من البربر لا يحصيهم إلا خالقهم والمسالك بين هذه الجبال إلى المغرب منحصرة ثم معدودة‏.‏ وبزحام القبائل المعتمرين لها كاظة‏.‏ ومصب وادي درعة هذا إلى الصحراء والرمال ما بين سجلماسة وبلاد السوس ويمتد إلى أن يصب في البحر ما بين نون ووادان وحفافيه قصور لا تحصى شجرتها النخل وقاعدتها بلد تادنست بلد كبير يقصده التجر للسلم في النيلج انتظار خروجه بالصناعة‏.‏ ولأولاد حسين هؤلاء استيلاء على هذا الوطن ومن بإزائه في فسيح جبلة من قبائل البربر صناكة وغيرهم ولهم عليهم ضرائب وخفرات ووضائع‏.‏ ولهم في مجابي السطان إقطاعات ويجاورهم الشبانات من أولاد حسان من ناحية الغرب فلهم بسبب دلك على درعة بعض الأتاوات‏.‏ وأما الأحلاف من ذوي منصور وهم العمارنة والمنبات فمواطنهم مجاورة لأولاد حسين من ناحية الشرق‏.‏ وفي مجالاتهم بالقفر تافيلات وصحراؤها‏.‏ وبالتل ملوية وقصور وطاط وتازي وبطوية وغساسة لهم على ذلك كله الأتاوات والوضائع وفيها الإقطاعات السلطانية‏.‏ وبينهم وبين أولاد حسين فتنة ويجمعهم العصبية في فتنة من سواهم‏.‏ ورئاسة العمارنة في أولاد مظفر بن ثابت بن مخلف بن عمران وكان شيخهم لعهد السلطان أبي عنان طلحة بن مظفر وابنه الزبير‏.‏ ولهذا العهد محمد بن الزبير وأخوه موسى ويرادفهم في رئاستهم أولاد عمارة بن قلان بن مخلف فكان منهم محمد العائد‏.‏ ومنهم لهذا العهد سليمان بن ناجي بن عمارة ينتجع في القفر ويكثر الغزو إلى اعتراض العير وقصور الصحراء‏.‏ ورئاسة المنبات لهذا العهد لمحمد بن عبد بن حسين بن يوسف بن فرج بن منبا وكانت أيام السلطان أبي عنان لأخيه علي من قبله وترادفهم في رئاستهم ابن عمهم عبد الله بن الحاج عامر بن أبي البركات بن منبا‏.‏ والمنبات والعمارنة اليوم إذا اجتمعوا جميعاً يكثر أولاد حسين‏.‏ وكان للمنبات كثيرة لأول دولة بني مرين‏.‏ وكان خلفهم مع بني عبد الواد‏.‏ وكان مقدمه يغمراسن بن زيان في افتتاح سجلماسة وتملكها من أيدي الموحدين ثم تغلب بنو مرين عليها وقتلوا من حاربها من مشيختهم مع بني عبد الواد ثم أوقعوا بالمنبات من بعد ذلك في مجالاتهم بالقفر واستلحموهم فنقص عددهم لذلك آخر الأيام والله مالك الأمور لا رب سواه‏.‏ مواطن العثامنة تلي مواطن بني منصور من جانب الغرب ويليهم أولاد سالم‏.‏ وفي حيز مواطنهم درعة ولهم عليها القفر‏.‏ ويليهم أولاد جلال عند منتهى عمارة درعة مما يلي المغرب والقبلة‏.‏ ويليهم غرباً إلى البحر الشبانات وهم أولاد علي وأولاد بو ثابت وأولاد حسان وراءهم من ناحية القبلة والغرب وينزلون مواطنهم بالغلب الذي لهم عليه‏.‏ ذوي حسان عرب السوس وأما بنو مختار بن محمد فهم كما قدمناه‏:‏ ذوي حسان والشبانات والرقيطات‏.‏ ومنهم أيضاً الجياهنة وأولاد برية وكانت مواطنهم بنواحي ملوية إلى مصبه في البحر مع إخوانهم ذوي منصور وعبيد الله إلى أن استصرخهم علي بن يدر الزكندري صاحب السوس من بعد الموحدين‏.‏ ونسبه بزعمه في عرب الفتح‏.‏ وكانت بينه وبين كزولة الظواعن ببسائط السوس‏.‏ وجبالة فتنة طويلة استصرخ لها بني مختار هؤلاء فصارخوه وارتحلوا إليه بظعونهم وحمدوا مواطن السوس لعدم المزاحم من الظواعن فيها فأوطنوها‏.‏ وصارت مجالاتهم بقفرها وغلبوا كزولة وأصاروهم في جملتهم ومن ظعونهم وغلبوا على القصور التي بتلك المواطن في سوس ونول‏.‏ ووضعوا عليها الأتاوات مثل تارودانت من سوس وهي ضفة وادي سوس حيث يهبط من الجبل وبين مصبه ومصب وادي ماسة حيث الرباط المشهور مرحلة إلى القبلة‏.‏ ومن هناك إلى زوايا أولاد بني نعمان مرحلة أخرى في القبلة على سائر البحر وتواصت على وادي نول حيث يدفع من جبل نكيسة غرباً وبينها وبين إيفري مرحلة والعرب لا يغلبونها وإنما يغلبون على البسائط في نواحيها‏.‏ وكانت هذه المواطن لعهد الموحدين من جملة ممالكهم وأوسع عمالاتهم‏.‏ فلما انقرض أمر الموحدين حجبت عن ظل الدولة وخرجت عن إيالة السلطان إلا ما كان بها لبني يدر هؤلاء الذين قدمنا ذكرهم‏.‏ وكان علي بن يدر مالكاً لقصورها وكان له من الجند نحو ألف فارس وولي من بعده عبد الرحمن بن الحسن بن يدر وبعده أخوه علي بن الحسن‏.‏ وكان لعبد الرحمن معهم حروب وفتن بعد استظهاره بهم وهزموه مرات متتابعة أعوام خمس وسبعمائة وما بعده وغدر هو بمشيختهم وقتلهم بتارودانت سنة ثمان من بعد ذلك‏.‏ وكان لبني مرين على هؤلاء المعقل بالسوس وقائع وأيام وظهر يعقوب بن عبد الحق ببني مرين في بعضها الشبانات على بني حسان‏.‏ واستلحم منهم عدداً وحاصرهم يوسف بن يعقوب بعدها فأمسكوها وأغرمهم ثمانية عشر ألفاً وأثخن فيهم بوسف بن يعقوب ثانية سنة ست وثمانين وحاربتهم جيوشه أيضاً أياماً لحق بهم بنو كمي من بني عبد الواد وخالفوا على السلطان فترددت إليهم العساكر واتصلت الحروب كما نذكر في أخباره‏.‏ ولما استفحل أمر زناتة بالمغرب‏.‏ وملك أبو علي ابن السلطان أبي سعيد سجلماسة واقتطعها عن ملك أبيه بصلح وقع على ذلك انضوى إليه هؤلاء الأعراب أهل السوس من الشبانات وبني حسان ورغبوه في ملك هذه القصور فأغزاها من تخوم وطنه بدرعة ودخل القرى عنوة‏.‏ وفر علي بن الحسن وأمه إلى جبال نكيسة عند صنهاجة ثم رجع‏.‏ ثم غلب السلطان أبو الحسن واستولى على المغرب كله ورغبة العرب في مثلها من قصور السوس فبعث معهم عساكره وقائده حسون بن إبراهيم بن عيسى من بني يرنيان فملكها وجبى بلاد السوس وأقطع فيه للحرب وساسهم في الجباية فاستقامت حاله مدة‏.‏ ثم انقرض آمر السلطان آبي الحسن فانقرض ذلك ورجع السوس إلى حاله وهو اليوم ضاح من ظل الدولة والعرب يقتسمون جبايته ورعاياه من قبائل المصامدة وصناهجة قبائل الجباية‏.‏ والظواعن منهم يقتسمونهم خولاً للعسكرة مثل كزولة مع بني حسان وزكرز ولخس من لمطة مع الشبانات هذه حالهم لهذا العهد‏.‏ ورئاسة ذوي حسان في أولاد أبي الخليل بن عمر بن عفير بن حسن بن موسى بن حامد بن سعيد بن حسان بن مختار لمخلوف بن أبي بكر بن سليمان بن الحسن بن زيان بن الخليل ولأخوانه‏.‏ ولا أدري رئاسة الشبانات لمن هي منهم إلا أنهم حرب لبني حسان آخر الأيام‏.‏ والرقيطات في غالب أحوالهم أحلاف للشبانات وهم أقرب إلى بلاد المصامدة وجبال درن وذوي حسان أبعد في القفر والله تعالى يخلق ما يشاء لا إله إلا هو‏.‏

ميارى 8 - 8 - 2010 03:59 PM

بني سليم من الطبقة الرابعة
الخبر عن بني سليم بن منصور من هذه الطبقة الرابعة وتعديد بطونهم وذكر أنسابهم وأولية أمرهم وتصاريف أحوالهم ونبدأ أولاً بذكر بني كعب وأخبارهم‏.‏ وأما بني سليم هؤلاء فبطن متسع من أوسع بطون مضر وأكثرهم جموعاً وكانت منازلهم بنجد‏.‏ وهم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس وفيهم شعوب كثيرة‏.‏ ورئاستهم في الجاهلية لبني الشريد بن رياح بن ثعلبة بن عطية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم وعمرو بن الشريد عيظم مضر وأبناؤه صخر ومعاوية‏.‏ فصخر أبو الخنساء وزوجها العباس بن مرداس صحابي حضرت معه القادسية‏.‏ ومن بطون سليم‏:‏ عصية ورعل وذكوان الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتكوا بأصحابه فحمد ذكرهم‏.‏ وكان بنو سليم لعهد الخلافة العباسية شوكة بغي وفتنة حتى لقد أوصى بعض خلفائهم ابنه أن لا يتزوج فيهم‏.‏ وكانوا يغيرون على المدينة وتخرج الكتائب من بغداد إليهم وتوقع بهم وهم منتبذون بالقفر ولما كانت فتنة القرامطة صاروا حلفاء لأبي الطاهر ثم لما انقرض أمر القرامطة غلب بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة لما أن القرامطة كانوا على دعوتهم‏.‏ ثم غلب بنو الأصفر بن تغلب على البحرين بدعوة العباسية أيام بني بويه وطردوا عنها بني سليم فلحقوا بصعيد مصر‏.‏ وأجازهم المستنصر على يد اليازوري وزيره إلى إفريقية لحرب المعز بن باديس عند خلافته عليهم كما ذكرنا ذلك أولاً فأجازوا مع الهلاليين وأقاموا ببرقة وجهات طرابلس زماناً‏.‏ ثم صاروا إلى أفريقية كما يذكر في الخبر عنهم‏.‏ وبإفريقية وما إليها من هذا العهد من بطونهم أربعة بطون‏:‏ زغب وذياب وهبيب وعوف‏.‏ فأما زغب فقال ابن الكلبي في نسبته‏:‏ زغب بن نصر بن خفاف بن امرىء القيس بن بهنة بن سليم‏.‏ وقال أبو محمد التجاني من مشيخة التونسيين في رحلته أنه زغب بن ناصر بن خفاف بن جرير بن ملاك بن خفاف وزعم أنه أبو ذياب وزغب الأصغر الذين هم الآن من أحياء بني سليم بإفريقية‏.‏ وقال أبو الحسن بن سعيد‏:‏ هو زغب بن مالك بن بهنة بن سليم كانوا بين الحرمين وهم الآن بإفريقية مع إخوانهم ونسب ذياب بن مالك بن بهنة فالله أعلم بالصحيح من ذلك‏.‏ ونسب بن سعيد والتجاني لهؤلاء قريب بعضه من بعض ولعله واحد‏.‏ وسقط لابن سعيد جد‏.‏ وأما هبيب فهو ابن بهنة بن سليم ومواطنهم من أول أرض برقة مما يلي إفريقية إلى العقبة الصغيرة من جهة الإسكندرية فأقاموا هنالك بعد دخول إخوانهم إلى إفريقية‏.‏ وأول ما يلي الغرب منهم بنو حميد لهم أجرابية وجهاتها‏.‏ وهم عديد يرهبهم الحاج ويرجون إلى شماخ وقبائل شماخ لها عدد ولهم العز في هيب لكونها حازت خصب برقة الذي منه المرج‏.‏ وفي شرقيهم إلى العقبة الكبيرة من قبائل هيب بنو لبيد وهم بطون عديدة‏.‏ وبين شماخ ولبيد فتن وحروب‏.‏ وفي شرقيهم إلى العقبة الصغيرة شمال ومحارب والرئاسة في هاتين القبيلتين لبني عزاز وهم المعروفون بالعزة‏.‏ وجميع بطون هيب هذه استولت على إقليم طويل خربوا مدنه ولم يبق فيه مملكة ولا ولاية إلا لأشياخهم وفي خدمتهم بربر ويهود يحترفون بالفلاحة والتجر‏.‏ ومعهم من رواحة وفزارة أمم واشتهر لهذا العهد ببرقة من شيوخ أعرابها أبو ذؤيب‏.‏ ولا أدري نسبه فيمن هو وهو بعيد وهم يقولون من العزة وقوم يقولون من بني أحمد وقوم يجعلونه من فزارة لأن فزارة هنالك‏.‏ قليل عددهم والغلب لهيب فكيف تكون الرئاسة لغيرهم‏.‏ وأما عوف فهو ابن بهثة بن سليم ومواطنهم من وادي قابس إلى أرض بونة ولهم جذمان عظيمان‏:‏ مرداس وعلاق ولعلاق بطنان‏:‏ بنو يحيى وحصن‏.‏ وفي أشعار هؤلاء المتأخرين منهم مثل حمزة بن عمر شيخ الكعوب وغيره أن يحيى وعلاقا أخوان‏.‏ ولبني يحيى ثلاثة بطون‏:‏ حمير ودلاج ورياح ولحمير بطنان‏:‏ ترجم وكردم‏.‏ ومن ترجم‏:‏ الكعوب بنو كعب بن أحمد بن ترجم‏.‏ ولحصن بطنان‏:‏ بنو علي وحكيم‏.‏ ونحن نأتي على الحكاية عن جميعهم بطناً بطناً‏.‏ وكانوا عند إجازتهم على أثر الهلاليين مقيمين ببرقة كما ذكرناه‏.‏ وهنالك نزل عليهم القاضي أبو بكر بن العربي وأبوه حين غرقت سفينتهم ونجوا إلى الساحر فوجدوا هنالك بني كعب فنزل عليهم فأكرمه شيخهم كما ذكر في رحللته‏.‏ ولما كانت فتنة ابن غانية وقراقش الغزي بجهات طرابلس وقابس وضواحيها كما نذكر في أخبارهم كان بنو سليم هؤلاء فيمن تجمع إليهم من ذؤبان العرب وأوشاب فاعصوصبوا عليهم‏.‏ وكان لهم معهم حروب‏.‏ وقتل قراقش ثمانين من الكعوب وهربوا إلى برقة واستصرخوا برياح من بطون سليم ودبكل من حمير فصارخوهم إلى أن تجلت غمامة تلك الفتنة بمهلك قراقش وابن غانية من بعده‏.‏ وكان رسوخ الدولة الحفصية بإفريقية‏.‏ ولما هلك قراقش واتصلت فتنة ابن غانية مع أبي محمد بن أبي حفص ورجع بنو سليم إلى أبي محمد صاحب إفريقية‏.‏ وكان مع ابن غانية الدواودة من رياح وشيخهم مسعود البلط فر من المغرب ولحق به فكان معه هو وبنوه‏.‏ وبنو عوف هؤلاء من سليم الشيخ أبي محمد‏.‏ فلما استبد ابنه الأمير أبو زكريا بملك إفريقية رجعوا جميعاً إليه والشفوف للدواودة‏.‏ فلما انقطع دابر ابن غانية صرف عزمه الى إخراح رياح من إفريقية لما كانوا عليه من العيث بها والفساد فجاء بمرداس وعلاق وهما بنو عوف بن سليم هؤلاء من مواطنهم بنواحي السواحل وقابس ورئاسة مرداس يومئذ في أولاد جامع وبعده لابنه يوسف وبعده لعنان بن جابر بن جامع‏.‏ ورئاسة علاق في الكعوب لأولاد شيخة بن يعقوب بن كعب‏.‏ وكانت رئاسة علاق عند دخولهم إفريقية لعهد المعز وبنيه لرافع بن حماد وعنده راية جده التي حضر بها مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو جد بني كعب فيما يزعمون‏.‏ فاستظهر بهم السلطان على شأنه وأنزلهم بساح القيروان وأجزل لهم الصلات والعوائد وزاحموا الدواودة من رياح بمنكل بعد أن كانت لهم استطالة على جميع بلاد إفريقية‏.‏ وكانت أبة إقطاعاً لمحمد بن مسعود بن سلطان أيام الشيخ أبي محمد بن أبي حفص فأقبل إليه مرداس في بعض السنين عيرهم للكيل ونزولوا به فرأوا نعمة الدواودة في تلولهم تلك فشرهوا إليها وأجمعوا طلبها فحاربوهم فغلبوهم وقتلوا رزق بن سلطان‏.‏ واتصلت الفتنة فلما حضرهم الأمير أبو زكريا صادف عندهم القبول لتحريضه فاعصوصبوا جميعاً على فتنة الدواودة وتأهبوا لها‏.‏ وتكررت بينهم وبين رياح الحروب والوقائع حتى أزاحوهم عن إفريقية إلى مواطنهم لهذا العهد بتلول قسطنطينة وبجاية إلى الزاب وما إليه‏.‏ ثم وضعوا أوزار الحرب وأوطن كل حيث قسمت له قومه‏.‏ وملك بنو عوف سائر ضواحي إفريقية وتغلبوا عليه واصطنعهم السلطان وأثبتهم في ديوان العطاء‏.‏ ولم يقطع شيئاً من البلاد‏.‏ واختص بالولاية منهم أولاد جامع وقومه فكانوا له خالصة وتم تدبيره في غلب الدواودة ورياح في ضواحي إفريقية وإزعاجهم عنها إلى ضواحي الزاب وبجاية وقسطنطينة وطال بالدولة واختلف حالهم في الاستقامة معها والنفرة‏.‏ وضرب السلطان بينهم ابن علاق فنشأت الفتنة وسخط عنان بن جابر شيخ مرداس من أولاد جامع مكانه من الدولة فذهب مغاضباً عنها‏.‏ وأقام بناجعته من مرداس ومن إليهم بنواحي المغرب في بلاد رياح من زاغر إلى ما يقاربها وخاطبه أبو عبد الله بن أبي الحسن خالصة السلطان أبي زكريا صاحب إفريقية يومئذ يؤنبه على فعلته في مراجعة السلطان بقصيدة منها قوله وهي طويلة‏:‏ قد المهامه بالمهرية القود واطو الفلاة بتصويب وتصعيد ومنها قوله‏:‏ سلوا دمنة بين الغضا والسواجر هل استن فيها واكفات المواطر فأجاب عن هذه عنان بقوله‏:‏ خليلي عوجاً بين سلع وحاجر بهوج عناجيج نواج ضوامر يقيم في النزوع عنهم ويستعطف السلطان بعض الشيء كما نذكره في أخبار الدولة الحفصية ثم لحق بمراكش بالخليفة السعيد من بني عبد المؤمن محرضاً له على إفريقية وآل حفص وهلك في سبيله وقبر بسلا ولم يزد حال مرداس بين النفرة والأصحاب إلى أن هلك الأمير أبو زكريا واستفحل ملك ابنه المستنصر من بعده وعلا الكعوب بذمة قوية من السلطان‏.‏ وكان شيخهم لعهده عبد الله بن شيحة فسعى عند السلطان في مرداس وكأن ابن جامع مبلغاً سعايته واعصوصبت عليه سائر علاق فحاربوا المرداسيين هؤلاء وغلبوهم على الأوطان والحفظ من السلطان وأخرجوهم عن إفريقية وصاروا إلى القفر وهم اليوم به من جهة بادية الأعراب أهل الفلاة ينزعون إلى الرمل ويمتارون من أطراف التلول تحت أحكام سليم أو رياح ويختصون بالتغلب على قسطنطينة أيام مرابع الكعوب ومصائفهم بالتلول‏.‏ فإذا انحدروا إلى مشاتيهم بالقفر أجفلت أحياء مرداس إلى القفر البعيد ويخالطونهم على حلف ولهم على توزر ونفطة وبلاد قسطيلة أتاوة يؤدونها إليهم بما هي محى مواطنهم ومجالاتهم وتصرفهم ولأنها في من أعراضهم‏.‏ وصاروا لهذا العهد إلى تملك القفار بها فاصطفوا منه كثيراً وأصبح منه عمران قسطنطينة لهم مرتابا واستقام أمر بني كعب من علاق وفي رياسة عوف وسائر بطونهم من وسائر بطونهم من مرداس وحصين ورياح ودلاج ومن بطون رياح حبيب وعلا شأنهم عند الدولة واعتزوا على سائر بني سليم بن منصور بن واستقرت رياستهم في ولد يعقوب بن كعب وهم بنو شيحة وبنو طاعن وبنو علي‏.‏ وكان التقدم لبني شيحة بن يعقوب لعبد الله أولاً ثم لإبراهيم أخيه ثم لعبد الرحمن ثالثهما على ما يأتي‏.‏ وكان بنو علي يرادفونهم في الرياسة‏.‏ وكان منهم بنو كثير بن يزيد بن علي‏.‏ وكان كعب هذا يعرف بينهم بالحاج لما كان قضى فرضه وكانت له صحابة مع أبي سعيد العود الرطب شيخ الموحدين لعهد السلطان المستنصر أفادته جاهاً وثروة وأقطع له السلطان أربعاً من القرى أصارها لوالده‏.‏ كان منها بناحية صفاقس وبإفريقية وبناحية االجريد‏.‏ وكان له من الولد سبعة أربعة لأم وهم أحمد وماضي وعلي ومحمد وثلاثة لأم وهم‏:‏ بريد وبركات وعبد الغني‏.‏ فنازع أحمد أولاد شيخة في رئاستهم على الكعوب واتصل بالسلطان أبي إسحق وأحفظهم ذلك فلحقوا بالدعي عند ظهوره وكان من شأنه ما قدمنا‏.‏ وهلك أحمد واستقرت الرئاسة في ولده وكان له من الولد جماعة‏.‏ فمن غزية إحدى نساء بني يزيد من صنهاجة‏:‏ قاسم ومرا وأبو الليل وأبو الفضل ومن الحكمية‏:‏ فائد وعبيد ومنديل وعبد الكريم ومن السرية كليب وعساكر وعبد الملك وعبد العزيز‏.‏ ولما هلك أحمد قام بأمرهم بعده ابنه أبو الفضل‏.‏ ثم من بعده أخوه أبو الليل بن أحمد‏.‏ وعلت رئاسة بني أحمد هؤلاء على قومهم وتألفوا ولد إخوتهم جميعاً‏.‏ وعرفوا ما بين أحيائهم بالأعشاش إلى هذا العهد‏.‏ ولما كان شأن الدعي بن أبي عمارة‏.‏ وليس بأنه الفضل بن يحيى المخلوع وأوقع بالسلطان أبي إسحق وقتله وأكثر بنيه كما نذكره في موضعه‏.‏ لحق أبو حفص أخوه الأصغر بقلعة سنان من حصون إفريقية‏.‏ وكان لأبي الليل بن أحمد في نجاته ثم في القيام بأمره أثره وقع منه أحسن المواقع فاصطنعه به وشيد من رئاسته على قومه عندما أدال الله به من الدعي فاضطلع أبو الليل هذا بأمرهم‏.‏ وزاحم أولاد شيحة بمنكب قوي‏.‏ ولحق آخرهم عبد الرحمن بن شيحة ببجاية عندما اقتطعها الأمير أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحق عن ملك عمه السلطان أبي حفص فوفد عليه مستجيشاً به ومرغباً له في ملك تونس يرجو بذلك كثرة رئاسته فهلك دون مرامه وقبر ببجاية وانقرضت رئاسة أولاد شيحة بمهلكه‏.‏ واستبد أبو الليل بالرئاسة في الكعوب ووقع بينه وبين السلطان أبي حفص وحشة فقدم على الكعوب مكانه محمد بن عبد الرحمن بن شيحة وزاحمه به أياماً حتى استقام على الطاعة‏.‏ ولما هلك قام بأمرهم ابنه أحمد واتصل أمر رئاسته ونكبه السلطان أبو عصيدة فهلك في سجنه وولي بعده أخوه عمر بن أبي الليل وزاحمه هراج بن عبيد بن حمد بن كعب إلى أن هلك هراج كما نذكره‏.‏ ولما هلك عمر قام بأمره في قومه أخوه محمد بن أبي الليل وكفل مولاهم وحمزة ابن أخيه عمر‏.‏ وكان عمر مضعفاً عاجزاً فنازعه أولاد مهلهل ابن عمه قاسم وهم‏:‏ محمد ومسكيانه ومرغم وطالب وعون في آخرين لم حضرني أسماؤهم فترشحوا للاستبداد على ولما ظهر هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب وعظم ضغائنه وعتوه وإفساد الأعراب من احيائه السابلة وساء أثره في ذلك وأسف السلطان بالاعتزاز عليه والاشتراط في ماله‏.‏ وتوغلت له صدور الغوغاء والعامة فوفد على تونس عام خمسة وسبعمائة ودخل المسجد يوم الجمعة لابساً خفه‏.‏ ونكر الناس عليه وطأه بيت الله بخف لم ينزعه‏.‏ وربما قال له في ذلك بعض المصلين إلى جنبه فقال‏:‏ إني أدخل بها بساط السلطان فكيف الجامع فاستعظم الناس كلمته وثاروا به لحينه فقتلوه في المسجد وأرضوا الدولة بفعلهم‏.‏ وكان أمره مذكوراً‏.‏ وقتل السلطان بعد ذلك أخاه كيسان وابن عمه شبل بن منديل بن أحمد‏.‏ وقام بأمر الكعوب من بعد محمد بن أبي الليل وهراج بن عبيد مولاهم وحمزة أبناء عمر واستبد برئاسة البدو من سليم بإفريقية على مزاحمة من بني عمهم مهلهل بن قاسم وأقتالهم وفحول شولهم‏.‏ وانتقض أحمد بن أبي الليل وابن أخيه مولاهم ابن عمر على السلطان سنة سبع وسبعمائة واستدعيا عثمان بن أبي دبوس من مكانه بوطن دباب فجاءهما وأجلبا به على تونس‏.‏ ونزل كدية الصعتر بظاهرها‏.‏ وبرز إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن فهزمهم واستخدم أحمد بن أبي الليل‏.‏ ثم تقبض عليه واعتقل بتونس إلى أن هلك‏.‏ ووفد بعد ذلك مولاهم ابن عمر سنة ثمان فاعتقل معه‏.‏ ولحق أخوه حمزة بالأمير أبي البقاء خالد ابن الأمير زكريا صاحب الثغر الغربي من إفريقية بين يدي مهلك السلطان أبي عصيدة ومعه أبو علي بن كثير ويعقوب بن الفرس وشيوخ بني سليم هؤلاء‏.‏ ورغبوا أبا الأمير أبا البقاء في ملك الحضرة‏.‏ وجاءوا في صحبته وأطلق أخاه مولاهم من الاعتقال منذ دخول السلطان تونس سنة عشر وسبعمائة كما نذكره في خبره‏.‏ ثم لحق حمزة بالسلطان أبي يحيى زكربا بن اللعياني واتصلت به يده فرفعه على سائر العرب حتى لقد نفس ذلك عليه أخوه مولاهم‏.‏ ونزع إلى السلطان أبي يحيى الطويل أمر الخلافة‏.‏ ولي سبعاً ببجاية وثلاثين بعد استيلائه على الحضرة وسائر بلاد إفريقية فاستخلصه السلطان لدولته ونابذه حمزة فأجلب عليه بالقرابة واحداً بعد واحد كما نذكره‏.‏ وداهل أخوه مولاهم في مناصحة السلطان ومالأ حمزة على شأنه‏.‏ وربما نمي عنه الغدر فتقبض عليه السلطان وعلى ابنه منصور وعلى ربيبه زغدان ومغران بن محمد بن أبي الليل‏.‏ وكان الساعي بهم إلى السلطان ابن عمهم عون بن عبد الله بن أحمد وأحمد بن عبد الواحد أبو عبيد وأبو هلال بن محمود بن فائد وناجي بن أبي علي بن كثير ومحمد بن مسكين وأبو زيد بن عمر بن يعقوب ومن هوارة فيصل بن زعزاع فقتلوا لحينهم سنة اثنتين وعشرين وبعثت أشلاؤهم إلى حمزة فاشتد حناقه ولحق صريخاً بأبي تاشفين صاحب تلمسان لعهده من آل يغمراسن ومعه محمد ابن السلطان اللحياني المعروف بأبي ضربة قد نصبه للملك‏.‏ وأمدهم أبو تاشفين بعساكر زناتة وزحفوا إلى إفريقية فخرج إليهم السلطان وهزمهم برغيش‏.‏ ولم يزل حمزة من بعدها مجلباً على السلطان أبي يحيى بالمرشحين من أعياص البيت الحفصي وأبو تاشفين صاحب تلمسان يمدهم بعساكره‏.‏ وتكررت بينهم الوقائع والأيام سجالاً كما نذكره في مواضعه‏.‏ حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن وقومه من بني مرين على تلمسان والغرب الأوسط سنة سبع وثلاثين وسبعمائة واستتبعوا بني عبد الواد وسائر زناتة أقصي حمزة عن فتنته وانقطع حبلها في يده ولحق بالسلطان أبي الحسن مستشفعاً به فتقبل السلطان أبو يحيى شفاعته وعفا له عن جرائمه وأحله محل الأصفاء والخلوص‏.‏ فشمر عن نصحه واجتهاده وظاهر قائده محمد بن الحكيم على تدويخ إفريقية وظهر البدو من الأعراب فاستقام أمر الدولة وتوثر مهادها‏.‏ وهلك حمزة سنة أربعين وسبعمائة بيد أبي عون نصر بن أبي علي عبد السلام من ولد كثير بن زيد المتقدم الذكر في بني علي من بطون بني كعب طعنه في بعض الحروب فأشواه وكان فيها مهلكه‏.‏ وقام بأمرهم من بعده ابنه عمر بمظاهرة شقيقه قتيبة‏.‏ ولكن أبا الليل تغلب على سائر الإخوة والقرابة واستبد برئاسة بني كعب وسائر بني يحيى وأقتاله بنو مهلهل ينافسونه ويرتقبون الإدارة منه‏.‏ وكان مساهمه في أمره معن بن مطاعن فزارة وزير أبيه‏.‏ وخرجوا على السلطان بعد مهلك حمزة أبيهم واتهموا أن قتل أبي عون إياهم إنما كان بممالأة الدولة فنازلوا تونس وجمعوا لمحاصرتها أولاد مهلهل أمثالهم‏.‏ ثم اختلفوا ورحلوا عن البلد وانخذل طالب بن مهلهل وقومه إلى السلطان‏.‏ ونهض في أثرهم فأوقع بهم في القيروان ووفدت مشيختهم على ابنه الأمير أبي العباس بقصره يداخلونه في الخروج على ابنه‏.‏ وكان فيهم معن بن مطاعن وزيرهم فتقبض عليه وقتله وأفلت الباقون‏.‏ وراجعوا الطاعة وأعطوا الرهن‏.‏ ولما هلك السلطان أبو يحيى وقام بالأمر ابنه عمر انحرفوا عنه وطاهروا أخاه أبا العباس صاحب الجريد وولي العهد وزحفوا معه بظواعنهم إلى تونس فدخلها وقتله أخوه عمر كما نذكره في موضعه وقتل معه أخاهم أبو الهول بن حمزة فأسعفهم بذلك‏.‏ ووفد خالد على صاحب المغرب السلطان أبي الحسن فيمن وفد عليه من وجوه الدولة وكافة المشيخة من إفريقية وجاء في جملته حتى إذا استولى على البلاد قبض أيديهم عما كانت تمتد إليه من إفساد السابلة وأخذ الأتاوة وانتزع الأمصار التي كانت متقطعة بأيديهم وألحقهم بأمثالهم من أعراب بلاد المغرب الأقصى من المعقل وزغبة فثقلت وطأته عليهم وتنكروا له وساء ظنه بهم وفشت غارات المفسدين من بداويهم بالأطراف فنسب ذلك إليهم ووفد عليه بتونس من رجالاتهم خالد بن حمزة وأخوه أحمد وخليفة بن عبد الله بن مسكين وخليفة بن أبي زيد من شيوخ حليم فسعى بهم عنده أنهم داخلوا بعض الأعياص من أولاد اللحياني من بني أبي حفص كما في رحلته وكما نذكره في موضعه فتقبض عليهم وبلغ خبرهم إلى الحي فتأشبوا بقسطيلية والجريد فظفروا بزنابي من بقية آل عبد المؤمن من عقب أبي العباس إدريس الملقب بأبي إدريس آخر خلفائهم بمراكش وقتيل يعقوب بن عبد الحق عند غلبه على الموحدين بمراكش واستيلاؤه على المغرب وهو أحمد بن عثمان بن إدريس فنصبوه وبايعوه واجتمعوا عليه‏.‏ وتأشبت معهم بنو عمهم مهلهل أقتالهم وكان طالب هلك وقام مكانه فيهم ابنه محمد فصرخهم بقومه واتفقوا جميعاً على حرب زناتة‏.‏ ونهض إليهم السلطان أبو الحسن من تونس فاتح تسع وأربعين فأجفلوا أمامه حتى نزل القيروان‏.‏ ثم ناجزوه ففضوا جموعه وملأوا حقائبهم بأسلابه وأسلابهم وخضدوا من شوكة السلطان وألانوا من حد الملك وخفضوا من أمر زناتة‏.‏ وغلبهم الأمم وكان يوم له ما بعده في اعتزاز العرب على الدول آخر الأيام‏.‏ وهلك أبو الليل بن حمزة فعجز عمر عن مقاومة إخوته واستبد بالرئاسة عليه أخوه خالد ثم من بعده أخوهما منصور‏.‏ واعتز على السلطان أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى صاحب تونس لعهده اعتزازاً لا كفاء له‏.‏ وانبسطت أيدي العرب على الضاحية وأقطعتهم الدولة حتى الأمصار وألقاب الجباية ومختص الملك وانتفضت الأرض من أطرافها ووسطها وما زالوا يغالبون الدولة حتى غلبوا على الضاحية وقاسموهم في جبايات الأمصار بالأقطاع ريفاً وصحراء وتلولاً وجريداً‏.‏ ويحرضون بين أعياص الدولة ويجلبون بهم على الحضرة لما يعطونه طعمة من الدولة‏.‏ ويريمهم السلطان بأقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد يديل به منهم حتى أحفظوها‏.‏ ويجرش بينهم بقضاء أوطارها حتى إذا أراد الله إنقاذ الأمة من هوة الخسف وتخليصهم من مكاره الجوع والخوف وإدالتهم من ظلمات الموت بنور الاستقامة بعث همة السلطان أمير المؤمنين أبي العباس أحمد أيده الله لطلب إرثه من الخلافة‏.‏ فبعث من بالحضرة فانبعث لها من مكان إمارته بالثغر العربي ونزل إليه أمير البدو ومنصور بن حمزة هذا وذلك سنة إحدى وسبعين وسبعمائة على حين مهلك السلطان أبي إسحق مقتعد كرسي الحضرة وصاحب عصا الخلافة والجماعة‏.‏ وقام ابنه خالد بالأمر من بعده فنهض إلى إفريقية ودخل تونس عنوة واستولى على الحضرة سنة اثنتين بعدها وأرهف حده للعرب في الاعتزاز عليهم وقبض أيديهم عن المفاسد وذويهم فحدثت لمنصور نفرة عن الدولة ونصب الأمير أبو يحيى زكريا ابن السلطان ابن أبي يحيى جدهم الأكبر كان في أحياء العرب منذ سنتين كما نذكر ذلك كله في أخبار الدولة وأجلب به على تونس سنة ثلاث وسبعين فامتنعت عليهم ولم يظفروا بشيء وراجع منصور حاله عند السلطان وكشف عن وجه المناصحة‏.‏ وكان عشريته قد ملوا منه حسداً ومنافسة بسوء ملكته عليهم فغدا عليه محمد ابن أخيه أبي الليل وطعنه فأشواه وهلك ليومه سنة خمس وسبعين وافترق جمعهم‏.‏ وقام بأمرهم من بعده صولة ابن أخيه خالد بن حمزة ويرادفه أولاد مولاهم ابن عمر فجهد بعض الشيء في خدمة السلطان ومناصحته‏.‏ ثم رجع إلى العصيان وكشف القناع في الخلاف‏.‏ واتصل حاله على ذلك ثلاثاً وأدال السلطان منه ومن قومه بأقتالهم أولاد مهلهل ورياستهم لمحمد بن طالب فرجع إليهم رياسة البدو وجعل لهم المنع والإعطاء فيهم ورفع رتبهم على العرب‏.‏ وتحيز إليهم مع أولاد مولاهم بن عمر بن أبي الليل ونقلت أولاد حمزة سائر هذه الأيام في الخلافة ونهض السلطان سنة ثمانين إلى بلاد الجريد لتقديم رؤسائها عن المراوغة وحملهم على جادة الطاعة فتعرضوا لمدافعته عنها بإملاء هؤلاء الرؤساء ومشارطتهم لهم على ذلك‏.‏ وبعد أن جمعوا له الجموع من ذؤبان العرب الأعراب وذياب البدو فغلبهم عليها جميعاً وأزاحهم عن ضواحيها وظفر بفرائسه من أولئك الرؤساء وأصبحوا بين معقتل ومشرد‏.‏ واستولى على قصورهم وذخائرهم وأبعد أولاد حمزة وأحلافهم من حكيم المفر وجاوزوا تخوم بلادهم من جهة المغرب واعتزت عليهم الدولة اعتزازاً لاكفاء فنامت الرعايا في ظل الأمن وانطلقت منهم وقد كان اعتزاز هؤلاء العرب على السلطان والدولة لا ينتهي إليه اعتزاز ولهم عنجهية وإباية وخلق في التكبر والزهو غريزة لما أنهم لم يعرفوا عهداً للذل ولا يساومون بإعطاء الصدقات لهذا العهد الأول‏.‏ أما في دولة بني أمية فللعصبية التي كانت للعرب بعضها مع بعض يشهد بذلك أخبار الردة والخلفاء معهم ومع أمثالهم‏.‏ مع أن الصدقة كانت لذلك العهد تتحرى الحق بجانب الاعتزاز والغلظة فليس في إعطائها كثير غمط ولا مذلة‏.‏ وأما أيام بني العباس حين استفحال الملك وحدوث الغلظة على أهل العصابة فلإبعادهم بالقفر من بلاد نجد وتهامة وما وراءهما‏.‏ وأما أيام العبيديين فكانت الحاجة تدعو الدولة إلى استمالتهم للفتنة التي كانت بينهم وبين بني العباس‏.‏ وأما حين خرجوا بعد ذلك إلى قضاء برقة وإفريقية فكانوا ضاحين من ظل الملك‏.‏ ولما اصطنعهم بنو أبي حفص كانوا معهم بمكان من الذل وسوم الخسف حتى كانت واقعتهم بالسلطان أبي الحسن وقومه من زناتة بالقيروان فنهجوا سبيل الاعتزاز كغيرهم من العرب على الدول بالمغرب فتحامل المعقل وزغبة على ملوك زناتة واستطالوا في طلابهم بعد أن كانوا مكبوحين بحكمة التغلب على التطاول إلى مثلها والله مالك الأمور‏.‏ الخبر عن قاسم بن مرا من الكعوب القائم بالسنة في سليم ومآل أمره وتصاريف أحواله كان هذا الرجل من الكعوب من أولاد أحمد بن كعب منهم وهو قاسم بن مرا بن أحمد‏.‏ نشأ بينهم ناسكاً منتحلاً للعبادة‏.‏ ولقي بالقيروان شيخ الصلحاء بعصره أبا يوسف الدهماني‏.‏ وأخذ عنه ولزمه‏.‏ ثم خرج إلى قومه مقتفياً طريقة شيخه في التزام الورع والأخذ بالسنة ما استطاع‏.‏ ورأى ما العرب عليه من إفساد السابلة والخروج عن الجادة فأخذ نفسه بتغيير المنكر فيهم وإقامة السنة لهم ودعا إلى ذلك عشيره من أولاد أحمد وأن يقاتلوا معه على ذلك فأشار عليه أولاد أبي الليل منهم وكانوا عيبة له تنصح له أن ينكف عن طلب ذلك من قومه مخافة أن يلحوا في عداوته فيفسد أمره‏.‏ ودفعوه إلى مطالبة غيرهم من سليم وسائر الناس بذلك وأنه منعة له ممن يرومه خاصة فجمع إليه أباشاً من البادية تبعوه على شأنه والتزموا طريقته والمرابطة معه وكانوا يسمون بالجنادة‏.‏ وبدأ بالدعاء إلى إصلاح السابلة بالقيروان وما إليها من بلاد الساحل وتتبع المحاربين بقتل من يعثر عليه منهم بالطرق وغزو المشاهير منهم في بيوتهم واستباحة أموالهم ودمائهم حتى شردهم كل مشرد‏.‏ وعلت بذلك كلمته على آل حصن وصلحت السابلة بإفريقية ما بين تونس والقيروان وبلاد الجريد وطار له ذكر نفسه عليه قومه وأجمع عداوته واغتياره بنو مهلهل قاسم بن أحمد وتنصحوا ببعض ذلك للسلطان بتونس الأمير أبي حفص وأن دعوة هذا الرجل قادحة في أمر الجماعة والدولة فأغضى لهم عن ذلك وتركهم وشأنهم فخرجوا من عنده مجمعين على قتله‏.‏ ودعوه في بعض أيامهم إلى المشاورة معه على عادة العرب ووقفوا معه بساحة حيهم ثم خلصوا معه نجياً وطعنه من خلفه محمد بن مهلهل الملقب بأبي عذبتين فخر صريعاً لليدين والفم‏.‏ وامتعض له أولاد أبي الليل وطلبوا بدمه فافترقت أحياء بني كعب من يومئذ بعد أن كانت جميعاً‏.‏ وقام بأمره من بعده ابنه رافع على مثل طريقته إلى أن هلك في طلب الأمر على يد بعض رجالات آل حصن سنة ست وسبعمائة‏.‏ ولم يزل بنو أبي الليل على الطلب بثأر قاسم بن مرا إلى أن ظهر فيهم حمزة ومولاهم ابنا عمر بن أبي الليل وصارت إليهم الرئاسة على أحيائهم‏.‏ واتفق بعض الأيام اجتماع أولال مهلهل بن قاسم في سيدي حمزة ومولاهم في مشاتيهم بالقفر فأجمع اغتيالهم وقتلهم عن آخرهم بثأر ابن عمهم قاسم بن مرا ولم يفلت منهم إلا طالب بن مهلهل لم يحضر معهم‏.‏ وعظمت الفتنة من يومئذ بين هذين الحيين وانقسمت عليهم أحياء بني سليم وصاروا يتعاقبون في الخلاف والطاعة على الدولة وهم على ذلك لهذا العهد‏.‏ والرئاسة في بني مهلهل اليوم لمحمد بن طالب بن مهلهل وأخيه يحيى والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏


الساعة الآن 03:46 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى