منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب تاريخ ابن خلدون (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8921)

ميارى 6 - 8 - 2010 04:55 PM

فتح مكة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عقد الصلح بينه وبين قريش في الحُدَيْبِيةِ أدخل خُزَاعة في عقده المؤمن منهم والكافر وأدخلت قريش بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عقدها وكانت بينهم تِراثٌ في الجاهلية وذحول كان فيها الأول للأسود بن رزق من بني الدُئِل بن بكر بن عبد مناة وثأرهم عند خزاعة لما قتلت حليفهم مالك بن عباد الحَضْرَمِيَ وكانوا قد عقدوا على رجل من خُزَاعَةَ فقتلوه في مالك بن عباد حليفهم وعَدَتْ خُزاعَةُ على سَلْمَى وكُلثُومَ وذؤيب بني الأسود بن رزق فقتلوهم وهم أشراف بني كنانة‏.‏ وجاء الإسلام فاستغل الناس به ونسوا أمر هذه الدماء‏.‏ فلما انعقد هذا الصلح يوم الحديبية وأمن الناس بعضهم بعضاً فاغتنم بنو الدئل هذه الفرصة في إدراك الثأر من خزاعة لقتلهم بني الأسود بن رزق‏.‏ وخرج نوفل بن معاوية الدؤلي فيمن أطاعه بني بكر بن عبد مناة وليس كلهم تابعه‏.‏ وخرج معه بعضهم وخرجوا منهم وانحجزوا في دور مكة ودخلوا دار بُدَيْلَ بن ورقاء الخُزَاعيِّ ورجع بنو بكر وقد انتقض العهد فركب بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في وفد من قومهم إلى رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم مستغيثين مما أصابهم به بنو الدئل بن عبد مناة وقريش فأجاب صلى الله عليه وسلم صريخهم وأخبرهم أنّ أبا سفيان يأتي يشدّ العقد ويزيد في المدة وإنه يرجع بغير حاجة‏.‏ وكان ذلك سبباً للفتح وندم قريش على ما فعلوا فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليؤكد العقد ويزيد في المدة ولقي بديل بن ورقاء بعَسْفانَ فكتمه الخبر وورَّى له عن وجهه‏.‏ وأتى أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبَيْبَةَ فطوت دونه فراش النبي صلى الله عليه وسلم وقالت‏:‏ لا يجلس عليه مشرك‏!‏ فقال لها‏:‏ قد أصابك بعدي شرّ يا بنيَّتي‏.‏ ثم أتى المسجد وكلِّم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه‏.‏ فذهب إلى أبي بكر وكلمه أن يتكلَّم في ذلك فأبى فلقي عمر فقال‏:‏ واللهّ لو لم أجد إِلا الذرّ لجاهدتكم به‏.‏ فدخل على عليّ بن أبي طالب وعنده فاطمة وابنه الحسن صبياً فكلمه فيما أتى له فقال عليّ‏:‏ ما نستطيع‏.‏ أن نكلِّمه في أمر عزم عليه فقال لفاطمة‏:‏ يا بنت محمد‏!‏ أما تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس‏.‏ فقالت‏:‏ لا يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليّ‏:‏ يا أبا سفيان‏!‏ أنت سيد بني كنانة فقم فأجر وارجع إلى أرضك‏.‏ فقال‏:‏ ترى ذلك مُغْنِياً عني شيئاً‏.‏ فقال‏:‏ ما أظنه‏!‏ ولكن لا أجد لك سواه‏.‏ فقام أبو سفيان في المسجد فنادى‏:‏ ألا إني قد أجريت بين الناس ثم ذهب إلى مكة وأخبر قريشاً فقالوا‏:‏ ما جئت بشيء وما زاد ابن أبي طالب على أن لعب بك‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ثم أعلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنه سائر إلى مكة وأمر الناس بأن يتجهزوا ودعا الله أن يطمس الأخبار عن قريش‏.‏ وكتب إليهم حاطِبُ بن أبي بَلْتَعَةَ بالخبر مع ظَعِينَةٍ قاصدة إِلى مكة فأوحى الله إِليه بذلك فبعث عليأ والزبير والمقداد إلى الظعينة فأدركوها بروضة خاخ وفتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً وقالوا‏:‏ رسول اللّه أصدق فقال علي‏:‏ لتخرجنّ الكتاب أو لتلقينّ الحوائج فأخرجته من قرون رأسها‏.‏ فلما قرىء على النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما هذا يا حاطب فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ واللّه ما شككت في الإسلام‏!‏ ولكني ملصق في قريش فأردت عندهم يداً يحفظوني بها في مخلف أهلي وولدي فقال عمر‏:‏ يا رسول الله‏!‏ دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال‏:‏ وما يدريك يا عمر لعلّ اللّه اطلع على أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم‏.‏ وخرج صلى الله عليه وسلم لعشر خلون من رمضان من السنة الثامنة في عشرة آلاف فيهم من سُلَيْم ألف رجل وقيل سبعمائة‏.‏ ومن مُزَيْنَةَ ألف ومن غِفَارٍ أربعمائة ومن أسلم أربعمائة وطوائف من قريش وأسدٍ وتميم وغيرهم‏.‏ ومن سائر القبائل جموع وكتائب اللّه المهاجرين والأنصارَ‏.‏ واستخلف أبا رَهْمٍِ الغِفاري على المدينة ولقيه العباس بذي الحليفة وقيل بالجَحْفَةِ مهاجراً‏.‏ فبعث رحله إلى المدينة وانصرف معه غازياً ولقيه بشق العقاب أبو سفيان بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية مهاجرين واستأذنا فلم يؤذن لهما وكلمته أم سلمة فأذن لهما وأسلما فسار حتى نزل مرّ الظهران وقد طوى اللّه أخباره قريش إلا أنهم يتوجسون الخيفة‏.‏ وخشي العباس تلافي قريش إِن فاجأهم الجيش أن يستأمنوا فركب بغلة النبي صلى الله عليه وقد خرج أبو سفيان وبدَيْلُ بن ورقاءَ وحكيم بن حِزام يتجسسون الخبر‏.‏ وبينما العباس قد أتى الأراك ليلقي من السابِلَةِ من ينذر أهل مكة إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل وقد أبصرا نيران العساكر فيقول بُديلْ نيران بني خزاعة فيقول أبو سفيان خزاعة أذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها‏.‏ فقال العباس‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس واللّه إن ظفر بك ليقتلنك وأصباح قريش فارتدف خلفي‏.‏ ونهض به إلى المعسكر ومر بعمر فخرج يشتد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك بغير عقد ولا عهد‏.‏ فسبقه العباس على البغلة ودخل على أثره فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ هذا عدوّ الله أبو سفيان أمكنني اللّه منه بلا عهد فدعني أضرب عنا فقال العباس‏:‏ قد أجرته‏!‏ فزاره عمر فقال العباس‏:‏ لو كان من بني عديّ ما قلت هذا ولكنه من عبد مناف‏.‏ فقال عمر‏:‏ والله لإسلامك كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لأني أعرف أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك‏.‏ فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العباس أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحأ‏.‏ فلما أتى به قال له صلى الله عليه وسلم ألم يأنِ لك أن تعلم أن لا إله إلا الله‏.‏ فقال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك‏.‏ والله لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنا فقال‏:‏ ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله قال‏:‏ بأبيِ أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه فإن في النفس منها حتى الأن شيئاً‏.‏ فقال له العباس‏:‏ ويحك أسلم قبل أن يضرب عنقك فأسلم‏.‏ فقال العباس يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً‏.‏ قال نعم‏!‏ من دخل دار سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن‏.‏ ثم أمر العباس أن يوقِفَ أبا سفيان بخطم الوادي ليرى جنود الله ففعل ذلك ومرت به القبائل قبيلة قبيلة إلى أن جاء موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار عليهم الدروع البيض‏.‏ فقال من هؤلاء فقال له العباس‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار فقال لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً‏.‏ فقال يا أبا سفيان إِنها النبوة‏.‏ فقال‏:‏ فهي إذأ‏.‏ ققال له العباس‏:‏ النجاء إلى قومك فأتى بهم مكة وأخبرهم بما أحاط بهم وبأمان رسول الله وبقول النبي صلى الله عليه وسلم من أتى المسجد أو دار أبي سفيان أو أغلق بابه‏.‏ ورتب الجيش وأعطى سعد بن عبادة الراية فذهب يقول‏:‏ اليَوْمُ يَوْمُ المَلْحَمَةْ اليَوْمُ تُسْتَحَل الحَرَمَةْ وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر علياً أن يأخذ الراية منه ويقال أمر الزبير وكان على الميمنة خالد بن الوليد ومنها أسْلَم وغِفَارٌ ومُزَيْنَةُ وجُهَيْنَةُ وعلى الميسرة الزبَيْر وعلى المُقدمَةِ أبو عُبَيدَةَ بن الجراح‏.‏ وسرَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش من ذي طُوَى وأمرهم بالدخول إِلى مَكَة‏.‏ الزُبَيْرُ من أعلاها وخالِدُ من أسفلها وأن يقاتلوا من تعرض لهم‏.‏ وكان عِكْرِمَةُ بن أبي جَهْل وصَفْوَانُ بن أُمَيًةَ وسُهَيْلُ بن عمرو قد جمعوا للقتال‏.‏ فناوشهِم أصحاب خالد القتال واستُشْهِد من المسلمين كَرَزُ بن جابر من بني محارب وَخُنيْسُ بن خالد من خُزَاعَةَ وسلمة بن جُهَيْنَةَ وانهزم المشركون وقتل منهم ثلاثة عشر وأمّن النبي صلى الله عليه وسلم سائر الناس‏.‏ وكان الفتح لعشر بقين من رمضان وأهدر دم جماعة من المشركين سماهم يومئذ‏:‏ منهم عبدُ العُزّى بن خَطْلٍ من بني تميم والأدْرَمً بن غالب كان قد أسلم وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصدَقاً ومعه رجل من المشركين فقتله وارتدّ ولحق بمكة‏.‏ وتعلق يوم الفتح بأستار الكعبة فقتله سعد بن حُرَيْثٍ المخزومي وأبو بَرْزَةَ الأسْلَمِيّ‏.‏ ومنهم عبد الله بن سعيد بن أبي سَرْح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد ولحق بمكة‏.‏ ونمِيَت عنه أقوال فاختفى يوم الفتح وأتى به عثمان بن عفَان وهو أخوه من الرضاعة فاستأمن له فسكت عليه السلام ساعة ثم أمنه‏.‏ فلما خرج قال لأصحابه‏:‏ هلا ضربتم عنقه‏!‏ فقال له بعض الأنصار هلاَّ أومأت إليّ فقال‏:‏ ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ولم يظهر بعد إسلامة إلا خير وصلاح واستعمله عمر وعثمان‏.‏ ومنهم الحويرث بن نفيل من بني عبد بن قُصَيّ كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عدا على رجل من الأنصار كان قتل أخاه قبل ذلك غلطاً ووداه فقتله وفر إلى مكة مرتداً‏.‏ فقتله يوم الفتح نُمَيْلَة بن عبد الله اللَيْثيّ وهو ابن عمه‏.‏ ومنهم قَيْنتا ابنِ خَطْل كانتا تغنيان بهجوِ النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت إحداهما واستؤمن للأخرى فأمنها‏.‏ ومنهم مولاةٌ لبني عبد المُطلِبِ اسمها سارة واستؤمن لها فأمنها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ واستجار رجلان من بني مخزوم بأم هاني بنت أبي طالب‏.‏ يقال إنهما الحرث بن هشام وزهير بن أبي أمية أخو أم سلمة فأمنتهما‏.‏ وأمضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمانهما فأسلما‏.‏ ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالكعبة وأخذ المفتاح من عثمان بن طلحة بعد أن مانعت دونه أم عثمان ثم أسلمته‏.‏ فدخل الكعبة ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة وأبقى له حجابة البيت فهي في ولد شيبة إلى اليوم‏.‏ وأمر بكسر الصور داخل الكعبة وخارجها وبكسر الأصنام حواليها‏.‏ ومرّ عليها وهي مسدودة بالرصاص يشير إليها بقضيب في يده وهو يقول‏:‏ جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً‏.‏ فما بقي منهم صنم إلاَ خر على وجهه وأمر بِلالاً فأذّن على ظهر الكعبة‏.‏ ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بباب الكعبة ثاني يوم الفتح وخطب خطبته المعروفة ووضع مآثر الجاهلية إلا سِدَانَةَ البيت وسِقَايَةَ الحاج‏.‏ وأخبر أن مكة لم تحلّ لأحد قبله ولا بعده وإنما أُحلت له ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس ثم قال لا إله الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده ألا إِن كل مأثورة أو دم أو مال يدَّعى في الجاهلية فهو تحت قدميِّ هاتين إلا سِدانَةَ الكعبة وسِقايَةَ الحاج‏.‏ ألا وإِن قتل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا فيهما الدِيَة مغلظة منها أربعون في بطونها أولادها‏.‏ يا معشر قريش إِن اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتَعَظُّمَهَا بالآباء الناس من آدَمَ وآدم خلق من تراب‏.‏ ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا أيها الناس إِنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبأ وقبائل لتعارفوا إن أكرمَكم عند اللّه أتقاكم إِن اللّه عليم خبير ‏"‏‏.‏ يا معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون أني فاعل فيكم قالوا خيراً‏!‏ أخ كريم ثم قال‏:‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء وأعتقهم على الإسلام وحبس لهم فيما قيل على الصفا فبايعوه على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا ولما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء‏.‏ أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يبايعهن واستغفر لهن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم لأنه كان لا يمس امرأة حلالاً ولا حراماً‏.‏ وهرب صفوان بن أمية إلى اليمن واتبعه عمير بن وهب من قومه بأمان النبي صلى الله عليه وسلم له فرجع وانذره أربعة أشهر‏.‏ وهرب ابن الزبير الشاعر إلى نجران ورجع فأسلم وهرب هُبَيْرَةُ بن أبي وهب المخزومِيّ زوج أم هاني إلى اليمن فمات هنالك كافراً‏.‏ ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم السرايا حول مكة ولم يأمرهم بقتال وفي جملتهم خالد بن الوليد إلى بني جُذَيْمَةَ بن عامر بن عبد مناة ابن كنانة فقتل منهم وأخذ ذلك عليه وبعث إليهم عليًّا بمال فودى لهم قتلاهم ورد عليهم ما أخذ لهم‏.‏ ثم بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالداً إلى العزى بيت بنخلة كانت قصر تعظمه من قريش وكنانة وغيرهم‏.‏ وسدنة بنو شَيْبَان من بني سُلَيْم حلفاء بني هاشم فهزمهم‏.‏ ثم أن الأنصار توقفوا إلى أن يقيم صلى الله عليه وسلم بمكة داره بعد أن فتحها فأهمهم ذلك وخرجوا له فخطبهم صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أن المَحْيا مَحْياهُم والممات مماتهم فسكتوا لذلك واطمأنّوا‏.‏ غزوة حنين وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ة خمس عشرة ليلةً وهو يقصر الصلاة فبلغه أن هوازِنَ وثَقِيفَ جمعوا له وهم عامِدون إِلى مكّة وقد نزلوا حنَيْنآَ وكانوا حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يظنون أنه إنما يريدهم‏.‏ فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوْفٍ من بني النضَيْرِ وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جَشَم بن معاوية وبني سَعْدِ بن بكرٍ وناساً من بني هلال بن عامر بن صَعْصَعَةَ بن معاوية والأحلاف من بني مالك بن ثقيف بن بكر ولم يحضرها من هوازن كعب ولا من كلاب وفي جشم دُرَيْد بن الصِّمَّة بن بكر بن علقمة بن خُزاعَةَ بن أزِيةَ بن جشم رئيسهم وسيدهم شيخ كبير ليس فيه إِلا لِيُؤتَمً برأيه ومعرفته‏.‏ في ثقيف سيدان ليس لهم في الأحلاف إِلا قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب وفي بنيِ مالك ذو الخِمارِ سُبَيْعُ بن الحرث بن مالك وأخوه أحْمَرُ وجمع أمر الناس إلى مالك بن عوف‏.‏ فلما أتاهم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد فتح مكة أقبلوا عامدين إِليه‏.‏ وساق مالك مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم يرى أنه أثبت لموقفهم فنزلوا بأوْطاسَ‏.‏ فقال دريد بن الصمة لمالك‏:‏ ما لي اسمع رُغاءَ البعير ونهاقَ الحمار وبِعار الشاء وبكاء الصغير‏.‏ فقال‏:‏ أموال الناس وابناؤهم سقنا معهم ليقاتلوا عنها فقال‏:‏ راعي ضأن والله وهل يرد المنهزم شيء‏.‏ إِن كانت لك لم ينفعك إِلأَ رجل بسلاحه وإِن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك‏.‏ ثم سأل عن كَعْبِ كلاب وأسف لغيابهم وأنكر على مالك رأيه ذلك وقال‏:‏ لم تصنع بتقديم نقيضة هوازَن إلىً نحور الخيل شيئاً أرفعهم إلى ممتنع بلادهم ثم ألق الصبيان على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من ورائك وإن كانت لغيرك كنت قد أحرزت أهلك ومالك‏.‏ وأبي عليه مالك واتبعه هوازن‏.‏ ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حَدرَد الأسْلَمِيّ يستعلم بخبر القوم فجاءه وأطلعه على جَلِيَّةِ الخبر وانهم قاصدون إليه فاستعار رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم من صَفْوَانَ بن أمية مائة درع وقيل أربعمائة وخرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين عشرة آلاف الذين صحبوه من المدينة وألفان من مسلمة الفتح‏.‏ واستعمل على مكة عِتابَ بن أُسَيْدِ بن أبي العيص بن أمية ومضى لوجهه وفي جملة من اتبعه عًبّاسُ بن مِرداسَ والضَحّاكُ بن سُفْيانَ الكِلابيّ وجموعٌ من عَبْسٍ وذُبْيَانَ ومُزَيْنَةَ وبني أسَدٍ‏.‏ ومر في طريقه بشجرة سِدر خضراء وكان لهم في الجاهلية مثلها يطوف بها الأعراب ويعظمونها ويسمونها ذات أنْوَاطٍ‏.‏ فقال له جفاة الأعراب يا رسول الله‏!‏ اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط‏.‏ فقال لهم‏:‏ قلتم كما قال قوم موسى‏:‏ إجعل لنا إِلهاً كما لهم آلهة‏.‏ والذي نفسي بيده لتركبَنّ سنن من كان قبلكم وزجرهم عن بذلك‏.‏ ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تَهَامَةَ أول يوم من شوال من السنة الثامنة وهو وادي الحزن فتوسطه في غبش الصبح وقد كمنت هوازن جانبيه فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد وناداهم صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا‏.‏ وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر والفضل وقثم ابنا العباس وجماعة سواهم والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء دَلْدَلَ والعباس آخذ بشكائمها وكان جهير الصوت فأمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة وقيل وبالمهاجرين‏.‏ فلما سمعوا الصوت وذهبوا ليرجعوا فصدهم ازدحام المنهزمين أن يثنوا رواحلهم فاستقاموا وتناولوا سيوفهم وتراسهم واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد اجتمع منهم حواليه نحو المائة فاستقبلوا هوازن والناس متلاحقون‏.‏ واشتدت الحرب وحمي الوطيس وقذف اللّه في قلوبهم هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله فلم يملكوا أنفسهم فولوا منهزمين ولحق آخر الناس وأسرى هوازن مغلولة بين يديه وغنم المسلمون عيالهم وأمولهم واستحر القتل في بني مالك من ثقيف فقتل منهم يومئذ سبعون رجلاً في جملتهم ذو الخمار وأخوه عثمان ابنا عبد الله بن ربيعة بن حبيب سيداهم‏.‏ وأما قارب بن الأسود سيد الأحلاف من ثقيف ففر بقومه منذ أول الأمر وترك رأيته فلم يقتل منهم أحد ولحق بعضهم بنخلة وهرب مالك بن عوف النصري مع جماعة من قومه فدخلوا الطائف مع ثقيف واتجهت طوائف من هوازن إلى أوطاس واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من نخلة فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه‏.‏ يقال قتله ربيعة بن رافع بن أهبان بن ثعلبة بن يربوع بن سِماك بن عوف بن امرىء القيس‏.‏ وبعث صلى الله عليه وسلم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن أبا عامر الأشعري عم أبي موسى فقاتلهم وقتل بسهم رماه به سَلَمَةُ بن دُرَيْدَ بن الصِّمًةِ فأخذ أبو موسى الراية وشدّ على قاتل عمه فقتله وانهزم المشركون واستحرّ القتل في بني رباب من بني نصر بن معاوية وانفضت جموع هوازن كلها‏.‏ واستشهد من المسلمين يوم حنين أربعة منهم‏:‏ أيمن ابن أم أيمن أخو أسامة لأمه ويزيد بن زمعة بن الأسود وسراقة بن الحرث من بني العجلان وأبو عامر الأشعري‏.‏ حصار الطائف ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبايا والأموال فحبست بالجعرانة بنظر مسعود بن عمرو الغِفاري وسار من فوره إلى الطائف فحاصر بها ثقيف خمس عشرة ليلة وقاتلوا من وراء الحصون وأسلم من كان حولهم من الناس وجاءت وفودهم إليه‏.‏ وقد كان مر في طريقه بحصن مالك بن عوف النصري فأمر بهدمه ونزل على أطم لبعض ثقيف فتمنع فيه صاحبه فأمر بهدمه فأمر بهدمه فاخرب وتحصنت ثقيف‏.‏ وقد كان عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة من ساداتهم ذهبا إلى جرش يتعلمان صنعة المجانيق والدبابات للحصار لما أحسوا من قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِياهم فلم يشهدا الحصار ولا حنيناً قبله‏.‏ وحاصرهم المسلمون بضع عشرة أو نصف شهر أو بضع وعشرين ليلة‏.‏ واستشهد بعضهم بالنبل ورماهم صلى الله عليه وسلم بالمنجيق‏.‏ ودخل نفر من المسلمين تحت دبابة ودنوا إلى سور الطائف فصبوا عليهم سكك الحديد المحماة ورموهم بالنبل فأصابوا منهم قوماً‏.‏ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناقهم‏.‏ ورغب إليه ابن الأسود بن مسعود في ماله وكان بعيدأ من الطائف وكفّ عنه‏.‏ بثم رحل عن الطائف وتركهم ونزل أبو بكرة فاسلم‏.‏ واستشهد من المسلمين في حصاره سعيد بن سعيد بن العاص وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة أخو أم سلمة وعبد الله بن عامر بن ربيعة العَنَزِي حليف بني عَدِي في آخرين قريباً من إثني عشر فيهم أربعة من الأنصار‏.‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجَعْرَانَةِ وأفاه هنالك وفد هوازن مسلمين راغبين فخيرهم بين العيال والأبناء والأموال فاختاروا العيال والأبناء‏.‏ وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم‏.‏ وقال المهاجرون والأنصار‏:‏ ما كّان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أن يردا عليهم ما وقع لهما من الفيء وساعدهما قومهما‏.‏ وامتنع العباس بن مرادس كذلك وخالفهم بنو سُلَيْمَ وقالوا‏:‏ ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فعرض رسول صلى الله عليه وسلم من لم تطب نفسه عن نصيبه وردّ عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم‏.‏ وكان عدد سُبِي هوازن ستة آلاف بين ذكر وانثى فيهن الشيما أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وهي بنت الحرث بن عبد العُزَّى من بني ساعدة بن بكر من هوازن وأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسن إليها وخيرها فاختارت قومها فردها إليهم وقسم الأموال بين المسلمين‏.‏ ثم أعطى من نصيبه من خمس الخمس قوماً يستألفهم على الإسلام من قريش وغيرهم‏.‏ فمنهم من أعطاه مائة مائة ومنهم خمسين خمسين ومنهم ما بين ذلك ويسمون المؤلفة وهم مذكورون في كتب السير يقاربون الأربعين‏:‏ منهم أبو سفيان وابنه معاوية وحكيم بن خِزام وصفوان بن أمية ومالك بن عوف وغيرهم‏.‏ ومنهم عُيَيْنَةُ بن حصن بن حذيفة بن بدر والأقرع بن حابس وهما من أصحاب المائة‏.‏ وأعطى ابن عباس بن مرادس دونهما فأنشده أبياته المعروفة يتسخًط فيها فقال‏:‏ اقطعوا عني لسانه فأتموا إليه المائة ولما أعطى المؤلفة قلوبهم وَجِدَ الأنصار في أنفسهم إِذا لم يعطهم مثل ذلك وتكلم شبانهم مع ما كانوا يظنون أنه إذا فتح الله عليه بلده يرجع إلى قومه ويتركهم فجمعهم ووعظهم وذكرهم وقال‏:‏ إنما أعطي قوماً حديثي عهد بالإسلام أتألفهم عليه أما ترضون أن ينصرف الناس بالشاء والبعير وتنصرفوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكمٍ لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار‏.‏ ولو سلك الأنصار شِعْباً وسلك بالناس شِعْبا لسلكت شعب الأنصار فرضوا وافترقوا‏.‏ ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجَعْرَانَةِ إلى مكة ثم رجع إلى المدينة فدخلها لست بقين من ذي القعدة من السنة الثامنة لشهرين ونصف من خروجه واستعمل على مكة عتابَ بن أسَيْد شاباً ينيف عمره علي عشرين سنة وكان غلبه الورع والزهد فأقام الحج بالمسلمين في سنته وهو أول أمير أقام حج الإسلام وحج المشركون على مشاعرهم‏.‏ وخلف بمكة معاذ بن جبل يُفَقِّهُ الناس في الدين ويعلمهم القرآن وبعث عمرو بن العاص إلى أهل حنين وعمرو الجلندي من الأزد بعمان مصدقاً فأطاعوا له بذلك واستعمل صلى الله عليه وسلم مالك بن عوف على من أسلم من قومه ومن سلم منهم وما له حوالي الطائف من ثقيف‏.‏ وأمره بمغادرة الطائف من التضييق عليهم ففعل حتى جاؤوا مسلمين كما يذكر بعد‏.‏ وحسن إسلام المؤلفة قلوبهم ممن أسلم يوم الفتح أو بعده وإن كانوا متفاوتين في ذلك‏.‏ ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم كَعْبُ بن زُهَير فأهدر دمه وضاقت به الأرض وجاء فأسلم وأنشد النبي صلى الله عليه وسلم قصيدتهَ المعروفة في مدحه التي أوَلها‏:‏ بانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُولُ الخ‏.‏ وأعطاه بُرْدَةً في ثواب مدحه فاشتراها معاوية من ورثته بعد موته وصار الخلفاء يتوارثونها شعاراً‏.‏ ووفد في السنة تسع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بنو أسد فأسلموا وكان منهم ضِرارُ بن الأزوَرِ وقالوا‏:‏ قدمنا يا رسول الله قبل أن يرسل إلينا فنزلت‏:‏ ‏"‏ يَمُنُّون عليك أن أسلَموا ‏"‏ الآية‏.‏ ووفد فيها وفدتين في شهر ربيع الأول ونزلوا على رُوَيْفِع بن ثابت البَلَوي وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد منصرفه من الطائف في ذي الحجة إلى شهر رجب من السنة التاسعة‏.‏ ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم وكان في غزواته كثيراً ما يوري بغير الجهة التي يقصدها على طريقة الحرب إلا ما كان من هذه الغزاة لعسرها بشدّة الحرب وبعد البلاد وفصل الفواكه وقَلّة الظلال وكثرة العدو الذين يصدون‏.‏ وتجهزّ الناس على ما في أنفسهم من استثقال ذلك وطفق المنافقون يثبطونهم عن الغزو وكان نفر منهم يجتمعون في بيت بعض اليهود فأمر طلحة بن عبيد اللهّ أن يخرب عليهم البيت فخربها واستأذن ابن قيس من بني سلمة في العقود فأذن له وأعرض عنه‏.‏ وانتدب كثير من المسلمين للإنفاق والحَمْلان وكان من أعظمهم في ذلك عثمان بن عفّان يقال إنه أنفق فيها ألف دينار وحمل على تسعمائة بعير ومائة فرس وجهز ركاباً‏.‏ وجاء بعض المسلمين يستحمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلم يجد ما يحملهم عليه فتولوا باكين لذلك‏.‏ وحمل بعضهم يامين بن عمير النضير وهما أبو ليلى بن كعب من بني مازر ابن النجار وعبد الله بن مغفل المزني‏.‏ واعتذر المخلفون من الأعراب فعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم نهض وخلَف على المدينة محمد بن مسلمة وقيل بل شجاع بن عَرْفَطَةَ وقيل بل عليّ بن أبي طالب‏.‏ وخرج معه عبد الله بن أُبي بن سلول في عدد وعدة فلما سار صلى الله عليه وسلم تخلف هو فيمن تخلف من المنافقين‏.‏ ومر صلى الله عليه وسلم بالحجرعلى ديار ثمود فأمر أن لا يستعمل ماؤها ويعلف ما عجن منه للإبل وأذن لهم في بئر الناقة وأمر أن لا يدخلوا عليهم بيوتهم إِلا باكين ونهى أن يخرج أحد منفرداً عن صاحبه‏.‏ فخرج رجلان من بني ساعدة جُن أحدهما فمسح عليه فشفي والأخر رمته الريح في جبل طيء فردوه بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وضل صلى الله عليه وسلم عن ناقته في بعض الطريق فقال أحد المنافقين‏:‏ محمد يدعي علم خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته‏.‏ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ والله لا أعلم إلا ما علَمني اللّه وأن الناقة بموضع كذا وكان قد أوحي إليه بها فوجدوها ثَمَّ‏.‏ وكان قائل هذا القول زيد بن اللصيت من بني قينقاع وقيل إنّه تاب بعد ذلك‏.‏ وفضح الوحي قوماً من المنافقين كانوا يخذلون بالناس ويهولون عليهم أمر الروم فتاب منهم مخشي بن جهير ودعا أن يكفر عنه بشهادة يخفي مكانه فقتل يوم اليمامة‏.‏ ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى تبوك أتاه يُحَيْنَةُ بن رؤية صاحب أيْلَةَ وأهل وبعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيدِرَ بن عبد الملك صاحب دومة الجندل من كِنْدةَ كان ملكاً عليها وكان نصرانياً وأخبر أنه يجده يصيد البقر‏.‏ واتفق أن بقر الوحش باتت تهدَ القصر بقرونها فنشط أكيدر لصيدها وخرج ليلاً فوافق وصوله خالدأ فأخذه وبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنه وصالحه على الجزية وره وأقام بتبوك عشرين ليلة‏.‏ ثم انصرف وكان في طريقه ماء قليل نهى أن يسبق إليه أحد فسبق رجلان واستنفدا ما فيه فنكر‏.‏ عليهما ذلك‏.‏ ثم وضع يده تحت وشلة فصب ما شاء الله أن‏.‏ يصب ونضح بالوشل ودعا فجاش الماء حتى كفى العسكر‏.‏ وأخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك الموضع سمي جناباً ولما قرب من المدينة بساعة من نهار أنفذ مالك بن الدَّخْشَم من بني سُلَيْم ومعن بن عدي من بني العجلان إلى مسجد الضرار فأحرقاه وهدماه وقد كان جماعة من المنافقين بنوه وأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فسألوه الصلاة فيه فقال أنا على سفر ولو قدمنا أتيناكم فصلينا لكم فيه فلما رجع أمر بهدمه‏.‏ وفي هذه الغزاة تخلف كعبُ بن مالك من بني سلَمَةَ ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف وهلال بن أمية بن واقف وكانوا صالحين‏.‏ فنهى صلى الله عليه وسلم عن كلامهم خمسين يوماً ثم نزلت توبتهم‏.‏ وكان المتخلفون من غير عذر نيفاً وثلاثين رجلاً‏.‏ وكان وصوله صلى الله عليه وسلم من تبوك في رمضان سنة تسع وفيه كانت وفاتة ثقيف وإسلامهم‏.‏ ونزل الكثير من سورة براءة في شأن المنافقين وما قالوه في غزوة تبوك آخرِ غزوة غزاها صلى الله عليه وسلم‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 04:56 PM

اسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف وهدم الات
كان صلى الله عليه وسلم لما أفرج عن الطائف وارتحل إلى المدينة اتبعه عُرْوَةُ بن مسعود سيدهم فأدركه في طريقه وأسلم ورجع يدعو قومه فرمي بسهم في سطح بيته وهو يؤذن للصلاة فمات ومنع قومه من الطلب بدمه وقال‏:‏ هي شهادة ساقها الله إليّ وأوصى أن يدفن مع شهداء المسلمين‏.‏ ثم قدم ابنه أبو المليح وقارب بن مسعود فأسلما وضيق مالك بن عوف على ثقيف واستباح سرحهم وقطع سابلتهم‏.‏ وبلغهم رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك واتمروا في الوفادة وعلموا أن لا طاقة لهم بحرب العرب المسلمين‏.‏ وفزعوا إلى عبد ياليل بن عمرو بن عمير فشرط عليهم أن يبعثوا معه رجالأ منهم ليحضروا مشهده خشية على نفسه مما نزل بعروة فبعثوا معه رجلين من أحلاف قومه وثلاثاً من بني مالك فخرج بهم عبد ياليل وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة التاسعة يريدون البيعة والإسلام فضرب لهم قبة في المسجد‏.‏ وكان خالد بن سعيد بن العاص يمشي في أمرهم وهو الذي كتب كتابهم بخطه وكانوا لا يأكلون طعاماً يأتيهم حتى يأكل منه خالد وسألوه أن يدع لهم اللات ثلاث سنين رعياً لنسائهم وأبنائهم حتى يأنسوا فأبى وسألوه أن يعفيهم من الصلاة‏.‏ فقال‏:‏ لا خير في دين لا صلاة فيه فسألوه أن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال‏:‏ أما هذه فأنا سنكفيكم منها فأسلموا وكتب لهم وأمَّر عليهم عثمان بن أبي العاص أصغرهم سناً لأنه كان حريصاً على الفقه وتعلم القرآن‏.‏ ثم رجعوا إلى بلادهم وخرج معهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم اللات وتأخر أبو سفيان حتى دخل المغيرة فتناولها بيده ليهدمها وقام بنو مُعْتِبَ دونه خشية عليه‏.‏ ثم جاء أبو سفيان وجمع ما كان لها من الحُلِيَ وقضى منه دين عُرْوَةَ والأسْوَدِ ابني مسعود كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقسم الباقي‏.‏ الوفود ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وأسلمت ثقيف ضربت إليه وفود العرب من كل وجه حتى لقد سميت سنة الوفود‏.‏ قال ابن اسحق‏:‏ وإنما كانت العرب تتربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذلك أن قريشاً كانوا إِمام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل وقادتهم لا ينكرون ذلك‏.‏ وكانت قريش هي التي نصبت لحربه وخلافه‏.‏ فلما افتتحت مكة ودانت قريش ودخلها الإسلام عرفت فأول من قدم إِليه بعد تبوك وفد بني تميم وفيه من رؤوسهم عَطارِد بن حَاجِبِ بن زُرَارَةَ بن عَدَس من بني دارم بن مالك والحبابُ بن يزيد والأقْرَعُ بن حابس والزبْرَقانُ بن بدْرٍ من بني سعد وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهْتَم وهما من بني مِنْقَرٍ ونعيم بن زيد ومعهم عيينة بن حصن الفزاري‏.‏ وقد كان الأقرع وعيينة شهدا فتح مكة وخيبر وحصار الطائف ثم جاءا مع وفد بني تميم‏.‏ فلما دخلوا المسجد نادوا من وراء الحجراتِ فنزلت الآيات في إِنكار ذلك عليهم‏.‏ ولما خرج قالوا‏:‏ جئنا نفاخرك بخطيبنا وشاعرنا فأذن لهمٍ فخطب عطارد وفاخر ويقال والأقرع بن حابس‏.‏ ثم أنشد الزبرقان بن بدر شعراً بالمفاخرة ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن الشماس من بني الحرث بن الخزرج فخطب وحسان بن ثابت فانشد مساجلين لهم‏.‏ فاذعنوا للخطبة والشعر والسؤدد والحلم وقالوا‏:‏ هذا الرجل هو مؤيد من الله خطيبه أخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا وأصواتهم أعلى من أصواتنا ثم أسلموا‏.‏ وأحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوازهم‏.‏ وهذا كان شأنه مع الوفود يُنْزِلُهُم إذا قدِموا ويُجَهِّزُهم إذا رَحَلوا‏.‏ ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان مقدمه من تبوك كتاب ملوك حمير مع رسولهم ومع الحرث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر‏.‏ وبعث زُرْعَةُ بن ذي يَزَنٍ رسوله مالك بن مُرّةٍ الرَهَاوِيِّ باسلامهم ومفارقة الشرك وأهله وكتب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتابه‏.‏ وبعث إلى ذي يزن معاذ بن جَبَلَ مع رسوله مالك بن مرة لجمع الصدقات وأوصاهم برسله معاذ وأصحابه‏.‏ ثم مات عبد الله بن أُبي بن سلول في ذي القعدة ونعى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم النجاشي وإنه مات في رجب قبل تبوك‏.‏ وقم وفد بهرا في ثلاثة عشر رجلاً ونزلوا على المِقِدادِ بن عمرو وجاء بهم فأسلموا وأجازهم وانصرفوا‏.‏ وقدم وفد بني البَكاء ثلاثة نفر منهم وقدم وفد بني فَرَازَةَ بضعة عشر رجلاً فيهم خارجَة بن حصن وابن أخيه الحُرُّ بن قيس فأسلموا‏.‏ ووفد عديّ بن حاتم بن طيء فأسلم‏.‏ وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد بعث قبل تبوك إلى بلاد طيء علي بن أبي طالب في سرية فأغار عليهم وأصيب حاتم وسبيت ابنته وغنم سيفين في بيت أصنامه كانتا من قربان الحرث بن أبي شمَر‏.‏ وكان عديّ قد هرب قبل ذلك ولحق ببلاد قُضَاعَةَ بالشام فراراً من جيوش المسلمين وجواراً لأهل دينه من النصارى وأقام بينهم ولما سيقت ابنة حاتم جعلت في الحظيرة بباب المسجد التي كانت السبايا تحبس بها‏.‏ ومر بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فكلمته أن يمنّ عليها فقال‏:‏ قد فعلت ولا تعجلي حتى تجدي ذا ثِقة من قومك يبلغك إلى بلادك‏.‏ ثم آذنيني قالت‏:‏ فأقامت حتى قدم ركب من بني قضاعة وأنا أريد أن آتي أخي بالشام فعرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فكساني وحملني وزودَني وخرجت معه فقدمت الشام‏.‏ فلما لقيها عدِيّ تلاوم ساعة ثم قال لها‏:‏ ماذا ترين في أمر هذا الرجل فأشارت عليه باللحاق به فوفد وأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله إلى بيته وأجلسه على وسادَتِهِ بعد أن استوقفته في طريقه امرأة فوقف لها‏.‏ فعلم عَدِيّ أنه ليس بملك وإنما هو نبي‏.‏ ثم أخبره عن أخذه المرباع من قومه ولا يحلّ له فازداد استبعاداً فيه ثم قال‏:‏ لعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم فوالله ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها تزور هذا البيت لا تخاف أو لعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان لغيرهم فيوشك أن تسمع بالقصور البيض من بابل قد فتحت‏.‏ فأسلم عديّ وانصرف إلى قومه ثم أنزل الله على نبيِّه الأربعين آية من سورة براءة في نبذ العهد الذي بينه وبين المشركين لا يصدّوا عن البيت ونهوا أن يقرب المسجد الحرام مشرك بعد ذلك وأن لا يطوف بالبيت عرياناً وإن كان بينه وبين رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم عهد فيتم له إلى مدته وأجلهم أربعة اشهر من يوم النحر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات أبا بكر وأمره على إِقاه الحج بالموسم من هذه السنة فبلغ ذي الحُلَيْفَة فاتبعه بعلي فأخذها منه فرجع أبو بكر مشفقاً أن يكون نزل فيه قرآن‏.‏ فقال له النبي اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لم ينزل شيء ولكن‏:‏ لا يبلغ عني غيري أو رجل مني‏.‏ فسار أبو بكرعلى الحجّ وعليّ على الأذن ببراءة‏.‏ فحج أبو بكر بالناس وهم على حجّ الجاهلية‏.‏ وقام علي عند العقبة يوم الأضحى فأذَّن بالآية التي جاء بها‏.‏ قال الطبري‏:‏ وفي هذه السنة فرضت الصداقات لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ خذ من أموالهم صَدقة تُطَهرُهُم وَتُزَكِّيهمْ بها ‏"‏ الآية‏.‏ وفيها قدم وفد ثَعْلَبَةَ بن مُنْقِذٍ ووفد هذيم من قُضاعَةَ قال الطبري‏:‏ وفيها بعث بنو سعد بن بكر ضَمْضَامَ بن ثَعْلَبَةَ وافداً فاستحلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على ما جاء به الإسلام وذكر التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحجّ واحدة واحدة حتى إِذا فرغ تشهد وأسلم وقال‏:‏ لأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيت عنه ثم لا أزيد عليها ولا انقص فلما انصرف قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِن صدق دخل الجنة‏.‏ ثم قدم على قومه فأسلموا كلهم يوم قدومه والذي عليه الجمهور أنّ قدوم ضمضام وقَصّته كانت سنة خمس‏.‏ ثم دخلت سنة عشر فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في ربيع أوجمادى في سرية أربعمائة إلى نجران وما حولها يدعو بني الحرث بن كعب إلى الإسلام ويقاتلهم إِن لم يفعلوا فأسلموا وأجابوا داعيته‏.‏ وبعث الرسل في كل وجه فأسلم الناس فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه بأن يقدم مع وفدهم فأقبل خالد ومعه وفد بني الحرث بن كعب منهم قيس بن الحصين ذو القصَّة ويزيد بن عبد المدان ويزيد بر المحجل وعبد اللّه بن قريض الزيادي وشداد بن عبد اللّه الضبابي وعمرو بن عبد اللّه الضبابي فأكرمهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم‏:‏ بم كنتم تغلبون من يقاتلكم في الجاهلية قالوا‏:‏ كنا نجتمع ولا نفترق ولا نبدأ أحداً بظلم قال صدقتم فأسلموا وأمر عليهم قيس بن الحصين ورجعوا صدر ذي القعدة من سنة عشر ثم اتبعهم عمرو بن حزام من بني النجار ليفقههمٍ في الدين ويعلمهم السنَّة وكتب إليه كتاباً عهد إِليه في ععهده إليه وأمره بأمره‏.‏ وأقام عاملاً على نجران‏.‏ وهذا الكتاب وقع في السير مروياً واعتمده الفقهاء في الإستدلالات وفيه مآخذ كثيرة للأحكام الفقهية ونصه‏:‏ بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من اللّه ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود عهداً من محمد النبي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره بتقوى اللّه في أمره كله فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم مُحسنون‏.‏ وآمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله وأن يُبشِّر الناس بالخير ويأمرهم به ويعلَم الناس القرآن ويفقههم فيه‏.‏ وينهى الناس فلا يمس القرآن إِنسان إِلا وهو طاهر ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم ويلين للناس في الحق ويشتد عليهم في الظلم فإن اللّه حرًم الظلم ونهى عنه فقال‏:‏ ألا لَعْنَةُ الله على الظالمين‏.‏ وأن يبشَر الناس بالجَنةِ وبعَمَلِها ويُنْذِرَ الناس بالنار وعملها ويستألف الناس حتى يَتَفقَّهُوا في الدين ويعلم الناس معالم الحجِّ وسننه وفرائضه وما أمر الله به والحج الأكبر والحج الأصغر وهو العمرة‏.‏ وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب صغير إِلا أن يكون ثوبأ يثنى طرفيه على عاتقه وينهى أن يختبىء أحد في ثوب واحد ويفضي بفرجه إلى السماء وينهى أن يقصّ أحد شعر رأسه إذا عفا في قفاه وينهى إِذا كان بين الناس هَيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر وليكن دعاؤه إلى الله وحده لا شريك له فمن لم يدع إلى الله ودعا القبائل والعشائر فليُعْطِفُوهُ بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له‏.‏ ويأمر الناس بأسباغ الوضوء في وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين ويمسحوا برؤوسهم كما أمرهم الله‏.‏ وأمرهم بالصلاة بوقتها وإتمام الركوع والسجود يغلس بالصبح ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس وصلاة العصر والشمس في الأرض مُدْبِرة والمغرب حين يقبل الليل لا تؤخر حتى تبدو نجوم السماء والعشاء أول الليل‏.‏ وآمر بالسعي إلى الجمعة إذا نُودِيَ لها والغسل عند الرواح إليها وآمره أن يأخذ من الغنائم خمس الله وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين أو سقت السماء وعلى ما سقى الغرب نصف العشر‏.‏ وفي كل عشر من الإبل شاتان وفي كل عشرين أربع شياة وفي كل أربعين من البقر بقرة وفي كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة جذع أو جذعة وفي كل أربعين من الغنمٍ سائمة وحدها شاه‏.‏ فإنها الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيراً فهو خير له‏.‏ وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني إِسلاماً خالصاً نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين ما لهم وعليه ما عليهم ومن كان على نَصْرَانِيَّتهِ أو يَهُودِيَّته فإنه لا يردّ عنها وعليه الجزية وعلى كل محتلم ذكر أو أنثى حرّ أو عبد دينار وافٍ أو عوضه ثياباً‏.‏ فمن أدى ذلك ذمة الإسلام ذمة اللّه وذمة رسوله‏.‏ ومن منع ذلك فإنه عدوّ للّه ولرسوله وللمؤمنين جميعاً صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمته وبركاته‏.‏ وقدم وفد غسان في رمضان من هذه السنة العاشرة في ثلاثة نفر فأسلموا وانصرفوا إلى قومهم فلم يجيبوا إلى الإسلام فكتموا أمرهم وهلك اثنان منهم ولقي الثلث أبو عبيدة عام اليرموك فأخبره بإسلامه وقدم فيه وفد عامر عشرة نفر فأسلموا وتعلموا الإسلام وأقرأهم النبي القرآن وانصرفوا‏.‏ وقدم في شوّال وفد سلامان بسبعة نفر رئيسهم حبيب فأسلموا عن قومهم وتعلموا القرآن وانصرفوا‏.‏ وفيها قدم أزد جرش وفد فيهم صُرَدُ بن عبد اللّه الأزدي فيء قومه ونزلوا على فَروّةَ بن عمرو‏.‏ وأمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا صرداً على من أسلم منهم وأن يجاهد المشركين حوله‏.‏ فحاصر جرش ومن بها من خثعم وقبائل وكانت مدينة حصينة اجتمع إليها أهل اليمن حين سمعوا بزحف المسلمين فحاصرهم شهراً‏.‏ ثم قفل عنهم فظنوا أنه انهزم فاتبعوه إلى جبل شكر فصف وحمل عليهم منهم وكانوا بعثوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رائدين وأخبرهما ذلك اليوم بواقعة شكر‏.‏ وقال‏:‏ إن بدن الله لتنحر عنده الآن فرجعا إلى قومهما فأخبراهم بذلك وأسلموا وحَمَى لهم حمى حول قريتهم‏.‏ ومنها كان إسلام هَمْدَانَ ووفادتهم على يد عليٍّ رضي اللّه عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فمكث ستة أشهر لا يجيبونه فبعث عليه السلام عليّ بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالداً فلما بلغ علي أوائل اليمن جمعوا له فلما لقوه صفُّوا فقدّم علي الإنذار وقرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان كلها في ذلك اليوم وكتب بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسجد لله شكرأ ثم قال‏:‏ السلام على همدان ثلاث مرّات‏.‏ ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام وقدمت وفودهم وكان عمرو بن معد يكرب الزبيدي قد قال لقيس بن مكثوم المرادي‏:‏ إذهب بنا إلى هذا الرجل فلن يخفى علينا أمره فأبى قيس من ذلك‏.‏ فقدم عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم‏.‏ وكان فَرْوَةَ بن مُسَيْك المُرَاديُ على زُبَيْدَ لأنه وفد قبل عمرو مفارقاً لملوك كندَةَ فأسلم ونزل على سعد بن عَبادة وتعلَّم القرآن وفرائض الإسلام واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على مُرَادَ وزُبَيْدَ ومَذْحِجَ كلها وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة فكان معهم في بلاده حتى كانت الوفاة‏.‏ وفي هذه السنة قدم وفد عبد القيس يقدمهم الجارود بن عمرو وكانوا على دين النصرانية فأسلموا ورجعوا إلى قومهم‏.‏ ولما كانت الوفاة إرتدً عبد القيس ونصبوا المُنذِر َبن النُّعمان بن المنذر الذي يسمى الغَرور وثبت الجارود على الإسلام وكان له المقام المحمود وهلك قبل أن يرجعوا‏.‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوي العبدي فأسلم وحسن إسلامه وهلك بعد الوفاة وقبل ردّة أهل البحرين والعلاء أمير عنده لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين‏.‏ وفي هذه السنة قدم وفد بني حنيفة في سنة عشر فيهم مُسَيْلِمَةُ بن حبيب الكذّاب ورجال بن عَنْفَوَةَ وطَلْقُ بن علي بن قيس وعليهم سلمان بن حنظلة فأسلموا وأقاموا أياماً يتعلَمون القرآن من أُبَيّ بن كعب ورجّال يتعلم وطلق يؤذن لهم ومسيلمة في الرحال وذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم مكانه في رحالهم فأجازه‏.‏ وقال‏:‏ ليس بشركم مكاناً لحفظه رحالكم‏.‏ فقال مسيلمة‏:‏ عرف أن الأمر لي من بعده‏.‏ ثم ادَّعى مُسَيْلِمَةُ بعد ذلك النبَوّةَ وشهد له طلق إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه في الأمر فافتتن الناس به كما سنذكره‏.‏ وفيها قدم وفد كنْدَةَ يقدمهم الأشعث بن قيس في بضعة عشر وقيل في ستين وقيل في ثمانين وعليهم الديباج والحرير وأسلموا ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه فتركوه‏.‏ وقال له اشعث‏:‏ نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار فضحك وقال‏:‏ ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحرث وكانا تاجرين فإذا ساحا في أرض العرب قال‏:‏ نحن بنو آكل المرار فيعتز بذلك كأن لهم عليه ولادة من الأمهات‏.‏ ثم قال‏:‏ نحن بنو النضر بن كنانة فانتفوا منا ولا ينتفي من إلينا‏.‏ وقدم مع وفد كِندَةَ وفد حضرموت وهم بنو وُلَيْعَةَ وملوكهم صُمْرَةُ ومخْوِشُ ومُسْرِحُ والضعة فأسلموا ودعا لمخوش بإزالة الرتّة من لسانه‏.‏ وقدم وائل بن حجر راغباً في الإسلام فدعا له ومسح رأسه ونودي الصلاة جامعة سرورأ بقدومه وأمر معاوية أن ينزل بالحَرةِ فمشى معه وكان راكباً فقال له معاوية‏:‏ أعطني نعلك اتوقّى بها الرمضاء فقال‏:‏ ما كنت لألبسها وقد لبستها وفي رواية لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك فقال‏:‏ اردفني فقال‏:‏ لست من ارداف الملوك‏.‏ ثم قال‏:‏ إن الرمضاء قد أحرقت قدمي قال‏:‏ امش في ظلّ ناقتي كفاك به شرفاً‏.‏ ويقال أنه وفد على معاوية في خلافته فأكرمه‏.‏ وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ هذا كتاب محمد النبي لوائل بن حجر قَيل حضر موت إنك إِن أسلمت جعلت لك ما في يديك من الأرض والحصون ويؤخذ منك من كل عشرة واحدة ينظر في ذلك ذوو عدل منكم وجعلت لك ألا تظلم فيها معلّم الدين‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عليه أنصار قال عياض‏:‏ وفيه إلى الأقيال العَباهِلَة والأوْرَاع المشابيب وفيه فيِ العًبية شاة مقورّة لا لِياط ولا ضِناك وفي السيوب الخمس ومن زنى من بكر فأصفعُوه مائة واستوفضُوهُ عامأ ومن زنى من ثَيِّبِ ففرجوه بالأصاحيم ولا توصيم في الدين ولا غمه في فرائض الله وكل مُسْكِر حرام ووائل بن حجر يَتَرَفَّلُ على الأقيال‏.‏ وفيها قدم وفد محارب في عشرة نفر فأسلموا وفيها قدم وفد الرها من مذحج في خمسة عشر نفراً وأهدوا فرساً فأسلموا وتعلموا القرآن وانصرفوا‏.‏ ثم قدم نفر منهم وحجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي فأوصى لهم بمائة وسق من خيبر جارية عليهم من الكتيبة وباعوها من معاوية‏.‏ وفيها قدم وفد نجران النصارى في سبعين راكباً يقدمهم أميرهم العاقب عبد المسيح من كندة وأسقفهم أبو حارثة من بكر بن وائل والسيد الأيهم وجادلوا عن دينهم‏.‏ فنزل صدر سورة آل عمران وآية المباهلة فأبوا منها وفرقوا وسألوا الصلح وكتب لهم به على ألف حلة في صَفَر َوألف في رَجَب وعلى دروع ورماح وخيل وحمل ثلاثين من كل صنف‏.‏ وطلبوا أن يبعث معهم والياً يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجرّاح ثم جاء العاقب والسيّد وأسلما‏.‏ وفيها قدم وفد الصدف من حضرموت في بضعة عشر نفراً فأسلموا وعلمهم أوقات الصلاة وذلك في حجَّة الوداع وفي هذه السنة قدم وفد عبس قال ابن الكلبي‏:‏ وفد منهم رجل واحد فأسلم ورجع ومات في طريقه وقال الطبري‏:‏ وفيها وفد عدي بن حاتم في شعبان انتهى‏.‏ وفيها قدم وفد خولان عشرة نفر فأسلموا وهدموا صنمهم وكان وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية قبلِ خيبر رفاعة بن زيد الضبَيْبِي من جذام وأهدى غلامأ فأسلم‏.‏ وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا ولم يلبث أن قفل دحيَةُ بن خليفة الكَلْبِي منصرفاً من عند هِرَقْلَ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه تجارة فأغار عليه الهُنَيد بن عوص وقومه بنو الضليع من بطون جذام فأصابوا كل شيء معه وبلغ ذلك مسلمين من بني الضبيب فاستنقذوا ما أخفه الهنيد وابنه وردّوه على دحية‏.‏ وقدم دحية على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فبعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش من المسلمين فأغار عليهم بالقضقاض من حرَّة الرمل وقتلوا الهنيد وابنه في جماعة وكان معهم ناس من بني الضبيب فاستباحوهم معهم وقتلوهم‏.‏ فركب رِفاعَةَ بن زيد ومعه أبو زيد بن عمرو من قومه في جماعة منهم فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر فقال‏:‏ كيف أصنع بالقتلى فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه أطلق لنا من كان حياً فبعث معهم عليّ بن أبي طالب وحمله على جمل وأعطاه سيفه فلحقه بِفَيْفَاءِ الفَحْلَتَيْن وأمره برد أموالهم فردّها‏.‏ وفي هذه السنة قدم وفد عامر بن صَعَصَعَةَ فيهم عامر بن الطفَيْل بن مالك وأربد بن ربيعة بن مالك فقال له عامر‏:‏ يا محمد اجعل لي الأمر بعدك فقال‏:‏ ليس ذلك لك ولا لقومك قال‏:‏ اجعل لي الوبر ولك المدر قال لا ولكن أجعل لك أعِنَّة الخيل فإنك أمرؤ فارس‏.‏ فقال لأمْلأنَهَا عليك خيلاً ورجلاً ثم ولوا فقال‏:‏ اللهم أكفِنيهم اللهم اهدِ عامراً وأغن الإسلام عن عامر‏.‏ وذكر ابن اسحاق والطبري أنهما أرادا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقدروا عليه في قصة ذكرها أهل الصحيح ثم رجعوا إلى بلادهم فأخذه الطاعون في عنقه فمات في طريقه في أحياء بني سلول وأصابت أخاه أربد صَاعقة بعد ذلك‏.‏ ثم قدم عَلْقَمَة بن عُلاَثَة بن عوف وفيها قدم وفد طيء في خمسة عشر نفراً يقدمهم سيدِهم زيد الخيل وقُبَيْصَةُ بن الأسود من بني نبهان فأسلموا‏.‏ وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير وأقطع له بئراً وأرضين معها وكتب له بذلك ومات في مرجعه‏.‏ وفي هذه السنة ادعى مسَيْلمَة النبوة وأنه أُشرِكَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر وكتب إليه‏:‏ من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك فإني قد اشركت في الأمر معك وأن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريش قوم لا يعدلون وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتَّبَع الهدى أما بعد فإن الأرض للِه يورثُها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏.‏ قال الطبري‏:‏ وقد قيل‏:‏ إِنً ذلك كان بعد منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع كذلك نذكر‏.‏ حجة الوداع ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع في خمس ليال بقين من ذي القعدة ومعه من أشراف الناس ومائة من الإبل هدايا ودخل مكة يوم الأحد لأربع خلون من ذي الحجة ولقيه علي بن أبي طالب بصدقات نجران فحج معه وعلَم صلى الله عليه وسلم الناس مناسكهم واسترحمهم وخطب الناس بعرفة خطبته التي بين فيها ما بين حمد الله والثناء عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلَي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدأ أيها الناس إِن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم هذا وستلقون ربِّكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بَلَّغْتُ‏.‏ فمن كان عنده أمانة فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها وإِن كان رباً فهو موضوع‏:‏ فلكم رؤوس أموالك لا تَظْلِمُون ولا تَظْلَمُون‏.‏ قضى الله أنه لا ربا إِن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كلُّه وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع كلُه وإن أول دم وضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المًطلب وكان مسترضعاً في بني ليث فقتله بنو هذيل فهو أول ما أبدىء من دم الجاهلية‏.‏ أيها الناس إِنّ الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم‏.‏ أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلونه عامأ ويحرمونه إِلى فيحلوا ما حرَّم الله ويحرموا ما أحلّ الله ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الفرد الذي بين جمادى وشعبان‏.‏ أما بعد أيها الناس فإنِّ لكم على نسائكم حقّاً ولهن عليكم حقاً‏.‏ لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدأ تكرهونه وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإنَ الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع وتضربوهنّ ضربأ غير مبرّح فإن انتهين فلهنّ رزقهنَّ وكسوتهنّ بالمعروف‏.‏ واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوار لا يملكن لأنفسهن من الخير شيئاً وإنكم إنما أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي فإني قد بلَّغت وتركت فيكم ما إن استعصمتم به فلن تضلوا أبداً‏:‏ كتاب اللّه وسنَة نَبِيِّه‏.‏ أيها الناس‏!‏ اسمعوا قولي واعلموا أن كل مسلم أخو المسلم وإنّ المسلمين إخوة فلا يحل لامرىء من مال أخيه إِلا ما أعطاه إياه عن طيب نفس فلا تظلموا أنفسكم‏.‏ أللَهم قد بَلَغت فذكر أنهم قالوا اللهمَ نعم‏.‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اللهَم اشهد‏.‏ وكانت هذه الحجة تسمى حجة البلاغ وحجة الوداع لأنه لم يحج بعدها وقد كان حج قبل ذلك حجتين واعتمر مع حجة الوداع عمرة فتلك ثلاث‏.‏ ثم انصرف إلى المدينة في بقية ذي الحجة من العاشرة‏.‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم باذان‏:‏ عامل كسرى على اليمن وأسلمت اليمن أمَّره على جميع مخاليفها ولم يُشْرِك معه فيها أحد حتى مات‏.‏ وبلغه موته وهو منصرف من حجة الوداع فقسم عمله على جماعة من الصحابة‏.‏ فولى على صنعاء ابنه شَمِر ُبن باذان وعلى مَارِب أبا موسى الأشعري وعلى الجند يعلى بن أمية وعلى هَمَدان عامر بن شمر الهمداني وعلى عَكٍّ والأشْعَرِيِّين الطاهر بن أبي هالة وعلى ما بين نجران وزُمَع وزُبَيْد خالد بن سعيد بن العاص وعلى نجران عمرو بن حزام وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد البَيَاضِيَ وعلى السَكاسِك والسَكونِ عُكاشَةَ بن ثور بن أصغر الغَوْثي وعلى معاوية بن كندة عبد الله المهاجر بن أبي أمية واشتكي المُهَاجِرُ فلم يذهب فكان زياد بن لبيد يقوم على عمله‏.‏ وبعث بن جبل معلِّماً لأهل اليمن وحضرموت وكان قبل ذلك قد بعث على الصدقات عَديّ بن حاتم على صدقة طيء وأسد ومالك بن نويره على صدقات بني حنظلة وقسم صدقة بني سعد بين رجلين منهم وبعث العَلاءَ بن الحضرمي على البحرين وبعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ويقدم عليه بها فوافاه من حجة الوداع كما مرّ‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 04:57 PM

خبر العنسي
كان الأسود العنسي واسمه عَبْهَلَةُ بن كعب ولقبه ذو الخِمارِ وكان كاهناً مُشَعوذاً يفعل الأعاجيب ويخلب بحلاوة منطقه وكانت داره كهف خيار بها ولد ونشأ وادعى النبوة وكانت مذحجاً عامَّة فأجابوه وأوعدوا نجران فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزام وخالد بن سعيد بن العاص وأقاموه في عملها‏.‏ ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك وهو على مراد فأجلوه‏.‏ وسار الأسود في سبعمائة فارس إلى شهر بن باذان بصنعا‏:‏ فلقيه شهر بن باذان فهزمه الأسود فقتله وغلب على ما بين صنعاء وحضرموت إلى أعمال الطائف إِلى البحرين من قبل عدن وجعل يطير استطارة الحريق وعامله المسلمون بالتقية وارتد كثير من أهل اليمن‏.‏ وكان عمرو بن معد يكرب مع خالد سعيد بن العاص فخالفه واستجاب للأسود فسار إِليه خالد ولقيه فاختلفا ضربتين فقطع خالد سيفه الصمصامة وأخذها ونزل عمرو عن فرسه وفتك في الخيل ولحق عمرو بن الأسود فولاه على مذحج وكان أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث المرادي وأمر الأبناء إلى فَيْروُز ودادَوَيْهَ‏.‏ وتزوَّج امرأة شهر بن باذان واستفحل أمره‏.‏ وخرج معاذ بن جبل هارباً ومرّ بأبي موسى الأشعري في مأرب فخرج معه ولحقا بحضرموت ونزل معاذ في السكون وأبو موسى في السكاسك ولحق عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بالمدينة‏.‏ وأقام الطاهر بن أبي هالة ببلاد عك‏:‏ جبال صنعاء‏.‏ فلما ملك الأسود اليمن واستفحل استخف بقيس بن عبد يغوث وبفيروز ودادويه وكانت ابنة عم فيروز هي زوجة شهر بن باذان التي تزوجها الأسود بعد مقتله واسمها أزاد‏.‏ وبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكتب مع وَبْرِ بن عُنَيْسَ إلى الأبناء وأبى موسى ومعاذ والطاهر يأمرهم فيه أن يعملوا أمر الأسود بالغيلة أو المصادقة‏.‏ ويبلغ عنه ما يروم عنده ديناً أو نجدة وأقام معاذ والأبناء في ذلك فدخلوا قيس بن عبد يغوث في أمره فأجاب ثم داخل فيروز بنت عمه زوجة الأسود فواعدته قتله‏.‏ وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن شمر الهمداني وبعث جرير عبد الله إلى ذي الكِلاع وذي أمران وذي ظَلِيم من أهل ناحيته وإلى أهل نجران من عربهم ونصاراهم واعترضوا الأسود ومشوا وتنحوا إلى مكان واحد وأخبر الأسود شيطانه بغدر قيس وفيروز ودادويه فعاتبهم وهمّ بهم ففرّوا إلى امرأته وواعدتهم أن ينقبوا البيت من ظهره ويدخلوا فَيُبَيتوه ففعلوا ذلك ودخل فَيْرُوز ومعه قيس ففتل عنقه ثم ذبحه فنادى بالأذان عند طلوع الفجر ونادى دادَوَيه بشعار الإسلام‏.‏ وأقام وبر بن حُنَيْس الصلاة واهتاجِ الناس مسلمهم وكافرهم وماج بعضهم في بعض واختطف الكثير من أصحابه صبياناَ من أبناء المسلمين وبرزوا وتركوا كثيراً من أبنائهم‏.‏ ثم تراسلوا في ردّ كلٍّ ما بيده وأقاموا يتردَّدون فيما بين صنعاء ونجران وخلصت صنعاء والجنود‏.‏ وتراجع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم وتنافسوا الإمارة في صنعاء‏.‏ ثم اتفقوا على معاذ يصلي بهم وكتبوا إلى رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم بالخبر وكان قد أتاه خبر الواقعة من السماء فقال في غداتها‏:‏ قتل العنسي البارحة قتله رجل مبارك وهو فيروز‏.‏ ثم قدمت الرسل وقد تَوفي النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ بعث اسامة ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجِّة الوداع آخر ذي الحجة ضرب على الناس في شهر المحرّم بعثاً إلى الشام وأمر عليهم مولاه أسامة بن زيد بن حارِثَةَ وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم إلى الأردنّ من أرض فِلَسْطِين ومشارف الشام‏.‏ فتجهز الناس وأوعب معه المهاجرون الأوّلون فبينا الناس على ذلك ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بشكواه التي قبضه اللّه فيها إلى كرامته ورحمته وتكلم المنافقون في شأن أسامة‏.‏ وبلغ الخبر بارتداد الأسود ومسيلمة وخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه من الصداع وقال‏:‏ إني رأيت البارحة في نومي أن في عضدي سِوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما هذين الكذابين‏:‏ صاحب اليمامة وصاحب اليمن‏.‏ وقد بلغني أن أقواماً تكلموا في أمارة أسامة طعنوا في أمارته لقد طعنوا في أمارة أبيه من قبله وإن كان أبوه لحقيقاً بالامارة وإِنه لحقيق بها انفروا‏.‏ فبعث أسامة فضرب أسامة بالحرق أخبار الأسود ومسيلمة وطليحة كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما قضى حجة الوداع تحلَّل به السير فاستكى وطارت الأخبار بذلك فوثب الأسود باليمن كما مرّ ووثب مسيلمة باليمامة ثم وثب طُلَيْحَةُ بن خُوَيْلِد في بني أسد يدّعي كلهم النبوّة‏.‏ وحاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسل والكتب إِلى عماله ومن ثبت على إسلامه من قومهم أن يجدّوا في جهادهم‏.‏ فأصيب الأسود قبل وفاته بيوم ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله والذبِّ عن دينه فبعث إلى المسلمين من العرب في كل ناحية من نواحي هؤلاء الكذابين يأمرهم بجهادهم‏.‏ وجاء كتاب مسيلمة إليه فأجابه كما مرّ‏.‏ وجاء ابن أخي طليحة يطلب الموادعة فدعا عليه صلى الله عليه وسلم حتى كان من حكم اللّه فيهم بعد وفاته ما كان‏.‏ مرضه صلى الله عليه وسلم أول ما بدىء به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من ذلك أن الله نعى إليه نفسه بقوله‏:‏ ‏"‏ إذا جاء نَصْرُ الله والفَتْحُ ‏"‏ إلى آخر السورة‏.‏ ثم بدأه الوجع لليلتين بقيتا من صفر وتمادى به وجعه وهو يدور على نسائه حتى استقر به في بيت ميمونة فاستأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة فأذِنّ له وخرج على الناس فخطبهم وتحلَّل منهم وصلى على شهداء أُحُد واستغفر لهم ثم قال لهم‏:‏ إن عبداً من عباد اللهّ خيَّره اللّه بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده‏.‏ وفهمها أبو بكر فبكى فقال‏:‏ بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا فقال‏:‏ على رسلك يا أبا بكر‏.‏ ثم جمع رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم أصحابه فرحّب بهم وعيناه تدمعان ودعا لهم كثيراً وقال‏:‏ أوصيكم بتقوى اللّه وأوصي اللّه بكم وأستخلفه عليكم وأودعكم إليه إِني لكم نذير وبشير ألاَ تعلوا على الله في بلاده وعباده فإنه قال لي ولكم‏:‏ ‏"‏ تلك الدارُ الآخِرَة نجعلها للذين لا يُريدون عًلُوًا في الأرض ولا فسادأ والعاقِبَةُ للمتًقين ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ أليس في جهنم مَثْوىً للمُتَكَبِّرِين ‏"‏‏.‏ ثم سألوه عن مغسله فقال‏:‏ الأدنَوْن من أهلي وسألوه عن الكفن فقال‏:‏ في ثيابي هذه أو بياض مصر أو حلَّة يمانيَّة‏.‏ وسألوه عن الصلاة عليه فقال‏:‏ دعوني على سريري في بيتي على شفير قبري ثم أخرجوا عني ساعة حتى تصلي عليّ الملائكة ثم ادخلوا فوجاً بعد فوج فصلوا وليبدأ رجال أهل بيتي ثم نساؤهم‏.‏ وساألوه عمن يُدْخِلُهُ القبر فقال‏:‏ أهلي‏.‏ ثم قال‏:‏ ائتوني بدواه وقرطاس اكتب لكم كتاباً لا تضلُون بعده فتنازعوا وقال بعضهم إنه يهجر وقال بعضهم أهجر‏.‏ يستفهم‏.‏ ثم ذهبوا يعيدون عليه ثم قال‏:‏ دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه‏.‏ وأوصى بثلاث‏:‏ أن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأن يجيزوا الوفد كما كان يجيزهم وسكت عن الثالثة أو نسيها الراوي‏.‏ وأوصى بالأنصار فقال‏:‏ إنهم كَرِشي وعَيْلَتِي التي أويت إليها فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئتهم فقد أصحبتم يا معشر المهاجرين تزيدون والأنصار لا يزيدون ثم قال‏:‏ سدّوا هذه الأبواب في المسجد إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم امرءاً أفضل يداً عندي في الصحبة من أبي بكر ولو كنت متخذأ خليلأ لاتخذت أبا بكر خليَلاَ ولكن صحبته إِخاء وإيمان حتى يجمعنا اللّه عنده‏.‏ ثم ثقل به الوجع وأغمي عليه فاجتمع إليه نساؤه وبنوه وأهل بيته والعباس وعليّ‏.‏ ثم حضر وقت الصلاة فقال‏:‏ مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس‏.‏ فقالت عائشة‏:‏ إنه رجل أسيف لا يستطيع أن يقوم مقامك فمر عمر فامتنع عمر وصلى أبو بكر‏.‏ ووجد رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم خفَة فخرج فلما أحسّ به أبو بكر تأخر فجذبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقامه مكانه وقرأ من حيث انتهى أبو بكر‏.‏ ثم كان أبو بكر يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي بكر‏.‏ قيل صلوا كذلك سبع عشرة صلاة وكان يدخل يده في القدح وهو في النزع فيمسح وجهه في الماء ويقول‏:‏ اللهم أعِنِّي على سكرات الموت‏.‏ فلما كان يوم الإثنين‏.‏ وهو يوم وفاته خرج إلى صلاة الصبحِ عاصباً رأسه وأبو بكر يصلي فنكص عن صلاته وردّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيده وصلَى قاعداَ على يمينه‏.‏ ثم أقبل على الناس بعد الصلاة فوعظهم وذكَّرهم ولما فرغ من كلامه قال له أبو بكر‏:‏ إني أراك قد أصبحت بنعمة اللّه وفضله كما نحبّ وخرج إلى أهله في السنح‏.‏ ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فاضطجع في حجرة عائشة ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر عليه وفي يده سواك أخضر فنظر إليه وعرفت عائشة أنه يريده قالت‏:‏ فمضغته حتى لان وأعطيته إياه فاستنّ به ثم وضعه‏.‏ ثم ثقل في حجري فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول‏:‏ الرفيق الأعلى من الجنة فعلمت أنه خيّر فاختار‏.‏ وفاته صلى الله عليه وسلم وكانت تقول‏:‏ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري وذلك نصف نهار يوم الاثنين لليلتين من شهر ربيع الأول ودفن من الغد نصف النهار من يوم الثلثاء ونادى النَعِي في الناس بموته وأبو بكر غائب في أهله بالسنح وعمر حاضر فقامِ في الناس فقال‏:‏ إن رجالاً من المنافقين زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأنَّه لم يمت وأنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وليرجعنّ فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم وأقبل أبو بكر وقد بلغه الخبر فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه وقبَّله وقال‏:‏ بأبي أنت وأمي قد ذقت الموتة التي كتب الله عليك ولن يصيبك بعدها موتة أبداً‏.‏ وخرج إلى عمر وهو يتكلم فقال‏:‏ أنصت‏!‏ فأبى وأقبل على الناس يتكلم فجاءوا إليه وتركوا عمر فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ أيها الناس‏!‏ من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا‏:‏ ‏"‏ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ‏"‏ الآية‏.‏ فكانْ الناس لم يعلموا أنَ هذه الآية في المنْزَلِ قال عمر‏:‏ فما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فوقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أنه قد مات‏.‏ وقيل تلا معها ‏"‏ إنك ميت وإنهم ميتون ‏"‏ الآية‏.‏ وبينما هم كذلك إِذ جاء رجل يسعى بخبر الأنصار انهم اجتمعوا في سقيفة بني ساعِدَةَ يبايعوا سَعْدَ بن عَبَادَةَ ويقولون‏:‏ منا أمير ومن قريش أمير فانطلق أبو بكر وعمر وجماعة المهاجرين إليهم وأقام علي والعباس وابناه الفضل وقثم وأسامة بن زيد يتولون تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسله عليّ مسنده إلى ظهره والعباس وابناه يقلِّبونه معه وأسامة وشقران يَصُبَّان الماء وعليّ يدلك من وراء القميص لا يفضي إلى بشرته بعد أن كانوا اختلفوا في تجهيزه‏.‏ ثم أصابتهم سِنَةٌ فخففُونا وسمعوا من وراء البيت أن اغسلوه وعليه ثيابه ففعلوا ثم كفنوه في ثوبين صحارِيًينِ وبُرْدِ حَبْرَة أدرج فيهنّ إدراجاً واستدعوا حفارين أحدهما يلحد والآخر يشق‏.‏ ثم بعث إليهما العباس رجلين وقال‏:‏ اللهم اغفر لرسولك فجاء الني يلحد وهو أبو طلحة زيد بن سهل كان يحفر لأهل المدينة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما فرغوا من جهازه يوم الثلثاء وضع على سريره في بيته‏.‏ واختلفوا أيدفن في مسجده أو بيته‏.‏ فكال أبو بكر‏:‏ سمعته صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ما قبض نبي إِلا يدفن حيث قبض فرفع فراشه الذي قبض عليه وحفر له تحته‏.‏ ودخل الناس يصلون عليه أفواجاً الرجال ثم النساء ثم الصبيان ثم العبيد لا يؤمّ أحدهم أحداً ثم دفن من وسط الليل ليلة الأربعاء‏.‏ وعن عائشة توفي لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول فكملت سنو الهجرة عشر سنين كوامل وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة وقيل خمس وستين سنة وقيل ستين‏.‏ خبر السقيفة ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم إرتاع الحاضرون لفقده حتى ظن بعضهم أنه لم يمت واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة يبايعون سعد بن عبادة وهم يرون أن الأمر لهم يما أووا ا ونصروا وبلغ الخبر إلى أبي بكر وعمر فجاءوا إليهم ومعهم أبو عبيدة ولقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة فأرادوهم على الرجوع وخفضوا عليهم الشأن فأبوا إلا أن يأتوهم فأتوهم في مكانهم ذلك فأعجلوهم عن شأنهم وغلبوهم عليه جماعاً وموعظة‏.‏ وقال أبو بكر‏:‏ نحن أولياء النبي وعشيرته وأحق الناس بأمره ولا ننازع في ذلك وانتم لكم حق السابقة والنصرة فنحن الأمراء وانتم الوزراء‏.‏ وقال الحَبابُ بن المنذر بن الجَموح‏:‏ منا أمير ومنكم أمير وإِن أبوا فاجلوهم يا معشر الأنصار عن البلاد فبأسيافكم دان الناس لهذا الدين‏.‏ وإِن شئتم أعدناها جَذَعةً أنا جُذَيْلُها المُحًكّك وعُذَيْقُهَا المُرَجِّب‏.‏ وقال عُمَرُ‏:‏ إِنَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أوصانا بكم كما تعلمون ولو كنتم الأمراء لأوصاكم بنا‏.‏ ثم وقعت ملاحاة بن عمر والمنذر بن الحباب وأبو عبيدة يخفضهما ويقول‏:‏ اتقوا الله يا معشر الأنصار أنتم أوَّل من نصر وآزر فلا تكونوا أوَل من بدَل وغَيّر‏.‏ فقام بشير بن سعد بن النُّعمانِ بن كَعْبِ بن الخَزْرَج فقال‏:‏ ألا إِن محمداً من قريش وقومه أحق وأولى ونحن وإِن كنا أولى فضل في الجهاد وسابقة في الدين فما أردنا بذلك إلاَ رضى اللّه وطاعة نبيِّه فلا نبتغي به من الدنيا عِوَضاً ولا نستطيل به على الناس‏.‏ وقال الحبَّاب بن المنذر‏:‏ نفست والله عن ابن عمك يا بشير فقال‏:‏ لا واللّه‏!‏ ولكن كرهت أن أنازع قوماً حقهم فأشار أبو بكر إلى عمر وأبو عبيدة فامتنعا وبايعا أبا بكر وسبقهما إِليه بشير بن سعد‏.‏ ثم تناجى الأوس فيما بينهم وكان فيهم أُسَيْدُ بن حُضَيْر أحد النقباء وكرهوا إمارة الخزرج عليهم وذهبوا إلى بيعة أبي بكر فبايعوه‏.‏ وأقبل الناس من كلِ جانب يبايعون أبا بكر‏.‏ وكادوا يطأون سعد بن عَبَادَةَ‏.‏ فقال ناس من أصحابه‏:‏ اتقوا سعداَ ولا تقتلوه فقال عمر‏:‏ اقتلوه قتله الله وتماسكا فقال أبو بكر‏:‏ مهلاً يا عمر الرفق هنا أبلغ فأعرض عمر ثم طلب سعداً في البيعة فأبى وأشار بشير بن سعد بتركه وقال‏:‏ إنما هو رجل واحد فأقام سعد لا يجتمع معهم في الصلاة ولا يفيض معهم في الحديث حتى هلك أبو بكر‏.‏ ونقل الطبريّ أن سعداً بايع يومئذ وفي أخبارهم أنه لحق بالشام فلم يزل هنالك حتى مات وأن الجن قتله‏.‏ وينشدون البيتين الشهيرين وهما‏:‏ نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّد َالخَز رَجِِ سَعْدَ بن عَبَادَهْ فَرَمَيْنَاهُ بِسَ ميْنِ فَلَمْ نُخْطِ فُؤَادَهْ

ميارى 6 - 8 - 2010 04:57 PM

الخبر عن الخلافة الاسلامية في هذه الطبقة وما كان منها من الردة والفتوحات وما حدث بعد ذلك من الفتن والحروب في الاسلام ثم الاتفاق والجماعة
لما قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أمر السقيفة كما قدمناه أجمع المهاجرون والأنصار على بيعة أبي بكر ولم يخالف إِلا سعد إِن صح خلافه فلم يلتفت إليه لشذوذه‏.‏ وكان من أولى ما اعتمده أنفاذ بعث أسامة وقد أرادت العرب إِما القبيلة مستوعبة وإِما بعض منها‏.‏ ونجم النفاق والمسلمون كالغنم في الليلة الممطرة لقلتهم وكثرة عدوهم وإظلام الجو بفقد نبيهم‏.‏ وقف أُسامَةُ بالناس ورغب من عمر التخلف عن هذا البعث والمقام مع أبي بكر شفقة من أن يدهمه أمر‏.‏ وقالت له الأنصار فإن أبى إِلا المضي فليولّ علينا أسنّ من أسامة فأبلغ عمر ذلك كله أبا بكر فقام وقعد وقال‏:‏ لا أترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخرج أو أنفذه‏.‏ ثم خرج حتى أتاهم فأشخصهم وشَيعَهُمْ وأذن لعمر في الشخوص وقال‏:‏ أوصيكم بعشر فاحفظوها عليّ‏:‏ لا تخونوا ولا تَغلُوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الطفل ولا الشيخ ولا المرأة ولا تغرقوا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إِلا للأكل‏.‏ وإذا مررتم بقوم فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فْرغوا أنفسهم له‏.‏ وإذا لقيتم أقوامأ فحصوا أواسط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصايب فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه فإذا قرب عليكم الطعام فاذكروا اسم الله عليه وكلوا‏.‏ ترفعوا باسم الله‏.‏ يا أسامة‏!‏ اصنع ما أمرك به نبيّ اللّه ابدأ ببلاد قُضَاعَةَ ثم أنت آفل ولا تقصر بشيء من أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم ودَعه من الحرف ورجع وقد كان بعث معه من القبائل حول المدينة الذين لهم الهجرة في ديارهم وحبس من بقي منهم فصار مسالح حول قبائلهم ومضى أسامة مغذاً وانتهى لما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم وبعث الجنود في بلاد قُضاعَةَ وأغار على أبنى فسبى وغَنِمَ ورجع لأربعين يوماً وقيل لسبعين ولم يحدث أبو بكر في مغيبه شيئاً وقد جاء الخبر بارتداد العرب عامة وخاصَّةً إِلا قريشاً وثقيفَاَ واستغلظ أمر مًسَيْلِمَةَ واجتمع على طُلَيْحَةَ عوام طَيْء وأسَدٍ وارتَدَت غَطَفَانُ وتوقفت هوازِنُ فأمسكوا الصَدقَةَ وارتد خواص من بني سُلَيْمٍ وكذا سائر الناس بكل مكان‏.‏ وقدمت رسل النبيّ صلى الله عليه وسلم من اليمن واليمامة وبني أسد من الأمراء من كل مكان بانتقاض العرب عامة أو خاصة‏.‏ وحاربهم بالكتب والرسل وانتظر بمصادمتهم قدوم أُسامَةَ فعاجلته عبس وذُبيان ونزلوا في الأبْرَقِ ونزل آخرون بذي القصَةِ ومعهم خَبال من بني أسد ومن انتسب إليهم من بني كِنَانَةَ‏.‏ وبعثوا وفداً إلى أبي بكر نزلوا على وجوه الناس يطلبون الاقتصار على الصلاة دون الزكاة فأبى أبو بكر من ذلك وجعل على أنقاب المدينة علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد ورجع وفد المرتدين وأخبروا قومهم بقلة أهل المدينة فأغاروا على من كان بأنقاب المدينة فبعثوا إلى أبي بكر فخرج في أهل المسجد على النواضح فهربوا والمسلمون في اتباعهم إِلى ذي خَشَب‏.‏ ثم نَفَّروا إِبل المسلمين بِلُعْبَات اتخذوها فنفرت ورجعت بهم وهم لا يملكونها إلى المدينة ولم يصبهم شيء‏.‏ وظن القوم بالمسلمين الوَهْنَ فبعثوا إلى أهل في القِصَّةِ يستقدمونهم‏.‏ ثم خرج أبو بكر في التعبية وعلى ميمنته النعْمَانُ بن مُقَرنَ وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن وعلى الساقة سويد بن مقرن وطلع عليهم مع الفجر واقتتلوا فما ذرّ قرن الشمس إلا وقد هزموهم وغنموا ما معهم من الظَهْرِ وقتل خبال واتبعهم‏:‏ أبو بكر إلى ذي القصَةِ فجهز بها النعمان بن مقرن فقي عدد ورجع إلى المدينة‏.‏ ووثب بنو ذُبيانَ وعبس على من كان فيهم من المسلمين فقتلوهم وفعل ذلك غيرهم من المرتدين وحلف أبو بكر ليقتلن من المشركين مثل من قتلوهم من المسلمين وزيادة‏.‏ واعتزّ المسلمون بوقعة أبي بكر وطرقت المدينة صدقات‏.‏ وقدم أسامة فاستخلفه أبو بكر على المدينة وخرج في نفر إلى ذي خشب وإلى ذي قصَة‏.‏ ثم سار حتى نزل على أهل الرَبذَةِ بالأبْرَقِ وبها عَبْس وذبْيان وبنو بكر من كِنَانَةَ وثَعْلبَةُ بن سعدٍ ومن يليهم من مُرَّةَ فاقتتلوا وانهزم القوم وأقام أبو بكر على الأبرق وحرَم تلك البلاد على بني ذبيان ثم رجع إلى المدينة‏.‏ ردة اليمن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى مكة وبني كنانة عِتابُ بن أُسَيْدٍ وعلى الطائف وأرضها عثمان بن أبي العاص علي المدَرِ ومالك بن عوف على الوَبَرِ وعلى عجز هوازِنَ عِكْرِمَةُ بن أبي جهل وعلى نجران وأرضها عمرو بن حزام على الصلاة وأبو سُفْيَانَ بن حرب على الصدقات وعلى ما بين زَمَعٍ وزُبَيْدَ إلى نجران خالد بن سعيد بن العاص وعلىً همدان كلها عامر بن شمر الهَمْدَانِي وعلى صنعاء فيروز الدَيْلَمِيُ ومسانِده دادويه وقيس بن مكشوح المرادي‏.‏ ورجعوا إليها بعد مقتل الأسود وعلى الجند يعلى بن أمية وعلى مأرب أبو موسى الأشعري وعلى الأشعرببن وعكّ الطاهر بن أبي هالة وعلى حضرموت زياد بن لبيد البياض وعُكاشَةُ بن ثور بن أصفر العوثي وعلى كِندَة المهاجر بن أبي أميَّة‏.‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليه في غزوة تبوك فاسترضته له أم سلمة وولاّه على كندة ومرض فلمِ يصل إليها‏.‏ وأقام زياد بن لبيد ينوب عنه وكان معاذ بن جبل يعلِّم القرآن باليمن يتنقَل على هؤلاء في أعمالهم‏.‏ وثار الأسود في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربه بالرسل وبالكتب فقتله الله وعاد الإسلام في اليمن كما كان فلما بلغه الموت انتَقَضَت اليَمَن وارتدَّ أهلها في جميع النواحي وكانت الغالة من جند العَنَسِي بين نجران وصنعاء لا يأوون إِلى أحد ورجع عمرو بن حِزام إلى المدينة واتبعه خالد بن سعيد‏.‏ وكان عمرو بن معد يَكرِبَ بالجبال حيال فروة بن مسيك وابن مكشوح وتحيل في قتل الأبناء فيروز ودادويه وخشنش والاستبداد بصنعاء‏.‏ وبعث إلى الغالة من جيش الأسود يُغْرِيهِم بالأبناء ويعدهم بالمُظَاهَرَةِ عليهم فجاءوا إليه وخشي الأبناء غائلتهم وفزعوا إليه فأظهر لهم المناصحة وهيأ طعاماً فجمعهم له ليغدر بهم فظهر منهم بدادويه وهرب فيروز وخشنش وخرج قيس في أثرهما فامتنعا بخولان أخوال فيروز وثار قيس بصنعاء وجبى ما حولهما وجمع الغالة من جنود الأسود إليه‏.‏ وكتب فيروز إِلى أبي بكر بالخبر فكتب له بولاية صنعاء وكتب إلى الطاهر بن أبي هالة بإعانته وإلى عكاشَةَ بن ثَوْرٍ بأن يجمع أهل تِهَامَةَ ويقيم بمكانه وكتب إلى ذي الكلاع سُمَيْقَح وذي ظَليمَ حَوْشَبَ وذي تَبانَ شَهِرٍ بإعانة الأبناء وطاعة فيروز وإن الجند يأتيهم‏.‏ وأرسل إليهم قيس بن مكشوح يغريهم بالأبناء فاعتزل الفريقان واتبعت عوامّهم قيس بن مكشوح في شأنه وعمد قيس إلى عيلات الأبناء الذين مع فيروز فَغَّر بهم وأخرجهم من اليمن في البر والبحر وعرضهم للنهب‏.‏ فأرسل فيروز إلى بني عقيل بن ربيعة وإلى عك يستصرخهم فاعترضوا عيال فيروز والأبناء الذين معه فاستنفذوهم وقتلوا من كان معه وجاؤوا إلى فيروز فقاتلوا معه قيس بن مكشوح دون صنعاء فهزموه ورجع إلى المكان الذي كان به مع فالة الأسود العنسي‏.‏ وانضاف قيس إلى عمرو بن معد يكرب وهو مرتدّ منذ تنَبّأ الأسود العنسي وقام حيال فروة بن مسيك وقد كان فروة وفد وأسلم وكذلك قيس واستعمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قيساً على صدقات مراد وكان عمرو قد فارق قومه سعد العشيرة مع بني زبيد وأحلافها وانحاز إليهم فأسلم معهم وكان فيهم‏.‏ فلما انتقض الأسود واتبعه عوام مذحج كان عمرو فيمن اتبعه وأقام فروة وكانت كِنْدة قد ارتدّوا وتابعوا الأسود العَنْسِيِّ بسبب ما وقع بينهم وبن زياد الكِنديّ في أمر فريضة من فرائض الصدقة أطلقها بعض بني عمرو بن معاوية بعد أن وقع عليها ميسم الصدقة غلطاً فقاتلهم زياد وهزمهم فاتفق بنو معاوية على منع الصدقة والردِة إِلا شُراحيلُ بن السمْط وابنه‏.‏ وأشير على زياد بمعاجلتهم قبل أن ينضم إليهم بعض السكاسك وحضرموت وأبْضِعَةَ وجَمَدٍ ومشرح ومخوس وأختهم العمردة‏.‏ وهرب الباقون ورجع زياد بالسَّبِيّ والغنائم ومرّ بالأشعث بن قيس وبني الحرث بن معاوية واستغاث نساء السبيّ فسار الأشعث وتنقَذهم‏.‏ ثم جمع بني معاوية كلِّهم ومن أطاعه من السكاسك وحضرموت وأقام على ردَّته وكان أبو بكر قد حارب أهل الردة أولاً بالكتب والرسل كما حاربهم رسول صلى الله عليه وسلم إلى أن رجع أسامة بن زيد ثم كان أول مصادم فخرج إلىٍ الأبرق واستنفر من لم يرتدّ إِلى من ارتدّ‏.‏ وابتدأ بالمهاجرين والأنصار ثم استنفر كلا على من يليه حتى فرغ من آخر أمور الناس لا يستعين بمرتدّ‏.‏ وكتب إِلى عتاب بن أسيد بمكَّة وعثمان بن أبي العاص بالطائف بركوب من ارتدّ بمن لم يرتد وثبت على الإسلام من أهل عملها‏.‏ وقد كان اجتمع بتهامة وشباب من مدلج وخزاعة فبعث عتاب إليهم ففرَّقهم وقتلهم واجتمع بشنوءة جمع من الأزد وخثعم وبجيلة فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص من فرَّقهم وقتلهم‏.‏ واجتمع بطريق الساحل من تِهَامَةَ جموع من عكٍّ والأشْعَرِيِّينَ فسار إليهم الطاهر بن أبي هالة ومعه مسروق العَكِّي فهزموهم وقتلوهم وأقام بالأجناد ينتظر أمر أبي بكر ومعه مسروق العَكِّي وبعث أهل نجران من بني الأفعى الذين كانوا بها قبل بني الحرث وهم في أربعين ألف مقاتل وجاء وفدهم يطلبون إِمضاء العهد الذي بأيديهم من النبي صلى الله عليه وسلم فأمضاه أبو بكر إلا ما نسخه الوحي بأن لا يترك دينان بأرض العرب‏.‏ ورجعت رسل النبيّ صلى الله عليه وسلم الذين كان بعثهم عند انتقاض الأسود العنسي وهم جرير بن عبد اللّه والأقرع ووبر بن مخنس فرد أبو بكر جريراً ليستنفر من ثبت على الإسلام على من ارتدَّ ويقاتلوا خثعم الذين غضبوا لهدم ذيِ الحليفةِ فيقتلهم ويقيم بنجران فنفذ ما أمره به ولم يمر به أحد إِلا رجال قليل تَتَبَّعَهُم بالقتل وسار إلى نجران‏.‏ وكتب أبو بكر إلى عثمانَ بن أبي العاص أن يضرب البعوث على مخاليف أهل الطائف فضرب على كل مخلافٍ عشرين وأمَّر عليهم أخاه وكتب إلى عِتَابِ بن أبي أُسَيْد أن يضرب على مكَة وعملها خمسمائة بعث وأمَّر عليهم أخاه خالداً وأقاموا ينتظرون‏.‏ ثم أمر المهاجرين أبي أمية بأن يسير إلى اليمن ليصلح من أمره ثم ينفذ إلى عمله وأمره بقتال من بين نجران وأقصى اليمن ففعل ذلك‏.‏ ومر بمكة والطائف فسار معهم خالداً بن أسَيْدَ وعبد الرحمن بن أبي العاص بمن معهما ومر بجرير بن عبد الله وعُكاشَةَ بن ثور فضمَّهما إِليه‏.‏ ثم مرّ بنجران وانضمّ إليه فروة بن مُسَيْكٍ وجاءه عمرو بن معد يكَرِبَ وقيس بن مَكْشُوح فأوثقهما وبعث بهما إلى أبي بكر وسار إلى لقائه‏.‏ فتبعهم بالقتل ولم يؤمنهم فقتلوا بكل سبيل‏.‏ وحضر قيس عند أبي بكر فحظر قتل دادوية ولم يجد أمرأ جلياً في أمره وتاب عمرو بن معد يكرب واستقالا فأقالهما وردَّهما‏.‏ وسار المُهَاجِرُ حتى نزل صنعاء وتتبع ارتداد القبائل فقتل من قدر عليه وقبل توبة من رجع إليه‏.‏ وكتب إلى أبي بكر بدخوله صنعاء‏.‏ فجاءه الجواب بأن يسير إلى كِنْدَة مع عِكْرِمَةَ بن أبي جهل وقد جاءه من ناحية عمان ومعه خلق كثير من مَهْرَةَ والازْدِ وناجِيَةَ وعبد القَيْس وقوم من مالك بن كِنَانَةَ وبني العَبْتَرِ‏.‏ وقدم أبْيَنُ وأقام بها لاجتماع النَخْع وحِمْيَرٍ‏.‏ ثم سار مع المهاجر إلى كندة‏.‏ وكتب زياد إِلى المهاجر يستحثه فلقيه الكتاب بالمفازة بين مأرب وحضرموت‏.‏ فاستخلف عكرمة على الناس وتعجل إلى زياد ونهدوا إلى كندة وعليهم الأشعث بن قيس فهزموهم وقتلوهم وفروا إلى النُجَيْرِ حِصْن له فتحصَنوا فيه مع من استغووه من السكاسك وشذَاد السكون وحضرموت‏.‏ وسدُّوا عليهم الطرق إلا واحدة جاء عكرمة بعدهم فسدَها وقطعوا عنهم المدد وخرجوا مستميتين في بعض الأيام فغلبوهم وأخرجوهم‏.‏ واستأمن الأشْعَثُ إلى عِكْرِمَةَ بما كانت أسماء بنت النُعْمان بن الجَوْنِ تحته فخرج إليه وجاء به إِلى المهاجر وأمنه في أهله وماله وتسعة من قومه على أن يفتح لهم الباب فاقتحمه المسلمون وقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية فكان في السبي ألف امرأة‏.‏ فلما فرغ من النجير دعا بكتاب الأمان من الأشعث وإذا هو قد كتب غرض نفسه في التسعة رجال من أصحابه فأوثقه كتافاً وبعث به إلى أبي بكر ينظر في أمره‏.‏ فقدم السبايا والأسرى فقال له أبو بكر‏:‏ أقتلك قال‏:‏ إِني راودت القوم على عشرة وأتيناهم بالكتاب مختومة فقال أبو بكر‏:‏ إِنما الصلح على من كان في الصحيفة وأما غير ذلك فهو مردود‏.‏ فقال يا أبا بكر‏:‏ احتسب فَيّ وأقلني وأقبل إسلامي وردّ عليّ زوجتي وقد كان تزوَج أم فروة أخت أبي بكر حين قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأخرها إلى أن يرجع فأطلقه أبو بكر وقبل إسلامه وردّ عليه زوجته وقال‏:‏ ليبلغني عنك خير‏.‏ ثم خَلّى على القوم فذهبوا وقسم الأنفال‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 04:58 PM

بعث الجيوش للمرتدة
لما قدم أُسامَةُ ببعث الشام على أبي بكر استخلفه على المدينة ومضى إلى الرَبَذةِ فهزم بني عبس وذبيان وكنانة بالأبرق ورجع إلى المدينة كما قدَّمناه حتى إذا استجمّ جند أسامة وتاب مَنْ حوالي المدينة خرج إلى ذي القِصَّة على بريد من تلقاء نجد عقد فيها أحد عشر لواءً على أحد عشر جنداً لقتال أهل الردَة وأمر كل واحد باستنفار من يليه من المسلمين من كل قبيلة وترك بعضها لحماية البلاد فعقد لخالد بن الوليد وأمره لطليحة وبعده لمالك بن نويرة بالبطاح ولعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة واليمامة‏.‏ ثم أردفه بشرحبيل بن حسنة وقال له‏:‏ إذا فرغت من اليمامة فسر إلى قتال قضاعة والمهاجرين إلى أمية وأمره بالغالة من جنود العنسي باليمن وبإعانة الأبناء على قيس بن مكشوح ومن معه‏.‏ ثم تمضي إلى كندة بحضرموت‏.‏ ولخالد بن سعيد بن العاص وقد كان قدم بعد الوفاة إلى المدينة من اليمن وترك عماله فبعثه إِلى مشارف الشام ولعمرو بن العاص إلى قتال المرتدَّة من قضاعة ولحذيفة بن محصن وعرفجة بن هرثمة‏.‏ فَحُذَيْفَةُ لأهل دُبا وعَرْفَجَة لِمَهْرَةَ وكل واحد منهما أمير في عمله على صاحبه‏.‏ ولطُرَيْفَةَ بن حاحِزَ وبعثه إلى بني سًلَيْم ومن معهم من هوازن ولسويد بن مقرن وبعثه إلى تهامة اليمن وللعلاء بن الحضرمي وبعثه إلى البحرين وكتب إلى الأمراء عهودهم بنص واحد‏:‏ بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا عهد من أبي بكر‏:‏ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام وعهد إِليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله سره وجهره وأمره بالجدّ في أمر اللّه ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إِليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام فإن أجابوه أمسك عنهم وإِن لم يجيبوه شنَّ الغارة عليهم حتى يقروا له‏.‏ ثم يُنبئُهُمْ بالذي عليهم والذي لهم فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم لا يُنْظِرُهُمْ ولا يردّ المسلمين عن قتال عدوّهم‏.‏ فمن أجاب إلى أمر الله عزّ وجل وأقرّ له قَبِلَ ذلك منه وأعانَهُ عليه بالمعروف‏.‏ وإنما يقاتل من كفر باللّه على الإقرار بما جاء من عند اللّه فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل وكان اللّه حسيبه بعد فيما استسر به ومن لم يجب إلى داعية اللّه قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغمة لا يقبل الله من أحد شيئاً مما أعطى إلا الإسلام‏.‏ فمن أجابه وأقر قبل منه وأعانه ومن أبى قاتله فإن أظهره الله عليه عزّ وجلّ قتلهم فيهم كل قتلة بالسلاح والنيران‏.‏ ثم قسم ما أفاء الله عليه إِلا الخمس فإنه يبلغاه ويمنع أصحابه العجلة والفساد وان يدخل فيهم حشواً حتى يعرفهم ويعلم ما هم لئلا يكونوا عيونَاً ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم‏.‏ وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقَّدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول انتهى‏.‏ وكتب إلى كل من بعث إليه الجنود من المرتدّة كتاباً واحداً في نسخ كثيرة على يد رسل تقدَموا بين أيديهم نصه بعد البسملة‏:‏ هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامّة أو خاصّة أقام على الإسلام أو رجع عنه سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع إلى الضلالة والهوى فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إِله إِلا هو وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله وأومن بما جاء به وأكفر من أبي وأجاهده‏.‏ أما بعد‏:‏ ثم قرر أمر النبوّة ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأطنب في الموعظة ثم قال‏:‏ وإِني بعثت إليكم فلانأ في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأمرته أن لا يقاتل أحداًً ولا يقتله حتى يدعوه إِلى داعية اللّه فمن استجاب له واقر وكفّ وعمل صالحاً قَبِلَ منه وأعانه ومن أبى أمرته أن يقاتله على ذلك ثم لا يبقي على أحد منهم هدر عليه فمن اتبعه فهو خير له ومن تركه فلن يعجز الله‏.‏ وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم والداعية للأذان فإذا أذّن المسلمون فأذنوا كفُوا عنهم وإن لم يؤذّنوا فاسألوهم بما عليهم فإن أبوا عاجلوهم وإن أقرّوا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم انتهى‏.‏ فنفذت الرسل بالكتب أمام الجنود وخرجت الأمراء ومعهم العهود وكان أوّل ما بدأ به خالد طليحة وبني أسد‏.‏ خبر طليحة كان طلَيْحَة قد ارتدّ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كاهنأ فادعى النبوْة وأتبعه أفاريق من بني إِسرائيل ونزل سُمَيْراء‏.‏ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ضِرارَ بن الأزْوَرِ إلى قتاله مع جماعة فاجتمع عليهم المسلمون وهمّ ضرار بمناجزته فأتى الخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم فاستطار أمر طليحة واجتمعت إليه غَطَفان وهَوازِنُ وَطَيْءٌ وفر ضِرارُ ومن معه من العمال إلى المدينة وقدمت وفودهم على أبي بكر في الموادعة على ترك الزكاة فأبى من ذلك وخرج كما قدَمناه إلى غطفان وأوقع بهم بذي القصَّة فانضموا بعد الهزيمة إلى طليحة وبني أسد بالبزاخة وكذلك فعلت طيء وأقامت بنو عامر وهوازن ينتظرون صَمَدَ خالد إلى طليحة ومعه عُيَيْنَة بن حصن على بَزاخَةَ من مياه بني أسد وأظهر أنه يقصد خيبر ثم ينزل إلى سَلْمَى واجأ فيبدأ بطيء‏.‏ وكان عديّ بن حاتم قد خرج معه في الجيش فقال له‏:‏ أنا اجمع لك قبائل طيء يصحبونك إلى عدوِّك وسار إليهم فجاء بهم وبعث خالد بن عُكاشَةَ بن مُحْصِنٍ وثابت بن أقرم من الأنصار طليعةً ولقيهما طليحة وأخوه فقتلاهما ومرِّ بهما المسلمون‏.‏ فعظم عليهم قتلهما‏.‏ ثم عبى خالد كتائبه وثابت بن قيس علي الأنصار وعدي بن حاتم على طيء ولقي القوم فقاتلهم وعيينة بن حصن مع طليحة فيه سبعمائة من غطفان واشتَدّ المجال بينهم وطليحة في عباءة يتكذَّب لهم في انتظار الوحي فجاء عيينة بعدما ضجر من القتال وقال‏:‏ هل جاءّك أحد بعد قال لا ثم راجعه ثانية ثم ثالثة فقال‏:‏ جاء‏.‏ وقاله إن لك رحى كرحاه وحديثاً لا تنساه‏.‏ فقال عيينة‏:‏ يا بني فزارة الرجل كذاب وانصرف‏.‏ فانهزموا وقتل من قتل وأسْلَمَ الناسُ طُلَيْحَةَ فوثب على فرسه واحتقب امرأته فنجا بها إِلى الشام ونزل في كَلْب من قُضَاعَةَ على النَقْع حتى أسلمت أسَدٌ وغَطَفَاَنُ فأسلم ثم خرج مُعْتَمِراً أيام عُمَرَ ولًقيه بالمدينة فبايعه وبعثه في عساكر الشام فأبلى في الفتح ولم يصب من عيالات بني أسد في واقعة بزاخة شيء‏.‏ لأنهم كانوا أخرجوهم في الحصون عند واسط وأسلموا خشية على ذراريهم‏.‏ خبر هوازن وسليم وبني عامر كان بنو عامر ينتظرون أمر طليحة وما تصنع أسد وغَطَفَانُ حتى أحيط بهم وكان قرة بن هُبَيْرَةَ في كَعْب وعَلْقَمَةُ بن عِلافَةَ في كلاب وكان علقمة قد ارتد بعد فتح الطائف‏.‏ ولما قبض النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قومه بلَّغ أبا بكر خبره فبعث إليه سَرية مع القعْقَاع بن عمرو من بني تميم فأعار عليهم فأفلت وجاء بأهله وولده وقومه فأسلموا‏.‏ وكان قُرّة بن هُبَيْرَةَ قد لقي عمرو بن العاص منصرفه من عمان بعد الوفاة وأضافه وقال له‏:‏ اتركوا الزكاة فإن العرب لا تدين لكم بالأتاوَة فغضب لها عمرو وأسمعه وأبلغها أبا بكر فلما أوقع خالد ببني أسد وغطفان وكانت هوازن وسليم وعامر ينتظرون أمرهم فجاءوا إِلى خالد وأسلموا وقبل منهم الإسلام إِلا من عدا على أحد من المسلمين أيام الردَة فإنه تتبعهم فأحرق وقحط ورضخ بالحجارة ورمى من رؤوس الجبال‏.‏ ولما فرغ من أمر بني عامر أوثق عيينة بن حصين وقرَّة بن ثم اجتمعت قبائل غطفان إلى سلمى بنت مالك بن حذيفة بن بدر بن ظَفْر في الحَوْأب فنزلوا إليها وتذمروا وكانت سلمى هذه قد سبيت قبل واعتقتها عائشة وقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم يومأ وقد دخل عليها وهي في نسوة ببيت عائشة فقال‏:‏ إِن إِحداكنَّ تستبيح كلاب الحوأب وفعلت ذلك سلمى حين ارتدت‏.‏ واجتمعت إليها الفلال من غطفان وهوازن وسليم وطيء وأسد وبلغ ذلك خالداً وهو يتبع الثأر ويأخذ الصدقات فسار إليهم وقاتلهم وسلمى واقفة على جملها حتى عُقِدَ وقتِلَتْ وقتل حول هودجاها مائة رجل فانهزموا وبعث خالد بالفتح على أثره بعده بعشرين ليلة‏.‏ وأما بنو سُلَيْم فكان الفُجَاءَةُ بن عبد ياليل قدم على أبي بكر ليستعينه بسلاح مدَعياً إسلامه ويضمن له قتال أهل الردة فأعطاه وأمره وخرج إلى الجون وارتدّ وبعث نَجيَّةَ بن أبي المًثَنَى من بني الشريد وأمره بشنِّ الغارة على المسلمين في سليم وهوازن فبعث أبو بكر إلى طريفة بن حاجز قائده على جرهم وأعانه بعبد الله بن قيس الحاسبي فنهضا إليه ولقياه فقتل تحته وهرب الفجاءة فلحقه طريفة فأسره وجاء به إلى أبي بكر فأوقد له في مصلى المدينة حطباً ثم رمى به في النار مقموطاًً وفاءت بنو سليم كلُّهم وفاء معهم أبو شجرة بن عبد العزَّى أبو الخنساء وكان فيمن ارتدّ‏.‏ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله في بني تميم الزبْرقان بن بدر على الربابِ وعَوْفٍ والأبناءِ وقيس بن عاصم على المقاعِس والبُطونِ وصَفْوَانُ بن صفوانٍ وسَبْرَة بن عمرو على بني عمرو ووكيع بن مالك على بني مالك ومالك بن نُوَيْرَةَ على بني حنظلة‏.‏ فجاء صفوان إلى أبي بكر حين بلغته الوفاة بصدقات بنىِ عمرو وجاء الزبرقان بصدقات أصحابه وخالفه قيس بن عاصم في المقاعس والبطون لأنه كان ينتظره‏.‏ وبقي من أسلم منهم متشاغَلاَ بمن تربص أو ارتاب‏.‏ وبينما هم على ذلك فجأتهم سجاح بنت الحارث بن سويد من بني عقفان أحد بطون تغلب وكانت تنبأت بعد الوفاة واتبعها الهُذَيْل بن عمران من بني تغلب وعقبة بن هلال في النمر والسليل بن قيس في شيبان وزياد بن بلال‏.‏ وكان الهذيل نصرانياً فترك دينه إلى دينها وأقبلت من الجزيرة في هذه الجموع قاصدة المدينة لتغزو أبا بكر والمسلمين وانتهت إلى الحرف فدهم بني تميم أمر عظيم لما كانوا عليه من اختلاف الكلمة فوادعها مالك بن نويرة وثناها عن الغزو وحرضها على بني تميم ففرّوا أمامها ورجع إليها وكيع بن مالك واجتمعت الربابُ وضُبًة فهزموا أصحاب سجاح وأسروا منهم‏.‏ ثم اصطلحوا وسارت سجاج فيمن معها تريد المدينة فبلغت النِبَاجَ فاعترضهم بنو النجَيْم فيمن تأشَّبَ إليهم من بني عمرو وأغارو عليهم فأسروا الهذيل وعقبة ثم تحاجزوا على أن تَطلق أسراهم ويرجعوا ولا يجتازوا عليهم ورجع عن سجاح مالك بن نويرهَ ووكيع بن مالك إلى قومهم ويئست سجاح وأصحابها من الجواز عليهم ونهدت إلى بني حنيفة‏.‏ وسار معها من تميم الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم وغيلان بن حريث وشبت بن رَبَعي ونظراؤهم‏.‏ وصانعها مسَيْلِمَةُ بما كان فيه من مزاحمة ثُمامَةَ بن إِثال له في اليمامة‏.‏ وزحف شَرْحَبِيلُ بن حَسْنَةَ والمسلمون إِليه فأهدى لها واستأمنها وكانت نصرانية أخذت الدين من نصارى تغلب‏.‏ فقال لها مسيلمة‏:‏ نصف الأرض لنا ونصف الأرض لقريش لكنهم لم يعدلوا فقد جعلت نصفهم لك ويقال إِنها جاءت إِليِه واستأمنته وخرج إليها من الحصن إِلى قَبة ضربت لها بعد أن جمرها فدخل إِليها وتحرك الحرث حوالي القَبّة وسجع لها وسجعت له من أسجاع الفرية‏.‏ فشهدت له بالنبوَة وخطبها لنفسه فتزوجته وأقامت عنده ثلاثاً ورجعت إلى قومها فعذلوها في التزويج على غير صداق فرجعت إليه فقال لها‏:‏ نادي في أصحابك إني وضعت عنهم صلاة الفجر والعتمة مما فرض عليهم محمد وصالحته على أن يحمل لها النصف من غلات اليمامة فأخذته وسألت أن يسلِّفها النصف للعام القابل ودفعت الهذيل وعقَّة لقبضه فهمَّ على ذلك وإذا بخالد بن الوليد وعساكره قد أقبلوا فانفَضّت جموعهم وافترقوا ولحقت سجاح بالجزيرة فلم تزل في بني تغلب حتى نقل معاوية عام الجماعة بني عقفان عشيرتها إلى الكوفة وأسلمت حينئذ سجاح وحسن إِسلامها‏.‏ ولما افترق وفد الزبرقان والأقرع على أبي بكر وقالا‏:‏ اجعل لنا خراج البحرين ونحن نضمن لك أمرها ففعل وكتب لهم بذلك‏.‏ وكان طلحة بن عبيد اللّه يتردد بينهم في ذلك فجاء إلى عمر ليشهد في الكتاب فمزَّقه ومحاه وغضب طلحة وقال لأبي بكر رضي الله عنه‏:‏ أنت الأمير أم عمر رضي الله عنه‏.‏ فقال عمر‏:‏ غير أن الطاعة لي‏!‏ وشهد الأقرع والزبرقان مع خالد اليمامة والمشاهد كلها‏.‏ ثم مضى الأقرع مع شرحبيل إلى دومة‏.‏ خبر البطاح ومالك بن نويرهّ لما انصرفت سجاح إلى الجزيرة وراجع بنو تميم الإسلام أقام مالك بن نويرة متحيِّراً في أمره واجتمع إِليه من تميم بنو حنظلة واجتمعوا بالبطاح فسار إِليهم خالد بعد أن تقاعد عنه الأنصار يسألونه انتظار كتاب أبي بكر فأبى إِلاَّ انتهاز الفرصة من هؤلاء فرجعوا إِلى اتباعه ولحقوا به‏.‏ وكان مالك بن نويرة لما تردد في أمره فرق بني حنظلة في أموالهم ونهاهم عن القتال ورجع إلى منزله‏.‏ ولما قدم خالد بعث السرايا يدعون إِلى الإسلام ويأتون بمن لم يُحب وأن يقتلوه فجاءوا بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع واختلفت السريّة فيهم فشهد أبو قتادة أنهم أذَنوا وصلّوا‏.‏ فحبسهم عند ضرار بن الأزور وكانت ليلة ممطرة فنادى مناديه أن ادفئوا أسراكم وكانت في لغته كناية عن القتل فبادر ضرار بقتلهم وكان كنانيًّا‏.‏ وسمع خالد الداعية فخرج متأسفأ وقد فرغوا منهم‏.‏ وأنكر عليه أبو قتادة فزجره خالد فغضب ولحق بأبي بكر ويقال إنهم لما جاءوا بهم إِلى خالد خاطبه مالك بقوله‏:‏ فعل صاحبكم شأن صاحبكم فقال له خالد‏:‏ أوليس لك بصاحب ثم قتله وأصحابه كلهم‏.‏ ثم قدم خالد علىِ أبي بكَر وأشار عمر أن يقيد منه بمالك بن نويرة أو يعزله فأبى وقال‏:‏ ما كنت أشيم سيفاً سله الله على الكافرين وودى مالكاً وأصحابه وردَ خالداً إلى عمله‏.‏ خبر مسيلمة واليمامة لما بعث أبو بكر رضي الله عنه عكرمة بن أبي جهل إِلى مسيلمة الكذاب واتبعه شرحبيل استعجل عكرمة فانهزم وكتب إلى أبي بكر بالخبر فكتب إِليه لا ترجع فتوهن الناس وامض إلى حذيفة وعرفجة فقاتلوا مَهَرَةَ وأهل عُمان فإذا فرغتم فامض أنت وجنودك واستنفروا من مررتم عليه حتى تلقوا المهاجر بن أمية باليمن وحضرموت‏.‏ وكتب إِلى شرحبيل أن يمضي إلى خالد فإذا فرغتم فامض أنت إلى قضاعة فكن مع عمرو بن العاص على من ارتَدّ منهم‏.‏ ولما فرغ خالد من البطاح ورضي عنه أبو بكر بعثه نحو مسيلمة وأوعب معه الناس وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد وعلى الأنصار ثابت بن قيس والبرًاء بن عازب‏.‏ وتعجَّل خالد إِلى البطاح وانتظر البعوث حتى قدمت عليه فنهض إلى اليمامة وبنو حنيفة يومئذ كثير يقال أربعون ألف مقاتل متفرقين في قراها وحجرها‏.‏ وتعجَّل شرحبيل كما فعل عكرمة بقتال مسيلمة فنكب وجاء خالد فلامه على ذلك‏.‏ ثم في خليط من عند أبي بكر مددأ لخالد ليكون ردءأ له من خلفه ففرًت جموع كانت تجمَّعت هنالك من فلال سجاج وكان مسيلمة قد جعل لهم جعلاً‏.‏ وكان الرجالُ بن عَنْفَوَةَ من أشراف بني حنيفة شهد لمسيلمة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه معه في الأمر لأن الرجال كان قد هاجر وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وتفقَّه في الدين‏.‏ فلما ارتد مسيلمة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم معلِّماً لأهل اليمامة ومشغباً على مسيلمة فكان أعظم فتنة على بني حنيفة منه‏.‏ واتبع مُسَيْلِمَةَ على شأنه وشهد له وكان يُؤَذَن لمسيلمة ويشهد له بالرسالة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فعظم شأنه فيهم‏.‏ وكان مسيلمة ينتهي إلى أمره وكان مسيلمة يَسْجَعُ لهم بأسجاع كثيرة يزعم أنها قرآن يأتيه ويأتي بمخارق يزعم أنها معجزات فيقع منها ضد المقصودً‏.‏ ولما بلغ مسيلمة وبني حنيفة دنو خالد خرجوا وعسكروا فيِ منتهى ريف اليمن واستنفروا الناس فنفروا إليهم وأقبل خالد ولقيه شَرْحَبِيلُ بن حَسَنةَ فجعله على مقدمته حتى إذا كان على ليلة من القوم هجموا على مجاعة في سرية أربعين أو ستين راجعين من بلاد بني عامر وبني تميم يثأرون فيهم فوجدوهم دون ثنية اليمامَةِ فقتلوهم أجمعين‏.‏ وقيل له استبقِ مجاعة بن مرارة إن كنت تريد اليمامة فاستبقى‏.‏ ثم سار خالد ونازل بني حنيفة ومسَيْلِمَةَ والرَّجَّالُ على مقدمة مسيلمة واشتدت الحرب وانكشف المسلمون حتى دخل بنو حنيفة خِباء خالد ومجاعة بها أسير مع أم متمم زوجة خالد فدافعهم عنها مجاعة وقالت‏:‏ نعمت الحرة‏.‏ ثم تراجع المسلمون وكرّوا على بني حنيفة‏.‏ فقال المحكم بن الطفيل‏:‏ ادخلوا الحديقة يا بني حنيفة فإني أمنع أدباركم فقاتل ساعة ثم قتله عبد الرحمن بن أبي بكر ثم تذامر المسلمون وقاتل ثابت بن قيس فقتل ثم زيد بن الخطاب ثم أبو ِحذيفة ثم سالم مولاه ثم البَرَّاءُ أخو أنس بن مالك‏.‏ وكان تأخذه عند الحرب رعدةً حتى ينتفض ويقعد عليه الرجال حتى يبول‏.‏ ثم يثور كالأسَدِ فقاتل وفعل الأفاعيل‏.‏ ثم هزم الله العدوّ وألجأهم المسلمون إلى الحديقة وفيها مسيلمة‏.‏ فقال البراء‏:‏ القوني عليهم من أعلى الجِدار فاقتحم وقاتلهم من أعلى الحديقة ودخل المسلمون عليهم‏.‏ وقتل مسيلمة وهو مزبد متساند لا يعقل من الغيظ‏.‏ وكان زيد بن الخَطًاب قتل الرجال بن عَنْفَوَةَ‏.‏ وكان خالد لما نزل بني حنيفة ومسيلمة ودارت الرَّحى عليه طلب البراز فقتل جماعة ثم دعا مسيلمة للبراز والكلام فحادثه فحاول فيه غِرةَ وشيطانه يوسوس إليه‏.‏ ثم ركبه خالد فأرهقه وأدبروا وزالوا عن مراكزهم‏.‏ وركبهم المسلمون فانهزموا‏.‏ وتطاير الناس عن مسيلمة بعد أن قالوا‏:‏ أين ما كنت تعدنا‏.‏ فقال‏:‏ قاتلوا على أحسابكم‏.‏ وأتاه وَحْشِي فرماه بحربة فقتل‏.‏ واقتحم الناس عليه حديقة الموت من حيطانها وأبوابها فقتل فيها سبعة عشر ألف مقاتل من بني حنيفة‏.‏ وجاء خالد بمجاعة ووقفه على القتلى ليريه مسلمة فمر بِمُحًكم فقال‏:‏ هوذا‏!‏ فقال مجاعة‏:‏ هذا والله خير منه‏.‏ ثم أراهه مسيلمة وهو رجل ذميم أُخَينس فقال خالد‏:‏ هذا الذي فعل فيكم ما فعل فقال مجاعة‏:‏ قد كان ذلك وانه والله ما جاءك إِلا سرعان الناس وإِن جماهيرهم في الحصون فهلمّ أصالحك على قومي‏.‏ وقد كان خالد التقط من دون الحصون ما وجد من مال ونساء وصبيان ونادى بالنزول عليها‏.‏ فلما قال له مجاعة ذلك قال له أصالحك على ما دون النفوس وأنطلق يشاوره‏.‏ فأفرغ السلاح على النساء ووقفن بالسور ثم رجع إليه وقال‏:‏ أبوا أن يجيزوا ذلك‏.‏ ونظر خالد إلى رؤوس الحصون وقد اسودت والمسلمون قد نهكتهم الحرب وقد قتل من الأنصار ما ينيف على الثلاثمائة والستين ومن المهاجرين مثلها ومن التابعين لهم مثلها أو يزيدون وقد فشت الجراحات فيمن بقي فجنح إلى السلم فصالحه على الصفراء والبيضاء ونصف السبِي والحَلْقَةِ وحائط ومزرعة من كل قرية فأبوا فصالحهم على الربع فصالحوه وفتحت الحصون فلم يجد فيها إِلا النساء والصبيان‏.‏ فقال خالد‏:‏ خدعتني يا مجاعة فقال‏:‏ قومي‏!‏ ولم استطع إلا ما صنعت فعقد لهم وخيرَهم ثلاثاً‏.‏ فقال له سَلَمَةُ بن عُمَيْرٍ لا نقبل صلحأ‏!‏ ونعتصم بالحصون ونبعث إلى أهل القرى فالطعام كثير والشتاء قد حضر فتشاءم مجاعة برأيه وقال لهم‏:‏ لولا أني خدعت القوم ما أجابوا إلى هذا فخرج معه سبعة من وجوه القوم وصالحوا خالدأ وكتب لهم وخرجوا إلى خالد للبيعة والبراءة مما كانوا عليه‏.‏ وقد أضمر سلمة بن عمير الفتك بخالد فطرده حين وقعت عينه عليه واطلع أصحابه على عذره فأوثقوه وحبسوه ثم أفلت فأتبعوه وقتلوه‏.‏ وكان أبو بكر بعث إلى خالد مع سلمة بن وقش إن أظفره الله أن يقتل من جرت عليه الموسى من بني حنيفة فوجده قد صالحهم فأتم عقده معهم‏.‏ ووفى لهم وبعث وفداً منهم إِلى أبي بكر بإسلامهم فقبلهم وسألهم عن أسجاع مسيلمة فقصُوها عليه فقال‏:‏ سبحان اللّه هذا الكلام ما خرج إلا من إل أو بر فأين يذهب بكم عن أحلامكم وردَّهم اللّه إلى قومهم‏.‏ لما فرغ خالد من اليمامة ارتحل إلى وادٍ من أوديتها وكانت عبد القيس وبكرِ بن وائل وغيرهم من أحياء ربيعة قد ارتدّوا بعد الوفاة وكذلك المنذر بن ساوى من بعدها بقليل‏.‏ فأما عبد القيس فردَّهم الجارود بن المُعًلّى وكان قد وفد وأسلم ودعا قومه فأسلموا فلما بلغهم خبر الوفاة ارتدوا وقالوا‏:‏ لو كان نبياً ما مات‏.‏ فقال لهم الجارود‏:‏ تعلمون أن لله أنبياء من قبله لم تروهم وتعلمون أنًهًم ماتوا ومحمد صلى الله عليه وسلم قد مات‏.‏ ثم تشهد فتشهدوا معه وثبتوا على إسلامهم وخلُّوا بين سائر ربيعة وبين المنذر بن ساوه والمسلمين‏.‏ وقال ابن اسحاق‏:‏ كان أبو بكر بعث العَلاءَ بن الحَضْرَمِيّ إلى المنذر وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولاه فلما كانت الوفاة وارتدّت ربيعة ونصبوا المنذر بن النعمان بن المنذر وكان يسمَّى المغرور فأقاموه مَلِكاً كما كان قومه بالحيرة وثبت الجارود وعبد القيس على الإسلام‏.‏ واستمر بكر بن وائل على الردَّة وخرج الحطْمُ بن ربيعة أخو بني قيس بن ثعلبة حتى نزل بين القطيف وهَجَر وبعث إلى دارين فأقاموا فجعل عبد القيس بينه وبينهم وأرسل إلى المغرور بن سويد أخي النعمان بن المنذر وبعثه إلى جواثى وقال‏:‏ أثبت فإن ظفرت ملَّكتك بالبحرين حتى تكون كالنُعْمان بالحيرة فحاصره المسلمون بجواثى‏.‏ وجاء العلاء بن الحضرمي لقتال أهل الردة بالبحرين ومر باليمامة فاستنفر ثمامة بن أثال في مسلمة بني حنيفة وكان متردداً وألحقَ عِكْرِمَةَ بِعُمانَ ومَهْرَةَ وأمر شرحبيل بالمقام حيث هو يغاور مع عمرو بن العاص أهل الردَة من قُضاعَة عمرو يغاور سعداً وبلق وشرحبيل يغاور كلباً ولفها‏.‏ ثم مر ببلاد بني تميم فاستقبله بنو الربابِ وبنو عُمَرَ ومالك بن نويرَة بالبِطاح يقاتلهم ووكيع بن مالك يواقف عمرو بن العاص وقيس بن عاصم من المقاعس والبطون يواقفون الزبْرَقَانَ بن بدر والأبناء وعَوْفٍ وقد أطاعوه على الإسلام وحنظلة متوقفون‏.‏ فلما رأى قيس بن عاصم يلقى الرباب وعمرو العلاء وقدم وجاء بالصدقات إِلى العلاء وخرج معه لقتال البحرين فسار مع العلاء من بني تميم مثل عسكره ونزل هجر وبعث إلى الجارود أن ينازل بعبد القيس الحَطْمَ وقومه مما يليه‏.‏ فاجتمع المشركون إلى الحطم إلا أهل دارين والمسلمون إلى العلاء وخندقوا واقتتلوا وسمعوا في بعض الليالي ضوضاءَ شديدة أي جلبة وصياحأ وبعثوا من يأتيهم بخبرها فجاءهم بأن القوم سُكارى فبيتوهم ووضعوا السيوف فيهم وأقتحموا الخندق وفرً القوم هراباً فمتمرد وناج ومقتول ومأسور‏.‏ وقتل قيس بن عاصم الحطم بن ربيعة ولحق جابر بن بجير وضربه فقطع عصبه ومات وأسر عفيف بن المنذر المغرور بن سويد وقال للعلاء‏:‏ أجرني فقال له العلاء‏:‏ ويقال إن المغرور اسمه وليس هو بلقب‏.‏ وقتل المغرور بن سويد بن المنذر وقسم الأنفال بين الناس وأعطى عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمامة بن أثال من أسلاب القوم وثيابهم وقصد الفلال إلى دارين وركبوا السفين إليها ورجع الأخرون إلى قومهم‏.‏ فكتب العلاء إلى من أقام على إسلامه من بكر بن وائل بالقعود لأهل الردة في السبل وإلى خصفة التميمي والمثنى بن حارثة بمثل ذلك فرجعوا إلى دارين وجمعهم الله بها‏.‏ ثم لما جاءته كتب بكر بن وائل وعلم حسن إسلامهم أمر أن يؤتى من خلفه على أهل البحرين‏.‏ ثم ندب الناس إلى دارين أن يستعرضوا البحر فارتحلوا واقتحموا البحر على الظهر وكلهم يدعوا‏:‏ يا أرحم الراحمين يا كريم يا حليم يا أحد يا صمد يا محيي الموتى يا حي يا قيُوم لا إِله إِلاَ أنت يا ربنا‏.‏ ثم أجازوا الخليج يمشون على مثل رمل مشياً فوقها ما يغمر أخفاف الإبل في مسيرة يوم وليلة فلقوا العدوَّ واقتتلوا وما تركوا بدارين مخبرأ وسبوا الذراري واستاقوا الأموال وبلغ نفل الفارس ستَّة آلاف والراجل ألفين‏.‏ ورجع العلاء إلى البحرين وضرب الإسلام بِجِرانه‏.‏ ثم أرجف المرجفون بأن أبا شيبان وثعلبة والحر قد جمعهم مفروق الشيباني على الردة‏.‏ فوثق العلاء بأن اللهازم تفارقهم وكانوا مجمعين على نصره وأقبل العلاء بالناس فرجعوا إلى من أحب المقام وقفل ثمامة بن أثال فيهم ومروا بقيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل فرأوا خميصة الحطم عليه فقالوا‏:‏ هو قتله فقال‏:‏ لم أقتله ولكن الأمير نفلنيها فلم يقبلوا وقتلوه‏.‏ وكتب العلاء إلى أبي بكر بهزيمة أهل الخندق وقتل الحطم قتله زيد ومسمِع‏.‏ فكتب إليه أبو بكر أن بلغك عن بني ثعلبة ما خاض فيه المرجفون فأبعث إليهم جنداً وأوصهم وشرد بهم من خلفهم‏.‏ ردة أهل عمان ومهرة واليمن نبغ بعُمانَ بعد الوفاة رجل من الأزْدِ يقال له لقيط بن مالك الأزدي يسامى في الجاهلية الجُلَنْدِي فدفعِ عنها الملكين اللذين كانا بها وهما جَيْفَرً وعًبّادُ ابنا الجلندي فارتد وادعى النبَوة وتغلب على عمان ودفع عنها الملكين وبعث جيفر إِلى أبي بكر بالخبر فبعث أبو بكر حذَيْفَةَ بن مُحْصِن من حِمْيَرٍ وعَرْفَجَةَ البارِقّي‏.‏ حُذَيْفَةُ إِلى عُمان وعَرْفَجَةُ إلى مَهْرَةَ وإن اجتمعا فالأمير صاحب العمل وأمرهما أن يكاتبا جيفر أو يأخذا برأيه‏.‏ وقد كان بعث عِكْرِمَةَ إلى اليمامة ومسَيْلِمَةَ ووقعت عليه النكبة كما مرّ فأمره بالمسير إلى حذيفة وعرفجة ليقاتل معهما عمان ومهرة ويتوجَّه إذا فرغ من ذلك إلى اليمن‏.‏ فمضى عكرمةُ فلحق بهما قبل أن يصلا إلى عُمان وقد عهد إِليهم أبو بكر أن ينتهوا إلى رأي عكرمة فراسلوا جَيفَرَ وعباداً وبلغ لقيطاً مجيء الجيوش فعسكر بمدينة دبا وعسكر جيفر وعباد بصحار‏.‏ واستقدموا عكرمة وحذيفة وعرفجة وكاتبوا رؤساء الدين لقيط فقدموا بجيوشهم ثم صمدوا إلى لقيط وأصحابه فقاتلوهم وقد أقام لقيط عياله وراء صفوفه وهم المسلمون بالهزيمة حتى جاءهم مددهم من بني ناجية وعليهم الخريتُ بن راشد ومن عبد القيس وعليهما سيحان بن صوحان فانهزم العدو المسلمون وقتلوا نحواً من عشرة آلاف وسبوا الذراري والنساء وتم الفتح وقسموا الأنفال وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة وكان الخمس ثمانمائة رأس‏.‏ وأقام حُذَيْفَةُ بِعُمان وسار عكْرِمَةُ إلى مَهْرَةَ وقد استنفر أهل عمان ومن حولها من ناحية الأزد وعبد القيس وبني سعيد من تميم فاقتحم على مهرة بلادهم وهم على فرقتين يتنازعان الرياسة فأجابه أحد الفريقين وسار إلى الآخرين فهزمهم وقتل رئيسهم ثم أصابوا منهم ألفي نجيبة‏.‏ وأفاد المسلمون قوة بغنيمتهم وأجاب أهل تلك النواحي الإسلام وهم أهل نجد والروضة والشاطىء والجزائر والمُرِّو واللبان وأهل جيرة وظهور الشمر والفرات وذات الخيم فاجتمعوا كلهم على الإسلام‏.‏ وبعث إلى أبي بكر بذلك البشير وسار هو إلى اليمن للقاء المهاجر بن أبي أمية كما عهد إليه أبو بكر‏.‏ ولما فرغ خالد من أمر اليمامة بعث إِليه أبو بكر في المحرّم من سنة اثنتي عشرة فأمره بالمسير إلى العراق ومرج الهند وهي الأيلة منتهى بحر فارس في جهة الشمال البصرة فيتألف أهل فارس ومن في مملكتهم من الأمم‏.‏ فسار من اليمامة وقيل قدم أي بكر ثم سار من المدينة وانتهى إلى قرية بالسواد وهي بانِقْيا وباروسما واللَيْس وَكانت لابن صَلوبا فصالحهم على عشرة آلاف دينار فقبضها خالد ثم سار إِلى الحيرة وخرج إليه أشرافها مع إياس بن قُبَيْصَةَ الطائي الأمير عليها بعد النُعْمان بن المنذر فدعاعم الإسلام أو الجزية أو المناجزة‏.‏ فصالحوه على تسعين ألف درهم وقيل إنما أمره أبو أن يبدأ بالأبَلَةِ ويدخل من أسفل العراق‏.‏ وكتب إلى عِيَاض بن غَنْم أن يبدأ بالمضيخ ويدخل من أعلى العراق وأمر خالداً بالقعقاع بن عمرو التيمي وعياضاً بن عوف الحميري‏.‏ وقد كان المُثَنَّى بن حارِثَةَ الشَّيْبَاني استأذن أبا بكر في غزو العراق فأذن له فكان يغزوهمِ قبل قدوم خالد‏.‏ فكتب أبو بكر إليه وإلى حَرْمَلَةَ ومدعور وسلمان أن يلحقوا بخالد بالأبلَة وكانوا في ثمانية آلاف فارس ومع خالد عشرة آلاف‏.‏ فسار خالد في أول مقدمته المثنى وبعده عدي بن حاتم‏.‏ وجاء هو بعدهما على مسيرة يوم بين كل عسكر وواعدهما الحُفَيْر ليجتمعوا به ويصادموا عدوّهم وكان صاحب ذلك المرْج من أساورة الفرس اسمه هرمز وكان يحارب العرب في البرّ والهند في البحر‏.‏ فكتب إلى اردشير كسرى بالخبر وتعجل هو إلى الكواظم في سرعان أصحابه حتى نزل الحفير وجعل على مَجنَبَتَيه قَباذَ وانوشجان يناسبانه في اردشير الأكبر واقترنوا بالسلاسل لئلا يفروا‏.‏ وأروا خالدأ أنهم سبقوا إلى الحفير فمال إلى كاظمة فسبقه هُرْمزُ إليها أيضاً‏.‏ وكان للعرب على هرمز حنق لسوء مجاورته‏.‏ وقدم خالد فنزل قبالتهم على غير ماء وقال‏:‏ ليعيدن الماء فإن الله جاعله لأصبر الفريقين‏.‏ ثم أرسل اللّه سحابة فاغدرت من ورائهم‏.‏ ولما حطوا أثقالهم قدم خالد ودعا إلى النزال فبرز إليه هرمز وترجل ثم اختلفا ضربتين فاحتضنه خالد وحمل أصحاب هرمز للغدر به فلم يشغله ذلك عن قتله‏.‏ وحمل القعقاع بن عمرو فقتلهم وانهزم أهل فارس وركبهم المسلمون‏.‏ وسميت الواقعة ذات السلاسل‏.‏ وأخذ خالد سلب هرمز وكانت قلنسوته بمائة ألف وبعث بالفتح والأخماس إلى أبي بكر‏.‏ وسار فنزل بمكان البصرة وبعث الثني بن حارثة في آثار العدو فحاصر حِصْنَ المرأة وفتحه وأسلمت فتزوجها وبعث معقل بن مُقَرِّن إلى الأبلَّةِ ففتحها وقيل إنما عُقْبَةُ بن غزوان أيام عمر سنة أربع عشرة‏.‏ ولم يتعرض خالد وأصحابه إلى الفلاحين وتركهم وعمارة البلاد كما أمر أبو بكر به‏.‏ وكان كسرى أردشير لما جاءه كتاب هُرْمُزَ بمسير خالد أمره بقارن بن فريانس فسار من المدائن ولما انتهى إلى الدار لقيه المنهزمون عن هرمز ومعهم قَباذُ وانوشِجان فتذامروا ورجعوا ونزلوا النهر وسار إليهم خالد واقتتلوا وبرزقان‏.‏ فقتله معقل بن الاعْشَى بن النباش وقتل عاصم أبو شجان وقتل عدي قباذ‏.‏ وانهزمت الفرس وقتل منهم نحو ثلاثين ألفاً سوى من غرق ومنعت المياه المسلمين من طلبهم‏.‏ وكانت الغنيمة عظيمة وأخذ الجزية في الفلاحين وصاروا في ذمة‏.‏ ولم يقاتل المسلمين من الفرس بعد قارن أعظم منه وتسمى هذه الوقعة بالثنيِّ وهو النهر‏.‏ ولما جاء الخبر إلى اردشير بالهزيمة بعد الأندرزغر وكان فارساً من مولد السواد‏.‏ فأرسل في أثره مع بُهْمَن حاذوَيْه وحشد الأندرزغر ما بين الحيرة وكَسْكَر من عرب الضاحية والدهاقين وعَسْكَرَ بالولجة وسار إليهم خالد فقاتلهم وصبروا‏.‏ ثم جاءهم كمين من خلفهم فانهزموا ومات الأندرزغر عطشاً‏.‏ وبذل خالد الأمان للفلاحين فصاروا ذمة وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم وأصاب اثنين من نصارى بكر بن وائل‏.‏ أحدهما جابر بن بجَيْر والآخر ابن عبد الأسود من عِجْل فأسرهما وغضب بكر بن وائل لذلك‏.‏ فاجتمعوا على الليث وعليهم عبد الأسود العِجْلِي فكتب أردشيرُ إلى بُهْمَنَ حاذَوَيْه وقد أقام بعد الهزيمة بقَسيناثا يأمره بالمسير إلى نصارى العرب بالليس فيكون معهم إلى أن يَقدْمُ عليهم جابان من المَرَازِبَةِ فقدم بهمن على أردشير ليشاوره وخالفه جابان إلى نصارى العرب من عِجْل وتَيْم اللات وضُبَيْعَةَ وعرب الضاحِيَةِ من الحيرة وهم مجتمعون على الليث‏.‏ وسار إليهم خالد حين بلغه خبرهم ولا يشعر بجابان‏.‏ فلما حطّ الأثقال سار إليهم وطلب المبارزة فبرز إليه مالك بن قيس فقتله خالد واشتد القتال بينهم وسائر المشركين ينتظرون قدوم بهمن‏.‏ ثم انهزموا واستأسر الكثير منهم وقتلهمٍ خالد حتى سال النهر بالدم وسمِّي نهر الدم ووقف على طعام الأعاجم وكانوا قعوداً للأكل فنفله المسلمون‏.‏ وجعل العرب يتساءلون عن الرقاقِ يحسبونه رقاعاً وبلغ عدد القتلى سبعين ألفاً‏.‏ ولما فرغ من الليس سار إلى أمعيشيا فغزا أهلها وأعجلهم أن ينقلوا أموالهم فغنم جميع ما فيها وخربها‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 04:59 PM

فتح الحيرة
ثم سار خالد إلى الحيرة وحمل الرجال والأنفال في السفن‏.‏ وخرج مرزبان الحيرة وهو الأزادية فعسكر عند الغريين وأرسل ابنه ليقاطع الماء على السفن فوقفت على الأرض وسار إليه خالد فلقيه على فرات بازقلة فقتله وجميع من معه وسار نحو أبيه على الحيرة فهرب بغير قتال لما كان بلغة من موت أردشير كسرى وقتل ابنه‏.‏ ونزل خالد منزله بالغريّين وحاصر قصور الحيرة وافتتح الديور وصاح القسيسون والرهبان بأهل القصور فرجعوا على الإباية وخرج إياس بن قبيصة من القصر الأبيض وعمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن بقيلة وكان معمراً وسأله خالد عن عجيبة قد رآها فقال رأيت القرى ما بين دمشق والحيرة تسافر بينهما المرأة فلا تتزود إلا رغيفاً واحداً‏.‏ ثم جاءه واستقرب منه ورأى مع خادمه كيسأ فيه سم فأخذه خالد ونثره في يده وقال ما هذا قال خشيت أن تكونوا على غير ما وجدت فيكون الموت أحب إلي من مكروه أدخله على قومي‏.‏ فقال له خالد لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها‏.‏ ثم قال‏:‏ باسم الله الذي لا نصير مع اسمه شيء وابتلع السم فوعك ساعة ثم قام كأنما نشط من عقال‏.‏ فقال عبد المسيح لتبلغنّ ما فأردتم ما دام أحد منكم هكذا‏.‏ ثم صالحهم على مئة أو مئتين وتسعين ألفاً وعلى كرامة بنت عبد المسيح لشريك كان النبي صلى الله عليه وسلم وعده بها إذا فتحت الحيرة فأخذها شريك وافتدت منه بألف درهم وكتب لهم بالصلح وذلك في أول سنة اثنتي عشرة‏.‏ فتح ما وراء الحيرة‏.‏ كان الدهاقين يتربصون بخالد ما يصنع بأهل الحيرة فلما صالحهم واستقاموا له جاءته الدهاقين من كل ناحية فصالحوه عما يلي الحيرة من الفلاليج وغيرها على ألف ألف وقيل على ألفي ألف سوى جباية كسرى‏.‏ وبعث خالد ضرارَ بن الأزور وضرارَ ابن الخطاب والقعقاعَ بن عمرو والمثنّى بن حارثة وعيينةَ بن الشماس فكانوا في الثغور وأمرهم بالغَارة فمخروا السواد كله إلى شاطىء دجلة‏.‏ وكتب إلى ملوك فارس‏:‏ أما بعد فالحمد لله الذي حل نظامكم ووهن كيدكم وفرق كلمتكم ولو نفعل ذلك كان شرأ لكم‏.‏ فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة‏.‏ وكتب إلى المرازبة‏:‏ أما بعد فالحمد لله الذيِ فضّ حذقكم وفرق كلمتكم وفل حدّكم وكسر شوكتكم تسلموا وإلا فاعتقدوا مني الذمة وأدوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر انتهى‏.‏ وكان العجم مختلفين بموت أردشير وقد أزالوا بهمن حاذويه فيمن سيره في العساكر فجبى خالد خراج السواد في خمسين ليلة وغلب العجم عليه وأقام بالحيرة سنة يصعد ويصوّب والفرس يخلعون ويملكون ولم يجدوا من يجتمعون عليه لأن سيرين كان قتل جيع من تناسب إلى بهرام جور‏.‏ فلما وصلهم كتاب خالد تكلم نساء آل كسرى وولِّوا الفرّخ زاد ابن البندوان إلى أن يجدوا من يجتمعون عليه ووصل جرير بن عبد الله البجلي إلى خالد بعد فتح الحيرة وكان مع خالد بن سعيد بن العاص بالشام‏.‏ ثم قدم على أبي بكر فكلمه أن يجمع كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أوزاعاً متفرقين في العرب‏.‏ فسخط ذلك منه أبو بكر تكلمني بما لا يعني وأنت ترى ما نحن فيه من فارس والروم وأمره بالسير إلى خالد فقدم عليه بعد فتح الحيرة‏.‏ فتح الأنبار وعين التمر وتسمى هذه الغزوة ذات العيون ثم سار خالد على تَعْبِيَتهِ إلى الأنبار وعلى مقدَّمته الأقرَ بن حابس وكان بالأنبار شيرزاد صاحب ساباط فحاصرهم ورشقوهم بالنبال حتى فقأوا منهم ألف عين‏.‏ ضعاف الإبل وألقاها في الخندق حتى ردمه بها وجاز هو وأصحابه فوقها‏.‏ فاجتمع المسلمون والكفار في الخندق وصالح شيرزاد على أن يلحقوه بمأمنه ويخلي البلد وما فيها فلحق بهمن جادويه‏.‏ ثم استخلف خالد على الأنبار الزَبْرَقان بن بدر وسار إِلى عين التمر وبها مهران بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم وعقَّة بن أبي عقة في جمع عظيم من العرب وحولهم طوائف من النمر وتغلب وإِياد وغيرهم من العرب‏.‏ وقال عقبة لبهرام دعنا وخالداً فالعرب أعرف لقتال العرب‏.‏ فدفعه لذلك واتقى به وسار عقة إلى خالد وحمل خالد عليه وهو يقيم صفوفه فاحتضنه وأخذ أسيراً‏.‏ وانهزم العسكر عن غير قتال وأسر أكثرهم وبلغ الخبر إلى مهران فهرب وترك الحصن وتحصن به المنهزمون واستأمنوا لخالد فأبى فنزلوا على حكمه أجمعين وعقة معهم‏.‏ وغنم ما في الحصن وسبى أهليهم وأولادهم وأخذ من البيعة وهي الكنيسة غلماناً كانوا يتعلمون الإنجيل فقسمهم في الناس منهم سيرين أبو محمد ونصير أبو موسى وحمران مولى عثمان وبعث إلى أبي بكر بالفَتح والخمس وقتل من المسلمين عمير بن رباب السهمي من مهاجرة الحبشة وبشير بن سعد والد النعمان‏.‏ مطلب وقعة دومة الجنادل ولما فرغ خالد من عين التمر وافق وصول كتاب عياض بن غنم وهو على من بازائه من نصارى العرب بناحية دومة الجندل وهم بَهْرَا وكَلْب وغسان وتنوخ والضَجَاعِم‏.‏ وكانت رياسة دومة لأكَيْدرَ بن عبد الملك والجودي بن ربيعه يقتسمانِها وأشار أكيدر بصلح خالد فلم يقبلوا منه فخرج عنه وبلغ خالد مسيره فأرسل من اعترضه فقتله وأخذ ما معه‏.‏ وسار خالد فنزل دومة وعياض عليها من الجهة الأخرى وخرج الجوديّ لقتال عياض فانهزموا من الجهتين إلى الحِصن فأغلق دونهم وقتل الجودي وافتتح الحصن عَنْوَةٍ فقتل المقاتلة وسبى الذرية‏.‏ m0 وقائع بالعراق وأقام خالد بدومة الجندل وطمع الأعاجم في الحيرة وملأهم عرب الجزيرة غضباً لعقة فخرج اسواران إِلى الأنبار وانتهيا إلى حصيد والخنافس فبعث القَعْقَاع من الحيرة عسكرين حالاً بينهما وبين الريف‏.‏ ثم جاء خالد إلى الحيرة فجعل القعقاع بن عمرو وأبو ليلى بن فدكى إلى لقائهما بالحصيد فقتل من العجم مقتلة عظيمة وقتل الاسواران وغنم المسلمون ما في الحصيد وانهزمت الأعاجم إلى الخنافس وبها البهبوذان من الأساورة‏.‏ وسار أبو ليلى في اتباعهم فهزم البهبوذان إلى المصيخ وكان بهما الهذَيْلُ بن عِمَران وربيعة بن بُجَيْر من عرب الجزيرة غضباً لعقة وجاءا مدداً لأهل الحصيد فكتب خالد إلى القعقاع وأبي ليلى وأودعهما المصيخ‏.‏ وسار إليهم فتوافوا هنالك وأغاروا على الهذيل ومن معه ثلاثة أوجه فأكثروا فيهم القتل ففر الهذيل في قليل وكان مع الهذيل عبد العزيز بن أبي رهم من أوس مناة ولبيد بن جرير وكانا أسلما وكتب لهما أبو بكر بإسلامهما فقتلا في المعركة فَوَداهما أبو بكر وأوصى بأولادهما‏.‏ وكان عمر يعتمد بقتلهما وقتل مالك بن نويرة على خالد ولما فرغ خالد من الهذيل بالمصيخ واعد القعقاع وأبا ليلى إلى الثَنِي شرقي الرصافة ليغير على ربيعة بن بجيْرٍ التغْلبِيَ صاحب الهذيل الذي جاء معه لِمدَدِ الفُرس وتبييتهم فلم يفلت منهم أحداً‏.‏ ثم اتبع الهذيل بعد مَفَرِّه من المصيخ إلى اليسير وقد لحق هنالك بعتاب بن أُسَيْد فبيتهم خالد قبل أن يصل إليهم خبر ربيعة فقتل منهم مقتلة عظيمة وسار إلى الرصافة وبها هلال بن عقة فتفرق عنه أصحابه وهرب فلم يلق بها خالد من الرضاب إلى الفِراض وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة فحميت الروم واستعانوا بمن يليهم من مسالح فارس واجتمعت معهم تغلب وإِياد والنمر وصاروا إلى خالد وطلبوا منه العبور فقال اعبروا اسفل منا فعبروا وامتاز الروم من العرب‏.‏ فانهزمت الروم ذلك اليوم وقتل منهم نحواً من مئة ألف‏.‏ ‏.‏ وأقام خالد على الفراض إلى ذي القعدة‏.‏ ثم أذن للناس بالرجوع إلى الحيرة وجعل شَجَرَة بن الأغرِّ على الساقة وخرج من الفراض حاجاً مكتتماً بحجه وذهب ليتعسف البلاد حتى أتى مكة فحجَّ ورجع فوافى الحيرة مع جنده وشجرة بن الأغر معهم ولم يعلم بحجِّه إلا من أعلمه به وعتب به أبو بكر في ذلك لما سمعه وكانت عقوبته إياه أن صرفه من غزو العراق إلى الشام‏.‏ ثم شن خالد بن الوليد الغارات على نواحي السواد فأغار هو على شرق بغداد وعلى قَطَرْبِل وعَقَرْقُوف ومسكن وبادروبا‏.‏ وحج أبو بكر في هذه السنة واستخلف على المدينة عثمان بن عفان‏.‏ بعوث الشام وكان من أول عمل أبي بكر بعد عوده من الحج أن بعث خالد بن سعيد بن العاص في الجنود إلى الشام أول سنة ثلاث عشرة وقيل إنما بعثه إلى الشام لما بعث خالد بن الوليد إلى العراق أول السنة التي قبلها ثم عزله قبل أن يسير لأنه كان لما قدم من اليمن عند الوفاة تخلُّف عن بيعة أبي بكر أياماً وغدا على علي وعثمان على الإستكانة لِتَيْم وهما رؤوس بني عبد مناف فنهاه عليُّ وبلغت الشيخين‏.‏ فلما ولاه أبو بكر عقد له عمر فعزله وأمره أن يقيم بتيماء ويدعو من حوله من العرب إلى الجهاد حتى يأتيه أمره‏.‏ فاجتمعت إليه جموع كثيرة وبلغ الروم خبره فضربوا البعث على عرب الضاحية بالشام من بهرا وسليح وكلب وغسان ولخم وجذام وسار إليهم خالد فغلبهم على منازلهم وافترقوا‏.‏ وكتب له أبو بكر بالإقدام فسار متقدماً ولقيه البطريك ماهان من بطاركة الروم فهزمه خالد واستلحم الكثير من جنوده‏.‏ وكتب إلى أبي بكر يستمده ووافق كتابه المستنفرين وفيهم ذو الكلاع ومعه حميرْ وعِكرمَةُ بن أبي جهل ومن معه من تهَامَةَ والسُرو وعُمان والبحرين فبعثهم إليه‏.‏ وحينئذ اهتم أبو بكر بالشام وكان عمرو بن العاص لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً إلى عمان وعده أن يعيده إلى عمله عند فراغه من أمر عمان فلما جاء بعد الوفاة أعاده إليها أبو بكر إنجازاً لوعده صلى الله عليه وسلم وهي صدقات سعد هذَيْم وبني عُمْرَةَ‏.‏ فبعث إليه لأن يأمره باللحاق بخالد بن سعيد لجهاد الروم وأن يقصد فِلَسْطين وبعث أيضأ إلى الوليد بن عقبة وكان على صدقات قضاعَةَ وولاه الأردن وأمًر يزيد بن أبي سفيان على جمهور من انتدب إليه منهم‏:‏ سهيل بن عمرو وأشباهه وأمّر أبا عبيدة بن الجراح على جميعهم وعين له حمص وأوصى كل واحد منهم‏.‏ ولما وصل المدد إِلى خالد بن سعيد وبلغه توجُه الأمراء تعجل للقاء الروم قبلهم فاستطرد له ماهان ودخل دمشق‏.‏ واقتحم خالد الشام ومعه ذي الكلاع وعِكْرِمَةُ والوليد حتى نزل مرج الصُفرِ عند دمشق فانطوت مسالح ماهان عليه وسدوا الطريق دونه وزحف إليه ماهان ولقي ابنه سعيداً في طريقه فقتلوه‏.‏ وبلغ الخبر أباه خالداً فهرب فيمن معه وانتهى إلى ذي المروة قرب المدينة‏.‏ وأقام عكرمة ردءاً من خلفهم فرد عنهم الروم فأقام قريبأ من الشام‏.‏ وجاء شرحبيل بن حسنة إلى أبي بكر وافدأً من العراق من عند خالد فندب إليه الناس وبعثه مكان الوليد إلى أردن‏.‏ ومرّ ثم بعث أبو بكر معاوية وأمره باللحاق بأخيه يزيد وأذن لخالد بن سعيد بدخول المدينة‏.‏ وزحف الأمراء في العساكر نحو الشام فعبى هرقل عساكر الروم ونزل حمص بعد أن أشار على الروم بعدم قتال العرب ومصالحتهم على ما يريدون فأبوا ولجوا ثم فرقهم على أمراء المسلمين فبعث شقيقه تذارق في تسعين ألفً نحو عمرو بن العاص بفلسطين‏.‏ وبعث جرجة بن توذر نحو يزيد بن أبي سفيان وبعث الدراقص نحو شرحبيل بن حسنة بالأردن وبعث القيقار بن نسطورس في ستين ألفاً نحو أبي عبيدة بالجابية‏.‏ فهابهم المسلمون ثم رأوا أن الاجتماع أليق بهم وبلغهم كتاب أبي بكر بذلك فاجتمعوا باليرموك في بضعة وعشرين ألفاً‏.‏ وأمر هرقل أيضا باجتماع جنوده ووعدهم بوصول ملحان إِليهم ردءاً فاجتمعوا بحيال المسلمين والوادي خندق بينهم‏.‏ فأقاموا بإزائه ثلاثة أشهر واستمدوا أبا بكر فكتب إلى خالد بن الوليد أن يستخلف على العراق المثنى بن حارثة ويلحق بهم وأمره على جند الشام‏.‏ ولما استمد المسلمون أبا بكرٍ بعث إليهم خالد بن الوليد من العراق واستحثه في السير إليهم فنفذ خالد لذلك ووافى المسلمين مكانهم عندما وافى ماهان الروم أيضأ‏.‏ وولى خالد قباله وولى الأمراء قبل الاخرين إزاءهم فهزم ماهان وتتابع الروم على الهزيمة وكانوا مائتين وأربعين ألفاً وتقسموا بين القتل والطرق في الواقوصة والهَوي فيِ الخندق وقتل صناديد الروم وفرسانهم وقتل تدارق أخو هرقل وانتهتَ الهزيمة إلى هرقل وهو دون حمص فارتحل وأجاز إِلى ما وراءها لتكون بينه وبين المسلمين وأمر عليها وعلى دمشق‏.‏ ويقال‏:‏ إِن المسلمين كانوا يومئذ ستة وأربعين ألفأ سبعة وعشرين منها مع الأمراء وثلاثة آلاف من بلال مع خالد بن سعيد قد أمر عليهم أبو بكر معاوية بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعشرة آلاف‏.‏ من أمداد أهل العراق مع خالد بن الوليد وستة آلاف ثبتوا معِ عكرمة ردءاً بعد خالد بن سعيد‏.‏ وأن خالد بن سعيد عبأهم كراديس ستة وثلاثين كردوساَ لما رأى الروم تعبوا كراديس وكان كل كردوس ألفاً وكان ذلك فيِ شهر جمادى وأن أبا سفيان بن حرب أبلى يومئذ بلاءً حسناً بسعيه وتحريضه‏.‏ قالوا‏:‏ وبينما الناس في القتال قدم البريد من المدينة بموت أبي بكر وولاية عمر فأسره إلى خالد وكتمه عن الناس‏.‏ ثم خرج جرجه من أمراء الروم فطلب خالدأ وسأله عن أمره وأمر الإسلام فوعظه خالد فاستبصر وأسلم وكانت وهناً على الروم‏.‏ ثم زحف خالد بجماعة من المسلمين فيهم جرجه فقتل من يومه واستشهد عكرمة بن أبي جهل وابنه عمر وأصيبت عين أبي سفيان واستشهد سلمة بن هشام وعمرو وأبان إبنا سعيد وهشام بن العاص وسَيارُ بن سفيان والطفَيْلُ بن عمرو وأثبت خالد بن سعيد فلا يعلم أين مات بعد‏.‏ ويقال استشهد في مرج الصُفّرِ في الوقعة الأولى ويقال إِن خالداً لما جاءه من العراق مدداً للمسلمين بالشام طلب من الأدلاء أن يغوروا به حتى يخرج من وراء الروم فسلك به رافع بن عمرو الطائي من فزارة في بلاد كلب حتى خرج إلى الشام ونحر فيها الإبل وأغار على مصيخ فوجد به رفقة فقتلهم وأسلبهم‏.‏ وقعة مرج راهط وكان الحرث بن الأيهم وغَّسان قد اجتمعوا بمرج راهط فسلك إليهم واستباحهم هم نزل بصرى ففتحها ثم سار منها إلى المسلمين بالواقوصة فشهد اليرموك ويقال‏:‏ إِن خالداً لما جاء من العراق إلى الشام لقي أمراء المسلمين ببصرى فحاصروها جميعاً حتى فتحوها على الجزية‏.‏ ثم ساروا جميعاً إلى فلسطين مدداً لعمرو بن العاص وعمرو بالغور والروم بجلق مع تدارق أخي هرقل وانكشفوا عن جلق إلى أجنادين وراء الرملة شرقاً‏.‏ ثم تزاحف الناس فاقتتلوا وانهزم الروم وذلك في منتصف جمادى الأولى من السنة وقتل فيها تدارق ثم رجع هرقل ولقي المسلمين بالفاقوصة عند اليرموك فكانت واقعة اليرموك كما قدمنا في رجب بعد أجنادين وبلغت المسلمين وفاة أبي بكر وإنها كانت لثمان بقين من جمادى الآخرة‏.‏ ولما احتضر أبو بكر عهد إلى عمر رضي الله عنهما بالأمر من بعده بعد أن شاور علياً وطلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم وأخبرهم بما يريد فيه فَأثنوا على رأيه فأشرف على الناس وقال‏:‏ إني قد استخلفت عمر لم آل لكم نصحاً فاسمعوا له وأطيعوا ودعا عثمان فأمره فكتب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحالة التي يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب ولم آل لكم خيراً فإن صبر وعدل فذلك علمي به ورأي منه وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرىء ما اكتسب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون‏.‏ فكان أول ما أنفذه من الأمور عزل خالد عن إمارة الجيوش بالشام وتوليه أبي عبيدة وجاء الخبر بذلك والمسلمون مواقفون عدوهم في اليرموك فكتم أبو عبيدة الأمر كله فلما انقضى أمر اليرموك كما مرّ سار المسلمون إلى فِحْل من أرض الأردن وبها واقعة الروم وخالد على مقدمة الناس فقاتلوا الروم‏.‏ واقتحموها عنوة وذلك في ذي القعدة ولحقت فواقعت الروم بدمشق وعليها ماهان من البطارقة فحاصرهم المسلمون حتى فتحوا دمشق وأظهر أبو عبيدة أمارته وعزل خالد‏.‏ وقال سببه إن أبا بكر كان يُسْخِطُ خالد بن سعيد والوليد بن عُقْبَةَ من أجل فرارهما كلما مرّ فلما وَليَ عمر رضي الله عنه أباح لهما دخول المدينة ثم بعثهما مع الناس إلى الشام‏.‏ ولما فرغ أمر اليرموك وساروا إلى فِحْل وبلغ عمر خبر اليرموك فكتب بعزل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص حتى يصير الحرب إلى فلسطين فتولاها عمر‏.‏ وإن خالداً قدم على عمر بعد العزل وذلك بعد فتح دمشق وإنهم ساروا إلى فحل فاقتحموها ثم ساروا إلى دمشق وعليها نِسطاسُ بن نَسْطُورُسَ فحاصروها سبعين ليلة وقيل ستة أشهر من نواحيها الأربع ة خالد وأبو عبيدة ويزيد وعمرو كل واحد على ناحية وقد جعلوا بينهم وبين هرقل مدينة حمص ومن دونها ذو الكلاع في جيش من المسلمين‏.‏ وبعث هرقل المدد إلى دمشق وكان فيهم ذو الكلاع فَسُقِطَ في أيديهم وقدموا على دخول دمشق وطمع المسلمون فيهم‏.‏ واستغفلهم خالد في بعض الليالي فتسور سورهم من ناحيته وقتل الوليد وفتح الباب واقتحم البلد وكبر وكبّروا فقتلوا جميع من لقوه‏.‏ وفزع أهل النواحي إلى الأمراء الذين يلونهم فنادوا لهم بالصلح والدخول فدخلوا من نواحيهم صلحاً فأجريت ناحية قال سيف‏:‏ وبعثوا إلى عمر بالفتح فوصل كتابه بأن يصرف جند العراق إلى العراق فخرجوا وعليهم هاشم بن عُتْبَةَ وعلى مُقَدَّمَتِةِ القعقاع وخرج الأمراء إلى فِحل وأقام يزيد بن أبي سفيان بدمشق‏.‏ وكان الفتح في رجب سنة أربع عشرة‏.‏ وبعث يزيد دِحْيَةَ الكَلْبِي إلى تدمر وأبا الزهراء القشيري إلى حوران والبُثَيْنَةِ فصالحوهما وولي عليهما‏.‏ ووصل الأمراء إلى فِحْل فبيتهم الروم فظفر المسلمون بهم وهزموهم فقتل منهم ثمانون ألفأ‏.‏ وكان على الناس في وقعة فحل شرحبيل بن حسنة فسار بهم إلى بيسان وحاصرها فقتل مقاتلتها وصالحه الباقون فقبل منهم‏.‏ وكان أبو الأعور السلمي على طَبَرِيّة محاصرأ لها فلما بلغهم شأن بيسان صالحوه فكمل فتح الأردن صلحاً‏.‏ ونزلت القوّاد في مدائنها وقراها وكتبوا إلى عمر بالفتح‏.‏ وزعم الواقدي‏:‏ أن اليرموك كانت سنة خمسة عشرة وأن هرقل انتقل فيها من إنطاكية إلى قسطنطينية وأن اليرموك كانت آخر الوقائع‏.‏ والذي تقدم لنا من رواية سيف أن اليرموك كانت سنة ثلاث عشرة وإن البريد بوفاة أبي بكر قدم يوم هربت الروم فيه‏.‏ وأن الأمراء بعد اليرموك ساروا إلى دمشق ففتحوها ثم كانت بعدها وقعة فِحْل ثم وقائع أخرى قبل شخوص هرقل والله أعلم‏.‏ لما وصل كتاب أبي بكر إلى خالد بعد رجوعه من حَجِّه بأن ينصرف إِلى الشام أميراً على المسلمين بها ويخرج في شطر الناس ويرجع بهم إذا فتح اللّه عليه إلى العراق ويترك الشطر الثاني بالعراق مع المثنى بن حارثة‏.‏ وفعل ذلك خالد ومضى لوجهه وأقام المثنى بالحيرة ورتب المصالح واستقام أهل فارس بعد خروج خالد بقليل على شَهْرِيار بن شيرين بن شهريار ممن يناسبه إلى كِسْرى أبي سابور وذلك سنة ثلاث عشرة‏.‏ فبعث إلى الحيرة هُرْمُزَ فاقتتلوا هنالك قتالاً شديداً بِعُدْوَةِ الضَرَّاءِ‏.‏ وغار الفيل بين الصفوف فقتله المُثَنَّى وناس معه وانهزم أهل فارس واتبعهم المسلمون يقتلونهم حتى انتهوا إلى المدائن ومات شهريار إِثر ذلك وبقي ما دون دجلة من السواد في أيدي المسلمين‏.‏ ثم اجتمع أهل فارس من بعد شهريار على آزَرْمِيدَخْتَ ولم ينفذ لها أمر فَخُلِعَتْ وملك سابور بن شهريار وقام بأمره الفَرُّخْزاذ بن البَنْدَوان وزوجة آزرميدخت فغضبت وبعثت إلى سِيَاوَخْش الوازن وكان من كبار الأساوِرَة وشكت إِليه فأشار عليها بالقبول‏.‏ وجاء ليلة العرس فقتل الفرخزاذ ومن معه ونهض إلى سابور فحاصره ثم اقتحم عليه فقتله وملكت آزرميدخت وتشاغلوا بذلك عن ملكها‏.‏ انتهى شأن أبي بكر وشق السواد في سلطانه وتشاغل أهل فارس عن دفاع المسلمين عنه‏.‏ ولما أبطأ خبر أبي بكر على المثنى استخلف المثنى على الناس بِشْرَ بن الخصَاصِيَة وخرج نحو المدينة‏.‏ يستعلم ويستأذن فقدم وأبو بكر يجود بنفسه‏.‏ وقد عهد إلى عمر وأخبره الخبر فأحضر عمر وأوصاه أن يندب الناس مع المثنى وأن يصرف أصحاب خالد من الشام إلى العراق‏.‏ فقال عمر‏:‏ يرحم اللّه أبا بكر علم إِنّه تستر في إمارة خالد فأمرني بصرف أصحابه ولم يذكره‏.‏ ولاية أي عبيد بن مسعود على العراق ومقلته ولما وَليَ عُمَرُ ندب الناس مع المثنى بن حارثة‏.‏ أياماً وكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود‏.‏ فقال عمر للناس‏:‏ إِن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النَجْعَةِ ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك‏.‏ أين المهاجرون عن موعد الله سيروا في الأرض التي وعدكم اللّه في الكتاب أن يُورِثَكُمُوهَا فقال‏:‏ لِيُظْهِرَهُ على الدين كُلِّه فاللهّ مُظْهِر دينه ومُعِزٌ ناصره ومولي أهله مواريث الأمم‏.‏ أين عباد الله الصالحون فانتدب أبو عُبَيْد الثَقَفِيّ ثم سعد بن عبيد الأنصاري ثم سَلِيط بن قيس فولى أبا عبيد على البعث لسبقه وقال‏:‏ إسمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأشْرِكْهُمْ في الأمر ولا تجتهد مسرعاً بل اتئد فإنها الحرب والحرب لا يصْلِحُها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف‏.‏ ولم يمنعني أن اؤمّر سليطاً إلا لسرعته إلى الحرب وفي السرعة إلى الحرب إلا عن بيان ضياع والله لولا سرعته لأمّرته‏.‏ فكان بعث أبي عبيد هذا أول بعث بعثه عمر ثم بعث بعده بعليّ بن أمية إلى اليمن وأمره بإجلاء أهل نجران لوصيَّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بذلك في مرضه‏.‏ وقال‏:‏ أخبرهم بأنا نجليهم بأمر الله ورسوله أن لا يترك دينان بأرض العرب ثم نعطيهم أرضاً كأرضهم وفاءً بذمتهم كما أمر الله‏.‏ قالوا‏:‏ فخرج أبو عبيد مع المُثَنَى بن حارثة وسعد وسليط إِلى العراق‏.‏ وقد كانت بوران بنت كسرى كلما اختلفت الناس بالمدائن عدلت بينهم حتى يصطلحوا‏.‏ فلما قتل الفرخزاذ بن البندوان وملكت آزرميدخت اختلف أهل فارس واشتغلوا عن المسلمين غيبة المثنى كلها فبعثت بوران إِلى رستم تستحثه للقدوم وكان على فرج خرسان‏.‏ فأقبل في الناس إلى المدائن وعزل الفرخزاذ وفقأ عين آزرميدخت ونصَّب بوران فملكته وأحضرت مَرازِبَةَ فارس فأسلموا له ورضوا به وتوَّجَتْه وسبق المُثنَّى إِلى الحيرة ولحقه أبو عبيد ومن معه‏.‏ وكتب رستم إِلى دهاقين السواد أن يثوروا بالمسلمين وبعث في كل رِسْتَاقٍ رجلاً لذلك‏.‏ فكان في فرات باذقلا جابان وفي كسكر نرسي‏.‏ وبعث جند المصادمة المثنى فساروا وتألفوا واجتمعوا أسفل الفرات‏.‏ وخرج المثنى من الحيرة خوفاً أن يؤتى من خلفه فقدم عليه أبو عبيد ونزل جابان النمارق ومعه جمع عظيم فلقيه أبو عبيد هنالك وهزم الله أهل فارس‏.‏ وأسر جابان ثم أطلق وساروا في المنهزمين حتى دخلوا كسكر وكان بها نرسي ابن خالة كسرى فجمع الفالة إِلى عسكره وسار إِليهم أبو عبيد من النمارق في تعبيتة وكان على مجنبتي نرسي نفدويه وشيرويه ابنا بسطام خال كسرى واتصلت هزيمة جابان ببوران ورستم فبعثوا الجالينوس مدداً لنرسي وعاجلهم أبو عبيد فالتقوا أسفل من كسكر فاشتد القتال وانهزمت الفرس وهرب نرسي وغنم المسلمون ما في عسكره‏.‏ وبعث أبو عبيد المثنى وعاصِماً فهزموا من كان تجمَّعَ من أهل الرساتيق وخربوا وسبوا وأخذوا الجزية من أهل السواد وهم يتربصون قدوم الجالينوس‏.‏ ولما سمع به أبو عبيد سار إِليه على تعبيته فانهزم الجالينوس وهرب ورجع أبو عبيد فنزل الحيرة‏.‏ وقد كان عمر قال له‏:‏ إِنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والخزي تقدم على قوم تجرأوا على الشر فعلموه وتناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون‏.‏ واحرز لسانك ولا تفش سرك فإن صاحب السر ما ضبط متحصن لا يؤتى من وجه يكرهه وإذا ضيعه كان بمضيعة‏.‏ ولما رجع الجالينوس إلى رستم بعث بهمن حادويه ذا الحاجب إلى الحيرة فأقبل ومعه درفش كابيان راية كسرى عرض ثمانية أذرع في طول اثني عشر من جلود النمر فنزل في قِسِيّ الناطف على الفرات‏.‏ وأقبل أبو عبيد فنزل عدوته وقعد إلى أن نصبوا للفريقين جسراً على الفرات وخيرهم بهمن حادويه في عبوره أو عبورهم فاختار أبو عبيد العبور وأجاز إليهم وماجت الأرض بالمُقَاتِلَةِ ونفر جنود المسلمين وكراديسهم من الفِيَلَة‏.‏ وأمر بالتخفيف عن الخيل فترجل أبو عبيد والناس وصافحوا العدو بالسيوف ودافعتهم الفيلة فقطعوا وُضُنَها فسقطت رحالها وقتل من كان عليهم‏.‏ وقابل أبو عبيد فيلاً منهم فوطئه بيده وقام عليه فأهلكه‏.‏ وقاتلهم الناس ثم انهزموا عن المثنى وسبقه بعض المسلمين إلى الجسر فقطعه وقال‏:‏ موتوا أو تظفروا‏.‏ وتواثب بعضهم الفرات فغرقوا وأقام المثنى وناس معه مثل عروة بن زيد الخيل وأبي مِحْجَن الثَّقَفِي وأنظارهم وقاتل أبو زيد الطائي كان نصرانياً وقدم الحيرة لبعض أمره فحضر مع المثنى وقاتل حينئذ حَمِيًةً ونادى المثنى الذين عبروا من المسلمين فعقدوا الجسر وأجاز بالناس وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس فانفضّ أصحابه إلى المدينة وبقي المثنى في فِلّه جريحاً وبلغ الخبر إلى عمر فشق عليه وعذر المنهزمين‏.‏ وهلك من المسلمين يومئذ أربعة آلاف قتلى وغرقى وهرب ألفان وبقي الثلاثة آلاف وقتل من الفرس ستة آلاف‏.‏ وبينما بهمن حادويه يروم العبور خلف المسلمين أتاه الخبرَ بأن الفرس ثاروا برستم مع الفيرزان فرجع إلى المدائن وكانت الوقعه في مدائن سنة ثلاث عشرة‏.‏ ولما رجع بهمن حادويه اتبعه جابان ومعه مردان شاه‏.‏ وخرج المثنى في أثرهما فلما أشرف عليهما أتياه يظنان أنه هارب فأخذهما أسيرين وخرج أهل الليس على أصحابهما فأتوه بهم أسرى وعقدوا معه مهادنة وقتل جميعَ ولما بلغ عمر رضي الله عنه عن وقعة ابن عبيد بالجسر ندب الناس إِلى المثنى وكان فيمن ندب بَجِيلَةَ وأمرهم إلى جرير بن عبد الله الذي جمعهم من القبائل بعد أن كانوا مفترقين ووعده النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وشغل عن ذلك أبو بكر بأمر الردَة ووفى له عمر به وسيره مدداً للمثنى بالعراق‏.‏ وبعث عصمة بن عبد لله الضبيّ وكتب إلى أهل الردة بأن يوافوا المثنى‏.‏ وبعث المثنى الرسل فيمن يليه من العرب فوافوا في جموع عظيمة حتى نصارى النمر جاءوه وعليهم أنَسُ بن هلال وقالوا نقاتل مع قومنا‏.‏ وبلغ الخبر إلى رستم والفيرزان فبعثا مهران الهمداني إلى الحيرة والمثنى بين القادسية وخفان‏.‏ فلما بلغه الخبر استبقى فرات باذقلا وكتب بالخبر إلى جرير وعصمة أن يقصدوا العُذَيْبَ مما يلي الكوفة فاجتمعوا هنالك ومهران قبالتهم عدوة الفرات وتركوا له العبور فأجاز إليهم‏.‏ وسار إليه المثنى في التبعية وعلى مجنبتيه مهران مرزبان الحيرة ابن الأزاذبة ومردارشاه ووقف المثنى على الرايات يحرض الناس فأعجلتهم فارس وخالطوهم وركدت حربهم واشتدت‏.‏ ثم حمل المثنى على مهران فأزاله عن مركزه وأصيب مسعود أخو المثنى وخالط المثنى القلب ووثب المجنبات على المجنبات قبالتهم فانهزمت الفرس وسبقهم المثنى إلى الجسر فهربوا مصعدين ومنحدرين واستلحمهم خيول المسلمين وقتل فيها مئة ألف أو يزيدون‏.‏ وأُحْصِيَ مئة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة وتبعهم المسلمون إلى الليل‏.‏ وأرسل المثنى في آثار الفرس فبلغوا ساباط فغنموا وسبوا ساباط واستباحوا القرى وسخروا السواد بينهم وبين دجلة لا يلقون مانعاً‏.‏ ورجع المنهزمون إِلى رستم فاستهانوا ورضوا أن يتركوا ما وراء دجلة‏.‏ ثم خرج المثنى من الحيرة واستخرج بشير بن الخَصاصِيَة وسار نحو السواد ونزل الليث من قرى الأنبار فسميت الغزاة غزاة الأنبار الآخرة وغزاة الليس الآخرة‏.‏ وجاءت إلى المُثَنى عيون فدلّوه على سوق الخنافس وسوق بغداد وإن سوق الخنافس أقرب ويجتمع بها تجار المدائن والسواد وخفراؤهم من ربيعة وقضاعة فركب إليها وأغار عليها يوم سوق فاشتف السوق وما فيها وسلب الخفراء ورجع إلى الأنبار فأتوه بالعلوفة والزاد وأخذ منهم أدلاء تظهر له المدائن وسار بهم إِلى بغداد ليلاً وصبح السوق فوضع فيهم السيف وأخذ ما شاء من الذهب والفضة والجيِّد من كل شيء‏.‏ ثم رجع إلى الأنبار وبعث المُضارِبَ العِجْلِيَّ إِلى الكِبَاثِ وبه جماعة من تغلب فهربوا عنه ولحقهم المضارب فقتل في أخرياتهم وأكثر‏.‏ ثم سَرَّحَ فراتَ بن حَيَّان التغْلَبِي وعُتَيْبَةَ بن النَهَّاس للإغارة على أحياء من تغلب بصفين‏.‏ ثم اتبعهم المثنى بنفسه فوجدوا أحياء صفين قد هربوا عنها فعبر المثنى إلى الجزيرة‏.‏ وفني زادهم وأكلوا رواحلهم وأدركوا عيراً من أهل خفان فحضر نفر من تغلب فأخذوا العير ودلهم أحد الخفراء على حيّ من تغلب ساروا إِليه يومهم وهجموا عليهم فقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية واستاقوا الأموال وكان هذا الحيّ بوادي الرويحلة‏.‏ فاشترى أسراهم من كان هنالك من ربيعة بنصيبهم من الفيء وأعتقوهم وكانت ربيعة لا تسبي في الجاهلية‏.‏ ولما سمع المثنى أن جميع من يملك البلاد قد انتجع شاطىء دجلة خرج في اتباعهم فأدركهم بتكريت فغنم ما شاء وعاد إِلى الأنبار ومضى عتيبة وفرات حتى أغارا على النمر وتغلب بصفين وتمكن رعب المسلمين من قلوب أهل فارس وملكوا ما بين الفرات ودجلة‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:00 PM

أخبار القادسية
ولما دهم أهل فارس من المسلمين بالسواد ما دهمهم وهم مختلفون بين رسْتُمَ والفيْرَزانِ واجتمع عظماؤهم وقالوا لهما‏:‏ إِما أن تجتمعا وإِلا فنحن لكما حرب فقد عرضتمونا للهَلَكَةِ وما بعد بغداد وتكريت إلى المدائن فأطاعا لذلك‏.‏ وفزعوا إِلى بوران يسألونها في ولد من آل كسرى يولّونه عليهم فأحضرت لهم النساء والسراري وبسطوا عليهن العذاب فذكروا لهم غلاماً من ولد شهْريَار بن كسرى اسمه يَزْدَجُرْد أخذته أمه عندما قتل شيرويه أبناء أبيه‏.‏ فسألوا أمه عنه فدلتهم عليه عند أخواله كانت أودعته عندهم حينئذ فجاءوا به ابن إحدى وعشرين سنة فملكوه واجتمعوا عليه‏.‏ وتبارى المرازِبَة في طاعته وعيَّنَ المسالح والجنود لكل ثغر ومنها الحيرة والأبَلّةُ والأنبار وخرجوا إِليها من المدائن‏.‏ وكتب المثنى بذلك إِلى عمر وبينما هو ينتظر الجواب انتقض أهل السواد وكفروا وخرج المثنى إلى ذي قار ونزل الناس في عسكر واحد‏.‏ ولما وصل كتابه إلى عمر قال والله لأضْرِبَنَّ ملوك العجم بملوك العرب فلم يدع رئيسأ ولا ذا رأي وشرف وبسطه ولا خطيباً ولا شاعرأ إِلا رماهم به‏.‏ فرماهم بوجوه الناس بل وغررهم وكتب إِلى المُثَنًى يأمره بخروج المسلمين منِ بين العجم والتفرق في المياه بحيالهم وأن يدعو الفرسان وأهل النجدان من رَبيعَةَ ومُضرٍ ويحضرهم طوعاً وكرهاً فنزل المسلمون بالجِلّ وسروا إِلى عَصِيّ وهو جبل البصرة متناظرين‏.‏ وكتب إلى عماله على العرب أن يبعثوا إِليه من كانت له نجدة أو فرس أو سلاح أو رأي وخرج إِلى الحج فحجّ سنة ثلاث عشرة ورجع فجاءتة أفواجهم إِلى المدينة ومن كان أقرب إِلى العراق انضم إِلى المثنى فلما اجتمعت عنده أمراء العرب خرج من المدينة واستخلف عليها عليّأ وعسكر على صرار من ضواحيها وبعث على المقدمة طلحة وجعل على المَجْنَبَتَيْن عبد الرحمن والزُبَيْرَ وانْبَهَمَ أمره على الناس ولم يُطِقْ أحد سؤاله فسأله عثمان فأحضر الناس واستشارهم في المسير إِلى العراق فقال العامة‏:‏ سر نحن‏.‏ معك فوافقهم ثم رجع إلى أصحاب رسول للّه صلى الله عليه وسلم وأحضر عَلِيًّا وطَلْحَةَ والزبير وعبد الرحمن واستشارهم فأشاروا بمقامه وأن يبعث رجلاً بعده آخر من الصحابة بالجنود حتى يفتح الله على المسلمين ويًهْلِكَ عدوهم فقبل ذلك ورأى فيه الصواب‏.‏ وعين لذلك سعد بن أبي وقاص وكان على صدقات هوازن فأحضره وولاه حرب العراق وأوصاه وقال‏:‏ يا سعد ابن أم سعد‏!‏ لا يغرنك من الله أن يقال خال رسول الله وصاحب رسول اللّه فإن الله لا يمحو السيء بالسيّء ولكنه يمحو السيء بالحسن وليس بين الله وبين أحد نسب إِلا بطاعته فالناس في دين الله سواء اللهّ ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة‏.‏ فانظر الأمر الذي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يلزمه فالزمه وعليك بالصبر‏.‏ ثم سرّحه في أربعة آلاف ممَّن اجتمع إِليه فيهم حَمِيضَةُ بن النعْمانِ بن حَمِيضَةَ على بارق وعمرو بن مَعْد يكرب وأبو سبره بن أبي رَهْمٍ على مَذْحج ويزيد بن الحرث الصدائي على عذْرَةَ وخبب ومَسْلِيَة وبشير بن عبد الله الهِلاَليِّ على قيس عيلان والحُصَيْن بن نُمْير ومعاوية بن خَدِيج على السكون وكِندَة‏.‏ ثم أمره بعد خروجه بألفي يماني وألفي فخري‏.‏ وسار سعد وبلغه في طريقه بِزَروَرْد أن المُثَنَى مات من جراحة انتقضت وإنه استخلف على الناس بشير بن الخَصاصِيَةِ‏.‏ وكانت جموع المثنى ثلاثة آلاف وكذلك أربعة آلاف من تميم والرباب وأقاموا‏.‏ وعمر ضرب على بني أسد أن ينزلوا على حد أرضهم فنزلوا في ثلاثة آلاف وأقاموا بين سعد والمثنى وسار سعد إِلى سيراف فنزلها‏.‏ واجتمعت إليه العساكر ولحقه الأشعث بن قيس ومعه ثلاثون ألفأ ولم يكن أحد أجرأ على الفرس من ربيعة‏.‏ ثم عبأ سعد كتائب من سيراف وأمرّ الأمراء وعرف على كل عشرة عريفاً وجعل الرايات لأهل السابقة ورتب المقَدّمة والساقة والمجنباتِ والطلائع وكل ذلك بأمر عمر ورأيه‏.‏ وبعث في المقدمَة زُهْرَةَ بن عبد الله بن قَتادَةَ الحَيَوي من بني تميم فانتهى إِلى العُذيْبِ وعلى الميمنة عبد الله بن المعتمر وعلى الميسرة شَرْحَبِيلُ بن السِّمْطِ وخليفة بن خالد بن عَرْفَطَةَ حليفُ بني عبد شمس وعاصم بن عمر التميمي على الساقة وسواد بن مالك التميمي على الطلائع وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة‏.‏ ثم سار على التعبية ولقيه المعنَى بن حارثة الشيباني بسيراف‏.‏ وقد كان بعد موت أخيه المثنى سار بذي قار إلى قابوس بن قابوس بن المنذر بالقادسية‏.‏ وقد وجاء إلى سعد بالخبر ليعلمه بوصية المثنى إليه أن لا تدخلوا بلاد فارس وقاتلوهم على حدود أرضهم بادىء حجر من أرض العرب‏.‏ فأن يظهر الله المسلمين فلهم ما وراءهم وإِلا رجعتم إِلى فئة ثم تكونوا أعلم بسبيهم وأجرأ على أرضهم إِلى أن يردّ الله الكرب‏.‏ فترحم سعد ومن معه على المثنى وولى أخاه المعنى على عمله وتزوج سلمى زوجته ووصله كتاب عمر بمثل رأي المثنى يسأله عن سيراف ونزل العرب ثم أتى القادسية فنزلها بحيال القنطرة بين العتيق والخندق‏.‏ ووصله كتاب عمر يؤكد عليهم في الوفاء بالأنبار ولو كان إشارة أو ملاعبة‏.‏ وكان زهرة في المقدمة فبعث سرية للإغارة على الحيرة عليها بكر بن عبد اللّه الليثي وإذا أخت مرزبان الحيرة تزفّ إلى زوجها فحمل بكير على ابن الأزادية فقتله وحملوا الأثقال والعروس في ثلاثين امرأة ومئة من التوابع ومعهم ما لا يعرف قيمته‏.‏ ورجعوا بالغنائم فصبح سعد بالعذيب فقسمه في المسلمين‏.‏ ولما رجع سعد إلى القادسية أقام بها شهراً يشن الغارات بين كسكر والأنبار ولم يأته خبر عن الفرس وقد بلغت أخبارهم إلى يزدجرد‏.‏ وإن ما بين الحيرة والفرات نُهبَ وخرب فاحضر رستم ودفعه لهذا الوجه فتقاعد عنه وقال‏:‏ ليس هذا من الرأي وبعث الجيوش يعقب بعضها بعضأ أولى من مصادمة مرة فأبى يزدجرد إلا مسيرة لذلك‏.‏ فعسكر رستم بساباط وكتب سعد بذلك إلى عمر فكتب إليه لا يكترثنك ما يأتيك عنهم واستعن بالله وتوكل عليه وابعث رجالاً من أهل الرأي والجلد يدعونه فإن الله جاعل ذلك وهناً لهم‏.‏ فأرسل سعد نفراً منهم النعمان بن مقرن وبشر بن أبي أدهم وجملة من حيوة وحنظلة بن الربيع وعدي بن سهيل وعطارد بن حاجب والحرث بن حسان والمغيرة بن زرارة والأشعث بن قيس وفرات بن حبان وعاصم بن عمرو وعمرو بن معد يكرب والمغيرة بن شعبة والمعنى بن حارثة فقدموا على يزدجرد وتركوا رستم واجتمعوا بل واجتمع الناس ينظرون إليهم وإلى خيولهم وبرودهم‏.‏ فأحضرهم يزدجرد وقال لترجمانة‏:‏ سلهم ما جاءكم وما أولعكم بغزونا وبلادنا من أجل إنا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا‏!‏ فتكلم النعمانُ بن مُقَرن بعد أن استأذن أصحابه وقال ما معناه‏:‏ إن الله رحمنا وأرسل إلينا رسولاً صفته كذا يدعونا إلى كذا ووعدنا بكذا فأجابه منا قوم وتباعد قوم‏.‏ ثم أمر أن نجاهد من خالفه من العرب فدخلوا معه على وجهين‏:‏ مكره اغتبط وطائع ازداد حتى اجتمعنا عليه وعرفنا فضل ما جاء به‏.‏ ثم أمرنا بجهاد من يلينا من الأمم ودعائهم إلى الإنصاف فإن أبيتم فالمناجزة‏.‏ فقال يزدجرد لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم وقد كان أهل الضواحي يكفوننا أمركم ولا تطمعوا أن تقوموا للفرس فإن كان بكم جهد أعطيناكم قوتاً وكسوناكم وملَكنا عليكم ملكاً يرفق بكم‏.‏ فقال المغيرة بن زرارة‏:‏ هؤلاء أشراف العرب ويستحيون من الأشراف وأنا أكلمك وهم يشهدون‏.‏ فأما ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت وأشَدّ ثم ذكر من عيش العرب ورحمة الله بهم بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم مثلما قال النعمان الخ‏.‏ ثم قال له‏:‏ إختر إما الجزية عن يد وأنت صاغر أو السيف وإِلا فنجّ نفسك بالإسلام‏.‏ فقال يزدجرد‏:‏ لو قَتَلَ أحَدٌ الرسُل قبلي لقتلتكم ثم استدعى بوقر من تراب وحمل على أعظمهم وقال‏:‏ ارجعوا إلى صاحبكم واعلموه أني مرسل رستم حتى يدفنكم أجمعين في خندق القادسيَّة ثم يُدَوِّخُ بلادكم أعظم من تدويخ سابور‏.‏ فقام عاصم بن عمرو فحمل التراب على عنقه وقال‏:‏ إنا أشرف هؤلاء‏:‏ ولما رجع إلى سعد فقال‏:‏ أبشر فقد أعطانا اللهّ تراب أرضهم‏.‏ وعجب رستم من محاورتهم وأخبر يزدجرد بما قال عاصم بن عمر فبعث في أثرهم إلى الحيرة فأعجزوهم‏.‏ ثم أغار سواد بن مالك التميمي بعد مسير الوفد إلى يزدجرد على الفِراض فاستاق ثلاثمائة دابة بين بغل وحمار وثور وآخرها سمكة‏.‏ وصبح بها العسكر فقسمه سعد في الناس وواصلوا السرايا والبعوث لطلب اللحم وأما الطعام فكان عندهم كثيراً‏.‏ وسار رستم إلى ساباط في ستين ألفاً وعلى مقدمته الجالينوس في أربعين ألفاً وساقَتْهُ عشرون ألفأ وفي المَيْمَنَةِ الهُرْمُزانُ وفي المسيرة مَهرانُ بن بَهْرَامَ الرازي‏.‏ وحمل معه ثلاثة وثلاثين فيَلاَ ثمانية عشر في القلب وخمسة عشر في الجَنْبَيْن‏.‏ ثم سار حتى نزل كوثى فأتى برجل من العرب فقال له رستم‏:‏ ما جاء بكم وما تطلبون‏.‏ فقال نطلب وعد اللّه بأرضكم وبلادكم وأبنائكم إن لم تسلموا‏.‏ قال رستم‏:‏ فإن قُتلتم دون ذلك‏.‏ قال‏:‏ من قًتِلَ دخل الجَنًةَ ومن بقي انجزه اللهّ وعده‏.‏ قال رستم‏:‏ فنحن إذا وضعنا في أيديكم‏.‏ فقال أعمالكم وضعتكم وأسلمكم اللّه بها فلا يغرنك من ترى حولك فلست تحاول الناس إنما تحاول القضاء والقَدَرَ‏.‏ فغضب وأمر به فضربت عنقه وسار فنزل الفرس وفشا في عسكره المنكر وغصبوا الرعايا أموالهم وأبناءهم حتى نادى رستم منهم بالويل‏.‏ فقال‏:‏ صدق والله العربي وأتى ببعضهم فضرب عنقه ثم سار حتى نزل الحيرة ودعا أهلها فعزرهم وهمّ بهم فقال له ابن بُقَيْلَةَ‏:‏ لا تجمع علينا إن تعجز عن نُصْرَتِنَا وتلومنا على الدفع عن أنفسنا‏.‏ وأرسلِ سعد السرايا إلى السواد وسمع بهم رستم فبعث لاعتراضهم الفرس وبلِغ ذلك سعداً فأمدهم بعاصم بن عمر فجاءهم وخيل فارس تحتوشهم‏.‏ فلما رأوا عاصماً هربوا‏.‏ وجاءَ عاصم بالغنائم ثم أرسل سعد عمرو بن معد يكرب وطُلَيْحَةَ الأسديّ طليعة فلما ساروا فرسخاً وبعضه لقوا المسالح فرجع عمرو ومضى طليحة حتى دخل عسكر رستم وبات فيه وهتك أطناب خيمة أو خيمتين واقتاد بعض الخيل وخرج يعدو به فرسه‏.‏ ونذر به الفرس فركبوا في طلبه إلى أن أصبح وهم في أثره فكرّ على فارس فقتله ثم آخر ثم آخر وأسر الرابع وشارف عسكر المسلمين فرجعوا عنه‏.‏ ودخل طليحة على سعد الفارسي ولم يخلف بعده فيهم مثلهم بل مثله فأسلم ولزم طليحة‏.‏ ثم سار رستم فنزل القادسية بعد ستة أشهر من المدائن وكان يطاول خوفأ وتقيةً والملك يستحثه‏.‏ وكان رأى في منامه كأن ملكاً نزل من السماء ومعه النبي صلى الله عليه وسلم وعمر‏.‏ وأخذ الملك سلاح أهل فارس فختمه ثم دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودفعه النبي إلى عمر فحزن لذلك أهل فارس في سيره‏.‏ ولما وصل القادسية وقف على العُتَيْقِ حيال عسكر المسلمين والناس يتلاحقون حتى اغْتمُوا من كثرتهم وركب رستم غداة تلك الليلة وصعد مع النهر وصوّت حتى وقف على القنطرة‏.‏ وأرسل إلى زهرة فوافقه وعرض له بالصلح‏.‏ وقال‏:‏ كنتم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونحفظكم ويقرر صنيعهم مع العرب ويقول زهرة ليس أمرنا من أولئك وإنما طلبنا وهمنا الآخرة‏.‏ وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولاً دعانا إلى دين الحق فأجبناه‏.‏ وقال‏:‏ قد سلطتكم على من لم يَدِنْ‏.‏ به وأنا منتقم بكم منهم وأجعل لكم الغلبة‏!‏ فقال رستم‏:‏ وما هو دين الحق فقال الشهادتان وإِخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة الله وإنهم إخوان في ذلك‏.‏ فقال رستم‏:‏ فإن أجبنا إلى هذا ترجعون فقال أي والله فانصرف عنه رستم‏.‏ ودعا رجال فارس‏.‏ وذكر ذلك لهم فأنفوا‏.‏ وأرسل إلى سعد أن ابعث لنا رجلاً نكلمه ويكلمنا‏.‏ فبعث إليه ربعي بن عامر وحبسوه على القنطرة حتى أعلموا رستم فجلس على سرير من ذهب وبُسط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدود بعصب وقدم حتى انتهى إلى البساط ووطئه بفرسه ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما وْجعل الحبل فيهما فلم يحفلوا بذلك وأظهروا التهاون‏.‏ ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها‏.‏ وأشاروا إليه بوضع سلاحه فقال‏:‏ لو أتيتكم فعلت كذا بأمركم وإنما دعوتموني‏.‏ ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه حتى أفسد ما مر عليه من البسط‏.‏ ثم دنا من رستم وجلس على الأرض وركز رمحه على البساط وقال‏:‏ إِنا لا نقعد على زينتكم قال له الترجمان‏:‏ ما جاء بكم فقال اللّه بعثنا لنخرج عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وأرسلنا بدينه إلى خلقه فمن قبله قبلنا منه وتركناه وأرضه ومن أبى قاتلناه حتى نفِيء إلى الجنة والظفر‏.‏ فقال رستم‏:‏ هل لكم أن تؤخرو هذا الأمر حتى ننظر فيه قال نعم‏!‏ كم أحب إليك يومأ أو يومين‏!‏ قال لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا‏.‏ فقال أن مما سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث فانظر في أمرك وأمرهم واختر إِما الإسلام وندعك وأرضك وإما الجزية فنقبل ونكف عنك وإن احتجت إلينا نصرناك والمنابذة في الرابع إلا أن تبذلوا كفيلاً بهذا عن أصحابي‏.‏ قال‏:‏ أسيدهم أنت قال لا‏!‏ ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجيز بعضهم عن بعض يجيز أدناهم على أعلاهم فخلا رستم بروساءِ قومه وقال‏:‏ رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا الرجل فأروه الإستخفاف بشأنه وثيابه‏.‏ فقال وبحكم إنما انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة والعرب تستخف اللباس وتصون الأحساب‏.‏ ثم أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا ذلك الرجل فبعث إليهم حذيفة بن مُحْصِنْ ففعل كما فعل الأول ولم ينزل عن فرسه وتكلم وأجاب مثل الأول‏.‏ فقال له ما قَعَدَ بالأول عنا فقال أميرنا يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي‏.‏ فقال رستم‏:‏ والمواعدة إلى متى فقال إلى ثلاث من أمس وأنصرف وخلا رستم بأصحابه يُعْجِبُهُم من شأن القوم وبعث من الغد عن آخر فجاءه المُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ‏.‏ فلما وصل إليهم وهم على زيّهم وبسطهم على غَلْوَة من مجلس رستم فجاء المغيرة حتى جلس معه على سريره فأنزلوه فقال‏:‏ لا أرى قوماً أسفه منكم إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضاً فظننتكم كذلك‏.‏ وكان أحسن بكم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض مع إني لم آتكم وإنما دعوتموني‏.‏ فقد علمت أنكم مغلوبون ولم يقم مَلِكٌ على هذه السيرة‏.‏ فقالت السَفَلَةَ‏:‏ صدق والله العَرَبيُ‏.‏ وقالت الأساطين والله لقد رمانا بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه قاتل اللهّ من يُصَغِّر أمر هذه الأمة‏.‏ ثم تكلم رستم فعظم من أمر فارس بل من شأن فارس وسلطانهم وصغر أمر العرب وقال‏:‏ كانت عيشتكم سيئة وكنتم تقصدوننا في الجدب فنردكم بشيء من التمر والشعير ولم يحملكم على ما صنعتم إلا ما بكم من الجهد ونحن نعطي أميركم كسوة وبغلاً وألف درهم وكل رجل منكم حمل تمر وتنصرفون فلست اشتهي قتلكم‏.‏ فتكلم المغيرة وخطب فقال‏:‏ أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف فنعرفه ولا ننكره والدنيا دُوَلٌ والشدَة بعدها الرخاء ولو شكرتم ما آتاكم اللّه لكان شكركم قليلأ على مما أوتيتم وقد أسلمكم الله بضعف الشكر إلى تغيِّر الحال وأن الله بعث فينا رسولاً ثم ذكر مثلما تقدم إلى التخيير بين الإسلام أو الجزية أو القتال ثم قال‏:‏ وإن عيالنا ذاقوا طعام بلادكم فقالوا لا صبر لنا عنه‏.‏ فقال رستم‏:‏ إذاً تموتون دونها‏.‏ فقال المغيرة‏:‏ يدخل من قتل منا الجنة ويظفر من بقي منا بكم فاستشاط غضباً وحلف أن لا يقع الصلح أبداً حتى أقتلكم أجمعين‏.‏ وانصرف المغيرة وخلا رستم بأهل فارس وعرض عليهم مصالحة القوم وَحَذرهمْ عاقبة حربهم فلجوا وبعث إليه سعد يعرض عليه الإسلام ويرغب فأجابه بمثل ما كان يقول لأولئك من الإمتنان على العرب والتعريض بالمطامع فلم يتفق شيء من رأيهم‏.‏ فقال رستم‏:‏ تعبرون إلينا أم نعبر إِليكم‏.‏ فقالوا‏:‏ بل اعبروا وأرسل إليهم سعد بذلك وأرادوا القنطرة فقال سعد‏:‏ لا ولا كرامة لا نردّ عليكم شيئأ غلبناكم عليه فأبى فباتوا يسَكِّرون العتيق بالتراب والقصب والبرادع حتى جعلوا جسراً‏.‏ ثم عبر رستم ونُصِبَ له سريره وجلس عليه وضرب طيًارة عليه وعبر عسكره وجعل الفِيَلَةَ في القلب والمَجْنَبَتَيْن عليها الصناديق والرجال والرايات أمثال الحصون‏.‏ وجعل الجالينوس بينه وبين الميمنة والفَيْرَزانِ بينه وبين الميسرة‏.‏ ورَتَبَ يزدجرد الرجال بين المدائن والقادسية وما بينه وبين رستم رجَلاً على كل دعوه تنتقل إليه ينبئهم أخبار رستم في أسرع وقت‏.‏ ثم أخذ المسلمون مصافَهم واختلط سعد قَصْرَهُ وكان به عِرْقُ النِساء وأصابته معه دماميل لا يستطيع معها الجلوس فصعد على سطح القصر راكباً على وسادة في صدره وأشرف على الناس‏.‏ وعاب ذلك عليه بعض الناس فنزل واعتذر إليهم وأراهم القروح في جسده فعذروه‏.‏ واستخلف خالد بن عَرْفَطَةَ على الناس وحبس من شغب عليه في القصر وقيدهم وكان فيهم أبو مِحجِن الثقَفِيُّ وقيل إِنما حبسه بسبب الخمر‏.‏ ثم خطب الناس وحثهم على الجهاد وذكرهم بوعد الله وذلك في المحرم سنة أربع عشرة وأخبرهم أنا أستخلف خالد بن عَرْفَطَةَ‏.‏ وأرسل جماعة من أهل الرأي لتحريض الناس على القتال مثل المُغِيرَة وحًذَيْفَة وعاصم وطُلَيْحَة وقَيس وغالب وعمرو‏.‏ ومن الشعراء الشماخَ والحُطَيئةَ والعًبْدِيِّ بل وعبدة بن الطيب وغيرهم ففعلوا‏.‏ ثم أمر بقراءة سورة الجهاد وهي الأنفال فهشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها فلما فرغت القراءة قال سعد‏:‏ الزموا مواقفكم‏.‏ فإذا صليتم الظهر فإني مكبر تكبيرة فكبّروا واستعدّوا فإذا سمعتم الثانية فكبروا وأتموا عدتكم فإذا سمعتم الثالثة فكبّروا ونشِّطوا الناس فإذا سمعتم الرابعة فازحفوا حتى تخالطوا عدوّكم وقولوا‏:‏ لا حول ولا قوّة إِلا باللّه‏.‏ فلما كبّر الثالثة برز أهل النجدان فانشبوا القتال وخرج أمثالهم من الفرس فاعتوروا الطعن والضرب وارتجزوا الشعْر وأول من أسر في ذلك اليوم هُرْمُز من ملوك اللباب وكان متوّجاً أسره غالب بن عبد اللهّ الأزديّ فدفعه إلى سعد ورجع إلى الحرب وطلب البراز أسوارُ منهم فبرز إليه عمرو بن معد يكرب فأخذه وجلد به الأرض فذبحه وسلب سِوارَيْةِ ومنطقته‏.‏ ثم حملوا الفِيَلَة على المسلمين وأمالوها على بَجِيلَةَ فثقلت عليهم فأرسل سعد إلى بني أسد أن يدافعوا عنهم فجاءه طلَيْحَةُ بن خُويلد وحمل ابن مالك فردّوا الفيلة وخرج إلى طليحة عظيم منهم فقتله طليحة‏.‏ وعيّر الأشعث بن قيس كندة بما يفعله بنو أسد فاستشاطوا ونهدوا معه فأزالوا الذين بازائهم‏.‏ وحين رأى الفرس ما لقي الناس والفيلة من بني أسد حملوا عليهم جميعاً وفيهم ذو الحاجب والجالينوس وكبّر سعد الرابعة فزحف المسلمون وثبت بنو أسد‏.‏ ودارت رحى الحرب عليهم وحملت الفيول على الميمنة والميسرة ونفرت خيول المسلمين منها فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو هل من حيلة لهذه الفيلة‏.‏ فبعث الرماة يرشقونها بالنبل واشتد برَدِّها آخرون يقطعون الوُضنَ‏.‏ وخرج عاصم بجميعهم ورحى الحرب على أسد واشتدّ عواء الفيلة ووقعت الصناديق فهلك أصحابها ونفس عن أسد واشتد عواء الفيلة ووقعت الصناديق فهلك أصحابها ونفس عن أسد أن أصيب منهم خمسمئة وردوا فارس إلى مواقفهم‏.‏ ثم اقتتلوا إلى هدء من الليل وكان هذا اليوم الأول وهو يوم الرماة‏.‏ ولما أصبح سعد دفن القتلى وأسلم الجرحى إلى نساء يقمن عليهم وإذا بنواحي الخيل طالعة من الشام كان عمر بعد فتح دمشق عزل خالد بن الوليد عن جند العراق وأمر أبا عبيدة أن يؤمر عليهم هاشم بن عُتْبَةَ يردهم إلى العراق‏.‏ فخرج بهم هاشم وعلى مقدمَتِهِ القعقاعُ بن عمرو فقدم القعقاع على الناس صبيحة ذلك اليوم وهو يوم أغواث‏.‏ وقد عهد إلى أصحابه أن يقطعوا أعشاراً بين كل عشرين مدّ البصر وكانوا ألفاً‏.‏ فسلَّم على الناس وبشرهم بالجنود وحرضهم على القتال‏.‏ وطلب البراز فخرج إليه ذو الحاجب فعرفه القعقاع ونادى بالثأر لأصحاب الجسر وتضاربا فقتله القعقاع وسر الناس بقتله ووهنت الأعاجم لذلك‏.‏ ثم طلب البراز فخرج أليه الفيرزان والبندوان‏.‏ وأكثر المسلمون القتل في الفرس وأخذوا الفيلة عن القتال لأن نوابتها تكسرت بالأمس فاستأنفوا عملها‏.‏ وجَفل القعقاع إبلاً وجعل عليها البراقع وأركبها عشرة عشرة وأطاف عليها الخيول تحميها وحملها على خيل الفرس فنفرت منها وركبتهم خيول المسلمين‏.‏ ولقي الفرس من الإبل أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة‏.‏ وبرز القعقاع يومئذ في ثلاثين فارساً في ثلاثين حملة فقتلهم كان آخرهم بزْرَجَمْهَر الهمداني‏.‏ وبارز الأعور بن قطنة شَهْرَيَارَ سِجِسْتانَ فقتل كل واحد منهما صاحبه‏.‏ ولما انتصف النهار تزاحف الناس فاقتتلوا إلى انتصاف الليل وقتلوا عامة أعلام فارس‏.‏ ثم أصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم بين الصفين من المسلمين ألف جريح وقتيل ومن المشركين عشرة آلاف‏.‏ فدفن المسلمون موتاهم وأسلموا الجرحى إلى النساء ووكلوا النساء والصبيان بحفر القبور وبقي قتلى المشركين بين الصفين‏.‏ وبات القعقاع يسرب أصحابه إلى حيث فارقهم بالأمس وأوصاهم إذا طلعت الشمس أن يقبلوا مئة مئة يجدّد بذلك الناس وجاء بينهما يلحق هاشم بن عتبة‏.‏ فلما ذرّ قرن الشمس أقبل أصحاب القعقاع فتقدموا والمسلمون يكبّرون‏.‏ فتزاحفت الكتائب طعناً وهرباً‏.‏ وما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى لحق هاشم فعبى أصحابه سبعين سبعين وكان فيهم قيس بن المكشوح فلما خالط القلب كبر وكبر المسلمون ثم كبَّر فخرق الصفوف إِلى العتيق‏.‏ ثم عاد وقد أصبح الفرس على مواقفهم وأعادوا الصناديق على الفيلة وأحدقوا الرجال بما يحمونها أن تقطع وضنها وأقام الفرسان يحمون الرجالة فلم تنفر خيل المسلمين منها‏.‏ وكان هذا اليوم يوم عماس وكان شديداً إِلا أن الطائفتين فيه سواء‏.‏ وأبلى فيه قيس بن المكشوح وعمرو بن معد يكرب‏.‏ ثم زحفت الفِيَلَة وفُرِقت بين الكتائب وأرسل سعد إِلى القعقاع وعاصم أن أكفياني الأبيض وكان بازائهما‏.‏ وإلى محمل والدّميل أن أكفياني الأجرب وكان بازائهما‏.‏ فحملوا على الفيلين فقتل الأبيض ومن كان عليه وقطع مشفر الأجرب وفقئت عينه وضرب سائسة الدميل بالطير زين فأفلت جريحاً‏.‏ وتحًير الأجرب بين الصفين وألقى نفسه في العتيق واتبعته الفيلة وفرقت صفوف الأعاجم في أثره وقصدت المدائن بوثوبها وهلك جميع من وخلص المسلمون والفرس فاختلفوا على سواء إلى المساء واقتتلوا بقية ليلتهم وتسمى ليلة الهرير‏.‏ فأرسل سعد طليحة وعمر إلى مخاضة أسفل العسكر يقومون عليها خشية أن يؤتى المسلمون منها فتشاوروا أن يأتوا الأعاجم من خلفهم فجاء طليحة وراء العسكر وكبّر‏.‏ فارتاع أهل فارس فأغار عمر أسفل المخاضة ورجع وزاحفهم الناس دون إذن سعد‏.‏ وأول من زاحفهم من الناس دون إذن سعد زاحفهم القعقاع وقومه فحمل عليهم ثم حمل بنو أسد النخع من بجيلة ثم كندة وسعد يقول في كل واحدة اللهم اغفر لهم وانصرهم‏.‏ وقد كان قال لهم إذا كبرت ثلاثاً فاحملوا فلما كبّر الثالثة لحق الناس بعضهم بعضاً بعد صلاة العشاء واختلطوا وصليل الحديد كصوت القرن إلى الصباح‏.‏ وركدت الحرب وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم‏.‏ وأقبل سعد على الدعاء وسمع نصف الليل صوت القعقاع في جماعة من الرؤساء إلى رستم حتى خالطوا صفه مع الصبح فحمل الناس من كل جهة على من يليهم واقتتلوا إلى قائم الظهيرة‏.‏ فناجز الفَيْرَزَان والهُرْمُزان بعض الشيء وانفرج القلب وهبًّت ريح عاصف فقلبت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق‏.‏ وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير وقد قام رستم عنه فاستظل في ظل بغل فحمله وضرب هلال بن عَلْقَمَةَ الحمل فوقع أحد العِدْلَيْن على رستم فكسر ظهره وضربه هلال ضربةً نفحت مسكاً وهرب نحو العتيق ورمى بنفسه فيه‏.‏ فاقتحم هلال عليه وَجرَّهُ برجله فقتله وصعد السرير وقال‏:‏ قتلت رستم ورب الكعبة‏.‏ إليَّ‏!‏ إِليَّ‏!‏ فأطافوا به وكبروا‏.‏ وقيل‏:‏ إِن هلالاً لما قصد رستم رماه بسهم فأثبت قدمه بالركاب ثم حمل عليه فقتله واحتز رأسه ونادى في الناس قتلت رستم‏!‏ فانهزم قلب المشركين‏.‏ وقام الجالينوس على الردم ونادى الفرس إِلى العبور وتهافت المقترنون بالسلاسل في العتيق وكانوا ثلاثين ألفا هلكوا‏.‏ وأخذ ضِرارُ بن الخطاب رايةَ الفرس العظيمة وهي درفش كابيان فعوض منها ثلاثين ألفاً وكانت قيمتها ألف ألف ومئة ألف‏.‏ وقتل ذلك اليوم من الأعاجم عشرة آلاف في المعركة وقتل من المشركين في ذلك اليوم ستة آلاف دفنوا في الخندق حيال مسرق سوى ألفين وخمسمائة قتلوا ليلة الهرير وجمع من الأسلاب والأموال ما لم يجمع قبله ولا بعده مثله‏.‏ ونفل سعد هلال بن علقمة سلب رستم وأمر القعقاع وشرحبيل باتباع العدوّ وقد كان خرج زهرة بن حيوة قبلها في أثره فلحق الجالينوس بجمع المنهزمين فقتله وأخذ سلبه‏.‏ فتوقف سعد من عطائه وكتب إلى عمر فكتب إليه‏:‏ تعمد إلى مثل زهرة وقد صلَّى بمثل ما صلى به وقد بقي عليك من حربك ما بقي نفسد قلبه‏.‏ امض له سلبه وفضله على أصحابه في العطاء بخمس مئة‏.‏ ولحق سليمان بن ربيعة الباهلي وأخوه عبد الرحمن بطائفة من الفرس قد أستماتوا وكان ممن هرب من أمراء الفرس الهرمزان والفرزاد بن بيهس وقارن‏.‏ وممن استمات فقتل شهريار بن كَبارَ‏.‏ وأُسِرَ المَدْمَروُن والفرَّدان الأهوازيَ وخَشَرْشُوم الهمداني‏.‏ وكتب سعد إلى عمر بالفتح وبمن أصيب من المسلمين‏.‏ وكان عمر يسأل الركبان حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى أهله‏.‏ فلما لقي البشير قال من أين فأخبره فقال حدثني فقال‏:‏ هزم اللّه المشركين‏.‏ ففرح بذلك وأقام المسلمون بالقادسية ينتظرون كتاب عمر إلى أن وصلهم بالإقامة وكانت وقعة القادسية سنة أربع عشرة وقيل خمس عشرة وقيل ست عشرة‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:01 PM

فتح المدائن وجلولاء بعدها
ولما انهزم أهل فارس بالقادسية انتهوا إلى بابل وهديل وفيهم بقايا الرؤساء النَّخِيزَجَاَنُ ومَهرانَ الأهوازي والهرموان وأشباههم واستعملوا عليهم الفيرزان‏.‏ وأقام سعد بعد الفتح شهرين وسار بأمر عمر إلى المدائن وخلَّف العيال بالعتيق في جند كثيف حامية لهم وقدم بين يديه زهرة بن حياة وشرحبيل بن الصمت وعبد اللّه بن المُعْتَمِر ولقيهم بعض عساكر الفرس فهزموهم حتى لحقوا ببابل‏.‏ ثم جاء سعد وسار في التبيعة ونزلوا على الفيرزان ومن معه ببابل فخرجوا وقاتلوا المسلمين فانهزموا وافترقوا فرقتين‏.‏ ولحق الهرمزان بالأهواز والفيرزان بنهاوند وبها كنوز كسرى‏.‏ وسار النخيزَجان ومهران إِلى المدائن فتحصنوا وقطعوا الجسر‏.‏ ثم سار سعد من بابل على التعبية وزهرة في المقدمة‏.‏ وقدم بين يديه بكير بن عبد الله الليثيّ وكُثَير بن شهاب السبيعي حتى عبرا ولحقا بأخريات القوم فقتلا في طريقهما أسوارين من أساورتهم ثم تقدموا إِلى كوثي وعليها شهريار فخرج لقتالهم فقتل وانهزم أصحابه فافترقوا في البلاد وجاء سعد فنفل قاتله سلبه‏.‏ وتقدم زهرة إلى ساباط فصالحه أهلها على الجزية وهزم كتيبة كسرى ثم نزلوا جميعاً على بهرشير من المدائن ولما عاينوا الإيوان كبّروا وقالوا‏:‏ هذا أبيض كسرى هذا ما وعد الله‏.‏ وكان نزولهم عليها ذا الحجة سنة خمس عشرة‏.‏ فحاصروها ثلاثة أشهر ثم اقتحموها وكانت خيولهم تغير على النواحي وعهد إليهم عمر أن من أجاب من الفلاحين ولم يعن عليهم فذلك أمانه ومن هرب فأدْرِك فشأنكم به ودخل الدهاقين من غربي دجلة وأهل السواد كلهم في أمان المسلمين واغتبطوا بملكهم واشتد الحصار على بهرشير ونصبوا عليها المجانيق واستلحموهم في المواطن وخرج بعض المرازبة يطلب البراز فقاتله زهرة بن حيوة فقتلا معاً‏.‏ ويقال‏:‏ إِنّ زهرة قتله شبيب الخارجي أيام الحجاج‏.‏ ولما ضاق بهم الحصار وركب إليهم الناس بعض الأيام فلم يروا على الأسوار أحداً إلا رجلأ يشير إليهم فقال‏:‏ ما بقي بالمدينة أحد وقد صاروا إِلى المدينة القصوى التي فيها الإيوان‏.‏ فدخل سعد والمسلمون وأرادوا العبور إِليهم فوجدوهم جمعوا المعابر عندهم فأقام أياماً من صبر ودلّه بعض العلوج على مخاضة في دجلة فتردد فقال له‏:‏ أقدم فلا تأتي عليك ثلاثة إِلا ويزدجرد قد ذهب بكل شيء فيها‏.‏ فعزم سعد على العبور وخطب الناس وندبهم إلى العبور ورغّبهم وندب من يجيز أن لا يجيء الفِراضَ حتى يجيز إليه الناس‏.‏ فانتدب عاصم بن عمرو في ستمائة واقتحموا دجلة فلقيهم أمثالهم من الفرس عند الفراض وشدوا عليهم فانهزموا وقتل أكثرهم وعوّروا من الطعن في العيون‏.‏ وعاينهم المسلمون على الفراض فاقتحموا في أثرهم يصيحون‏:‏ نستعين باللّه ونتوكل عليه حسبنا اللّه ونعم الوكيل ولا حول ولا قوَة إِلا بالله العلي العظيم‏.‏ وساروا في دجلة وقد طبقوا ما بين عَدْوَتَيْها وخيلهم سابحة بهم وهم يهيمنون تارة ويتحادثون أخرى حتى أجازوا البحر ولم يفقدوا شيئاً إِلا قدحاً لبعضهم غلبت صاحبه جرية الماء وألقته الريح إلى الشاطىء‏.‏ ورأى الفرس عساكر المسلمين قد أجازوا البحر فخرجوا هاربين إلى حُلوان‏.‏ وكان يزدجرد قدَّم إليها قبل ذلك عياله ورفعوا ما قدروا عليه من عرض المتاع وخفيفه ومن بيت المال والنساء والذراري وتركوا بالمدائن من الثياب والأمتعة والآنية والألطاف ما لا تحصى قيمته‏.‏ وكان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف ألف ألف مكرّرة ثلاث مرات تكون جملتها ثلاثمائة ألف قنطار من الدنانير‏.‏ وكان رستم عند مسيره إلى القادسية حمل نصفها لنفقات العساكر وأبقى النصف واقتحمت العساكر المدينة يجولون في سككها لا يلقون بها أحداً‏.‏ وأرز سائر الناس القصر الأبيض حتى توثقوا لأنفسهم على الجزية‏.‏ ونزل سعد القصر الأبيض واتخذ الإيوان به مصلَى ولم يغيّر ما فيه من التماثيل‏.‏ ولما دخله قرأ‏:‏ ‏"‏ كَمْ تَرَكوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُون ‏"‏ الآية‏.‏ وصلَى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصلن بينهنّ وأتم الصلاة بنية الإقامة‏.‏ وسرح زهرة بن حيوة في آثار الأعاجم إِلى النهروان وقراها من كل جهة‏.‏ وجعل على الأخماس عمرو بن عمرو بن مُقَرًن وعلى القسم سلمان بن ربيعة الباهلي وجمع ما كان في القصر والإيوان والدور وما نهبه أهل المدائن عند الهزيمة‏.‏ ووجدوا حلية كسرى‏:‏ ثيابه وخرزاته وتاجه ودرعه التي كان يجلس فيها للمباهاة أخذ ذلك من أيدي الهاربين على بغلين وأخذ منهم أيضأ وقر بغل من السيوف وآخر من الدروع والمغافر منسوبة كلها درع هرقل وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وبهرام جور وسياوخش والنعمان بن المنذر وسيف كسرى وهرْمُزَ وقباذ وفَيْروز وهِرَقْل وخاقان وداهِر وبَهْرام وسِياوخش والنعمان أحضرها القعقاع‏.‏ وخيّره في الأسياف فاختار سيف هِرَقْل وأعطاه دِرْعَ بهرام وبعث إلى عمر سيف كسرى والنعمان وتاج كسري وحليته وثيابه ليراها الناس‏.‏ وقسم سعد الفيء بين المسلمين بعدما خمّسه وكانوا ستين ألفاً فأصاب للفارس إثنا عشر ألفاً وكلهم كان فارساً ليس فيهم راجل‏.‏ ونفل من الأخماس في أهل البلاد وقسم المنازل بين الناس واستدعى العيلات من العتيق فأنزلهم الدور ولم يزالوا بالمدائن حتى تم فتح جلولاء وحلوان وتكريت والموصل‏.‏ واختطت الكوفة فتحولوا إليها‏.‏ وأرسل سعد في الخمس كل شيء يعجب العرب منهم أن يصنع إليهم وحضر إليهم نهار كسرى وهو الغطف وهو بساط طوله ستون ذراعاً في مثلها مقدار مزرعة جريب في أرضه وهي منسوجة بالذهب طرقاً كالأنهار وتماثيل خلالها بصدف الدر والياقوت وهي حافاتها كالأرض المزدرعة والمقبله بالنبات ورقها من الحرير على قضبان الذهب وَزَهْرُهُ حَبًاتُ الذهب والفضَة وثَمَرُهُ الجوهر كانت الأكاسرة يبسطونه في الإيوان في فصل الشتاء عند فقدان الرياحين يشربون عليه فلما قدمت الأخماس على عمر قسمها في الناس ثم قال‏:‏ اشيروا علي في هذا الغطف فاختلفوا وأشاروا على نفسه فاقطعه بينهم فأصاب عليّ قطعة منه باعها بعشرين ألفاً ولم تكن بأجودها‏.‏ وولى عمر سعد بن أبي وقَّاص على الصلاة والحرب فيما غلب عليه وولى حُذَيْفَةَ بن اليمان على سقي الفرات وعثمان بن حنيف على سقي دجلة ولما انتهى الفرس بالهرب إلى جلولاء وافترقت الطرق من هنالك بأهل أذربيجان والباب وأهل الجبال وفارس وقضُوا هنالك خشية الافتراق واجتمعوا على مهران الرازي وخندقوا على أنفسهم وأحاطوا الخندق بجسره الحديد وتقدم يزدجرد إلىِ حلوان وبلغ ذلك سعداً فكاتب عمر بذلك يأمره أن يسرح إلى الفرس بجلولاء هاشماً ابن أخيه عتبة في اثني عشر ألفاً وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو وأن يولّى القعقاع بعد الفتح ما بين السواد والجبل‏.‏ فسار هاشم من المدائن لذلك في وجوه المسلمين وأعلام العرب حتى قدم جلولاء فأحاط بهم وحاصرهم في خنادقهم وزاحفوهم ثمانين يوما ينصرون عليهم في كلها والمدد متصل من هاهنا وهاهنا‏.‏ ثم قاتلوهم آخر الأيام فقتلوا منهم أكثر من ليلة الهرير وأرسل اللّه عليهم ريحاً وظلمة فسقط فرسانهم في الخندق وجعلوه طرقاً مما يليهم ففسد حصنهم وشعر المسلمون بذلك فجاءه القعقاع إلى الخندق فوقف على بابه‏.‏ وشاع في الناس أنه أخذ في الخندق فحمل الناس حملة واحدة انهزم المشركون لها وافترقوا ومرّوا بالجسرة التي تحصنَوا بها فعقرت دوابهم فترجلوا ولم يفلت منهم إِلا القليل‏.‏ يقال‏:‏ إِنه قتل منهم يومئذ مئة ألف واتبعهم القعقاع بالطلب إِلى خانقين وأجفل يزدجرد من حلوان إِلى الريّ واستخلف عليها خشرشوم وجاء القعقاع إِلى حلوان فبرز إِليه خشرشوم وعلى مقدمته الرمي فقتله القعقاع وهرب خشرشوم من ورائه وملك القعقاع حلوان وكتب إلى عمر بالفتح واستأذنه في اتباعهم فأبى وقال‏:‏ وددت أن بين السواد والجبل سداً حصيناً من ريف السواد فقد آثرت سلامة المسلمين على الأنفال وأُحْصِيَت الغنيمة فكانت ثلاثين ألف ألف فقسمها سلمان بن ربيعة‏.‏ يقال إِنه أصاب الفارس تسعة آلاف وتسعة من الدواب وبعثوا بالأخماس إِلى عمر مع زياد ابن أبيه‏.‏ فلما قدم الخمس قال عمر‏:‏ واللّه لا يُجنُّهُ سقف حتى أقسمه فجعله في المسجد وبات عبد الرحمن بن عوف وعبد اللّه بن الأَرقم يحرسانه ولما أصبح جاء في الناس ونظر إلى ياقوتة وجوهرة فبكى‏.‏ فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا موطن شكر قال‏:‏ واللهّ ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا فيلقي الله بأسهم بينهم ومنع عمر من قسمة السواد ما بين حلوان والقادسية فأقره حبساً واشترى جرير بعضه بشاطىء الفرات فرد عمر الشراء‏.‏ ولما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن بلغهم أن أُدَيْنَ بن الهرامون جمع جمعاً وجاء بهم إلى السهل فبعث إليه ضِرَار بن الخَطاب في جيش فلقيهم بماسَبْدَان فهزمهم وأسر أدين فقتله وانتهى في طلبه إلى النهروان وفتح ماسبدان عَنْوَةً وردّ إِليها أهلها ونزل بها فكانت أحد فروج الكوفة وقيل كان فتحها بعد نهاوند واللّه سبحانه أعلم‏.‏ ولاية عتبة بن غزوان على البصرة كان عمر عندما بعث المُثَنَّى إلى الحيرة بعث قَتَبَةَ بن قَتادَةَ السَلوسِيّ إلى البصرة فكان يغير بتلك الناحية‏.‏ ثم استمد عمر فبعث إليه شرَيْحَ بن عامر بن سعد بن بكر فأقبل إلى البصرة ومضى إلى الأهواز ولقيه مسلحة الأعاجم فقتلوه‏.‏ فبعث عمر عتبة بن غزوان والياً على تلك الناحية وكتب إلى العلاء بن الحضرمي أن يمده بعرفَجَةَ بن هَرْثَمَةَ وأمره أن يقيم بالتخم بين أرض العرب وأرض العجم‏.‏ فانتهى إلى حيال الجسر وبلغ صاحب الفرات خبرهم فأقبل في أربعة آلاف وعتبة في خمسمائة والتقوا فقتلوا الأعاجم أجمعين وأسروا صاحب الفرات‏.‏ ثم نزل البصرة في ربيع سنة أربع عشرة وقيل‏:‏ إِن البصرة بصرت سنة ست عشرة بعد جلولاء وتكريت‏.‏ أرسل سعد إليها عتبة فأقام بها شهراً وخرج إليه أهل الأبُلًة وكانت مرفأ للسفن من الصين فهزمهم عتبة واحجرهم في المدينة ورجع إلى عسكره ورعب الفرس فخرجوا عن الأبلة وحملوا ما خف وخلوا المدينة وعبروا النهر ودخلها المسلمون فغنموا ما فيها واقتسموه‏.‏ ثم اختطّ البصرة وبدأ بالمسجد فبناه بالقصب وجمع له أهل دست ميان فلقيهم عتبة فهزم وأخذ مرزبانها أسيراً وأخذ قتادة منطقته فبعث بها إلى عمر‏.‏ وسأل عنهم فقيل له انثالث عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهبَ والفِضَّةَ فرغب الناس في البصرة وأتوها‏.‏ ثم سار عتبة إلى عمر بعد أن بعث مُجاَشِعَ بن مسعود في جيش إِلى الفرات واستخلف المغيرة بن شعبة على الصلاة إلى قدوم مجاشع وجاء ألف بيكان من عظماء الفرس إلى المسلمين ولقيهم المغيرة بن شُعْبَةَ بالمِرْغَابِ وبينما هم في القتال إِذ لحق بهم النساء وقد اتخذن خُمُرَهُنَّ رايات فانهزم الأعاجم وكتبوا بالفتح إلى عمر فرد عتبة إِلى عمله فمات في طريقه‏.‏ وقيل‏:‏ إِن إمارة عتبة كانت سنة خمس عشرة وقيل ست عشرة فوليها ستة أشهر واستعمل عمر بعده المغيرة بن شعبة سنتين‏.‏ فلما رمي بما رمي به عزله واستعمل أبا موسى وقيل استعمل بعده عتبة أبا سبرة وبعده المغيرة‏.‏ وقعة مرج الروم وفتوح مدائن الشام بعدها لما انهزم الروم بِفَحْلٍ سار أبو عبيدة وخالد إلى حمص واجتمعوا بذي الكلاع في طريقهم وبعث هرقل توذر البطريق للقَائهم فنزلوا جميعاً بمرج الروم وكان توفر بازاء خالد وشمر بطريق آخر بازاء أبي عبيدة وأمسوا مستترين‏.‏ ثم أصبح فلم يجدوا توفر وسار إلى دمشق واتبعه خالد واستقبله يزيد من دمشق فقَاتله وجاءه خالد من خلفه فلم يفلت منهم إِلا القَليل وغنموا ما معهم‏.‏ وقاتل شَثَسٌ أبو عبيدة بعد مسيرة خالد فانهزم الروم وقتلوا واتبعهم أبو عبيدة إلى حمص ومعه خالد فبلغ ذلك هرقل فبعث بطريق حمص إِليها وسار هو في الرها فحاصر أبو عبيدة حمص حتى طلبوا الأمان فصالحهم‏.‏ وكان هرقل يعدهم في حصارهم المدد وأمر أهل الجزيرة بإمدادهم فساروا لذلك‏.‏ وبعث سعد بن أبي وقَّاص العساكر من العراق فحاصروا هيت وقرقيسيا فرجع أهل الجزيرة إلى بلادهم ويئس أهل حمص من المدد فصالحوا على صلح أهل دمشق وأنزل أبو عبيدة فيها السِّمْطَ بن الأسود في بني معاوية من كِندَةَ والأشعث بن قيس في السكون والمقداد في بَلِيّ وغيرهم‏.‏ وولَّى عليهم أبو عبيدة بن الصامت وصار إلى حماة فصالحوه على الجزية عن رؤوسهم والخراج عن أرضهم‏.‏ ثم سار نحو شيزر فصالحوا كذلك ثم إِلى المعرَّة كذلك‏.‏ ويقال معرّة النعمان وهو النعمان بن بشير الأنصاري‏.‏ ثم سار إلى اللاذقية ففتحها عنوة ثم سلمية ثم أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إِلى قِنسْرين فاعترضه ميناس عظيم الروم بعد هرقل فهزمهم خالد وأثخن فيهم ونازل قنسرين حتى افتتحها عنوة وخرّبها‏.‏ وأدرب إلى هرقل من ناحيته وأدرب عياض بن غَنْم كذلك وأدرب عمر بن مالك من الكوفة إلى قرقيسيا وأدرب عبد الله بن المعتمر من الموصل‏.‏ فارتحل هرقل إلى القُسْطَنْطِينِية من أمدها وأخذ أهل الحصون بين الإسكندرية وطرسوس وشعبها أن ينتفع المسلمون بعمارتها‏.‏ ولما بلغ عمر صنيع خالد قال أمَر خالد نفسه يرحم اللّه أبا بكر هو كان أعلم مني بالرجال‏.‏ وقد كان عزل خالداً والمثنى بن حارثة خشية أن يداخلهما كبر من تعظيم فوكلوا إليه‏.‏ ثم رجع عن رأيه في المثنى عند قيامه بعد أبي عبيد وفي خالد بعد قنسرين فرجع خالد إلى إمارته‏.‏ ولما فرغ أبو عبيدة من قنسرين سار إلى حلب وبلغه أن أهل قِنَسرين غدروا فبعث إليهم السمط الكندِيّ فحاصرهم وفتح وغنم‏.‏ ووصل أبو عبيدة إلى حَاضر حلب وهو موضع قريب منها يجمع أصنافَاَ من العرب فصالحوا على الجزية ثم أسلموا بعد ذلك‏.‏ ثم أتى حلب وكان على مُقًدَمَتِهِ عياض بن غنم الفِهْريِّ فحاصرهم حتى صالحوه على الأمان وأجاز ذلك أبو عبيدة وقيل صولحوا على مقاسمة الدور والكنائس وقيل انتقلوا إلى أنطاكية حتى صالحوا ورجعوا إلى حلب‏.‏ ثم سار أبو عبيدة من حلب إلى أنطاكية وبها جمع كبير من فلّ قنسرين وغيرهم ولقوه قريباً منها فهزمهم وأحجرهم بالمدينة وحاصرهم حتى صالحوه على الجلاء أو الجزية ورحل عنهم‏.‏ ثم نقضوا فبعث أبو عبيدة إليهم عياض بن عنم وحبيب بن مسلمة ففتحاها على الصلح الأول وكانت عظيمة الذكر‏.‏ فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتب فيها حامية مرابطة ولا يؤخر عنهم العطاء‏.‏ ثم بلغ أبا عبيدة أن جمعاً بالروم بين معرة مصرين وحلب فسار إليهم فهزمهم وقتل بطارقتهم وأمعن بل وأثخن فيهم وفتح معرّة مِصْريِن على صلح حلب‏.‏ وجالت خيوله فبلغت سَرْمين وتيرى وغلبوا على جميع أرض قنسرين وأنطاكية‏.‏ ثم فتح حلب ثانية وسار يريد قُورس وعلى مقَدّمَتِهِ عياضُ فصالحوه على صلح أنطاكية‏.‏ وبثَّ حيله ففتح تِل نِزار وما يليه‏.‏ ثم فتح مَنْبجَ على يد سَلْمان بن ربيعة الباهِلِيّ‏.‏ ثم بعث عِياضاً إلى دَلوكَ وعَينتاب فصالحهم على مثل منبج واشترط عليهم أن يكونوا عوناً للمسلمين‏.‏ وولَّى أبو عبَيدَةَ على كل ما فتح من الكوَرِ عاملاً وضم إليه جماعة وشحن الثغور المخوفة بالحامية‏.‏ واستولى المسلمون على الشام من هذه الناحية إلى الفرات‏.‏ وعاد أبو عبيدة إلى فلسطين وبعث أبو عبيدة جيشاً مع مَيْسرَة بن مسروق العبْسيّ فسلكوا درب تفليس إلى بلاد الروم فلقي جمعاً للروم ومعهم عرب من غسان وتنوخ وإياد يريدون اللحاق بِهِرَقْل فأوقع بهم واثخن فيهم‏.‏ ولحق به على أنطاكية مالك بن الأشْتَرِ النَخَعِيُ مدداً فرجعوا جميعاً إلى أبي عبيدة‏.‏ وبعث أبو عبيدة جيشاً آخر إلى مَرْعَشَ مع خالد بن الوليد ففتحها على إِجلاء أهلها بالأمان وخرَّبها‏.‏ وبعث جيشاً آخر مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحرث كذلك‏.‏ وفي خلل ذلك فتحت قِيسَارِيَّةُ بعث إليها يزيد بن أبي سفيان أخاه معاوية بأمر عُمَرَ فسار إليها وحاصرهم بعد أن هزمهم‏.‏ وبلغت قتلاهم في الهزائم ثمانين ألفاً وفتحها آخراً وكان علقمة بن مُجَزِّز على غزَة وفيها القبغار من بطاركة الروم‏.‏ وقعة أجنادين وفتح بيسان والأردن وبيت المقدس لما انصرف أبو عبيدة وخالد إِلى حمص بعد واقعة مرج الروم نزل عمرو وشرحبيلُ على أهل بيسان فافتتحها وصالح أهل الأردن واجتمع عسكر الروم بأجنادين وغزة وبيسان وعليهم أرطبون من بطارقة الروم‏.‏ فسار عمرو وشرحبيل إليهم واستخلف على الأردن أبا الأعْوَرِ السَّلَمِي‏.‏ وكان الأرطبون قد أنزل بالرملة جندأ عظيماً من الروم وبيت المقدس كذلك‏.‏ وبعث عمرو عَلْقَمَةَ بن حكيم الفِرَاسِي ومسروق بن العَكِّيِّ لقتال أهلِ بيت المقدس‏.‏ وبعث أبا أيوبٍ المالِكِيّ إلى قتال أهل الرمْلَةِ‏.‏ وكان معَاوِيَةُ محاصراَ لأهل قيسارِيَّةَ فشغل جميعهم عنه‏.‏ ثم زحف عمرو إلى الأرطبون واقتتلوا كيوم اليرموك أو أشد‏.‏ وانهزم أرطبون إلى بيت المقدس وأفرج له المسلمون الذين كانوا يحاصرونها حتى دخل‏.‏ ورجعوا إلى عُمَرَ وقد نزل أجْنادين‏.‏ وقد تقدَم لنا ذكر هذه الواقعة قبل اليرموك على رأي من جعلها قبلها وهذا على قول من جعلها بعدها‏.‏ ولما دخل أرطبون بيت المقدس فتح عمر غزة‏.‏ وقيل كان فتحها في خلافة أبي بكر ثم فتح سبسَطية وفيها قبر يحيى بن زكريا وفتح نابلس على الجزية‏.‏ ثم فتح مدينة لدّ ثم عَمَواس وبيت حِبْرِين ويافا ورفح وسائر مدائن الأردن‏.‏ وبعث إلى الأرطبون فطلب أن يصالح كأهل الشام ويتولى العقد عمر وكتبوا إليه بذلك‏.‏ فسارعن المدينة واستخلف عليها عليّ بن أبي طالب بعد أن عذله في مسيرة فأبى‏.‏ وقد كان واعد أمراء الأجناد هنالك فلقيه يزيد ثم أبو عبيدة ثم خالد على الخيول عليهم الديباج والحرير فنزل ورماهم بالحجارة وقال‏:‏ اتستقبلوني في هذا الزَيّ وإنما شبعتم منذ سنتين واللّه لو كان على رأس المائتين لاستبدلت بكم‏.‏ قالوا‏:‏ إِنها بلا ثمن وإن علينا السلاح فسكت ودخل الجابية‏.‏ وجاءه أهل بيت المقدس وضم عَمْراً وشرحبيل إليه وقد هرب أرطبون عنهم إِلى مصر فصالحوه على الجزية وفتحوها له وكذلك أهل الرمْلَةِ‏.‏ وولَى عَلْقَمَةَ بن حكيم عليه نصف فِلَسطين وأسكنه الرملة وعَلْقَمَةَ بن مُجْزِرٍ على النصف الآخر وأسكنه بيت المقدس وضم عَمْراً وشرحبيل إِليه فلقياه بالجابِيَةَ‏.‏ وركب عُمَرُ إِلى بيت المقدس فدخلها وكشف عن الصخرة وأمر ببناء المسجد عليها‏.‏ وذلك سنة خمس عشرة وقيل سنة ست عشرة‏.‏ ولحق أرطبون بمصر مع من أبى الصلح من الروم حتى هلك في فتح مصر وقيل‏:‏ إنما لحق بالروم وهلك في بعض الصوائف‏.‏ ثم فرق عمر العطاء ودوَّن الدواوين سنة خمس عشرة ورتّب ذلك على السابقة‏.‏ ولمَا أعطى صَفْوان بن أُميةَ والحَرْثَ بن هِشام وسُهَيْلَ بن عمرو أقل من غيرهم قالوا‏:‏ لا والله لا يكون أحد أكرم منا‏.‏ فقال‏:‏ إِنما أعطيت على سابقة الإسلام لا على الأحساب‏.‏ فقالوا‏:‏ فنعم إِذن وخرجوا إِلى الشام فلم يزالوا مجاهدين حتى أصيبوا‏.‏ ولما وضع عمر الدواوين قال له علي وعبد الرحمن ابدأ بنفسك‏.‏ قال لا‏!‏ بعمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب ورتَّب ذلك على مراتب‏.‏ ففرض خمسة آلاف ثم أربعة ثم ثلاثة ثم ألفين وَخمسمائة ثم ألفين ثم ألفاً واحداً ثم خمسمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين وخمسين ثم مائتين‏.‏ وأعطى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف لكل واحدة وفَضّل عائشة بألفين وجعل النساء على مراتب فلأهل بدر خمسمائة ثم أربعمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين والصبيان مائة مائة والمساكين جرايتين في الشهر‏.‏ ولم يترك في بيت المال شيئاً‏.‏ وسئل في ذلك فأبى وقال‏:‏ هي فتنة لمن بعدي‏.‏ وسأل الصحابة في قوته من بيت المال فأذنوا له فيه وسألوه في الزيادة على لسان حفصة ابتنه متكتمين عنه‏.‏ فغضب وامتنع‏.‏ وسألها عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيشه وملبسه وفراشه فأخبرته بالكفاف من ذلك‏.‏ فقال‏:‏ والله لأضعن الفضول موضعها ولأتبلغن بالترجية وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقاً وتزود الأول فبلغ المنزل واتبعه الآخر مقتديأ به كذلك ثم جاءه الثالث بعدهما فإن اقتفى طريقهما وزادهما لحق بهما وإلا لم يبلغهما‏.‏ وفتحت في جمادى من هذه السنة تكريت لأن أهل الجزيرة كانوا قد اجتمعوا إلى المرزبان الذي كان بها وهم من الروم وإياد وتغلب والنمر ومعهم المشهارجة ليحموا أرض الجزيرة من ورائهم‏.‏ فسرح إليهم سعد بن أبي وقاص بأمر عمر كاتبه عبد الرحمن بن المعتمر وعلى مقدمته ربعي بن الأفكل‏.‏ وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة فحاصروهم أربعين يوماً ودخلوا العرب الذين معهم فكانوا يطلعونهم على أحوال الروم‏.‏ ثم يئس الروم من أمرهم واعتزموا على ركوب السفن في دجلة للنجاة‏.‏ فبعث العرب بذلك إلى المسلمين وسألوهم الأمان فأجابوهم على أن يسلموا فأسلموا وواعدوهم الثبات والتكبير وأن يأخذوا على الروم أبواب البحر مما يلي دجلة ففعلوا‏.‏ ولما سمع الروم التكبير من جهة البحر ظنوا أن المسلمين استداروا من هنالك فخرجوا إلى الناحية التي فيها المسلمون فأخذتهم السيوف من الجهتين‏.‏ ولم يفلت إلا من أسلم من قبائل ربيعة من تغلب والنمر وإياد وقسمت الغنائم فكان للفارس ثلاثة آلاف درهم وللراجل ألف‏.‏ ويقال إن عبد الله بن المعتمر بعث ربعي بن الأفكل بعهد عمر إلى الموصل ونينوى وهما حصنان على دجلة من شرقيها وغربيها‏.‏ فسار في تغلب وإياد والنمر وسقوه إلى الحضين فأجابوا إلى الصلح وصاروا ذمةً‏.‏ وقيل بل الذي فتح الموصل عتبة بن فرقد سنة عشرين وإنه ملك نينوى وهو الشرقي عنوةً‏.‏ وصالحه أهل الموصل وهو الغربي على الجزية وفتح معها جبل الأكراد وجميع أعمال الموصل وقيل إنما بعث عتبة بن فرقد عياض بن غنم عندما فتح الجزيرة على ما نذكره والله أعلم‏.‏ مسير هرقل إلى حمص وفتح الجزيرة وأرمينية كان أهل الجزيرة قد راسلوا هرقل وأغروه بالشام وأن يبعث الجنود إلى حمص وواعدوه المدد‏.‏ وبعثوا الجنود إلى أهل هيت مما يلي العراق‏.‏ فأرسل سعد عمر بن مالك بن خيبر بن مطعم في جند وعلى مقدمته الحرث بن يزيد العامري‏.‏ فسار إلى هيت وحاصرهم فلما رأى اعتصامهم بخندقهم حجر عليهم الحرث بن يزيد وخرج في نصف العسكر وجاء قرقيسيا على غرة فأجابوه إلى الجزية‏.‏ وكتب إلى الحرث أن يخندق على عسكر الجزيرة فبيت حتى سألوا المسالمة والعود إلى بلادهم فتركهم ولحق بعمر بن مالك‏.‏ ولما اعتزم هرقل على قصد حمص وبلغ الخبر أبا عبيدة ضم إليه مسالحة وعسكر بفنائها‏.‏ وأقبل إليه خالد من قنسرين وكتبوا إلى عمر بخبر هرقل فكتب إلى سعد أن يذهب الناس بل أن يندب الناس مع القعقاع بن عمرو ويسرحهم من يومهم فإن أبا عبيدة قد أحيط به‏.‏ وأن يسرح سهيل بن عدي إلى الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استدعوا الروم إلى حمص‏.‏ وأن يسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين ثم يقص حران والرها‏.‏ وأن يسرح الوليد بن عقبة إلى عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ‏.‏ وأن يكون عياض بن غنم على أمراء الجزيرة هؤلاء إن كانت حرب‏.‏ فمضى القعقاع من يومه في أربعة آلاف إلى حمص وسار عياض بن غنم وأمراء الجزيرة كل أمير إلى كورته وخرج عمر من المدينة فأتى الجابية يريد حمص مغيثاً لأبي عبيدة ولما سمع أهل الجزيرة خبر الجنود فارقوا هرقل ورجعوا إلى بلادهم‏.‏ وزحف أبو عبيدة إلى الروم فانهزموا وقدم القعقاع من العراق بعد الوقعة بثلاث‏.‏ وكتبوا إلى عمر بالفتح فكتب إليهم أن أشركوا أهل العراق في الغنيمة‏.‏ وسار عياض بن غنم إلى الجزيرة وبعث سهيل بن عدي إلى الرقة عندما انقبضوا عن هرقل فنهضوا معه إلا إياد بن نزار فإنهم دخلوا أرض الروم‏.‏ ثم بعث عياض بن سهيل وعبد الله يضمهما إليه وسار بالناس إلى حران فأجابوه إلى الجزية‏.‏ ثم سرح سهيلاً وعبد الله إلى الرها فأجابوا إلى الجزية وكمل فتح الجزيرة‏.‏ وكتب أبو عبيدة إلى عمر لما رجع من الجابية وانصرف معه خالد أن يضم إليه عياض بن غنم مكانه ففعل وولى حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها والوليد بن عقبة على عربها‏.‏ ولما بلغ عمر دخول إياد إلى بلاد الروم كتب إلى هرقل‏:‏ بلغني أن حياً من أحياء العرب تركوا دارنا وأتوا دارك فوالله لتخرجنهم أو لنخرجن النصارى إليك‏.‏ فأخرجهم هرقل وتفرق منهم أربعة آلاف فيما يلي الشام والجزيرة وأبى الوليد بن عقبة أن يقبل من تغلب إلا الإسلام‏.‏ فكتب إليه عمر‏:‏ إنما ذلك في جزيرة العرب التي فيها مكة والمدينة واليمن فدعهم على أن لا ينصروا وليداً ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام‏.‏ ثم وفدوا إلى عمر في أن يضع عنهم اسم الجزية فجعلها الصدقة مضاعفة‏.‏ ثم عزل الوليد عنهم لسطوته وعزتهم وأمر عليهم فرات بن حيان وهند بن عمرو الجملي‏.‏ وقال ابن اسحاق‏:‏ إن فتح الجزيرة كان سنة تسع عشرة وأن سعداً بعث إليها الجند مع عياض بن غنم وفيهم ابنه عمر وعياض بن غنم ففتح عمر الرها بل ففتح عياض الرها‏.‏ وصالحت حران وافتتح أبو موسى نصيبين وبعث عثمان بن أبي العاص إلى أرمينيا فصالحوه على الخزية‏.‏ ثم كان فتح قيسارية من فلسطين‏.‏ فتكون الجزيرة على هذا من فتوح أهل العراق والأكثر إنها من فتوح أهل الشام وأن أبا عبيدة سير عياض بن غنم إليها‏.‏ وقيل بل استخلفه لما توفي‏.‏ فولاه عمر على حمص وقنسرين والجزيرة فسار إليها سنة ثماني عشرة في خمسة آلاف فانتهت طائفة إلى الرقة فحاصروها حتى صالحوه على الجزية والخراج على الفلاحين‏.‏ ثم سار إلى حران فجهز عليها صفوان بن المعطل وحبيب بن مسلمة وسار هو إلى الرها فحاصرها حتى صالحوه‏.‏ ثم رجع إلى حران وصالحهم كذلك ثم فتح سميساط وسروج ورأس كيفا فصالحوه على منبج كذلك ثم آمد ثم ميافارقين ثم كفرتوثا ثم نصيبين ثم ماردين ثم الموصل وفتح أحد حصنيها ثم سار إلى أرزن الروم ففتحها ودخل الحرب إلى بدليس ثم خلاط فصالحوه وانتهى إلى أطراف أرمينية ثم عاد إلى الرقة واستعمل عمر عمير بن سعد الأنصاري ففتح رأس عين وقيل‏:‏ إن عياضاً هو الذي أرسله وقيل إن أبا موسى الأشعري هو الذي افتتح رأس عين بعد وفاة عياض بولاية عمر‏.‏ وقيل إن خالداً حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل الحمام بآمد فأطلى بشيء فيه خمر وقيل لم يسر خالد تحت لواء أحد بعد أبي عبيدة‏.‏ ولما فتح عياض سميساط بعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوة ثم انتقض أهلها فلما ولي معاوية الشام والجزيرة وجه إليها حبيب بن مسلمة ففتحها عنوة أيضاً ورتب فيها الجند وولى عليها لما أدرب عياض بن غنم من الجابية‏.‏ فرجع عمر إلى المدينة سنة سبع عشرة وعلى حمص أبو عبيدة وعلى قنسرين خالد بن الوليد من تحته وعلى دمشق يزيد وعلى الأردن معاوية وعلى فلسطين علقمة بن مجزز وعلى السواحل عبد الله بن قيس‏.‏ وشاع في الناس ما أصاب خالد مع عياض بن غنم من الأموال فانتجعه رجال منهم الأشعث فإن كان من ماله فقد أسرف فاعزله واضمم إليك عمله‏.‏ فاستدعاه أبو عبيدة وجمع الناس وجلس على المنبر وسأل اليزيد خالداً فلم يجبه فقام بلال وأنفذ فيه أمر عمر وسأله فقال‏:‏ من مالي فأطلقه وأعاد قلنسوته وعمامته‏.‏ ثم استدعاه عمر فقال له من أين هذا الثراء قال من الأنفال والسهمان وما زاد على ستين ألفاً فهو لك فجمع ماله فزاد عشرين فجعلها في بيت المال ثم استصلحه‏.‏ وفي سنة سبع عشره هذه اعتمر عمر ووسع في المسجد وأقام بمكة عشرين ليلة وهدم على من أبى البيع دورهم لذلك‏.‏ وكانت العمارة في رجب وتولاها مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف وحويطب بن عبد العزى وسعيد بن يربوع‏.‏ واستأذنه أهل المياه أن يبنوا المنازل بين مكة والمدينة فأذن لهم على شرط أن ابن السبيل أحق بالظل والماء‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:02 PM

غزو فارس من البحرين وعزل العلاء عن البصرة ثم المغيرة
وولاية أبي موسى كان العلاء بن الحضرمي على البحرين أيام أبي بكر ثم عزله عمر بقدامة بن مظعون ثم أعاده‏.‏ وكان العلاء ينادي سعد بن أبي وقاص ووقع له في قتال أهل الردة ما وقع‏.‏ فلما ظفر سعد بالقادسية كان أعظم من فعل العلاء فأراد أن يؤثر في الفرس شيئاً فندب الناس إلى فارس وأجابوه وفرقهم أجناداً بين الجارود بن المعلى والسوار بن همام وخليد بن المنذر وأمره على جميعهم وحمله في البحر إلى فارس بغير إذن من عمر‏.‏ لأنه كان ينهى عن ذلك وأبو بكر قبله خوف الغرق‏.‏ فخرجت الجنود إلى اصطخر وبازائهم الهربذ في أهل فارس وحالوا بينهم وبين سفنهم فخاطبهم خليد وقال‏:‏ إنما جئتم لمحاربتهم والسفن والأرض لمن غلب‏.‏ ثم ناهدوهم واقتتلوا بطاوس وقتل الجارود والسوار‏.‏ وأمر خالد أصحابه أن يقاتلوا رجالة‏.‏ وقتل من الفرس مقتله عظيمة‏.‏ ثم خرج المسلمون نحو البصرة وأخذ الفرس عليهم الطرق فعسكروا وامتنعوا وبلغ ذلك عمر فأرسل إلى عتبة بالبصرة يأمره بإنفاذ جيش كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا‏.‏ وأمر العلاء بالإنصراف عن البحرين إلى سعد بمن معه فأرسل عتبة الجنود اثني عشر ألف مقاتل فيهم عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة والأحنف بن قيس وأمثالهم وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم من عامر بن لؤي فساحل بالناس حتى لقي خليداً والعسكر‏.‏ وقد تداعى إليهم بعد وقعة طاوس أهل فارس من كل ناحية فاقتتلوا وانهزم المشركون وقتلوا‏.‏ ثم انكفأوا بما أصابوا من الغنائم واستحثهم عتبة بالرجوع فرجعوا إلى البصرة‏.‏ ثم استأذن عتبة في الحج فأذن له عمر فحج ثم استعفاه فأبى وعزم عليه ليرجعن إليه عمله‏.‏ فانصرف ومات ببطن نخلة على رأس ثلاث سنين من مفارقة سعد‏.‏ واستخلف على عمله أبا سبرة بن أبي رهم فأقره عمر بقية السنة‏.‏ ثم استعمل المغيرة بن شعبة عليها وكان بينه وبين أبي بكر منافرة وكانا متجاورين في مشربتين ينفذ البصر من إحداهما إلى الأخرى من كوتين فزعموا إن أبا بكرة وزياد بن أبيه وهو أخوه لأمه وآخرين معهما عاينوا المغيرة على حالة قذفوه بها ادعوا الشهادة ومنعه أبو بكرة من الصلاة‏.‏ وبعثوا إلى عمر فبعث أبا موسى أميراً في تسعة وعشرين من الصحابة فيهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر ومعهم كتاب عمر إلى المغيرة‏:‏ أما بعد فقد بلغني عنك نبأ عظيم وبعثت أبا موسى أميراً فسلم إليه ما في يدك والعجل‏.‏ ولما استحضرهم عمر اختلفوا في الشهادة ولم يستكملها زياد فجلد الثلاثة‏.‏ ثم عزل أبا موسى عن البصرة بعمر بن سراقة ثم صرفه إلى الكوفة ورد أبا موسى فأقام عليه‏.‏ بناء البصرة والكوفة وفي هذه السنة وهي أربع عشرة بلغ عمر أن العرب تقر بل تغيرت ألوانهم ورأى ذلك في وجوه وفودهم فسألهم فقالوا وخومة البلاد غيرتنا وقيل إن حذيفة وكان مع سعد كتب بذلك إلى عمر‏.‏ فسأل عمر سعداً فقال غيرتهم وخومة البلاد والعرب لا يوافقها من البلاد إلا ما وافق إبلها‏.‏ فكتب إليه أن يبعث سلمان وحذيفة شرقيه فلم يرضيا إلا بقعة الكوفة فصليا فيها ودعيا أن تكون منزل ثبات‏.‏ ورجع إلى سعد فكتب إلى القعقاع وعبد الله بن المعتمر أن يستخلفا على جندهما ويحضرا‏.‏ وارتحل من المدائن فنزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة لسنتين وشهرين من وقعة القادسية ولثلاث سنين وثمانية أشهر من ولاية عمر‏.‏ وكتب إلى عمر إني قد نزلت الكوفة بين الحيرة والفرات برياً بحرياً بين الجلاء والنصر وخيرت الناس بينهما وبين المدائن ومن أعجبته تلك جعلته فيها مسلحة‏.‏ فلما استقروا بالكوفة ثاب إليهم ما فقدوه من حالهم‏.‏ ونزل أهل البصرة أيضأ منازلهم في وقت واحد مع أهل الكوفة بعد ثلاث مرات نزلوها من قبل واستأذنوا جميعاً في بنيان القصب فكتب عمر أن العسكرة أشد لحربهم وأذكر لكم‏:‏ وما أحب أن أخالفكم فابتنوا بالقصب‏.‏ ثم وقع الحريق في القصرين فاستأذنوا في البناء باللبن فقال‏:‏ افعلوا ولا يزيد أحد على ثلاثة بيوت ولا تطاولوا في البنيان والزموا السنة تلزمكم الدولة‏.‏ وكان على تنزيل الكوفة أبو هياج بن مالك وعلى تنزيل البصرة أبو المحرب عاصم بن الدلف‏.‏ وكانت ثغور الكوفة أربعة‏:‏ حلوان وعليها القعقاع وماسبدان وعليها ضرار بن الخطاب وقرقيسيا وعليها عمر بن مالك والموصل وعليها عبد الله بن المعتمر‏.‏ ويكون بها خلفاؤهم إذا غابوا‏.‏ فتح الأهواز والسوس بعدها لما انهزم الهرمزان يوم القادسية قصد خوزستان وهي قاعدة الأهواز فملكها وملك سائر الأهواز‏.‏ وكان أصله منهم من البيوتات السبعة في فارس وأقام يغير على أهل ميثان ودست ميثان من ثغور البصرة يأتي إليها من منادر ونهر تيري من ثغور الأهواز‏.‏ واستمد عتبة بن غزوان سعداً فأمده بنعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود‏.‏ فنزل بين ثغور البصرة وثغور الأهواز‏.‏ وبعث عتبة بن غزوان سلمي بن القين وحرملة بن قريضة من بني العدوية من حنظلة فنزل على ثغور البصرة بميسان ودعوا بني العم بن مالك وكانوا ينزلون خراسان‏.‏ فأهل البلاد يأمنونهم فاستجابوا وجاء منهم غالب الوائلي وكليب بن وائل الكلبي فلقي سلمي وحرملة وواعداهما الثورة بمنادر ونهر تيري‏.‏ ونهض سلمي وحرملة يوم الموعد في التعبية وأنهض نعيماً والتقو هم والهرمزان وسلمي على أهل البصرة ونعيم على أهل الكوفة‏.‏ وأقبل إليهما المدد من قبل غالب وكليب وقد ملك منادر ونهر تيري فانهزم الهرمزان وقتل المسلمون من أهل فارس مقتلة وانتهوا في اتباعهم إلى شاطىء دجيل وملكوا ما دونها‏.‏ وعبر الهرمزان جسر سوق الأهواز وصل دجيل بينه وبين المسلمين‏.‏ ثم طلب الهرمزان الصلح فصالحوه على الأهواز كلها ما خلا نهر تيري ومنادر وما غلبوا عليه من سوق الأهواز فإنه لا يرد وبقية المسالح على نهر تيري ومنادر وفيهما غالب وكليب‏.‏ ثم وقع بينهما وبين الهرمزان اختلاف في التخم ووافقهما سلمي وحرملة فنقض الهرمزان ومنع ما قبله وكثف جنوده بالأكراد‏.‏ وبعث عتبة بن غزوان حرقوص بن زهير السعدي لقتاله فانهزم وسار إلى رام هرمز وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها واتسعت له البلاد إلى تستر‏.‏ ووضع الجزية وكتب بالفتح وبعث في أثر الهرمزان جزء بن معاوية فانتهى إلى قرية الشغر‏.‏ ثم إلى دورق فملكها‏.‏ وأقام بالبلاد وعمرها وطلب الهرمزان الصلح على ما بقي من البلاد‏.‏ ونزل حرقوص جبل الأهواز وكان يزدجرد في خلال ذلك يمد ويحرض أهل فارس حتى اجتمعوا وتعاهدوا مع أهل الأهواز على النصرة‏.‏ وبلغت الأخبار حرقوصاً وجزءأ وسلمي وحرملة فكتبوا إلى عمر فكتب إلى سعد أن يبعث جنداً كثيفاً مع النعمان بن مقرن ينزلون منازل الهرمزان‏.‏ وكتب إلى أبي موسى أن يبعث كذلك جنداً كثيفاً مع سعد بن عدي أخي سهيل ويكون فيهم البراء بن مالك ومجزأة بن ثور وعرفجة بن هرثمة وغيرهم‏.‏ وعلى الجندين أبو سبرة بن أبي رهم‏.‏ فخرج النعمان بن مقرن في أهل الكوفة فخلف حرقوصاً وسلمي وحرملة إلى الهرمزان وهو برام هرمز‏.‏ فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدة ولقيه فانهزم ولحق بتستر وجاء النعمان إلى رام هرمز فنزلها وجاء أهل البصرة من بعده فلحقهم خبر الواقعة بسوق الأهواز فساروا حتى أتوا تستر‏.‏ ولحقهم النعمان فاجتمعوا على تستر وبها الهرمزان وأمدهم عمر بأبي موسى جعله على أهل البصرة فحاصروهم أشهراً وأكثروا فيهم القتل‏.‏ وزاحفهم المشركون ثمانين زحفاً سجالاً ثم انهزموا في آخرها‏.‏ واقتحم المسلمون خنادقهم وأحاطوا بها وضاق عليهم الحصار فاستأمن بعضهم من داخل البلد بمكتوب في سهم على أن يدلهم على مدخل يدخلون منه فانتدب لهم طائفة ودخلوا المدينة من مدخل الماء وملكوها وقتلوا المقاتلة‏.‏ وتحصن الهرمزان بالقلعة فأطافوا بها واستنزلوهم على حكم عمر وأوثقوه واقتسموا الفيء فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف والراجل ألف‏.‏ وقتل من المسلمين في تلك الليلة البراء بن مالك ومجزأة بن ثور قتلهما الهرمزان‏.‏ ثم خرج أبو سبرة في أثر المنهزمين ومعه النعمان وأبو موسى فنزلوا على السوس وسار زر بن عبد الله الفقيمي إلى جنديسابور فنزل عليها‏.‏ وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري بالرجوع إلى البصرة وأمر مكانه الأسود بن ربيعة من بني ربيعة بن مالك صحابي يسمى المقترب‏.‏ وأرسل أبو سبرة بالهرمزان إلى عمر في وفد منهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الديباج المذهب وتاجه مرصعأ بالياقوت وحليته ليراه المسلمون‏.‏ فلما رآه عمر أمر بنزع ما عليه وقال يا هرمزان‏:‏ كيف رأيت أمر الله وعاقبة الغدر فقال يا عمر‏:‏ إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم‏.‏ فلما صار الآن معكم غلبتمونا‏.‏ قال فما حجتك وما عذرك في الانتقاض مرة بعد أخرى قال أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك‏!‏ قال لا تخف ذلك‏.‏ ثم استقى فأتي بالماء فقال‏:‏ أخاف أن أقتل وأنا أشرب قال لا بأس عليك حتى تشربه فألقاه من يده وقال‏:‏ لا حاجة لي في الماء وقد أمنتني‏.‏ قال كذبت‏.‏ ‏!‏ قال أنس‏:‏ صدق يا أمير المؤمنين فقد قلت له لا بأس علب حتى تخبرني وحتى تشربه وصدق الناس‏.‏ فأقبل عمر على الهرمزان وقال خدعتني لا والله إلا أن تسلم‏!‏ فأسلم‏.‏ فغرض له في ألفين وأنزله المدينة واستأذنه الأحنف بن قيس في الانسياح في بلاد فارس وقال‏:‏ لا يزالون في الانتقاض حتى يهلك ملكهم فأذن له‏.‏ ولما لحق أبو سبرة بالسوس ونزل عليها وبها شهريار أخو الهرمزان فأحاط بها ومعه المقترب بن ربيعة في جند البصرة فسأل أهل السوس الصلح فأجابوهم‏.‏ وسار النعمان بن مقرن بأهل الكوفة إلى نهاوند وقد اجتمع بها الأعاجم‏.‏ وسار المقترب إلى زر بن عبد الله على جنديسابور فحاصروها مدة ثم رمى السهم بالأمان من خارج على الجزية فخرجوا لذلك‏.‏ فناكرهم المسلمون فإذا عبد فعل ذلك أصله منهم فأمضى عمر أمانة‏.‏ وقيل في فتح السوس‏:‏ إن يزدجرد سار بعد وقعة جلولاء فنزل اصطخر ومنعه سياه في سبعين إلفاً من فارس فبعثه إلى السوس ونزل الكلبانية وبعث الهرمزان إلى تستر كانت واقعة أبي موسى فحاصرهم فصالحوه على وحمل أصحابه على صلح أبي موسى تم على الإسلام على أن يقاتلوا الأعاجم ولا يقتلوا العرب ويمنعهم هو من العرب ويلحق بأشرف العطاء فأعطاهم ذلك عمر وأسلموا وشهدوا فتح تستر ومضى سياه إلى بعض الحصون في زي العجم فغدرهم وفتحه للمسلمين وكان فتح تستر وما بعدها سنة سبع عشرة وقيل ست عشرة‏.‏ مسير المسلمين إلى الجهات للفتح لما جاء الأحنف بن قيس بالهرمزان إلى عمر قال له‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ لا يزال أهل فارس يقاتلوننا ما دام ملكهم فيهم فلو أذنت بالإنسياح في بلادهم فازلنا ملكهم انقطع رجاؤهم‏.‏ فأمر أبا موسى أن يسير من البصرة غير بعيد حتى بل ويقيم حتى يأتي أمره‏.‏ ثم بعث إليه مع سهيل بن عدي بألوية الأمراء الذين يسيرون في بلاد العجم لواء خراسان للأحنف بن قيس ولواء أردشيرخرت وسابور لمجاشع بن مسعود السلمي ولواء اصطخر لعثمان بن أبي العاص الثقفي ولوء فسا ودار ابجرد لسارية بن زنيم الكناني ولواء كرمان لسهيل بن علي ولواء سجستان لعاصم بن عمرو ولواء مكران للحكم بن عمير الثعلبي‏.‏ ولم يتهيأ مسيرهم إلى سنة بثماني عشرة‏.‏ ويقال سنة إحدى وعشرين أو اثنين وعشرين‏.‏ ثم ساروا في بلاد العجم وفتحوا مجاعة عام الرمادة وطاعون عمواس وأصاب الناس سنة ثماني عشرة قحط شديد وجدب أعقب جوعاً بعد العهد بمثله مع طاعون أتى على جميع الناس وحلف عمر لا يذوق السمن واللبن حتى يحيا الناس وكتب إلى الأمراء بالأمصار يستمدهم لأهل المدينة‏.‏ فجاء أبو عبيدة بأربعة آلاف راحلة من الطعام وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم وأرسل فيه الطعام من مصر فرخص السعر واستقى عمر بالناس فخطب الناس وصلى‏.‏ ثم قام وأخذ بيد العباس وتوسل به ثم بكى وجثا على ركبتيه يدعو إلى أن مطر الناس‏.‏ وهلك بالطاعون أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وابنه عتبة في آخرين أمثالهم‏.‏ وتفانى الناس بالشام‏.‏ وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتفع بالمسلمين من الأرض التي هو بها فدعا أبو موسى يرتاد له منزلاً ومات قبل رحيله‏.‏ وسار عمر بالناس إلى الشام وانتهى إلى سرغ ولقيه أمراء الأجناد وأخبروه بشدة الوباء‏.‏ واختلفت الناس عليه في قدد معه فقيل إشارة العود‏.‏ ورجع وأخبر عبد الرحمن بن عوف بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الوباء فقال‏:‏ إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ ولما هلك يزيد وولى عمر على دمشق مكانه أخاه معاوية بن أبي سفيان وعلى الأرض شرحبيل بن حسنة‏.‏ ولما فحش أثر الطاعون بالشام أجمع عمر المسير إليه ليقسم مواريث المسلمين ويتطوف على الثغور ففعل ذلك ورجع واستقضى في سنة ثماني عشرة على الكوفة شريح بن الحرث الكندي وعلى البصرة كعب بن سوار الأزدي‏.‏ وحج في هذه السنة ويقال إن فتح جلولاء والمدائن والجزيرة كان في هذه السنة وقد تقدم ذكر ذلك‏.‏ وكذلك فتح قيسارية على يد معاوية وقيل سنة عشرين‏.‏ فتح مصر لما فتح عمر بيت المقدس استأذنه عمرو بن العاص في فتح مصر فأغزاه ثم أتبعه الزبير بن العوام فساروا سنة عشرين أو إحدى أو اثنين أو خمس‏.‏ فاقتحموا باب إليون ثم ساروا في قرى الريف إلى مصر ولقيهم الجاثليق أبو مريم والأسقف قد بعثه المقوقس‏.‏ وجاء أبو مريم إلى عمرو فعرض الجزية والمنع وأخبره بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم‏.‏ وأجلهم ثلاثاً ورجعوا إلى المقوقس وأرطبون أمير الروم فأبى من ذلك أرطبون وعزم الحرب وبيت المسلمين فهزموه وجنده‏.‏ ونازلوا عين شمس وهي المطرية وبعثوا لحصار الفورفا أبرهة بن الصباح ولحصار الاسكندرية عوف بن مالك فراسلهم أهل البلاد وانتظروا عين شمس‏.‏ فحاصرهم عمرو والزبير مدة حتى صالحوهما على الجزية وأجروا ما أخذوا قبل ذلك عنوةً فجرى الصلح وشرطوا رد السبايا فامضاه لهم عمر بن الخطاب على أن يجيز السبايا في الإسلام وكتب العهد بينهم ونصه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ودمهم وأموالهم وكافتهم وصاعهم ومدهم ومدهم لا يزيد شيء في ذلك ولا ينقضي‏.‏ ولا يساكنهم النوب‏.‏ وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليه ما جنى نصرتهم فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزية بعددهم وذمتنا ممن أبى برية‏.‏ وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله ما لهم وعليه ما عليهم ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ويخرج من سلطاننا وعليهم ما عليهم أثلاثاً في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين‏.‏ وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأساً وكذا وكذا فرساً على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة‏.‏ شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه‏.‏ وكتب وردان وحضر‏.‏ هذا نص الكتاب منقولاً من الطبري‏.‏ قال‏:‏ فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح ونزل المسلمون الفسطاط وجاء أبو مريم الجاثليق يطلب السبايا التي بعد المعركة في أيام الأجل فأبى عمرو من ردها وقال‏:‏ أغاروا وقاتلوا وقسمتهم في الناس وبلغ الخبر إلى عمر فقال‏:‏ من يقاتل في أيام الأجل فله الأمان‏.‏ وبعث فيهم إلى الدقاق فردهم عليهم‏.‏ ثم سار عمرو إلى الإسكندرية فاجتمع له من بينها وبين الفسطاط من الروم والقبط فهزمهم واثخن فيهم‏.‏ ونازل الإسكندرية وبها المقوقس وسأله الهدنة إلى مدة فلم يجبه وحاصرهم ثلاثة أشهر ثم فتحها عنوة وغنم ما فيها وجعلهم ذمة‏.‏ وقيل إن المقوقس صالح عمراً على إثني عشر ألف دينار على أن يخرج من يخرج ويقيم من يقيم باختيارهم وجعل عمرو فيها جنداً‏.‏ ولما تم فتح مصر والإسكندرية أغزى عمرو العساكر إلى النوبة فلم يظفروا فلما كان أيام عثمان وعبد الله بن أبي سرح على مصر صالحهم على عدة رؤوس في كل سنة ويهدي إليهم المسلمون طعاماً وكسوة فاستمر ذلك فيما بعد‏.‏ وقعة نهاوند لما فتحت الأهواز ويزدجرد بمرو كاتبوه واستنجدوه فبعث إلى الملوك ما بين الباب والسند وخراسان وحلوان يستمدهم فأجابوه واجتمعوا إلى نهاوند وعلى الفرس الفيرزان في مئة وخمسين ألف مقاتل‏.‏ وكان سعد بن أبي وقاص قد ألب أقوام عليه من عسكره وشكوه إلى عمر فبعث محمد بن مسلمة في الكشف عن أمره فلم يسمع إلا خيراً سوى مقالة من بني عبس‏.‏ فاستقدمه محمد إلى عمرو وخبره الخبر فقال‏:‏ كيف تصلي يا سعد قال أطيل الأولتين وأحذف الأخيرتين‏.‏ قال هكذا الظن بك‏.‏ ثم قال‏:‏ من خليفتك على الكوفة قال عبد الله بن عبد الله بن عتبان فأمره وشافهه بخبر الأعاجم‏.‏ وأشار بالإنسياح ليكون أهيب على العدو‏.‏ فجمع عمر الناس واستشارهم بالمسير بنفسه‏.‏ فمن موافق ومخالف إلى أن اتفق رأيهم على أن يبعث الجنود ويقيم ردءاً لهم‏.‏ وكان ذلك رأي علي وعثمان وطلحة وغيرهم‏.‏ فولى على حربهم النعمان بن مقرن المزني وكان على جند الكوفة بعد انصرافهم من حصار السوس وأمره أن يصير إلى ماء لتجتمع الجيوش عليه ويسير بهم إلى الفيرزان ومن معه‏.‏ وكتب إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان أن يستنفر الناس من النعمان فبعثهم مع حذيفة بن اليمان ومعه نعيم بن مقرن وكتب إلى المقترب وحرملة وزر الذين كانوا بالأهواز وفتحوا السوس وجنديسابور أن يقيموا بتخوم أصبهان وفارس ويقطعوا المدد على أهل نهاوند‏.‏ واجتمع الناس على النعمان وفيهم حذيفة وجرير والمغيرة وابن عمر وأمثالهم وأرسل النعمان طليحة وعمرو بن معد يكرب طليعة ورجع عمرو من طريقه‏.‏ وانتهى طليحة إلى نهاوند ونقض الطرق فلم يلق بها أحداً وأخبر الناس فرحل النعمان وعبى المسلمين ثلاثين ألفأ‏.‏ وجعل على مقدمته نعيم بن مقرن وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن وعلى المجردة القعقاع وعلى الساقة مجاشع بن مسعود‏.‏ وعبى الفيرزان كتائبه وعلى مجنبتيه زردق وبهمن جادوية مكان ذي الحاجب وقد توافى إليهم بنهاوند كل من غاب من القادسية من أبطالهم‏.‏ فلما تراءى الجمعان كبر المسلمون وحطت العرب الأثقال وتبادر أشراف الكوفة إلى فسطاط النعمان فبنوه‏.‏ حذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبه وعقبة بن عمرو وجرير بن عبد الله وحنظلة الكاتب وبشير بن الخصاصية والأشعث بن قيس ووائل بن حجر وسعيد بن قيس الهمداني‏.‏ ثم تزاحفوا للقتال يوم الأربعاء والخميس والحرب سجال‏.‏ ثم أحجروهم في خنادقهم يوم الجمعة وحاصروهم أياماً وسئم المسلمون اعتصامهم بالخنادق وتشاوروا وأشار طليحة باستخراجهم للمناجزة بالاستطراد بفناشبهم القعقاع فبرزوا إليه كأنهم حبال حديد قد تواثقوا أن لا يفروا وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا‏.‏ فلما برزوا استطرد لهم حتى فارقوا الخنادق وقد ثبت لهم المسلمون ونزل الصبر ثم وقف النعمان على الكتائب وحرض المسلمين ودعا لنفسه بالشهادة‏.‏ وقال إذا كبرت الثالثة فاحملوا ثم كبر وحمل عند الزوال وتجاول الناس ساعة وركدت الحرب ثم انفض الأعاجم وانهزموا‏.‏ وقتلوا ما بين الظهر والعتمة حتى سالت أرض المعركة دمأ تزلق فيه المشاة حتى زلق فيه النعمان وصرع‏.‏ وقيل بل أصابه سهم فسجاه أخوه نعيم بثوب وتناول الراية حذيفة بعهده وتواصلوا بكتمان موته‏.‏ وذهب الأعاجم ليلاً وعميت عليهم المذاهب وعقرهم حسك الحديد ووقعوا في اللهيب الذي أعدوه في عسكرهم‏.‏ فمات منهم أكثر من مئة ألف منها نحو ثلاثين ألفا في المعركة وهرب الفيرزان بعد أن صرع إلى همذان واتبعه نعيم بن مقرن فأدركه بالثنية دونها وقد سدتها الأحمال وترجل وصعد في الجبل‏.‏ وكان نعيم قد قدم القعقاع أمامه فاعترضه وقتله المسلمون على الثنية ودخل الفل همذان وبها خسر شنوم فنزل المسلمون عليها مع نعيم والقعقاع‏.‏ ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة وغنموا ما فيها وجمعوه إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع‏.‏ وولى على الجند حذيفة بعهد النعمان إليه‏.‏ ثم جاء الهربذ صاحب بيت النار إلى حذيفة فأمنه وأخرج له صفتين مملوءتين جوهرأ نفيساً كانا من دخائل كسرى أودعهما عنده وبعث الخمس من السائب إلى عمر وأخبره بالواقعة وبالفتح ومن استشهد فبكى‏.‏ وبالصفتين فقال ضعهما في بيت المال والحق بجندك‏.‏ قال السائب‏:‏ ثم لحقني رسوله بالكوفة فردني إليه فلما رآني قال‏:‏ ما لي وللسائب ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت الملائكة تسحبني إلى السفطين يشتعلان ناراً يتواعداني بالكي إن لم أقسمهما فخذهما عني وبعهما في أرزاق المسلمين‏.‏ فبعثمهما بالكوفة من عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم وباعهما عمرو بأرض الأعاجم بضعفهما‏.‏ فكان له بالكوفة مال‏.‏ وكان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف والراجل ألفين ولم يكن للفرس بعدها اجتماع وكان أبو لؤلؤة قاتل عمر من أهل نهاوند حصل في أسر الروم وأسره الفرس منهم فكان إذا لقي سبي نهاوند بالمدينة يبكي ويقول‏:‏ أكل عمر كبدي‏.‏ وكان أبو موسى الأشعري قد حضر نهاوند على أهل البصرة فلما انصرف مر بالدينور فحاصروها خمسة أيام ثم صالحوه على الجزية‏.‏ وصار إلى أهل شيروان فصالحوه كذلك‏.‏ وبعث السائب بن الأقرع إلى العيمرة ففتحها صلحأ‏.‏ ولما اشتد الحصار بأهل همذان بعث خسرشنوم إلى نعيم والقعقاع في الصلح على قبول الجزية فأجابوه إلى ذلك‏.‏ ثم اقتدى أهل الماهين وهم الملوك الذين جاءوا لنصرة يزدجرد بأهل همذان وبعثوا إلى حذيفة فصالحوه‏.‏ وأمر عمر بالإنسياح في بلاد الأعاجم وعزل عبد الله بن عبد الله بن عتبان عن الكوفة وبعثه في وجه آخر‏.‏ وولى مكانه زياد بن حنظلة حليف لبني عبد قصي واستعفى فاعفاه‏.‏ وولى عمار بن ياسر واستدعى بن مسعود من حمص فبعثه معه معلماً لأهل الكوفة وأمدهم بأبي موسى وأمد أهل البصرة مكانه بعبد الله بن عبد الله‏.‏ ثم بعثه إلى أصبهان مكان حذيفة وولى على البصرة عمرو بن سراقة‏.‏ ثم انتقض أهل همذان فبعث إلى نعيم بن مقرن يحاصرهم وصار بعد فتحها إلى خراسان‏.‏ وبعث عتبة بن فرقد وبكر بن عبد الله إلى أذربيجان فدخل أحدهما من حلوان والآخر من الموصل ولما فضل عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى أصبهان وكان من الصحابة من وجوه الأنصار حليف بني الحبلي فأمده بأبي موسى‏.‏ وجعل على مجنبتيه عبد الله بن ورقاء الرياحي وعصمة بن عبد الله فسار إلى نهاوند‏.‏ ورجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة‏.‏ فسار عبد الله بمن معه ومن تبعه من عند النعمان نحو أصبهان وعلى جندها الأسبيدان وعلى مقدمته شهريار بن جادويه في جمع عظيم برستاق أصبهان فاقتتلوا وبارز عبد الله بن ورقاء شهريار فقتله‏.‏ وانهزم أهل أصبهان وصالحهم الأسبيدان على ذلك الرستاق‏.‏ ثم ساروا إلى أصبهان وتسمى جي وملكها الفادوسفان فصالحهم على الجزية والخيار بين المقام والذهاب وقال‏:‏ ولكم أرض من ذهب‏.‏ وقدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز فدخل معه أصبهان وكتبوا إلى عمر بالفتح‏.‏ فكتب إلى عبد الله أن يسيروا إلى سهيل بن عدي لقتال كرمان فاستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع ولحق بسهيل قبل أن يصل كرمان‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن النعمان بن مقرن حضر فتح أصبهان أرسله إليها عمر من المدينة واستجاش له أهل الكوفة فقتل في حرب أصبهان‏.‏ والصحيح أن النعمان قتل بنهاوند وافتتح أبو موسى قم وقاشان‏.‏ ثم ولى عمر على الكوفة سنة إحدى وعشرين المغيرة بن شعبة وعزل عماراً‏.‏ فتح همذان كان أهل همذان قد صالح عليهم خشرشنوم القعقاع ونعيماً وضمنهما ثم انتقض فكتب عمر إلى نعيم أن يقصدها فودع حذيفة ورجع إليها من الطريق على تعبيته‏.‏ فاستولى على بلادها أجمع حتى صالحوه على الجزية‏.‏ وقيل إن فتحها كان سنة أربع وعشرين‏.‏ فبينما نعيم يجول في نواحي همذان إذ جاءه الخبر بخروج الديلم وأهل الري واسفنديار أخو رستم بأهل أذربيجان‏.‏ فاستخلف نعيم على همذان يزيد بن قيس الهمذاني وسار إليهم فاقتتلوا وانهزم الفرس وكانت واقعتها مثل نهاوند وأعظم‏.‏ وكتبوا إلى عمر بالفتح فأمر نعيماً بقصد الري والمقام بها بعد فتحها‏.‏ وقيل إن المغيرة بن شعبة أرسل من الكوفة جرير بن عبد الله إلى همذان ففتحها صلحاً وغلب على أرضها وقيل تولاها بنفسه وجرير على مقدمته‏.‏ ولما فتح جرير همذان بعث البراء بن عازب إلى قزوين ففتح ما قبلها وسار إليها فاستنجدوا بالديلم فوعدوهم‏.‏ ثم جاء البراء في المسلمين فخرجوا لقتالهم والديلم وقوف بأعلى الجبل ينظرون فيئس أهل قزوين منهم وصالحوا البراء على صلح أبهر قبلها‏.‏ ثم غزا البراء الديلم وجيلان‏.‏ فتح الري ولما انصرف نعيم من واقعته سار إلى الري وخرج إليه أبو الفرخان من أهلها في الصلح وأبى ذلك ملكها سياوخش بن مهران بن بهرام جوبين واستمد أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان فأمروه والتقوا مع نعيم فشغلوا به عن المدينة‏.‏ وقد كان خلفهم أبو فرخان‏.‏ ودخل المدينة من الليل ومعه المنذر بن عمرو وأخو نعيم فلم يشعروا وهم مواقفون لنعيم إلا بالتكبير من ورائهم فانهزموا وقتلوا وأفاء الله على المسلمين بالري مثلما كان بالمدائن‏.‏ وصالحه أبو الفرخان الزبيني على البلاد يزل شرفهم في عقبه‏.‏ وأخرب نعيماً مدينتهم العتيقة وأمر ببناء أخرى‏.‏ وكتب إلى عمر بالفتح وصالحه أهل دنباوند على الجزية فقبل منهم‏.‏ ولما بعث بالأخماس إلى عمر كتب إليه بإرسال أخيه سويد إلى قومس ومعه هند بن عمرو الجملي فسار فلم يقم له أحد وأخذها سلماً وعسكر بها‏.‏ وكاتبه الفل الذين بطبرستان وبالمفاوز فصالحوه على الجزية ثم سار إلى جرجان وعسكر منها ببسطام وصالحه ملكها على الجزية وتلقاه مرزبان صول قبل جرجان فكان معه حتى جبل خراج‏.‏ وأراه مروجها وسدها وقيل كان فتحها سنة ثلاثين أيام عثمان‏.‏ ثم أرسل سويد إلى الأصبهبذ صاحب طبرستان على الموادعة فقبل وعقد له بذلك‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:03 PM

فتح أذربيجان
ولما افتتح نعيم الري أمره عمر أن يبعث سماك بن خرشة الأنصاري إلى أذربيجان ممدا لبكر بن عبد الله‏.‏ وكان بكر بن عبد الله عند ما سار إلى أذربيجان لقي بالجبال اسفنديار بن قرخزاد مهزوماً من واقعة نعيم معهم أبو حرود دون همذان وهو أخو رستم فهزمه بكير وأسره‏.‏ فقال له اسكني عندك فاصالح لك على البلاد وإلا فروا إلى الجبال وتركوها‏.‏ وتحصن من تحصن إلى يوم ما فأمسكه وسارت البلاد صلحاً إلا الحصون‏.‏ وقدم عليه سماك وهو في مثل ذلك وقد افتتح ما يليه وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه‏.‏ وكتب بكير إلى عمر يستأذنه في التقدم فأذن له أن يتقدم نحو الباب وأن يستخلف على ما افتتح فاستخلف عتبة بن فرقد وجمع له عمر أذربيجان كلها‏.‏ فولى عتبة سماك بن خرشة على ما افتتحه بكير‏.‏ وكان بهرام بن الفرخزاد قصد طريق عتبة وأقام به في عسكره مقتصداً بل معترضاً له‏.‏ فلقيه عتبة وهزمه وبلغ خبره إلى الإسفنديار وهو أسير عند بكير فصالحه واتبعه أهل أذربيجان كلهم‏.‏ وكتب بكير وعتبة بذلك إلى عمر وبعثوا بالأخماس فكتب عمر لأهل أذربيجان كتاب الصلح‏.‏ ثم غزا عتبة بن فرقد شهرزور والصامغان ففتحهما بعد قتال على الجزية والخراج وقتل خلقا من الأكراد وكتب إلى عمر إن فتوحي بلغت أذربيجان فولاه إياها وولى هرثمة بن عرفجة الموصل‏.‏ فتح الموصل - الباب ولما افتتح أمر عمر بكير بن عبد الله بغزو الباب والتقدم إليها بعث سراقة بن عمرو على حربها فسار من البصرة وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة وعلى إحدى مجنبتيه ابن أسيد الغفاري وعلى الأخرى بكير بن عبد الله المتقدم‏.‏ وعلى المقاسم سلمان بن ربيعة الباهلي ورد أبا موسى الأشعري إلى البصرة مكان سراقة‏.‏ ثم أمد سراقة بحبيب بن مسلمة من الجزيرة وجعل مكانه زياد بن حنظلة وسار سراقة من أذربيجان‏.‏ فلما وصل عبد الرحمن بن ربيعة في مقدمته على الباب والملك بها يومئذ من ولد شهريار الذي أفسد بني إسرائيل وأغزى الشام منهم‏.‏ فكاتبه منهم شهريار واستأمنه على أن يأتي فحضر وطلب الصلح والموادعة على أن تكون جزيته النصر والطاعة للمسلمين‏.‏ قال‏:‏ ولا تسومون الجزية فتوهنونا لعدوكم فسيره عبد الرحمن إلى سراقة فقبل منه وقال‏:‏ لا بد من الجزية على من يقيم ولا يحارب العدو فأجابوا وكتبوا إلى عمر فأجاز ذلك‏.‏ m0 ح موقان وجبال أرمينية ولما فرغ سراقة من الباب بعث أمراء إلى ما يليه من الجبال المحيطة بأرمينية فأرسل بكير بن عبد الله إلى موقان وحبيب بن مسلمة إلى تفليس وحذيفة بن اليمان إلى جبال اللات وسلمان بن ربيعة إلى الوجه الآخر‏.‏ وكتب بالخبر إلى عمر فلم يرج تمام ذلك لأنه فرج عظيم‏.‏ ثم بلغه موت سراقة واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة فأقره عمر على فرج الباب وأمره بغزو الترك ولم يفتح أحد من أولئك الأمراء إلا بكير بن عبد الله فإنه فتح موقان ثم تراجعوا على الجزية ديناراً عن كل حالم‏.‏ ولما أمر عبد الرحمن بن ربيعة بغزو الترك سار حتى جاء الباب وسار معه شهريار فغزا بلنجر وهم قوم من الترك ففروا منه وتحصنوا وبلغت خيله على مائتي فرسخ من بلنجر‏.‏ وعاد بالظفر والغنائم ولم يزل يردد الغزو فيهم إلى أيام عثمان فتذامر الترك وكانوا يعتقدون أن المسلمين لا يقتلون لأن الملائكة معهم تمنعهم فأصابوا في هذه الغزاة رجلأ من المسلمين على غرة فقتلوه وتجاسروا وقاتل عبد الرحمن فقتل وانكشف أصحابه وأخذ الراية أخوة سلمان‏.‏ فخرج بالناس ومعه أبو هريرة الدوسي فسلكوا على جيلان إلى جرجان‏.‏ فتح خراسان ولما عقدت الألوية للأمراء للإنسياح في بلاد فارس كان الأحنف بن قيس منهم بخراسان‏.‏ وقد تقدم أن يزدجر سار بعد جلولاء إلى الري وبها أبان جادويه من مرازبته فأكرهه على خاتمة‏.‏ وكتب الضحاك بما اقترح من ذخائر يزدجرد وختم عليها وبعثها إلى سعد فردها عليه على حكم الصلح الذي عقد له‏.‏ ثم سار يزدجرد والناس معه إلى أصبهان ثم إلى كرمان ثم رجع إلى مرو من خراسان فنزلها وأمن من العرب‏.‏ وكاتب الهرمزان وأهل فارس بالأهواز والفيرزان وأهل الجبال فنكثوا جميعاً وهزمهم الله وخذلهم وأذن عمر للمسلمين بالإنسياح في بلادهم‏.‏ وأمر الأمراء كما قدمناه وعقد لهم الأولوية فسار الأحنف إلى خراسان سنة ثماني عشرة وقيل اثنين وعشرين‏.‏ فدخلها من الطبسين وافتتح هراة عنوة واستخلف عليها صحار بن فلال العبدي‏.‏ ثم سار إلى مرو الشاهجان وأرسل إلى نيسابور مطرف بن عبد الله بن الشخير وإلى سرخس الحرث بن حسان‏.‏ ودرج يزدجرد من مرو الشاهجان إلى مرو الروذ فملكها الأحنف ولحقه مدد أهل الكوفة هنالك‏.‏ فسار إلى مرو الروذ واستخلف على الشاهجان حارثة بن النعمان الباهلي‏.‏ وجعل مدد الكوفة في مقدمته فالتقوا هم ويزدجرد على بلخ فهزموه وعبر النهر فلحقهم الأحنف وقد فتح الله عليهم ودخل أهل خراسان في الصلح ما بين نيسابور وطخارستان‏.‏ وولى على طخارستان ربعي بن عامر وعاد إلى مرو الروذ فنزلها وكتب إلى عمر بالفتح فكتب إليه أن يقتصر على ما ودون النهر‏.‏ وكان يزدجرد وهو بمرو الروذ قد استنجد ملوك الأمم وكتب إلى ملك الصين وإلى خاقان ملك الترك وإلى ملك الصغد‏.‏ فلما عبر يزدجرد النهر منهزماً أنجده خاقان في الترك وأهل فرغانة والصغد‏.‏ فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان فنزلا بلخ واجتمع المسلمون إلى الأحنف بمرو الروذ ونزل المشركون عليه‏.‏ ثم رحل ونزل سفح الجبل في عشرين ألفاً من أهل البصرة وأهل الكزفة وتحصن العسكران بالخنادق وأقاموا يقاتلون أياماً‏.‏ وصحبهم الأحنف ليلة وقد خرج فارس من الترك يضرب بطبلة ويتلوه اثنان كذلك‏.‏ ثم يخرج العسكر بعدهم عادة لهم فقتل الأحنف الأول ثم الثاني ثم الثالث فلما مر بهم خاقان تشاءم وتطير ورجع أدراجه فارتحل وعاد إلى بلخ‏.‏ وبلغ الخبر إلى يزدجرد وكان على مرو الشاهجان محاصراً لحارثة بن النعمان ومن معه‏.‏ فجمع خزائنه وأجمع اللحاق بخاقان على بلخ فمنعه أهل فارس وحملوه على صلح المسلمين والركون إليهم وإنهم أوفى ذمة من الترك فأبى من ذلك وقاتلهم فهزموه واستولوا على الخزائن‏.‏ ولحق بخاقان وعبروا النهر إلى فرغانة وأقام يزدجرد ببلد الترك أيام عمر كلها إلى أن كفر أهل خراسان أيام عثمان‏.‏ ثم جاء أهل فارس إلى الأحنف ودفعوا إليه الخزائن والأموال وصالحوه واغتبطوا بملكة المسلمين وقسم الأحنف الغنائم فأصاب الفارس ما أصابه يوم القادسية‏.‏ ثم نزل الأحنف بلخ وأنزل أهل الكوفة في كورها الأربع ورجع إلى مرو الروذ فنزلها وكتب بالفتح إلى عمر‏.‏ وكان يزدجرد لما عبر النهر لقي رسوله الذي بعثه إلى ملك الصين رده إليه يسأله أن يعيف له المسلمين الذين فعلوا به هذه الأفاعيل مع قلة عددهم‏.‏ ويسأل عن وفائهم ودعوتهم وطاعة أمرائهم ووقوفهم عند الحدود ومآكلهم وشرابهم وملابسهم ومراكبهم فكتب إليه بذلك كله‏.‏ وكتب إليه ملك الصين أن يسالمهم فإنهم لا يقوم لهم شيء بما قام نردبل فأقام يزدجرد بفرغانة بعهد من خاقان‏.‏ ولما وصل الخبر إلى عمر خطب الناس وقال‏:‏ ألا وإن ملك المجوسية قد ذهب فليسوا يملكون من بلادهم شبراً يضر بمسلم ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وابناءهم لينظر كيف تعملون فلا تبدلوا فيستبدل الله بكم غيركم‏.‏ فإني لا أخاف على هذه الأمة إلا أن تؤتى من قبلكم‏.‏ فتوح فارس ولما خرج الأمراء الذين توجهوا إلى فارس من البصرة افترقوا وسار كل أمير إلى جهته وبلغ ذلك أهل فارس فافترقوا إلى بلدانهم وكانت تلك هزيمتهم وشتاتهم‏.‏ وقصد مجاشع بن مسعود من الأمراء سابور وأردشيرخرت فاعترضه الفرس دونهما بتوج فقتلهم وأثخن فيهم‏.‏ وافتتح توج واستباحها وصالحهم على الجزية وأرسل بالفتح والأخماس إلى عمر سفكانت واقعة توج هذه ثانيه لواقعة العلاء بن الحضرمي عليهم أيام طاوس‏.‏ ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا فأقروا بها‏.‏ اصطخر‏:‏ وقصد عثمان بن أبي العاص اصطخر فزحفوا إليه بجور فهزمهم وأثخن فيهم وفتح جور واصطخر ووضع عليهم الجزية وأجابه الهربذ إليها‏.‏ وكان ناس منهم فروا فتراجعوا إليها وبعث بالفتح والخمس إلى عمر‏.‏ ثم فتح كازرون والنوبندجان وغلب على أرضها ولحق به أبو موسى فافتتح مدينة شيراز وأزجان على الجزية والخراج وقصد عثمان جينا ففتحها ولقي الفرس هنالك بناحية جهرم فهزمهم وفتحها‏.‏ ثم نقض شهرك في أول خلافة عثمان فبعث عثمان بن أبي العاص ابنه وأخاه الحكم وأتته الأمداد من البصرة عليهم عبيد الله بن معمر وشبل بن معبد والتقوا بأرض فارس فانهزم شهرك وقتله الحكم بن أبي العاص وقيل سوار بن همام العبدي‏.‏ وقيل أن ابن شهرك حمل على سوار فقتله‏.‏ ويقال أن اصطخر كانت سنة ثماني وعشرين وقيل تسع وعشرين‏.‏ وقيل إن عثمان بن أبي العاص أرسل أخاه الحكم من البحرين إلى فارس في ألفين فسار إلى توج وعلى مجنبتيه الجارود وأبو صفرة والد المهلب وكان كسرى أرسل شهرك في الجنود للقائهم فالتقوا بتوج وهزمهم إلى سابور وقتل شهرك وحاصروا مدينة سابور حتى صالح عليها ملكها واستعانوا به على قتال اصطخر‏.‏ ثم مات عمر رضي الله عنه وبعث عثمان بن عفان عبيد الله بن معمر مكان عثمان بن أبي العاص وأقام محاصرأ اصطخر وأراد هلك سابور الغدر به‏.‏ ثم أحضر وأصابت عبيد الله حجارة منجنيق فمات بها‏.‏ ثم فتحوا بسا ودارا بجرد‏:‏ وقصد سارية بن زنيم الكناني من أمراء الانسياح مدينة بسا ودارا بجرد فحاصرهم‏.‏ ثم استجاشوا بأكراد فارس واقتتلوا بصحراء‏.‏ وقام عمر على المنبر ونادى‏:‏ يا سارية الجبل‏!‏ يشير إلى جبل كان إزاءه أن يستند إليه‏.‏ فسمع ذلك سارية ولجأ إليه‏.‏ ثم انهزم المشركون وأصاب المسلمون مغانمهم وكان فيها صفت جوهر فاستوهبه سارية من الناس وبعث به مع الفتح إلى عمر‏.‏ ولما قدم به الرسول سأله عمر فأخبره عن كل شيء ودفع إليه السفط فأبى إلا أن يقسم على الجند فرجع به وقسمه سارية‏.‏ كرمان‏:‏ وقصد سهيل بن عدي من أمراء الانسياح كرمان ولحق به عبد الله بن عبد الله بن عتبان وحشد أهل كرمان واستعانوا بالقفص وقاتلوا المسلمين في أدنى أرضهم فهزموهم بإذن الله‏.‏ وأخذ المسلمون عليهم الطريق بل الطرق‏.‏ ودخل البشير بن عمرو العجلي إلى جيرفت وقتل في طريقه مرزبان كرمان وعبد الله بن عبد الله من مفازة شير وأصابوا ما أرادوا من إبل وشاء‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بل ورقاء الخزاعي ثم أتى الطبسين من كرمان‏.‏ ثم قدم على عمر وقال اقطعني الطبسين فأراد أن يفعل فقال إنهما رستاقان فامتنع‏.‏ سجستان‏:‏ وقصد عاصم بن عمرو من الأمراء سجستان ولحق به عبد الله بن عمير وقاتلوا أهل سجستان في أدنى أرضهم فهزموهم وحصروهم بزرنج ومخروا أرض سجستان‏.‏ ثم طلبوا الصلح على مدينتهم وأرضها‏.‏ على أن الفرات حمى ويسقي أهل سجستان على الخراج‏.‏ وكان أعظم من خراسان وأبعد فروجأ يقاتلون القندهار والترك وأمماً أخرى‏.‏ فلما كان زمن معاوية هرب الشاه من أخيه زنبيل ملك الترك إلى بلد من سجستان يدعى آمل وكان على سجستان سلم بن زياد بن أبي سفيان فعقد له وانزله آمل وكتب إلى معاوية بذلك فأقره بغير نكير‏.‏ وقال‏:‏ إن هؤلاء قوم غدر وأهون ما يجيء منهم إذا وقع اضطرب أن يغلبوا على بلاد آمل بأسرها فكان كذلك‏.‏ وكفر الشاه بعد معاوية وغلب على بلاد آمل واعتصم منه زنبيل بمكانه‏.‏ وطمع هو في زربخ فحاصرها حتى جاءت الأمداد من البصرة فاجلفوا عنها‏.‏ مكران‏:‏ وقصد الحكم بن عمرو التغلبي من أمراء الانسياح بلد مكران ولحق بها شهاب بن المخارق وجاءه سهيل بن عدي وعبد الله بن عبد الله بن عتبان وانتهوا جميعاً إلى دوين وأهل مكران على شاطئيه وقد أمدهم أهل السند بجيش كثيف ولقيهم المسلمون فهزموهم واثخنوا فيهم بالقتل واتبعوهم أياماً حتى انتهوا إلى النهر ورجعوا إلى مكران فأقاموا بها وبعثوا إلى عمر بالفتح والأخماس مع صحار العبدي وسأله عمر عن البلاد فأثنى عليها شراً فقال‏:‏ والله لا يغزوها جيش لي أبدأ‏.‏ وكتب إلى سهيل والحكم أن لا يجوز مكران أحد من جنودكما‏.‏ كان أمر أمراء الانسياح لما فصلوا إلى النواحي حتى اجتمع ببيروذ بين نهر تيري ومنادر من أهل الأهواز جموع من الأعاجم أعظمهم الأكراد وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى أن يسير إلى أقصى تخوم البصرة رداً للأمراء المنساحين‏.‏ فجاء إلى بيروذ وقاتل تلك الجموع قتالاً شديدأ وقتل المهاجر بن زياد‏.‏ ثم وهن الله المشركين فتحصنوا منه في قلة وذلة‏.‏ فاستخلف أبو موسى عليهم أخاه الربيع بن زياد وسار إلى أصبهان مع المسلمين الذين يحاصرونها حتى إذا فتحت رجع إلى البصرة‏.‏ وفتح الربيع بن زياد بيروذ وغنم ما فيها ولحق به بالبصرة وبعثوا إلى عمر بالفتح والأخماس‏.‏ وأراد ضبة بن محصن العنزي أن يكون في الوفد فلم يجبه أبو موسى فغضب وانطلق شاكياً إلى عمر بانتقائه ستين غلاماً من أبناء الدهاقين لنفسه وأنه أجاز الخطيئة بألف‏.‏ وولى زياد بن أبي سفيان أمور البصرة واعتذر أبو موسى وقبله عمر‏.‏ وكان عمر قد اجتمع إليه جيش من المسلمين فبعث عليهم سلمة بن قيس الأشجعي ودفعهم إلى الجهاد على عادته وأوصاهم‏.‏ فلقوا عدواً من الأكراد المشركين فدعوهم إلى الإسلام أو الجزية فأبوا وقاتلوهم وهزموهم وقتلوا وسبوا وقسموا الغنائم ورأى سلمة جوهراً في سفط فاسترضى المسلمين وبعث به إلى عمر فسأل الرسول عن أمور الناس حتى أخبره بالسفط فغضب وأمر به فوجىء في عنقه وقال‏:‏ أسرع قبل أن تفترق الناس ليقسمه سلمة فيهم فباعه سلمة وقسمه في الناس وكان الفص يباع بخمسة دراهم وقيمته عشرون ألفأ‏.‏ مقتل عمر وأمر الشورى وبيعة عثمان رضي الله عنه كان للمغيرة بن شعبة مولى من نصارى العجم اسمه أبو لؤلؤة وكان يشدد عليه في الخراج‏.‏ فلقي يوماً عمر في السوق فشكا إليه وقال‏:‏ أعدني على المغيرة فإنه يثقل علي في الخراج درهمين في كل يوم‏.‏ قال وما صناعتك قال‏:‏ نجار حداد نقاش‏.‏ فقال ليس ذلك بكثير على هذه الصنائع‏.‏ وقد بلغني أنك تقول أصنع رحى تطحن بالريح فاصنع لي رحى‏.‏ قال أصنع لك رحى يتحدث الناس بها أهل المشرق والمغرب‏.‏ وانصرف فقال عمر‏:‏ توعدني العلج فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة واستوت الصفوف ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر برأسين نصابه في وسطه فضرب عمر ست ضربات إحداهما تحت سرته‏.‏ وقتل كليباً بن أبي البكير الليثي وسقط عمر فاستخلف عبد الرحمن بن عوف على الصلاة‏.‏ واحتمل إلى بيته‏.‏ ثم دعا عبد الرحمن وقال أريد أن أعهد إليك‏!‏ قال فتشير علي بها‏.‏ قال لا‏!‏ قال والله لا أفعل‏.‏ قال فهبني صمتاً حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض‏.‏ ثم دعا عليا وعثمان والزبير وسعداً وعبد الرحمن معهم وقال انتظروا طلحة ثلاثاً فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم‏.‏ وناشد الله من يفضي إليه الأمر منهم أن يحمل أقاربه على رقاب الناس وأوصاهم بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم ويعفوا عن مسيئهم وأوصى بالعرب فإنهم مادة الإسلام أن تؤخذ صدقاتهم فتوضع في فقرائهم‏.‏ وأوصى بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم ثم قال‏:‏ اللهم قد بلغت لقد تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة‏.‏ ثم دعا أبا طليحة الأنصاري فقال‏:‏ قم على باب هؤلاء ولا تدع أحداً يدخل إليهم حتى يقضوا أمرهم‏.‏ ثم قال يا عبد الله بن عمر أخرج فانظر من قتلني قال يا أمير المؤمنين قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة‏.‏ قال الحمد لله الذي يجعل منيتي بيد رجل سجد لله سجدة واحدة‏.‏ ثم بعث إلى عائشة يستأذنها في دفنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فأذنت له‏.‏ ثم قال يا عبد الله إن اختلف القوم فكن مع الأكثر فإن تساووا فكن مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف‏.‏ ثم أذن للناس فدخل المهاجرون والأنصار فقال لهم‏:‏ أهذا عن ملأ منكم فقالوا معاذ الله‏!‏ وجاء علي وابن عباس فقعدا عند رأسه‏.‏ وجاء الطبيب فسقاه نبيذاً فخرج متغيراً ثم لبناً فخرج كذلك‏.‏ فقال له إعهد‏!‏ قال قد فعلت‏!‏ ولم يزل يذكر الله إلى أن توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين‏.‏ وصلى عليه صهيب وذلك لعشر سنين وستة أشهر من خلافته‏.‏ وجاء أبو طلحة الأنصاري ومعه المقداد بن الأسود‏.‏ وقد كان أمرهما عمر أن يجمعا هؤلاء الرهط الستة في مكان ويلزماهم أن يقدموا للناس من يختاروه منهم وإن اختلفوا كان الاتباع للأكثر وإن تساووا حكموا عبد الله بن عمر أو اتبعوا عبد الرحمن بن عوف‏.‏ ويؤجلهم في ذلك ثلاثاً يصلي فيها بالناس صهيب ويحضر عبد لله بن عمر معهم مشيراً ليس له شيء من الأمر وطلحة شريكهم إن قدم في الثلاث ليال‏.‏ فجمهم أبو طلحة والمقداد في بيت المسور بن مخرمة وقيل في بيت عائشة‏.‏ وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد وأقامهما وقال تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى‏.‏ ثم دار بينهم الكلام وتنافسوا في الأمر فقال عبد الرحمن أيكم يخرج منها نفسه ويجتهد فيوليها أفضلكم وأنا أفعل ذلك‏.‏ فرضي القوم وسكت علي‏.‏ فقال‏:‏ ما تقول على شريطة أن تؤثر الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم ولا تألو الأمة نصحاً وتعطينا العهد بذلك‏.‏ قال وتعطوني أنتم مواثيقكم على أن تكونوا معي على من خالف وترضوا من اخترت‏.‏ وتواثقوا ثم قال لعلي‏:‏ أنت تقول إنك أحق ممن حضر بقرابتك وسوابقك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد في نفسك فمن ترى أحق فيه بعدك من هؤلاء قال عثمان‏!‏ وخلا بعثمان فقال له مثل ذلك فقال علي‏.‏ ودار عبد الرحمن لياليه كلها يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يوافي المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس ويشيرهم إلى صبيحة الرابع‏.‏ فأتى منزل المسرور بن مخرمة وخلا فيه بالزبير وسعد أن يتركا الأمر لعلي أو عثمان‏.‏ فاتفقا على علي‏.‏ ثم قال له سعد‏:‏ بايع لنفسك وأرحنا فقال‏:‏ قد خلعت لهم نفسي على أن أختار ولم أفعل ما أردتها‏.‏ ثم استدعى عبد الرحمن علياً وعثمان فناجى كلاً منهما إلى أن رضوا بل إلى أن صلوا الصبح ولا يعلم أحد ما قالوا‏.‏ ثم جمع المهاجرين وأهل السابقة من الأنصار وأمراء الأجناد حتى غص المسجد بهم فقال‏:‏ أشيروا علي‏!‏ فأشار عمار بعلي ووافقه المقداد‏.‏ فقال ابن سرح‏:‏ إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان ووافقه عبد الله بن أبي ربيعة فتفاوضا وتشاتما ونادى سعد‏:‏ يا عبد الرحمن أفرغ قبل أن يفتتن الناس‏.‏ فقال نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً‏.‏ ثم قال لعلي‏:‏ عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده قال‏:‏ أرجو أن اجتهد بل أن أفعل بمبلغ علمي وطاقتي‏.‏ وقال لعثمان مثل ذلك فقال نعم‏!‏ فرفع رأسه إلى المسجد ويده في يد عثمان وقال‏:‏ اللهم اشهد أني قد جعلت ما في عنقي من ذلك في عنق عثمان فبايعه الناس‏.‏ ثم قدم طلحة في ذلك اليوم فأتى عثمان فقال له عثمان‏:‏ أنت على الخيار في الأمر وإن أبيت رددتها فقال‏:‏ أكل الناس بايعوك قال نعم‏!‏ قال‏:‏ رضيت ولا أرغب عما أجمع عليه‏.‏ وكانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض ومر أبو لؤلؤة بالهرمزان وبيده الخنجر الذي طعن به عمر فتناوله من يده وأطال النظر فيه ثم رده إليه‏.‏ ومعهم جفينة نصراني من أهل الحيرة‏.‏ فلما طعن عمر من الغداة قال عبد الرحمن بن أبي بكرة لعبيد الله بن عمر‏:‏ إني رأيت هؤلاء الثلاثة يتناجون فلما رأوني افترقوا وسقط منهم هذا الخنجر‏.‏ فعدا عبيد الله عليهم فقتلهم ثلاثتهم‏.‏ وأمسكهم سعد بن أبي وقاص وجاء به إلى عثمان بعد البيعة وهو في المسجد فأشار علي بقتله‏.‏ وقال عمرو بن العاص لا يقتل عمر بالأمس ويقتل ابنه اليوم‏.‏ فجعلها عثمان ديةً واحتملها وقال‏:‏ أنا وليه‏.‏ ثم قام عثمان وصعد المنبر وبايعه الناس كافة‏.‏ وولى لوقته سعد بن أبي وقاص على الكوفة وعزل المغيرة وذلك بوصية عمر لأنه أوصى بتوليه سعد وقال لم أعزله عن سوء ولا خيانة منه وقيل إنما ولاه وعزل المغيرة بعد سنة وإنما أقر لأول أمره عمال عمر كلهم‏.‏ نقض أهل الاسكندرية وفتحها لما سار هرقل إلى القسطنطينية وفارق الشام واستولى المسلمون على الإسكندرية وبقي الروم بها تحت أيديهم فاتبعوا هرقل فاستنجدوه فبعث إليهم عسكراً مع منويل الخصي ونزلوا بساحل الاسكندرية لمنعهم المقوقس من الدخول إليه فساروا إلى مصر ولقيهم عمرو بن العاص والمسلمون فهزموهم واتبعوهم إلى الإسكندرية‏.‏ وأثخنوا فيهم بالقتل وقتل قائدهم منويل الخصي وكانوا قد أخذوا في مسيرهم إلى مصر أموال أهل القرى فردها عمرو عليهم بالبينة ثم هدم سور الإسكندرية ورجع إلى مصر‏.‏ ولاية الوليد بن عقبة الكوفة وصلح أرمينيا وأذربيجان وفي سنة خمس وعشرين عزل عثمان سعداً عن الكوفة لأنه كان اقترض من عبد الله بن مسعود من بيت المال قرضاً وتقاضاه ابن مسعود فلم يوسر سعد فتلاحيا وتناجيا بالقبيح وافترقا يتلاومان وتداخلت بينهما العصبية وبلغ الخبر عثمان فعزل سعداً واستدعى الوليد بن عقبة من الجزيرة وكان على غربها منذ ولاه عمر فولاه عثمان على الكوفة فكان مكان سعد‏.‏ ثم عزل عتبة بن فرقد عن أذربيجان فنقضوا فغزاهم الوليد وعلى مقدمته عبد الله بن شبيل الأحمسي فأغار على أهل موقان والبرزند والطيلسان ففتح وغنم وسبى‏.‏ وطلب أهل كور أذربيجان الصلح فصالحهم على صلح حذيفة ثمانمائة درهم وقبض المال‏.‏ في بث سراياه وبعث سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أهل أرمينية في إثني عشر ألفا‏.‏ فسار فيها وأثخن ثم انصرف إلى الوليد وعاد الوليد إلى الكوفة وجعل طريقه على الموصل‏.‏ فلقيه كتاب عثمان بأن الروم أجلبوا على معاوية بالشام فابعث إليه رجلاً من أهل النجدة والبأس في عشرة آلاف عند قراءة الكتاب‏.‏ فبعث الوليد الناس مع سلمان بن ربيعة ثمانية آلاف ومضوا إلى الشام ودخلوا أرض الروم مع حبيب بن مسلمة فشنوا عليه الغارات وافتتحوا الحصون‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي أمد حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة هو سعيد بن العاص‏.‏ وذلك أن عثمان كتب إلى معاوية أن يغزي حبيب بن مسلمة في أهل الشام أرمينية فبعثه وحاصر قاليقلا حتى نزلوا على الجلاء أو الجزية فجلا كثيراً إلى بلاد الروم وأقام فيها فيمن معه أشهراً‏.‏ ثم بلغه أن بطريك أرميناقس وهي بلاد ملطية وسيواس وقونية إلى خليج قسطنطييية قد زحف إليه في ثمانين ألفاً فاستنجد معاوية فكتب إلى عثمان فأمر سعيد بن العاص بإمداد حبيب فأمده بسلمان في ستة آلاف وبيت الروم فهزمهم وعاد إلى قاليقلا‏.‏ ثم سار في البلاد فجاء بطريك خلاط وبيده أمان عياض بن غنم وحمل ما عليهم من المال‏.‏ فنزل حبيب خلاط ثم سار منها فصالحه صاحب السيرجان ثم صاحب أردستان ثم صالح أهل دبيل بعد الحصار ثم أهل بلاد السيرجان كلهم‏.‏ ثم أتى أهل شميشاط فحاربوه فهزمهم وغلب على حصونهم‏.‏ ثم صالحه بطريك خرزان على بلاده وسار إلى تفليس فصالحوه وفتح عدة حصون ومدن تجاورها‏.‏ وسار ابن ربيعة الباهلي إلى أران فصالح أهل البيلقان على الجزية والخراج‏.‏ ثم أهل بردعة كذلك وقراها‏.‏ وقاتل أكراد البوشنجان وظفر بهم وصالح بعضهم على الجزية وفتح مدينة شمكور وهي التي سميت بعد ذلك المتوكلية وسار سلمان حتى فتح فلية وصالحه صاحب كسكر على الجزية وملكوا شروان وسائر ملوك الجبال إلى مدينة الباب وانصرفوا‏.‏ ثم غزا معاوية الروم وبلغ عمورية ووجد ما بين إنطاكية وطرسوس من الحصون خالياً فجمع فيها العساكر حتى رجع وخربها‏.‏ وفي سنة ست وعشرين عزل عثمان عمرو بن العاص عن خراج مصر واستعمل مكانه عبد الله بن أبي سرح أخاه من الرضاعة فكتب إلى عثمان يشكو عمراً فاستقدمه واستقل عبد الله بالخراج والحرب وأمره بغزو أفريقية‏.‏ وقد كان عمرو بن العاص سنة إحدى وعشرين سار من مصر إلى برقة فصالح أهلها على الجزية ثم سار إلى طرابلس فحاصرها شهراً وكانت مكشوفة السور من جانب البحر وسفن الروم في مرساها‏.‏ فحصر القوم في بعض الأيام وانكشف أمرها لبعض المسلمين المحاصرين فاقتحموا البلد بين البحر والبيوت فلم يكن للروم ملجأ إلا سفنهم‏.‏ وارتفع الصياح فأقبل عمرو بعساكره فدخل البلد ولم تفلت الروم إلا بما خف في المراكب‏.‏ ورجع إلى مدينة صبرة وقد كانوا قد آمنوا بمنعة طرابلس فصبحهم المسلمون ودخلوها عنوة‏.‏ وكمل الفتح ورجع عمرو إلى برقة فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار جزية وكان أكثر أهل برقة لواتة وكان يقال أن البربر ساروا بعد قتل ملكهم جالوت إلى المغرب وانتهوا إلى لوبيا ومراقية كورتان من كور مصر‏.‏ فصارت زتاتة ومغيلة من البربر إلى المغرب فسكنوا الجبال وسكنت لوتة برقة وتعرف قديماً إنطابلس‏.‏ وانتشروا إلى السوس ونزلت هوارة مدينة لبدة ونزلت نفوسة مدينة صبرة وجلوا من كان هنالك من الروم‏.‏ وأقام الأفارق وهم خدم الروم وبقيتهم على صلح يؤدونه إلى من غلب عليهم إلى أن كان صلح عمرو بن العاص‏.‏ ثم إن عبد الله بن أبي سرح كان أمره عثمان بغزو إفريقية سنة خمس وعشرين‏.‏ وقال له‏:‏ إن فتح الله عليك فلك خمس الخمس من الغنائم وأمر عقبة بن نافع عبد القيس على جند وعبد الله بن نافع بن الحرث على آخر وسرحهما فخرجوا إلى إفريقية في عشرة آلاف وصالحهم أهلها على مال يؤدونه ولم يقدروا على التوغل فيها لكثرة أهلها‏.‏ ثم لما ولي عبد الله بن أبي سرح استأذن عثمان في ذلك واستمده فاستشار عثمان الصحابة فأشاروا به فجهز العساكر من المدينة وفيهم جماعة من الصحابة هم ابن عباس وابن عمر وابن عمرو بن العاص وابن جعفر والحسن والحسين وابن الزبير وساروا مع عبد الله بن أبي سرح سنة ست وعشرين‏.‏ ولقيهم عقبة بن نافع من معه من المسلمين ببرقة ثم ساروا إلى طرابلس فنهبوا الروم عندها‏.‏ ثم ساروا إلى إفريقية وبثوا السرايا في كل ناحية وكان ملكهم جرير يملك ما بين طرابلس وطنجة تحت ولاية هرقل ويحمل إليه الخراج‏.‏ فلما بلغه الخبر جمع مئة وعشرين ألفاً من العساكر ولقيهم على يوم وليلة من سبيطلة دار ملكهم وأقاموا يقتتلون ودعوه إلى الإسلام أو الجزية‏.‏ فاستكبر ولحقهم عبد الرحمن بن الزبير مدداً بعثه عثمان لما أبطأت أخبارهم‏.‏ وسمع جرجير بوصول المدد ففت في عضده وشهد ابن الزبير معهم القتال وقد غاب ابن أبي سرح وسأل عنه فقيل‏:‏ إنه سمع منادي جرجير يقول‏:‏ من قتل ابن أبي سرح فله مئة ألف دينار وأزوجه ابنتي فخاف وتأخر عن شهود القتال‏.‏ فقال له ابن الزبير تنادي أنت بأن من قتل جرجير نفلته مئة ألف وزوجته ابنته واستعملته على بلاده فخاف جرجير أشد منه‏.‏ ثم قال عبد الله بن الزبير لابن أبي سرح أن يترك جماعة من أبطال المسلمين المشاهير متأهبين للحرب ويقاتلوا الروم بباقي العسكر إلى أن يضجروا فركب عليهم في الآخرين على غرة فلعل الله ينصرنا عليهم‏.‏ ووافق على ذلك أعيان أصحابه ففعلوا ذلك روكبوا من الغد إلى الزوال وألحوا عليهم حتى اتبعوهم ثم افترقوا‏.‏ وأركب عبد الله الفريق الذين كانوا مستريحين فكبروا وحملوا حملة رجل واحد حتى غشوا الروم في خيامهم فانهزموا وقتل كثير منهم وقتل ابن الزبير جرجير وأخذت ابنته سبية فنفلها ابن الزبير وحاصر ابن أبي سرح سبيطلة ففتحها‏.‏ وكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف دينار وسهم الراجل ألف‏.‏ وبث جيوشه في البلاد إلى قفصة فسبوا وغنموا‏.‏ وبعث عسكر إلى حصن الأجم وقد اجتمع به أهل البلاد فحاصره وفتحه على الأمان‏.‏ ثم صالحه أهل إفريقية على ألفي ألف وخمسمئة ألف دينار‏.‏ وأرسل ابن الزبير بالفتح والخمس فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمئة ألف دينار وبعض الناس يقول أعطاه إياه ولا يصح وإنما أعطى ابن أبي سرح خمس الخمس من الغزوة الأولى‏.‏ ثم رجع عبد الله بن أبي سرح إلى مصر ولما بلغ هرقل أن أهل أفريقية صالحوه بذلك المال الذي أعطوه غضب عليهم وبعث بطريقاً يأخذ منهم مثل ذلك فنزل قرطاجنة وأخبرهم بما جاء له فأبوا وقالوا‏:‏ قد كان ينبغي أن يساعدنا مما نزل بنا‏.‏ فقاتلهم البطريك وهزمهم وطرد الملك الذي ولوه بعد جرجير فلحق بالشام‏.‏ وقد اجتمع الناس على معاوية بعد علي رضي الله عنه فاستجاشه على إفريقية فبعث معه معاوية بن حديج السكوني في عسكر فلما وصل الإسكندرية وهلك الرومي ومضى ابن حديج في العساكر فنزل قونية وتسرح إليه البطريق ثلاثين ألف مقاتل وقاتلهم معاوية فهزمهم معاوية وحاصر حصن جلولاء فامتنع معه حتى سقط ذات سوره فملكه المسلمون وغنموا ما فيه‏.‏ ثم بث السرايا ودوخ البلاد فأطاعوا وعاد إلى مصر‏.‏ ولما أصاب ابن أبي سرح من إفريقية ما أصاب ورجع إلى مصر خرج قسطنطين بن هرقل غازياً إلى الإسكندرية في ستمائة مركب وركب المسلمون البحر مع ابن أبي سرح ومعه معاوية في أهل الشام‏.‏ فلما تراءى الجمعان أرسوا جميعأ وباتوا على أمان والمسلمون يقرأون ويصلون‏.‏ ثم قرنوا سفنهم عند الصباح واقتتلوا ونزل الصبر واستحر القتل‏.‏ ثم انهزم قسطنطين جريحاً في فل قليل من الروم وأقام ابن أبي سرح بالموضع أياماً ثم قفل وسمى المكان ذات الصواري والغزوة كذلك لكثرة ما كان بها من الصواري‏.‏ وكانت هذه الغزاة سنة إحدى وثلاثين وقيل أربعة وثلاثين‏.‏ وسار قسطنطين إلى صقلية وعرفهم خبر الهزيمة فنكروه وقتلوه في الحمام‏.‏


الساعة الآن 05:28 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى