![]() |
بنو حصن بن علاق
بنو حصن هؤلاء من بطون علاق وحصن أخو يحيى بن علاق كما مر فهم بطنان أيضاً: بنو علي وحكيم. وقد يقال إن حكيماً ليس لحصن وإنما ربي في حجره فانتمى إليه. وأما حكيم فلهم بطون منهم: بنو ظريف بن حكيم وهم أولاد جابر والشراعبة ونعير وجوين لمقدام بن ظريف وزياد بن ظريف. ومنهم: بنو وائل بن حكيم ومنهم بنو طرود بن حكيم. وقد يقال إن طرودا ليس لسليم وأنهم من منبس إحدى بطون هلال بن عامر ويقال إن منهم زيد العجاج بن فاضل المذكور في رجالات هلال والصحيح في طرود أنهم من بني فهم بن عمر بن قيس بن عيلان بن عدوان وفي تعدادهم وكانت طرود أحلاف الدلاج ثم قاطعوهم وحالفوا آل ملاعب. ومن بطون حكيم آل حسين ونوال ومقعد والجميعات ولا أدري كيف يتصل نسبهم. ومنهم بنو نمير بن حكيم. ولنمير بطنان: ملاعب وأحمد فمن أحمد بنو محمد والبطين. ومن ملاعب بنو هيكل بن ملاعب. وهم أولاد زمام والفريات وأولاد مياس وأولاد فائد. ومن أولاد فائد الصرح والمدافعة. وأولاد يعقوب بن عبد الله بن كثير بن حرقوص بن فائد وإليهم رئاسة حكيم وسائر بطونهم ومواطن حكيم هؤلاء لهذا العدد ما بين سوسة والأجم. والناجعة منهم أحلاف لبني كعب تارة لأولاد الليل وتارة لأقتالهم أولاد مهلهل ورئاستهم في بني يعقوب بن عبد السلام بن يعقوب شيخاً عليهم وانتقض أيام اللحياني. ووفد على السلطان أبي يحيى بالثغر العربي من إفريقية في بجاية وقسطنطينة وجاء في جملته فلما ملك ملك تونس عقد له على قومه ورفعه على أنظاره. وغص به بنو كعب فحرض عليه حمزة من الأعشاش محمد بن حامد بن يزيد فقتله في موقف شوراهم وولي الرئاسة فيهم من بعده ابن عمه محمد بن مسكين بن عامر بن يعقوب بن القوس وانتهت إليه رئاستهم. وكان يرادفه أو ينازعه جماعة من بني عمه. فمنهم سحيم بن سليمان بن يعقوب وحضر واقعة طريف مع السلطان أبي الحسن وكان له فيها ذكر. ومنهم أبو الهول وأبو القاسم ابنا يعقوب بن عبد السلام وكان لأبي الهول مناصحة للسلطان أبي الحسن حين أحلف عليه بنو سليم بالقيروان وأدخله مع أولاد مهلهل في الخروج على القيروان فخرج معهم جميعاً إلى سوسة. ومنهم بنو يزيد بن عمر بن يعقوب وابنه خليفة. ولم يزل محمد بن مسكين على رئاسته أيام السلطان أبي يحيى كلها وكان مخالطاً له ومتهالكاً في نصيحته والانحياش إليه. ولما هلك خلفه في رئاسته ابن أخيه خليفة بن عبد الله بن مسكين وهو أحد الأشياخ الذين تقبض عليهم السلطان أبو الحسن بتونس بين يدي واقعة القيروان. ثم أطلقه وهو محصور بالقيروان فكان له به اختصاص من بعد ذلك. ولما تغلب العرب على النواحي بعد واقعة القيروان تغلب بنو مسكين هؤلاء على سوسة فأقطعها السلطان خليفة هذا وبقيت في ملكته. وهلك خليفة فقام برئاستهم في حكيم ابن عمه عامر بن محمد بن مسكين. ثم قتله محمد بن بثينة بن حامد من بني كعب قتله يعقوب بن عبد السلام ثم قتله محمد هذا غدراً بجهاد الجريد سنة خمس وخمسين وسبعمائة. ثم افترق أمرهم واستقرت رئاستهم لهذا العهد بين أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين وتلقب أبا معنونة وهو ابن أخي خليفة المذكور. وعبد الله بن محمد بن يعقوب وهو ابن أخي أبي الهول المذكور. ولما تغلب السلطان أبو العباس على تونس وملكها انتزع سوس من أيديهم فامتعض أحمد لذلك وصار إلى ولاية صولة بن خالد بن حمزة من أولاد أبي الليل وسلكوا سبيل لخلاف والفتنة وأبعدوا في شأوها وهم لهذا العهد مشردون عن الضواحي والأرياف منزاحون إلى القفر. وأما عبد الله بن محمد ويلقب الراوي فتحيز إلى السلطان وأكد حلفه مع أولاد على ولايته ومظاهرته فعظمت رئاسته في قومه وهو على ذلك لهذا العهد. ثم راجع أبو معنونة خدمة السلطان وانقسمت رئاسة حكيم بينهما وهم على ذلك لهذا العهد. وأما بنو علي إخوة حكيم فلهم بطون أولاد صورة ويجمعهما معاً عوف بن محمد بن علي بن حصن. ثم أولاد نمي والبدرانة وأولاد أم أحمد والحضرة أو الرجلان وهو مقعد والجميعات والحمر والمسابهة آل حسين وحجري وقد يقال إن حجري ليسوا لسليم وأنهم من بطون كندة صاروا معهم بالحلف فانتسبوا بنسبهم ورئاسة بني علي في أولاد صورة. وشيخهم لهذا العهد أبو الليل بن أحمد بن سالم بن عقبة بن شبل بن صورة بن مرعي بن حسن بن عوف. ويرادفهم المراعية من أهل نسبهم أولاد مرعي بن حسن بن عوف ومواطنهم ما بين الأجم والمباركة من نواحي قابس وناجعتهم أحلاف الكعوب إما لأولاد أبي الليل أو لأولاد مهلهل وغالب أخوالهم أولاد مهلهل والله مقدر الأمور لا رب سواه. ذباب بن سليم قد ذكرنا الخلاف في نسبهم من أنهم من ذباب بن ربيعة بن زغب الأكبر وأن ربيعة أخو زغب الأصغر. وضبط هذه اللفظة لهذا العهد بضم الزاي وقد ضبطها الأجدابي والرشاطي بكسر الزاي. كذا نقل أبو محمد التجاني في رحلته ومواطنهم ما بين قابس وطرابلس إلى برقة ولهم بطون فمنهم: أولاد أحمد بن ذباب ومواطنهم غربي قابس وطرابلس إلى برقة. عيون رجال مجاورون لحصن ومن عيون رجال بلاد زغب من بطون ذباب بنو يزيد مشاركون لأولاد أحمد في هذه المواطن وليس هذا أباً لهم ولا اسم رجل وإنما هو اسم حلفهم انتسبوا به إلى مدلول الزيادة. كذا قال التجاني وهم بطون أربعة: الصهب بسكون الهاء بنو صهب بن جابر بن فائد بن رافع بن ذباب وإخوتهم الحمادية بنو حمدان بن جابر والخرجة بسكون الراء بطن من آل سليمان منهم. أخرجهم آل سليمان من مواطنهم بمسلاتة فحالفوا هؤلاء ونزلوا معهم. والأصابعة ومنهم النوائل بنو نائل بن عامر بن جابر وإخوتهم أولاد سنان بن عامر وإخوتهم أولاد وشاح بن عامر وفيهم رئاسة هذا القبيل من ذباب كلهم. وهم بطنان عظيمان: المحاميد بنو محمود بن طوق بن بقية بن وشاح ومواطنهم ما بين قابس ونفوسة وما إلى ذلك من الضواحى والجبال. ورئاستهم لهذا العهد في بني رحاب بن محمود لأولاد سباع بن يعقوب بن عطية بن رحاب. والبطن الآخر الجواري بنو حميد بن جارية بن وشاح ومواطنهم طرابلس وما إليها مثل تاجورا وهزاعة وزنزور وما إلى ذلك. ورئاستهم لهذا العهد في بني مرغم بن صابر بن عسكر بن علي بن مرغم. ومن أولاد وشاح بطنان آخران صغيران مندرجان مع الجواري والمحامد وهما الجواربة بنو جراب بن وشاح والعمور بنو عمر بن وشاح. هكذا زعم التجاني في العمور هؤلاء. وفي هلال بن عامر بطن العمور كما ذكرناه. وهم يزعمون أن عمور ذباب هؤلاء منهم وأنهم إنما جمعهم مع ذباب الموطن خاصة وليسوا من سليم والله أعلم بحقيقة ذلك. وكان من أولاد وشاح بنو حريز بن تميم بن عمر بن وشاح كان منهم فائد بن حريز من فرسان العرب المشاهير وله شعر متداول بينهم لهذا العهد سمر الحي وفكاهة المجالس ويقال إنه من المحاميد. فائد بن حريز بن حربي بن محمود بن طوب وكان بنو ذباب هؤلاء شيعة لقراقش الغزي وابن غانية ولهما قيه أثر. وقتل قراقش مشيخة الجواري في بعض أيامه. ثم صاروا بعد مهلك ابن غانية إلى خدمة الأمير أبي زكريا وأهل بيته من بعده وهم الذين أقاموا أمر الداعي بن أبي عمارة وعليهم كان تلبسه لأن يصير أميراً بدل المخلوع وكان فر إليهم بعد مهلك مولاه وبنيه ونزل عليهم. حتى إذا مر بهم ابن أبي عمارة فعرفه الخبر فاتفقوا على التلبيس وزينوا ذلك لهؤلاء العرب فقبلوه. وتولى كبر ذلك مرغم بن صابر وتبعه قومه وداخلهم في الأمر أبو مروان عبد الملك بن مكي رئيس قابس فكان ما قدر الله ما كان من تمام أمره وتلويث كرسي الخلافة بدمه حسبما يذكر في أخبار الدولة الحفصية. وكان السلطان أبو حفص يعتمد عليهم فغلبهم في دعوة عمارة فخالفوا عليه وسرح لحربهم قائده أبا عبد الله الفزاري واستصرخوا بالأمير أبي زكريا ابن أخيه وهو يومئذ صاحب بجاية والثغر الغربي من إفريقية ووفد عليه منهم عبد الملك بن رحاب بن محمود فنهض لصريخه بسنة سبع وثمانين وستمائة. وحاربوا أهل قابس وهزموهم وأثخنوا فيهم. ثم غلبهم الفزاري ومانعهم عن وطن إفريقية. ورجع الأمير أبو زكريا إلى ثغره. وكان مرغم بن صابر بن عسكر شيخ الجواري قد أسره أهل صقلية من سواحل طرابلس سنة اثنتين وثمانين وباعوه لأهل برشلونة فاشتراه ملكهم وبقي أسيراً عنده إلى أن نزع إليه عثمان بن إدريس الملقب بأبي دبوس بقية الخلفاء من بني عبد المؤمن. وأراد الإجازة إلى إفريقية لطلب حقه في الدعوة الموحدية فعقد ملك برشلونة بينه وبين مرغم حلفاً وبعثهما ونزل بساحل طرابلس. وأقام مرغم الدعوة لابن دبوس وحمل عليها قومه. وحاصرطرابلس سنة ثمان وثمانين أياماً. ثم تركوا عسكراً لحصارها وارتحلوا لجباية الوطن فاستفرغوه وكان ذلك غاية أمرهم وبقي أبو دبوس يتقلب في أوطانهم مدة. واستدعاه الكعوب لأول المائة الثامنة وأجلبوا به على تونس أيام السلطان أبي عصيمة من الحفصيين وحاصروها أياماً فلم يظفروا. ورجع إلى نواحي طرابلس وقام بها مدة. ثم ارتحل إلى مصر وأقام بها إلى أن هلك كما يأتي ذكره في خبر ابنه مع السلطان أبي الحسن بالقيروان. ولم يزل هذا شأن الجواري والمحاميد إلى أن تقلص ظل الدولة عن أوطان قابس وطرابلس فاستبد برئاسة ضواحيها. واستعبدوا سائر الرعاية المعتمرة في جبالها وبسائطها واستبد أهل الأمصار برئاسة أمصارهم بنو مكي بقابس وبنو ثابت بطرابلس على ما يذكر في أخبارهم. وانقسمت رئاسة أولاد وشاح بانقسام المصرين فتولى الجواري طرابلس وضواحيها وزنرور وغريان ومغر وتولى المحاميد بلد قابس وبلاد نفوسة وحرب. وفي ذباب هؤلاء بطون أخرى ناجعة في القفر ومواطنهم منزاحة إلى جانب الشرق عن مواطن هؤلاء الوشاحين. فمنهم آل سليمان بن هبيب بن رابع بن ذباب ومواطنهم قبلة مغر وغريان ورئاستهم في ولد نصر بن زائد بن سليمان وهي لهذا العهد لهائل بن حماد بن نصر وبنيه والبطن الآخر آل سالم بن هيب أخي سليمان. ومواطنهم بلد مسراتة إلى لبدة ومسلاتة. وشعوب آل سالم هؤلاء الأحامد والعمائم والعلاونة وأولاد مرزوق ورئاستهم في ولد مرزوق وهو ابن معلى بن معراني بن قلينة بن قاص بن سالم وكانت في أول هذه المائة الثامنة لغلبون بن مرزوق واستقرت في بنيه وهي اليوم لحميد بن إسنان بن عثمان بن غلبون. والعلاونة منهم مجاورون للعزة من عرب برقة والمشابنة من هوارة المقيمين. ويجاور ذباب هؤلاء في مواطنهم من جهة القبلة ناصرة وهم من بطون ناصرة بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم فإن كان زغب أبو ذباب لملك بن خفاف كما زعم التجاني فهم إخوة ناصرة ويبعد أن يسمى قوم باسم إخوانهم. وإن كانوا لناصرة كما زعم ابن الكلبي وهو أقرب فيكون هؤلاء اختصوا باسم ناصرة دون ذباب وغيرهم من بنيه وهذا كثير من بطون القبائل والله أعلم. ومواطنهم بلاد فزان وودان. هذه أخبار ذباب هؤلاء. وأما العزة جيرانهم في الشرق الذين قدمنا ذكرهم فهم موطنون من أرض برقة خلاء لاستيلاء الخراب على أمصارها وقراها من دولة صنهاجة. تمرست بعمرانها بادية العرب وناجعتهم فتحيفرها عارة ونهباً إلى أن فسدت فيها مذاهب المعاش وانتقض العمران فخربت. وصار معاش الأكثر من هؤلاء العرب الموطنين بها لهذا العهد من الفلح يثيروت له الأرض بالعوامل من الجمال والحمير وبالنساء إذا ضاق كسبهم عن العوامل وارتكبوا ضرورة المعاش. وينجعون إلى بلاد النخل في جهة القبلة منهم من أوجلة وشنترية والواحات وما وراء ذلك من الرمال والقفر إلى بلد السودان المجاورين لهم وتسمى بلادهم برنيق وشيخ هؤلاء العرب ببرقة يعرف لهذا العهد بأبي ذئب من بني جعفر. وركاب الحج من المغرب يحمدون مسالمتهم في ممرهم وحسن نيتهم في التجافي عن حاج بيت الله وإرفادهم بجلب الأقوات لسربهم وحسن الظن بهم. " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ". وأما نسبهم فما أدري فيمن هو من العرب. وحدثني الثقة من ذباب عن خريص ابن شيخهم أبي ذيب أنهم من بقايا الكعوب ببرقة. وتزعم نسابة الهلاليين أنهم لربيعة بن عامر إخوة هلال بن عامر. وقد مر الكلام في ذلك في أول ذكر بني سليم. وتزعم بعض النسابة أنهم والكعوب من العزة وإن العزة من هيث وإن رئاسة العزة لأولاد أحمد وشيخهم أبو ذئب وأن المثانية جيرانهم من هوارة. وذكر لي سلام بن التركية شيخ أولاد مقدم جيرتهم بالعقبة أنهم من بطون مسراتة من بقية هوارة وهو الذي رأيت النسابة المحققين عليه بعد أن دخلت مصر ولقيت كثيراً من المترفدين إليها من أهل برقة. وهذه آخر الطبقة الرابعة من العرب وبانقضائه انقضى الكتاب الثاني في العرب وأجيالهم منذ بدء الخليقة فلنرجع إلى أحوال البربر في الكتاب الثالث والله ولي العون. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله علي سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً |
الكتاب الثالث البربر
والامة الثانية من اهل المغرب في أخبار البربر والأمة الثانية من أهل المغرب وذكر أوليتهم وأجيالهم منذ بدء الخليقة لهذا العهد ونقل الخلاف الواقع بين الناس في أنسابهم الفصل الأول اجيال البربر وانسابهم هذا الجيل من الآدميين هم سكان المغرب القديم ملأوا البسائط والجبال من تلوله وأريافه وضواحيه وأمصاره يتخذون البيوت من الحجارة والطين ومن الخوص والشجر ومن الشعر والوبر. ويظعن أهل العز منهم والغلبة لانتجاع المراعي فيما قرب من الرحلة لا يجاوزون فيها الريف إلى الصحراء والقفر الأملس. ومكاسبهم الشاء والبقر والخيل في الغالب للركوب والنتاج. وربما كانت الإبل من مكاسب أهل النجعة منهم شأن العرب ومعاش المستضعفين منهم بالفلح ودواجن السائمة. ومعاش المعتزين أهل الانتجاع والأظعان في نتاج الإبل وظلال الرماح وقطع السابلة. ولباسهم وأكثر أثاثهم من الصوف يشتملون الصماء بالأكسية المعلمة ويفرغون عليها البرانس الكحل ورؤوسهم في الغالب حاسرة وربما يتعاهدونها بالحلق. ولغتهم من الرطانة الأعجمية متميزة بنوعها وهي التي اختصوا من أجلها بهذ! الاسم. يقال إن أفريقش بن قيس بن صيفي من ملوك التبابعة لما غزا المغرب وإفريقية وقتل الملك جرجيس وبنى المدن والأمصار وباسمه زعموا سميت إفريقية لما رأى هذا الجيل من الأعاجم وسمع رطانتهم ووعى اختلافها وتنوعها تعجب من ذلك وقال: ما أكثر بربرتكم فسموا بالبربر. والبربرة بلسان العرب هي اختلاط الأصوات غير المفهومة. ومنه يقال بربر الأسد إذا زأر بأصوات غير مفهومة. وأما شعوب هذا الجيل وبطونهم فإن علماء النسب متفقون على أنهم يجمعهم جذمان عظيمان وهما برنس وماذغيس. ويلقب ماذغيس بالأبتر فلذلك يقال لشعوبه البتر ويقال لشعوب برنس البرانس وهما معاً ابنا برنس. وبين النسابين خلاف هل هما لأب واحد. فذكر ابن حزم عن أيوب بن أبي يزيد صاحب الحمار أنهما لأب واحد على ما حدثه عنه يوسف الوراق. وقال سالم بن سليم المطماطي وهاني بن مسرور والكومي وكهلان عن أبي لوا وهم نسابة البربر: إن البرانس بتر وهم من نسل مازيغ بن كنعان. والتبر بنو بر بن قيس بن عيلان وربما نقل ذلك أن أيوب بن أبي يزيد إلا أن رواية ابن حزم أصح لأنه أوثق. وأما شعوب البرانس فعند النسابين أنهم يجمعهم سبعة أجذام وهي ازداجة ومصمودة وأوربة وعجيسة وكتامة وصنهاجة وأوريغة. وزاد سابق بن سليم وأصحابه: لمطة وهكسورة وكزولة. وقال أبو محمد بن حزم: يقال إن صنهاج ولمط إنما هما ابنا امرأة يقال لها تصكي ولا يعرف لهما أب تزوجها أوريغ فولدت له هوار فلا يعرف لهما أكثر من أنهما أخوان لهوار من أمه. قال وزعم قوم من أوريغ أنه ابن خبوز بن المثنى بن السكاسك من كندة وذلك باطل. وقال الكلبي أن كتامة وصنهاجة ليستا من قبائل البربر وإنما هما من شعوب اليمانية تركهما أفريقش بن صيفي بإفريقية مع من نزل بها من الحامية. هذه جماع مذاهب أهل التحقيق في شأنهم فمن ازداجة مسطاطة ومن مصمودة غمارة بنو غمار بن مصطاف بن مليل بن مصمود ومن أوريغة هوارة وملد ومغر وقلدن. فمن هوار بن أوريغ مليلة وبنو كهلان ومن ملس أوريغ سطط وورفل وأسيل ومسراتة. ويقال لجميعهم لهانة بنو لهان بن ملد. ويقال إن مليلة منهم. ومن مغر بن أوريغ ماواس وزمور وكبا ومصراي ومن قلدن بن أوريغ قمصاتة وورسطيف وبيانة وفل مليلة. وأما شعوب البتر وهم بنو مادغيس الأبتر فيجمعهم أربعة أجذام أداسة ونفوسة وضرية وبنو لوا الأكبر وكلهم بنو زحيك بن مادغيس. فأما أداسة بنو أداس بن زحيك فبطونهم كلها في هوارة لأن أم أداس تزوجها بعد زحيك أوريغ ابن عمه برنس والد هوازة فكان أداس أخاً لهوارة ودخل نسب بنيه كلهم في هوارة. وهم سفارة وأندارة وهنزولة وضرية وهداغة وأوطيطة وترهتة. هؤلاء كلهم بنو أداس بن زحيك بن باذغيس وهم اليوم في هوارة. وأما لوا الأكبر فمنه بطنان عظيمان وهما: نفزاوة بنو نفزا وابن لوا الأكبر ولواتة بنو لوا الأصغر بن لوا الأكبر فخلفه أبوه حملاً فسمي به. فمن لواتة أكوزه وعتروزة وبنو فاصلة بن لوا الأصغر ومنهم مزاتة بنو زاير بن لوا الأصغر. ومغانة وجدانة بنو كطوف بن لوا الأصغر ومن لواتة سرداتة بنو نيطط بن لوا الأصغر. ودخل نسب سدراتة في مغراوة. أبو محمد بن حزم: كان مغراوة تزوج أم سدراتة فصار سدراتة أخا بني مغراوة لأمهم واختلط نسبه بهم. ومن نفزاوة أيضاً بطون كثيرة وهم ولهاصة وغساسة وزهلة وسوماتة وورسيف ومرنيزة وزاتيمة ووركول ومرنسية ووردغروس ووردين كلهم بنو يطوفت من نفراوة. وزاد ابن سابق وأصحابه مجر ومكلاتة. وقال: ويقال إن مكلاتة ليس من البربر من حمير وقع إلى يطوفت صغيراً فتبناه وهو مكلا بن ريمان بن كلاع حاتم بن سعد بن حمير. ولولهاصة من نفزاوة بطون كثيرة من بزغاش ودحية بني ولهاص. فمن بزغاش بطون ورفجومة وهم: رجال وطووبورغيش ووانجز وكرطيط وما انجدل وسينتت بنو رفجوم بن بيزغاش بن ولهاص بن يطوفت بن نغزاو. قال ابن سابق وأصحابه: وبنو بيزغاش لواتة كلهم بجبال أوراس. ومن دحية ورترين وتريرو ورتبونت ومكراولقوس بنو دحية بن ولهاص بن تطوفت بن نفزاو. وأما ضرية وهم بنو ضرى بن زحيك بن مادغيس الأبتر فيجمعهم جذمان عظيمان: بنو تمصيت بن ضرى وبنو يحيى بن ضرى. وقال سابق وأصحابه: إن بطون تمصيت كلها من فاتن بن تمصيت وأنهم اختصوا بنسب ضرسية دون بطون يحيى. فمن بطون تمصيت: مطماطة وصطفورة وهم كومية ولماية ومطغرة ومرينة ومغيلة ومكزوزة وكشاتة ودونة ومديونة كلهم بنو فاتن بن تمصيت بن ضرى. ومن بطون يحيى: زناتة كلهم وسمكان وورصطف. فمن ورصطف: مكناسة وأوكنة وورتناج بنو ورصطف بن يحيى. فمن مكناسة ورتيفة وررتدوسن وتفليت ومنصارة وموالات وحرات ورفلابس ومن مكن بولالين وتدين ويصلتن وجرين وفوغال. ومن ورتناج: مكنسة وبطالسة وكرنيطة وسدرجة وهناطة وفولال بنو ورتناج بن ورصطف. ومن سمكان زواغة وزواوة بنو سمكان بن يحيى وابن حزم بعد زواوة التي بالواو في بطون كتامة وهو أظهر ويشهد له الوطن. فالغالب أن زواوة بنو سكمان بن يحيى وعن ابن حزم: بعد زواوة التي بالواو في بطون كتامة والتي تعد في سكان هي التي بالزاي وهي قبيلة معروفة. ومن زواغة بنو ماجر وبنو واطيل وسمكين. وسيأتي الكلام فيهم مستوفى عند ذكرهم إن شاء الله تعالى. هذا آخر الكلام في شعوب هذا الجيل مجملاً ولا بد من تفصيل فيه عند تفصيل أخبارهم. وأما إلى من يرجع نسبهم من الأمم الماضية فقد اختلف النسابون في ذلك اختلافاً كثيراً وبحثوا فيه طويلاً. فقال لعضهم: إنهم من ولد إبراهيم عليه السلام من نقشان ابنه وقد تقدم ذكره عند ذكر إبراهيم عليه السلام. وقال آخرون: البربر يمنيون وقالوا أوزاع من اليمن. وقال المسعودي من غسان وغيرهم تفرقوا عندما كان من سيل العرم. وقيل: خلفهم أبرهة ذو المنار بالمغرب وقيل من لخم وجذام كانت منازلهم بفلسطين وأخرجهم منها بعض ملوك فارس. فلما وصلوا إلى مصر منعتهم ملوك مصر النزول فعبروا النيل وانتشروا في البلاد. وقال أبو عمر بن عبد البر: ادعت طوائف من البربر أنهم من ولد النعمان بن حميد بن سبأ. قال: ورأيت في كتاب الأسفنداد الحكيم: إن النعمان بن حمير بن سبأ كان ملك زمانه في الفترة وأنه استدعى أبناءه وقال لهم. أريد أن أبعث منكم للمغرب من يعمره فراجعوه في ذلك وعزم عليهم وأنه بعث منهم لمت أبا لمتونة ومسفو أبا مسوفة ومرطا أبا هسكورة وأصناك أبا صنهاجة ولمط أبا لمطة وإيلان أبا هيلانة فنزل بعضهم بجبل دون وبعضهم بالسوس وبعضهم بدرعة. ونزل لمط عند كزول وتزوج ابنته ونزل أجانا وهو أبو زناتة بوادي شلف ونزل بنو ورتجين ومغراو بأطراف إفريقية من جهة المغرب ونزل مصمود بمقربة من طنجة والحكاية طويلة أنكرها أبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم. وقال آخرون: إنهم كلهم من قوم جالوت. وقال علي بن عبد العزيز الجرجاني النسابة في كتاب الأنساب له: لا أعلم قولاً يؤدي إلى الصحة إلا قول من قال إنهم من ولد جالوت. ولم ينسب جالوت ممن هو وعند ابن قتيبة أنه ونور بن هربيل بن حديلان بن جالود بن رديلان بن حطى زياد بن زجيك بن مادغيس الأبتر. ونقل عنه أيضاً أنه جالوت بن هربال بن جالود بن دنيال بن قحطان بن فارس. قال: وفارس مشهور وسفك أبو البربر كلهم. قالوا: والبربر قبائل كثيرة وشعوب - وهي هوارة وزناتة وضريسة ومغيلة وورفجومة ونفزة وكتامة ولواثة وغمارة ومصمودة وصدينة ويزدران وورنجين وصنهاجة ومجكسة وواركلان وغيرهم. وذكر آخرون منهم الطبري وغيره: أن البربر أخلاط من كنعان والعماليق فلما قتل جالوت تفرقوا في البلاد وغزا أفريقش المغرب ونقلهم من سواحل الشام وأسكنهم إفريقية وسماهم بربر وقيل البربر من ولد حام بن نوح بن بربر بن تملا بن مازيغ بن كنعان بن حام. وقال الصولي هم من ولد بربر بن كسلوجيم بن مصرائيم بن حام. وقيل إن العمالقة من بربر بن تملا مارب بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاود بن إرم بن سام وعلى هذا القول فهم عمالقة. وقال مالك بن المرحل. البربر قبائل شتى من حمير ومضر والقبط والعمالقة وكنعان وقريش تلاقوا بالشام ولغطوا فسماهم أفريقش البربر لكثرة كلامهم. وشب خروجهم عند المسعودي والطبري والسهيلي: أن أفريقش استجاشهم لفتح إفريقية وسماهم البربر وينشدون من شعره: بربرت كنعان لما سقتها من أراضي الضنك للعيش الخصيب وقال ابن الكلبي: اختلف الناس فيمن أخرج البربر من الشام فقيل داود بالوحي قيل يا داود أخرج البربر من الشام فإنهم جذام الأرض. وقيل يوشع بن نون وقيل أفريقش وقيل بعض الملوك التبابعة. وعند البكري أن بني إسرائيل أخرجوهم عند قتل جالوت وللمسعودي والبكري أنهم فروا بعد موت جالوت إلى المغرب وأرادوا مصر فأجلت القبط فسكنوا برقة وإفريقية والمغرب على حرب مع الإفرنج والأفارقة وأجازوهم على صقلية وسردانية وميورقة والأندلس. ثم اصطلحوا على أن المدن للافرنجة وسكنوا القفار عصوراً في الخيام وانتجاع الأمصار من الإسكندرية إلى البحر وإلى طنجة والسوس حتى جاء الإسلام وكان منهم من تهود ومن تنصر وآخرون مجوساً يعبدون الشمس والقمر والأصنام ولهم ملوك ورؤساء. وكان بينهم وبين المسلمين حروب مذكورة. وقال الصولي البكري إن الشيطان نزغ بين بني حام وبني سام فانجلى بنو حام إلى المغرب ونسلوا به. وقال أيضاً إن حام لما اسود بدعوة أبيه فر إلى المغرب حياء واتبعه بنوه وهلك عن أربعمائة سنة. وكان من ولده بربر بن كسلاجيم فنسل بنوه بالمغرب. قال وانضاف إلى البربر حيان من المغرب يمنيان عند خروجهم من مارب كتامة وصنهاجة قال وهوارة ولمطة ولواتة بنو حمير بن سبأ. وقال هانىء بن بكور الضريسي وسابق بن سليمان المطماطي وكهلان بن أبي لؤي وأيوب بن أبي يزيد وغيرهم من نسابة البربر أن البربر فرقتان كما قدمناه وهما: البرانس والبتر فالبتر من ولد بر بن قيس بن عيلان والبرانس بنو برنس بن سفجو بن أبزج بن جناح بن واليل بن شراط بن تام بن دويم بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام وهذا هو الذي يعتمده نسابة البربر. قال الطبري: خرج بربر بن قيس ينشد ضالة بأحياء البربر فهوي جارية وتزوجها فولدت. وعند غيره من نسابة البزبر أنه خرج فاراً من أخيه عمرو بن قيس وفي ذلك تقول تماضر وهي أخته: لتبكي كل باكية أخاها كما أبكي على بر بن قيس تحمل عن عشيرته فأضحى ودون لقائه أنضاء عيس ومما ينسب إلى تماضر أيضاً: وشطت ببر داره عن بلادنا وطوح بر نفسه حيث يمما وازرت ببر لكنة أعجمية وما كان بر في الحجاز بأعجما كأنا وبرا لم نقف بجيادنا بنجد ولم نقسم نهابا ومغنما وأنشد علماء البربر لعبيدة بن قيس العقيلي: ألا أيها الساعي لفرقة بيننا توقف هداك الله سبل الأطائب فاقسم إنا والبرابر إخوة نمانا وهم جد كريم المناصب أبونا أبوهم قيس عيلان في الذرى وفي حرمة يسقي غليل المحارب فنحن وهم ركن منيع وإخوة على رغم أعداء لئام المغاقب وبر بن قيس عصبة مضرية وفي الفرع من أحسابها والذوائب وقيس قوام الدين في كل بلدة وخير معد عند حفظ المناسب وقيس لها المجد الذي يقتدى به وقيس لها سيف حديد المضارب وينشد أيضاً أبيات ليزيد بن خالد يمدح البربر: أيها السائل عنا أصلنا قيس عيلان بنو العز الأول نحن مانحن بنو بر القوى عرف المجد وفي المجد دخل وابتنى المجد فأورى زنده وكفانا كل خطب ذي جلل إن قيساً يعتزي بر لها ولبر يعتزي قيس الأجل ولنا الفخر بقيس إنه جدنا الأكبر فكاك الكبل إن قيساً قيس عيلان هم معدن الحق على الخير دلل حسبك البربر قومي إنهم ملكوا لأرض بأطراف الأسل وببيض تضرب الهام بها هام من كان عن الحق نكل حيدة بن عمرو بن معد بن عدنان فولد عيلان بن مضر قيساً ودهمان أما دهمان فولده قليل وهم أهل بيت من قيس يقال لهم بنو أمامة. وكانت لهم بنت تسمى البهاء بنت دهمان وأما قيس بن عيلان فولد له أربعة بنين وهم سعد وعمر وأمهما مزنة بنت أسد بن ربيعة بن نزار وبر وتماضر وأمهما تمريغ بنت مجدل ومجدل بن غمار مصمود وكانت قبائل البربر يومئذ يسكنون الشام ويجاورون العرب في المساكن ويشاركونهم في المياه والمراعي والمسارح ويصهرون إليهم فتزوج بر بن قيس بنت عمه وهي البهاء بنت دهمان وحسده إخوته في ذلك. وكانت أمه تمريغ من دهاة النساء فخشيت منهم عليه وبعثت بذلك إلى أخوالها سراً ورحلت معهم بولدها وزوجته إلى أرض البربر. وهم إذ ذاك ساكنون بفلسطين وأكناف الشام فولدت البهاء لبر بن قيس ولدين: علوان ومادغيس. فمات علوان صغيراً وبقي مادغيس فكان يلقب الأبتر وهو أبو البتر من البربر ومن ولده جميع زناتة. قمالوا: وتزوج مادغيس بن بر وهو الأبتر بأملل بنت واطاس بن محمد بن مجدل بن عمار فولدت له زحيك بن مادغيس. وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد في الأنساب اختلف الناس في أنساب البربر اختلافاً كثيراً. وأنسب ما قيل فيهم أنهم من ولد قبط بن حام لما نزل مصر خرج ابنه يريد المغرب فسكنوا عند آخر عمالة مصر وذلك ما وراء برقة إلى البحر الأخضر مع بحر الأندلس إلى منقطع الرمل متصلين بالسودان. فمنهم لواتة آهلين بأرض طرابلس ونزل قوم بقربها وهم نفزة. ثم امتدت بهم الطرق إلى القيروان وما وراءها إلى تاهرت إلى طنجة وسجلماسة إلى السوس الأقصى وهم طوائف صنهاجة وكتامة وزكالة من وركلاوة وفطواكة من هسكورة ومزطاوة وذكر بعض أهل الآثار أن الشيطان نزغ بين بني حام وبني سام فوقعت بينهم مناوشات كانت الدبرة فيها لسام وبنيه وخرج سام إلى المغرب وقدم مصر وتفرق بنوه ومضى على وجهه يؤم المغرب حتى بلغ السوس الأقصى وخرج بنوه في أثره يطلبونه فكل طائفة من ولده بلغت موضعاً وانقطع عنهم خبره فأقاموا بذلك الموضع وتناسلوا فيه ووصلت إليهم طائفة فأقاموا معهم وتناسلوا هنالك. وكان عمر حام أربعمائة وثلاثاً وأربعين سنة فيما ذكره البكري وقال آخرون: كان عمره خمسمائة وإحدى وثلاثين سنة وقال السهيلي فيمن هو يعرب بن قحطان. قال: وهو الذي أجلى بني حام إلى المغرب بعد أن كانوا الجزى من ولد قوط بن يافث هذا آخر الخلاف في أنساب البربر. واعلم أن هذه المذاهب كلها مرجوحة وبعيدة من الصواب فأما القول بأنهم من ولد إبراهيم فبعيد لأن داود الذي قتل جالوت وكان البربر معاصرين له ليس بينه وبين إسحق بن إبراهيم أخي نقشان الذي زعموا أنه أبو البربر إلا نحو عشرة آباء ذكرناهم أول الكتاب. ويبعد أن يتشعب النسل فيهم مثل هذا التشعب. وأما القول بأنهم من ولد جالوت أو العماليق وأنهم نقلوا من ديار الشام وانتقلوا فقول ساقط يكاد يكون من أحاديث خرافة إذ متل هذه الأمة المشتملة على أمم وعوالم ملأت جانب الأرض لا تكون منتقلة من جانب آخر وقطر محصور والبربر معروفون في بلادهم وأقاليمهم متحيزون بشعارهم من الأمم منذ الأحقاب المتطاولة قبل الإسلام فما الذي يحوجنا إلى التعلق بهذه الترهات في شأن أوليتهم. ويحتاج إلى مثله في كل جيل وأمة من العجم والعرب. وأفريقش الذي يزعمون أنه نقلهم قد ذكروا أنه وجدهم بها وأنه تعجب من ش كثرتهم وعجمتهم وقال: ما أكثر بربرتكم. فكيف يكون هو الذي نقلهم وليس بينه وبين أبرهة ذي المنار من يتشعبون فيه إلى مثل ذلك أن قالوا أنه الذي نقلهم. وأما القول أيضاً بأنهم من حمير من ولد النعمان أو من مضر من ولد قيس بن عيلان فمنكر من القول وقد أبطله إمام النسابين والعلماء أبو محمد بن حزم. وقال في كتالب الجمهرة: ادعت طوائف من البربر أنهم من اليمن ومن حمير وبعضهم ينسب إلى بربر بن قيس وهذا كله باطل لا شك فيه. وما علم النسابون لقيس بن عيلان ابناً اسمه بر أصلاً وما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن. وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة أنهم من ولد جالوت وأن جالوت من ولد قيس بن عيلان فأبعد عن الصواب. فإن قيس عيلان من ولد معد. وقد قدمنا أن معداً كان معاصراً لبختنضر وأن أرمياء النبي خلص به إلى الشام حذراً عليه من بختنصر حين سلط على العرب. وبختنصر هو الذي خرب بين المقدس بعد بناء داود وسليمان إياه بأربعمائة وخمسين سنة ونحوها فيكون معد بعد داود بمثل هذا الأمد فكيف يكون ابنه قيس أباً لجالوت المعاصر لداود. هذا في غاية البعد وأظنها غفلة من ابن قتيبة ووهماً. والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح كما تقدم في أنساب الخليقة وأن اسم أبيهم مازيغ وإخوتهم أركيش وفلسطين إخوانهم بنو كسلوحيم بن مصرايم بن حام وملكهم جالوت سمة معروفة له. وكانت بين فلسطين هؤلاء وبين بني إسرائيل بالشام حروب مذكورة. وكان بنو كنعان وواكريكيش شيعاً لفلسطين فلا يقعن في وهمك غير هذا فهو الصحيح الذي لا يعدل عنه. ولا خلاف بين نسابة العرب أن شعوب البربر الذي قدمنا ذكرهم كلهم من البربر إلا صنهاجة وكتامة. فإن بين نسابة العرب خلافاً والمشهور أنهم من اليمنية وأن أفريقش لما غزا إفريقية أنزلهم بها. أما نسابة البربر فيزعمون في بعض شعوبهم أنهم من العرب مثل لواتة يزعمون أنهم من حمير ومثل هوارة يزعمون أنهم من كندة من السكاسك ومثل زناتة تزعم نسابتهم أنهم من العمالقة فروا أمام بني إسرائيل. وربما يزعمون فيهم أنهم من بقايا التبابعة ومثل غمارة أيضاً وزواوة ومكلاتة يزعم في هؤلاء كلهم نسابتهم أنهم من حمير حسبما نذكره عند تفصيل شعوبهم في كل فرقة منهم وهذه كلهما مزاعم. والحق الذي شهد به المواطن والعجمة أنهم بمعزل عن العرب إلا ما تزعمه نسابة العرب في صنهاجة وكتامة. وعندي أنهم من إخوانهم والله أعلم. وقد انتهى بنا الكلام إلى أنسابهم وأوليتهم فلنرجع إلى تفصيل شعوبهم وذكرهم أمة بعد أمة. ونقتصر على ذكر من كانت له منهم دولة ملك أو سالف شهرة أو تشعب نسل في العالم وعدد لهذا العهد وما قبله من صنفي البرانس. والبتر منهم وترتيبهم شعباً شعباً حسبما تأدى إلينا من ذلك واشتمل عليه محفوظنا والله المستعان. |
الفصل الثاني مواطن البربر بافريقية والمغرب
في ذكر مواطن هؤلاء البربر بإفريقية والمغرب اعلم أن لفظ المغرب في أصل وضعه اسم إضافي يدل على مكان من الأمكنة بإضافته إلى جهة المشرق ولفظ المشرق كذلك بإضافته إلى جهة المغرب فكل مكان من الأرض مغرب بالإضافة إلى جهة المشرق ومشرق بالإضافة إلى جهة المغرب إلا أن العرب قد يخصص هذه الأسماء بجهات معينة وأقطار مخصوصة. وعرف أهل الجغرافيا المعتنين بمعرفة هيئة الأرض وقسمتها بأقاليمها ومعمورها وخرابها وجبالها وبحارها ومساكن أهلها مثل بطليموس ورجار صاحب صقلية المنسوب إليه الكتاب المشهور بين الناس لهذا العهد في هيئة الأرض والبلدان وأمثالهم: أن المغرب قطر واحد مميز بين الأقطار. فحده من جهة المغرب بحر المحيط وهو عنصر الماء وسمي محيطاً لإحاطته بما انكشف من الأرض كما قدمنا أول الكتاب. ويسمى أيضاً البحر الأخضر لتلونه غالباً بالخضرة ويسمى بحر الظلمات لما أنه تقل الأضواء من الأشعة المنعكسة على سطح الأرض من الشمس لبعده عن الأرض فيكون مظلماً. ولفقدان الأضواء تقل الحرارة المحللة للأبخرة فلا تزال السحب والغيوم متكاثفة على سطحه منعقدة هنالك متراكمة وتسميه الأعاجم: بحر أوقيانوس يعنون والله أعلم ما نعني نحن بالعنصر. ويسمونه أيضاً بحر البلاية بتفخيم اللام الثانية. وهو بحر كبير غير منحصر لا تبعد فيه السفن عن مرأى العين من السواحل للجهل بسمو الرياح هنالك ولنهايتها إذ لا غاية من العمران وراءه. والبحار المنحصرة إنما جرت فيها السفن بالرياح المعروفة الهوائية بكثرة تجاربهم فتبعث الريح من الأماكن وغاية مهبها في سمتها فكل ريح عندهم معروفة الغاية. فإذا علم أن جريته بالريح المنبعثة من مكان كذا وبما خرج من ريح إلى ريح ريح بحسب مقصوده وجهته. وهذا مفقود في البحر الكبير لأنه منحصر ومنبعث الريح وإن كان معروفاً فيه فغايته غير معروفة لفقدان العمران وراءه فتضل السفن إذا جرت به وتذهب فتهلك. وأيضاً فإذا أوغل فيه فربما وقع في المتكاثف من الغيوم والأبخرة كما قلف فيهلك فلهذا كان راكبه على غرر وخطر. فحد الغرب من جهة المغرب البحر المحيط كما قلناه وعليه كثير من مدنه مثل طنجة وسلا أزمور وأنفى وأسفى وهي من مدن الغرب وحواضره. وعليه أيضاً مسجد ماسة وبلدتا كاوصت ونول من بلاد السوس وهي كلها من مساكن البربر وحواضرهم وتنتهي المراكب إلى وراء ساحل نول ولا تجاوزه إلا على خطر كما قلناه. وأما حده من جهة الشمال فالبحر الرومي والمتفرع من هذا البحر المحيط يخرج في خليج متضايق بين طنجة من بلاد المغرب وطريف من بلاد الأندلس ويسمى هذا الخليج الزقاق وعرضه ثمانية أميال فما فوقها. وكانت عليه قنطرة ركبها ماء البحر. ثم يذهب هذا البحر الرومي في سمت الشرق إلى أن ينتهي إلى سواحل الشام وثغوره وما إليها مثل أنطالية وأنطاكية والعلايا وطرسوس والمصيصة وطرابلس وصور والإسكندرية. ولذلك سمي البحر الشامي. وهو إذاً خرج من الخليج ينفسح في ذهابه عرضاً. وأكثر انفساحه إلى جهة الشمال ولا يزال انفساحه ذلك متصاعداً إلى الشمال إلي أن ينتهي إلى غايته. وطوله فيما يقال خمسة آلاف ميل أو ستة. وفيه جزائر ميورقة ومنرقة وياسة وصقلية وأقريطش وسردانية وقبرص. وأما عرضه من جهة الجنوب فإنه يخرج عن سمت واحد. ثم يختلف في ذهابه فتارة يبعد عن الجنوب وتارة يرجع إلى الشمال. واعترض ذلك بعروض البلدان التي بساحله وذلك أن عرض البلد هو ارتفاع قطبه الشمال على أفقه. وهو أيضاً بعد ما بين سمت رؤوس أهله ودائرة معدل النهار. والسبب في ذلك أن الأرض كروية الشكل والسماء من فوقها مثلها. وأفق البلد هو فرق ما يرى وبين ما لا يرى من السماء ومن الأرض. والفلك ذو قطبين إذا ارتفع أحدهما على رؤوس معمور انخفض الآخر بقدره عنهم والعمارة في الأرض كلها هي إلى الجانب الشمال أكثر وليس في الجنوب عمران لما تقرر في موضعه. فلهذا ارتفع القطب الشمالي على أهل العمران دون الجنوبي. والمار على سطح الكرة كلما أبعد في جهة ظهر له من سطح الكرة ومن السماء المقابل لها ما لم يكن يظهر فيزيد بعد القطب على الأفق كما أبعد في الشمال وينقص كلما رجع إلى الجنوب. فعرض سبتة وطنجة التي هي على زقاق هذا البحر وخليجه - له - ودقائق. ثم يتصاعد البحر إلى الجنوب فيكون عرض تلمسان - لد - ونصف فتزيد في الجنوب فيكون عرض وهران - لب - أبعد من فاس بيسير لأن عرض فاس - لج - ودقائق. ولهذا كان العمران في المغرب الأقصى أعرض في الشمال من عمران المغرب الأوسط بقدر ما بين فاس وسبتة. وصار ذلك القطر كالجزيرة بين البحار لانعطاف البحر الرومي إلى الجنوب. ثم يرجع البحر بعد وهران عن سمته ذلك فيكون عرض تونس والجزائر - له - على مثل سمته الأول عند منبعثه من الزقاق. ثم يزيد في الشمال فيكون عرض بجاية وتونس - يوم - على مثل سمت غرناطة ومرية ومالقة. ثم يرجع إلى الجنوب فيكون عرض طرابلس وقابس - له - على مثل السمت الأول بطنجة وسبتة. ثم يزيد في الجنوب فيكون عرض برقة - لج - على مثل سمت فاس وتوزر فيكون عرض الإسكندرية - لا - على مثل مراكش وأغمات. ثم يذهب في الشمال إلى القطافة إلى منتهى سمته بسواحل الشام. وهكذا اختلافه في هذه العدوة الجنوبية ولسنا على علم من حاله في العدوة الشمالية. وينتهي بسواحل عرض هذا البحر في انفساحه إلى سبعمائة ميل أو نحوها ما بين سواحل إفريقية وجنوة من العدوة الشمالية والبلاد الساحلية من المغرب الأقصى والأوسط وإفريقية من لدن الخليج حيث منبعثة كلها عليه مثل طنجة وسبتة وبادس وعساسة وهنين ووهران والجزائر وبجاية وبونة وتونس وسوسة والمهدية وصفاقس وقابس وطرابلس وسواحل برقة والإسكندرية. هذا وصف هذا البحر الرومي الذي هو حد المغرب من جهة الشمال. وأما حده من جهة القبلة والجنوب فالرمال المتهيلة الماثلة حجزاً بين بلاد السودان وبلاد البربر. وتعرف عند العرب الرحالة البادية بالعرق وهذا العرق سياج على المغرب من جهة الجنوب مبتدىء من البحر المحيط وذاهب في جهة الشرق على سمت واحد إلى أن يعترضه النيل الهابط من الجنوب إلى مصر. فهنالك ينقطع وعرضه ثلاث مراحل وأزيد. ويعترضه في جهة المغرب الأوسط أرض محجرة تسمى عند العرب الحمادة من دوين مصاب إلى بلاد ريغ ووراءه من جهة الجنوب بعض بلاد الجريدية ذات نخيل وأنهار معدودة في جملة بلاد المغرب مثل بلاد بودة وتمنطيت فى قبلة المغرب الأقصى وتسايبت وتيكورارين في قبلة المغرب الأوسط وغدامس وفزان وودان في قبلة طرابلس. كل واحد من هذه إقليم يشتمل على بلدان عامرة ذات قرى ونخيل وأنهار ينتهي وإلى هذه العدوة الجنوبية من هذا العرق ينتهي في بعض السنين مجالات أهل الشام من صنهاجة ومتقلبهم الجائلون هناك إلى بلاد السودان. وفي العدوة الشمالية - منه مجالات البادية من الأعراب الظواعن بالمغرب. وكانت قبلهم مجالات للبربر كما نذكره بعد هذا حد المغرب من جهة الجنوب. ومن دون هذا العرق سياج آخر على المغرب مما يلي التلول منه. وهي الجبال التي هي تخوم تلك التلول ممتدة من لدن البحر المحيط في الغرب إلى برنيق من بلاد برقة. وهنالك تنقطع هذه الجبال. ويسمى مبدؤها من المغرب جبال درن. وما بين هذه الجبال المحيطة بالتلول وبين العرق الذي وصفناه آنفاً بسائط وقفار أكثر نباتها الشجر وفيما يلي التلول منها ويقاربها بلاد الجريد ذات نخل وأنهار. ففي أرض السوس قبلة مراكش ترودانت والغيرى فويان وغيرهما بلاد ذات نخل وأنهار ومزارع متعددة عامرة. وفي قبلة فاس سجلماسة وقراها بلد معروف ودرعة أيضاً وهي معروفة وفي قبلة تلمسان قصور متعددة ذات نخل وأنهار. وفي قبلة تاهرت القصور أيضاً بلاد متتالية على سطر من المشرق إلى المغرب أقرب ما إليها جبل راشد وهي ذات نخل ومزارع وأنهار. ثم قصور معينات تناهز المائة وأكثر قبله الجزائر ذات نخل وأنهار. ثم بلد واركلي قبلة بجاية بلد واحد مستبحر العمران كثير النخل وفي سمته إلى جهة التلول بلاد ريغ تناهز الثلثمائة منتظمة على حفافي واد ينحدر من المغرب إلى المشرق يناهز مائة من البلاد فأكثر قاعدتها بسكرة من كبار الأمصار بالمغرب. وتشتمل كلها على النخل والأنهار والفدن والقرى والمزارع. ثم بلاد الجريد قبلة تونس وهي: نفطة وتوزر وقفصة وبلاد نفزاوة وتسمى كلها بلاد قسطيلة مستبحرة العمران مستحكمة الحضارة مشتملة على النخل والأنهار. ثم قابس قبلة سوسة وهي حاضرة البحر من أعظم أمصار إفريقية وكانت دار ملك لابن غانية كما نذكره بعد. وتشتمل على النخل والأنهار والمزارع. ثم فزان وودان قبلة طرابلس قصور متعددة ذات نخل وأنهار وهي أول ما افتتح المسلمون من أرض إفريقية لما غزاها عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص. ثم الوحات قبلة برقة. ذكرها المسعودي فى كتابه. وما وراء هذه كلها في جهة الجنوب فقفار ورمال لا تنبت زرعاً ولا مرعى إلى أن تنتهي إلى العرق الذي ذكرناه. ومن ورائه مجالات المتلثمين كما قلناه مفاوز معطشة إلى بلاد السودان. وما بين بلاد هذه والجبال التي هي سياج التلول بسائط متلون مزاجها تارة بمزاج التلول وتارة بمزاج الصحراء بهوائها ومياهها ومنابتها. وفيها القيروان وجبل أوراس معترض وسطها. وبلاد الحضنة حيث كانت طبنة ما بين الزاب والتل. وفيها مقرة والمسيلة وفيها السرسو قبلة تلمسان حيث تاهرت فيها جبل ديرو وقبلة فاس معترض في تلك البسائط. هذا حد المغرب من جهة القبلة والجنوب. وأما من جهة الشرق فيختلف باختلاف الاصطلاحات. فعرف أهل الجغرافيا أنه بحر أهل القلزم المنفجر من بحر اليمن هابط على سمت الشمال وبانحراف يسير إلى المغرب حتى ينتهي إلى القلزم والسويس ويبقى بينهم من هنالك وبين سمته من البحر الرومي مسيرة يومين. وينقطع عند السويس والقلزم. وبعده عن مصر في جهة الشرق ثلاثة أيام. هذا آخر المغرب عندهم ويدخل فيه إقليم مصر وبرقة. وكان المغرب عندهم جزيرة أحاطت بها البحر من ثلاث جهاتها كما تراه. وأما العرف الجاري لهذا العهد بين سكان هذه الأقاليم فلا يدخل فيه إقليم مصر ولا برقة وإنما يختص بطرابلس وما وراءها إلى جهة المغرب في هذا العرف لهذا العهد. وهذا الذي كان في القديم ديار البربر ومواطنهم. فأما المغرب الأقصى منه وهو ما بين وادي ملوية من جهة الشرق إلى أسفي حاضرة البحر المحيط. وجبال درن من جهة الغرب فهي في الأغلب ديار المصامدة من أهل درن وبرغواطة وغمارة. وآخر غمارة بطوية مما يلي غساسة ومعهم عوالم من صنهاجة ومطغرة وأوربة وغيرهم يحيط به البحر الكبير من غربيه والرومي من شماليه والجبال الصاعدة المتكاثفة مثل درن من جانب القبلة وجبال تازى من جهة الشرق. لأن الجبال أكثر ما هي وأكثف قرب البحار بما اقتضاه التكوين من ممانعة البحار بها. فكانت جبال المغرب لذلك أكثر وساكنها من المصامدة في الأغلب وقيل من صنهاجة. وبقيت البسائط من الغرب مثل أزغاو وتامستا وتادلا ودكالة. واعتمرها الظواى من البربر الطارئين عليه من جشم ورياح فغص المغرب بساكنه من أمم لا يحصيهم إ لا خالقهم وصار كأنه جزيرة وبلد واحد أحاطت به الجبال والبحار وقاعدته لهذا العهد فاس وهي دار ملكه. ويمر فيه النهر العظيم المعروف بوادي أم ربيع وهو نهر عظيم يمتنع عبوره أيام الأمطار لاتساعه ويعظم مده إلى البحر فينتهي إلى سبعين ميلاً أو ما يقاربها ومصبه في البحر الكبير عند أزبور. ومنبعه من جبال درن من فوهة كبيرة ينبع منها هذا النهر ويتساهل إلى بسيط المغرب. وينبع منها أيضاً نهر آخر وينحدر إلى القبلة. ويمر ببلاد درعة ذات النخل المخصوصة بنبات النيلج. وصناعة استخراجه من شجره وهي قصور ذات نخل موضوعة في سفح جبل درن من آخره وبها يسمى هذا النهر ويجاورها إلى أن يغوص في الرمل قبلة بلاد السوس. وأما نهر ملوية آخر المغرب الأقصى فهو نهر عظيم منبعه من فوهة في جبال قبلة تازى ويصب في البحر الرومي عند غساسة. وعليه كانت ديار مكناسة المعروفة بهم في القديم. ويسكنها لهذا العهد أمم أخرى من زناتة في قصور منتظمة إلى أعلى النهر يعرفون بوطاط ويجاورهم هنالك وفي سائر نواحيه أمم من البربر أشهر من فيهم بطالسة إخوة مكناسة. وينبع مع هذا النهر من فوهته نهر كبير ينحدر ذاهباً إلى القبلة مشرقاً بعض الشيء ويقطع العرق على سمته إلى أن ينتهي إلى بودة ثم بعدها إلى تمنطيت ويسمى لهذا العهد كير وعليه قصورها. ثم يمر إلى أن يصب في القفار ويروغ في قفارها ويغور في رمالها وهو موضع مغامه قصور ذات نخل تسمى وركلان. وفي شرق بوده مما وراء العرق قصور تسابيت من قصور الصحراء. وفي شرقي تسابيت إلى ما يلي الجنوب قصور تيكورارين تنتهي إلى ثلثمائة أو أكثر في واد واحد فينحدر من المغرب إلى المشرق وفيها أمم من قبائل زناتة. وأما المغرب الأوسط فهو في الأغلب ديار زناتة. كان لمغراوة وبني يفرن. وكان معهم مديونة ومغيلة وكومية ومطغرة ومطماطة. ثم صار من بعدهم لبني ومانوا وبني يلومي. ثم صار لبني عبد الواد وتوجين من بني مادين وقاعدته لهذا العهد تلمسان وهي دار ملكه ويجاوره من جهة المشرق بلاد صنهاجة من الجزائر ومتيجة والمرية وما يليها إلى بجاية وقبائله كلهم لهذا العهد مغلوبون للعرب من زغبة. ويمر في وادي شلف بني واطيل النهر الأعظم منبعه من بلد راشد في بلاد الصحراء. ويدخل إلى التل من بلاد حصين لهذا العهد. ثم يمر مغرباً ويجتمع فيه سائر أودية المغرب الأوسط مثل مينا وغيره إلى أن يصب في البحر الرومي ما بين كليتوا ومستغانم. وينبع من فوهته نهر آخر يذهب مشرقاً من جبل راشد ويمر بالزاب إلى أن يصب في سبخة ما بين توزر وأما بلاد بجاية وقسطنطينة فهي دار زواوة وكنامة وعجيسة وهوارة وهي اليوم ديار للعرب إلا ممتنع الجبال وفيها بقاياهم. وأما إفريقية كلها إلى طرابلس فبسائط فيح كانت دياراً لنفزاوة وبني يفرن ونفوسة ومن لا يحصى من قبائل البربر. وكانت قاعدتها القيروان وهي لهذا العهد مجالات للعرب من سليم وبني يفرن وهوارة مغلوبون تحت أيديهم. وقد تبدو معهم ونسوا رطانة الأعاجم وتكلموا بلغات العرب وتحلوا بشعارهم في جميع أحوالهم. وقاعدتها لهذا العهد تونس وهي دار ملكها ويمر فيها النهر الأعظم المعروف بوادي مجردة يجتمع فيه سائر الأودية بها ويصب في البحر الرومي على مرحلة من غربي تونس بموضع يعرف ببنزرت. وأما برقة فدرست معالمها وخربت أمصارها وانقرض أمرها. وعادت مجالات للعرب بعد أن كانت دارا للواتة وهوارة وغيرهم من البربر. وكانت بها الأمصار المستبحرة مثل لبدة وزويلة وبرقة وقصر حسان وأمثالها فعادت يباباً ومفاوز كأن لم تكن والله أعلم |
الفصل الثالث فضائل هذا الجيل من البربر
في ذكر ما كان لهذا الجيل قديماً وحديثاً من الفضائل الإنسانية والخصائص الشريفة الراقية بهم إلى مراقي العز ومعارج السلطان والملك قد ذكرنا ما كان من أمر هذا الجيل من البربر ووفور عدده وكثرة قبائلهم وأجيالهم وما سواه من مغالبة الملوك ومزاحمة الدول عدة آلاف من السنين من لدن حروبهم مع بني إسرائيل بالشام وخروجهم عنه إلى إفريقية والمغرب وما كان منهم لأول الفتح في محاربة الطوالع من المسلمين أولاً ثم في مشايعتهم ومظاهرتهم على عدوهم ثانياً من المقامات الحميدة والآثار الجميلة. وما كان لوهياً الكاهنة وقومها بجبل أوراس من الملك والعز والكثرة قبل الإسلام وبعده حتى تغلب عليهم العرب وما كان لمكناسة من مشايعة المسلمين أولاً ثم ردتهم ثانياً وتحيزهم إلى المغرب الأقصى وفرارهم أمام عقبة بن نافع ثم غلبهم بعد ذلك طوالع هشام بأرض المغرب. قال ابن أبي زيد: إن البربر ارتدوا بإفريقية المغرب اثنتي عشرة مرة وزحفوا في كلها للمسلمين ولم يثبت إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير وقيل بعدها. وتقدم ذكر ما كان لهم في الصحراء والقفر من البلاد وما شيدوا من الحصون والآطام والأمصار من سجلماسة وقصور توات وتجورارين وفيجيج ومصاب وواركل وبلاد ريغة والزاب ونفزاوة والحمة وغذامس. ثم ما كان لهم من الأيام والوقائع والدول والممالك. ثم ما كان بينهم وبين طوالع العرب من بني هلال في المائة الخامسة بإفريقية. وما كان لهم مع دولة آل حماد بالقلعة ومع لمتونة بتلمسان وتاهرت من الموالاة والانحراف. وما استولى عليه بنو بادين آخراً بإسهام الموحدين وإقطاعهم من بلاد المغرب وما كان لبني مرين في الأجلاب على عير عبد المؤمن من الآثار وما تشهد أخباره كلها بأنه جيل عزيز على الأيام وأنهم قوم مرهوب جانبهم شديد بأسهم كثير جمعهم مظاهرون لأمم العالم وأجياله من العرب والفرس ويونان والروم. ولكنهم لما أصابهم الفناء وتلاشت عصابتهم بما حصل لهم من ترف الملك والدول التي تكررت فيهم قلت جموعهم وفنيت عصابتهم وعشائرهم وأصبحوا خولاً للدول وعبيداً للجباية. واستنكف كثير من الناس عن النسب فيهم لأجل ذلك وإلا فقد كانت أوربة أميرهم كسيلة عند الفتح كما سمعت وزناتة أيضاً حتى أسر أميرهم وزمار بن مولات وحمل إلى المدينة إلى عثمان بن عفان. ومن بعد ذلك هوارة وصنهاجة وبعدهم كتامة وما أقاموا من الدولة التي وأما تخلقهم بالفضائل الإنسانية وتنافسهم في الخلال الحميدة وما جبلوا عليه من الخلق الكريم مرقاة الشرف والرفعة بين الأمم ومدعاة المدح والثناء من الخلق من عز الجوار وحماية النزيل ورعي الأذمة والوسائل والوفاء بالقول والعهد والصبر على المكاره والثبات في الشدائد. وحسن الملكة والإغضاء عن العيوب والتجافي عن الانتقام ورحمة المسكين وبر الكبير وتوقير أهل العلم وحمل الكل وكسب المعدوم. وقرى الضيف والإعانة على النوائب وعلو الهمة وإباية الضيم ومشاقة الدول ومقارعة الخطوب وغلاب الملك وبيع النفوس من الله في نصر دينه. فلهم في ذلك آثار نقلها الخلف عن السلف لو كانت مسطورة لحفظ منها ما يكون أسوة لمتبعيه من الأمم وحسبك ما اكتسبوه من حميدها واتصفوا به من شريفها أن قادتهم إلى مراقي العز وأوفت بهم على ثنايا الملك حتى علت على الأيدي أيديهم ومضت فى الخلق بالقبض والبسط أحكامهم. وكان مشاهيرهم بذلك من أهل الطبقة الأولى: بلكين بن زيري الصنهاجي عامل إفريقية للعيديين ومحمد بن خزر والخير ابنه وعروبة بن يوسف الكتامي القائم بدعوة عبد الله الشيعي ويوسف بن تاشفين ملك لمتونة بالمغرب وعبد المؤمن بن علي شيخ الموحدين وصاحب الإمام المهدي. وكان عظماؤهم من أهل الطبقة الثانية السابقون إلى الراية بين يدي دولهم والماهدون لملكهم بالمغرب الأقصى والأوسط كبيرهم يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين ويغمراسن بن زيان سلطان بني عبد الواد ومحمد بن عبد القوي ووزمار كبير بني توجين وثابت بن منديل أمير مغراوة وأهل شلف ووزمار بن إبراهيم زعيم بني راشد المتعاصرين في أزمانهم المتناغين في تأثيل عزهم والتمهيد لقومهم كل على شاكلته بقوة جمعه. فكانوا من أرسخهم في تلك الخلال قدماً وأطولهم فيها يداً وأكثرهم لها جمعاً طارت عنهم في ذلك قبل الملك وبعده أخبار عني بنقلها الأثبات من البربر وغيرهم وبلغت في الصحة والشهرة منتهى التواتر. وأما إقامتهم لمراسم الشريعة وأخذهم بأحكام الملة ونصرهم لدين الله فقد نقل عنهم من اتخاذ المعلمين لأحكام دين الله لصبيانهم والاستفتاء في فروض أعيانهم واقتفاء الأئمة للصلوات في بواديهم وتدارس القرآن بين أحيائهم وتحكيم حملة الفقه في نوازلهم وقضاياهم وصياغتهم إلى أهل الخير والدين من أهل مصرهم التماساً في آثارهم وسوءاً للدعاء عن صالحيهم وإغشائهم البحر لفضل المرابطة والجهاد وبيعهم النفوس من الله في سبيله وجهاد عدوه ما يدل على رسوخ إيمانهم و صحة معتقداتهم ومتين ديانتهم التي كانت ملاكاً لعزهم ومقاداً إلى سلطانهم وملكهم. المبرز منهم في هذا المنتحل يوسف بن تاشفين وعبد المؤمن بن علي وبنوهم. ثم يعقوب بن عبد الحق من بعدهم وبنوه فقد كان لهم في الاهتمام بالعلم والجهاد وتشييد المدارس واختطاط الزوايا والربط وسد الثغور وبذل النفس في الله وإنفاق الأموال في سبيل الخيرات ثم مخالطة أهل العلم وترفيع مكانهم مجالستهم ومفاوضتهم في الاقتداء بالشريعة والانقياد لإشاراتهم في الوقائع والأحكام ومطالعة سير الأنبياء وأخبار الأولياء وقراءتها بين أيديهم من دواوبن ملكهم ومجالس أحكامهم وقصور عزهم. والتعرض بالمعاقل لسماع شكوى المتظلمين وإنصاف الرعايا من العمال والضرب على يد أهل الجور واتخاذ المساجد بصحن دورهم وسده خلافتهم وملكهم يعمرونها بالصلوات والتسبيحات والقراء المرتلين لتلاوة كتاب الله أحزاباً بالعشي والإشراق على الأيام وتحصين ثغور المسلمين بالبنيان المشيد والكتائب المجهزة وإنفاق الأموال العريضة. شهدت لهم بذلك آثار تخلفوها بعدهم. وأما وقوع الخوارق فيهم وظهور الكاملين في النوع الإنساني من أشخاصهم فقد كان فيهم من الأولياء المحدثين أهل النفوس القدسية والعلوم الموهوبة. ومن حملة العلم عن التابعين ومن بعدهم من الأئمة والكهان المفطورين على المطلع للأسرار المغيب ومن الغرائب التي خرقت العادة وأوضحت أدلة القدرة ما يدل على عظيم عناية الله بذلك الجيل وكرامته لهم بما آتاهم من جماع الخير وآثرهم به من مذاهب الكمال وجمع لهم من متفرق خواص الإنسان ينقل ذلك في أخبار توهم عجائب. فكان من مشاهير حملة العلم فيهم سعيد بن واسول جد بني مدرار ملوك سجلماسة أدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى العباس ذكره عريب بن حميد في تاريخة. ومنهم أبو يزيد مخلد بن كيداد اليفرني صاحب الحمار الخارج على الشيعة سنة اثنتين وثلثمائة الدائن بدين الخارجية. أخذ العلم بتوزر عن مشيختها ورأس في الفتيا وقرأ مذاهب الإضافية من الخوارج وصدق فيه. ثم لقي عماراً الأعمى الصفري النكار. فتلقن عنه من مذاهبهم ما انسلخ من آية السعادة بانتحاله. وهو مع ذلك من الشهرة في هذا الجيل بحيث لايغفل. ومنهم منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة من ظواعن ولهاصة ثم من سوماتة منهم مولده عام عشرة ووفاته عام ثلاثه وثمانين وثلثمائة. كان من البتر من ولد مادغيس هلك على يد عبد الرحمن الناصر. ومنهم أيضاً أبو محمد بن أبي زيد علم الملة وهو من نفزة أيضاً. ومنهم علماء بالنسبة والتاريخ وغير ذلك من فنون العلوم. ومن مشاهير زناتة أيضاً موسى بن صالح الغمري معروف عند كافتهم معرفة وضوح وشهرة وقد ذكرناه عند ذكر غمرة من شعوب زناتة. وهو وإن لم توقفنا الأخبار الصحيحة على الجلي من أمره في دينه فهو من محاسن هذا الجيل الشاهدة بوجود الخواص الإنسانية فيهم: من ولاية وكهانة وعلم وسحر وكل نوع من آثار الخليقة. ولقد تحدث أهل هذا الجيل فيما يتحدثون به أن أخت يعلى بن محمد اليفرني جاءت بولد من غير أب سموه كلمام. ويذكر له أخبار في الشجاعة خرقت العوائد ودلت على أنه موهبة من الله استأثره بها لم يشاركه فيها غيره من أهل جلدته. وربما ضاقت - حواصل الخواص منهم عن ملتقط هذه الكائنة ويجهلون ما يتسع لها ولأمثالها من نطاق القدرة وينقلون أن حملها كان إثر استحمامها في عين حامية هنالك غب ما صدر عنها بعض السباع كانت ترد فيها على الناس ويردون عليها ويرون أنها علقت من فضل ولوغه ويسمون ذلك المولود ابن الأسد لظهور خاصة الشجاعة فيه. وكثير من أمثال هذه الأخبار التي لو انصرفت إليها عناية الناقلين لملأت الدواوين. ولم يزل هذا دأبهم وحالهم إلى أن مهدوا من الدول وأثلوا من الملك ما نحن في سبيل ذكره. |
الفصل الرابع ذكراخبارهم على الجملة
في ذكر أخبارهم على الجملة من قبل الفتح الإسلامي ومن بعده إلى ولاية بني الأغلب هؤلاء البربر جيل ذو شعوب وقبائل أكثر من أن تحصى حسبما هو معروف تاريخ الفتح بإفريقية والمغرب وفي أخبار ردتهم وحروبهم فيها. نقل ابن أبي الرقيق: أن موسى بن نصير لما فتح سقوما كتب إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من سقوما مائة ألف رأس. فكتب إليه الوليد بن عبد الملك: ويحك إني أظنها من بعض كذباتك فإن كنت صادقاً فهذا محشر الأمة ولم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل الإسكندرية عامرة بهذا الجيل ما بين البحر الرومي وبلاد السودان منذ أزمنة لا يعرف أولها ولا ما قبلها. وكان دينهم دين المجوسية شأن الأعاجم كلهم بالمشرق والمغرب إلا في بعض الأحايين يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم. فإن الأمم أهل الدول العظيمة كانوا يتغلبون عليهم فقد غزتهم ملوك اليمن من قرارهم مراراً على ما ذكر ذكر ابن الكلبي: أن حمير بالقبائل اليمانية ملك المغرب مائة سنة وأنه الذي مدائنه مثل إفريقية وصقلية. واتفق المؤرخون على غزو أفريقش بن صيفي من التبابعة إلى المغرب كما ذكرنا في أخبار الروم واختطوا بسيف البحر وما يليه من الأرياف عظيمة الخطة وثيقة المباني شهيرة الذكر باقية المعالم والآثار لهذا العهد مثل: سبيطلة وجلولاء ومرناق ووطاقة وزانة وغيرها من المدن التي خربها المسلمون من العرب الفتح عند استيلائهم عليها. وقد كانوا دانوا لعهدهم بما تعبدوهم به من دين النصر وأعطوهم المهادنة وأدوا إليهم الجباية طواعية. وكان للبربر في الضواحي وراء ملك الأمصار المرهوبة الحامية ما شاء من قوة وعدة وعدد وملوك ورؤساء وأقيال. وأمرؤها لا يرامون بذل ولا ينالهم الروم والإفرنج في ضواحيهم تلك بمسخطة الإساءة وقد صبحهم الإسلام وهم في مملكة قد استولوا على رومة. وكانوا يؤدون الجباية لهرقل ملك القسطنطينية كما كان المقوقس صاحب الإسكندرية وبرقة ومصر يؤدون الجباية له وكما كان صاحب طرابلس ولبدة وصبرة وصاحب صقلية وصاحب الأندلس من الغوط لما كان الروم غلبوا على هؤلاء الأمم أجمع. وعنهم كلهم أخذوا دين النصرانية فكان الفرنجة هم الذين ولوا أمر إفريقية ولم يكن للروم فيها شيء من ولاية. وإنما كان كل من كان منهم بها جنداً للإفرنج ومن حشودهم. وما يسمع في كتب الفتح من ذكر الروم في فتح إفريقية فمن باب التغليب لأن العرب يومئذ لم يكونوا يعرفون الفرنج وما قاتلوا في الشام إلا الروم فظنوا أنهم هم الغالبون على أمم النصرانية. فإن هرقل هو ملك النصرانية كلها فغلبوا اسم الروم على جميع أمم النصرانية. ونقلت الأخبار عن العرب كما هي: فجرجير المقتول عند الفتح من الفرنج وليس من الروم وكذا الأمة الذين كانوا بإفريقية غالبين على البربر ونازلين بمدنها وحصونها إنما كانوا من الفرنجة. وكذلك ربما كان بعض هؤلاء البربر دانوا بدين اليهودية أخذوه عن بني إسرائيل عند استفحال ملكهم لقرب الشاه وسلطانه منهم كما كان جرأة أهل جبل أوراس قبيلة الكاهنة مقتولة العرب لأول الفتح وكما كانت نفوسة من برابر إفريقية وقندلاوة ومديونة وبهلولة وغياتة وبنو فازان من برابرة المغرب الأقصى حتى محا إدريس الأكبر الناجم بالمغرب من بني حسن بن الحسن جميع ما كان في نواحيه من بقايا الأديان والملل فكان البربر بإفريقية والمغرب قبل الإسلام تحت ملك الفرنج وعلى دين النصرانية الذي اجتمعوا عليه مع الروم كما ذكرناه. حتى إذا كان الفتح وزحف المسلمون إلى إفريقية زمان عمررضي الله عنه سنة تسع وعشرين وغلبهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عمامر بن لؤي فجمع لهم جرير ملك الفرنجة يومئذ بإفريقية من كان بأمصارها من الفرنج والروم ومن بضواحيها من جموع البربر وملوكهم. وكان ملك ما بين طرابلس وطنجة وكانت دار ملكه سبيطة فلقوا المسلمين في زهاء مائة وعشرين ألفاً. والمسلمون يومئذ في عشرين ألفاً فكان من هزيمة العرب لهم وفتحهم لسبيطلة وتخريبهم إياها وقتلهم جرجير ملكهم. وما نفلهم الله من أموالهم وبناتهم التي اختصت منهن ابنته بقاتلة عبد الله بن الزبير لعهد المسلمين له بذلك بعد الهزيمة وخلوصه بخبر الفتح إلى الخليفة والملأ من المسلمين بالمدينة ما هو كله مذكور مشهور. ثم أرزىء الفرنجة ومن معهم من الروم بعد الهزيمة وخلوصه بخبر الفتح إلى حصون إفريقية. وانساح المسلمون في البسائط بالغارات ووقع بينهم وبين البربر أهل الضواحي زحوف وقتل وسبي. حتى لقد حصل في أسرهم يومئذ من ملوكهم وزمار بن صقلاب جد بني خزر وهو يومئذ أمير مغوارة وسائر زناتة ورفعوه إلى عثمان بن عفان فأسلم على يده ومن عليه وأطلقه وعقد له على قومه. ويقال إنما وصله وافداً وحصن المسلمين عليهم ولاذ الفرنج بالسلم وشرطوا لابن أبي سرح ثلثمائة قنطار من الذهب على أن يرحل عنهم بالعرب ويخرج بهم من بلادهم ففعل. ورجع المسلمون إلى المشرق وشغلوا بما كان من الفتن الإسلامية. ثم كان الاجتماع والإتفاق على معاوية بن أبي سفيان وبعث معاوية بن خديج السكوني من مصر لافتتاح إفريقية سنة خمس وأربعين. وبعث ملك الروم من القسطنطينية عساكره لمدافعتهم في البحر فلم تغن شيئاً وهزمهم العرب بساحل أجم. وحاصروا جلولاء وفتحوها. وقفل معاوية بن خديج إلى مصر فولى معاوية بن أبي سفيان على إفريقية بعده عقبة بن نافع فاختط القيروان وافترق أمر الفرنجة وصاروا إلى الحصون وبقي البربر بضواحيهم إلى أن ولي يزيد بن معاوية وولى على إفريقية أبا المهاجر مولى. وكانت رئاسة البربر يومئذ في أوربة لكسيلة بن لمزم وهو رأس البرانس ومرادفة سكرديد بن رومي بن مازرت من أوربة وكان على دين النصرانية فأسلما لأول الفتح. ثم ارتدا عند ولاية أبي المهاجر واجتمع إليها البرانس وزحف إليهم أبو المهاجر حتى نزل عيون تلمسان فهزمهم وظفر بكسيلة فأسلم واستبقاه. ثم جاء عقبة بعد أبي المهاجر فنكبه غيظاً على صحابته لأبي المهاجر. ثم استفتح حصون الفرنجة مثل باغاية ولميس ولقيه ملوك البربر بالزاب وتاهرت ففضهم جمعاً بعد جمع. ودخل المغرب الأقصى وأطاعته غمارة وأميرهم يومئذ يليان. ثم أجاز إلى وليلى ثم إلى جبال درن وقاتل المصامدة وكانت بينهم وبينه حروب وحاصروه بجبال درن. ونهضت إليهم جموع زناتة وكانوا خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة فأفرجت المصامدة عن عقبة وأثخن فيهم حتى حملهم على طاعة الإسلام ودوخ بلادهم. ثم أجاز إلى بلاد السوس لقتال من بها من صنهاجة أهل اللثام وهم يومئذ على دين المجوسية ولم يدينوا بالنصرانية فأثخن فيهم وانتهى إلى تارودانت وهزم جموع البربر وقاتل مسوفة من وراء السوس وسبى منهم وقفل راجعاً. وكسيلة أثناء هذا كله في اعتقاله يحمله معه في عسكره سائر غزواته. فلما قفل من السوس سرح العساكر إلى القيروان حتى بقي في خف من الجنود. وتراسل كسيلة وقومه فأرسلوا له شهوداً وانتهزوا الفرصة فيه وقتلوه ومن معه وملك كسيلة إفريقية خمس سنين ونزل القيروان وأعطى الأمان لمن بقي بها ممن تخلف من العرب أهل الذراري والأثقال وعظم سلطانه على البربر. وزحف قيس بن زهير البلوي في ولاية عبد الملك للثأر بدم عقبة سنة سبع وستين وجمع له كسيلة سائر البربر ولقيه بجيش من نواحي القيروان فاشتد القتال بين الفريقين ثم انهزم البربر وقتل كسيلة ومن لا يحصى منهم وأتبعهم العرب إلى مرمحنة ثم إلى ملوية: وفي هذه الواقعة ذل البربر وفنيت فرسانهم ورجالهم وخضدت شوكتهم واضمحل أمر الفرنجة فلم يعد وخاف البربر من زهير ومن العرب خوفاً شديداً فلجأوا إلى القلاع والحصون. ثم توهب زهير بعدها وقفل إلى المشرق فاستشهد ببرقة كما ذكرناه. واضطرمت إفريقية ناراً وافترق أمر البربر وتعدد سلطانهم في رؤسائهم. وكان من أعظمهم شأناً يومئذ الكاهنة دهيا بنت ماتية بن تيفان ملكة جبل أوراس وقومها من جراوة ملوك البتر وزعماؤهم فبعث عبد الملك إلى حيان بن النعمان الغساني عامله على مصر أن يخرج إلى جهاد إفريقية وبعث إليه بالمدد فزحف إليها سنة تسع وسبعين. ودخل القيروان وغزا قرطاجنة وافتتحها عنوة وذهب من كان بقي بها من الإفرنجة إلى صقلية وإلى الأندلس. ثم سأل عن أعظم ملوك البربر فدلوه على الكاهنة وقومها جراوة فمضى إليها حتى نزل وادي مسكيانة. وزحفت إليه فاقتتلوا قتالاً شديداً. ثم انهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير وأسر خالد بن يزيد القيسي. ولم تزل الكاهنة والبربر في اتباع حيان والعرب حتى أخرجرهم من عمل قابس ولحق حسان بعمل طرابلس. ولقيه كتاب عبد الملك بالمقام فأقام وبنى قصوره وتعرف لهذا العهد به. ثم رجعت الكاهنة إلى مكانها واتخذت عهداً عند أسيرها خالد بالرضاع مع ابنيها. وأقامت في سلطان إفريقية والبربر خمس سنين. ثم بعط عبد الملك إلى حسان بالمدد فرجع إلى إفريقية سنة أربع وسبعين وخربت الكاهنة جميع المدن والضياع. وكانت من طرابلس إلى طنجة ظلاً واحداً في قرى متصلة. وشق ذلك على البربر فاستأمنوا لحسان فأمنهم ووجد السبيل إلى تفريق أمرها وزحف إليها وهي في جموعها من البربر فانهزموا وقتلت الكاهنة بمكان البير المعروف بها لهذا العهد بجبل أوراس. واستأمن إليه البربر على الإسلام والطاعة وعلى أن يكون منهم اثنا عشر ألفاً مجاهدين معه فأجابوا وأسلموا وحسن إسلامهم وعقد للأكبر من ولد الكاهنة على قومهم من جراوة وعلى جبل أوراس فقالوا: لزمنا الطاعة له سبقناها إليها وبايعناه عليها. وأشارت عليهم بذلك لأثارة من علم كانت لديها بذلك من شياطينها. وانصرف حسان إلى القيروان فدون الدواوين وصالح من ألقى بيده من البربر على الخراج. وكتب الخراج على عجم إفريقية ومن أقام معهم على النصرانية من البربر والبرانس. واختلفت أيدي البربر فيما بينهم على إفريقية والمغرب فخلت أكثر البلاد وقدم موسى بن نصير إلى القيروان والياً على إفريقية. ورأى ما فيها من الخلاف وكان ينقل العجم من الأقاصي إلى الأداني وأثخن في البربر ودوخ المغرب وأدى إليه البربر الطاعة. وولي على طنجة طارق بن زياد وأنزل معه سبعة وعشرين ألفاً من العرب واثني عشر ألفاً من البربر وأمرهم أن يعلموا البربر القرآن والفقه. ثم أسلم بقية البربر على يد إسمعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر سنة إحدى ومائة. وذكر أبو محمد بن أبي زيد: أن البربر ارتدوا اثنتي عشرة مرة من طرابلس إلى طنجة ولم يستقر إسلامهم حتى أجاز طارق وموسى بن نصير إلى الأندلس بعد أن دوخ المغرب وأجاز معه كثير من رجالات البربر وأمرائهم برسم الجهاد. فاستقروا هنالك من لدن الفتح فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب وأذعن البربر لحكمه. ورسخت فيهم كلمة الإسلام وتناسوا الردة. ثم نبضت فيهم عروق الخارجية فدانوا بها ولقنوها من العرب الناقليها من منبعها بالعراق. وتعددت طوائفهم وتشعبت طرقها من الأباضية والصفرية كما ذكرنا في أخبار الخوارج. وفشت هذه البدعة وأعقدها رؤوس النفاق من العرب وجراثيم الفتنة من البربر ذريعة إلى الانتزاء على الأمر فاختلوا في كل جهة ودعوا إلى قائدهم طغام البربر تتلون عليهم مذاهب كفرها ويلبسون الحق بالباطل فيها إلى أن رسخت فيهم كلمات منها ووشجت بينهم عروق من غرائسها. ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمراء العرب فقتلوا يزيد بن أبي مسلم سنة اثنتين ومائة لما نقموا عليه في بعض الفعلات. ثم انتقض البربر بعد ذلك سنة اثنتين وعشرين ومائة في ولاية عبد الله بن الحجاب أيام هشام بن عبد الملك لما أوطأ عساكره بلاد السوس وأثخن في البربر وسبى وغنم. وانتهى إلى مسوفة فقتل وسبى داخل البربر منه رعب. وبلغه أن البربر أحسوا بأنهم فيء للمسلمين فانتقضوا عليه. وثار ميسرة المطغري بطنجة على عمرو بن عبد الله فقتله وبايع لعبد الأعلى بن جريج الإفريقي رومي الأصل ومولى العرب كان مقدم الصفرية من الخوارج في انتحال مذهبهم فقام بأمرهم مدة وبايع ميسرة لنفسه بالخلافة داعياً إلى نحلته من الخارجية على مذهب الصفرية. ثم ساءت سيرته فنقم عليه البربر ما جاء به فقتلوه وقدموا على أنفسهم خالد بن حميد الزناتي. قال ابن عبد الحكم: هو من هتورة إحدى بطون زناتة فقام بأمرهم وزحف إلى العرب وسرح إليه عبد الله بن الحبحاب العساكر في مقدمته ومعهم خالد بن أبي حبيب فالتقوا بوادي شلف وانهزم العرب وقتل خالد بن أبي حبيب ومن معه وسميت وقعة الأسراب وانتقضت البلاد ومرج أمر الناس وبلغ الخبر هشام بن عبد الملك فعزل ابن الحبحاب وولى كلثوم بن عياض القشيري سنة ثلاث وعشرين وسرحه في اثني عشر ألفاً من أهل الشام. وكتب إلى ثغور مصر وبرقة وطرابلس أن يمدوه فخرج إلى إفريقية والمغرب حتى بلغ وادي طنجة وهو وادي سبس فزحف إليه خالد بن حميد الزناتي فيمن معه من البربر وكانوا خلقاً لا يحصى. ولقوا كلثوم بن عياض من بعد أن هزموا مقدمته فاشتد القتال بينهم وقتل كلثوم وانهزمت العساكر فمضى أهل الشام إلى الأندلس مع بلج بن بشر القشيري. ومضى أهل مصر وإفريقية إلى القيروان. وبلغ الخبر إلى هشام بن عبد الملك فبعث حنظلة بن سفيان الكلبي فقدم القيروان سنة أربع وعشرين وأربعمائة وهوارة يومئذ خوارج على الدولة منهم: عكاشة بن أيوب وعبد الواحد بن يزيد في قومهما. فثارت هوارة ومن تبعهم من البربر فهزمهم حنظلة بن المعز بظاهر القيروان بعد قتال شديد. وقتل عبد الواحد الهواري وأخذ عكاشة أسيراً وأحصيت القتلى في هذه الوقيعة فكانوا مائة وثمانين ألفاً. وكتب بذلك حنظلة إلى هشام وسمعها الليث بن سعد فقال: ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدر أحب إلي من غزوة القرن والأصنام. ثم خفت صوت الخلافة بالمشرق والتاث أمرها لما كان بين بني أمية من الفتنة وما كان من أمر الشيعة والخوارج مع مروان. وأفضى الأمر إلى الإدالة ببني العباس من بني أمية. وأجاز البحر عبد الرحمن بن حبيب من الأندلس إلى إفريقيا فملكها وغلب حنظلة عليها سنة ست وعشرين ومائة فعادت هيف إلى أديانها. واستشرى داء البربر أمر الخارجية ورؤوسها فانتفضوا من أطراف البقاع وتواثبوا على الأمر بكل ما كان داعين إلى بدعتهم. وتولى كبر ذلك يومئذ صنهاجة. وتغلب أميرهم تابت بن زيدون وقومه على باجة وثار معه عبد الله بن سكرديد من أمرائهم فيمن تبعه. وثار بطرابلس عبد الجبار والحرث من هوارة وكانا يدينان برأي الأباضية فقتلوا عامل طرابلس بكر بن عبس القيسي لما خرج إليهم يدعوهم إلى الصلح وبقي الأمر ذلك مدة. وثار إسمعيل بن زياد فيمن معه من نفوسة. وتغلب على قابس. ثم زحف إليهم عبد الرحمن بن حبيب سنة إحدى وثلاثين فقتل عبد الجبار والحارث وأوعب في قتل البربر. وأثخن فيهم وزحف إلى تلمسان سنة خمس وثلاثين فظفر بها ودوخ المغرب وأذل من كان فيه من البربر. ثم كانت بعد ذلك فتنة وربجومة وسائر قبائل نفراوة سنة أربعين ومائة وذلك لما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر وقتله أخواه إلياس وعبد الوارث فولي مكانه ابنه حبيب وطالبهما بثأر أبيه فقتل إلياس ولحق عبد الوارث بوربجومة فأجاره أميرهم عاصم بن جميل وتبعه على شأنه يزيد بن سكوم أمير ولهاصة واجتمعت لهم كلمة نفزاوة ودعوا لأبي جعفر المنصور وزحفوا إلى القيروان ودخلوها عنوة. وفر حبيب بن قابس فأتبعه عاصم في نفزاوة وقبائلهم. وولي على القيروان عبد الملك بن أبي الجعد النفزي ثم انهزم حبيب إلى أوراس واتبعه عاصم فاعترضه عبد الملك بن أبي الجعد وجموع نفزاوة الذين كانوا بالقيروان وقتلوه. واستولت وربجومة على القيروان وسائر إفريقية وقتلوا من كان بها من قريش وربطوا دوابهم بالمسجد الجامع. واشتد البلاء على أهل القيروان وأنكرت ذلك من فعل وربجومة ومن إليهم من نفزاوة برابرة طرابلس الأباضية من هوارة وزناتة فخرجوا واجتمعوا إلى أبي الخطاب عبد الأعلى ابن الشيخ المعافري وقصدوا طرابلس وأخرجوا عمر بن عثمان القرشي واستولى أبو الخطاب عليها. واجتمع إليه سائر البربر الذين كانوا هنالك من زناتة وهوارة وزحف بهم إلى القيروان فقتل عبد الملك بن أبي الجعد وسائر وربجومة ونفزاوة واستولى على القيروان سنة إحدى وأربعين. ثم ولي على القيروان عبد الرحمن بن رستم وهو من أبناء رستم أمير فارس بالقادسية. كان من موالي العرب ومن رؤوس هذه البدعة. ورجع أبو الخطاب إلى طرابلس واضطرم المغرب ناراً. وانتزى خوارج البربر على الجهات فملكوها. واجتمعت الصفرية من مكناسة بناحية المغرب سنة أربعبن ومائة وقدموا عليهم عيسى بن يزيد الأسود وأسسوا مدينة سجلماسة ونزلوها. وقدم محمد بن الأشعث والياً على إفريقية من قبل أبي جعفر المنصور فزحف إليه أبو الخالاب ولقيه بسرت فهزمه ابن الأشعث وقتل البربر قتلاً ذريعاً. وفر عبد الرحمن بن رستم من القيروان إلى تاهرت بالمغرب الأوسط واجتمعت إليه طوائف البربر الأباضيه من لماية ولواتة ورجالة من نفزاوة فنزل بها واختط مدينتها سنة أربع وأربعين. وضبط ابن الأشعث إفريقية وخافه البربر. ثم انتقض بنو يفرن من زناتة ومغيلة من البربر بنواحي تلمسان وقدموا على أنفسهم أبا قرة من بني يفرن ويقال إنه من مغيلة وهو الأصح في شأنه وبويع له بالخلافة سنة ثمان وأربعين ومائة. وزحف إليه الأغلب بن سود التميمي عامل طنجة فلما قرب منه هرب أبو قرة فنرل الأغلب الزاب ثم اعتزم على تلمسان ثم طنجة ورجع إليه الجند فرجع ثم انتقض البربر من بعد ذلك أيام عمر بن حفص في ولد قبيصة بن أبي صفرة أخي المهلب. وكان يلقب هزار مرد سنة إحدى وخمسين. واجتمعوا بطرابلس وقدموا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب بن مدين بن يطوفت من أمراء مغيلة ويسمى أبا قادم. وزحفت إليهم جنود عمر بن حفص فهزموها وملكوا طرابلس وزحفوا إلى القيروان فحاصروها. ثم زحف البرابرة من الجانب الآخر بجنود عمر بطبنة في اثني عشر معسكراً. وكان منهم أبو قرة في أربعبن ألفاً من الصفرية وعبد الرحمن بن رستم في ستة آلاف من الأباضية والمسور بن هانىء في عشرة آلاف كذلك وجرير بن مسعود فيمن تبعه من مديونة وعبد الملك بن سكرديد الصنهاجي في ألفين منهم من الصفرية. - واشتد الحصار على عمر بن حفص فأعمل الحيلة في الخلاف بين جماعتهم. وكان بنو يفرن من زناتة أكثر البرابرة يومئذ جمعاً وأشدهم قوة فصالح أبو قزة زعيمهم على أربعين ألفاً وأعطى ابنه في إتمام ذلك أربعة آلاف وافترقوا وارتحلوا عن طبنة. ثم بعث بعثاً إلى ابن رستم فهزمه ودخل تاهرت مفلولاً. وزحف عمر بن حفص الى أبي خاتم والبربر الأباضية الذين معه. ونهضوا إليه فخالفهم إلى القيروان وشحنها بالأقوات والرجال. ثم لقي أبا حاتم والبربر وهزموه ورجع إلى القيروان وحاصروه. وكانوا في ثلائمائة وخمسين ألفاً الخيل منها خمسة وثلاثون ألفاً وكانوا كلهم أباضية. وطال الحصار وقتل عمر بن حفص في بعض أيامه سنة أربع وخمسين ومائة. وصالح أهل القيروان أبا حاتم على ما أحب وارتحل. وقدم يزيد بن قبيصة بن المهلب سنة أربع وخمسين ومائة والياً على إفريقية فزحف إليه أبو حاتم بعد أن خالف عليه عمر بن عثمان الفهري وافترق أمرهم فلقيه يزيد بن حاتم بطرابلس فقتل أبو حاتم وانهزم البربر. ولحق عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن من أصحاب أبي حاتم بكتامة. وبعث المخارق بن غفار الطائي فحاصره ثمانية أشهر. ثم غلب عليه فقتله ومن كان معه من البربر وهربوا إلى كل ناحية. وكانت حروبهم مع الجند من لدن قتل عمر بن حفص بطبنة إلى انقصاء ثلثمائة وخمسة وسبعين حرباً. وقدم يزيد إفريقية فزال فسادها ورتب القيروان ولم تزل البلاد هادئة. وانتقض ورفجومة سنة سبع وخمسين وولوا عليهم رجلاً منهم اسمه أبو زرجونة فسرح إليهم يزيد من عشيرة ابن محراة المهلبي فهزموه. واستأذنه ابنه المهلب وكان على الزاب وطبنة وكتامة في الزحف إلى ورفجومة فأذن له وأمده بالعلاء بن سعيد بن مروان المهلبي من عشيرتهم أيضاً فأرقع بهم وقتلهم أبرح قتل. وانتقض نفزاوة من بعد ذلك في سلطنة ابنه داود من بعد مهلكه سنة إحدى وستين ومائة وولوا عليهم صالح بن نصير النفزي ودعوا إلى رأيهم رأي الأباضية فسرح إليهم ابن عمه سليمان بن الصمة في عشرة آلاف فهزمهم وقتل البربر أبرح قتل. ثم تحيز إلى صالح بن نصير ولم يشهد الأولى من البربر الأباضية واجتمعوا بشقبنارية فهزمهم إليها سليمان ثانية وانصرف إلى القيروان. وركذت ريح الخوارج من البربر من إفريقية وتداعت بدعتهم إلى الاضمحلال ورغب عبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت سنة إحدى وسبعين في موادعة صاحب القيروان روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب فوادعه وانحصدت شوكة البربر واستكانوا للغلب وأطاعوا للدين فضرب الإسلام بجرانه وألقت الدولة الضريبة على البربر بكلكلها. وتقفد إبراهيم بن الأغلب التميمي أمر إفريقية والمغرب من قبل الرشيد هرون سنة خمس وثمانين ومائة فاضطلع بأمر هذه الولاية وأحسن السيرة وقوم المنئاد ورأب الصدع وجمح الكلمة. ورضيت الكافة. واستقل بولايتها غير منازع ولامتشوه. وتوارثها بنوه خالفاً عن سالف. وكانت لهم بإفريقية والمغرب الدولة التي ذكرناها من قبل إلى أن انقرض أمر العرب بإفريقية على زيادة الله عاقبتهم الفار إلى المشرق أمام كتامة سنة ست وتسعين ومائتين كما نذكره. وخرج كتامة على بني الأغلب بدعوة الرافضية. قام بها فيهم أبو عبد الله المحتسب الشيعي داعية عبيد الله المهدي فكان ذلك آخر عهد العرب بالملك والدولة بإفريقية. واستقل كتامة بالأمر من يومئذ ثم من بعدهم من برابرة المغرب. وذهبت ريح العرب ودولتهم عن المغرب وإفريقية فلم يكن لهم بعد دولة إلى هذا العهد وصار الملك للبربر وقبائلهم يتداولونه طائفة بعد أخرى وجيلاً بعد آخر تارة يدعون إلى الأمويين الخلفاء بالأندلس وتارة إلى الهاشميين من بني العباس وبني الحسن. ثم استقلوا بالدعوة لأنفسهم آخراً حسبما نذكر ذلك كله مفصلاً عندما يعرض لنا من ذكر دول زناتة والبربر الذين نحن في سياقة أخبارهم. البرابرة البتر الخبر عن البرابرة البتر وشعوبهم ونبدأ منهم أولاً بذكر نفوسة وبطونهم وتصاريف أحوالهم نفوسة كان مادغيس الأبتر جد البرابرة البتر وكان ابنه زحيك ومنه تشعبت بطونهم. فكان له من الولد فيما يذكر نسابة البربر أربعة: نفوس واداس وضرا ولوا. فأما أداس فصار في هوارة لما يقال إن هوارة خلف أباه زحيك على أمه قبل فصاله فانتسب إليه واختلط بولده. واندرجت بطون أداس في هوارة كما ذكرناه. وأما ضرا ولوا فسنأتي بذكر بطونهم واحداً واحداً. وأما نفوس فهم بطن واحد تنسب إليه نفوسة كلها. وكانوا من أوسع قبائل البربر فيهم شعوب كثيرة مثل بني زمور وبني مكسور وماطوسة. وكانت مواطن جمهورهم بجهات طرابلس وما إليها وهناك الجبل المعروف بهم. وهم على ثلاثة مراحل من قبلة طرابلس يسكنه اليوم بقاياهم. وكانت مدينة صبرة قبل الفتح في مواطنهم وتعزى إليهم وهي كانت باكورة الفتح لأول الإسلام وخربها العرب عند استيلائهم عليها فلم يبق منهم إلا الأطلال ورسوم خافية. وكان من رجالاتهم إسمعيل بن زياد المتغلب على قابس سنة اثنتين وثلاثين ومائة لأول الدولة العباسية. ومنهم لهذا العهد أوزاع متفرقون في الأقطار بعمالات مصر والمغرب والله وارث الأرض ومن عليها وأما لوا فمن ولده نفزاوة ولواتة كما نذكر. |
الخبر عن نفزاوة وبطونهم وتصاريف أحوالهم
وهم بنو يطوفت بن نفزاو بن لوا الأكبر بن زحيك وبطونهم كثيرة مثل غساسة ومرنيسة وزهيلة وسوماتة وزاتيمة وولهاصة ومجرة. وورسيف ومن بطونهم مكلاتة ويقال إن مكلاتة من عرب اليمن وقع إلى يطوفت صغيراً فتبناه وليس من البربر. ولمكلاتة بطون متعدد مثل بني ورياغل وكزناية وبني يصلتين وبني ديمار وريحون وبني سراين. ويقال أن غساسة منهم هكذا عند نسابة البربر مثل: سابق المطماطي وغيره. ومن بطون ولهاصة ورتدين بن داحية بن ولهاصة وورفجومة بن تيدغاس بن ولهاص. ومن بطون ورفجومة زكولة رجالة لذاك بن ورفجوم إلى بطون أخرى كثيرة. وكان ورفجومة هؤلاء أوسم بطون نفزاوة وأشدهم بأساً وقوة. ولما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر المنصور وقتله أخواه عبد الوارث وإلياس وطالبهما ابنه حبيب بالثار فلحق عبد الوارث بورفجومة ونزل على أميرهم عاصم بن جميل بأوراس وكان كاهناً فأجاره وقام بدعوة أبي جعفر المنصور واجتمعت إليه نفزاوة. وكان من رجالاتهم عبد الملك بن أبي الجعد ويزيد بن سكوم وكانوا يدينون بدين الأباضية من الخوارج وزحفوا إلى القيروان سنة أربعين ومائة. وفر عنها حبيب بن عبد الرحمن ودخلها عبد الملك بن أبي الجعد وقتل حبيباً. واستولت نفزاوة على القيروان وقتلوا من كان بها من قريش وسائر العرب وربطوا دوابهم بالمسجد وعظمت حوادثهم. ونكر ذلك عليهم الأباضية من برابرة طرابلس وتولى كبرها زناتة وهوارة فاجتمعوا إلى الخطاب بن السمح ورجالات العرب واستولوا على طرابلس ثم على القيروان سنة إحدى وأربعين وقتلوا عبد الملك بن أبي الجعد وأثخنوا في قومه من نفزاوة وورفجومة. ثم رجعوا إلى طرابلس بعد أن استعمل أبو الخطاب على القيروان عبد الرحمن بن رستم. واضطرم المغرب ناراً وعظمت فتنة ورفجومة هؤلاء إلى أن قدم محمد بن الأشعث سنة ست وأربعين من قبل المنصور فأثخن في البربر وأطفأ نار هذه الفتنة كما قدمناه. ولما اختط عمر بن حفص مدينة طبنة سنة إحدى وخمسين أنزل ورفجومة هؤلاء بها بما كانوا شيعاً له وعظم غناؤهم فيها عندما حاصره بها ابن ثم انتقضوا بعد مهلك عمر على يزيد بن حاتم عند قدومه على إفريقية سنة سبع وخمسين وولوا عليهم أبا زرجونة منهم وسرح إليهم يزيد العساكر مع ابنه وقومه فأثخنوا فيهم. ثم انتقضت نفزاوة على أبيه داود ودعوا إلى دين الأباضية وولوا عليهم صالح بن نصر منهم فرجعت العساكر إليهم متراسلة وقتلوهم أبرح قتل. وعليها كان ركود ريح الخوارج بإفريقية ذعار البربر. وافترق بنو ورفجوم بعد ذلك وانقرض أمرهم وصاروا أوزاعاً في الفبائل. وكان رجالة منهم بطناً متسعاً. وكان منهم رجالات مذكورون في أول العبيديين وبني أمية بالأندلس منهم الرجالي أحد الكتاب بقرطبة. وبقي منهم لهذا العهد فرق بمرماجة. وهناك قرية ببسيطها تنسب إليهم. وأما سائر ولهاصة من ورفجومة وغيرهم فهم لهذا العهد أوزاع لذلك أشهرهم قبيلة بساحل تلمسان اندرجوا في كومية وعدوا منهم بالنسب والخلط. وكان منهم في أواسط هذه المائة الثامنة ابن عبد الملك استقل برياستهم وتملك بدعوى السلطان بعد استيلاء بني عبد الواد على تلمسان ونواحيها وتغلب على سلطانهم لذلك العهد كما نذكره عثمان بن عبد الرحمن وسجنه بالمطبق بتلمسان ثم قتله. ومن أشهر قبائل ولهاصة أيضاً قبيلة أخرى ببسيط بونة يركبون الخيل ويأخذون مذاهب العرب في زيهم ولغتهم وسائر شعارهم كما هو شأن هوارة. وهم في عذاد القبائل الغارمة ورئاستهم في بني عريف منهم وهي لهذا العهد في ولد حازم بن شداد بن حزام بن نصر بن مالك بن عريف. وكانت قبلهم لعسكر بن بطنان منهم. هذه أخبار ولهاصة فيما علمناه. وأما بقايا بطون نفزاؤ فمنهم زاتيمة وبقية منهم لهذا العهد بساحل برشك ومنهم غساسة. وبقية منهم لهذا العهد بساحل بطوية حيث القرية التي هناك حاضرة البحر ومرسى لأساطيل المغرب وهي مشهورة باسمهم. وأما زهيلة فبقيتهم لهذا العهد بنواحي بادس مندرجون في غمارة وكان منهم لعهد مشيختنا أبو يعقوب البادسي أكبر الأولياء وأخرهم بالمغرب. وأما مرنيسة فلا يسلم لهم موطن ومن أعقابهم أوزاع بين أحياء العرب لإفريقية. وأما سوماتة فمنهم بقية في نواحي القيروان: كان منهم منذر بن سعيد القاضي بقرطبة لعهد الناصر والله أعلم. وأما بقايا بطون نفزاوة فلا يعرف لهم لهذا العهد حي ولا موطن إلا القرى الظاهرة المقدرة السير المنسوبة إليهم ببلاد قسطيلة. وبها معاهدون من الفرنجة أوطنوهم على الجزية واعتقاد الذمة عند عهد الفتح وأعقابهم بها لهذا العهد. وقد نزل معهم كثير من بني سليم من الشريد وزغبة وأوطنوها وتملكوا بها العقار والضياع. وكان أمر هذه القرى راجعاً إلى عامل توزر أيام استبداد الخلافة. فلما تقلص ظل الدولة عنهم وحدثت للعصبة في الأمضار استبدت كل قرية بأمرها وصار مقدم توزر يحاول دخولهم في إيالته. فمنهم من يعطيه ذلك ومنهم من يأباه حتى أظلتهم دولة مولانا السلطان أبي العباس وأدرجوا كلهم في طاعته واندرجوا في حبله والله ولي الأمور ولا رب غيره. لواتة الخبر عن لواتة من البرابرة البتر وتصاريف أحوالهم وهو بطن عظيم متسع من بطون البربر البتر ينتسبون إلى لوا الأصغر بن لوا الأكبر بن زحيك ولوا الأصغر هو نفزاو كما قلناه. ولوا اسم أبيهم والبربر إذا أرادوا العموم في الجمع زادوا الألف والتاء فصار لوات فلما عربته العرب حملوه على الأفراد وألحقوا به هاء الجمع. وذكر ابن حزم أن نسابة البربر يزعمرن أن سدراتة ولواتة ومزاتة من القبط وليس ذلك بصحيح وابن حزم لم يطلع على كتب علماء البربر في ذلك. وفي لواتة بطون كثيرة وفيهم قبائل كثيرة مثل سدراتة بن نيطط بن لوا ومثل عزوزة بن ماصلت بن لوا. وعد سابق وأصحابه في بني ماصلت بطوناً أخرى غير عزوزة وهم: أكورة وجرمانة ومغانة ومثل بني زائد بن لوا وأكثر بطونهم مزاتة. ونسابة البربر يعدون في مزاتة بطوناً كثيرة مثل: بلايان وقرنة ومجيجة ودكمة وحمرة ومدونة. وكان لواتة هؤلاء ظواعن في مواطنهم بنواحي برقة كما ذكره المسعودي وكان لهم في فتنة أبى يزيد آثار. وكان منهم بجبل أوراس أمة عظيمة ظاهروا أبا يزيد مع بني كملان على أمره. ولم يزالوا بأوراس لهذا العهد مع من به من قبائل هوارة وكتامة ويدهم العالية عليهم تناهز خيالتهم ألفاً وتجاوز رجالاتهم العدة. وتستكفي بهم الدولة في جباية من تحت أيديهم جبل أوراس من القبائل الغارمة فيحسنون الغناء والكفاية. وكانت البعوث مضروبة عليهم ينفرون بها في معسكر السلطان. فلما تقلص ظل الدولة عنهم صار بنو سعادة منهم في أقطاع أولاد محمد من الدواودة فاستعملوهم في مثل ما كانت الدولة تستعملهم فيه فأصاروهم خولاً للجباية وعسكراً للاستنفار وأصبحوأ من جملة رعاياهم. وقد كان بقي جانب منهم لم تستوفه الإقطاعات وهم بنو زنجان وبنو باديس فاستضافهم منصور بن مزني إلى عمله. فلما استبد مزني عن الدولة واستقلوا بالزاب صاروا يبعدونهم بالجبلية بعض السنين ويعسكرون عليهم لذلك بأفاريق الأعراب. وهم لهذا العهد معتصمون بجبلهم لا يجاوزونه إلى البسيط خوفاً من عادية الأعراب. ولبني باديس منهم أتاوات على بلد نقاوس المختطة في سفح الجبل بما تغلبوا على ضواحيها. فإذا انحدر الأعراب ألى مشاتيهم اقتضوا منها أتاواتهم وخفارتهم. وإذا أقبلوا إلى مصايفهم رجع لواتة إلى معاقلهم الممتنعة على الأعراب. وكان من لواتة هؤلاء أمة عظيمة بضواحي تاهرت إلى ناحية القبلة وكانوا ظواعن هنالك على وادي ميناس ما بين جبل يعود من جهة الشرق وإلى وارصلف من جهة الغرب. يقال إن بعض أمراء القيروان نقلهم معه في غزوة وأنزلهم هنالك. ولما انتقض حميد بن يصل صاحب تاهرت على المنصور ثالث خلفاء الشيعة ظاهروه على خلافه وجاوروه في مذاهب ضلاله إلى أن غلبه المنصور. وأجاز حميد إلى الأندلس سنة ست وثلاثين وزحف المنصور يريد لواتة فهربوا أمامه إلى الرمال ورجع عنهم ونزل إلى وادي ميناس ثم انصرف إلى القيروان. وذكر ابن الرقيق: إن المنصور وقف هنالك على أثر من آثار الأقدمين بالقصور التي على الجبال الثلاثة مبنية بالحجر المنحوت يبدو للناظر على البعد كأنها أسنمة قبور ورأى كتاباً في حجر فسره له أبو سليمان السردغوس: خالف أهل هذا البلد على الملك فأخرجني إليهم ففتح لي عليهم وبنيت هذا البناء لأذكر به هكذا ذكر ابن الرقيق. وكان بنو وجديجن من قبائل زناتة بمواطنهم من منداس جيراناً للواتة هؤلاء والتخم بينهما وادي ميناس وتاهرت. وحدثت بينهما فتنة بسبب امرأة أنكحها بنو وجديجن في لواتة فعيروها بالفقر فكتبت بذلك إلى قومها ورئيسهم يومئذ عنان فتذامروا واستمدوا من وراءهم من زناتة فأمدوهم بعلي بن محمد اليفرني. وزحفت مطماطة من الجانب الآخر في مظاهرتهم وعليهم غزانة أميرهم وزحفوا جميعاً إلى لواتة فكانت بينهم وقائع وحروب هلك في بعضها علاق وأزاحوا عن الجانب الغربي السرسو وألجؤهم إلى الجبل الذي في قبلة تاهرت المسمى لهذا العهد كركيرة وكان به قوم من مغراوة فغدروا بهم وتظاهروا جميعاً عليهم إلى أن أخرجوهم عن آخر مواطنهم في جهة الشرق بجبل يعود فنزلوا من ورائه الجبل المسمى لهذا العهد دارك. وانتشرت عمائرها بتلوله وما وراءه إلى الجبال المطلة على متيجة وهم لهذا لعهد في عداد القبائل الغارمة. وجبل دارك في أقطاع ولد يعقوب بن موسى مشيخة العطاف من زغبة ومن لواتة أيضاً بطون بالجبال المعروفة بهم قبلة قابس وصفاقس ومنهم بنو مكي رؤساء قابس لهذا العهد. ومنهم أيضاً بواحات مصر فيما ذكره المسعودي أمة عظيمة بالجيزة التي بينها وبين مصر. وكان لما قرب من هذه القصور شيخهم هنالك بدر بن سالم وانتقض على الترك وسرحوا إليه العساكر فاستلحموا كثيراً من قومه وفر إلى ناحية برقة وهو الآن في جوار العرب بها. ومن زناتة هؤلاء أحياء بنواحي تادلا قرب مراكش من الغرب الأقصى ولهم هنالك كثرة. ويزعم كثير من الناس أنهم بنواحي جابر من عرب جشم واختلطوا بهم وصاروا في عدادهم. ومنهم أوزاع مفترقون بمصر وقرى الصعيد شاوية وفلاحين ومنهم أيضاً بضواحي بجاية قبيلة يعرفون بلواتة ينزلون بسيط تاكرارت من أعمالها ويعتمرونها فدناً لمزارعهم ومسارح لأنعامهم. ومشيختهم لهذا العهد في ولد راجح بن صواب منهم وعليهم للسلطان جباية مفروضة وبعث مضروب. هؤلاء المعروفون من بطون لواتة ولهم شعرب أخرى كثيرة اندرجوا في البطون وتوزعوا بني فاتن الخبر عن بني فاتن من ضريسة إحدى بطون البرابرة البتر وتصاريف أحوالهم وهم بطون مطغرة ولماية وصدينة وكومية ومديونة ومغيلة ومطمامة وملزوزة ومكناسة ودونة وكلهم من ولد فاتن بن تمصيت بن ضريس بن زحيك بن مادغيس الأبتر ولهم ظهور من البرابر وأخبار نسردها بطناً بطناً إلى آخرها. مطغرة: وهم من أوفر هذه الشعوب. وكانوا خصاصين آهلين. وكان جمهورهم بالمغرب منذ عهد الإسلام ونوبة الفتح وشؤون الردة وحروبها وكان لهم فيها مقامات. ولما استوسق الإسلام في البربر أجازوا إلى فتح الأندلس وأجازت منهم أمم واستقروا هنالك. ولما سرى دين الخارجية في البربر أخذ مطغرة هؤلاء برأي الصفرية. وكان شيخهم ميسرة ويعرف بالحفير مقدماً فيه. ولما ولي عبيد الله بن الحبحاب على إفريقية من قبل هشام بن عبد الملك وأمره أن يمضي إليها من مصر فقدمها سنة أربع عشرة واستعمل عمر بن عبد الله المرادي على طنجة والمغرب الأقصى وابنه إسمعيل على السوس وما وراءه. واتصل أمر ولايتهم وساءت سيرتهم في البربر ونقموا عليهم أحوالهم وما كانوا يطالبونهم به من الوصائف البربريات والأفرية العسلية الألوان وأنواع طرف المغرب فكانوا يتغالبون في جمعهم ذلك وانتحاله. حتى كانت الصرمة من الغنم تستهلك بالذبح لاتخاذ الجلود العسلية من سخالها ولا يوجد فيها مع ذلك إلا الواحد وما قرب منه. فكثر عيثهم بذلك في أموال البربر وجورهم عليهم امتعض لذلك ميسرة الحفيد زعيم مطغرة وحمل البرابرة على الفتك بعمر بن عبد الله عامل طنجة فقتلوه سنة خمس وعشرين. وولى ميسرة مكانه عبد الأعلى بن خدع الإفريقي الرومي الأصل كان من موالي العرب وأهل خارجيتهم وكان يرى رأي الصفرية فولاه ميسرة على طنجة وتقدم إلى السوس فقتله عامله إسمعيل بن عبد الله واضطرم المغرب ناراً. وانتقض أمره على خلفاء الممشرق فلم يراجع طاعتهم بعد. وزحف ابن الحبحاب إليه من القيروان في العساكر وعلى مقدمته خالد بن أبي حبيب الفهري فلقيهم ميسرة في جموع البرابرة فهزم المقدمة واستلحمهم وقتل خالد. وتسامع البربر بالأندلس بهذا الخبر فثاروا بعاملهم عقبة بن الحجاج السلولي وعزلوه وولوا عبد الملك بن قطن الفهري وبلغ الخبر بذلك إلى هشام بن عبد الملك فسرح كلثوم بن عياض المري في اثني عشر ألفاً من جنود الشام وولاه على إفريقية وأدال به من عبيد الله بن الحبحاب. وزحف كلثوم إلى البرابرة سنة ثلاث وعشرين حتى انتهت مقدمته إلى وادي سبو من أعمال طنجة فلقيه البرابرة هنالك مع ميسرة وقد فحصوا عن أوساط رؤوسهم ونادوا بشعار وكان كيدهم في لقائهم إياه أن ملأوا الشنان بالحجارة وربطوها بأذناب الخيل تنادي بها فتقعقع الحجارة في شنانها ومرت بمصاف العساكر من العرب فنفرت خيولهم واختل مصافهم وانجرت عليهم الهزيمة فافترقوا وذهب بلج مع الطلائع من أهل الشام إلى سبتة كما ذكرناه في أخبارهم. ورجع إلى القيروان أهل مصل وإفريقية وظهرت الخوارج في كل جهة واقتطع المغرب عن طاعة الخلفاء إلى أن هلك ميسرة وقام برئاسة مطغرة من بعده يحيى بن حارث منهم. وكان حليفاً لمحمد بن خزر ومغراوة. ثم كان من بعد ذلك ظهور إدريس بالمغرب فقدم بها البرابرة وتولى كبرها أوربة منهم كما ذكرناه. وكان على مطغرة يومئذ شيخهم بهلول بن عبد الواحد فانحرف مالك عن إدريس إلى طاعة هرون الرشيد بمداخلة إبراهيم بن الأغلب عامل القيروان فصالحه إدريس وأنبأه بالسلم. ثم ركد ريح مطغرة من بعد ذلك وافترق جمعهم وجرت الدول عليهم أذيالها واندرجوا في عمال البربر الغارمين لهذا العهد بتلول المغرب وصحرائه. فمنهم ما بين فاس وتلمسان أمم يتصلون بكومية ويدخلون حلفهم واندرجوا من لدن الدعوة الموحدية منهم ورئاستهم لولد خليفة. كان شيخهم على عهد الموحدين وبنى لهم حصناً بمواطنهم على ساحل البحر يسمى تاونت. ولما انقرضت دولة بني عبد المؤمن واستولى بنو مرين على المغرب قام هرون بن موسى بن خليفة بدعوة يعقوب بن عبد الحق سلطانهم وتغلب على ندرومة. وزحف إليه يغراسن بن زيان فاسترجع ندرومة من يده وغلبه على تاونت. ثم زحف يعقوب بن عبد الله إليهم وأخذها من أيديهم وشحنها بالأقوات واستعمل هرون ورجع إلى المغرب فحدثت هرون نفسه بالاستبداد فدعا لنفسه معتصماً بذلك الحصن خمس سنين. ثم حاصره يغمراسن واستنزله على صلح سنة اثنتين وسبعين وستمائة. ولحق هرون بيعقوب بن عبد الحق. ثم أجاز إلى الجهاد بإذنه واستشهد هنالك. وقام بأمر مطغرة من بعده أخوه تاشفين إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعمائة. واتصلت رياستهم على عقبه لهذا العهد. ومن قبائل مطغرة أمة بجبل قبلة فاس معروف بهم. ومنهم أيضاً قبائل كثيرون بنواحي سجلماسة وأكثر أهلها منهم. وربما حدثت بها عصبية من جراهم. ومن قبائل مطغرة أيضاً بصحراء المغرب كثيرون نزلوا بقصورها واغترسوا شجرة النخل على طريقة العرب. فمنهم بنوات قبلة سجلماسة إلى تمنطيت آخر عملها قوم كثيرون موطنون مع غيرهم من أصناف البربر. ومنهم في قبلة تلمسان وعلى ستة مراحل منها وهي قصور متقاربة بعضها من بعض ائتلف منها مصر كبير مستبحر بالعمران البدوي معدود في آحاد الأمصار بالصحراء ضاح من ظل الملك والدول لبعده في القفر. ورياسته في بني سيد الملوك منهم. وفي شرقيها وعلى مراحل منها قرى أخرى متتابعة على سمتها متصاعدة قليلاً إلى الجوف آخرها على مرحلة من قبلة جبل راشد. وهي في مجالات بني عامر من زغبة وأوطانهم من القفر وقد تملكوها لحط أثقالهم وقضاء حاجاتهم حتى نسبت إليهم في الشهرة. وفي جهة الشرق عن هذه القصور وعلى خمس مراحل منها دامعة متوغلة في القفر تعرف بقليعة. والآن يعتمرها رهط من مطغرة هؤلاء. وينتهي إليها ظواعن عن الملثمين من أهل الصحراء بعض السنين إذا لفحهم الهجير يستبردون في تلولها لتوغلها فني ناحيتهم. ومن مطغرة هؤلاء أوزاع في أعمال المغرب الأوسط وإفريقية ولله الخلق جميعاً. لماية وهم بطون فاتن بن تمصيت كما ذكرناه إخوة مطغرة ولهم بطون كثيرة عد منها سابق وأصحابه بنوزكوفا ومزيزة ومليزة بنو مدينين كلهم من لماية. وكانوا ظواعن بإفريقية والمغرب وكان جمهورهم بالمغرب الأوسط موطنين بتخومة مما يلي الصحراء. ولما سرى دين الخارجية في البربر أخذوا برأي الأباضية ودانوا به وانتحلوه وانتحله جيرانهم من مواطنهم تلك من لواتة وهوارة. وكانوا بأرض السرسو قبلة منداس وزواغة وكانوا في ناحية الغرب عنهم. وكانت مطماطة ومكناسة وزناتة جميعاً في ناحية الجوف والشرق فكانوا جميعاً على دين الخارجية وعلى رأي الأباضية منهم. وكان عبد الرحمن بن رستم من مسلمة الفتح وهو من ولد رستم أمير الفرس بالقادسية. وقدم إلى إفريقية مع طوالع الفتح فكان بها. وأخذ بدين الخارجية والأباضية منهم. وكان شيعة لليمنية وحليفاً لهم. ولما تحزب الأباضية بناحية طرابلس منكرين على ورفجومة فعلهم في القيروان كما مر واجتمعوا إلى أبي الخطاب عبد الأعلى بن السمح المغافري إمام الإباضية فملكوا طرابلس. ثم ملكوا القيروان وقتلوا واليها من ورفجومة عبد الملك بن أبي الجعد وأثخنوا في ورفجومة وسائر نفراوة سنة إحدى وأربعين. ورجع أبو الخطاب والأباضية الذين معه من زناتة وهوارة وغيرهم بعد أن استخلف على القيروان عبد الرحمن بن رستم. وبلغ الخبر بفتنة ورفجومة هذه واضطراب الخوارج من البربر بإفريقية والمغرب وتسلفهم على الكرسي للإمارة بالقيروان إلى المنصور أبي جعفر فسرح محمد بن الأشعث الخزاعي في العساكر إلى إفريقية وقلده حرب الخوارج بها فقدمها سنة أربع وأربعين. ولقيهم أبو الخطاب في جموعه قريباً من طرابلس فأوقع به ابن الأشعث وبقومه. وقتل أبو الخطاب وطار الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن رستم بمكان إمارته في القيروان فاحتمل أهله وولده ولحق بأباضية المغرب الأوسط من البرابرة الذين ذكرناهم. ونزل على لماية لقديم حلف بينه وبينهم فاجتمعوا إليه وبايعوا له بالخلافة وائتمروا في بناء مدينة ينصبون بها كرسي إمارتهم فشرعوا في بناء مدينة تاهرت في سفح جبل في كزول السياح على تلول منداس واختطوها على وادي ميناس النابعة منه عيون بالقبلة ويمر بها وبالبطحاء إلى أن يصب في وادي شلف. فأسسها عبد الرحمن بن رستم واختطها سنة أربع وأربعين ومائة فتمدنت واتسعت خطتها إلى أن هلك عبد الرحمن وولي ابنه عبد الوهاب من بعده وكان رأس الإباضية. وزحف سنة ست وتسعين مع هوارة إلى طرابلس وبها عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب من قبل أبيه فحاصره في جموع الأباضية من البربر إلى أن هلك إبراهيم بن الأغلب واستقدم عبد الله بن الأغلب لأمارته بالقيروان فصالح عبد الوهاب على أن تكون الضاحية لهم. وانصرف إلى نفوسة ولحق عبد الله بالقيروان وولى عبد الوهاب ابنه ميموناً وكان رأس الأباضية والصفرية والواصلية. وكان يسلم عليه بالخلافة. وكان أتباعه من الواصلية وحدهم ثلاثين ألفاً من ظواعن ساكنين بالخيام. ولم يزل الملك في بني رستم هؤلاء بتاهرت وحاربهم جيرانهم من مغراوة وبني يفرن على الدخول في طاعة الأدارسة لما ملكوا تلمسان وأخذت بها زناتة من لدن ثلاث وسبعين ومائة فامتنعوا عليهم سائر أيامهم إلى أن كان استيلاء أبي عبد الله الشيعي على وبث دعوة عبيد الله في أقطار المغربين فانقرض أمرهم بظهور هذه الدولة وعقد عروبة بن يوسف الكتامي فاتح المغرب للشيعة على تاهرت لأبي حميد دواس بن صولان اللهيصي في غزاته إلى المغرب سنة ثمان وتسعين فأثخن في برابرتها الأباضية من لماية وازداجة ولواتة ومكناسة ومطماطة وحملهم على دين الرافضة وفسخ بها دين الخارجية حتى استحكم في عقائدهم. ثم وليها أيام إسمعيل المنصور بصلاصن بن حبوس. ثم نزع إلى دعوة الأموية وراء البحر ولحق بالخير بن محمد بن خزر صاحب دعوتهم في زناتة. واستعمل المنصور بعده على تاهرت ميسوراً الخصي مولاه وأحمد بن الزجالي من صنائعه فزحف إليها حميد والخير وانهزم ميسور واقتحموا تاهرت عنوة وتقبضوا على أحمد الزجالي وميسور إلى أن أطلقوهما بعد حين. ولم تزل تاهرت هذه ثغراً لأعمال الشيعة وصنهاجة سائر أيامهم وتغلبت عليهما زناتة مراراً ونازلتها عساكر بني أمية زاحفة في أثر زيري بن عطية أمير المغرب من مغراوة أيام أجاز المظفر بن أبي عامر من العدوة إلى حربه. ولم يزل الشأن هذا إلى أن انقرض أمر تلك الدول وصار أمر المغرب إلى لمتونة. ثم صار إلى دولة الموحدين من بعدهم وملكوا المغربين. وخرج عليهم بنوغانية بناحية قابس ولم يزل يحيى منهم يجلب على ثغور الموحدين ويشن الغارات على بسائط إفريقية والمغرب الأوسط. وتكرر دخوله إليها عنوة مرة بعد أخرى إلى أن احتمل سكانها وخلا جوها وعفا رسمها لما يناهز عشرون من المائة السابعة والأرض لله. وأما قبائل لماية فانقرضوا وهلكوا بهلاك مصرهم الذي اختطوه وحازوه وملكوه سنة الله في عباده. وبقيت فرق منهم أوزاعاً في القبائل ومنهم جربة الذين سميت بهم الجزيرة البحرية تجاه ساحل قابس وهم بها لهذا العهد. وقد كان النصرانية من أهل صقلية ملكوها على من بها من المسلمين وهي قبائل لماية وكتامة مثل: جربة وسدويكس ووضعوا عليهم الجزيه وشيدوا على ساحل البحر بها معقلاً لإمارتهم سموه القشتيل. وطال تمرس العساكر به من حضرة الدولة الحفصية بتونس حتى كان افتتاحها أعوام ثمان وثلاثين من المائة الثامنة في دولة مولانا السلطان أبي بكر وعلى يد مخلوف بن الكماد من صنائعه. واستقرت بها الدعوة الإسلامية إلى هذا العهد. إلا أن القبائل الذين بها من البربر لم يزالوا يدينون بدين الخارجية ويتدارسون مذاهبهم وبينهم مجلدات تشتمل على تآليف لأئمتهم في قواعد ديانتهم وأصول عقائدهم وفروع مذاهبهم يتناقلونها ويعكفون على دراستها وقراءتها والله خلقكم وما تعملون. مطماطة وهم إخوة مطغرة ولماية من ولد فاتن بن تمصيت الذين مر ذكرهم وهم شعوب كثيرة. وعن سابق المطماطي وأصحابه من النسابة أن اسم مطماط مصكاب ومطماط لقب له وأن شعوبهم من لوا بن مطماط. وأنه كان له ولد آخر اسمه ورنشيط ولم يذكروا له عقباً قالوا: وكان للوا أربعة من الولد: ورماكسن ويلاغف ووريكول ويليصن. ولم يعقب بليصن وأعقب الثلاثة الباقون ومنهم افترقت شعوب مطماطة كلها. فأما ورماس فمنه مصمود ويونس ويفرين وأما وريكول فكان له من الولد كلثام ومسيدة وفيدن ولم يعقب مسيدة ولا فيدن. وكان لكلثام عصفراصن وسليايان فمن سليايان ووريغني ووصدى وقسطايان وعمرو ويقال لهؤلاء الخمسة بنو مصطلودة سموا بأمهم. وكان لعصفراصن يرهاض ويصراصن. فمن يصراصن ورتجين ووريكول وجليدا وسكوم ويقال لهم بني تليفكتان سموا بأمهم. وكان ليزهاض يليت ويصلاسن. فمن يليت ورسفلاسن وسكن ومحمد ومكديل ودكوال. ومن يصلاسن فان يولين ويتماسن وماركسن ومسافر وفلوسن ووريجيد ونافع وعبد الله وغرزاي. وأما يلاغف بن لوا بن مطماط فكان له من الولد دهيا وثابتة فمن ثابتة ماجرسن وريغ وعجلان ويفام وقرة. وكان لدهيا ورتجى ومجلين. فمن ورتجى مقرين وتور وسكم وعمجميس. ومن مجلين ماكور وأشكول وكيلان ومذكون وقطارة وأبورة. شعوب مطماطة كما ذكر نسابة البربر سابق وأصحابه وهم مفرقون في المواطن. فمنهم من نواحي فاس من قبلتها في جبل هنالك معروف بهم ما بين فاس وصفروى. ومنهم بجهات قابس والبلد المختط على العين الحامية من جهة غربها منسوب إليهم. ولهذا العهد يقال حمة مطماطة ويأتي ذكرها في الدولة الحفصية. وممالك إفريقية وبقاياهم أوزاع من القبائل وكانت مواطن جمهورهم بتلول منداس عند جبل وانشريس وجبل كزول من نواحي تاهرت. وكان لهم بتلك المواطن أخريات دولة صنهاجة استفحال وصولة. وفي فتنة حماد بن بلكين مع باديس بن المنصور مقامات وآثار. وكان كبيرهم يومئذ عزانة وكانت له مع البرابرة المجاورين له من لواتة وغيرهم حروب وأيام. ولما هلك عزانة قام بأمره في مطماطة ابنه زيري فمكث فيهم أياماً ثم غلبت صنهاجة على أمره فأجاز البحر إلى العدوة ونزل على المنصور بن أبي عامر فاصطنعه ونظمه في طبقة الأمراء من البربر الذين كانوا في جملته واستظهره على أمره فكان من أوجه رجالهم وأعظمهم قدراً لديه إلى أن هلك وأجراه ابنه المظفر من بعده وأخوه عبد الرحمن الناصر على سنن أبيهما في ترفيع مكانه وإخلاص ولايته وكان عند ثورة محمد بن هشام بن عبد الجبار غائباً مع أبي عامر في غزاة النعمان مع من كان معه من أمراء البربر وعرفائهم. فلما رأوا انتقاض أمره وسوء تدبيره لحقوا بمحمد بن هشام المهدي فكانوا معه إلى أن كانت الفتنة البربرية بالأندلس إلى أن هلك هنالك ولا أدري أي السنين كان مهلكه وأجاز إلى الأندلس وهلك زيري هنالك لا أدري أي السنين كان مهلكه. وأجاز الأندلس أيضاً من رجالتهم كهلان بن أبي لوا بن يصلاصن ونزل على الناصر وهو من أهل العلم بأنساب البربر. وكان من مشاهيرهم أيضاً النسابة سابق بن سليمان بن حراث بن مولات بن دوفاس وهو كبير نسابة البربر ممن علمناه. وكان منهم أيضاً عبد الله بن إدريس كاتب الخراج لعبيد الله المهدي في آخرين يطول ذكرهم. وهذا ما تلقيناه من أخباز مطماطة. وأما موطن منداس فزعم بعض الإخباريين من البربر ووقفت على كتابه في ذلك أنه سمي بمنداس بن مغر بن أوريغ بن كبوري بن المثني وهو هوار وكأنه والله أعلم يشير إلى أداس بن زحيك الذي يقال أنه ربيب هوار كما يأتي في ذكرهم إلا أنه اختلط عليه الأمر. وكان لمنداس من الولد: شراوة وكلثوم وتكم. قال: ولما استفحل أمر مطماطة وكان شيخهم لهذا العهد إرهاص بن عصفراصن فأخرج منداس من الوطن وغلبه على أمره واعتمر بنوه موطن منداس ولم يزالوا به كلامه وبقية هؤلاء القوم لهذا العهد بجبل وادشنيش لحقوا به لما غلبهم بنوتوجين من زناتة على منداس وصاروا في عداد قبائل الغارمة والله وارث الأرض ومن عليها. وهم إخوة مطامطة ولماية كما قلناه وإخوتهم ملزوزة معدودون منهم. وكذلك دونة وكشاتة ولهم افتراق في الوطن. وكان منهم جمهوران: أحدهما بالمغرب الأوسط عند مصب شلف في البحر من ضواحي مازونة المصر لهذا العهد. ومن ساحلهم أجاز عبد الرجمن الداخل إلى الأندلس ونزل بالمنكب فكان منهم أبو قرة المغيلي الدائن بدين الصفرية من الخوارج ملك أربعين سنة. وكانت بينه وبين أمراء العرب بالقيروان لأول دولة بني العباس حروب ونازل طبنة. وقد قيل إن أبا قرة هذا من بني مطماطة وهذا عندي صحيح فلذلك أخرت ذكر أخباره إلى أخبار بني يفرن من زناتة. وكان منهم أيضاً أبو حسان ثار بإفريقية لأول الإسلام وأبو حاتم يعقوب بن لبيب بن مرين بن يطوفت من ملزوز الثائر مع أبي قرة سنة خمسين ومائة. وتغلب على القيروان فيما ذكر خالد بن خراش وخليفة بن خياط من علمائهم. وذكروا من رؤسائهم أيضاً موسى بن خليد ومليح بن علوان وحسان بن زروال الداخل مع عبد الرحمن. وكان منهم أيضاً دلول بن حماد أميراً عليهم في سلطان يعلى بن محمد اليفرني وهو الذي اختط بلد إيكري على اثني عشر ميلاً من البحر وهي لهذا العهد خراب لم يبق منها إلا الأطلال ماثلة. ولم يبق من مغيلة بذلك الوطن جمع ولا حي. وكان جمهورهم الآخر بالمغرب الأقصى وهم الذين تولوا مع أوربة وصدينة القيام بدعوة إدريس بن عبد الله لما لحق بالمغرب وأجازه وحملوا قبائل البربر على طاعته والدخول في أمره. ولم يزالوا على ذلك إلى أن اضمحلت دولة الأدارسة وبقاياهم لهذا العهد بمواطنهم ما بين فاس وصفروي ومكناسة والله وارث الأرض ومن عليها. |
مدبونة
وهم من إخوة مغيلة ومطماطة من ولد فاتن كما قلناه وكانت مواطن جمهورهم بنواحي تلمسان ما بين جبل بني راشد لهذا العهد إلى الجبل المعروف بهم قبلة وجدة يتقلبون بظواعنهم في ضواحيه وجهاته. وكان بنو يلومي وبنو يفرن من قبلهم يجاورونهم من ناحية المشرق ومكناسة من ناحية المغرب وكومية وولهاصة من جهة الساحل. وكان من رجالاتهم المذكورين جرير بن مسعود كان أميراً عليهم وكان مع أبي حاتم وأبي قرة في فتنتهم وأجاز إلى الأندلس في طوالع القتح كثير منهم فكان لهم هنالك استفحال. وخرج هلال بن أ بزيا منهم بشنتمرية على عبد الرحمن الداخل متبعاً شقياً المكناسي في خروجه. ثم راجع الطاعة فتقبله وكتب له على قومه فكان بشرق الأندلس وشنتمرية. ثم خلفه بها من قومه نابتة بن عامر. ولما تغلب بنو توجين وبنو راشد من زناتة على ضواحي المغرب الأوسط وكان مديونة هؤلاء قد قل عددهم وفل حدهم فداخلتهم زناتة على الضواحي من مواطنهم وتملكوها وصارت مديونة إلى الحصون من بلاده بجبل تاسالة وجبل وجدة المعروف بهم. وضربت عليهم المغارم وتمرست بهم الأيام فلم يبق منهم هنالك إلا صبابة محترفون بالفلح. ومنهم أيضاً أوزاع في القبائل مندرجون فيهم. وبنواحي فاس ما بينها وبين صفروي قبيلة منهم مجاورة لمغيلة والله يرث الأرض ومن عليها. كومية وهم المعروفون قديماً بصطفورة إخوة لماية ومطغرة وهم من ولد فاتن كما قدمنا ولهم ثلاث بطون منها تفرعت شعوبهم وقبائلهم وهي ندرومة وصغارة وبنو يلول: فمن ندرومة نغوطة وحرسة وفردة وهفانة وفراتة. ومن بني يلول: مسيفة ووتيوة وهبيئة وهيوارة ووالغة. ومن صغارة ماتيلة وبنو حياسة. وكان منهم النسابة المشهور هاني بن مصدور بن مريس بن نقوط هذا هو المعروف في كتبهم. وكان مواطن كومية بالمغرب الأوسط لسيف البحر من ناحية أرشكول وتلمسان. وكان لهم كثرة موفورة وشوكة مرهوبة. وصاروا من أعظم قبائل الموحدين لما ظاهروا المصامدة على أمر المهدي وكلمة توحيده. وربما كانوا رهط عبد المؤمن صاحبه وخليفته فإنه كان من بني عابد أحد بيوتاتهم وهوعبد المؤمن بن علي بن مخلوف بن يعلى بن مروان بن نصر بن علي بن عامر بن الأمير بن موسى بن عبد الله بن يحيى بن ورنيغ بن صطفور وهكذا نسبه مؤرخو دولة الموحدين إلى صطفور. ثم يقولون صطفور بن نفور بن مطماط بن هودج بن قيس غيلان بن مضر. ويذكر بعضهم أنه منقول من خط أبي محمد عبد الواحد المخلوع ابن يوسف بن عبد المؤمن فأما انتسابهم في قيس غيلان فقد ذكرنا أنه غير صحيح. وفي أسماء هذا العمود من نسب عبد المؤمن ما يدل على أنه مصنوع إذ هذه الأسماء ليست من أسماء البربر وإنما هي كما تراه كلها عربية والقوم كانوا من البرابرة معروفون بينهم. وانتساب مطغور إلى مطماط تخليط أيضاً فإنهما أخوان عند نسابة البربر أجمع وعبد المؤمن بلا شك منهم والله أعلم بما سوى ذلك. وكان عبد المؤمن هذا من بيوتاتهم وأشرافهم وموطنهم بتاكرارت وهو حصن في الجبل المطل على هنين من ناحية الشرق. ولما نجم عبد المؤمن فيهم وشب ارتحل في طلب العلم فنزل بتلمسان. وأخذ عن مشيختها مثل ابن صاحب الصلاة وعبد السلام التونسي وكان فقيهاً صالحاً وهو ضجيع الشيخ أبي مدين في ترتبه. ولما هلك عبد السلام هذا ولم يحذق تلميذه بعد في فنونه وكان شيخ عصره في الفقه والكلام. تعطش التلميذ بعده إلى القراءة وبلغهم خبر الفقيه محمد بن تومرت المهدي ووصولهم إلى بجاية. وكان يعرف إذ ذاك بالفقيه السوسي نسبة إلى السوس. ولم يكن لقب المهدي وضع عليه بعد. وكان في ارتحاله من المشرق إلى المغرب قد أخذ نفسه من تغيير المنكر الذي شأنه وطريقته نشر العلم وتبيين الفتاوى وتدريس الفقه والكلام. وكان له في طريقته الأشعرية إمامة وقدم راسخة وهو الذي أدخلها إلى المغرب كما ذكرناه وتشوق طلبة العلم بتلمسان إلى الأخذ عنه وتفاوضوا في ذلك وندب بعضهم بعضاً إلى الرحلة إليه لاستجلابه وأن يكون له السبق بإتحاف القطر بعلومه. فانتدب لها عبد المؤمن على مكانه من صغر السن بنشاطه للسفر لبداوته فارتحل إلى بجاية للقائه وترغيبه في نزوله تلمسان فلقيه بملالة وقد استحكمت بينه وبين العزيز النفرة وبنو ورياكل متعصبون على إجارته منهم ومنعه من إذايته والوصول إليه. فألقى إليه عبد المؤمن ما عنده من الترغيب وأدى إليه رسالة طلبة العلم بتلمسان فوعاها وشأنه غير شأنهم. وعكف عبد المؤمن على التعليم والأخذ عنه في ظعنه ومقامه. وارتحل إلى المغرب في صحابته وحذق في العلم وآثره الإمام بمزيد الخصوصية والقرب بما خصه الله به من الفهم والوعي للتعليم حتى كأنه خالصة الإمام وكبير صحابته. وكان يؤمله لخلافتة لما ظهر عليه من الشواهد المدونة بذلك. ولما اجتازوا في طريقهم إلى المغرب بالثعالبة من بطون العرب الذين ذكرناهم قبل في نواحي المدينة. قربوا إليه حماراً فارهاً يتخذه له عطية لركوبه فكان يؤثر به عبد المؤمن ويقول لأصحابه اركبوه الحمار يركبكم الخيول المسومة. ولما بويع فه بهرغة سنة خمس عشرة وخمسمائة واتفقت على دعوته كلمة المصامدة وحاربوا لمتونة نازلوا مراكش. وكانت بينهم في بعض أيام منازلتها حرب شديدة هلك فيها من الموحدين الألف فقيل للإمام إن الموحدين قد هلكوا. فقال لهم ما فعل عبد المؤمن. قالوا: هو على جواده الأدهم قد أحسن البلاء. فقال ما بقي عبد المؤمن فلم يهلك أحد! ولما احتضر الإمام سنة اثنتين وعشرين عهد بخلافته في أمره لعبد المؤمن واستراب من العصبية بين المصامدة فكتم موت المهدي وأرجأ أمره حتى صدع الشيخ أبو حفص أمير هنتانة وكبير المصامدة لمصاهرته. وأمضى عهد الإمام فيه فقام بالأمر واستبد بشياخة الموحدين رخلافة المسلمين. ونهض سنة سبع وثلاثين إلى فتح المغرب فدانت له غمارة. ثم ارتحل منها إلى الريف ثم إلى بطوية ثم إلى بطالسة ثم إلى بني يزناسن. ثم إلى مديونة ثم إلى كومية وجيرانهم ولهاصة وكانوا يلونهم في الكثرة فاشتد عضده بقومه ودخلوا في أمره وشايعوه على تمكين سلطانه بين الموحدين وخلافته. ولما رجع إلى المغرب وافتتح أمصاره واستولى على مراكش استدعى قومه للرحلة إليها والعسكرة عليه فخف جمهورهم إلى المغرب واستوطن مراكش لحمل سرير الخلافة والقيام بأمر الدعوة والذب عن ثغورهم والمدافعة فاعتضد بهم عبد المؤمن وبنوه سائر الدولة وكانوا بمكانتهم فاتحة الكتاب وفذلكة الجماعة. وأنفقهم الملك في الفتوح والعساكر وأكلتهم الأقطار في تجهيز الكتائب وتدويخ الممالك فانقرضوا وبقي بمواطنهم الأولى بقايا منهم: بنو عابد وهم في عداد القبائل الغارمة قد أثقلت زناتة كاهلهم فحملوا المغرم والعسف ونهوضهم بالتكاليف. ونظموهم مع جيرانهم ولهاصة في سوم الخسف والذل واقتضاء الخراج بالنكال والعذاب والله مبدل الأمر ومالك الملك سبحانه. زواوة وزواغة الخبر عن زواوة وزواغة من بطون ضريسة من البرابر البتر والإلمام ببعض أحوالهم هؤلاء البطون من بطون البرابرة البتر من ولد سمكان بن يحيى بن ضري بن زحيك بن مادغيس الأبتر. وأقرب ما يليهم من البرابر زناتة لأن أباهم أجانا هو أخو سمكان ابن أبيه فلذلك كانوا ذوي قربى لهم. زواوة فأما زواوة فهم من بطونهم وقد يقال إن زواوة من قبائل كتامة ذكر ذلك ابن حزم. ونسابة البربر إنما يعدونهم من ولد سمكان كما قلناه والصحيح عندي ما ذكره ابن حزم. ويشهد له الموطن ونحلة الشيع مع كتامة لعبيد الله. وعد نسابة البربر لهم بطوناً كثيرة: بنو مجسطة وبنو مليكش وبنو كوفي ومشدالة وبنو زريقف وبنو كوزيت وكرسفينة ووزلجة وخوجة وزكلاوة وبنو مرانة ويقال إن بني مليكش من صنهاجة والله أعلم. ومن قبائلهم المشهورة لهذا العهد بنو يجرو وبنو مانكلات وبنو يترون وبنو ماني ينو بوغردان وبنو يتورغ وبنو بو يوسف وبنو عبسي وبنو بو شعيب وبنو صدقة وبنو غبرين بنو كشطولة. ومواطن زواوة بنواحي بجاية ما بين مواطن كتامة وصنهاجة أوطنوا منها جبالاً شاهقة متوعرة تنذعر منها الأبصار وفضل في خمرها السالك مثل: بني غبرين بجبل زيري وفيه شعراء من شجر الزان يشهد بها لهذا العهد. ومثل بني فراسن وبني براثن. جبلهم ما بين بجاية وتدلس وهوأعصم معاقلهم وأمنع حصونهم فلهم به الاعتزاز على الدول والخيار عليها في إعطاء المغرم مع أن كلهم لهذا العهد قد امتنع لساهمه واعتز على السلطان في أبناء طاعته وقانون مزاجه. وكانت لهم في دولة صنهاجة مقامات مذكورة في السلم والحرب بما كانوا أولياء كتامة. وظهر أولهم على أمرهم من أول الدولة وقتل بادس بن المنصور في إحدى وقائعه بهم وشيخهم زيري بن أجانا لاتهامه إياه في أمر حماد. ثم اختط بنو حماد بعد ذلك بجاية بساحتهم وتمرسوا بهم فانقادوا وأذعنوا لهم إلى آخر الدولة. واتصل إذعانهم إلى هذا العهد إلا تمريضاً في المغرم يحملهم عليه الموثقون بمنعة جبالهم. وكانت رئاسة بني يراتن منهم في بني عبد الصمد من بوتاتهم. وكانت عند تغلب السلطان أبي الحسن على المغرب الأوسط شيخة عليهم من بني عبد الصمد هؤلاء اسمها شمسي وكان لها عشرة من الولد فاستفحل شأنها بهم وملكت عليهم أمرهم. ولما تقبض السلطان أبو الحسن على ابنه يعقوب المكنى بأبي عبد الرحمن عندما فر من معسكره بمتيجة سنة ثمان أو سبع وثلاثين وسرح في أثره الخيالة فرجعوه واعتقله. ثم قتله من بعد ذلك حسبما يذكر في أخبارهم. لحق حينئذ بني بزاتن هؤلاء خازن من مطبخة فموه عليهم باسمه وشبه بتمثاله ودعا إلى الخروج على ابنه بزعمه فشمرت شمسي هذه عزائمها في إجازته وحملت قومها على طاعته. وسرب السلطان أبو الحسن أمواله في قومها وهما على السلامة فأبته. ثم نمي إليها الخبر بمكره وتمويهه فنبذت إليه عهده وخرج عنها إلى بلاد العرب كما نذكر بعض ذلك في أخبارهم. وقدمت على السلطان أبي الحسن في وفد من قومها وبعض بنيها فأبلغ السلطان في تكريمها وأحسن صلتها وأجاز الوفد ورجعت بهم إلى موطنها ولم تزل الرئاسة في هذا البيت. زواغة وأما زواغة فلم يتأد إلينا من أخبارهم وتصاريف أحوالهم ما نعمل في الأقلام ولهم ثلاثة بطون وهي: دمر بن زواغ وبنو واطيل بن زحيك بن زواغ وبنو ماخر بن تيفون بن زواغة. ومن دمر بنو سمكان وهم أوزاع في القبائل. ومنهم بنواحي طرابلس مفترقون في براريها ولهم هنالك الجبل المعروف بدمر. وفي جهات قسطنطينة أيضاً رهط من زواغة. وكذلك بجبال شلف بنو واطيل منهم وبنواحي فاس أخرون ولله الخلق والأمر. مكناسة الخبر عن مكناسة وسائر بطون بني ورصطف وما كان لمكناسة من الدول بالمغرب وأولية ذلك وتصاريفه كان لورصطف بن يحيى وهو أخو اجانا بن يحيى وسمكان بن يحيى ثلاثة من البطون وهم: مكناسة وورتناجة وأوكته. ويقال مكنة وبنو ورتناجة أربعة بطون: سدرجة ومكسة وبطالسة وكرنيطة. وزاد سابق وأصحابه في بطونهم هناطة وفولالة وكذلك عدوا في بطون مكنة: بني يصلتن وبني تولالين وبني ترين وبني جرتن وبني فوغال. ولمكناسة عندهم أيضاً بطون كثيرة منها: صولات وبنو حوات وبنو ورفلاس وبنو وريدوس وقنصارة وورنيفة ووريفلتة. وبطون ورصطف كلهم مندرجون في بطون مكناسة. وكانت مواطنهم على وادي ملوية من لدن أعلاه بسجلماسة إلى مصبه في البحر وما بين ذلك من نواحي تازا وتسول. وكانت رئاستهم جميعاً في بني أبي يزول واسمه مجدول بن تافريس بن فراديس بن ونيف بن مكناس. وأجاز منهم إلى العدوة عند الفتح أمم. وكانت لهم بالأندلس رئاسة وكثرة. وخرج منهم على عبد الرحمن الداخل شعيا بن عبد الواحد سنة إحدى وخمسين واعتصم بشنتمرية ودعا لنفسه منتسباً إلى الحسن بن علي وتسمى عبد الله بن محمد وتلقب بالفاطمي وكانت بينه وبين عبد الرحمن حروب إلى أن غلبه ومحا أثر ضلالته. وكان من رجالتهم لعهد دولة الشيعة مصالة بن حبوس بن منازل اتصل بعبيد الله الشيعي وكان من أعظم قواده وأوليائه وولاه تاهرت وافتتح له المغرب وفاس وسجلماسة. ولما هلك أقام أخاه يصلتن بن حبوس مقامه في ولاية تاهرت والمغرب. ثم هلك وأقام ابنه حميداً مقامه فانحرف عن الشيعة ودعا لعبد الرحمن الناصر. واجتمع مع بني خزر أمراء جراوة على ولاية المروانية. ثم أجاز إلى الأندلس وولي الولايات أيام الناصر وابنه الحكم وولي في بعضها تلمسان بدعوتهم. ثم هلك وأقام ابنه نصل بن حميد وأخوه فياطن بن يصلتن وعلي ابن عمه مصالة في ظل الدولة الأموية إلى أن أجاز المظفربن أبي عامر إلى المغرب فولى يصل بن حميد سجلماسة كما نذكره. ثم أن رئاسة مكناسة بالعدوة انقسمت في بني أبي يزول وانقسمت قبائل مكناسة بانقسامها. وصارت رئاسة مكناسة في مواطن سجلماسة وما إليها من بني واسول بن مصلان بن أبي يزول ورئاسة مكناسة بجهات تازا وتسول وملوية ومليلة لبني أبي العافية بن أبي نائل بن أبي الضحاك بن أبي يزول. ولكل واحد من هذين الفريقين في الإسلام دولة وسلطان وصاروا به في عداد الملوك كما نذكره. |
دولة بني واسول
الخبر عن دولة بني واسول ملوك سجلماسة وأعمالها من مكناسة كان أهل مواطن سجلماسة من مكناسة يدينون لأول الإسلام بدين الصفرية من الخوارج لقنوه عن أئمتهم ورؤوسهم من العرب لما لحقوا بالمغرب وأنتزوا على الأصقاع وماجت أقطار المغرب بفتنة ميسرة. فلما اجتمع على هذا المذهب زهاء أربعين من رجالاتهم نقضوا طاعة الخلفاء وولوا عليهم عيسى بن يزيد الأسود من موالي العرب ورؤوس الخوارج. واختطوا مدينة سجلماسة لأربعين ومائة من الهجرة. ودخل سائر مكناسة من أهل تلك الناحية في دينهم. ثم سخطوا أميرهم عيسى ونقموا عليه كثيراً من أحواله فشدوه كتافاً ووضعوه على قنة جبل إلى أن هلك سنة خمس وخمسين. واجتمعوا بعده على كبيرهم أبي القاسم سمكو بن مصلان بن أبي يزول كان أبوه سمقو من حملة العلم ارتحل إلى المدينة فأدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى ابن عباس ذكره غريب بن حميد في تاريخه وكان صاحب ماشية وهو الذي بايع لعيسى بن يزيد وحمل قومه على طاعته فبايعوه من بعده. وقاموا بأمره إلى أن هلك سنة سبع وستين ومائة لمنتهى عشر سنين من ولايته وكان أباضياً صفرياً. وخطب في عمله للمنصور والمهدي من بني العباس. ولما هلك ولوا عليهم ابنه إلياس وكان يدعى بالوزير. ثم انتقضوا عليه سنة أربع وتسعين فخلعوه وولوا مكانه أخاه إليسع بن أبي القاسم وكنيته أبو منصور فلم يزل أميراً عليهم. وبنى سور سجلماسة لأربع وثلاثين سنة من ولايته. وكان أباضياً صفرياً. وعلى عهده استفحل ملكهم بسجلماسة. وهو الذي أتم بناءها وتشييدها واختط بها المصانع والقصور وانتقل إليها آخر المائة الثانية ودوخ بلاد الصحراء وأخذ الخمس من معادن درعة وأصهر لعبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت بابنه مدرار في ابنته أروى فأنكحه إياها. ولما هلك سنة ثمان ومائتين ولي بعده ابنه مدرار ولقبه المنتصر وطال أمر ولايته. وكان له ولدان اسم كل واحد منهما ميمون أحدهما لأروى بنت عبد الرحمن بن رستم وقيل إن اسمه أيضاً عبد الرحمن. والآخر لتقي وتنازعا في الاستبداد على أبيه ودامت الحرب بينهما ثلاث سنين. وكانت لأبيهما مدرار صاغية إلى ابن أروى فمال معه خى غلب أخاه فأخذه وأخرجه عن سجلماسة. ولم يلبث أن خلع أباه واستبد بأمره. ثم ساءت سيرته في قومه ومدينته فخلعوه وصار إلى درعة وأعاد مدراراً إلى أمره. ثم حدث نفسه بإعادة ابنه ميمون بن الرستمية إلى أمارته بصاغيته إليه فخلعوه ورجعوا ابنه ميمون بن التقي وكان يعرف بالأمير. ومات مدار إثر ذلك سنة ثلاث وخمسين لخمس وأربعين من ملكه. وأقام ابنه ميمون في استبداده إلى أن هلك سنة ثلاث وستين وولي ابنه محمد وكان أباضياً. وتوفي سنة سبعين فولي إليسع بن المنتصر وقام بأمره ولحق عبيد الله الشيعي وابنه وأبو القاسم بسجلماسة لعهده. وأوعز المعتضد إليه في شأنهما وكان على طاعته فاستراب بهما وحبسهما إلى أن غلب الشيعي بني الأغلب وملك رقادة فزحف إليه لاستخراج عبيد الله وابنه من محبسه وخرج اليه إليسع في قومه مكناسة فهزمه أبوعبد الله الشيعي واقتحم عليه سجلماسة وقتله سنة ست وتسعين. واستخرج عبيد الله وابنه من محبسهما وبايع لهما. وولى عبيد الله المهدي على سجلماسة إبراهيم بن غالب المزاتي من رجالات كتامة وانصرف إلى إفريقية. ثم انتقض أمرأء سجلماسة على واليهم إبراهيم فقتلوه ومن كان معه من كتامة سنة ثمان وتسعين وبايعوا الفتح بن ميمون الأمير بن مدرار ولقبه واسول وميمون ليس هو ابن التقي الذي تقدم ذكره وكان أباضياً. وهلك قريباً من ولايته لرأس المائة الثالثة فولي أخوه أحمد واستقام أمره إلى أن زحف مصالة بن حبوس في جموع كتامة ومكناسة إلى المغرب سنة تسع وثلثمائة فدوخ المغرب وأخذهم بدعوة صاحبه عبيد الله المهدي. وافتتح سجلماسة وتقبض على صاحبها أحمد بن ميمون بن مدرار. وولى عليها ابن عمه المعتز بن محمد بن بسادر بن مدرار فلم يلبث أن استبد المعتز. وهلك سنة إحدى وعشرين قبيل ملك المهدي وولي من بعده ابنه أبو المنتصرمحمد بن المعتز فمكث عشراً. ثم هلك وولي من بعده ابنه المنتصر سمكو شهرين وكانت جدته تدبر أمره لصغره. ثم ثار عليه أبن عمه محمد بن الفتح بن ميمون الأمير وتغلب عليه وشغب عليه بنو عبيد الله لفتنة ابن أبي العافية وتاهرت ثم بفتنة أبي يزيد بعدهما فدعا محمد بن الفتح لنفسه مموهاً بالدعوة لبني العباس. وأخذ بمذاهب أهل السنة ورفض الخارجية ولقب الشاكر بالله. واتخذ السكة باسمه ولقبه. وكانت تسمى الدراهم الشاكرية. كذا ذكره ابن حزم وقال فيه: وكان في غاية العدل حتى إذا أفزع له بنو عبيد وحمت الفتنة زحف جوهر الكاتب أيام المعز لدين الله معد في جموع كتامة وصنهاجة وأوليائهم إلى المغرب سنة سبع وأربعين فغلب على سجلماسة وملكها. وفر محمد بن الفتح إلى حصن تاسكرات على أميال من سجلماسة وأقام به. ثم دخل سجلماسة متنكراً فعرفه رجل من مطغرة وأنذر به فتقبض عليه جوهر وقاده إلى القيروان مع أحمد بن بكر صاحب فاس كما نذكره وقفل إلى القيروان فلما انتقض المغرب على الشيعة وفشت بدعة الأمية وأخذ زناتة بطاعة الحكم المستنصر ثأر بسجلماسة قائم من ولد الشاكر وباهى المنتصر بالله. ثم وثب عليه أخوه أبو محمد سنة وخمسين فقتله وقام. بالأمر مكانه وتلقب المعتز بالله. وأقام على ذلك مدة وأمر مكناسة يومئذ قد تداعى إلى الانحلال وأمر زناتة قد استفحل بالمغرب عليهم إلى أن زحف خزرون بن فلفول من ملوك مغراوة إلى سجلماسة سنة ست وستين وبرز اليه أبو محمد المعتز فهزمه خزرون وقتله واستولى على بلده وذخيرته وبعث برأسه إلى قرطبة مع كتاب الفتح. وكان ذلك لأول حجابة المنصور بن عامر فنسب إليه واحتسب له جداً ويمن نقيبة وعقد لخزرون على سجلماسة فأفام دعوة هشام بأنحائها فكانت أول دعوة أقيمت لهم بالأمصار في المغرب الأقصى وانقرض أمر بني مدرار ومكناسة من المغرب أجمع. وأديل منهم بمغراوة وبني يفرن حسبما يأتي ذكرهم في دولتهم والأمر لله وحده وله البقاء سبحانه وتعالى. |
دولة بني أبي العافية
كان مكناسة الظواعن من أهل مواطن ملوية وكرسيف ومليلة وما إليها من التلول بنواحي تازا وتسول والكل يرجعون في رئاستهم إلى أبي باسل بن أبي الضحاك بن أبي يزول وهم الذين اختطوا بلد كرسيف ورباط تازا ولم يزالوا على ذلك من أول الفتح. وكانت رئاستهم في المائة الثالثة لمصالة بن حبوس وموسى بن أبي العافية بن أبي باسل واستفحل أمرهم في أيامه وعظم سلطانهم وتغلبوا على قبائل البربر بأنحاء تازا إلى الكائي وكانت بينهم وبين الأدارسة ملوك المغرب لذلك العهد فتن وحروب. وكانوا يغلبونهم على كثير من ضواحيها لما كان نزل بدولتهم من الهرم. ولما استولى عبيد الله المغرب واستفحل أمره كانوا من أعظم أوليائه وشيعه وكان مصالة بن حبوس من قواده لانحياشه إلى وولاه على مدينة تاهرت والمغرب الأوسط. ولما زحف مصالة إلى المغرب الأقصى سنة خمس وثلثمائة واستولى على فاس وعلى سجلمماسة وفرغ من شأن المغرب واستنزل يحيى بن إدريس من إمارته بفاس إلى طاعة عبيد الله وأبقاه أميراً على فاس عقد حينئذ لابن عمه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة على سائر ضواحي المغرب وأمصاره مضافة إلى عمله من قبل تسول وتازا وكرسيف وقفل مصالة إلى القيروان. وقام موسى بن أبي العافية بأمر المغرب وناقضه يحيى بن إدريس صاحب فاس لما يضطغن له من المظاهرة عليه. فلما عاود مصالة غزو المغرب سنة تسع أغراه ابن أبي العافية بحيى بن إدريس فثقبض عليه واستصفاه وطرده عن عمله فلحق ببني عمه بالبصرة والريف. وولى مصالة على فاس ريحان الكتامي وقفل إلى القيروان فهلك وعظم ملك ابن أبي العافية بالمغرب. ثم ثار بفاس سنة ثلاث عشرة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس وكان مقداماً شجاعاً ويلقب بالحجام لطعنه في المحاجم. دخل فاس على حين غفلة من أهلها وقتل ريحان واليها واجتمع الناس على بيعته. ثم خرج لقتاله ابن أبي العافية فتزاحفوا بفحص أداذ ما بين تازا وفاس ويعرف لهذا العهد بوادي المطاحن واشتدت الحرب بينهم وهلك منهال بن موسى بن أبي العافية في الفتن بمكناسة. ثم كانت العاقبة لهم وانفض عسكر الحسن ورجع مفلولاً إلى فاس فغدر به عامله على عدوة القرويين حامد بن حمدان الهمداني واستمكن من عاقلة واستحث ابن أبي العافية للقدوم وأمكنه من البلد وزحف إلى عدوة الأندلس فملكها وقتل عاملها عبد الله بن ثعلة بن محارب بن محمود وولى مكانه أخاه محمداً وطالب حامداً بصاحبه الحسن فدس إليه حامد بالفرار تجافياً عن دعاء أهل البيت وتدلى الحسن من السور فسقط وانكسر ساقه ومات مستخفياً بعدوة الأندلس لثلاث ليال منها. وحذر حامد من سطوة أبي العافية فلحق بالمهدية واستولى ابن أبي العافية على فاس والمغرب. وأجمع وأجلى الأدارسة عنه وألجأهم إلى حصنهم بقلعة حجر النسر مما يلي البصرة وحاصرهم بها مراراً. ثم جمر عليهم العساكر وخلف فيهم قائده أبا الفتح فحاصرهم ونهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة بعد أن استخلف على المغرب الأقصى ابنه مدين. وأنزله بعدوة القرويين. واستعمل على عدوة الأندلس طوال بن أبي يزيد وعزل به محمد بن ثعلبة. وزحف إلى تلمسان فملكها وغلب عليها صاحبها الحسن بن أبي العيش بن عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان من عقب سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر الداخل إلى المغرب بعده فغلب موسى بن أبي العاقية الحسن على تلمسان وأزعجه عنها إلى مليلة جزائر ملوية ورجع إلى فاس. وقد كان الخليفة الناصر لما فشت دعوته بالمغرب خاطبه بالمقاربة والوعد فسارع إلى إجابته ونقض طاعة الشيعة وخطب للناصر على منابر له فسرح إليه عبيد الله المهدي قائمه ابن أخي مصالة وهو حميد بن يصلتن المكناسي قائد تاهرت فزحف في العساكر إلى حرمة سنة إحدى وعشرين ولقيه موسى بن أبي العافية بفحص مسون فتزاحفوا أياماً. ثم لقيه حميد فهزمه ولحق ابن أبي العافية بتسول فامتنع بها وأفرج قائده أبو الفتح عن حصن الأدارسة فاتبعوه وهزموه ونهبوا مكره. ثم نهض حميد إلى فاس ففر عنها مدين بن موسى إلى ابنه واستعمل عليها حامد بن حمدان كان في جملته وقفل حميد إلى إفريقية وقد دوخ المغرب. ثم انتقض أهل المغرب على الشيعة بعد مهلك عبيد الله وثار أحمد بن بكر بن عبد الرحمن بن سهل الجذامي على حامد بن حمدان فقتله وبعث برأسه إلى ابن أبي العافية فأرسله إلى الناصر بقرطبة واستولى على المغرب. وزحف ميسور الخصي قائد أبي القاسم الشيعي إلى المغرب سنة ثلاث وعشرين وخام ابن أبي العافية عن لقائه واعتصم بحصن لكائي. ونهض ميسور إلى فاس فحاصرها واستنزل أحمد بن بكر عاملها. ثم تقبض عليه وأشخصه إلى المهدية وبدر أهل فاس بغدره فامتنعوا وقدموا على أنفسهم حسن بن قاسم اللواتي وحاصرهم ميسور مدة حتى رغبوا إلى السلم واشترطوا على أنفسهم الطاعة والأتاوة فتقبل ميسور ورضي وأقر حسن بن قاسم على ولايته بفاس. وارتحل إلى حرب بن أبي العافية فكانت بينهصا حروب إلى أن غلبه ميسور فتقبض على ابنه الغوري وغربه إلى المهدية. وأجلى موسى بن أبي العافية عن أعمال المغرب إلى نواحي ملوية ووطاط وما وراءها من بلاد الصحراء وقفل إلى القيروان. ولما مر بأرشكول خرج إليه صاحبها ملاطفاً له بالتحف وهو إدريس بن إبراهيم بن ولد سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر فتقبض عليه واصطلم نعمته وولى مكانه أبا العيش بن عيسى منهم. وأغذ السير إلى القيروان سنة أربع وعشرين. ورجع موسى بن أبي العافية من الصحراء إلى أعماله بالمغرب فملكها وولى على الأندلس أبا يوسف بن محارب الأزدي وهو الذي مدن عدوة الأندلس وكانت حصوناً. واحتل موسى بن أبي العافية قلعة كوماط وخاطب الناصر فبعث إليه مدداً من أسطوله وزحف إلى تلمسان ففر عنها أبو العيش واعتصم بأرشكول فنازله وغلبه عليها سنة خمس وعشرين. ولحق أبو العيش بنكور واعتصم بالقلعة التي بناها هنالك لنفسه. ثم زحف ابن أبي العافية إلى مدينة لنكور فحاصرها مدة ثم تغلب عليها وقتل صاحبها عبد البديع بن صالح وخرب مدينتهم. ثم سرح ابنه مدين في العساكر فحاصر أبا العباس بالقلعة حتى عقد له السلم عليها. واستفحل أمر ابن أبي العافية في المغرب الأقصى واتصل عمله بعمل محمد بن خزر ملك مغراوة وصاحب المغرب الأوسط وبثوا دعوة الأموية في أعمالها وبعث ابنه مدين بأمره في قومه. وعقد له الناصر على أعمال ابنه بالمغرب واتصل يده بيد الخير بن محمد كما كان بين آبائهما. ثم فسد ما بينهما وتزاحفا للحرب وبعث الناصر قاضيه منفر بن سعد لمشارفة أحوالهما وإصلاح ما بينهما فتم ذلك كما أراده ولحق به سنة خمس وثلاثين أخوه البوري فاراً من عسكر المنصور مع أحمد بن بكر الجذامي عامل فاس بعد أن لحقا بأبي يزيد فسار أحمد بن أبي بكر إلى فاس وأقام بها متنكراً إلى أن وثب بعاملها حسن بن قاسم اللواتي وتخلى له عن العمل. وصار البوري إلى أخيه مدين واقتسم أعمال ابنه معه ومع ابنه الأخر منقذ فكانوا ثلاث الأثافي. وأثار الثوري الناصر سنة خمس وأربعين فعقد الناصر لابنه منصور على عمله وكانت وفاته وهو محاصر لأخيه مدين بفاس وأجاز أبناء أبو العيش ومنصور إلى الناصر فأجزل لهما الكرامة على سنن أبيهما. ثم هلك مدين فعقد الناصر لأخيه أبي منقذ على عمله سنة ثم غلب مغراوة على فاس وأعمالها واستفحل أمرهم بالمغرب وأزاحوا مكناسة عن ضواحيه وأعماله وساروا إلى مواطنهم وأجاز إسمعيل بن البوري ومحمد بن عبد الله بن مرين إلى الأندلس فنزلوا بها إلى أن جازوا مع واضح أيام المنصور كما مر عندما نقض زيري بن عطية طاغيتهم سنة ست وثمانين فملك واضح المغرب ورجعهم إلى أعمالهم. وتغب بلكين بن زيري على المغرب الأوسط. وغلب عليه ملوكه بني خزر من مغراوة فاتصلت يد مكناسة. ولم يزالوا في طاعة بني زيري ومظاهرتهم. وهلك إسمعيل بن البوري في حروب حماد مع باديس بشلف سنة خمس وأربعمائة وتوارث ملكهم في أعقاب موسى إلى أن ظهرت دولة المرابطين وغلب يوسف بن تاشفين على أعمال المغرب فزحف إليهم القاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن موسى بن أبي العافية فاستدعى أهل فاس وصريخ زناتة بعد مهلك معنصرة المغراوي فلقي عساكر المرابطين بوادي صفر فهزمهم وزحف إليه يوسف بن تاشفين من مكانه فحاصر قلعة فازاز فهزم القاسم بن محمد وجموع مكناسة وزناتة ودخل فاس عنوة كما ذكرناه في أخباره. ثم زحف إلى أعمال مكناسة فاقتحم الحصن وقتل القاسم. وفي بعض تواريخ المغرب أن مهلك إبراهيم بن موسى كان سنة خمس وأربعمائة. وولي ابنه عبد الله أبو عبد الرحمن وهلك سنة ثلاثين وولي ابنه محمد وهلك سنة ست وأربعين وولي ابنه القاسم وهلك بتسول عند اقتحام لمتونة عليه سنة ثلاث وستين. وانقرض ملك مكناسة من المغرب بانقراض ملك مغراوة والأمر لله وحده وبقي من قبائل مكناسة لهذا العهد بهذه المواطن أفاريق في جبال تازا بعد ما تمرست بهم الدول وأناخت بساحتهم الأمم. وهم موصوفون بوفور الجباية وقوة الشكيمة. ولهم عناء في مظاهرة الدولة وحقوق عند الحشد والعسكرة. وفيهم مؤن من الخيالة. ومن مكناسة غير هؤلاء أوزاع في القبائل لهذا العهد مفرقون في نواحي إفريقية والمغرب الأوسط. " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز " وهذا آخر الكلام في بني ورصطيف فلنرجع إلى من بقي علينا من البربر وهم زناتة والله ولي العون وبه المستعان. |
أخبار البرانس من البربر هوارة
ولنبدأ أولاً بالخبر عن هوارة من شعوبهم وذكر بطونهم وتصاريف أحوالهم وافتراق شعوبهم في عمالات إفريقية والمغرب وهوارة هؤلاء من بطون البرانس باتفاق من نسابة العرب والبربر ولد هوار بن أوريغ بن برنس إلا ما يزعم بعضهم أنهم من عرب اليمن. تارة يقولون من عاملة إحدى بطون قضاعة وتارة يقولون من ولد المسور بن السكاسك بن واثل بن حمير. وإذا تحروا الصواب المسور بن السكاسك بن أشرس بن كندة وينسبونه هكذا: هوار بن أوريغ بن خنون بن المثنى بن المسور. وعند هؤلاء أن هوارة وصنهاجة ولمطة وكزولة وهكسورة يعرف جميعهم بني ينهل وأن المسور جدهم جميعاً. وأنه وقع إلى البتر ونزل على بني زحيك بن مادغيس الأبتر. وكانوا أربعة إخوة: لوا وضرا وأداس ونفوس. وأنهم زوجوه أختهم تيسكي العرجاء بنت زحيك فولدت منه المثنى أبا هوارة وتزوجها بعد المسور عاصيل بن زعزاع أبو صنهاجة ولمطة وكزولة وهكسورة كما قالوا: وولد المثنى بن المسور خبوز وولد خبوز بن المثنى ريغ النيى يقال فيه أوريغ بن برنس ومنه تفرقت قبائل هوارة. قالوا: إنما سميت هوارة لأن المسور لما جال البلاد ووقع في المغرب قال: لقد تهورنا. هكذا عند بعض نسابة البربر. وعندي والله أعلم أن هذا الخبر مصنوع وإن أثر الصنعة باد عليه. ويعضد ذلك أن المحققين ونسابتهم مثل سابق وأصحابه قالوا: إن بطون أداس بن زحيك دخلت كلها في هوارة من أجل أن هوار خلف زحيك على أم أداس فربي أداس في حجره وزحيك على ما في الخبر الأول هو جد هوار لأن المثنى جده الأعلى هو ابن تيصكي وهي بنت زحيك فهو الخامس من زحيك فكيف يخلفه على امرأته. هذا بعيد والخبر الثاني أصح عند نسابتهم من الأول. وأما بطون هوارة فكثير وأكثرهم بنو نبه وأوريغ اشتهروا نسبة لشهرته وكبر سنه من بينهم فانتسبوا جميعاً إليه. وكان لأوريغ أربعة من الولد: هوار وهو أكبرهم ومغر وقلدن وملد ولكل واحد منهم بطون كثيرة وكلهم ينسبون إلى هوار. فمن بطون مغرماوس وزمور وكياد وسراي ذكر هذه البطون الأربعة ابن حزم وزاد سابق المطامطي وأصحابه ورجين رمنداسة وكركورة. ومن بطون قلدن: قمصانة وورصطيف وبيانة. وبل ذكر هذه الأربعة ابن حزم وسابق. ومن بطون ملد مليلة ووسطط وورفل: وأسيل ومسراتة ذكرهما ابن حزم وقال: ومن بطون هوارة بنو كهلان. ويقال إن مليلة من بطونهم. وعند نسابة البربر من بطونهم غريان وورغة وزكاوة ومسلاتة ومجريس. ويقال إن ونيفن منهم. ومجريس لهذا العهد ينتسبون إلى ونيفن. وعند سابق وأصحابه أن بني كهلان وريجن إحدى بطون مغر وأن من بطون بني كهلان بني كسى وورتاكط ولشوه وهيوارة. وأما بطون أداس بن زحيك بن مادغيس الأمراء الذين دخلوا في هوارة فكثير. فمنهم هراغة وترهوتة وشتاتة وأنداوة وهنزونة وأوطيطة وصنبرة. هؤلاء باتفاق من ابن حزم وسابق وأصحابه. وكانت مواطن الجمهور من هوارة هؤلاء ومن دخل في نسبهم من إخوانهم البرانس والصمغر لأول الفتح بنواحي طرابلس وما يليها من برقة كما ذكره المسعودي والبكري. وكانوا ظواعن وآهلين. ومنهم من قطع الرمل إلى بلاد القفر وجاوزوا لمطة من قبائل الملثمين فيما يلي بلاد كوكو من السودان تجاه إفريقية ويعرفون بنسبهم هكارة قلبت العجمة واوه كافاً أعجمية تخرج بين الكاف العربية والقاف. وكان لهم في الردة وحروبها آثار ومقامات. ثم كان لهم في الخارجية والقيام بها ذكر وخصوصاً بالأباضية منها. وخرج على حنظلة منهم عبد الواحد بن يزيد مع عكاشة الفزاري فكانت بينهما وبين حنظلة حروب شديدة. ثم هزمها وقتلهما وذلك سنة أربع وعشرين ومائة أيام هشام بن عبد الملك. وخرج على يزيد بن حاتم سنة ست وخمسين ومائة وزحف إليه قائد طرابلس عبد الله بن السمط الكندي على شاطىء البحر بسواريه من سواحلهم فانهزم وقتل عامة هوارة. وكان منهم مع عبد الرحمن بن حبيب مجاهد بن مسلم من قواده. ثم أجاز منهم إلى الأندلس مع طارق رجالات مذكورون واستقروا هنالك وكان من حلفهم بنو عامر بن وهب أمير رندة أيام لمتونة وبنو ذي النون الذين ملكوها من أيديهم واستضافوا معها طليطلة. وبنو رزين أصحاب السهلة. ثم ثارت هوارة من بعد ذلك على إبراهيم بن الأغلب سنة ست وتسعين ومائة وحاصروا طرابلس وافتتحوها فخربوها. وتولى كبر ذلك منهم عياض بن وهب وسرح إبراهيم إليهم ابنه أبا العباس فهزمهم وقتلهم وبنى طرابلس. وجأجأ هوارة بعبد الوهاب بن رستم من مكان أمارتهم بتاهرت فجاءهم واجتمعوا إليه ومعهم قبائل نفوسة. وحاصروا أبا العباس بن الأغلب بطرابلس إلى أن هلك أبوه إبراهيم بالقيروان وقد عهد إليه فصالحهم على أن يكون الصحراء لهم. وانصرف عبد الوهاب إلى نفوسة. ثم أصحبوا بعد ذلك وغزوا مع الجيوش صقلية وشهد فتحها منهم زواوة بن نعم الحلفاء. ثم كان لهم مع أبي يزيد النكاري وفي حروبه مقامات مذكورة اجتمعوا إليه من مواطنهم بجبل أوراس ومرماجنة لما غلب عليه وأخذ أهلها بدعوته فانحاشوا إلى ولايته وفعلوا الأفاعيل. وكان من أظهرهم في تلك الفتنة بنو كهلان. ولما هلك أبو يزيد كما نذكره سطا إسمعيل المنصور بهم وأثخن فيهم وانقطع ذكر بني كهلان. ثم جرت الدول عليهم أذيالها وأناخت بكلاكلها وأصبحوا في عداد القبائل الغارمة من كل ناحية: فمنهم لهذا العهد بمصر أوزاع متفرقون أوطنوها أكرة وعباره وشاوية وآخرون موطنون ما بين برقة والإسكندرية يعرفون بالمثالينة ويظعنون مع الحرة من بطون هيب من سليم بأرض التلول من إفريقية ما بين تبسة إلى مرماجنة إلى باجة. ظواعن صاروا في عداد النباجعة عرب بني سليم في اللغة والزي وسكنى الخيام وركوب الخيل وكتب الإبل وممارسة الحروب وإيلاف الرحلتين في الشتاء والصيف في تلولهم. قد نسوا رطانة البربر واستبدلوا منها بفصاحة العرب فلا يكاد يفرق بينهم. فأولهم مما يلي تبسة قبيلة ونيقش ورئاستهم لهذا العهد في ولد يفرن بن حناش لأولاد سليم بن عبد الواحد بن عسكر بن محمد بن يفرن ثم لأولاد زيتون بن محمد بن يفرن ولأولاد دحمان بن فلان بعده. وكانت الرئاسة قبلهم لسارية من بطون ونيفن ومواطنهم ببسائط مرماجنة وتبسة وما إليهما. ويليهم قبيلة أخرى في الجانب الشرقي منهم يعرفون بقيصرون ورئاستهم في بيت بني مؤمن ما بين ولد زعازع وولد حركات ومواطنهم بفحص أبه وما إليها من نواحي الأربس. وتليهم إلى جانب الشرق قبيلة أخرى منهم يعرفون بنصورة ورئاستهم في بيت الرمامنة لولد سليمان بن جامع منهم. ويرادفهم في رئاسة نصرة قبيلة وربهامة ومواطنهم ما بين تبسة إلى حامة إلى جبل الزنجار إلى إطار على ساحل تونس وبسائطها. ويجاورهم متساحلين إلى ضواحي باجة قبيلة أخرى من هوارة يعرفون بني سليم ومعهم بطن من عرب مضر من هذيل بن مدركة بن إلياس. جاؤوا من مواطنهم بالحجاز مع العرب الهلاليين عند دخولهم إلى المغرب واستوطنوا بهذه الناحية من إفريقية واختلطوا بهوارة وحملوا في عدادهم. ومعهم أيضاً بطن آخر من بطون رياح من هلال ينتمون إلى عتبة بن مالك بن رياح صاروا في عدادهم وجروا على مجراهم من الظعن والمغرم. ومعهم أيضاً بطن من مرداس بني سليم يعرفون ببني حبيب. ويقولون: هو حبيب بن مالك. وهم غارمة مثل سائر هوارة. وضواحي إفريقية لهذا العهد معمورة بهؤلاء الظواعن. ومعظمهم من هوارة. وهم أهل بقر وشاء وركوب للخيل وللسلطان بإفريقية عليهم وظائف من الجباية وضعها عليهم دهاقين العمال بديوان الخراج قوانين مقررة وتضرب عليهم مع ذلك البعث في غزوات السلطان بعسكر مفروض يحضر بمعسكر السلطان متى استنفروا لذلك. ولرؤسائهم آراء قاطعات ومكان في الدول بين رجالات البدو ويربطون هوارة بمواطنهم الأولى من نواحي طرابلس ظواعن وآهلين توزعتهم العرب من دباب فيما توزعوه من الرعايا وغلبوهم على أمرهم منذ ضحا عملهم من ظل الدولة فتملكوهم تملك العبيد للجباية منهم والاستكثار منهم في الانتجاع والحرب مثل: ترهونة وورقلة الظواعن. ومجريس الموطنين بزرنزور من ونيفن وهي قرية من قرى طرابلس. ومن هوارة هؤلاء بآخر عمل طرابلس مما يلى بلد سرت وبرقة قبيلة يعرفون بمسراتة لهم كثرة واعتزاز ووضائع العرب عليهم قليلة ويعطونها من عزة. وكثيراً ما ينقلون في سبيل التجارة ببلاد مصر والإسكندرية. وفي بلاد الجريد من إفريقية وبأرض السودان إلى هذا العهد. واعلم أن في قبلة قابس وطرابلس جبالاً متصلاً بعضها ببعض من المغرب إلى المشرق فأولها من جانب الغرب جبل دمر يسكنه أمم من لواتة ويتصلون في بسيطه إلى فاس وصفاقس من جانب الغرب وأمم أخرى من نفوسة من جانب الشرق. وفي طوله سبع مراحل ويتصل به شرقاً جبل نفوسة تسكنه أمة كبيرة من نفوسة ومغراوة وسمراتة وهو قبلة طرابلس على ثلاث مراحل عنها. وفي طوله سبع مراحل. ويتصل به من جانب الشرق جبل مسلاتة ويعتمره قبائل هوارة إلى بلد مسراتة ويفضي إلى بلد سرت وبرقة وهو آخر جبال طرابلس. وكانت هذه الجبال من مواطن هوارة ونفوسة ولواتة. وكانت هنالك مدينة صغيرة بلد نفوسة قبل الفتح. وكانت برقة من مواطن هوارة هؤلاء. ومنهم مكان بني خطاب ملوك زويلة إحدى أمصار برقة كانت قاعدة ملكهم حتى عرفت بهم فكان يقال زويلة بن خطاب. ولما خربت انتقلوا منها إلى فزان من بلاد الصحراء وأوطنوها وكان لهم بها ملك ودولة حتى إذا جاء قراقوش الغزي الناصري مملوك تقي الدين ابن أخي صلاح الدين كما نذكر في مكانه عند ذكر الميورقي بن مسوفة وأخباره وافتتح زلة وأوجلة وافتتح فزان بعدها وتقبض على عاملها محمد بن خطاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنفل بن خطاب آخر ملوكهم وامتحنه وطالبه بالأموال وبسط عليه العذاب إلى أن هلك وانقرض أمر بني خطاب وهؤلاء الهواريين. ومن قبائل هوارة بالمغرب أمم كثيرة في مواطن من أعمال تعرف بهم وظواعن عن شاوية تنتجع لمسرحها في نواحيها وقد صاورا عبيدا للمغارم في كل ناحية. وذهب ما كان لهم من الاعتزاز والمنعة أيام الفتوحات بسبب الكثرة وصاروا إلى الافتراق في الأودية بسبب القلة والله مالك الأمور. ومن أشهرهم بالمغرب الأوسط أهل الجبل المطل على البطحاء وهو مشهور باسم هوارة وفيه من مسراتة وغيرهم من بطونهم ويعرف رؤساؤهم من بني إسحق. وكان الجبل من قبلهم فيما زعموا لبني يلومين. فلما انقرضوا صار إليه هوارة وأوطنوه وكانت رئاستهم في بني عبد العزيز منهم. ثم ظهر من بني عمهم رجل اسمه إسحق واستعمله ملوك القلعة وصارت وورث رئاسته فيهم أخوه حيون وصارت في عقبه. واتصلوا بالسلطان أيام ملك بني عبد الواد على المغرب الأوسط وانتظموا في شرائعهم. واستعمل أبو تاشفين من ملوكهم يعقوب بن يوسف بن حيون قائداً على بني توجين عندما غلبهم على أمرهم المغارم عليهم فقام بها أحسن قيام دوخ بلادهم وأذل من عزهم. وبعد أن غلب بنو مرين بني عبد الواد على المغرب الأوسط استعمل السلطان أبو الحسن عبد الرحمن بن يعقوب على قبيلة هؤلاء. ثم استعمل بعده عمه عبد الرحمن ثم ابنه محمد بن عبد الرحمن بن يوسف. ثم تلاشى حال هذا القبيل وخف ساكن الجبل بما اضطهدتهم دولة بني عبد الواد وأجحفت بهم في الظلامات. وانقرض بيت بني إسحق والأمر على ذلك لهذا العهد والله وارث الأرض ومن عليها. أزداجة ومسطاسة وعجيسة الخبر عن أزداجة ومسطاسة وعجيسة من بطون البرانس ووصف أحوالهم أما أزداجة ويعرفون أيضاً وزداجة فمن بطون البرانس وكثير من نسابة البربر يعدونهم في بطون زناتة. وقد يقال إن أزداجة من زناتة ووزداجة من هوارة وأنهما بطنان مفترقان وكان لهم وفور وكثرة. وكانت مواطنهم بالمغرب الأوسط بناحية وهران وكان لهم اعتزاز وآثار في الفتن والحروب. ومسطاسة مندرجون معهم فيقال أنهم من عداد بطونهم ويقال أنهم إخوة مسطاس أخي وزداج والله أعلم. وكان من رجالتهم المذكورين شجرة بن عبد الكريم المسطاسي وأبو دليم بن خطاب. وأجاز أبو دليم إلى الأندلس من ساحل تلمسان وكان لبنيه بها ذكر وفي فقهاء قرطبة مكان. وكان من بطون أزداجة بنو مسقن وكانوا يجاورون وهران ونزل موسى وهران من رجال الدولة الأموية محمد بن أبي عون ومحمد بن عبدون فداخلوا بني مسكن وملكوا وهران سبع سنين مقيمين فيها للدعوة الأموية. فلما ظهرت دعوة الشيعة وملك عبيد الله المهدي تاهرت وولى عليها دواس بن صولات اللهيصي من كتامة وأخفت البرابرة بدعوتهم أوعز دواس بحصار وهران فزحفوا إليها سنة سبع وتسعين وداخلوا بني مسكن في ذلك فأجابوهم وفر محمد بن أبي عون فلحق بدواس بن صولات واستبيحت وهران وأضرمت ناراً. ثم جدد بناءها دواس وأعاد محمد بن أبي عون إلى ولايتها فعادت أحسن ما كانت وأمراء تلمسان لذلك العهد من الأدارسة بنو أحمد بن محمد بن سليمان وسليمان أخو إدريس الأكبر كما ذكرناه. وكانوا يقيمون دعوة الأموية لذلك العهد. ثم ولي على تاهرت أيام أبي القاسم بن عبد الله أبا مالك يغمراسن بن أبي سمحة وانتقض عليه البربر فحاصروه عند زحف ابن أبي العافية إلى المغرب الأوسط بدعوة المروانية وكان ممن أخذ بها محمد بن أبي عون صاحب وهران وسرح أبو القاسم ميسوراً مولاه إلى المغرب وأتاه محمد بن عون بطاعته فقبلها وأقره على عمله ثم نكث محمد بن عون عند منصرف ميسور من المغرب وراجع طاعة المروانية. ثم كان شأن أبي يزيد وانتقاض سائر البرابرة على العبيديين واستفحل أمر زناتة وأخذوا بدعوة المروانيين. وكان الناصر عقد ليعلى بن أبي محمد اليفرني على المغرب فخاطبه بمراوغة محمد بن أبي عون وقبائل أزداجة في الطاعة للعداوة بين القبيلتين بالمجاورة وزحف إلى أزداجة فحصرهم بجبل كيدرة. ثم تغلب عليهم واستأصلهم وفرق جماعتهم وذلك لسنة ثلاث وأربعين وثلثمائة ثم زحف إلى وهران ونازلها ثم افتتحها عنوة وأضرمها ناراً. واستلحم أزداجة ولحق رئاستهم بالأندلس فكانوا بها وكان منهم خزرون بن محمد من كبار أصحاب المنصور بن أبي عامر وابنه المظفر وأجاز إلى المغرب وبقي أزداجة بعد ذلك على حال من الهضيمة والمذلة وانتظموا في عداد المغارم من القبائل. وأما العجيسة: وهم بطون البرانس من ولد عجيسة من برنس ومدلول هذا الاسم البطن فإن البربر يسمون البطن بلغتهم عدس بالدال المشددة فلما عربتها العرب قلبت دالها جيماً مخففة وكان لهم بين البربر كثرة وظهور وكانوا مجاورين في بطونهم لصنهاجة. وبقاياهم لهذا العهد فى ضواحي تونس والجبال المطلة على المسيلة وكانت منهم من بطون يسكنون جبل القلعة. وكان لهم في فتنة أبي يزيد أثر. ولما هزمه المنصور لجأ إليهم واعتصم بقلعة كتامة من حصونهم حتى اقتحم عليه. ثم بادرحماد بن بلكين من بعد ذلك مكاناً لبناء مدينة فاختطها بينهم ونزلها ووسع خطتها واستبحر عمرانها. وكانت حاضرة لملك آل حماد فأخلفت هذه المدينة من جدة عجيسة لما تمرست بهم وخضدت من شوكتهم وراموا كيد القلعة مراراً وأجلبوا على ملوكها بالأعياص منهم فاستلحمهم السيف. ثم هلكوا وهلكت القلعة من بعدهم وورثت مواطنهم بذلك الجبل عياض من أفاريق العرب الهلاليين وسمي الجبل بهم. وفي القبائل بالمغرب كثير من عجيسة هؤلاء مفترقون فيهم والله أعلم. اوربة الخبر عن أوربة من بطون البرانس وما كان لهم من الردة والثورة وما صار لهم من الدعاء لإدريس الأكبر وكانت البطون التي فيها الكثرة والغلب من هؤلاء البربر البتر كلهم لعهد الفتح أوربة وهوارة وصنهاجة من البرانس ونفوسة وزناتة ومطغرة ونفزاوة من البتر وكان التقدم لعهد الفتح لأوربة هؤلاء بما كانوا أكثر عدداً وأشد بأساً وقوة. وهم من ولد أورب بن برنس وهم بطون كثيرة فمنهم بجاية ونفاسة ونعجة وزهكوجة ومزياتة ورغيوة وديقوسة. وكان أميرهم بين يدي الفتح سكرديد بن زوغي بن بارزت بن برزيات. ولي عليهم مدة ثلات وسبعين سنة وأدرك الفتح الإسلامي ومات سنة إحدى وسبعين وولي عليهم من بعده كسيلة بن لزم الأوربي فكان أميراً على البرانس كلهم. ولما نزل أبو المهاجر تلمسان سنه خمس وخمسين كان كسيلة بن لزم مرتاداً بالمغرب الأقصى في جموعه من أوربة وغيرهم فظفر به أبو المهاجر وعرض عليه الإسلام فأسلم واستنقذه وأحسن إليه وصحبه. وقدم عقبة في الولاية الثانية أيام يزيد سنة اثنتين وستين فاضطغن عليه صحابته لأبي المهاجر وتقدم أبو المهاجر في اصطناعه فلم يقبل وزحف إلى المغرب. وعلى مقدمته زهير بن قيس البلوي فدوخه. ولقيه ملوك البربر ومن انضم إليه من الفرنجة بالزاب وتاهرت فهزمهم واستباحهم وأذعن له يليان أمير غمارة ولاطفه وهاداه ودله على عورات البرابرة وراءه أبو ليلة والسوس وما والاهما من مجالات الملثمين فغنم وسبى وانتهى إلى ساحل البحر وقفل ظافراً. وكان في غزاتة تلك يستهين كسيلة ويستخف به وهو في اعتقاله. وأمره يوماً بسلخ شاة بين يديه فدفعها إلى غلمانه وأراده عقبة على أن يتولاها بنفسه وانتهره فقام إليها كسيلة مغضباً. وجعل كلما دس يده في الشاة يمسح بلحيته والعرب يقولون ما هذا يا بربري فيقول: هذا جيد للشعر فيقول لهم شيخ منهم إن البربري يتوعدكم. وبلغ ذلك أبا المهاجر فنهى عقبة عنه وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألف جبابرة العرب وأنت تعمد إلى رجل جبار في قومه بدار عزة قريب عهد بالشرك فتفسد قلبه وأشار عليه بأن يوثق منه. وخوفه فتكه فتهاون عقبة بقوله. فلما قفل عن غزاته وانتهى إلى طبنة صرف العساكر إلى القيروان أفواجاً ثقة بما دوخ من البلاد وأذل من البربر حئى بقي في قليل من الناس. وسار إلى تهودة أوبادس لينزل بها الحامية. فلما نظر إليه الفرنجة طمعوا فيه وراسلوا كسيلة بن لزم ودلوه على الفرصة فيه فانتهزها وراسل بني عمه ومن تبعهم من البربر واتبعوا عقبة وأصحابه رضي الله عنه حتى إذا غشوه بتهودة ترجل القوم وكسروا أجفان سيوفهم ونزل الصبر واستلحم عقبة وأصحابه رضي الله عنهم ولم يفلت منهم أحد وكانوا زهاء ثلثمائة من كبار الصحابة والتابعين استشهدوا في مصرع واحد وفيهم أبو المهاجر كان أصحبه في اعتقاله فأبلى رضي الله عنه في ذلك اليوم البلاء الحسن وأجداث الصحابة رضي الله عنهم أولئك الشهداء عقبة وأصحابه بمكانهم ذلك من أرض الزاب لهذا العهد. وقد جعل على قبر أسنمة ثم جصص واتخذ عليه مسجد عرف باسمه وهو في عدد المزارات ومظان البركة بل هو أشرف مزور من الأجداث في بقاع الأرض لما توفر فيه من عدد الشهداء من الصحابة والتابعين الذين لا يبلغ أحد مد أحدهم ولا نصيفه. وأسر من الصحابة يومئذ محمد بن أويس الأنصاري ويزيد بن خلف القيسي ونفر معهم ففداهم ابن مصاد صاحب قفصة. وكان زهير بن قيس البلوي بالقيروان وبلغه الخبر فخرج هارباً وارتحل بالمسلمين ونزل برقة وأقام بها ينتظر المدد من الخلفاء. واجتمع إلى كسيلة جميع أهل المغرب من البربر والفرنجة وزحف إلى القيروان فخرج العرب منها ولحقوا بزهير بن قيس وبقي بها أصحاب الذراري والأثقال فأمنهم ودخل القيروان وأقام أميراً على إفريقية ومن بقي بها من العرب خمس سنين. وقارن ذلك مهلك يزيد بن معاوية وفتنة الضحاك بن قيس مع المروانية بمرج راهط وحروب آل الزبير فاضطرب أمر الخلافة بعض الشيء واضطرم المغرب ناراً وفشت الردة في زناتة والبرانس. ثم استقل عبد الملك بن مروان من بعد ذلك بالخلافة وأذهب بالمشرق آثار الفتنة. وكان زهير بن قيس مقيماً ببرقة مند مهلك عقبة فبعث إليه بالمدد وولاه حرب البرابرة والثأر بدم عقبة فزحف إليها في آلاف من العرب سنة سبع وستين. وجمع كسيلة البرانس وسائر البربر ولقيه بجيش من نواحي القيروان واشتد القتال بين الفريقين. ثم انهزم البربر وقتل كسيلة ومن لا يحصى منهم واتبعهم العرب إلى مرماجنة ثم إلى ملوية وذل البربر ولجأوا إلى القلاع والحصون وخضدت شوكة أوربة من بينهم واستقر جمهورهم بديار المغرب الأقصى فلم يكن بعدها لهم ذكر. واستولوا على مدينة وليلى بالمغرب وكانت ما بين موضع فاس ومكناسة بجانب جبل زرهون وأقازا على ذلك والجيوش من القيروان تدوخ المغرب مرة بعد أخرى إلى أن خرج محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي أيام المنصور وقتل بالمدينة سنة خمس وأربعين. ثم خرج بعده ابن عمه حسين بن علي بن حسن المثلث بن حسن المثنى بن الحسن السبط أيام الهادي وقتل بفخ على ثلاثة أميال من مكة سنة تسع وستين ومائة واسلتحم كثير من أهل بيته. وفر إدريس بن عبد الله إلى المغرب ونزل على أوربة سنة اثنتين وسبعين وأميرهم يومئذ أبو ليلى إسحق بن محمد بن عبد الحميد منهم فأجاره وجمع البرابر على دعوته. واجتمعت عليه زواغة ولواتة وسدراتة وغياتة ونفزة ومكناسة وغمارة وكافة برابرة المغرب فبايعوه وائتمروا بأمره. وتم له الملك والسلطان بالمغرب وكانت له الدولة التي ورثها أعقابه إلى حين انقراضها كما ذكرنا في دولة الفاطميين والله تعالى أعلم. كتامة |
الخبرعن كتامة من بطون البرانس
وما كان لهم من العز والظهور عل القبائل وكيف تناولوا الملك من أيدي الأغالبة بدعوة الشيعة هذا القبيل من قبائل البربر بالمغرب وأشدهم بأساً وقوة وأطولهم باعاً في الملك عند نسابة البربر من ولد كتام بن برنس ويقال كتم ونسابة العرب يقولون إنهم من حمير ذكر ذلك ابن الكلبي والطبري. وأول ملوكهم أفريقش بن قيس بن صيفي من ملوك التبابعة وهو الذي افتتح إفريقية وبه سميت وقتل ملكها جرجير وسمي البربر بهذا الاسم كما ذكرناه. ويقال أقام في البربر من حمير صنهاجة وكتامة فهم إلى اليوم فيهم وتشعبوا في المغرب وانبثوا في نواحيه إلا أن جمهورهم كانوا لأول الملة بعد تهييج الردة وطيخة تلك الفتن موطنين بأرياف قسطنطينية إلى تخوم غرباً إلى جبل أوراس من ناحية القبلة. وكانت بتلك المواطن بلاد مذكورة أكثرها لهم وبين ديارهم ومجالات تقلبهم مثل أبكجان وسطيف وباغاية ونقاوس ويلزمة وميلة وقسطنطينة والسيكرة والقل وجيجل من حدود جبل أوراس إلى سيف البحر ما بين بجاية وبونة. وكانت بطونهم كثيرة يجمعها كلها غرسن ويسودة ابنا كتم بن برنس فمن يسوده فلاسة ودنهاجة ومتوسة ووريسن كلهم بنو بسودة بن كتم. وإلى دنهاجة ينسب كتامة بالمغرب لهذا العهد. ومن غرسن مصالة وقلان وما وطن ومعاذ بنو غرسن ولهيصة وجيملة ومسالته بنو يناوة بن غرسن وإجانة وغسمان وأوفاس بنو ينطاسن بن غرسن وملوسة من أيان بن غرسن. ومن ملوسه هؤلاء بنو زلدوي أهل الجبل المطل على قسطنيطينة لهذا العهد. وبعد البرابرة من كتامة بنو يستيتن وهشتيوة ومصالة وبني وعد ابن حزم منهم زواوة بجميع بطونهم وهو الحق على ما تقدم. وكان من هذه البطون بالمغرب الأقصى كثير منتدبون عن مواطنهم وهم بها إلى اليوم ولم يزالوا بهذه المواطن وعلى هذه الحالة من لدن ظهور الملة وملك المغرب إلى دولة الأغالبة. ولم تكن الدولة تسومهم بهضيمة ولا ينالهم تعسف لاعتزازهم بكثرة جموعهم كما ذكره ابن الرقيق في تاريخه إلى أن كان من قيامهم في دعوة الشيعة ما ذكرناه في دولتهم عند ذكر دولة الفاطميين إثر دولة بني العباس فأنظره هنالك وتصفحه تجد تفصيله. ولما صار لهم الملك بالمغرب زحفوا إلى المشرق فملكوا الإسكندرية ومصر والشام واختطوا القاهرة أعظم الأمصار بمصر وارتحل المعز رابع خلفائهم وارتحل معه كتامة على قبائلهم واستفحلت الدولة هنالك وهلكوا في ترفها وبذخها. وبقي في مواطنهم الأولى بجبل أوراس وجوانبه من البسائط بقايا من قبائل أسمائها وألقابها والآخرون بغير لقبهم وكلهم رعايا معبدون للمغارم إلا من اعتصم بفتنة الجبل مثل بني زلدوي بجبالهم وأهل جبال جيجل وزواوة وزواوة أيضاً في جبالهم. وأما البسائط فأشهر من فيها منهم قبائل سدويكش ورئاستهم في أولاد سواق. ولاأدري إلى من يرجعون من قبائل كتامة المسمين في هذا الكتاب. إلا أنهم منهم باتفاق من أهل الأخبار. ونحن الآن ذاكرون ما عرفناه من أخبارهم المتأخرة بعد دولة كتامة والله تعالى ولي العون. سدويكش الخبر عن سدويكش ومن إليهم من بقايا كتامة في مواطنهم هذا الحي لهذا العهد وما قبله من العصور يعرفون بسدويكش وديارهم في مواطن كتامة ما بين قسطنطينة وبجاية في البسائط منها ولهم بطون كثيرة مثل سيلين وطرسون وطرغيان وموليت وبني فتنة وبني لمائي وكايارة وبني زغلان والبؤرة وبني مروان وواركسن وسكرال وبني عياد وفيهم من لماية ومكلاتة وريغة والرياسة على جميعهم في بطن منهم يعرفون أولاد سواق لهم جمع وقوة وعدد وعدة. وكان جميع هذه البطون وعيالهم غارمة فيمتطون الخيل ويسكنون الخيام ويظعنون على الإبل والبقر ولهم مع الدول في ذلك الوطن استقامة. وهذا شأن القبائل الأعراب من العرب. لهذا العهد. وهم ينتفون من نسب كتامة ويفرون منه لما وقع منذ أربعمائة سنة من النكير على كتامة بانتحال الرافضة وعداوة الدولة بعدهم فيتفادون بالانتساب إليهم. وربما انتسبوا في سليم من قبائل مضر وليس ذلك بصحيح. وإنما هم من بطون كتامة وقد ذكرهم مؤرخو صنهاجة بهذا النسب ويشهد لذلك الموطن الذي استوطنوه من إفريقية. ويذكر نسابتهم ومؤرخوهم أن موطن أولاد سواق منهم كان في قلاع بني بو خصرة من نواحي قسطنطينة ومنه انتقلوا وانتشروا في سائر تلك الجهات. وأولاد سواق بطنان وهم: أولاد علاوة بن سواق وأولاد يوسف بن حمو بن سواق. فأما أولاد علاوة فكانت الرئاسة على قبائل سدويكش لهم فيما سمعناه من مشيختنا وأن ذلك كان لعهد دولة الموحدين وكان منهم علي بن علاوة وبعده ابنه طلحة بن علي وبعده أخوه يحيى بن علي وبعده أخوهما منديل بن وعزل تاريز ابن أخيه طلحة. ولما بويع السطان أبو يحيى بقسطنطينة سنة عشر من هذه المائة وقع من تاريز انحراف عن طاعته واعتلق بطاعة ابن الخلوف ببجاية فقدم عوضاً منه عمه منديل. ثم استبدل منهم أجمعين بأولاد يوسف فشمروا في طاعته وأبلوا وغلب السلطان على بجاية وقتل ابن الخلوف ظهر أولاد يوسف وزحموا أولاد علاوة وأخرجوهم من الوطن فصاروا إلى عياض من أفاريق هلال وسكنوا في جوارهم بجبلهم الذي أوطنوه المطل على المسيلة. واتصلت الرئاسة على سدويكش في أولاد يوسف. وهم لهذا العهد أربع قبائل: بنو محمد بن يوسف وبنو المهدي وبنو إبراهيم بن يوسف والعزيزيون وهم بنو منديل وظافر وجري وسيد الملوك والعباس وعيسى والستة أولاد يوسف وهم أشقاء وأمهم تاعزيزت فنسبوا إليها. وأولاد محمد والعزيزيون يوطنون بنواحي بجاية وأولاد المهدي وإبراهيم بنواحي قسطنطينة. وما زالت الرئاسة في هذه القبائل الأربع تجتمع تارة في بعضهم وتفترق أخرى إلى هذا العهد. وكانت الأخرى دولة مولانا السلطان أبي يحيى اجتمعت رئاستهم لعبد الكريم بن منديل بن عيسى بن العزيزيين. ثم افترقت واستقل كل بطن من هؤلاء الأربعة برئاسة وأولاد علاوة في خلال هذا كله بجبل عياض. ولما تغلب بنو مرين على إفريقية أنكر السلطان أبو عنان أولاد يوسف ورماهم بالميل إلى الموحدين وصرف الرئاسة على سدويكش إلى مهنا بن تاريز بن طلحة من أولاد علاوة فلم يتم له ذلك وقتله أولاد يوسف. ورجع أولاد علاوة إلى مكانهم من جبل عياض. وكان رئيسهم لهذه العصور عدوان بن عبد العزيز بن زروق بن علي بن علاوة وهلك ولم تجتمع رئاستهم بعده لأحد. وفي بطون سدويكش هؤلاء بطن مرادف أولاد سواق في الرئاسة على أحيائهم وهم بنو سكين. ومواطنهم في جوار لواتة بجبل تابور وما إليه من نواحي بجاية ورياستهم في بني موسى بن ثابر منهم. أدركنا ابنه صخر بن موسى واختصه السلطان أبو يحيى بالرئاسة على قومه وكان له مقامات في خدمته. ثم عرف. بعده في الوفاء ابنه الأمير أبو حفص فلم يزل معه إلى أن وقع به بنو مرين بناحية قابس وجيء به مع أسرى الوقيعة فقطعه السلطان أبو الحسن من خلاف وهلك بعد ذلك وقام برئاسته ابنه عبد الله وكان له فيها وفي خدمة السلطان ببجاية شأن إلى أن هلك لأعوام ثمانين وولي ابنه محمد من بعده والله وارث الأرض ومن عليها. |
الخبر عن بني ثابت
أهل الجبل المطل علي قسطنطينة من بقايا كتامة ومن بطون كتامة وقبائلهم أهل الجبل المطل على القل ما بينه وبين قسطنطينة المعروف برئاسة أولاد ثابت بن حسن بن أبي بكر من بني تليلان. ويقال إن أبا بكر هذا الجد هو الذي فرض المغرم على أهل هذا الجبل لأيام الموحدين ولم يكن قبل ذلك عليه مغرم - فلما انقرض ملك صنهاجة وغلب الموحدون على إفريقية وفد أبو بكر هذا على الخليفة بمراكش ونجع بالطاعة والانقياد وتقرب إليه بفرض المغرم على قبيلة بالجبل وكان لثابت هذا من الولد علي وحسن وسلطان وإبراهيم كلهم رأسوا بالجبل. وأما حسن منهم فحجب السلطان أبا يحيى لأول دولته وفي عنيته. ولابن عمر لدولة طرابلس أعوام إحدى عشر وسبعمائة كما نذكره. فلما تملك السلطان بجاية وقتل ابن خلوف ورجع ابن عمر من تونس إلى حجابته وجد حسن بن ثابت معسكراً بفرجيوة لانقضاء مغارم الوطن فبعث إليه من قتله. وكان آخرهم رئاسة بالجبل علي أدرك دولة بني مرين بإفريقية. وولي بعده ابن عبد الرحمن. ووفد على السلطان أبي عنان بفاس. ولما استجد مولانا السلطان أبو العباس دولته بإفريقية استولى عليهم ومحا أثر مشيختهم ورئاستهم وصيرهم من عداد جنده وحاشيته. واستعمل في الجبل عماله وهو جبل مطاوع وجبايته مؤداة لصولته وجواره للعسكر بقسطنطينة. ومن بقايا كتامة أيضاً قبائل أخرى بناحية تدلس في هضابه مكتنفة بها وهم في عداد القبائل الغارمة. وبالمغرب الأقصى منهم قبيلة من بني يستيتن بجبل قبلة جبل يزناسن وقبيلة أخرى بناحية الهبط مجاورون لقصر ابن عبد الكريم وقبائل أخرى بناحية مراكش نزلوا مع صنهاجة هنالك. ونسب كتامة لهذا العهد بين القبائل المثل السائر في الدولة لما نكرتهم الدول من بعدهم أربعمائة سنة بانتحالهم الرافضة ومذاهبها الكفرية حتى صار كثير من أهل نسبهم يفرون منه وينتسبون فيمن سواهم من القبائل فراراً من هجنته والعزة لله وحده. هذا البطن من أكبر بطون البربر ومواطنهم كما تراه محتفة ببجاية إلى تدلس في جبال شاهقة وأوعار متسنمة ولهم بطون وشعوب كثيرة ومواطنهم متصلة بمواطن كتامة وهؤلاء وأكثر الناس جاهلون بنسبهم. وعامة نسابة البربر على أنهم من بني سمكان بن يحيى بن ضريس وأنهم إخوة زواغة. والمحققون من النسابة مثل ابن حزم وأنظاره إنما يعدونهم في بطون كتامة وهو الأصوب. والمواطن أوضح دليل عليه. وإلا فأين مواطن زواغة وهي طرابلس. وبالمغرب الأقصى من موطن كتامة. وإنما حمل على الغلط في نسبهم إلى كتامة تصحيف اسم زوازة بالزاي بعد الواو وهم إخوة زواغة بلا شك فصحف هذا القارىء الزاي بالواو فعد زواوة إخوان زواغة. ثم استمر التصحيف وجمعا في نسب سمكان والله أعلم وقد مر ذكرهم هنالك مع ذكر زواغة وتعديد بطونهم. صنهاجة الخبر عن صنهاجة من بطون البرانس وما كان لهم من الظهور والدول في بلاد المغرب والأندلس هذا القبيل من أوفر قبائل البربر وهو أكثر أهل الغرب لهذا العهد وما قبله لا يكاد قطر من أقطاره يخلو من بطن من بطونهم في جبل أو بسيط حتى لقد زعم كثير من الناس أنهم الثلث من أمم البربر. وكان لهم في الردة ذكر وفي الخروج على الأمراء بإفريقية شأن تقدم منه في صدر ذكر البرابر ونذكر منه هنا ما تيسر. وأما ذكر نسبهم فإنهم من ولد صنهاج وهو صناك بالصاد المشمة بالزاي والكاف القريبة من الجيم. إلا أن العرب عربته وزادت فيه الهاء بين النون والألف فصار صنهاج. وهو عند نسابة البربر من بطون البرانس من ولد برنس بن بر وذكر ابن الكلبي والطبري أنهم وكتامة جميعاً من حمير كما تقدم في كتامة وفيما نقل الطبري في تاريخه أنه صنهاج بن يصوكان بن ميسور بن الفند بن أفريقش بن قيس. وبعض النسابة يزعم أنه صنهاج بن المثنى بن المنصور بن المصباح بن يحصب بن مالك بن عامر بن حمير الأصغر من سبأ كذا نقل ابن النحوي من مؤرخي دولتهم وجعله ليحصب. وقد مر ذكره في أنساب حمير وليس كما ذكر والله أعلم. وأما المحققون من نسابة البربر فيقولون هو صنهاج بن عاميل بن زعزاع بن كيمتا بن سدر بن مولان بن يصلين بن يبرين بن مكسيلة بن دهيوس بن حلحال بن شرو بن مصرايم بن حام. ويزعمون أن جزول واللمط وهكسور إخوة صنهاج وأن أمهم الأربعة تصكي وبها يعرفون. وهي بنت زحيك بن مادغس ويقال لها العرجاء. فهذه القبائل الأربعة من القبائل إخوة لأم والله أعلم. وأما بطون صنهاجة فكثيرة فمنهم بلكانة وأنجفة وشرطة ولمتونة ومسوفة وكدالة ومندلة وبنو وارث وبنو يتيسن. ومن بطون أنجفة بنو مزوارت وبنو سليب وفشتالة وملوانة. هكذا يكاد نقل بعض نسابة البربر في كتبهم وذكر آخرون من مؤرخي البربرأن بطونهم تنتهي إلى سبعين بطنا. وذكر ابن الكلبي والطبري أن بلادهم بالصحراء مسيرة ستة أشهر. وكان أعظم قبائل صنهاجة تلكانة وفيهم كان الملك الأول. وكانت مواطنهم ما بين المغرب الأوسط وإفريقية وهم أهل مدر. ومواطن مسوفة ولمتونة وكدالة وشرطة بالصحراء وهم أهل وبر. وأما أنجفة فبطونهم مفترقة وهم أكثر بطون صنهاجة. ولصنهاجة ولاية لعلي بن أبي طالب كما أن لمغراوة ولاية لعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما إلا أنا لا نعرف سبب هذه الولاية ولا أصلها. وكان من مشاهيرهم في الدولة الإسلامية ثابت بن وزريون ثار بإفريقية أيام السفاح عند انقراض الأموية: وعبد الله بن سكرديرلك وعباد صادق من قواد حماد بلكين وسليمان بن بطعتان بن عليان أيام باديس بن بلكين. وبنو جدون وزاريني حماد وهو حمدون بن سليمان بن محمد بن علي بن عليم. منهم ميمون بن جميل ابن أخت طارق مولى عثمان بن عفان صاحب فتح الأندلس في آخرين يطول ذكرهم. وكان الملك في صنهاجة في طبقتين: الطبقة الأولى تلكاتة ملوك إفريقية والأندلس والثانية مسوفة ولمتونة من الملثمين ملوك المغرب المسمون بالمرابطين ويأتي الطبقة الأولى من صنهاجة وما كان لهم من الملك كان أهل هذه الطبقة بنو ملكان بن كرت وكانت مواطنهم بالمسيلة إلى حمرة إلى الجزائر ولمدية ومليناتة من مواطن بني يزيد وحصين والعطاف من زغبة ومواطن الثعالبة لهذا العهد. وكان معهم بطون كثيرة من صنهاجة أعقابهم هنالك من متنان وأنوغة وبنو عثمان وبنو مزغنة وبنو جعد وملكانة وبطوية وبنو يفرن وبنو خليل وبعض أعقاب ملكانة بجهات بجاية ونواحيها وكان التقدم منهم جميعاً لتلكانة وكان كبيرهم لعهد الأغالبة مناد بن منقوش بن صنهاج الأصغر وهو صناك بن واسفاق بن جبريل بن يزيد بن واسلي بن سمليل بن جعفر بن إلياس بن عثمان بن سكاد بن ملكان بن كرت بن صنهاج الأكبر هكذا نسبه ابن النحوي من مؤرخي الأندلس وذكر بعض مؤزخي المغرب: أن مناد بن منقوش ملك جانباً من إفريقية والمغرب الأوسط مقيماً لدعوة بني العباس وراجعاً إلى أمر الأغالبة. وأقام أمره من بعده ابنه زيري بن مناد وكان من أعظم ملوك البربر. وكانت بينه وبين مغراوة من زناتة المجاورين له من جهة المغرب الأوسط كما نذكر حروب وفتن طويلة. ولما استوسق الملك للشيعة بإفريقية تحيز إليهم للولاية التي لعلي رضي الله عنه فيهم. وكان من أعظم أوليائهم واستطال بهم على عدوه من مغراوة فكانوا ظهراً له عليهم. وانحرفت لذلك مغراوة وسائر زناتة عن الشيعة سائر أيامهم وتحيزوا إلى المروانيين ملوك العدوة بالأندلس فأقاموا دعوتهم بالمغرب الأوسط والأقصى كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. ولما كانت فتنة أبي يزيد والتاث أمر العبيديين بالقيروان والمهدية كان لزيري بن مناد منافرة إلى الخوارج أصحاب أبي يزيد وأعقابهم وتسريب الحشود إلى مناصرة العبيديين بالقيروان كما ستراه. واختط مدينة أشير للتحصن بها سفح الجبل تيطراً لهذا العهد حيث مواطن حصين وحصنها بأمر المنصور وكانت من أعظم مدن المغرب. واتسعت بعد ذلك خطتها واستبحر عمرانها ورحل إليها العلماء والتجار من القاصية. وحين نازل أبا إسمعيل المنصور أبا يزيد لقلعة كتامة جاءه زيري في قومه ومن انضم إليه من حشود البربر وعظمت نكايته في العدو وكان الفتح. وصحبه المنصور إلى أن انصرف من المغرب ووصله بصلات سنية. وعقد له على قومه وأذن له في اتخاذ القصور والمنازل والحمامات بمدينة أشير. وعقد له على تاهرت وأعمالها. ثم اختط ابنه بلكين بأمره وعلى عهده مدينة الجزائر المنسوبة لبني مزغنة بساحل البحر ومدينة مليانة بالعدوة الشرقية من شلف ومدينة لمدونة. وهم بطن من بطون صنهاجة وهذه المدن لهذا العهد من أعظم مدن المغرب الأوسط ولم يزل زيري على ذلك قائماً بدعوة العبيديين منابذاً لمغراوة واتصلت الفتنة فيهم. ولما نهض جوهر الكاتب إلى المغرب الأقصى أيام معد المعز لدين الله أمره أن يستصحب زيري بن مناد فصحبه إلى المغرب وظاهره على أمره. ولما قتل يعلى بن محمد اليفرني اتهمه زناتة بالممالأة عليه. ولما نزل جوهر فاس وبها أحمد بن بكر الجذامي وطال حصاره إياها كان لزيري في حصارها أعظم العناء وكان فتحها على يده. سهر ذات ليلة وصعد سورها فكان الفتح. ولما استمرت الفتنة بين زيري بن مناد ومغراوة ووصلوا أيديهم بالحكم المستنصري وأقاموا الدعوة المروانية بالمغرب الأوسط وشمر محمد بن الخير بن محمد بن خزر لذلك رماه معد بقريعة زيري وقومه من صنهاجة وعقد له على المغرب إقطع له ما افتتح من أقطاره فنهض زيري في قومه واحتشد أهل وطنه وقد جمع له محمد بن الخير وزناتة فسرح إليهم ولده بلكين في مقدمة وعارضهم قبل استكمالهم لتعبئة فدارت بينهم حرب شديدة بعد العهد بمثلها يومئذ. واختل مصاف مغراوة وزناتة. ولما أيقن محمد بن الخير بالمهلكة وعلم أنه أحيط به مال إلى ناحية من العسكر وتحامل على سيفه فذبح نفسه وانفض جموع زناتة واستمرت الهزيمة عليهم سائر يومهم فاستلحموا ومكثت عظامهم ماثلة بمصارعهم عصوراً. وهلك فيما زعموا بضعة عشر أميراً منهم وبعث زيري برؤوسهم إلى المعز بالقيروان فعظم سروره وغم لها الحكم المستنصري صاحب الدعوة بما أوهنوا من أمره. استطال زيري وصنهاجة على بوادي المغرب وعلت يده على جعفر بن علي صاحب المسيلة والزاب وسما به في الرتب عند الخلافة وتاخمه في العمالة. واستدعى معد جعفر بن علي من المسيلة لتولية إفريقية حين اعتزم على الرحيل إلى القاهرة فاستراب بما كانت السعاية كبرت فيه. وبعث معد المعز بعض مواليه فخافه جعفر على نفسه وهرب من المسيلة ولحق بمغراوة فاشتملوا عليه وألقوا بيده زمام أمرهم وقام فيهم بدعوة الحكم المستنصري وكانوا أقدم لها إجابة. وفاوضهم زيري الحرب قبل استفحالهم فزحف إليهم واقتتلوا قتالاً شديداً. وكانت على زيري الدبرة وكبا به فرفسه وأجلت الهزيمة عن مصرعه ومصارع حاميته من قومه فحزوا رأسه وبعثوا به إلى الحكم المستنصري بقرطبة في وفد أوفدوه عليه من أمرائهم يؤدون الطاعة ويؤكدون البيعة ويجمعون لقومهم النصرة. وكان مقدم وفدهم يحيى بن علي أخو جعفر هذا كما ذكرناه. وهلك زيري هذا سنة ستين وثلثمائة لست وعشرين سنة من ولايته. ولما وصل خبره إلى ابنه بلكين وهو بأشير نهض إلى زناتة ودارت بينهم حرب شديدة فانهزمت زناتة وثأر بلكين بأبيه وقومه واتصل ذلك بالسلطان فحمد أثره وعقد له على عمل أبيه بأشير وتيهرت وسائر أعمال المغرب وضم إليه المسيلة والزاب وسائر عمل جعفر فاستعتب واستفحل أمره واتسعت ولايته وأثخن في البربر أهل الخصوص من مزاتة وهوارة ونفرة وتوغل في المغرب في طلب زناتة فأثخن فيهم. ثم رجع واستقدمه السلطان لولاية إفريقية فقدم سنة إحدى وستين واستبلغ السلطان في تكريمه ونفس ذلك عليه كتامة. ثم نهض السلطان إلى القاهرة واستخلفه كما نذكره. وكان ذلك أول دولة آل زيري بإفريقية والله تعالى أعلم. |
دولة آل زيري بن مناد
الخبر عن دولة آل زيري بن مناد ولاة العبيديين من هذه الطبقة بإفريقية وأولية أمرهم وتصاريف أحوالهم لما أخذ المعز في الرحلة إلى المشرق وصرف اهتمامه إلى ما يتخلف وراء ظهره من الممالك والعمالات ونظر فيمن يوليه أمر إفريقية والمغرب ممن له الغناء والاضطلاع وبه الوثوق من صدق التشييع ورسوخ القدم في دراية الدولة فعثر اختياره على بلكين بن زيري بن مناد ولي الدولة منذ عهد سلفه بموجب عهد أخذه من أيدي زناتة أعدائها في سبيل الذب عن الدعوة والمظاهرة للدولة. دولة بلكين بن زيري فبعث خلف بلكين بن زيري وكان متوغلاً في المغرب في حروب زناتة وولاه أمر إفريقية والمغرب ما عدا صقلية كانت لبني أبي الحسين الكلبي وطرابلس لعبد الله بن يخلف الكتامي وسماه يوسف بدلاً من بلكين. وكناه أبا الفتوح ولقبه سيف الدولة ووصله بالخلع والأكسية الفاخرة. وحمله على مقرباته بالمراكب الثقيلة وأنفذ أمره في الجيش والمال وأطلق يده في الأعمال. وأوصاه بثلاث: أن لا يرفع السيف عن البربر ولا يرفع الجباية عن أهل البادية ولا يولي أحداً من أهل بيته. وعهد إليه أن يفتح أمره بغزو المغرب لحسم دائه وقطع علائق الأموية منه. وارتحل يريد القاهرة سنة اثنتين وستين ورجع عنه بلكين من نواحي صفاقس فنزل قصر معد بالقيروان واضطلع بالولاية. وأجمع غزو المغرب فغزاه في جموع صنهاجة ومخلف كتامة وارتحل إلى المغرب وفر أمامه ابن خزر صاحب المغرب الأوسط إلى سجلماسة. وبلغه خلاف أهل تاهرت وإخراج عامله فرحل إليها وخربها. ثم بلغه أن زناتة اجتمعوا إلى تلمسان فرحل إليهم فهربوا أمامه ونزل على تلمسان فحاصرها حتى نزل أهلها على حكمه ونقلهم إلى أشير. وبلغه كتاب معد ينهاه عن التوغل في المغرب فرجع. ولما كان سنة سبع وستين رغب بلكين من الخليفة نزار بن المعز أن يضيف إليه عمل طرابلس وسرت وأجدابية فأجابه إلى ذلك وعقد له عليها. ورحل عنها عبد الله بن يخلف الكتامي وولى بلكين عليه من قبله. ثم ارتحل بلكين إلى المغرب وفرت أمامه زناتة فملك فاس وسجلماسة وأرض الهبط وطرد منها عمال بني أمية. ثم غزا جموع زناتة بسجلماسة وأوقع بهم وتقبض على ابن خزر أمير مغراوة فقتله. وأجفل ملوكهم أمامه مثل بني يعلى بن محمد اليفرني وبني عطية بن عبد الله بن خزر وبني فلفول بن خزر ويحيى بن علي بن حمدون صاحب البصرة. وبرزوا جميعاً بقياطينهم إلى سبتة وبعثوا الصريخ إلى المنصور بن أبي عامر فخرج بعساكره إلى الجزيرة الخضراء. وأمدهم بمن كان في حضرته من ملوك زناتة ورؤسائهم النازعين إلى خلفاء الأموية بالأندلس بقرطبة بالمقام في سبيل الطاعة واغتنام فضل الرباط بثغور المسلمين في إيالة الخلفاء. واجتمعت منهم وراء البحر أمم مع ما انضم إليهم من العساكر والحشود. وأجازهم البحر لقصر جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة وعقد له على حرب بلكين وأمده بمائة حمل من المال فتعاقد ملوك زناتة واجتمعوا إليه وضربوا مصاف القتال بظاهر سبتة. وهرع إليهم المدد من الجزيرة من عساكر المنصور وكادوا يخوضون البحر من فراض الزقاق إلى مظاهرة أوليائهم من زناتة. ووصل بلكين إلى تيطاور وتسنم هضابها وقطع شعراءها لنهج المسالك والطرق لعسكره حتى أطل على معسكرهم بظاهر ستبة فرأى ما هاله واستيقن امتناعهم. ويقال أنه لما عاين سبتة من مستشرفه ورأى اتصال المدد من العدوة إلى معسكرهم بها قال: هذه أفعى فغزت إلينا فاها وكر راجعاً على عقبه. وكان موقفه ذلك أقصى أثره. ورجع إلى البصرة فهدمها وكانت دار ملك ابن الأندلسي وبها عمارة عظيمة. ثم انفتح باب في جهاد برغواطة فارتحل إليهم وشغل بجهادهم وقتل ملكهم عيسى بن أبي الأنصار كما نذكره. وأرسل بالسبي إلى القيروان وأذهب دعوة بني أمية من نواحي المغرب وزناتة مشردون بالصحراء إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين بوراكسن ما بين سجلماسة وتلمسان منصرفاً من هنه الغارة الطويلة. دولة منصور بن بلكين ولما توفي بلكين بعث مولاه أبو زغبل بالخبر إلى ابنه المنصور وكان والياً باشير وصاحب عهد أبيه فقام بأمر صنهاجة من بعده ونزل صيره وقلده العزيز نزار بن معد أمر إفريقية والمغرب على سنن أبيه وعقد لأخيه أبي البهارعلى تاهرت ولأخيه يطوفت على أشير وسرحه بالعساكر إلى المغرب الأقصى سنة أربع وسبعين يسترجعه من أيدي زناتة. وقد بلغه أنهم ملكوا سجلماسة وفاس زيري بزو عطية المغراوي الملقب بالقرطاس أمير فاس فهزمه ورجع إلى أشير. وأقصى المنصور بعدها عن غزو المغرب وزناتة واستقل به ابن عطية وابن خزرون وبدر بن ثم رحل بلكين إلى رقادة وفتك بعبد الله بن الكاتب عامله وعامل أبيه على القيروان لهنات كانت منه وسعايات أنجحت فيه فهلك سنة تسع وسبعين وولي مكانه يوسف بن أبي محمد وكثر التواتر بكتابه فقتلهم وأثخن فيهم حتى أذعنوا وأخرج إليهم العمال وعقد لأخيه حماد على أشير. وطالت الفتنة مع زناتة ونزل إليه منهم سعيد بن خزرون. ولم يزل سعيد بطبغة إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وولي ابنه فلفول بن سعيد. وخالف أبو البهار بن زيري سنة تسع وسبعين فزحف إليه المنصور وفر بين يديه إلى المغرب. وأمد المنصور أهل تاهرت ومضى في اتباع أبي البهار حتى نفد عسكره وأشير عليه بالرجوع فرجع. وبعث أبو البهار إلى أبي عامر صاحب الأندلس في المظاهرة والمدد واسترهن ابنه في ذلك فكتب زيري بن عطية صاحب دعوة الأموية من زناتة بفاس أن يكون معه يداً واحدة فظاهره زيري واتفق رأيهما مدة وحاربهما بدر بن يعلى فهزماه وملكا فاس وما حولها. ثم اختلفت ذات بينهما سنة اثنتين وثمانين ورجع أبو البهار إلى قومه. ووفد على المنصور سنة اثنتين وثمانين بالقيروان فأكرمه ووصله وأنزله أحسن نزل وعقد له على تاهرت. ثم هلك المنصور سنة خمس وثمانين. دولة باديس بن المنصور ولما هلك المنصور قام بأمره ابنه باديس وعقد لعمه يطوفث على تاهرت وسرح عساكره لحرب زناتة مع عميه يطوفت وحماد فولوا منهزمين أمام زناتة إلى أشير. ونهض بنفسه سنة تسع وثمانين لحرب زيري بن عطية راجعاً إلى المغرب فولى باديس أخاه يطوفت على تاهرت وأشير وخالد عليه عمومته ماكسن وزاوي وحلال ومعتز وعزم واستباحوا عسكر يطوفت وأفلت منهم. ووصل أبو البهار متبرئاً من شأنهم. وشغل السلطان باديس بحرب فلفول بن سعيد كما نذكره في أخبار بني خزرون وسرح عمه حماداً لحرب بني زيري إخوته. ووصل بنو زيري أيديهم بفلفول ثم رجعوا إلى حماد فهزمهم وتقبض على ماكسن منهم بأطمة الكلاب وقتل أولاد الحسن وباديس كذا ذكر ابن حزم. ونجا فلهم إلى جبل سنوة فنازلهم حماد أياماً وعقد لهم السلم على الإجازة إلى الأندلس فلحقوا بابن أبي عامر سنة إحدى وتسعين وثلثمائة. وهلك زيري بن عطية المغراوي لتسع أيام من مهلك ماكسن وأقفل باديس عمه حماداً إلى حضرته ليستعين به في حروب فلفول فاضطرب المغرب لقفوله وأظهرت زناتة الفساد وأضروا بالسابلة وحاصروا المسيلة وأشير فسرح إليهم باديس عمه حماداً وخرج على أثره سنة خمس وتسعين فنزل تيجست ودوخ حماد المغرب وأثخن في زناتة واختط مدينة القلعة. ثم طلب منه باديس أن ينزل على عمل يتحس وقسطنطينة اختياراً للطاغية فأبى وأظهر الخلاف. وبعث إليه أخاه إبراهيم فأقام معه وزحف إليهم باديس ثم رحل في طلبه إلى شلف ونزع إليه بعض العساكر. ودخل في طاعته بنو توجين وجاروا في مدده. ووصل أميرهم عطية بن دافلين وبدر بن أغمان بن المعتز فوصلها. وكان حماد قتل دافلين. ثم نزل باديس نهر واصل والسرسو وكزول وانثنى حماد راجعاً إلى القلعة واتبعه باديس. ونازله بها وهلك بمعسكره عليها سنة ست وأربعمائة فجأة وهو نائم بين أصحابه بمضربه فارتحلوا راجعين واحتملوا باديس على أعواه. دولة المعز بن باديس ولما بلغ الخبر بمهلك باديس بويع ابنه المعز ابن ثمان سنين ووصل العسكر فبايعوه البيعة العامة. ودخل حماد المسيلة واشير واستعد للحرب وحاصر باغاية. وبلغ الخبر بذلك فزحف المعز إليه وأفرج عن باغاية ولقيه فانهزم حماد وأسلم معسكر وتقبض على أخيه إبراهيم ونجا إلى القلعة ورغب في الصلح فاستجيب على أن يبعث ولده. وانتهى المعز إلى سطيف وقصر الطين وقفل إلى حضرته ووصل إليه القائد ابن حماد سنة ثمان وأربعمائة راغباً في الصلح فعقده واستقل حماد بعمل المسيلة وطبنة والزاب واشير وتاهرت وما يفتح من بلاد المغرب وعقد للقائد ابن حماد على طبنة والمسيلة ومقره ومرسى الدجاج وسوق حمزة وزواوة وانقلب بهدية ضخمة. ووض! الحرب أوزارها من يومئذ واقتسموا الخطة والتحموا بالأصهار وافترق ملك صنهاجة إلى دولتين: دولة إلى المنصور بن بلكين أصحاب القيروان ودولة إلى حماد بن بلكين أصحاب القلعة. ونهض المهز إلى حماد سنة اثنتين وثلاثين فحاصره بالقلعة مدة سنين ثم أقلع عنها وانكفأ راجعاً ولم يعاود فتنة بعد. ووصل زاوي بن زيري من الأندلس سنة عشر وأربعمائة كما ذكرناه في خبره فتلقاه المعز أعظم لقاء وسلم عليه راجلاً وفرشت القصور لنزله ووصله أعظم الصلات وأرفعها. واستمر ملك المعز بإفريقية والقيروان وكان أضخم ملك عرف للبربر بإفريقية وأترفه وأبذخه. نقل ابن الرقيق من أحوالهم في الولائم والهدايا والجنائز والأعطيات ما يشهد بذلك مثل ما ذكر أن هدية صندل عامل باغاية مائة حمل من المال وأن بعض توابيت الكبراء منهم كان العود الهندي بمسامير الذهب باديس أعطى فلفول بن مسعود الزناتي ثلاثين حملاً من المال وثمانين تختاً. وأن أعشار بعض أعمال الساحل بناحية صفاقس كان خمسين ألف قفيز وغير ذلك من أخبارهم. وكانت بينه وبين زناتة حروب ووقائع كان له الغلب في جميعها كما هو مذكور وكان المعز منحرفاً عن مذاهب الرافضة ومنتحلاً للسنة فأعلن بمذهبه لأول ولايته ولعن الرافضة. ثم صار إلى قتل من وجد منهم وكبا به فرسه ذات يوم فنادى مستغيثاً باسم أبي بكر وعمر فسمعته العامة فثاروا لحينهم بالشيعة وقتلوهم أبرح قتل وقتل دعاة الرافضة يومئذ وامتعض لذلك خلفاء الشيعة بالقاهرة. وخاطبه وزيرهم أبو القاسم الجرجاني محذراً وهو يراجعه بالتعريض بخلفائه والقدح فيهم حتى أظلم الجو بينه وبينهم إلى أن انقطع الدعاء لهم سنة أربعين وأربعمائة على عهد المستنصر من خلفائهم. وأحرق بنوده ومحا اسمه من الطرز والسكة ودعا للقائم بن القادر من خلفاء بغداد. وجاءه خطاب القائم وكتاب عهده صحبة داعيته أبي الفضل بن عبد الواحد التميمي فرماه المستنصر خليفة العبيديين بالعرب من هلال الذين كانوا مع القرامطة وهم رياح وزغبة والأثبج. وذلك بمشاركة من وزيره أبي محمد الحسن بن علي اليازوري كما ذكرنا في أخبار العرب ودخولهم إلى إفريقية. وتقدموا إلى البلاد وأفسدوا السابلة والقرى. وسرح إليهم المعز جيوشه فهزموهم فنهض إليهم ولقيهم بجبل حيدران فهزموه واعتصم بالقيروان فحاصروه وتمرسوا به وطال عيثهم في البلاد وإضرارهم بالرعايا إلى أن خربت إفريقية. وخرج ابن المعز من القيروان سنة تسع وأربعين مع خفيره منهم وهو مؤنس بن يحيى الصبري أمير رياح فلحق في خفارته بالمهدية بعد أن أصهر إليه في ابنته فأنكحه إياها ونزل بالمهدية وقد كان قدم إليها ابنه تميماً فنزل عليه ودخل العرب القيروان وانتهبوها. وأقام المعز بالمهدية وانتزى الثوار في البلاد فغلب حمو بن مليل البرغواطي على مدينة صفاقس وملكها سنة إحدى وخمسين. وخالفت سوسة وصار أهلها إلى الشورى في أمرهم. وصارت تونس آخراً إلى ولاية الناصر بن علناس بن حماد صاحب القلعة. وولى عليهم عبد الحق بن خراسان فاستبد بها واستقرت في ملكه وملك بنيه وتغلب موسى بن يحيى على قابس. وصار عاملها المعز بن محمد الصنهاجي إلى ولايته وأخوه إبراهيم من بعده كما يأتي ذكره. والتاث ملك آل باديس وانقسم في الثوار كما نذكر في أخبارهم بعد. وهلك المعز سنة أربع وخمسين والله أعلم. دولة تميم في المعز ولما هلك المعز قام بأمره ابنه تميم وغلبه العرب على إفريقية فلم يكن له إلا ما ضمه السور خلا أنه كان يخالف بينهم وتسلط بعضهم على بعض. وزحف إليه حمو بن ملين البرغواطي صاحب صفاقس فخرج تميم للقائه وانقسمت العرب عليهما فانهزم حمو وأصحابه وذلك سنة خمس وخمسين. وسار منها إلى سوسة فافتتحها ثم بعث عساكره إلى تونس فحاصروا ابن خراسان حتى استقام على الطاعة لتميم. ثم بعث عساكره أيضاً إلى القيروان وكان بها قائد بن ميمون الصنهاجي من قبل المعز فأقام ثلاثاً. ثم غلبته عليها هوارة وخرج إلى المهدية ثم رده تميم إلى ولايته بها فخالف بعد ست من ولايته وكاتب الناصر بن علناس صاحب القلعة فبعث تميم إليه العساكر فلحق بالناصر وأسلم القيروان. ثم رجع بعد ست إلى حمو بن مليل البرغواطي بصفاقس وابتاع له القيروان من مهنا بن علي أمير زغبة فولاه عليها وحصنها سنة سبعين وكانت بين تميم والناصر صاحب القلعة أثناء ذلك فتن كان سماسرتها العرب يجأجئون بالناصر من قلعته ويوطئون عساكره ببلاد إفريقية. وربما ملك بعض أمصارها ثم يردونه على عقبه إلى داره إلى أن اصطلحا سنة سبعين وأصهر إليه تميم بابنته. ونهض تميم سنة أربع وسبعين إلى قابس وبها ماضي بن محمد الصنهاجي وليها بعد أخيه إبراهيم فحاصرها ثم أفرج عنها. ونازلته العرب سنة ست وسبعين بالمهدية ثم أفرجوا عنه وهزمهم فقصدوا القيروان ودخلوها فأخرجهم عنها. وفي أيامه كان تغلب نصارى جنده على المهدية سنة ثمانين نزلوها في ثلثمائة مركب وثلاثين ألف مقاتل واستولوا عليها وعلى زويلة فبذل لهم تميم في النزول عنها مائة ألف دينار بعد أن انتهبوا جميع ما كان بها فاستخلصها من أيديهم ورجع إليها ثم استولى على قابس سنة تسع وثمانين من يد أخيه عمر بن المعز بايع له أهلها بعد موت قاضي بن إبراهيم. ثم استولى بعدها على صفاقس سنة ثلاث وتسعين وخرج منها حمو بن مليل إلى قابس فأجاره مكن بن كامل الدهماني إلى أن مات بها. وكانت رياح قد تغلبت على زغبة وعلى إفريقيه من لدن سبع وستين وأخرجوه منها. وفي هذه المائة الخامسة غلب الأخضر من بطون رياح على مدينة باجة وملكوها وهلك تميم إثر ذلك سنة إحدى وخمسمائة. |
دولة يحيي بن تميم
ولما هلك تميم بن المعز ولي ابنه يحيى وافتتح أمره بافتتاح إقليبية وغلب عليها ابن محفوظ الثائر بها. وثار أهل صفاقس على ابنه أبي الفتوح فلطف الحيلة في تفريق كلمتهم وراجع طاعة العبيديين ووصلته المخاطبات والهدايا. وكان قد صرف همه إلى غزو النصارى والأساطيل البحرية فاستكثر منها واستبلغ في اقتنائها. وردد البعوث إلى دار الحرب فيها حتى اتقته أمم النصرانية بالجزي من وراء البحر من بلاد إفريقية وجنوة وسردينية. وكان له في ذلك آثار ظاهرة عزيزة. وهلك فجأة في قصره سنة تسع وخمسمائة والله أعلم. ولما هلك يحيى بن تميم ولي علي ابنه استقدم لها من صفاقس فقدم في خفارة أبي بكر بن أبي جابر مع عسكر ونظرائه من أمراء العرب. وكان أعظم أمراء عساكر صنهاجة محاصرين لقصر الأجم فاجتمعوا إليه وتمت بيعته. ونهض إلى حصار تونس حتى استقام أحمد بن خراسان على الطاعة وفتح جبل وسلات. وكان ممتنعاً على من سلف من قومه فجرد إليه عسكراً مع ميمون بن زياد الصخري المعادي من أمراء العرب فافتتحوه وقتلوا من كان به. ووصل رسول الخليفة من مصر بالمخاطبات والهدايا على العادة. ثم نهض إلى حصار رافع بن مكن بقابس سنة إحدى عشرة وخمسمائة. ودون لها قبائل فادغ من بني علي إحدى بطون رياح كما نذكره في أخبار رافع. ثم حدثت الفتنة بينه وبين رجار صاحب صقلية بممالأة رجار لرافع بن كامل عليه وإمداده إياه بأسطوله يغير على ساحل علي بن يحيى ويرصد أساطيله فاستخدم علي بن يحيى الأساطيل وأخذ في الأهبة للحرب وهلك سنة خمس عشرة وخمسمائة والله أعلم. دولة الحسن بن علي ولما هلك علي بن يحيى بن تميم ولي بعده ابنه الحسن بن علي غلاماً يفعة ابن اثنتي عشرة سنة وقام بأمره مولاه صندل. ثم مات صندل وقام بأمره مولاه موفق. وكان أبوه أصدر المكاتبة إلى رجار عند الوحشة يهدده بالمرابطين ملوك المغرب لما كان بينه وبينهم من المكاتبة. واتفق أن غزا أحمد بن ميمون قائد أسطول المرابطين صقلية وافتتح قرية منها فسباها وقتل أهلها سنة ست عشرة فلم يشك رجار أن ذلك بإملاء من الحسن فنزلت أساطيله إلى المهدية وعليهم عبد الرحمن بن عبد العزيز وجرجي بن مخائيل الأنطاكي. وكان جرجي هذا نصرانياً هاجر من المشرق وقد تعلم اللسان وبرع في الحساب. وتهذب في الشام بأنطاكية وغيرها فاصطنعه تميم واستولى عليه وكان يحيى يشاوره. فلما هلك تميم أعمل جرجي الحيلة في اللحاق برجار فلحق به وحظي عنده واستعمله على أسطوله فلما اعتزم على حصار المهدية بعثه لذلك فزحف في ثلثمائة مركب وبها عدد كثير من النصرانية فيهم ألف فارس. وكان الحسن قد استعد لحربهم فافتتح جزيرة قوصرة وقصدوا إلى المهدية ونزلوا إلى الساحل وضربوا الأبنية وملكوا قصر الدهانين وجزيرة الأملس. وتكرر القتال فيهم إلى أن غلبهم المسلمون وأقلعوا راجعين إلى صقلية بعد أن استمر القتل فيهم. ووصل بأكثر ذلك محمد بن ميمون قائد المرابطين بأسطوله فعاث في نواحي صقلية واعتزم رجار على إعادة الغزو إلى المهدية. ثم وصل أسطول يحيى بن العزيز صاحب بجاية لحصار المهدية ووصلت عساكره في البر مع قائده مطرف بن علي بن حمدون الفقيه فصالح الحسن صاحب صقلية ووصل يده به واستمد منه أسطوله. واستمد الحسن أسطول رجار فأمده وارتحل مطرف إلى بلده. وأقام الحسن مملكاً بالمهدية وانتقض عليه رجار وعاد إلى الفتنة معه ولم يزل يردد إليه الغزو إلى أن استولى على المهدية قائد أسطوله جرجي بن مناسل سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ووصلها بأسطوله في ثلثمائة مركب وخادعهم بأنهم إنما جاءوا مدداً له. وكان عسكر الحسن قد توجه صريخاً لمحرز بن زياد الفادغي صاحب علي بن خراسان صاحب تونس فلم يجد صريخاً فجلا عن المهدية ورحل واتبعه الناس. ودخل العدو إلى المدينة وتملكوها دون دفاع. ووجد جرجي القصر كما هو لم يرفع منه الحسن إلا ما خف وترك الذخائر الملوكية. فأمن الناس وأبقاهم تحت إيالته ورد الفارين منهم إلى أماكنهم. وبعث أسطولاً إلى صفاقس فملكها وأجاز إلى سوسة فملكها أيضاً ثم إلى طرابلس كذلك. واستولى رجار صاحب صقلية على بلاد الساحل كلها ووضع على أهلها الجري وولى عليهم كما نذكره إلى أن استنقذهم من ملكة الكفر عبد المؤمن شيخ الموحدين وخليفة إمامهم المهدي. ولحق الحسن بن يحيى بعد استيلاء النصارى على المهدية بالعرب من رياح وكبيرهم محرز بن زياد الفادغي صاحب القلعة فلم يجد لديهم مصرخاً. وأراد الرحيل إلى مصر للحافظ عبد المجيد فأرصد له جرجي فارتحل إلى المغرب وأجاز إلى بونة وبها الحارث بن منصور وأخوه العزيز. ثم توجه إلى قسطنطينة وبها سبع بن العزيز أخو يحيى صاحب بجاية فبعث إليه من أجازه إلى الجزائر. ونزل على ابن العزيز فأحسن نزله وجاوره إلى أن فتح الموحدون الجزائر سنة سبع وأربعين بعد تملكهم المغرب والأندلس فخرج إلى عبد المؤمن فلقاه تكرمة وقبولاً. ولحق به وصحبه إلى إفريقية في غزواته الأولى ثم الثانية سنة سبع وخمسين فنازل المهدية وحاصرها أشهراً. ثم افتتحها خمس وخمسين وأسكن بها الحسن وأقطعه رحيش فأقام هنالك ثماني سنين. ثم استدعاه يوسف بن عبد المؤمن فارتحل بأهله يريد مراكش. وهلك بتامستا في طريقه إلى بابارولو سنة ست وثلاثين والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ورب الخلائق أجمعين. |
بنو خراسان من صنهاجة
الخبر عن بني خراسان من صنهاجة الثوار بتونس على آل باديس عند اضطراب إفريقية بالعرب ومبد أ أمرهم ومصاير أحوالهم لما تغلب العرب على القيروان وأسلم المعز وتحول إلى المهدية اضطرمت إفريقية ناراً. واقتسمت العرب البلاد عمالات وامتنع كثير من البلاد على ملوك آل باديس مثل أهل سوسة وصفاقس وقابس وصارت صاغية أهل إفريقية إلى بني حماد ملوك القلعة وملكوا القيروان كما تقدم. وانقطعت تونس عن ملك المعز ووفد مشيختها على الناصر بن علناس فولى عليهم عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان يقال أنه من أهل تونس والأظهر أنه من قبائل صنهاجة فقام بأمرهم وشاركهم في أمره وتوعد إليهم وأحسن السيرة فيهم وصالح العرب أهل الضاحية على أتاوة معلومة لكف عاديتهم. وزحف تميم بن المعز من المهدية إليه سنة ثمان وخمسين في جموعه ومعه يبقى ابن علي أمير زغبة فحاصر تونس أربعة أشهر إلى أن صالحه ابن خراسان واستقام على طاعته فأفرج عنه. ولم يزل قائماً بأمره إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين فولي ابنه عبد العزيز وكان مضعفاً وهلك على رأس هذه الماية الخامسة وقام بأمره ابنه أحمد بن عبد العزيز بن عبد الحق فقتل عمه إسمعيل بن عبد الحق لمكان ترشه وغربه أبو بكر إلى أن برزت فأقام بها خوفاً على نفسه. ونزع أحمد إلى التخلق بسير الملك والخروج عن سير المشيخة واشتدت وطأته وكان من مشاهير رؤساء بني خراسان هؤلاء فاستبد بتونس لأول المائة السادسة وضبطها وبنى أسوارها. وعامل العرب على إصلاح سابلتها فصلحت حاله وبنى قصور بني خراسان. وكان مجالساً للعلماء محباً فيهم ونازله علي بن يحيى بن العزيز بن تميم سنة عشر وخمسمائة وضيق عليه ودافعه بإسعاف غرضه فأفرج عنه. ثم نازله عساكر العزيز بن منصور صاحب بجاية فعاد إلى طاعته سنة أربع عشرة ولم يزل والياً على تونس إلى أن نهض سنة اثنتين وعشرين مطرف بن علي بن حمدون قائد يحيى بن العزيز من بجاية في العساكر إلى إفريقية وملك عامة أمصارها فتغلب على تونس وأخرج أحمد بن عبد العزيز صاحبها ونقله إلى بجاية بأهله وولده. وولى على تونس كرامة بن المنصور عم يحيى بن العزيز فبقي والياً عليها إلى أن مات وولي عليها بعده أخوه أبو الفتوح بن المنصور إلى أن مات وولي مكانه ابن ابنه محمد. وساءت سيرته فعزل وولي مكانه عمه معد بن المنصور إلى أن استولى النصارى على المهدية وسواحلها ما بين سوسة وصفاقس وطرابلس سنة ثلاث وأربعين وصارت لصاحب صقلية وأخرج الحسن بن علي كما هو مذكور فأخذ أهك تونس في الاستعداد والحذر. واستأسدوا لذلك على واليهم وانتشر بغاتهم وربما ثاروا بعض الأيام عليه فقتلوا عبيدة بمرأى منه واعتدوا عليه في خاصته فبعث عنه أخوه يحيى من بجاية فركب البحر في الأسطول وترك نائبه العزيز بن دافال من وجوه صنهاجة فأقام بينهم وهم مستبدون عليه. وكان بالمعلقة جوارهم محرز بن زياد أمير بني علي من بطون رياح قد تغلب عليها. وكانت الحرب بينه وبين أهل تونس سجالاً والتحم بينهما المصاف. وكان محرز يستمد عساكر صاحب المهدية على أهل تونس فتأتيه إلى أن غلب النصارى على المهدية وحدثت الفتنة بينهم بالبلد فكان المصاف بين أهل باب السويقة وأهل باب الجزيرة وكانوا يرجعون في أمورهم إلى القاضي عبد المنعم ابن الإمام أبي الحسن. ولما غلب عبد المؤمن على بجاية وقسطنطينة وهزم العرب بسطيف ورجع إلى مراكش. انتهت إليه شكوى الرعايا بإفريقية مما نزل بهم من العرب فبعث ابنه عبد الله من بجاية إلى إفريقية في عساكر الموحدين فنازل تونس سنة اثنتين وخمسين وامتنعت عليه. ودخل معهم محرز بن زياد وقومه من العرب واجتمع جندهم وبرزوا للموحدين فأوقعوا بهم وأفرجوا عن تونس. وهلك أميرها عبد الله بن خراسان خلال ذلك وولي مكانه علي بن أحمد بن عبد العزيز خمسة أشهر وزحف عبد المؤمن إلى تونس وهو أميرها فانقادوا لطاعته كما نذكره في أخبار الموحدين. ورحل علي بن أحمد بن خراسان إلى مراكش بأهله وولده وهلك في طريقه سنة أربع وخمسين وأفرج محرز بن زياد عن المعلقة. واجتمعت إليه قومه وتدامرت العرب عن مدافعة الموحدين واجتمعوا بالقيروان وبلغ الخبر إلى عبد المؤمن وهو منصرف من غزاته إلى المغرب فبعث إليهم العساكر وأدركوهم بالقيروان فأوقعوا بهم واستلحموهم قتلاً وسبياً. وتقبض على محرز بن زياد أميرهم فقتل وصلب شلوه بالقيروان والله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه وهوعلى كل شيء قدير. |
بنو الرند الخبر
عن بني الرند ملوك قفصة الثائرين بها عند التياث ملك آل باديس بالقيروان واضطرابه بفتنة العرب ومبدأ دولتهم ومصاير أمورهم لما تغلب العرب على إفريقية وانحل نظام الدولة الصنهاجية وارتحل المعز من القيروان إلى المهدية وكان بقفصة عاملاً لصنهاجة عبد الله بن محمد بن الرند وأصله من جرية من بني صدغيان. وقال ابن نحيل هو من بني مرين من مغراوة وكان مسكنهم بالجوسين من نفزاوة فضبط قفصة وقطع عنها عادية الفساد. وصالح العرب على الأتاوة فصلحت السابلة واستقام الحال. ثم استبد بأمره وخلع الامتثال من عنقه سنة خمس وأربعين واستمر على ذلك. وبايعته توزر وقفصة وسوس والحامة ونفزاوة وسائر أعمال منطينة فاستفحل أمره وعظم سلطانه ووفد عليه الشعراء والقصاد وكان معظماً لأهل الدين إلى أن هلك سنة خمس وستين. وولي من بعده ابنه المعتز وكنيته أبو عمر وانقاد إليه الناس فضبط الأمور وجبى الأموال واصطنع الرجال وتغلب على قمودة وجبل هوارة وسائر بلاد قسطيلية وما إليها. وحسنت سيرته إلى أن عمي. وهلك في حياته ابنه تميم فعهد لابنه يحيى بن تميم. وقام بالأمر واستبد على جده ولم يزالوا بخير حال إلى أن نازلهم عبد المؤمن سنة أربع وخمسين فمنعهم من الأمر ونقلهم إلى بجاية فمات المعتز بها سنة سبع وخمسين لمائة وأربع عشرة من عمره وقيل لسبعين ومات بعده بيسير حافده يحيى بن تميم. وولى عبد المؤمن على قفصة نعمان بن عبد الحق الهنتاني. ثم عزله بعد ثلاث بميمون ابن أجانا الكنسيفي. ثم عزله بعمران بن موسى الصنهاجي وأساء إلى الرعية فبعثوا عن علي بن العزيز بن المعتز من بجاية. وكان بها في مضيعة يحترف بالخياطة فقدم عليهم وثاروا بعمران بن موسى عامل الموحدين فقتلوه وقدموا علي بن العزيز فساس ملكه وحاط رعيته. وأغزاه يوسف بن عبد المؤمن سنة ثلاث وستين أخاه السيد أبا زكريا فحاصره وضيق عليه وأخذه وأشخصه إلى مراكش بأهله وماله واستعمله على الأشغال بمدينة سلا أن هلك وفنيت دولة بني الرند والبقاء لله وحده. بني جامع الخبر عن بني جامع الهلاليين أمراء قابس لعهد الصنهاجيين وما كان لتميم بها من الملك ولما دخلت العرب إلى إفريقية وغلبوا المعز على الضواحي ونازلوه بالقيروان وكان الوالي بفاس المعز بن محمد بن لموية الصنهاجي وكان أخواه إبراهيم وماضي قيروان قائدين للمعز على جيوشه فعزلهما ولحقا مغاضبين بمؤنس بن يحيى وكان ذلك أول تملك العرب. ثم أقام إبراهيم منهم والياً بقابس ولحق المعز بن محمد بمؤنس فكان معه إلى أن هلك إبراهيم وولي مكانه أخوه ماضي وكان سيىء السيرة فقتله أهل قابس وذلك لعهد تميم بن المعز بن باديس وبعثوا إلى عمر أخي السلطان في طاعة العرب فوليها بكر بن كامل بن جامع أمير المناقشة من دهمان من بني علي إحدى بطون رياح فقام بأمرها واستبد على صنهاجة. ولحق به مثنى بن تميم بن المعز نازعاً عن أبيه فأجابه ونازل معه المهدية حتى امتنعت عليه واطلع على قبائح شتى فأفرج عنها. ولم يزل كذا على حاله في إجابة قابس وإمارة قومه دهمان إلى أن هلك. وقام بأمره بعده رافع واستفحل بها ملكه وهو الذي اختط قصر العروسيين من مصانع الملك بها واسمه مكتوب لهذا العهد في جدرانها. ولما ولي علي بن يحيى بن تميم فسد ما بينه وبين رافع وأعان عليه رافع صاحب صقلية فغلب أسطول علي بن يحيى على أسطول النصارى. ثم ذوى قبائل العرب والأساطيل وزحل إلى قابس سنة إحدى عشر وأربعمائة. قال ابن أبي الصلت: دول الثلالة الأخماس من قبائل العرب الذين هم: سعيد ومحمد ونحبة وأضاف إليهم من الخمس الرابع أكابر بني مقدم فوافى من كان منهم بفحص القيروان. وفر رافع إلى القيروان وامتنع عليه أهلها. ثم اجتمع شيوخ دهمان واقتسموا البلاد وعينوا القيروان لرافع وأمكنوه. وبعث علي بن يحيى عساكره والعرب المدونة على منازلة رافع بالقيروان وخرج إلى محاربتهم فهلك بالطريق في بعض حروبه مع أشياع رافع. ثم أن ميمون بن زياد الصخري حمل رافع بن مكن على مسالمة السلطان وسعى في إصلاح ذات بينهما فانصلح وارتفعت بينهما الفتنة. وقام بقابس من ذلك رشيد بن كامل. قال ابن نخيل وهو الذي اختط قصر العروسيين وضرب السكة الرشيدية. وولي بعده ابنه محمد بن رشيد وغلب عليه مولاه يوسف. ثم خرج محمد في بعض وجوهه وترك ابنه مع يوسف فطرده يوسف واستبد وانتهى إلى طاعة رجار فثار به أهل قابس ودفعوه عنهم فخرج إلى أخيه. ولحق أخوه عيسى بن رشيد وأخبره الخبر فحاصرهم رجار بسبب ذلك مدة من الأيام. وكان آخر من ملكها من بني جامع أخوه مدافع بن رشيد بن كامل. ولما استولى عبد المؤمن على المهدية وصفاقس وطرابلس بعث ابنه عبد الله بعسكر إلى قابس ففر مدافع بن رشيد عن قابس وأسلمها للموحدين ولحق بعرب طرابلس من عرب عوف فأجاروه سنتين ثم لحق بعبد المؤمن بقابس فأكرمه ورضي عنه وانقرض أمر بني جامع من يؤانس والبقاء لله وحده. الخبر عن ثورة رافع بن مكن بن مطروح بطرابلس والفرياني بصفاقس على النصارى وإخراجهم واستبدادههم بأمر بلدهم في آخر دولة بني باديس أما طرابلس فكان رجار صاحب صقلية قد استولى عليها سنة أربعين وخمسمائة عل يد قائده جرجي بن ميخاييل الأنطاكي وأبقى المسلمين بها واستعمل عليهم وبقيت في مملكة النصارى أياماً. ثم إن أبا يحيى بن مطروح من أعيان البلد مشى في وجوه الناس وأعيانهم وداخلهم في الفتك بالنصارى فاجتمعوا لذلك وثاروا بهم وأحرقوهم بالنار ولما وصل عبد المؤمن إلى المهدية وافتتحها سنة خمس وخمسين وفد عليه أبو يحيى بن مطروح ووجوه أهل طرابلس فأوسعهم براً وتكرمة. وقدم ابن مطروح المذكور عليهم وردهم إلى بلدهم فلم يزل عليهم إلى أن هرم وعجز بعهد يوسف بن عبد المؤمن وطلب الحج فسرحه السيد أبو زيد بن أبي حفص محمد بن عبد المؤمن عامل تونس فارتحل في البحر سنة ست وثمانين واستقر بالإسكندرية. وأما صفاقس فكانت ولاتها أيام بني باديس من صنهاجة قبيلهم إلى أن ولى المعز بن باديس عليها منصور البرغواطي من صنائعه وكان فارساً مقداماً فحدث نفسه بالثورة أيام تغلب العرب على إفريقية وخروج المعز إلى المهدية ففتك به ابن عمه حمو بن مليل البرغواطي وقتله في الحمام غدراً وامتعض له حلفاؤه من العرب وحاصروا حمو حتى بذل لهم من المال ما رضوا به. واستبد حمو بن مليل بأمر صفاقس حتى إذا هلك المعز حدثته نفسه بالتغلب على المهدية فزحف إليها في جموعه من العرب ولقيه تميم فانهزم حمو وأصحابه سنة خمس وخمسين. ثم بعث ابنه يحيى مع العرب لحصار صفاقس فحاصرها مدة وأقلع عنها وزحف إليه تميم بن المعز سنة ثلاث وتسعين فغلبه عليها ولحق حمو بمكن بن كامل أمير قابس فأجاره وصارت صفاقس إلى ملكة تميم ووليها ابنه. ولما تغلب النصارى على المهدية وملكها جرجي بن ميخاييل قائد رجار سنة ثلاث وأربعين وتغلبوا بعدها على صفاقس وأبقوا أهلها واستعملوا عمر بن أبي الحسن القرباني لمكانه فيهم. وحملوا أباه أبا الحسن معهم إلى صقلية رهناً وكان ذلك مذهب رجار وديدنه فيما ملك من سواحل إفريقية يبقيهم ويستعمل عليهم منهم ويذهب إلى العدل فيهم فبقي عمر بن أبي الحسن عاملاً لهم في أهل بلده وأبوه عندهم ثم أن النصارى الساكنين بصفاقس امتدت أيديهم إلى المسلمين ولحقوهم بالضرر. وبلغ الخبر أبا الحسن وهو بمكانه من صقلية فكتب إلى ابنه عمر وأمره بانتهاز الفرصة فيهم والاستسلام إلى الله في حق المسلمين فثار بهم عمر لوقته سنة إحدى وخمسين وقتلهم. وقتل النصارى أباه أبا الحسن وانتقضت عليهم بسبب ذلك سائر السواحل ولما افتتح عبد المؤمن المهدية من يد رجار وصل إليه عمر وأدى طاعته فولاه صفاقس. ولم يزل والياً عليها وابنه عبد الرحمن من بعده إلى أن تغلب يحيى بن غانية فرغبه في الحج فسرحه ولم يعد. |
الخبر عما كان بإفريقية من الثوار على صنهاجة
عند اضطرابها بفتنة العرب إلى أن محا أثرهم الموحدون لما كان أبو رجاء الورد اللخمي عند اضطرام نار الفتنة بالعرب وتقويص المعز عن القيروان إلى المهدية وتغلبهم عليها قد ضم إليه جماعة من الدعار وكان ساكناً بقلعة قرسبنة من جبل شعيب فكان يضرب على النواحي بجهة بنزرت ويفرض على أهل القرى الأتاوات بسبب ذلك فطال عليهم أمره ويئسوا من حسم دائه وكان ببلد بنزرت فريقان أحدهما من لخم وهم قوم الورد وبقوا فوضى واختلف أمرهم فبعثوا إلى الورد في أن يقوم بأمرهم فوصل إلى بلدهم فاجتمعوا عليه وأدخلوه حصن بنزرت. وقدموه على سهم فحاطهم من العرب ودافع عن نواحيهم. وكان بنو مقدم من الأثبج ودهمان من بني علي إحدى بطون رياح هم المتغلبون على ضاحيتهم فهادنهم على الأتاوة وكف بها عاديتهم واستفحل أمرهم وتسمى بالأمير وشيد المصانع والمباني وكثر عمران بنزرت إلى أن هلك فقام بأمره ابنه طراد وكان شهماً وكانت العرب تهابه. وهلك فولي من بعده ابنه محمد بن طراد وقتله أخوه مقرن لشهر من ولايته في مسامرة وقام بأمر بنزرت وسمي بالأمير وحمى حوزته من العرب واصطنع الرجال وعظم سلطانه وقصده الشعراء وامتدحوه فوصلهم. وهلك فولي من بعده ابنه عبد العزيز عشر سنين وجرى فيها على سنن أبيه وجده ثم ولي من بعده أخوه موسى على سننهم أربع سنين. ثم من بعده أخوهما عيسى واقتفى أثرهم. ولما نازل عبد الله بن عبد المؤمن وأفرج عنه ومر به في طريقه فاستفرغ جهده في قراه ونجع بطاعته. وطلب منه الحفاظ على بلده فأسعفه. وولى عليهم أبا الحسن الهرغي فلما قدم عبد المؤمن على إفريقية سنة أربع وخمسين راعى له ذلك وأقطعه واندرج في جملة الناس. وكان بقلعة ورغة بدوكس بن أبي علي الصنهاجي من أولياء العزيز المنصور صاحب بجاية والقلعة قد شادها وحصنها. وكان مبدأ أمره أن العزيز تغير عليه في حروب وقعت بينه وبين العرب نسب فيها إلى نفسه الإقدام وإلى السلطان العجز فخافه على نفسه ولحق ببجاية فأكرمه شيخها محمود بن نزال الريغي وآواه وترافع إلى محمود أهل ورغة من عمله. وكانوا فئتين مختلفتين من زاتيمة إحدى قبائل البربر وهما: أولاد مدين وأولاد لاحق. فبعث عليهم بروكس بن أبي علي لينظر في أحوالهم وأقام معهم بالقلعة. تم استجلب بعض الدعار كانوا بناحيتها وأنزلهم بالقلعة معهم واصطنعهم وصاهر أولاد مدين وظاهرهم على أولاد لاحق وأخرجهم من القلعة واستبد بها. وقصدته الرجال من كل جانب إلى أن اجتمعت له خمسمائة فارس وأثخن في نواحيه وحارب بني الورد ببنزرت وابن علال بطبربة وقتل محمد بن سباع أمير بني سعيد من رياح وغصت القلعة بالساكن فاتخذ لها ربضاً وجهز إليه العزيز عسكره من بجاية فبارز قائد العسكر وفتك به واسمه غيلاس. وهلك بعد مدة وقام بأمره ابنه منيع ونازله بنو سباع وسعيد طالبين بثأر أخيهما محمد. وتمادى به الحصار وضاقت أحواله فاقتحموا عليه القلعة واستلحم هو وأهل بيته قتلاً وسبياً والله مالك الأمور. وكان أيضاً بطبربة مدافع بن علال القيسي شيخ من شيوخها فلما اضطربت إفريقية عند دخول العرب إليها امتنع بطبرية وحصن قلعتها واستبد بها في جملة من ولده وبني عمه وجماعته إلى أن ثار عليه ابن بيزون اللخمي في البحرين على والي مجردة بإزاء الرياحين. وطالت بينهما الفتنة والحرب. وكان قهرون بن غنوش بمنزل دحمون قد بنى حصنه وشيده وجمع إليه جيشاً من أوباش القبائل وذلك لما أخرجه أهل تونس بعد أن ولاه العامة عليهم. ثم صرفوه عن ولايتهم لسوء سيرته فخرج من البلد ونزل دحمون وبنى حصناً بنفسه مع الحنايا وردد الغارة على تونس وعاث في جهاتها فرغبوا من محرز بن زياد أن يظاهرهم عليه ففعل. وبلغ خبره ابن علال صاحب طبربة فوصل ابن علال يده بصهر منه ونقله إلى بعض الحصون ببلده وهي قلعة غنوش وتظافروا على الإفساد. وخلفهما بنوهما من بعدهما إلى أن وصل عبد المؤمن إلى إفريقية سنة أربع وخمسين فمحا آثار الفساد من جانب إفريقية وكان أيضاً حماد بن خليفة اللخمي بمنزل رقطون من إقليم زغوان على مثل حال ابن علال وابن غنوش وابن بيزون وخلفه ولده في مثل ذلك إلى أن انقطع ذلك على يد عبد المؤمن. وكان عماد بن نصر الله الكلاعي بقلعة شقبنارية قد صار إليه جند من أهل الدعارة وأوباش القبائل فحماها من العرب واستغاث به ابن فتاتة ثميخ الأربس من العرب وشكا إليه سوء ملكتهم فزحف إليهم وأخرجهم من الأربس وفرض عليهم مالاً يؤدونه إليه إلى أن مات وولي ابنه من بعده فجرى على سننه إلى أن دخل في طاعة عبد المؤمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة والله مالك الملك لا رب غيره سبحانه. |
الخبر عن دولة آل حماد بالقلعة من ملوك صنهاجة الداعية لخلافة العبيديين
وما كان لهم من الملك والسلطان بإفريقية والمغرب الأوسط إلى حين انقراضه بالموحدين هذه الدولة شعبة من دولة آل زيري وكان المنصور بلكين قد عقد لأخيه حماد على أشير والمسيلة وكان يتداولها مع أخيه يطوفت وعمه أبي البهار. ثم استقل بها سنة سبع وثمانين أيام باديس من أخيه المنصور ودفعه لحرب زناتة سنة خمس وتسعين بالمغرب الأوسط من مغراوة وبني يفرن وشرط له ولاية أشير والمغرب الأوسط وكل بلد يفتحه وأن لا يستقدمه. فعظم عناؤه فيها وأثخن في زناتة وكان مظفراً عليهم. واختط مدينة القلعة بجبل كتامة سنة ثمان وتسعين وهو جبل عجيسة وبه لهذا العهد قبائل عياض من عرب هلال. ونقل إليها أهل المسيلة وأهل حمزة وخربهما. ونقل جراوة من المغرب وأنزلهم بها وتم بناؤها وتمصيرها على رأس المائة الرابعة. وشيد من بنيانها وأسوارها واستكثر فيها من المساجد والفنادق فاستبحرت في العمارة واتسعت بالتمدن. ورحل إليها الثغور والقاصية والبلد البعيد طلاب العلوم وأرباب الصنائع لنفاق أسواق المعارف والحرف والصنائع بها. ولم يزل حماد أيام باديس هذا أميراً على الزاب والمغرب الأوسط ومتولياً حروب زناتة. وكان نزوله ببلد أشير والقلعة متاخماً لملوك زناتة وأحيائهم البادية بضواحي تلمسان وتاهرت. وحاربه بنو زيري عند خروجهم على باديس سني تسعين وثلثمائة وهم زاوي وماكسن وإخوانهما فقتل ماكسن وابناه وألجأ زاوي وإخوته إلى جبل شنون وأجازهم البحر إلى الأندلس. ثم إن بطانة باديس ومن إليه من الأعجام والقرابة نفسوا على حماد رتبته وسعوا في مكانه من بادس إلى أن فسد ذات بينهما. وطلب باديس أن يسلم عمل تيجسب وقسطنطينة لولده المعز لما قلده الحاكم ولاية عهد ابنه فأبى حماد وخالف دعوة باديس وقتل الرافضة وأظهر السنة ورضي عن الشيخين ونبذ طاعة العبيديين جملة وراجع دعوة آل العباس وذلك سنة خمس وأربعمائة. وزحف إلى باجة فدخلها بالسيف ودس إلى أهل تونس الثورة على المشارقة والرافضة فثاروا بهم فناصبه باديس الحرب وعبأ عساكره من القيروان وخرج إليه فنزع عن حماد أكثر أصحابه مثل: بني أبي واليل أصحاب معرة من زناتة وبني حسن كبار صنهاجة وبني يطوفت من زناتة وبني غمرة أيضاً منهم وفر حماد وملك باديس أشير. ولحق حماد بشلف بني واليل وباديس في اتباعه حتى نزل مواطن السرسو من بلاد زناتة. ونزع إليه عطية بن داقلتن في قومه من بني توجين لما كان حماد قتل أباه. وجاء على أثره ابن عمه بدر بن لقمان بن المعتز فوصلهما باديس واستظهر بهما على حماد. ثم أجاز إليه باديس من وادي شلف وناجزه الحرب ونزع إليه عامة أهل معسكره فانهزم وأغذ السير إلى القلعة وباديس في أثره حتى نزل فحص المسيلة وانحجر حماد في القلعة وحاصره. ثم هلك بمعسكره من ذلك الحصار فجأة بمضربه وهو نائم بين أصحابه آخر ست وأربعمائة فبايعت صنهاجة لابنه المعز صبياً ابن ثمان سنين. وتلافوا أمر أشير وبعثوا كرامة بن منصور لسدها فلم يقدر واقتحمها عليه حماد. واحتملوا باديس على أعواده إلى مدفنهم بالقيروان. وبايعوا المعز بالبيعة العامة. وزحف إلى حماد بناحية قفصة وأشفق حماد فبعث ابنه القائد لأحكام الصلح بينه وبين المعز فوصل إلى القيروان سنة ثمان وأربعمائة بهدية جليلة. وأمضى له المعز ما سأله من الصلح ورجع إلى أبيه. وهلك حماد سنة تسعة عشر وأربعمائة فقام بأمره ابنه القائد وكان جباراً فاستعمل أخاه يوسف على المغرب وويغلان على حمزة في بلد اخطته حمزة بن إدريس. وزحف إليه حمامة بن زيري بن عطية ملك فاس من مغراوة سنة ثلاثين فخرج إليه القائد وسرب الأموال في زناتة. وأحس بذلك حمامة فصالحه ودخل في طاعته ورجع إلى فاس. وزحف إليه المعز من القيروان سنة أربع وثلاثين وحاصره مدة طويلة. ثم صالح القائد وانصرف إلى أشير فحاصرها ثم أقلع عنها وانكفأ راجعاً. وراجع القائد طاعة العبيديين لما نقم عليه المعز ولقبوه شرف الدولة. وهلك سنة ست وأربعبن وولي ابنه محسن وكان جباراً وخرج عليه عمه يوسف ولحق بالمغرب فقتل سائر أولاد حماد وبعث محسن في طلبه بلكين ابن عمه محمد بن حماد وأصحبه من العرب خليفة بن بكير وعطية الشريف وأمرهما بقتل بلكين في طريقهما فأخبرا بلكين بذلك وتعاهدوا جميعاً على قتل محسن وأنذر بهم ففر إلى القلعة وأدركوه فقتله بلكين لتسعة أشهر من ولايته. وولي الأمر سنة سبع وثلاثين وكان شهماً قرماً حازماً سفاكاً للدماء. وقتل وزير محسن الذي تولى قبله. وفي أيامه قتل جعفر بن أبي رمان مقدم بسكرة لما أحس بنكثه فخالف أهل بسكرة بأثر ذلك حسبما نذكره. ثم مات أخوه مقاتل بن محمد فاتهم به زوجته ناميرت بنت عمه علناس بن حماد فقتلها وأحفظ ذلك أخاها الناصر وطوى على التبييت وكان بلكين كثيراً ما يردد الغزو إلى المغرب. وبلغه استيلاء يوسف بن تاشفين والمرابطين على الصامدة فنهض نحوهم سنة أربع وخمسين وفر المرابطون إلى الصحراء وتوغل بلكين في ديار المغرب رنزلى بفاس واحتمل من أكابر أهلها وأشرافهم رهناً على لاعة. وانكفأ راجعاً إلى القلعة فانتهز منه الناصر ابن عمه الفرصة في الثأر بأخته ومالأه قومه من صنهاجة لما لحقهم من تكلف المشقة بإبعاد الغزو والتوغل في أرص العدو فقتلة بتساتة سنة أربع وخمسين. وقام بالأمر من بعده واستوزر أبا بكر أبي الفتوح وعقد على المغرب لأخيه كباب وأنزله مليانه وعلى حمزة لأخيه رومان وعلى نقاوس لأخيه خزر. وكان المعز قد هدم سورها فأصلحه الناصر وعقد على قسطنطينة لأخيه بلبار وعلى الجزائر ومرسى الدجاج لابنه عبد الله وعلى أشير لابنه يوسف وكتب إليه حمو بن مليل البرغواطي من صفاقس بالطاعة وبعث إليه بالهدية. ووفد عليه أهل قسطنطينة ومقدمهم يحيى بن واطاس فأعلنوا بطاعته وأجزل صلتهم وردهم إلى أماكنهم وعقد عليها ليوسف بن خلوف من صنهاجة ودخل أهل القيروان أيضاً قي طاعته وكذلك أهل تونس. وكان أهل بسكرة لما قتله بلكين مقدمهم جعفر بن أبي رمان خلعوا طاعة آل حماد واستبدوا بأمر بلدهم وعيلهم بنو جعفر فسرح الناصر إليهم خلف بن أبي حيدرة وزيره ووزير بلكين قبله فنازلها وافتتحها عنوة واحتمل بني جعفر في جماعة من رؤسائها إلى القلعة فقتلهم الناصر وصلبهم ثم قتل خلف بن أبي حيدرة بسعاية رجالات صنهاجة فيه أنه لما بلغه خبر يلكين أراد تولية أخيه معمر وشاورهم في ذلك فقتله الناصر وولى مكانه أحمد بن جعفر بن أفلح. ثم خرج الناصر ليتفقد المغرب فوثب علي بن راكان على تافربوست دار ملكهم. وكان لما قتل بلكين هرب إلى إخوانه من عجيسة واهتبلوا الغرة في تافربوست لغيبة الناصر فطرقوها ليلاً. وملكها علي فرجع الناصر من المسيلة وعاجلهم فسقط في أيديهم وافتتحها عليهم عنوة وذبح علي بن راكان نفسه بيده ثم وقعت بين العرب الهلاليين فتن وحروب ووفد عليه رجالات الأثبج صريخاً به على رياح فأجابهم ونهض إلى مظاهرتهم في جموعه من صنهاجة وزناتة حتى نزل للاربس وتواقعوا بسببه فغدرت بهم زناتة وجروا عليه وعلى قومه الهزيمة بدسيسة ابن المعز بن زيري بن عطية وإغراء تميم بن المعز فانهزم الناصر واستباحوا خزائنه ومضاربه وقتل أخوه القاسم وكاتبه ونجا إلى قسطنطينة في أتباعه. ثم لحق بالقلعة في فل من عسكره لم يبلغوا مايتين. وبعث وزيره ابن أبي الفتوح للإصلاح فعقد بينهم وبينه صلحاً وتممه الناصر. ثم وفد عليه رسول تميم وسعى عنده بالوزير ابن أبي الفتوح وأنه مائل إلى تميم فنكسه وقتله. وكان المستنصر بن خزرون الزناتي خرج في أيام الفتنة بين الترك والمغاربة بمصر ووصل إلى طرابلس فوجد بني عدي بها قد أخرجهم الأثبج وزغبة من إفريقية كما ذكرناه فرغبهم في بلاد المغرب وسار بهم حتى نزل المسيلة ودخلوا أشير. وخرج إليه الناصر ففر إلى الصحراء ورجع فرجع إلى مكانه من الإفساد فراسله الناصر في الصلح فأسعفه وأقطعه ضواحي الزاب ووريغة وأوعز إلى عروس بن هندي رئيس بسكرة لعهده وولي دولته أن يمكن به فوصل المنتصر إلى بسكرة وخرج إليه عروس بن هندي وأحمد نزله وأشار إلى حشمه عند انسكاب المنتصر وذويه على الطعام فبادروا مكبين لطعنه وفر أتباعه وأخذوا رأسه وبعث به إلى الناصر فنصبه ببجاية وصلب شلوه بالقلعة وجعلوه عظة لغيره. وقتل كثير من رؤساء رناتة فمن مغراوة أبي الفتوح بن حبوس أمير بني سنجلس وكانت له بلد لمدية ولمرية قبيل من بطون صنهاجة سميت البلد بهم وقتل معتصر بن حماد منهم أيضاً وكان بناحية شلف فأجلب على عامل مليانة وقتل شيوخ بني وريسفان من مغراوة فكاتبهم السلطان لما كان مشتغلاً عنهم بشأن العرب فزحفوا إلى معنصر وقتلوه وبعثوا برأسه إلى الناصر فنصبه على رأس القصر. وبعث إليه أهل الزاب أن عمر ومغراوة ظاهروا الأثبج من العرب على بلادهم فبعث ابنه المنصور في العساكر ونزل وعلان بلد المنتصر بن خزرون وهدمها. وبعث سراياه وجيوشه إلى بلد واركلا وولى عليها وقفل بالغنائم والسبي وبلغه عن بني توجين من زناتة أنهم ظاهروا بني عدي من العرب على الفساد وقطع السبيل وأميرهم إذ ذاك مناد بن عبد الله فبعث ابنه المنصور إليهم بالعسكر وتقبض على أمراء بني عدي ساكن بن عبد الله وحميد بن خزعل ولاحق بن جهان وتقبض أيضاً على أمير بني توجين وأخيه زيري وعميهما الأغلب وحمامة وأحضرهم فوبخهم وقدر عليهم فغلبه في إجارتهم من أولاد القاسم رؤساء بني عبد الواد وقتلهم جميعاً على الخلاف. وفي سنة ستين افتتح جبل بجاية وكان له قبيل من البربر يسمون بهذا الاسم إلا أن الكاف فيهم بلغتهم ليست كافاً بل هي بين الجيم والكاف وهذا القبيل من صنهاجة باقون لهذا العهد أوزاعاً في البربر فلما افتتح هذا الجبل اختط به المدينة وسماها الناصريه وتسمى عند الناس باسم القبيلة وهي بجاية وبنى بها قصر اللؤلؤة وكان من أعجب قصور الدنيا ونقل إليها الناس وأسقط الخراج عن ساكنيها وانتقل إليها سنة إحدى وستين. وفي أيام الناصر هذا كان استفحال ملكهم وشغوفه على ملك بني باديس إخوانهم بالمهدية ولما أضرع منه الدهر بفتنة العرب الهلاليين حتى اضطرب عليهم أمرهم وكثر الثوار عليهم والمنازعون من أهل دولتهم فاعتز آل حماد هؤلاء أيام الناصر هذا وعظم شأن أيامهم فبنى المباني العجيبة المؤنقة وشيد المدائن العظيمة وردد الغزو إلى المغرب وتوغل فيهم. ثم هلك سنة إحدى وثمانين وقام بالأمر من بعده ابنه المنصور بن الناصر. ونزل بجاية سنة ثلاث وثمانين وأوطنها بعساكره وخاصة بعرا من منازل العرب وما كانوا يسومونهم بالقلعة من خطة الخسف وسوء العذاب بوطء ساحاتها والعيث في نواحيها وتخطف الناس من حولها لسهولة طرقها على رواحلهم وصعوبة المسالك عليها في الطريق إلى بجاية لمكان الأوعار فاتخذ بجاية هذه معقلاً وصيرها داراً لملكه وجمد قصورها وشيد جامعها. وكان المنصور هذا جماعة مولعاً بالبناء وهو الذي حضر ملك بني حماد وتأنق في اختطاط المباني وتشييد المصانع واتخاذ القصور وإجراء المياه في الرياض والبساتين. فبنى في القلعة قصر الملك والمنار والكوكب وقصر السلام وفي بجاية قصر اللؤلؤة وقصر أميميون. وكان أخوه يلباز على قسطنطينة منذ عهد الناصر أبيهما. وهم بالاستبداد لأول ولاية المنصور فسرح إليه أبا يكنى بن محصن بن العابد في العساكر وعقد له على قسطنطينه وبونة فتقبض على بلباز وأشخصه إلى القلعة وأقام والياً على قسطنطينة مكانه وولى أخاه ويغلان على بونة. ثم بدا له في الخلاف على المنصور وثار بقسطنطينة سنة سبع وثمانين. وبعث أخاه من بونة إلى تميم بن المعز بالمهدية واستدعاه لولاية بونة فبعث معه ابنه أبا الفتوح بن تميم ونزل بونة مع ويغلان. وكاتبوا المرابطين بالمغرب الأقصى وجمعوا العرب على أمرهم. وسرح المنصور عساكره فحاصروا بونة سبعة أشهر. ثم اقتحموها غلاباً وتقبضوا على أبي الفتوح بن تميم وبعثوا به إلى المنصور فاعتقله بالقلعة. ثم نازلت عساكره قسطنطينة واضطرب أحوال ابن أبي يكنى فخرج إلى قلعة بجبل أوراس وتحصن بها. ونزل بقسطنطينة صليصل بن الأحمر من رجالات الأثبج. وداخل صليصل المنصور في أن يمكنه من قسطنطينة على مال يبذله ففعل واستولى عليها المنصور. وأقام أبو يكنى بحصنه من أوراس وردد الغارة على قسطنطينة فتوجهت إليه العساكر وحاصروه بقلعته. ثم اقتحموها عليه وقتلوه. وكان بنو ومانو من زناتة حياً جميعاً وقوماً أعزة. وكانت إليهم رئاسة زناتة. وكان رئيسهم لعهده ماخوخ وكان بينهم وبين آل حماد صهر فكانت إحدى بناتهم زوجة للناصر وكانت أخرى عند المنصور. ولما تجددت الفتنة بينه وبين قومهما أغزاهم المنصور بنفسه في جموع صنهاجة وحشوده وجمع له ماخوخ ولقيه في زناتة فانهزم المنصور إلى بجاية فقتل أخت ماخوخ التي كانت تحته. واستحكمت النفرة بين ماخوخ وبينه. وسار إلى ولاية أمراء تلمسان من لمتونة وحرضهم على بلاد صنهاجة فكان ذلك مما دعا المنصور إلى النهوض إلى تلمسان. وذلك أن يوسف بن تاشفين لما ملك المغرب واستفحل به أمره سما إلى ملك تلمسان فغلب عليها أولاد يعلى سنة أربع وسبعين على ما يأتي ذكره وأنزلها محمد بن يغمر المسوفي وصيرها ثغراً لملكه فاضطلع بأمرها ونازل بلاد صنهاجة وثغورهم فزحف إليه المنصور وأخرب ثغوره وحصون ماخوخ وضيق عليه فبعث إليه يوسف بن تاشفين وصالحه. وقبض أيدي المرابطين عن بلاد صنهاجة ثم عاود المرابطون إلى شأنهم في بلاده فبعث ابنه الأمير عبد الله وسمع به المرابطون فانقبضوا عن بلاده وزحفوا إلى مراكش. واحتل هو بالمغرب الأوسط فشن الغارة في بلاد بني ومانوا وحاصر الجعبات وفتحها ثم عاود ذلك مرات كذلك وعفا عن أهلها ورجع إلى أبيه. ثم وقعت الفتنة بينه وبين ماخوخ. وقتل أخوه ولحق ابن ماخوخ بتلمسان وظاهره ابن يغمر صاحب تلمسان على أمره وأجلبوا على الجزائر فنازلوها يومين مات عقيبها محمد بن يغمر صاحب تلمسان. وولي يوسف بن تاشفين مكان أخيه تاشفين بن يغمر فنهض إلى أشير وافتتحها فقام المنصور في ركائبه ومعه كافة صنهاجة. ومن العرب أحياء الأثبج وزغبة وربيعة وهم المعقل من زناتة أمماً كثيرة ونهض إلى غزو تلمسان سنة ست وسبعين في نحو عشرين ألفاً. ولقي أسطقسيف وبعث العسكر في مقدمته وجاء على أثرهم. وكان تاشفين قد أفرج عن تلمسان وخرج إلى تسالة ولقيته عساكر المنصور فهزموه ولجأ إلى جبل الصخرة. وعاثت عساكر المنصور في تلمسان فخرجت إليه حوا زوجة تاشفين أميرهم متذممة راغبة في الإبقاء متوسلة بوشائج الصنهاجية فأكبر قصدها إليه وأكرم موصلها وأفرج عنهم صبيحة يومه. وانكفأ راجعاً إلى حضرته بالقلعة. وأثخن بعدها في زناتة وشردهم بنواحي الزاب والمغرب الأوسط. ورجع إلى بجاية وأثخن في نواحيها ودوخت عساكره قبائلها فساروا في جبالها المنيعة مثل بني عمران وبني تازروت والمنصورية والصهريج والناظور وحجر المغز وقد كان أسلافه يرومون كثيراً عنها فتمتنع عليهم فاستقام أمره واستفحل ملكه. وقدم عليه معز الدولة بن صمادح من المرية فاراً أمام المرابطين لما ملكوا الأندلس فنزل على المنصور وأقطعه تدلس وأنزله بها. وهلك سنة ثمان وتسعين فولي من بعده ابنه باديس فكان شديد البأس عظيم النظر فنكب عبد الكريم بن سليمان وزير أبيه لأول ولايته وخرج من القلعة إلى بجاية فنكب سهاماً عامل بجاية. وهلك قبل أن يستكمل سنة وولي من بعده أخوه العزيز. وقد كان عزله عن الجزائر وغربه إلى جيجل فبعث عنه القائد علي بن حمدون فوصل وبايعوه وصالح زناتة وأصهر إلى ماخوخ فأنكحه ابنته. وطال أمر ملكه وكانت أيامه هدنة وأمناً. وكان العلماء يتناظرون في مجلسه. ونازلت أساطيله جربة فنزلوا على حكمه وأخذوا بطاعته. ونازل تونس وصالحه صاحبها أحمد بن عبد العزيز وأخذ بطاعته وكبس العرب في أيامه القلعة وهم غازون فاكتسحوا جميع ما وجدوه بظواهرها وعظم عيثهم وقاتلتهم الحامية فغلبوهم وأخرجوهم من البلد. ثم ارتحل العرب وبلغ الخبر إلى العزيز فبعث ابنه يحيى وقائده علي بن حمدون من بجاية في عسكر وتعبية فوصل إلى القلعة وسكن الأحوال. وقد أمن العرب واستعتبوا فأعتبوا وانكفأ يحيى راجعاً إلى بجاية في عسكره. وعلى عهد العزيز هذا كان وصول مهدي الموحدين إلى بجاية قافلاً من المشرق سنة اثتتي عشرة وغير بها المنكر فسعى به عند العزيز وائتمر به فخرج إلى بني ورياكل من صنهاجة كانوا ساكنين بوادي بجاية فأجاروه. ونزل عليهم بملالة وأقام بها يدرس العلم. وطلبه العزيز فمنعوه وقاتلوه دونه إلى أن رحل عنهم إلى المغرب. وهلك العزيز سنة خمس عشرة وأربعمائة فولي من بعده ابنه يحيى وطالت أيامه مستضعفاً مغلباً للنساء مولعاً بالصيد على حين انقراض الدولة وذهاب الأيام بقبائل صنهاجة واستحدث السكة ولم يحدثها أحد من قومه أدباً مع خلفائهم العبيديين ونقل ابن حماد أن سكته في الدينار كانت ثلاثة سطور ودائرة في كل وجه فدائرة الوجه الواحد: " واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " والسطور: لا إله إلا الله محمد رسول الله يعتصم بحبل الله يحيى بن العزيز بالله الأمير المنصور. ودائرة الوجه الآخر: بسم الله الرحمن الرحيم ضرب هذا الدينار بالناصرية سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وفي سطوره: الإمام أبو عبد الله المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين العباسي. ووصل سنة ثلاث وأربعين إلى القلعة لافتقادها ونقل ما بقي بها وانتقض عليه بتوزر ابن مروان فجهز إليه الفقيه مطرف بن علي بن حمدون في العساكر فافتتحها عنوة وتقبض على ابن مروان وأوصله إليه فسجنه بالجزائر إلى أن هلك في معتقله وقيل قتله. وبعث مطرف بابنه إلى تونس فافتتحها ونازل في وجهته هذه المهدية فامتنعت عليه ورجع إلى بجاية. وتغلب النصارى على المهدية وقصده الحسن صاحبها فأجازه إلى الجزائر وأنزله بها مع أخيه القائد حتى إذا زحف الموحدون إلى بجاية وفر القائد من الجزائر وأسلمها قدموا الحسن على أنفسهم. ولقي عبد المؤمن فأمنهم وأخرج يحيى بن عبد العزيز أخاه سبع للقاء الموحدين فانهزم وملك الموحدون بجاية. وركب يحيى البحر إلى صقلية يروم الإجازة منها إلى بغداد. ثم عدل إلى بونة فنزل على أخيه الحارث. ونكر عليه سوء صنيعه وإخراجه عن البلاد فارتحل عنه إلى قسطنطينة فنزل على أخيه الحسن فتخلى له عن الأمر. وفي خلال ذلك دخل الموحدون لقلعة عنوة. وقتل حوشن بن العزيز وابن الدحامس من الأثبج معه وخربت القلعة. ثم بايع يحيى لعبد المؤمن سنة سبع وأرببعين. ونزل عن قسطنطينة واشترط لنفسه فوفى له ونقله إلى مراكش فسكنها. ثم انتقل إلى سلا سنة ثمان وخمسين فسكن قصر بني عشيرة إلى أن هلك في سنته. وأما الحارث بن عبد العزيز صاحب بونة ففر إلى صقلية واستصرخ صاحبها فصارخه على أمره ورجع إلى بونة وملكها. ثم غلب عليها الموحدون وقتلوه صبراً. وانقرض ملك بني حماد والبقاء لله وحده ولم يبق من قبائل ماكسن إلا أوزاع بوادي بجاية ينسبون إليهم وهم لهذا العهد في عداد الجند ولهم اقطاع بنواحي البلد على العسكرة في جملة السلطنة مع قواده والله وارث الأرض ومن عليها. |
الخبر عن ملوك بني حبوس في ماكسن من بني زيري من صنهاجة
بغرناطة من عدوة الأندلس وأولية ذلك ومصايره لما استبد باديس بن المنصور بن بلكين بن زيري بن مناد بن هاد بولاية إفريقية سنة خمس وثمانين ولى عمومته وقرابته ثغور عمله فأنزل حماداً بأشير وأخاه يطوفت بتاهرت وزحف زيري بن عطية صاحب فاس من مغراوة بدعوة المؤيد هشام خليفة قرطبة إلى عمل صنهاجة في جموع زناتة ونزل تاهرت وسرح باديس عساكره لنظر محمد بن أبي العون فالتقوا على تاهرت وانهزم صنهاجة فزحف باديس بنفسه للقائهم وخالف عليه فلفول بن سعيد بن خزرون صاحب طبنة. ثم أجفل زيري بن عطية امامه ورجع به إلى المغرب فرجع باديس إلى القيروان وترك عمومته أولاد زيري بأشير مع حماد وأخيه يطوفت وهم: زاوى وجلال وعمرم ومعنين وأجمعوا على الخلاف والخروج على باديس سنة سبع وثمانين فأسلموا حماداً برمته واستولوا على جميع ما معه واتصل الخبر بأبي البهار بن زيري وهم مع باديس فخشيه على نفسه ولحق بهم واجتمعوا في الخلاف واشتغل باديس عنهم بحرب فلفول بن يانس مولى الحاكم القادم على طرابلس من قبله وانفسح مجالهم في الفساد والعبث ووصلوا أيديهم بفلفول وعاقدوه. ثم رجع أبو البهار عنهم إلى باديس فتقبله وصالح له ثم رجعوا إلى حماد سنة إحدى وتسعين ولقيهم فهزمهم وقتل مساكن وابنه ولحق زاوي بجبل شنوق من ساحل مليانة وأجاز البحر إلى الأندلس في بنيه وبني أخيه وحاشيته ونزل على المنصور بن أبي عامر صاحب الدولة وكافل الخلافة الأموية فأحسن نزلهم وأكرم وفادتهم واصطنعهم لنفسه واتخذهم بطانة لدولته وأوليائه على ما يرومه من قهر الدولة والتغلب على الخلافة ونظمهم في طبقات زناتة وسائر رجالات البربر الذين أدال بجموعهم من جنود السلطان وعساكر الأموية وقبائل العرب واستغلظ أمر صنهاجة بالأندلس واستفحلت أمارتهم وحملوا دولة المنصور بن أبي عامر وولديه المظفر والناصر من بعده على كاهلهم. ولما انقرض أمرهم واضمحلت دولتهم ونشأت الفتنة بالأندلس بين البرابرة وأهلها فكان زاوي كبش تلك الوقائع ومحش حروبها. وتمرس بقرطبة هو وقومه صنهاجة وكافة زناتة والبربر حتى أثبتوا قدم خليفتهم المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر الذي أتوه ببيعتهم وأعطوه على الطاعة صفقتهم كما ذكرناه في أخبارهم ثم اقتحموا به قرطبة عنوة واصطلموا عامة أهلها وأنزلوا المعرات بذوي الصون منها وبيوتات الستر من خراصها فحدث الناس في ذلك بأخبارها. وتوصل زاوي عند استباحة قرطبة إلى رأس أبيه زيرى بن مناد المنصور بجدران قصر قرطبة فأزاله وأصاره إلى قومه ليدفن في جدثه. ثم كان شأن أبي حمود من العلوية وافترق أمر البرابرة واضطرمت الأندلس ناراً وامتلأت جوانبها فتنة وأسرى الرؤساء من البرابرة ورجالات الدولة على النواحي والأمصار فملكوها وتحيزت صنهاجة إلى ناحية ألبيرة فكانت ضواحيها لهم وحصل عليها استلاؤهم وزاوي يومئذ عضد البرابرة فنزل غرناطة واتخذها داراً لملكته ومعتصماً لقومه. ثم وقع في نفسه سوء أثر البربر بالأندلس أيام الفتنة وحذر مغبة الفعلة واستعاضت الدولة فاعتزم على الرطة وآوى إلى سلطان قومه بالقيروان سنة عشر وأربعمائة بعد غيبة عشرين سنة وأنزل على المعز بن باديس حافد أخيه بلكين أجل ما كانت دولتهم بأمر إفريقية وأترف وأوسع ملكاً وأوفر عدداً. فلقيه المعز بأحسن أحوال البر والتجلة وأنزله أرفع المنازل من الدولة وقدمه على الأعمام والقرابة وأسكنه بقصره وأبرز الحرم للقائه فيقال إنه لقيه من ذوات محارمه ألف امرأة لا تحل له واحدة منهن ووارى إبراهيم مع شلوه بجدثه وكان استخلف على عمله ابنه ونا فظعن لأهل غرناطة فانتقضوا عليه وبعثوا عن حبوس ابن عمه ماكسن بن زيري مكانه ببعض حصون عمله فبادر إليهم ونزل بغرناطة فانتقضوا عليه وبايعوه واستحدث بها ملكاً وكان من أعظم ملوك الطوائف بالأندلس إلى أن هلك سنة تسع وعشرين. وولي من بعده ابنه باديس بن حبوس ويلقب بالمظفر ولم يزل مقيماً لدعوة آل حمود أمراء مالقة بعد تخلفهم عن قرطبة سائر أيامه وزحف إليها العامري صاحب المرية سنة تسع وعشرين فلقيه باديس بظاهر غرناطة فهزمه وقتله وطالت أيامه ومد ملوك الطوائف أيديهم جميعاً إلى مدده فكان ممن استمده محمد بن عبد الله البرزالي لما حاصره إسمعيل بن القاضي بن عباد بعساكر أبيه فأمده باديس بنفسه وقومه وصار إلى صريخه مع ابن بقية قائد إدريس بن حمود صاحب المالقة سنة إحدى وثلاثين ورجعوا من طريقهم وطمع إسمعيل بن القاضي بن عباد مع صريخه فيهم فاتبعهم ولحق بباديس في قومه فاقتتلوا وفر عسكر إسمعيل وأسلموه فقتله صنهاجة وحمل رأسه إلى ابن حمود. وكان القادر بن ذي النون صاحب طليلة أيضاً يستدفع به وبقومه استطالة ابن عباد وأعوانه. وباديس هذا هو الذي مصر غرناطة واختط قصبتها وشاد قصورها وشيد حصونها وآثاره في مبانيها ومصانعها باقية لهذا العهد. واستولى على مالقة عند انقراض بني حمود سنة تسع وأربعين وأضافها إلى عمله وهلك سنة سبع وستين. وظهرأمر المرابطين بالمغرب واستفحل ملك يوسف بن تاشفين فولي من بعده حافده عبد الله بن بلكين بن باديس. وتغلب المظفر وعقد لأخيه تميم على مالقة فاستقام أمرها إلى أن أجاز يوسف بن تاشفين إلى العدوة إجازته المعروفة كما نذكره في أخباره ونزل بغرناطة سنة ثلاث وثمانين فتقبض على عبد الله بن بلكين واستصفى أمواله وذخيرته وألحق به أخاه تميماً من مالقة واستصحبها إلى العدوة. فأنزل عبد الله وتميماً بالسوس الأقصى وأقطع لهما إلى أن هلكوا في إيالته. ويزعم بنو الماكسن من بيوتات طنجة لهذا العهد أنهم من أعقابهم فاضمحل ملك بلكانة من صنهاجة ومن إفريقية والأندلس أجمع والبقاء لله وحده. الطبقة الثانية من صنهاجة وهم الملثمون وما كان لهم بالمغرب من الملك والدولة هنه الطبقة من صنهاجة هم الملثمون الموطنون بالقفر وراء الرمال الصحراوية بالجنوب أبعدوا في المجالات هنالك منذ دهور قبل الفتح لا يعرف أولها فأصحروا عن الأرياف ووجدوا بها المراد وهجروا التلول وجفوها واعتاضوا منها بألبان الأنعام ولحومها انتباذاً عن العمران واستئناساً بالانفراد وتوحشاً بالعز عن الغلبة والقهر. فنزلوا من ريف الحبشة جواراً وصاروا ما بين بلاد البربر وبلاد السودان حجزاً واتخذوا اللثام خطاماً تميزوا بشعاره بين الأمم وعفوا في تلك البلاد وكثروا. وتعددت قبائلهم من كذالة فلمتونة فمسوفة فوتريكة فناوكا فزغاوة ثم لمطة إخوة صنهاجة كلهم ما بين البحر المحيط بالمغرب إلى غدامس من قبلة طرابلس وبرقة. وللمتونة فيهم بطون كثيرة منهم: بنو ورتنطق وبنو زمال وبنو صولان وبنو ناسجة وكان موطنهم من بلاد الصحراء يعرف كاكدم وكان دينهم جميعاً المجوسية شأن برابرة المغرب. ولم يزالوا مستقرين بتلك المجالات حتى كان إسلامهم بعد فتح الأندلس وكانت الرياسة فيهم للمتونة. واستوسق لهم ملك ضخم منذ دولة عبد الرحمن بن معاوية الداخل توارتة ملوك منهم. تلاكاكين وورتكا وأوراكن بن ورتنطق جد أبي بكر بن عمر أمير لمتونة في مبتدأ دولتهم وطالت أعمارهم فيها إلى الثمانين ونحوها ودوخوا تلك البلاد الصحراوية وجاهدوا من بها من أمم السودان وحملوهم على الإسلام فدان به كثيرهم. واتقاهم آخرون بالجزية فقبلوها منهم وملك عليهم بعد تلاكاكين المذكور تيولوتان. قال ابن أبي زرع: أول من ملك الصحراء من لمتونة تيولوتان فدوخ بلاد الصحراء واقتضى مغارم السودان. وكان يركب في مائة ألف نجيب. وتوفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين وملك بعده يلتان وقام بأمرهم وتوفي سنة سبع وثمانين ومائتين وقام بأمرهم بعده ابنه تميم إلى سنة ست وثلثمائة وقتله صنهاجة وافترق أمرهم. انتهى كلام ابن أبي زرع. وقال غيره: كان من أشهرهم تينزوا بن وانشيق بن بيزا وقيل برويان بن واشنق بن يزار ملك الصحراء بأسرها على عهد عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر في المائة الرابعة. وفي عهد عبيد الله وابنه أبي القاسم من خلفاء الشيعة كان يركب في مائة ألف نجيب وعمله مسيرة شهرين في مثلها. ودان له عشرون ملكاً من ملوك السودان يعطونه الجزى وملك من بعده بنوه ثم افترق أمرهم من بعد ذلك وصار ملكهم طوائف ورياستهم شيعاً. قال ابن أبي زرع: افترق أمرهم بعد تميم بن يلتان مائة وعشرون سنة إلى أن قام فيهم أبوعبيد الله بن تيفاوت المعروف بناشرت اللمتوني فاجتمعوا عليه وأحبوه وكان من أهل الدين والصلاح وحج وهلك لثلاثة أعوام من رياسته في بعض غزواته. وقام بأمرهم صهره يحيى بن إبراهيم الكندالي. وبعده يحيى بن عمر بن تلاكاكين. وكان لهذه الطبقة ملك ضخم بالمغرب والأندلس أولاً وبإفريقية بعده فنذكره الآن على نسقه. |
دولة المرابطين من لمتونة
الخبر عن دولة المرابطين من لمتونة وما كان لهم بالعدوتين من الملك وأولية ذلك ومصايره كان هؤلاء الملثمون في صحاريهم كما قلناه وكانوا على دين المجوسية إلى أن ظهر فيهم الإسلام لعهد المائة الثالثة كما ذكرناه وجاهدوا جيرانهم من السودان عليه فدانوا لهم واستوثق لهم الملك. ثم افترقوا وكانت رياسة كل بطن منهم في بيت مخصوص. فكانت رياسة لمتونة في بني ورتانطق بن منصور بن مصالة بن المنصور بن مزالت بن أميت بن رتمال بن تلميت وهو لمتونة. ولما أفضت الرياسة إلى يحيى بن إبراهيم الكندالي وكان له صهر في بني ورتانطق هؤلاء وتظاهروا على أمرهم. وخرج يحيى بن إبراهيم لقضائه فرصة في رؤساء من قومه في سني أربعين وأربعمائة فلقوا في منصرفهم بالقيروان شيخ المذهب المالكي أبو عمران الفاسي واغتنموا ما متعوا به من هديه وما شافههم به من فروض أعيانهم من فتاوبه. وسأله الأمير يحيى أن يصحبهم من تلميذه من يرجعون إليه في نوازلهم وقضايا دينهم. فندب تلميذه إلى ذلك حرصاً على إيصال الخير إليهم لما رأى من رغتهم فيه فاستوعبوا مسغبة بلادهم. وكتب لهم الفقيه أبو عمران إلى الفقيه محمد وكاك بن زلوا اللمطي بسجلماسة من الآخذين عنه وعهد إليه أن يلتمس لهم من يثق بدينه وفقهه ويروض نفسه على مسغبة أرضهم قي معاشه فبعث معهم عبد الله بن ياسين بن مكو الجزولي ووصل معهم يعلمهم القرآن ويقيم لهم الدين. ثم هلك يحيى بن إبراهيم وافترق أمرهم واطرحوا عبد الله بن ياسين واستصعبوا علمه وتركوا الأخذ عنه لما تجشموا فيه من مشاق التكليف فأعرض عنهم وترهب. وتنسك معه يحيى بن عمر بن تلاكاكين من رؤساء لمتونة وأخوه أبو بكر فنبذوا عن الناس في ربوة يحيط بحر النيل من جهاتها ضحضاحاً في المصيف وغمراً في الشتاء فتعود جزراً منقطعة. فدخلوا في غياضها منفردين للعبادة وتسامع بهم من في قلبه مثقال حبة من خير فتسايلوا إليهم ودخلوا ولما كمل معهم ألف من الرجالات قال لهم شيخهم عبد الله بن ياسين إن ألفاً لن تغلب من قلة وقد تعين علينا القيام بالحق والدعاء إليه وحمل الكافة عليه فأخرجوا بنا لذلك فخرجوا وقتلوا من استعصى عليهم من قبائل لمتونة وكدالة ومسوفة حتى أنابوا إلى الحق واستقاموا على الطريقة وأذن لهم في أخذ الصدقات من أموال المسلمين وسماهم بالمرابطين وجعل أمرهم في العرب إلى الأمير يحيى بن عمر فتخطوا الرمال الصحراوبة إلى بلاد درعة وسجلماسة فأعطوهم صدقاتهم وانقلبوا. ثم كتب إليهم وكاك اللمطي بما نال المسلمين فيما إليه من العسف والجور من بني وانودين أمراء سجلماسة من مغراوة وحرضهم على تغيير أمرهم فخرجوا من الصحراء سنة خمس وأربعين وأبعمائة في عدد ضخم ركباناً على المهارى أكثرهم وعمدوا إلى درعة. لا بل كانت هنالك بالحمى وكانت تناهز. خمسين ألفاً ونحوها. ونهض إليهم مسعود بن وانودين أمير مغراوة وصاحب سجلماسة ودرعة لمدافعتهم عنها وعن بلاده فتواقعوا وانهزم ابن وانودين وقتل واستلحم عسكره مع أموالهم واستلحمهم ودوابهم وإبل الحمى التي كانت ببلد درعة. وقصدوا سجلماسة فدخلوها غلاباً وقتلوا من كان بها من فل مغراوة وأصلحوا من أحوالها وغيروا المنكرات وأسقطوا المغارم والمكوس واقتضوا الصدقات واستعملوا عليها منهم وعادوا إلى صحرائهم. فهلك يحيى بن عمر سنة سبع وأربعين وقدم وافتتح ماسة وتارودانت وجميع معاقله. ثم افتتح مدينة أغمات سنة تسع وأربعين وفر أميرها لقوط بن يوسف بن علي المغراوي إلى قادلا واستضاف إلى بني يفرن بها ثم افتتح المرابطون بلاد المصامدة بجبال درن وجاسوا خلالها سنة خمسين ثم أغزوا تادلا فاستباحوها واستلحموا بني يفرن ملوكها وقتل معهم لقوط بن يوسف المغراوي صاحب أغمات. وتزوج امرأته زينب بنت إسحق النفراوية وكانت مشهورة بالجمال والرئاسة وكانت قبل لقوط عند يوسف بن علي بن عبد الرحمن بن واطاس وكان شيخاً على وريكة وهزرجة بزمن هيلانة في دولة أمغارن في بلاد المصامدة وهم الشيوخ. وتغلب بنو يفرن على وريكة وملكوا أغمات فتزوج لقوط زينب هذه ثم تزوجها بعده أبو بكر بن عمر كما ذكرنا. ثم دعا المرابطين إلى جهاد برغواطة الذين كانوا بتامستا وإنفا وجهات الريف الغربي فكانت لهم فيهم وقائع وأيام استشهد عبد الله بن ياسين في بعضها سنة خمسين. وقدم المرابطون بعده سليمان بن عدو ليرجعوا إليه في قضايا دينهم. واستمر أبو بكر بن عمر في إمارة قومه على جهادهم ثم استأصل شأفتهم ومحا أثر دعوتهم من المغرب وهلك في جهادهم سليمان بن عدو سنة إحدى وخمسين لسنة من وفاة عبد الله بن ياسين. ثم نازل أبو بكر مدينة لواتة وافتتحها عنوة وقتل من كان بها من زناتة سنة اثنتين وخمسين. وبلغه وهو لم يستتم فتح المغرب بعدما وقع من الخلاف بين لمتونة ومسوفة ببلاد الصحراء حيث أصل أعياصهم ووشايج أعراقهم ومنيع عددهم فخشي افتراق الكلمة وانقطاع الوصلة وتلافى أمره بالرحلة. وأكد ذلك زحف بلكين بن محمد بن حماد صاحب القلعة إلى المغرب سنة ثلاث وخمسين لقتالهم فارتحل أبو بكر إلى الصحراء واستعمل على المغرب ابن عمه يوسف بن تاشفين ونزل له عن زوجه زينب بنت إسحق ولحق بقومه. ورفع ما كان بينهم من خرق الفتنة وفتح باباً من جهاد السودان فاستولى على نحو تسعين مرحلة من بلادهم. وأقام يوسف بن تاشفين بأطراف المغرب ونزك بلكين صاحب القلعة فاس وأخذ رهنها على الطاعة وانكفأ راجعاً. فحينئذ سار يوسف بن تاشفين في عسكره من المرابطين ودوخ أقطار المغرب. ثم رجع أبو بكر إلى المغرب فوجد يوسف بن تاشفين قد استبد عليه. وأشارت عليه زينب أن يريه الاستبداد في أحواله وأن يعد له متاع الصحراء وماعونها ففطن لذلك الأمير أبو بكر وتجافى عن المنازعة وسلم له الأمر ورجع إلى أرضه فهلك لمرجعه سنة ثمانين وأربعمائة. واختط يوسف مدينة مراكش سنة أربع وخمسين ونزلها بالخيام وأدار سورها على مسجد وقصبة صغيرة لاختزان أمواله وسلاحه وكمل تشييدها وأسوارها ابنه من بعده سنة ست وعشرين وخمسمائة. وجعل يوسف مدينة مراكش لنزله لعسكره وللتمرس بقبائل المصامدة المصيفة بمواطنهم بها في جبل درن فلم يكن في قبائل المغرب أشد منهم ولا أكثر جمعاً. ثم صرف عزمه إلى مطالبة مغراوة وبني يفرن وقبائل زناتة بالمغرب وجذب الحبل من أيديهم وكشف ما نزل بالرعايا من جورهم وعسفهم فقد كانوا من ذلك على ألم - حدث المؤرخون في أخبار مدينة فاس ودولتهم فيها بكثير منه - فنازل أولاً قلعة فازاز وبها مهدي بن توالي من بني يحفش. قال صاحب نظم الجواهر: وهم بطن من زناتة وكان أبو توالي صاحب تلك القلعة ووليها هو من بعده فنازله يوسف بن تاشفين. ثم استجاش به على فاس مهدي بن يوسف الكزنابي صاحب مكناسة بما كان عدواً لمعنصر المغراوي صاحب فاس فزحف في عساكر المرابطين إلى فاس وجمع إليه معنصر ففض جموعه وارتحل يوسف إلى فاس وتقرى منازلها وافتتح جميع الحصون المحيطة بها وأقام عليها أياماً قلائل وظفر بعاملها بكار بن إبراهيم فقتله. ثم نهض إلى صفروي فافتتحها وقتل من كان بها من أولاد وانودين المغراوي ورجع إلى فاس فافتتحها صلحاً سنة خمس وخمسين ثم خرج إلى غمارة ونازلهم وفتح كثيراً من بلادهم. وأشرف على طنجة وبها سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة وبقية الأمراء من موالي الحمودية وأهل دعوتهما. ثم رجع إلى منازلة قلعة فازاز وخالفه معنصر إلى فاس فاستولى عليها وقتل واستدعى يوسف بن تاشفين مهدي بن يوسف صاحب مكناسة ليستجيش به على فاس فاستعرضه معنصر في طريقه قبل أن تتصل بأيديهما وناجزه الحرب ففض جموعه وقتله وبعث برأسه إلى وليه ومساهمه في شدته الحاجب سكوت البرغواطي. واستصرخ أهل مكناسة بالأمير يوسف بن تاشفين فسرح عساكر لمتونة إلى حصار فاس فأخذوا بمخنقها وقطعوا المرافق عنها وألحوا بالقتال عليها فمسهم الجهد. وبرز معنصر إلى مناجزة عدوه لإحدى الراحتين فكانت الدائرة عليه وهلك. واجتمع زناتة من بعده على القاسم بن محمد بن عبد الرحمن من ولد موسى بن أبي العافية كانوا ملوكاً بتازا وتسول فزحفوا إلى عساكر المرابطين والتقوا بوادي صفير فكان الظهور لزناتة. واستلحم كثير من المرابطين واتصل خبرهم بيوسف بن تاشفين وهو محاصر لقلعة مهدي من بلاد فازاز فارتحل سنة ست وخمسين ونزل عليها عسكر من المرابطين وصار يتنقل في بلاد المغرب فافتتح بني مراسن ثم فنزلاوة ثم بلاد ورغة سنة ثمان وخمسين. ثم افتتح بلاد غمارة سنة ستين. وفي سنة اثنتين وستين نازل فاس فحاصرها مدة ثم افتتحها عنوة وقتل بها زهاء ثلاثة آلاف من مغراوة وبني يفرن ومكناسة وقبائل زناتة حتى أعوزت مدافنهم فرادى فاتخذت لهم الأخاديد وقبروا جماعات وخلص من نجا منهم من القتل إلى بلاد تلمسان وأمر بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين القرويين والأندلسيين من عدوتيها وصيرها مصراً واحداً. وأدار عليها الأسوار وحمل أهلها على الاستكثار من المساجد ورتب بناءها. وارتحل سنة ثلاث وستين إلى وادي ملوية فافتتح بلادها وحصون وطاط من نواحيها. ثم نهض سنة خمس وستين إلى مدينة الدمنة فافتتحها عنوة ثم افتتح حصن علودان من حصون غمارة. ثم نهض سنة سبع وستين إلى جبال غياثة وبني مكود من أحواز تازا فافتتحها ودوخها. ثم قسم المغرب عمالات على بنيه وأمراء قومه وذويه ثم استدعاه المعتمد بن عباد إلى الجهاد فاعتذر له بمكان الحاجب سكوت البرغواطي وقومه من أولياء الدولة الحمودية بسبتة فأعاد إليه ابن عباد الرسل بالمشايعة إليهم فجهز إليهم قائده صالح بن عمران في عساكر لمتونة فلقيه سكوت الحاجب بظاهر طنجة في قومه ومعه ابنه ضياء الدولة فانكشف وقتل الحاجب سكوت ولحق ابنه العزيز ضياء الدولة. وكتب صالح بن عمران بالفتح إلى يوسف بن تاشفين. ثم أغزى الأمير يوسف بن تاشفين إلى المغرب الأوسط سنة اثنتين وسبعين قائده مزدلي بن تبلكان بن محمد بن وركوت من عثسيره في عساكر لمتونة لمحاربة مغراوة ملوك تلمسان بومئذ الأمير العباس ين يختي من ولد يعلى بن محمد بن الخير بن محمد بن خزر فدوخوا المغرب الأوسط وصاروا في بلاد زناتة وظفروا بيعلى بن الأمير العباسي فقتلوه وانكفأوا راجعين من غزاتهم. ثم نهض يوسف بن تاشفين سنة ثلاث بعدها إلى الريف وافتتح كرسيف ومليلة وسائر بلاد الريف وخرب مدينة نكور فلم تعمر بعد ثم نهض في عساكره المرابطين إلى بلاد المغرب الأوسط فافتتح مدينة وجدة وبلاد بني يزتاسن. ثم افتتح مدينة تلمسان واستلحم من كان بها من مغراوة وقتل العباس بن بختي أمير تلمسان وأنزل محمد بن المستوفى بها في عساكر المرابطين فصارت ثغراً لملكه. ونزل بعساكره واختط بها مدينة تاكرارت بمكان محلته وهو اسم المحلة بلسان البربر. ثم افتتح مدينة تنس ووهران وجبل وانشريس إلى الجزائر وانكفأ راجعاً إلى المغرب فاحتل مراكش سنة خمس وسبعين. ولم يزل محمد بن تينعمر والياً بتلمسان إلى أن هلك وولي بعده أخوه ثم إن الطاغية تكالب على بلاد المسلمين وراء البحر وانتهز الفرصة فيها بما كان من الفرقة بين ملوك الطوائف فحاصر طليلة وبها القادر بن يحيى بن ذي النون حتى نالهم الجهد وتسلمها منه صلحاً سنة ثمان وسبعين على أن يملكه بلنسية فبعث معه عسكراً من النصرانية فدخل بلنسية وتملكها على حين مهلك صاحبها أبي بكر بن العزيز بين يدي حصار طليلة. وسار الطاغية في بلاد الأندلس حتى وقف بفرضة المجاز من صريف وأعيا أمره أهل الأندلس واقتضى منهم الجزية فأعطوها. ثم نازل سرقسطة وضيق على ابن هود بها وطال مقامه وامتد أمله إلى تملكها فخاطب المعتمد بن عباد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين منتجزاً وكاتبه أهل الأندلس في كافة من العلماء والخاصة فاهتز للجهاد وبعث ابنه المعز في عساكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز فنازلها براً. وأحاطت بها أساطيل ابن عباد بحراً فاقتحموها عنوة في ربيع الآخر سنة ست وسبعين وتقبض على ضياء الدولة وقيد إلى المغرب فقتله صبراً وكتب إلى أبيه بالفتح. ثم أجاز ابن عباد البحر في جماعته والمرابطين ولقيه بفاس مستنفراً للجهاد. وأنزل له ابنه الراضي عن الجزيرة الخضمراء لتكون رباطاً لجهاده فأجاز البحر في عساكر المرابطين وقبائل المغرب ونزل الجزيرة سنة تسع وثمانين وأربعمائة ولقيه المعتمد ابن عباد وابن الأفطس صاحب بطليوس. وجمع ابن أدفونش ملك الجلالقة أمم النصرانية لقتاله ولقي المرابطين بالزلاقة من نواحي بطليوس فكان للمسلمين عليه اليوم المشهور سنة إحدى وثمانين. ثم رجع إلى مراكش وخلف عسكراً بالإشبيلية لنظر محمد ومجون بن سيمونن بن محمد بن وركوت من عشيره ويعرف أبوه بالحاج وكان محمد من بطانته وأعاظم قواد تكاليب الطاغية على شرق الأندلس ولم يغن فيه أمراء الطوائف شيئاً فزحف إليه من سبتة ابن الحاج قائد يوسمف بن تاشفين في عساكر المرابطين فهزموا جميع النصارى هزيمة شنيعة. وخلع ابن رشيق صاحب مرسية وتمادى إلى دانية ففر علي بن مجاهد أمامه إلى بجاية ونزل على الناصر بن علناس فأكرمه ووصل ابن جحاف قاضي بلنسية إلى محمد بن الحاج مغرياً بالقادر بن ذي النون فأنفذ معه عسكراً وملك بلنسية وقتل ابن ذي النون وذلك سنة خمس وثمانين وانتهى الخبر إلى الطاغية فنازل بلنسية واتصل حصاره إياها إلى أن ملكها سنة خمس وثمانين ثم استخلصتها عساكر المرابطين وولى عليها يوسف بن تاشفين الأمير مزدلي وأجاز يوسف بن تاشفين ثانية سنة ست وثمانين وتثاقل أمراء الطوائف عن لقائه لما أحسوا من نكيره عليهم لما يسمون به عليهم من الظلامات والمكوس وتلاحق المغارم فوجد عليهم وعهد برفع المكوس وتحرى المعدلة فلما أجاز انقبضوا عنه إلا ابن عباد فإنه بادر إلى لقائه وأغراه بالكثير منهم فتقبض على ابن رشيق فأمكن ابن عباد منه العداوة التي بينهما. وبعث جيشاً إلى المرية ففر عنها ابن صمادح ونزلى على المنصور بن الناصر ببجاية وتوافق ملوك الطوائف على قطع المدد عن عساكره ومحلاته فساء نظره وأفتاه الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم وصارت إليه بذلك فتاوى أهل الشرق الأعلام مثل الغزالي والطرطوشي فعهد إلى غرناطة واستنزل صاحبها عبيد الله بن بلكين بن باديس وأخاه تميماً من مالقة بعد أن كان منهما مداخلة الطاغية في عداوة يوسف بن تاشفين. وبعث بهما إلى المغرب فخاف ابن عباد عند ذلك منه وانقبض عن لقائه وفشت السعايات بينهما. ونهض يوسف بن تاشفين إلى سبتة فاستقر بها وعقد للأمير سير بن أبي بكر بن محمد وركوت على الأندلس وأجازه فقدم عليها وقعد ابن عباد عن تلقيه ومبرته فأحفظه ذلك وطالبه بالطاعة للأمير يوسف والنزول عن الأمر ففسد ذات بينهما وغلبه على جميع عمله. واستنزل أولاد المأمون من قرطبة ويزيد الراضي من رندة وقرمونة واستولى على جميعها وقتلهم. وصمد إلى إشبيلية فحاصر المعتمد بها وضيق عليه واستنجد الطاغية فعمد إلى إستنقاذه من هذا الحصار فلم يغن عنه شيئاً وكان دفاع لمتونة مما فت في عضده واقتحم المرابطون إشبيلية عليه عنوة سنة أربع وثمانين. وتقبض على المعتمد وقاده أسيراً إلى مراكش فلم يزل في اعتقال يوسف بن تاشفين إلى أن هلك في محبسه بأغمات سنة سبعين وأربعمائة ثم عمد إلى بطليوس وتقبض على صاحبها عمر بن الأفطس فقتله وابنيه يوم الأضحى سنة تسع وثمانين بما صح عنده من مداخلتهم الطاغية وأن يملكوه مدينة بطليوس ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الثالث سنة تسعين وزحف إليه الطاغية فبعث عساكر المرابطين لنظر محمد بن الحاج فانهزم النصارى أمامه وكان الظهور للمسلمين. ثم أجاز الأمير يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وتسعين وانضم إليه محمد بن الحاج وسير بن أبي بكر واقتحموا عامة الأندلس من أيدي ملوك الطوائف ولم يبق منها إلا سرقسطة في يد المستعين بن هود معتصماً بالنصارى. وغزا الأمير مزدلي صاحب بلنسية إلى بلد برشلونة فأثخن بها وبلغ إلى حيث لم يبلغ أحد قبله ورجع. وانتظمت بلاد الأندلس في ملكة يوسف بن تاشفين وانقرض ملك الطوائف منها أجمع كأن لم يكن واستولى على العدوتين واتصلت هزائم النصارى على يد المرابطين مراراً وتسمى بأمير المسلمين وخاطب المستنصر العباسي الخليفة لعهده ببغداد وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العرب المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر فتلطفا في القول وأحسنا في الإبلاغ وطلبا من الخليفة أن يعقد له على المغرب والأندلس فعقد له وتضمن ذلك مكتوب الخليفة بذلك منقولاً في أيدي الناس وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم. وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضانه على العدل والتمسك بالخير ويفتيانه في شأن ملوك الطوائف بحكم الله. ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الرابع إلى الأندلس سنة سبع وتسعين وقد كان ما قدمناه في أخبار بني حماد من زحف المنصور بن الناصر إلى تلمسان سنة سبع وتسعين للفتنة التي وقعت بينه وبين تاشفين بن يتنعمر وافتتاحه أكثر بلادهم فصالحه يوسف بن تاشفين واسترضاه بعدول تاشفين عن تلمسان سنة سبع وتسعين وبعث إليهما مزدلي من بلنسية وولي بلنسية عوضاً عنه أبا محمد ابن فاطمة وكثرت غزواته في بلاد النصرانية. وهلك يوسف على رأس المائة الخامسة وقام بالأمر من بعده ابنه علي بن يوسف فكان خير ملك وكانت أيامه صدراً منها وادعة ودولته على الكفر وأهله ظهور وعزة وأجاز إلى العدوة فأثخن في بلاد العدو قتلاً وسبياً وولى على الأندلس الأمير تميم بن. وجمع الطاغية للأمير تميم فهزمه تميم ثم أجاز علي بن يوسف سنة ثلاث ونازل طليطلة. وأثخن في بلاد النصارى ورجع وعلى أثر ذلك قصد ابن ردمير سرقسطة وخرج ابن هود للقائه فانهزم المسلمون ومات ابن هود شهيداً وحاصر ابن ردمير البلد حتى نزلوا على حكمه. ثم كان سنة تسع شأن برقة وتغلب أهل جنوة عليها وخلاؤها. ثم رجع العمران إليها على يد ابن تامرظست من قواد المرابطين كما مر في ذكرها عند ذكر الطوائف ثم استمرت حال علي بن يوسف في ملكه وعظم شأنه وعقد لولده تاشفين على غرب الأندلس سنة ست وعشرين وأنزله قرطبة وإشبيلية وأجاز معه الزبير بن عمر وحشد قومه وعقد لأبي بكر بن إبراهيم المسوفي على شرق الأندس وأنزله بلنسية وهو ممدوح بن خفاجة ومخدوم أبي بكر بن باجة الحكيم المعروف بابن الصائغ. وعقد لابن غانية المسوفي على الجزائر الشرقية دانية وميورقة واستقامت أيامه ولأربع عشرة سنة من دولته كان ظهور الإمام المهدي صاحب دعوة الموحدين فقيهاً منتحلاً للعلم والفتيا والتدريس آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر متعرضاً بذلك للمكروه في نفسه. ونالته ببجاية وتلمسان ومكناسة اذايات من الفسقة ومن الظالمين وأحضره الأمير علي بن يوسف للمناظرة ففلج علي خصومه من الفقهاء بمجلسه ولحق بقومه هرغة من المصامدة. واستدرك علي بن يوسف رأيه فتفقده وطالب هرغة بإحضاره فأبوا عليه فسرح إليهم البعث فأوقعوا به وتقاسم معهم هنتاتة وتينملل على إجارته والوفاء بما عاهدهم عليه من القيام بالحق والدعاء إليه حسبما يذكر ذلك كله بعد دولتهم. وهلك المهدي في سنة أربع وعشرين وقام بأمرهم عبد المؤمن بن علي الكومي كبير أصحابه بعهده إليه وانتظمت كلمة المصامدة وأغزوا مراكش مراراً. وفشل ريح لمتونة بالعدوة الأندلسية وظهر أمر الموحدين وفشت كلمتهم في برابرة المغرب. وهلك علي بن يوسف سنة سبع وثلاثين وقام بالأمر من بعده ولده تاشفين وولي عهده وأخذ بطاعته وبيعته أهل العدوتين كما كانوا على حين استغلظ أمر الموحدين واستفحل شأنهم وألحوا في طلبه. وغزا عبد المؤمن غزوته المجرى إلى جبال المغرب ونهض تاشفين بعساكره بالبسائط إلى أن نزل تلمسان. ونازله عبد المؤمن والموحدون بكهف الضحاك بين الصخرتين من جبل تيطري المطل عليها ووصله هنالك مدد صنهاجة من قبل يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية مع قائده طاهر بن كباب وشرهوا إلى مدافعة الموحدين فغلبوهم. وهلك طاهر واستلحم الصنهاجيون وفر تاشفين إلى وهران في موادعة لب بن ميمون قائد البحر بأساطيله. واتبعه الموحدون واقتحموا عليه البلد فهلك يقال سنة إحدى وأربعين. واستولى الموحدون على المغرب الأوسط واستلحموا لمتونة. ثم بويع بمراكش ابنه إبراهيم وألفوه مضعفاً عاجزاً فخلع وبويع عمه إسحق بن علي بن يوسف بن تاشفين. وعلى هيئة ذلك وصل الموحدون إليها وقد ملكوا جميع بلاد المغرب عليه فخرج إليهم في خاصته فقتلهم الموحدون. وأجاز عبد المؤمن والموحدون إلى الأندلس سنة إحدى وخمسين وملكوا واستحلموا أمراء لمتونة وكافتهم وفروا في كل وجه ولحق فلهم بالجزائر الشرقية ميورقة ومنورقة ويابسة إلى أن جددوا من بعده للملك بناحية إفريقية والله غالب على أمره. |
دولة ابن غانية
الخبر عن دولة ابن غانية من بقية المرابطين وما كان له من الملك والسلطان بناحية قابس وطرابلس واجلابه علي الموحدين ومظاهرة قراقش الغزي له على أمره وأولية ذلك ومصايره كان أمر المرابطين من أوله في كدالة من قبائل الملثمين حتى هلك يحيى بن إبراهيم فاختلفوا على عبد الله بن ياسين أمامهم وتحول عنهم إلى لمتونة وأقصر عن دعوته وتنسك وترهب كما قلناه حتى إذا أجاب داعية يحيى بن عمر وأبي بكر بن عمر من بني ورتانطق بيت رئاسة لمتونة. واتبعهم الكثير من قومهم وجاهدوا معه سائر قبائل الملثمين وكان مسوفة قد دخل في دعوة المرابطين كثير منهم فكان لهم بذلك في تلك الدولة حظ من الرئاسة والظهور. وكان يحيى المسوفي من رجالاتهم وشجعانهم وكان مقدماً عند يوسف بن تاشفين لمكانه في قومه. واتفق أنه قتل بعذر رجالات لمتونة في ملاحاة وقعت بينهم فتثاور الحيان وفر هو إلى الصحراء ففدى يوسف بن تاشفين القتيل ووداه واسترجع علياً من مقره لسنين من مغيبه وأنكحه امرأة من أهل بيته تسمى غانية بعهد أبيها إليه في ذلك فولدت منه محمداً ويحيى ونشأ في ظل يوسف بن تاشفين وحجر كفالته. ورعى لهما علي بن يوسف ذمام هذه الأواصر وعقد ليحيى على غرب الأندلس وأنزله قرطبة. وعقد لمحمد على الجزائر الشرقية ميورقة ومنورقة ويابسة سنة عشرين وخمسائة وانقرض بعد ذلك أمر المرابطين. وتقدم وفد الأندلس إلى عبد المؤمن وبعث معهم أبا إسحق براق بن محمد المصمودي من رجالات الموجدين وعقد له على حرب لمتونة كما يذكر في أخبارهم فملك إشبيلية واقتضى طاعة يحيى بن علي بن غانية واستنزله عن قرطبة إلى جيان. والقلعة فسار منها إلى غرناطة يستنزل من بها من لمتونة ويحملهم على طاعة الموحدين فهلك هنالك سنة ثلاث وأربعين ودفن بقصر باديس. وأما محمد بن علي فلم يزل والياً إلى أن هلك وقام بأمره بعده ابنه عبد الله. ثم هلك وقام بالأمر أخوه إسحق بن محمد بن علي. وقيل إن إسحق ولي بعد ابنه محمد. وأنه قتله غيرة من أخيه عبد الله لمكان أبيه منه فقتلهما معاً واستبد بأمره إلى أن هلك سنة ثمانين وخمسائة. وخلف ثمانية من الولد وهم محمد وعلي ويحيى وعبد الله والغازي وسير والمنصور وجبارة فقام بالأمر ابنه محمد. ولما أجاز يوسف بن عبد المؤمن بن علي إلى ابن الزبرتير لاختبار طاعتهم ولحين وصوله نكر ذلك إخوته وتقبضوا عليه واعتقلوه. وقام بالأمر أخوه علي بن محمد بن علي وتلوموا في رد ابن الزبرتير إلى مرسله وحالوا بينه وبين الأسطول حين بلغهم أن الخليفة يوسف القسري استشهد في الجهاد بأركش من العدوة وقام بالأمر ابنه يعقوب واعتقلوا ابن الزبرتير وركبوا البحر في اثنتين وثلاثين قطعة من أساطيلهم وأسطوله وركب معه إخوته يحيى وعبد الله والغازي وولي على ميورقة عمه أبا الزبير وأقلعوا إلى بجاية فطرقوها على حين غفلة من أهلها وعليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن وكان بايميلول من خارجها في بعض مذاهبه واعتقلوا بها السيد أبا موسى بن عبد المؤمن كان قافلاً من إفريقية يؤم المغرب وكان والي القلعة قاصداً مراكش وهو يستخبر خبر بجاية فرجع وظاهر السيد أبا الربيع وزحف إليهما علي بن غانية فهزمهما واستولى على أموالهما وابنتهما ولحقا بتلمسان فنزلا بها على السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن وأخذ في تحصين تلمسان ورم أسوارها وأقاما عند السيد يرومان الكرة من صاحب تلمسان وعاث علي بن محمد بن غانية في الأموال وفرقها في ذؤبان العرب ومن انضاف إليهم ورحل إلى الجزائر فافتتحها وولى عليها بدر بن عائشة. ثم نهض إلى القلعة فحاصرها ثلاثاً ودخلها عنوة وكانت له في المغرب خطة مشهورة ثم قصد قسطنطينة فامتنعت عليه واجتمعت عليه وفود الغزو سرح العساكر في البر لنظر السيد أبي زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن وعقد له على المغرب الأوسط. وبعث الأساطيل إلى البحر وقائدها أحمد الصقلي وعقد عليها لأبي محمد بن إبراهيم بن جامع وزحفت العساكر من كل جهة فثار أهل الجزائر على يحيى بن أبي طلحة ومن معه وأمكنوا منهم السيد أبايزيد فقتلهم على شلف وعفا عن يحيىى لنجدة عمه طلحة وكان بدر بن عائشة أسرى من مليانة واتبعه الجيش فلحقوه أمام العدو فتقبضوا عليه بعد قتال مع البرابرة حين أرادوا إجارته وقادوه إلى السيد أبي يزيد فقتله وسبق الأسطول إلى بجاية فثار بيحيى بن غانية وفر إلى أخيه علي لمكانه من حصار قسطنطينة بعد أن كان أخذ بمخنقها ونزل السيد أبو زيد بعساكره بتكلات من ظاهر بجاية وأطلق السيد أبا موسى من معتقله ثم رحل في طلب العدو فأفرج عن قسطنطينة بعد أن كان أخذها ومضى شديداً في الصحراء والموحدون في اتباعه حتى انتهوا إلى مغرة ونغارس. ثم نقلوا إلى بجاية واستنفر السيد أبا زيد بها وقصد علي بن غانية في قفصة فملكها ونازل بورق وقصطيلة فامتنعت وارتحل إلى طرابلس وفيها قراقش الغزي المطغري وكان من خبره على ما نقل أبو محمد التيجاني في كتاب رحلته أن صلاح الدين صاحب مصر بعث تقي الدين ابن أخيه شاه إلى المغرب لافتتاح ما أمكنه من المدن تكون له معقلاً يتحصن فيه من مطالبة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام الذي كان صلاح الدين عمه من وزرائه. واستعجلوا النصر فخشوا عاديته. ثم رجع تقي الدين من طريقه لأمر عرض له ففر قراقش الأرمني بطائفة من جنوده. وفر إبراهيم بن قراتكين سلاح دار المعظم نسبة للملك المعظم شمس الدولة ابن أيوب أخي صلاح الدين. فأما قراقش فلحق بسنترية وافتتحها وذلك سنة ست وثمانين وخطب فيها لصلاح الدين ولأستاذه تقي الدين. وكتب لهما بالفتح وافتتح زويلة وغلب بني خطاب الهواري على ملك فزان وكانت ملكاً لعمه محمد بن الخطاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنفل بن خطاب وهو آخر ملوكهم وكانت قاعدة ملكه زويلة. وتعرف زويلة ابن خطاب فتقبض عليه وغلبه على المال حتى هلك ولم يزل يفتح البلاد إلى أن وصل إلى طرابلس واجتمع عليه عرب ذياب بن سليم. ونهض بهم إلى جبل نفوسة فملكه واستخلص أموال العرب واتصل به مسعود بن زمام شيخ الدواودة من رياح عند مفره من المغرب كما ذكرناه. واجتمعت أيديهم على طرابلس وافتتحها واجتمع إليه ذؤبان العرب من هلال وسليم. وفرض لهم العطاء واستبد بملك طرابلس وما وراءها وكان قراقش من الأرمن وكان يقال له المظفري لأنه مملوك المظفر والناصري لأنه يخطب للناصر صلاح الدين. وكان يكتب في ظهائره ولي أمير المؤمنين بسكون الميم ويكتب علامة الظهير بخطه: وثقت بالله وحده أسفل الكتاب. وأما إبراهيم بن قراقش صاحبه فإنه سار مع العرب إلى قفصة فملك جميع منازلها وراسل بني الزند رؤساء قفصة فأمكنوه من البلد لانحرافهم عن بني عبد المؤمن فدخلها وخطب للعباسي ولصلاح الدين إلى أن قتله المنصور عند فتح قفصة كما نذكره في أخبار الموحدين. |
رجع الخبر إلى ابن غانية
ولما وصل علي بن غانية إلى طرابلس ولقي قراقش اتفقا على المظاهرة على الموحدين واستمال ابن غانية كافة بني سليم من العرب وما جاورهم من مجالاتهم ببرقة وخالطوه في ولايتهم واجتمع إليه من كان منحرفاً عن طاعة الموحدين من قبائل هلال مثل: جشم ورياح والأثبج. وخالفتهم زغبة إلى الموحدين فاعتقلوا بطاعتهم سائر أيامهم. ولحق بابن غانية فل قومه من لمتونة ومنونة من أطراف البقاع فانعقد أمره وتجدد بذلك القطر سلطان قومه. وجدد رسوم الملك واتخذ الآلة وافتتح كثيراً من بلاد الجريد وأقام فيها الدعوة العباسية. ثم بعث ولده وكاتبه عبد المؤمن من فرسان الأندلس إلى الخليفة الناصر بن المستضيئ ببغداد مجدداً ما سلف لقومه من المرابطين بالمغرب من البيعة والطاعة وطلب المدد والإعانة فعقد له كما كان لقومه وكتب الكتاب من ديوان الخليفة إلى ملك مصر والشام النائب عن الخليفة بها صلاح الدين يوسف بن أيوب جاء إلى مصر فكتب له صلاح الدين إلى قراقش واتصل أمرهما في إقامة الدعوة العباسية. وظاهره ابن غانية على حصار قابس فافتتحها قراقش من يد سعيد بن أبي الحسن وولى عليها مولاه وجعل فيها ذخائره. ثم اتصل بها إلى أن وصل إلى قفصة خلعوا طاعة ابن غانية فظاهره قراقش عليها فافتتحها عنوة. ثم رحل إلى توزر وقراقش في مظاهرته فافتتحها أيضاً. ولما اتصل بالمنصور ما نزل بإفريقية من أجلاب ابن غانية وقراقش على بلاد الجريد نهض من مراكش سنة ثمان وثمانين لحسم هذا الداء واستنقاذ ما غلبوا عليه. ووصل إلى تونس فأراح بها وسرح في مقدمته السيد أبا يوسف يعقوب بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن ومعه عمر بن أبي زيد من أعيان الموحدين فلقيهم ابن غانية في جموعه بعهده فانهزم الموحدون وقتل ابن أبي زيد وجماعة منهم وأسر علي بن الزبرتير في آخرين وامتلأت أملاك العدو من أسلابهم ومتاعهم. ووصل سرعان الناس إلى تونس وصمد المنصور إليهم فأوقع بهم بظاهر الحامة في شعبان من سنته. وأفلت ابن غانية وقراقش بحومة الوفر وبادر أهل قابس وكانت خالصة لقراقش دون ابن غانية فأتوا طاعتهم وأسلموا من كان عندهم من أصحابه وذويه فاحتملوا إلى مراكش وقصد المنصور إلى توزر فحاصرها فأسلموا إليه من كان فيها من أصحاب ابن غانية. وبادر هلها بالطاعة. ثم رجع إلى قفصة فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من كان بها من الحشود. وقتل إبراهيم بن قراتكين. وأمتن على سائر الأعوان وخلى سبيلهم وأمن أهل البلد في أنفسهم وجعل أملاكهم بأيديهم على حكم المساقاة. ثم غزا العرب واستباح حللهم وأحياءهم حتى استقاموا على طاعته. وفر ذو المراس كثير الخلاف والفتنة منهم إلى المغرب مثل: جشم ورياح والعاصم كما قدمناه. وقفل إلى المغرب سنة أربع وثمانين ورجع ابن غانية وقراقش إلى حالهما من الأجلاب على بلاد الجريد إلى أن هلك علي في بعض حروبها مع أهل نفزاوة سنة أربع وثمانين أصابه سهم غرب كان فيه هلاكه فدفن هنالك وعفى على قبره وحمل شلوه إلى ميورقة فدفن بها. وقام بالأمر أخوه يحيى بن إسحاق بن محمد بن غانية وجرى في مظاهرة قراقش وموالاته ثم نزع قراقش إلى طاعة الموحدين سنة ست وثمانين فهاجر إليهم بتونس وتقبله السيد أبو زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن وأقام معه أياماً. ثم فر ووصل إلى قابس فدخلها مخادعة وقتل جماعة منهم واستبد على أشياخ ذباب والكعوب من بني سليم فقتل سبعين منهم بقصر العروسيين. كان منهم محمود بن طوق أبو المحاميد وحميد بن جارية أبو الجواري. ونهض إلى طرابلس فافتتحها ورجع إلى بلاد الجريد فاستولى على أكثرها ثم فسد ما بينه وبين يحيى بن غانية. وسار إليه يحيى فانتهز قراقش ولحق بالجبال وتوغل فيها ثم فر إلى الصحراء ونزل ودان ولم يزل بها إلى أن حاصره ابن غانية من بعد ذلك بمدة وجمع عليه أهل الثأر من ذباب واقتحمها عليه عنوة وقتله ولحق ابنه بالموحدين. ولم يزل بالحضرة إلى أيام المستنصر. ثم فر إلى ودان وأجلب في الفتنة فبعث إليه ملك كام من قتله لسنة ست وخمسين وخمسمائة. رجع الخبر: واستولى ابن غانية على الجريد واستنزل ياقوت فولى قراقش من طرده كذا ذكره التجاني في رحلته. ولحق ياقوت بطرابلس ونازله ابن غانية بها وطال أمر حصاره. وبالغ ياقوت في المدافعة وبعث يحيى عن أسطول ميورقة فأمده أخوه عبد الله بقطعتين منه فاستولى على طرابلس وأشخص ياقوت إلى ميورقة واعتقل بها إلى أن أخذها الموحدون. وكان من خبر ميورقة أن علي بن غانية لما نهض إلى فتح بجاية ترك أخاه محمداً وعلي بن الزبرتير في معتقلهما. فلما خلا الجو من أولاد غانية وكثير من الحامية داخل ابن الزبرتير في معتقله نفر من أهل الجزيرة وثاروا بدعوة محمد وحاصروا القصيبة إلى أن صالحهم أهلها على إطلاق محمد بن إسحاق فأطلق من معتقله وصار الأمر له فدخل في دعوة الموحدين ووفد مع علي بن الزبرتير على يعقوب المنصور. وخالفهم إلى ميورقة عبد الله بن إسحاق ركب البحر من إفريقية إلى صقلية وأمدوه بأسطول ووصل إلى ميورقة عند وفادة أخيه على المنصور فملكها ولم يزل بها والياً. وبعث إلى أخيه علي بالمدد إلى طرابلس كما ذكرناه وبعثوا إليه ياقوت فاعتقله عنوة أن غلب عليه الموحدون سنة تسع وتسعين فقتل. ومضى ياقوت إلى مراكش وبها مات. رجع الخبر: ولما فرغ ابن غانية من أمر طرابلس ولى عليها تاشفين ابن عمه الغازي وقصد قابس فوجد بها عامل الموحدين ابن عمر تافراكين بعثه إليهم صاحب تونس الشيخ أبو سعيد بن أبي حفص فاستدعاه أهلها لما فر عنهم نائب قراقش أخذ ابن غانية لطرابلس فنازل قابس وضيق عليها حتى سألوه الأمان على أن يخلي سبيل ابن تافراكين فعقد لهم ذلك وأمكنوه من البلد فملكها سنة إحدى وتسعين وأغرمهم ستين ألف دينار وقصد المهدية سنة سبع وتسعين فاستولى عليها وقتل الثائر بها محمد بن عبد الكريم الركراكي. وكان من خبره أنه نشأ بالمهدية وصار من جندها المرتدين وهو كوفي الأصل وكانت له شجاعة معروفة فجمع لنفسه خيلاً ورجالاً وصار يغير على المفسدين من الأعراب بالأطراف فداخلهم هيبة وبعد في ذلك صيته وأمده الناس بالدعاء. وقدم أبو سعيد بن أبي حفص على إفريقية من قبل المنصور لأول ولايته وولى على المهدية أخاه يونس. وطالب محمد بن عبد الكريم بالسهمان في المغانم. وامتنع فأنزل به النكال وعاقبه بالسجن فدبر ابن عبد الكريم الثورة وداخل فيها بطانته وتقبض على أبي علي يونس سنة خمس وتسعين واعتقله إلى أن فداه أخوه أبو سعيد بخمسمائة دينار من الذهب العين واستبد ابن عبد الكريم بالمهدية ودعا لنفسه وتلقب المتوكل على الله. ثم وصل السيد أبو زيد بمن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن والياً على إفريقية فنازل ابن عبد الكريم بتونس سنة ست وتسعين واضطرب معسكره بحلق الوادي وبرز إليه جيوش الموحدين فهزمهم وطال حصاره لهم. ثم سألوه الإفراج عنهم فأجاب لذلك وارتحل عنهم إلى حصار يحيى بن غانية بفاس فنازله مدة. ثم ارتحل إلى قفصة وخرج ابن غانية في أتباعه فانهزم ابن عبد الكريم أمامه ولحق بالمهدية وحاصره ابن غانية بها سنة سبع وتسعين وأمده السيد أبو زيد بقطعتين من الغزاة حتى سأل ابن عبد الكريم النزول على حكمه وخرج إليه فقبض عليه ابن غانية وهلك في اعتقاله واستولى على المهدية واستضافها إلى ما كان بيده من طرابلس وقابس وصفاقس والجريد. ثم نهض إلى الجانب الغربي من إفريقية فنازل باجة ونصب عليها المجانيق وافتتحها عنوة وخربها وقتل عاملها عمر بن غالب ولحق شريدها بالأربس وشقبنارية وتركها خاوية على عروشها وبعد مدة تراجع إليها ساكنها بأمن السيد أبي زيد فزحف إليها ابن غانية ثانية ونازلها وزحف إليه السيد أبو الحسن أخو السيد أبي زيد فلقيه بقسطنطينة وانهزم الموحدون واستولى على معسكرهم. ثم نهض إلى بسكرة واستولى عليها وقطع أيدي أهلها وتقبض على حافظها أبي الحسن ابن أبي يعلى وتملك بعدها بلنسية والقيروان وبايعه أهل بونة ورجع إلى المهدية وقد استفحل ملكه فأزمع على حصار تونس وارتحل إليها سنة تسع وتسعين واستعمل على المهدية ابن عمه علي بن الغازي ويعرف بالكافي بن عبد الله بن محمد بن علي بن غانية ونزل بالجبل الأحمر من ظاهر تونس ونزل أخوه بحلق الوادي. ثم ضايقوها بمعسكرهم وردموا خندقها ونصبوا المجانيق والآلات واقتحموها لأربعة أشهر من حصارها في ختام المائة السادسة وقبض على السيد أبي زيد وابنيه ومن كان معه من الموحدين وأخذ أهل تونس بغرم مائة ألف دينار وولى بقبضها منهم كاتبه ابن عصفور وأبا بكر بن عبد العزيز بن السكاك فأرهقوا الناس بالطلب حتى لاذ معظمهم بالموت واستعجل القتل فيما نقل أن إسماعيل بن عبد الرفيع من بيوتاتها ألقى بنفسه في وارتحل إلى نفوسة والسيد أبو زيد معتقل في معسكره ففعل بهم مثل ذلك وأغرمهم ألف ألف مرتين من الدنانير وكثر عيثه وإضراره بالرعية وعظم طغيانه وعتوه. واتصل بالناصر بمراكش ما دهم أهل إفريقية منه ومن ابن عبد الكريم قبله فامتعض لذلك ورحل إليها سنة إحدى وستمائة. وبلغ يحيى بن غانية خبر زحفه إليه فخرج من تونس إلى القيروان ثم إلى قفصة واجتمع إليه العرب وأعطوه الرهن على المظاهرة والدفاع. ونازل طرة من حصون مغراوة فاستباحها وانتقل إلى حامة مطماطة. ونزل الناصر تونس ثم قفصة ثم قابس وتحصن منه ابن غانية في جبل عمر فرجع عنه إلى المهدية وعسكر عليها واتخذ الآلة لحصارها. وسرح الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص لقتال ابن غانية في أربعة آلاف من الموحدين سنة اثنتين وستمائة فلقيه بجبل تاجرا من نواحي قابس وأوقع به وقتل أخاه جبارة بن إسحاق واستنقذ السيد أبا زيد من معتقله ثم افتتح الناصر المهدية ودخل إليها علي بن الغازي في دعوته فتقبله ورفع مكانه ووصله بهدية وافق وصولها من سبتة إليه على يد واصل مولاه وكان بها ثوبان منسوجان بالجواهر فوصله بذلك كله ولم يزل معه إلى أن استشهد مجاهداً. وولى الناصر على المهدية محمد بن يغمور من الموحدين ورجع إلى تونس. ثم نظر فيمن يوليه أمر إفريقية لسد فرجها والذب عنها ومدافعة ابن غانية وجموعه دونها. فوقع اختياره على الشيخ أبي محمد بن أبي حفص فعقد له على ذلك سنة ثلاث كما ذكرناه في أخباره. ورجع الناصر إلى المغرب وأجمع ابن غانية النهوض لقتال الموحدين بتونس وجمع ذؤبان العرب من الدواودة وغيرهم. وأوفد الدواودة يومئذ محمد بن مسعود بن سلطان وتحيز بنو عوف بن سليم إلى الموحدين والتقوا بشبرو من نواحي تبسة فانهزمت جموع ابن غانية ولجأ إلى جهة طرابلس. ثم نهض إلى المغرب في جموعه من العرب والملثمين فانتهى إلى سجلماسة وامتلأت أيدي أتباعه من النهاب وخرقوا الأرض بالعبث والفساد وانكفأ إلى المغرب الأوسط وداخله المفسدون من زناتة وأغزوا به صاحب تلمسان السيد أبا عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن فلقيه بتاهرت فهزمه ابن غانية وقتله وأسر وافده وكر راجعاً إلى إفريقية فاعترضه الشيخ أبو محمد صاحب إفريقية في جموع الموحدين واستنقذ الغنائم من أيديهم. ولجأ ابن غانية إلى جبال طرابلس وهاجر أخوه سير بن إسحاق إلى مراكش فقبله الناصر وأكرمه. ثم اجتمع إلى ابن غانية طوائف العرب من رياح وعوف وهيث ومن معهم من قبائل البربر وعزم على دخول إفريقية. ونهض إليهم الشيخ أبو محمد سنة ست ولقيهم بجبل نفوسة ففل عسكرهم واستلحم أمرهم وغنم ما كان معهم من الظهر والكراع والأسلحة. وقتل يومئذ محمد بن الغازي وجوار بن يفرن وقتل معه ابن عمه من كتاب ابن أبي الشيخ ابن عساكر بن سلطان وهلك يومئذ من حكى ابن نخيل: أن مغانم الموحدين يومئذ من عساكر الملثمين كانت ثمانية عشر ألفاً من الظهر فكان ذلك مما أوهن من شدته ووطى من بأسه. وثارت قبائل نفوسة بكاتبه ابن عصفور فقتلوا ولديه وكان ابن غانية يبعثه عليهم للمغرم. وسار أبو محمد في نواحي إفريقية ودفع سلبهم واستثأر أشياخهم بأهلهم وأسكنهم بتونس حسماً لفسادهم. وصلحت أحوال إفريقية إلى أن هلك الشيخ أبو محمد سنة ثمان عشرة وولى أبو محمد السيد أبو العلا إدريس بن يونس بن عبد المؤمن. ويقال بل وليها قبيل مهلك الشيخ أبي محمد فاستطار بعد مهلكه ثور بن غانية ونجم نفاقه وعيثه فعابه رعيته ونهض إليه السيد أبو العلا ونزل قابس وأقام بقصر العروسيين وسرح ولده السيد أبا زيد بعسكر من الموحدين إلى درج وغدامس وسرح عسكراً آخر إلى ودان لحصار ابن غانية فأرجف بهم العرب ونهضوا وهم بهم السيد أبو العلا. وفر ابن غانية إلى الزاب واتبعه السيد أبو زيد فنازل بسكرة واقتحمها عليه. ونجا ابن غانية وجمع أوباشاً من العرب والبربر وأتبعه السيد أبو زيد في الموحدين وقبائل هوارة وتزاحفوا بظاهر تونس سنة إحدى وعشرين فانهزم ابن غانية وجموعه وقتل كثير من الملثمين وامتلأت أيدي الموحدين من الغنائم. وكان لهوارة يومئذ وأميرهم حناش بن بعرة بن ونيفن. في هذا الزحف أثر مذكور وبلاء حسن. وبلغ السيد أبا زيد إثر هذه الوقيعة خبر مهلك أبيه بتونس فانكف راجعاً وأعيد بنو حفص إلى مكان أبيهم الشيخ أبي محمد بن أثال بإفريقية. واستقل الأمير أبو زكريا منهم بأمرها واقتلعها عن ملكه إلى عبد المؤمن وتناولها من يد أخيه أبي محمد عبد الله. وهذا الأمير أبو زكريا هو جد الخلفاء الحفصيين وماهد أمرهم بإفريقية فأحسن دفاع ابن غانية عنها وشرعه في أقطارها. ورفع يده شيئاً فشيئاً عن النيل من أهلها ورعاياها. ولم يزل شريداً مع العرب بالقفار فبلغ سجلماسة من أقصى المغرب والعقبة الكبرى من تخوم الديار المصرية. واستولى على ابن مذكور صاحب السويقة من تخوم برقة وأوقع بمغراوة بواجر ما بين متيجة ومليانة وقتل أميرهم منديل بن عبد الرحمن وصلب شلوه بسور الجزائر. وكان يستخدم الجند فإذا سئموا الخدمة تركهم لسبيلهم إلى أن هلك لخمسين سنة من إمارته سنة إحدى وثلاثين وقيل ثلاث وثلاثين ودفن وعفى أثر مدفنه. يقال بوادي الرجوان قبلة الأربس ويقال بجهة مليانة من وادي شلف ويقال بصحراء باديس ومديد من بلاد الزاب. وانقرض أمر الملثمين من مسوقة ولمتونة ومن جميع بلاد إفريقية والمغرب والأندلس بمهلكه. وذهب ملك صنهاجة من الأرض بذهاب ملكه وانقطاع أمره. وقد خلف بنات بعثهن زعموا إلى الأمير أبي زكريا لعهده بذلك إلى علجه جابر فوضعن في يده. وبلغه وفاة أبيهن وحسن ظنه في كفالته إياهن فأحسن الأمير أبو زكريا كفالتهن وبنى لهن بحضرته داراً لصونهن معروفة لهذا العهد بقصر البنات. وأقمن تحت حراسته وفي سعة من رزقه موصولات لوصاة أبيهن بذلك منهن وحفظهن لوصاته. ولقد يقال إن ابن عم لهن خطب إحداهن فبعث إليها الأمير أبو زكريا فقال لها: هذا ابن عمك وأحق بك فقالت لو كان ابن عمنا ما كفلنا الأجانب: إلى أن هلكن عوانس بعد أن متعن من العمر بحظ. أخبرني والدي رحمه الله: أنه أدرك واحدة منهن أيام حياته في سني العشر والسبعمائة تناهز التسعين من السنين. قال: ولقيتها وكانت من أشرف النساء نفساً وأسراهن خلقاً وأزكاهن خلالا والله وارث الأرض ومن عليها. ومضى هؤلاء الملثمون وقبائلهم لهذا العهد بمجالاتهم من جوار السودان حجزاً بينهم وبين الرمال التي هي تخوم بلاد البربر من المغربين وإفريقية وهم لهذا العهد متصلون من ساحل البحر المحيط في المغرب إلى ساحل النيل بالمشرق. وهلك من قام بالملك منهم بالعدوتين وهم قليل من مسوقة ولمتونة كما ذكرناه أكلتهم الدولة وابتلعتهم الآفاق والأقطار وأفناهم الرق واستلحمهم أمراء الموحدين. وبقي من أقام بالصحراء منهم على حالهم الأول من افتراق الكلمة واختلاف البين واتصل بنيانهم على بلاد السودان إلى المشرق مناظر السلع العرب على بلاد المغربين وإفريقية. فكدالة منهم في مقابلة ذوي حسان من المعقل عرب السوس الأقصى ولمتونة وتريكة في مقابلة ذوي منصور وذوي عبد الله من المعقل أيضاً عرب المغرب الأقصى ومسوقة في مقابلة زغبة عرب المغرب الأوسط ولمطة في مقابلة رياح عرب الزاب وبجاية وقسطنطينة وتاركاً في مقابلة سليم عرب إفريقية وأكثر ما عندهم من المواشي الإبل لمعاشهم وحمل أثقالهم وركوبهم والخيل قليلة لديهم أو معدومة. ويركبون من الإبل الفارهة ويسمونها النجيب ويقاتلون عليها إذا كانت بينهم حرب وسيرها هملجة وتكاد تلحق بالركض وربما يغزوهم أهل القفر من العرب وخصوصاً بنو سعيد من بادية رياح فهم أكثر العرب غزواً إلى بلادهم فيستبيحون من صحبوه منهم يرمونه في بطون مغاير. فإذا اتصل الصائح بأحيائهم وركبوا في أتباعهم اعترضوهم على المياه قبل وصولهم من تلك البلاد فلا يكادون يخلصون ويشتد الحرب بينهم فلا يخلص العرب من غوائلهم إلا بعد جهد وقد يهلك بعضهم ولله الخلق والأمر. وإذ عرض لنا ملوك السودان فلنذكر ملوكهم لهذا العهد المجاورين لملوك المغرب. |
ملوك السودان
الخبر عن ملوك السودان المجاورين للمغرب من وراء هؤلاء الملثمين ووصف أحوالهم والإلمام بما اتصل بنا من دولتهم هذه الأمم السودان من الآدميين هم أهل الإقليم الثاني وما وراءه إلى آخر الأول بل وإلى آخر المعمورة متصلون ما بين المغرب والمشرق يجاورون بلاد البربر بالمغرب وإفريقية وبلاد اليمن والحجاز في الوسط والبصرة وما وراءها من بلاد الهند بالمشرق وهم أصناف وشعوب وقبائل أشهرهم بالمشرق الزنج والحبشة والنوبة وأما أهل المغرب منهم فنحن ذاكروهم بعد وأما نسبهم فإلى حام بن نوح بالحبش من ولد حبش بن كوش بن حام والنوبة من ولد نوبة بن كوش بن كنعان بن حام فيما قاله المسعودي وقال ابن عبد البر إنهم من ولد نوب بن قوط بن مصر بن حام والزنج من ولد زنجي بن كوش وأما سائر السودان فمن ولد قوط بن حام فيما قاله ابن عبد البر ويقال هو قبط بن حام. وعد ابن سعيد من قبائلهم وأممهم تسع عشرة أمة منهم في المشرق الزنج على بحر الهند لهم مدينة فنقية وهم مجوس وهم الذين غلب رقيقهم بالبصرة على ساداتهم مع دعي الزنج في خلافة المعتمد. قال: ويليهم مدينة بربرا وهم الذين ذكرهم امرؤ القيس في شعره. والإسلام لها العهد فاش فيهم ولهم مدينة مقدشوا على البحر الهندي يعمرها تجار المسلمين ومن غربيهم وجنوبهم الدمادم وهم حفاة عراة. قال: وخرجوا إلى بلاد الحبشة والنوبة عند خروج الططر إلى العراق فعاثوا فيها ثم رجعوا. قال: ويليهم الحبشة وهم أعظم أمم السودان وهم مجاورون لليمن على شاطئ البحر الغربي ومنه غزوا ملك اليمن ذي نواس وكانت دار مملكتهم كعبر وكانوا على دين النصرانية وأخذ بالإسلام واحد منهم زمن الهجرة على ما ثبت في الصحيح والذي أسلم منهم لعهد النبب صلى الله عليه وسلم. وهاجر إليه الصحابة قبل الهجرة إلى المدينة فآواهم ومنعهم وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم عندما نعي إليه كان اسمه النجاشي وهو بلسانهم: انكاش بالكاف المشمة بالجيم عربتها العرب جيماً محضة وألحقتها ياء النسب شأنها في الأسماء الأعجمية إذا تصرفت فيها وليس هذا الاسم سمة لكل من تمتك منهم كما يزعم كثير من الناس ممن لا علم له بهذا ولو كان كذلك لشهروا اسمه إلى اليوم لآن ملكهم لم يتحول منهم. وملكهم لهذا العهد اسمه الخطى ما أدري اسم السلطان نفسه أو اسم العشيرة الذين فيهم الملك وفي غربيه مدينة داموت وكان بها ملك من أعاظمهم وله ملك ضخم وفي شماليه ملك آخر منهم اسمه حق الدين محمد بن علي بن ولصمع في مدينة أسلم أولوه في تواريخ مجهولة. وكان جده ولصمع مطيعاً لملك دامون وأدركت الخطى الغيرة من ذلك فغزاه واستولى على بلاده. ثم اتصلت الفتنة وضعف أمر الخطى فاسترجع بنو ولصمع بلادهم من الخطى وبنيه واستولوا على وفات وخربوها. وبلغنا أن حق الدين هلك وملك بعده أخوه سعد الدين وهم مسلمون ويعطون الطاعة للخطى أحياناً وينابذونه أخرى والله مالك الملك. قال ابن سعيد: ويليهم البجاوة وهم نصارى ومسلمون ولهم جزيرة بسواكن في بحر السوس ويليهم النوبة أخوة الزنج والحبشة ولهم مدينة دنقلة غرب النيل وأكثرهم مجاورون للديار المصرية ومنهم رقيق. ويليهم زغاوة وهم مسلمون ومن شعوبهم تاجرة ويليهم الكانم وهم خلق عظيم والإسلام غالب عليهم ومدينتهم حميمي ولهم التغلب على بلاد الصحراء إلى فزان. وكانت لهم مهادنة مع الدولة الحفصية منذ أولها ويليهم من غربهم كوكو وبعدهم نغالة والتكرور ولمى وتمنم وجالي وكوري وأفكرار بتضلون بالبحر المحيط إلى غانية في الغرب كلام ابن سعيد. ولما فتحت إفريقية المغرب دخل التجار بلاد المغرب فلم يجدوا فيهم أعظم من ملوك غانية كانوا مجاورين للبحر المحيط من جانب الغرب وكانوا أعظم أمة ولهم أضخم ملك وحاضرة ملكهم غانية مدينتان على حافتي النيل من أعظم مدائن العالم وأكثرها معتمراً ذكرها مؤلف كتاب رجار وصاحب المسالك والممالك. وكانت تجاورهم من جانب الشرق أمة أخرى فيما زعم الناقلون تعرف صرصو بصادين مضمومتين أو سينين مهملتين ثم بعدها أمة أخرى تعرف مالي ثم بعدها أمة أخرى تعرف كوكو ويقال كاغو ثم بعدها أمة أخرى تعرف بالتكرور. وأخبرني الشيخ عثمان فقيه أهل غانية وكبيرهم علماً وديناً وشهرة قدم مصر سنة تسع وتسعين حاجاً بأهله وولده ولقيته بها فقال إنهم يسمون التكرور زغاي ومالي أنكاريه. ثم إن أهل غانية ضعف ملكهم وتلاشى أمرهم واستفحل أمر الملثمين المجاورين لهم من جانب الشمال مما يلي البربر كما ذكرناه وعبروا على السودان واستباحوا حماهم وبلادهم واقتضوا منهم الأتاوات والجزى وحملوا كثيراً منهم على الإسلام فدانوا به. ثم اضمحل ملك أصحاب غانة وتغلب عليهم أهل صوصو المجاورون لهم من أمم السودان واستعبدوهم وأصاروهم في جملتهم. ثم إن أهل مالي كثروا أمم السودان في نواحيهم تلك واستطالوا على الأمم المجاورين لهم فغلبوا على صوصو وملكوا جميع ما بأيديهم من ملكهم القديم وملك أهل غانة إلى البحر المحيط من ناحية الغرب وكانوا مسلمين يذكرون أن أول من أسلم منهم ملك اسمه برمندانة هكذا ضبطه الشيخ عثمان. وحج هذا الملك واقتفى سننه في الحج ملوكهم من بعده. وكان ملكهم الأعظم الذي تغلب على صوصو وافتتح بلادهم وانتزع الملك من أيديهم اسمه ماري جاطة ومعنى ماري عندهم الأمير الذي يكون من نسل السلطان وجاطة الأسد واسم الحافد عندهم تكن ولم يتصل بنا نسب هذا الملك. وملك عليهم خمساً وعشرين سنة فيما ذكروه. ولما هلك ولي عليهم من بعده ابنه منساولي ومعنى منسا السلطان ومعنى ولي بلسانهم علي وكان منسا ولي هذا من أعاظم ملوكهم. وحج أيام الظاهر بيبرس وولي عليهم من بعده أخوه واتى. ثم بعده أخوهم خليفة وكان محدقاً رامياً فكان يرسل السهام على الناس فيقتلهم مخاناً فوثبوا عليه فقتلوه. وولي عليهم من بعده سبط من أسباط ماري جاطة يسمى بأبي بكر وكان ابن بنته فملكوه على سنن الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت. ولم يقع إلينا نسبه ونسب أبيه. ثم ولي عليهم من بعده مولى من مواليهم تغلب على ملكهم اسمه ساكورة. وقال الشيخ عثمان ضبطه بلسانهم أهل غانة سبكرة وحج أيام الملك الناصر وقتل عند مرجعه بتاجورا وكانت دولته ضخمة اتسع فيها نطاق ملكهم وتغلبوا على الأمم المجاورة لهم. وافتتح بلاد كوكو وأصارها في ملكة أهل مالي. واتصل ملكهم من البحر المحيط وغانة بالمغرب إلى بلاد التكرور في المشرق واعتز سلطانهم وهابتهم أمم السودان وارتحل إلى بلادهم التجار من بلاد المغرب وإفريقية. وقال الحاج يونس ترجمان التكرور إن الذي فتح كوكو هو سغمنجة من قواد منسا موسى وولي من بعده ساكورة هذا هو ابن السلطان ماري جاطة ثم من بعده ابنه محمد بن قو ثم انتقل ملكهم من ولد السلطان ماري جاطة إلى ولد أخيه أبي بكر فولي عليهم منسا موسى بن أبي بكر وكان رجلاً صالحاً وملكاً عظيماً له في العدل أخبار تؤثر عنه. وحج سنة أربع وعشرين وسبعمائة لقيه في الموسم شاعر الأندلس أبو إسحاق إبراهيم الساحلي المعروف بالطويجن وصحبه إلى بلاده. وكان له اختصاص وعناية ورثها من بعده ولده إلى الآن وأوطنوا والاتر من تخوم بلادهم من ناحية المغرب ولقيه في صرفه صاحبنا المعمر أبو عبد الله بن خديجة الكومي من ولد عبد المؤمن كان داعية بالزاب للفاطمي المنتظر وأجلب عليهم بعصائب من العرب فكر به واركلا واعتقله ثم خلى سبيله بعد حين فخاض القفر إلى السلطان منسا موسى مستجيشاً به عليهم وقد كان بلغه توجهه للحج فأقام في انتظاره ببلد غدامس يرجو نصراً على عدوه ومعونة على أمره لما كان عليه منسا موسى من استفحال ملكه بالصحراء الموالية لبلد واركلا وقوة سلطانه فلقي منه مبرة وترحباً ووعده بالمظاهرة والقيام بثأره واستصحبه إلى بلدة أخوى وهو الثقة. قال كنا نواكبه أنا وأبو إسحاق الطويجن دون وزرائه ووجوه قومه نأخذ بأطراف الأحاديث حيث يتسع المقام وكان يتحفنا في كل منزل بطرف المآكل والحلاوات قال: والذي تحمل آلته قال الحاج يونس ترجمان هذه الأمة بمصر: جاء هذا الملك منسا موسى من بلده بثمانين حملاً من التبر كل حمل ثلاثة قناطير. قال: وإنما يحملون على الوصائف والرجال في أوطانهم فقط وأما السفر البعيد كالحج فعلى المطايا. قال أبو خديجة: ورجعنا معه إلى حضرة ملكه فأراد أن يتخذ بيتاً في قاعدة سلطانه محكم البناء مجللا بالكلس لغرابته بأرضهم فأطرفه أبو إسحاق الطويجن ببناء قبة مربعة الشكل استفرغ فيها إجادته. وكان صناع اليدين وأضفى عليها من الكلس ووالى عليها بالأصباغ المشبعة فجاء من أتقن المباني ووقعت من السلطان موقع الاستغراب لفقدان صنعة البناء بأرضهم ووصله باثني عشر ألفاً من مثاقيل التبر مبثوثة عليها. إلى ما كان له من الأثرة والميل إليه والصلات السنية. وكان بين هذا السلطان منسا موسى وبين ملك المغرب لعهده من بني مرين السلطان أبي الحسن مواصلة ومهاداة سفرت بينهما فيها الأعلام من رجال الدولتين واستجاد صاحب المغرب من متاع وطنه وتحف ممالكه مما تحدث عنه الناس على ما نذكره عند موضعه بعث بها مع علي بن غانم المغفل وأعيان من رجال دولته. وتوارثت تلك الوصلة أعقابهما كما سيأتي واتصلت أيام منسا موسى هذا خمساً وعشرين سنة. ولما هلك ولي أمر مالي من بعده ابنه منسا مغا ومعنى مغا عندهم محمد وهلك لأربع سنين من ولايته وولي أمرهم من بعده منسا سليمان بن أبي بكر وهو أخو موسى واتصلت أيامه أربعاً وعشرين سنة. ثم هلك فولي بعده ابنه منسا بن سليمان وهلك لتسعة من ولايته فولي عليهم من بعده ماري جاطة بن منسا مغا بن منسا موسى واتصلت أيامه أربعة عشر عاماً وكان أشر وال عليهم بما سامهم من النكال والعسف وإفساد الحرم. وأتحف ملك المغرب لعهده السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن بالهدية المذكورة سنة اثنتين وستين وكان فيها الحيوان العظيم الهيكل المستغرب بأرض المغرب المعروف بالزرافة. تحدث الناس بما اجتمع فيه من متفرق الحلى والشبه في جثمانه ونعوته دهراً. وأخبرني القاضي الثقة أبو عبد الله محمد بن وانسول من أهل سجلماسة. وكان أوطن بأرض كوكو من بلادهم واستعملوه في خطة القضاء بما لقيه منذ سنة ست وسبعين وسبعمائة فأخبرني عن ملوكهم بالكثير مما كتبته وذكر لي عن هذا السلطان جاطة أنه أفسد ملكهم وأتلف ذخيرتهم وكان أن ينتقض شأن سلطانهم. قال: ولقد انتهى الحال به في سرفه وتبذيره أن باع حجر الذهب الذي كان في جملة الذخيرة عن أبيهم وهو حجر يزن عشرين قنطاراً منقولاً من المعدن من غير علاج بالصناعة ولا تصفية بالنار كانوا يرونه من أنفس الذخائر والغرائب لندور مثله في المعدن فعرضه جاطة هذا الملك المسرف على تجار مصر المترددين إلى بلده وابتاعوه قال: وأصابته علة النوم وهو مرض كثيراً ما يطرق أهل ذلك الإقليم وخصوصاً الرؤساء منهم يعتاده غشي النوم عامة أزمانه حتى يكاد أن لا يفيق ولا يستيقظ إلا في القليل من أوقاته ويضر صاحبه ويتصل سقمه إلى أن يهلك. قال: ودامت هذه العلة بخلطه مدة عامين اثنين وهلك سنة خمس وسبعين. وولوا من بعده ابنه موسى فأقبل على مذاهب العدل والنظر لهم ونكب عن طرق أبيه جملة وهو الآن مرجو الهداية ويغلب على دولته وزيره ماري جاطة ومعنى ماري عندهم الوزير وجاطة تقدم وهو الآن قد حجر السلطان واستبد بالأمر عليه ونظر في تجهيز العساكر وتجهيز الكتائب ودوخ أقطار الشرق من بلادهم وتجاوز تخوم كوكو وجهز إلى منازلة تكرت بما وراءها من بلاد الملثمين كتائب نازلتها لأول الدولة وأخذت بمخنقها. ثم أفرجت عنها وحاطهم الآن هدنة. وتكرت هذه على سبعين مرحلة من بلد واركلا في الجانب القبلي الغربي وفيها من الملثمين يعرف بالسلطان وعليهم طريق الحاج من السودان وبينه وبين أمير الزاب وواركلا مهاداة ومراسلة. قال: وحاضرة الملك لأهل مالي هو بلد بني. . . بلد متسع الخطة معين على الزرع مستبحر العمارة نافق الأسواق وهو الآن محط لركاب البحر من المغرب وإفريقية ومصر والبضائع مجلوبة إليها من كل قطر. ثم بلغنا لهذا العهد أن منسا موسى توفي سنة تسع وثمانين وولي بعده أخوه منسا مغا. ثم قتل لسنة أو نحوها وولي بعده صندكي زوج أم موسى صندكي الوزير. ووثب عليه بعد أشهر رجل من بيت ماري جاطة. ثم خرج من بلاد الكفرة وراءهم وجاءهم رجل اسمه محمود ينسب إلى منساقو بن منسا ولي ابن ماري جاطة الأكبر فتغلب على الدولة وملك أمرهم سنة اثنتين وتسعين ولقبه منسا مغا والخلق والأمر لله وحده. |
مشكور ة.
|
الخبر عن لمطة وكزولة وهسكورة بني تصكي
وهم أخوة هوارة وصنهاجة هؤلاء القبائل الثلاث قد تقدم لنا أنهم أخوة لصنهاجة وأن أم الثلاثة تصكي العرجاء بنت زحيك بن مادغيس فأما صنهاجة فمن ولد عاميل بن زعزاع وأما هوارة فمن ولد أوريغ وهو ابنها ابن برنس وأما الآخرون فلا تحقيق في نسبهم. قال ابن حزم: إن صنهاجة ولمطة لا يعرف لهما أب وهذه الأمم الثلاث موطنون بالسوس وما يليه من بلاد الصحراء وجبال درن ملأوا بسائطه وجباله. فأما لمطة فأكثرهم مجاورون الملثمين من صنهاجة ولهم شعوب كثيرة وأكثرهم ظواعن أهل وبر. ومنهم بالسوس قبيلتا زكن ولخس صاروا في عداد ذوي حسان من معقل وبقايا لمطة بالصحراء مع الملثمين ومعظمهم قبيلة بين تلمسان وإفريقية وكان منهم الفقيه واكاك بن زيزي صاحب أبي عمران الفاسي وكان نزل سجلماسة. ومن تلميذه كان عبد الله بن ياسين صاحب الدولة اللمتونية على ما مر. وأما كزولة فبطونهم كثيرة ومعظمهم بالسوس ويجاورون لمطة ويحاربونهم. ومنهم الآن ظواعن بأرض السوس وكان لهم مع المعقل حروب قبل أن يدخلوا السوس فلما دخلوه تغلب عليهم وهم الآن من خولهم وأخلافهم ورعاياهم. وأما هسكورة وهم لهذا العهد في عداد المصامدة وينسبون إلى دعوة الموحدين وهم أمم كثيرة وبطون واسعة ومواطنهم بجبالهم متصلة من درن إلى تادلا من جانب الشرق إلى درعة من جانب القبلة وكان دخول بعضهم في دعوة المهدي قبل فتح مراكش ولم يستكملوا الدخول في الدعوة إلا من بعده لذلك لا يعدهم كثير من الناس في الموحدين وإن عدوا فليسوا من أهل السابقة منهم لمخالفتهم الإمام أول الأمر. وما كان من حروبهم معه ومع أوليائه وشيعته وكانوا ينادون بخلافهم وعداوتهم ويجهرون بلعنهم. فتقول خطباؤهم في مجامع صلواتهم: لعن الله هنتاتة وتينملل وهرنة وهرزجة فلما استقاموا من بعد ذلك لم يكن لهم مزية السابقة كما كانت لهنتاتة وتينملل وهرغة وهزرجة فاستقامتهم على الدعوة كان بعد فتح مراكش. وبطون هسكورة هؤلاء متعددون فمنهم مصطاوة وغجرامة وفطواكة وزمراوة وانتيفت وبنو نفال وبنو رسكونت إلى آخرين لم يحضرني أسماؤهم. وكانت الرئاسة عليهم آخر دولة الموحدين لعمر بن وقاريط المنتسب. وذكره في أخبار المأمون والرشيد من بني عبد المؤمن خلفاء الموحدين بمراكش. ثم كان من بعده مسعود بن كلداسن وهو القائم بأمر دبوس والمظاهر له على شأنه وأظنه جد بني مسعود بن كلداسن الرؤساء عليهم لهذا العهد من فطواكة المعروفين ببني خطاب لاتصال الرئاسة في هذا البيت. ولما انقرض أمر الموحدين استعصوا على بني مرين مدة واختلفت حالهم معهم في الاستقامة والنفرة وكانوا ملجأ للنازعين عن الطاعة من عرب جشم ومأوى للثائرين منهم. ثم استقاموا وأذعنوا لأداء الضرائب والمغارم وجبايتها من قومهم والخفوف إلى العسكرة مع السلطان متى دعوا إليها شأن غيرهم من سائر المصامدة. وأما انتيفت فكانت رئاستهم في أولاد هنو وكان يوسف بن كنون منهم اتخذ لنفسه حصن تاقيوت وامتنع به ولم يزل ولده علي ومخلوف يشيدانه من بعده وهلك يوسف وقام بأمره ابنه مخلوف وجاهر بالنفاق سنة اثنتين وسبعمائة. ثم راجع الطاعة وهو الذي تقبض على يوسف بن أبي عياد المتعلي على مراكش أيام أبي ثابت سنة سبع وسبعمائة كما نذكر في أخباره لما أحيط به فتقبض عليه مخلوف وأمكن منه. وكانت وسيلته من الطاعة وكان من بعده ابنه هلال وأما بنو نفال فكانت رئاستهم لأولاد تروميت وكان منهم لعهد السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن كبيرهم علي بن محمد وكان له في الخلاف والامتناع ذكر. واستنزله السلطان أبو الحسن من محله لأول ولايته بعد حصاره بمكانه وأصاره في جملته تحت عنايته وأمرائه إلى أن هلك بتونس بعد واقعة القيروان في الطاعون الجارف. وولي بنوه من بعده أمر قومهم إلى أن انقرضوا والرئاسة لهذا العهد في أهل بيتهم ولأهل عمومتهم. وأما فطواكة: وهم أوسع بطونهم وأعظمهم رئاسة فيهم وأقربهم اختصاصاً بصاحب الملك واستعمالا في خدمته. وكان بنو خطاب منذ انقراض أمر الموحدين قد جنحوا إلى بني عبد الحق وأعطوهم المقادة واختصوا شيوخهم في بني خطاب بالولاية عليهم. وكان شيخهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب محمد بن مسعود وابنه عمر من بعده. وهلك عمر سنة أربع وسبعمائة بمكانه من محله وولي بعده عمه موسى بن مسعود وسخطه السلطان لتوقع خلافه فاعتقله. وكان خلاصه من الاعتقال سنة ست وسبعمائة وقام بأمر هسكورة من بعده محمد بن عمر بن محمد بن مسعود. ولما استفحل ملك بني مرين وذهب أثر الملك من المصامدة وبعد عهدهم صار بنو مرين إلى استعمال رؤسائهم في جباية مغارمهم لكونهم من جلدتهم. ولم يكن فيهم أكبر رئاسة من أولاد تونس في هنتاتة. وبني خطاب هؤلاء في هسكورة فداولوا بينهم ولاية الأعمال المراكشية وليها محمد بن عمر هذا من بعد موسى بن علي وأخيه محمد شيوخ هنتاتة فلم يزل والياً منها إلى أن هلك قبيل نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان. ولحق ابنه إبراهيم بتلمسان ذاهباً إلى السلطان أبي الحسن. فلما دعا أبو عنان إلى نفسه رجع عنه إلى محله وتمسك بما كان عليه من طاعة أبيه ورعاه أبو عنان لعمه عبد الحق وقلده الأعمال المراكشية فلم يغن في منازعه إلى أن لحق السلطان أبو الحسن بمراكش فكان من أعظم دعاته وأبلى في مظاهرته. فلما هلك السلطان أبو الحسن اعتقله أبو عنان وأودعه السجن ثم قتله بين يدي نهوضه إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين وقام بأمره من بعده أخوه منصور بن محمد إلى أن ملك الأمير عبد الرحمن بن أبي يغلوسن مراكش سنة ست وسبعين فاستقدمه وتقبض عليه واعتقله بدار ابن عمه بجو بن العلام بن مسرى بن مسعود بن خطاب كان في جملته وكان هو وأبوه نازعاً إلى بني مرين خوفاً على أنفسهم من أولاد محمد بن عمر لترشحهم للأمر فلما استمكن منه بداره معتقلا وثب عليه فقتله واستلحم بنيه معه وسخطه السلطان لها فاعتقله قليلا. ثم أطلقه واستقل برياسة هسكورة لهذا العهد والله قادر على ما يشاء. الطبقة الثالثة من صنهاجة وهذه الطبقة ليس فيها ملك وهم لهذا العهد أوفر قبائل المغرب فمنهم الموطنون بالجانب الشرقي من جبال درن ما بين تازي وتادلا ومعدن بني فازان حيث الثنية المفضية إلى آكرسلوين من بلاد النخل. وتفصل تلك الثنية بين بلادهم وبلاد المصامدة في المغرب من جبال درن. ثم اعتمروا قنن تلك الجبال وشواهقها وتنعطف مواطنهم من تلك الثنية إلى ناحية القبلة إلى أن تنتهي إلى آكرسلوين. ثم ترجع مغرباً من آكرسلوين إلى درعة إلى ضواحي السوس الأقصى وأمصاره من تارودانت وأيفري إلى فونان وغيرها. ويعرف هؤلاء كلهم باسم صناكة حذفت الهاء من اسم صنهاجة وأشموا صاده زاياً وأبدلوا الجيم بالكاف المتوسطة المخرج عند العرب لهذا العهد بين الكاف والقاف أو بين الكاف والجيم. وهي معربة النطق. ولصنهاجة هؤلاء بين قبائل الغرب وفور عدد وشدة بأس ومنعة وأعزهم جانباً أهل الجبال المطلة على تادلا ورياستهم لهذا العهد في ولد عمران الصناكي ولهم اعتزاز على الدولة ومنعة عن الهضيمة والانقياد للمغرم. وتتصل بهم قبائل خباتة منهم ظواعن يسكنون بيوت الخص وينتجعون مواقع القطر في نواحي بلادهم يتغانيمين من قبيلة مكناسة إلى وادي أم ربيع من تامستا في الجانب الشمالي من جانبي جبل درن ورياستهم في ولد هيبري من مشاهيرهم ولهم اعتياد وتتصل بهم قبائل دكالة في وسط المغرب من عدوة أم ربيع إلى مراكش ويتصل بهم من جهة المغرب على ساحل البحر المحيط قبيلة بناحية آزمور وأخرى وافرة العدد مندرجة في عداد المصامدة وطناً ونحلة وجباية وعمالة. ورياستهم لهذا العهد في دولة عزيز بن يبورك ورئيسهم لأول دولة زناتة ويأتي ذكره ويعرف عقبه الآن ببني بطال ومن قبائل صنهاصة بطون أخرى بجبال تازى وما والاها مثل بطوية وبخاصة وبني وارتين إلى جبل لكائي من جبال المغرب معروف ببني الكائي إحدى قبائلهم يعطون المغرم عن عزة. وبطوية منهم ثلاثة بطون: بقوية على تازى وبني ورياغل على ولد المزمة وأولاد علي بتافرسيت. وكان لأولاد علي ذمة مع بني عبد الحق ملوك بني مرين وكانت أم يعقوب بن عبد الحق منهم فاستوزرهم. وكان منهم طلحة بن علي وأخوه عمر على ما يأتي ذكره في دولتهم. ويتصل ببسيط بالمغرب ما بين جبال درن وجبال الريف من ساحل البحر الرومي حيث مساكن حماد الآتي ذكرهم قبائل أخرى من صنهاجة موطنون في هضاب وأودية وبسائط يسكنون بيوت الحجارة والطين مثل قشتالة وسطه وبنو ورياكل وبنو حميد وبنو مزكلدة وبنو عمران وبنو دركون وبنو رتزر وملوانة وبنو وامرد. وموطن هؤلاء كلهم بورغة وأمر كو يحترفون بالحياكة والحراثة ويعرفون لذلك صنهاجة البز وهم في عداد القبائل المغارمة ولغتهم في الأكثر عربية لهذا العهد ويتصل بجبال غمارة من ناحيتهم جبل سريف موطن بني زروال. من صنهاجة وبني مغالة لا يحترفون بمعاش ويسمون صنهاجة العز لما اقتضته منعة جبالهم. ويقولون لصنهاجة آزمور الذين قدمنا ذكرهم صنهاجة الذل لما هم عليه من الذل والمغرم والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وقد يقال في بعض مزاعم البربر أن بني وديد من صنهاجة وبنو يزناسن وباطويه هم أخوال وأصل يزناسن أجناسن ومعناه بلغة العرب الجالس على الأرض. المصامدة الخبر عن المصامدة من قبائل البربر وما كان لهم من الدولة والسلطان بالمغرب ومبدأ ذلك وتصاريفه وأما المصامدة وهم من ولد مصمود بن يونس بن بربر فهم أكثر قبائل البربر وأوفرهم من بطونهم برغواطة وغمارة وأهل جبل درن. ولم تزل مواطنهم بالمغرب الأقصى منذ الأحقاب المتطاولة. وكان المتقدم فيهم قبيل الإسلام وصدره برغواطة. ثم صار التقدم بعد ذلك لمصامدة جبال درن إلى هذا العهد. وكان لبرغواطة في عصرهم دولة ولأهل درن منهم دولة أخرى أو دول حسبما نذكر فلنذكر هذه الشعوب وما كان فيها من الدول بحسب ما تأدى إلينا من ذلك. الخبر عن برغواطة من بطون المصامدة ودولتهم ومبدأ أمرهم وتصاريف أحوالهم وهم الجيل الأول منهم كان لهم في صدر الإسلام التقدم والكثرة وكانوا شعوباً كثيرة مفترقين وكانت مواطنهم خصوصاً من بين المصامدة في بسائط تامستا وريف البحر المحيط من سلا وأزمور وأنفى وأسفى. وكان كبيرهم لأول المائة الثانية من الهجرة طريف أبو صالح وكان من قواد ميسرة الخفير طريف المطغري القائم بدعوة الصفرية ومعهما معزوز بن طالوت. ثم انقرض أمر ميسرة والصفرية وبقي طريف قائماً بأمرهم بتامستا ويقال أيضاً أنه تنبأ وشرع لهم الشرائع. ثم هلك وولي مكانه ابنه صالح وقد كان حضر مع أبيه حروب ميسرة وكان من أهل العلم والخير فيهم. ثم انسلخ من آيات الله وانتحل دعوى النبوة وشرع لهم الديانة التي كانوا عليها من بعده وهي معروفه في كتب المؤرخين. وادعى أنه نزل عليه قرآن كان يتلو عليهم سوراً منه يسمي منها سورة الديك وسورة الجمل وسورة الفيل وسورة آدم وسورة نوح وكثير من الأنبياء وسورة هاروت وماروت وإبليس وسورة غرائب الدنيا وفيها العلم العظيم بزعمهم حرم فيها وحلل وشرع وقص وكانوا يقرأونه في صلواتهم وكانوا يسمونه صالح المؤمنين كما حكاه البكري عن زمور بن صالح بن هاشم بن وراد الوافد منهم على الحكم المستنصر الخليفة بقرطبة من قبل ملكهم أبي عيسى بن أبي الأنصاري سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. وكان يترجم عنه بجميع خبره داود بن عمر المسطاسي. قال: وكان ظهور صالح هذا في خلافة هشام بن عبد الملك سنة سبع وعشرين من المائة الثانية من الهجرة. وقد قيل إن ظهوره كان لأول الهجرة وأنه إنما انتحل ذلك عناداً أو محاكاة لما بلغه شأن النبي صلى الله عليه وسلم والأول أصح. ثم زعم أنه المهدي الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان وأن عيسى يكون صاحبه ويصلي خلفه وأن اسمه في العرب صالح وفي السريان مالك وفي الأعجمي عالم وفي العبراني روبيا وفي البربري وربا ومعناه الذي ليس بعده نبي وخرج إلى المشرق بعد أن ملك أمرهم سبعاً وأربعين سنة ووعدهم أنه يرجع إليهم في دولة السابع منهم وأوصى بدينه إلى ابنه إلياس وعهد إليه بموالاة صاحب الأندلس من بني أمية وبإظهار دينه إذا قوي أمرهم. وقام بأمره بعده ابنه إلياس ولم يزل مظهراً للإسلام مسراً لما أوصاه به أبوه من كلمة كفرهم. وكان طاهراً عفيفاً زاهداً. وهلك لخمسين سنة من ملكه وولي أمرهم من بعده ابنه يونس فأظهر دينهم ودعا إلى كفرهم وقتل من لم يدخل في أمره حتى حرق مدائن تامستا وما والاها يقال إنه حرق ثلاثمائة وثمانين مدينة واستلحم أهلها بالسيف لمخالفتهم إياه وقتل منهم بموضع قال زمور: ورحل يونس إلى المشرق وحج ولم يحج أحد من أهل بيته قبله ولا بعده وهلك لأربع وأربعين سنة من ملكه وانتقل الأمر عن بنيه وولي أمرهم أبو غفير محمد بن معاد بن إليسع بن صالح بن طريف فاستولى على ملك برغواطة وأخذ بدين آبائه واشتدت شوكته وعظم أمره وكانت له في البربر وقائع مشهورة وأيام مذكورة أشار إليها سعيد بن هشام المصمودي في قوله: قفي قبل التفرق وأخبرينا وقولي وأخبري خبراً يقينا وهذي أمة هلكوا وضلوا وغاروا لا سقوا ماء معينا يقولون: النبي أبو غفير فأخزى الله أم الكاذبينا ألم تسمع ولم تر لؤم بيت على آثار خيلهم ربينا رنين الباكيات فبين ثكلى وعادمة ومسقطة جنينا سيعلم أهل تامستا إذا ما أتوا يوم القيامة مهطعينا هنالك يونس وبنو أبيه يقودون البرابر حائرينا إذا زر ياور طافت عليهم جبهتهم بأيدي المنكرينا فليس اليوم يومكم ولكن ليالي كنتم متيسرينا المائة الثالثة لتسع وعشرين سنة من ملكه وولي بعده ابنه أبو الأنصار عبد الله فاقتفى سننه وكان كثير الدعة مهاباً عند ملوك عصره يهاودونه ويدافعونه بالمواصلة وكان يلبس الملحفة والسراويل ولا يلبس المخيط ولا يعتم ولا يعتم أحد في بلده إلا الغرباء. وكان حافظاً للجار وفياً بالعهد وهلك سنة إحدى وأربعين من المائة الرابعة لأربع وأربعين سنة من ملكه ودفن بأمسلاخت وبها قبره. وولي بعده ابنه أبو منصور عيسى ابن اثنين وعشرين سنة فسار بسيرة آبائه وادعى النبوة والكهانة واشتد أمره وعلا سلطانه ودانت له قبائل المغرب. قال زمور: وكان فيما أوصاه به أبوه: يا بني! أنت سابع الأمراء من أهل بيتك وأرجو أن يأتيك صالح بن طريف. قال زمور: وكان عسكره يناهز الثلاثة آلاف من برغواطة وعشرة آلاف من سواهم مثل جراوة وزواغة والبرانس ومجكصة ومطغرة ودمر ومطماطة وبنو وارزكيت. وكان أيضاً بنو يفرن وإصادة وركانة وايزمن ورصافة ورنمصزارة على دينهم ولم يتخذ ملوكهم الآلة منذ كانوا انتهى كلام زمور. وكان لملوك العدوتين في غزو برغواطة هؤلاء وجهادهم أثناء هذا وبعده آثار عظيمة من الأدارسة والأموية والشيعة. ولما أجاز جعفر بن علي من الأندلس إلى المغرب وقلده المنصور بن أبي عامر عمله سنة ست وستين وثلاثمائة فنزل البصرة ثم اختلف ذات بينه وبين أخيه يحيى واستمال عليه أخوه الجند وأمراء زناتة فتجافى له جعفر عن العمل وصرف وجهه إلى جهاد برغواطة يعتده من صالح عمله وزحف إليهم في أهل المغرب وكافة الجند الأندلسيين فلقوه وسط بلادهم وكانت عليه الدبرة ونجا بنفسه في فل من جنده ولحق بأخيه بالبصرة. ثم أجاز بعدها إلى المنصور باستدعائه وترك أخاه يحيى على عمل المغرب. ثم حاربتهم أيضاً صنهاجة لما غزا بلكين بن زيري المغرب سنة ثمان وستين بعدها وأجفلت زناتة أمامه وارزوا إلى حائط سبتة وامتنعوا منه بأوعارها وانصرف عنهم إلى جهاد برغواطة وزحف إليهم فلقيه أبو منصور عيسى بن أبي الأنصار في قومه وكانت عليهم الهزيمة. وقتل أبو منصور وأثخن فيهم بلكين بالقتل وبعث سبيهم إلى القيروان وأقام بالمغرب يردد الغزو فيهم إلى سنة اثنتين وسبعين وانصرف من المغرب فهلك في طريقه إلى القيروان. ولم أفق على من هلك أمرهم بعد أبي منصور. ثم حاربتهم أيضاً جنود المنصور بن أبي عامر لما عقد عبد الملك بن المنصور لمولاه واضح على المغرب عند قفوله من غزاة زيري بن عطية سنة تسع وثمانين وثلاثمائة فافتتح واضح إمره بغزو برغواطة هؤلاء فيمن قبله من الأجناد وأمراء النواحي وأهل الولاية فعظم الأثر فيهم بالقتل والسبي ثم حاربتهم أيضاً بنو يفرن لما استقل بنو يعلى ابن محمد اليفرني من بعد ذلك بناحية سلا من بلاد المغرب واقتطعوه من عمل أبناء زيري بن عطية المغراوي بعد ما كان بينهما من الحروب. وانساق أمر أولاد يعلى هؤلاء إلى تميم بن زيري بن يعلى في أول المائة الخامسة وكان موطناً بمدينة سلا مجاوراً لبرغواطة فكان له أثر كثير في جهادهم وذلك في سنة عشرين وأربعمائة فغلبهم على تامستا وولى عليها من قبله بعد أن أثخن فيهم سبياً وقتلاً. ثم تراجعوا من بعده إلى أن جاءت دولة لمتونة وخرجوا من مواطنهم بالصحراء إلى بلاد المغرب واقتحموا الكثير من معاقل السوس الأقصى وجبال المصامدة. ثم بدا لهم جهاد برغواطة بتامستا وما إليها من الريف الغربي فزحف إليهم أبو بكر بن عمر أمير لمتونة في المرابطين من قومه وكانت له فيهم وقائع استشهد في بعضها صاحب الدعوة عبد الله بن ياسين الكزولي سنة خمسين وأربعمائة واستمر أبو بكر وقومه من بعده على جهادهم حتى استأصلوا شأفتهم ومحوا من الأرض آثارهم. وكان صاحب أمرهم لعهد انقراض دولتهم أبو حفص عبد الله من أعقاب أبي منصور عيسى بن أبي الأنصار عبد الله بن أبي غفير محمد بن معاد بن إليسع بن صالح بن طريف فهلك في حروبهم. وعليه كان انقراض أمرهم وقطع دابرهم على يد هؤلاء المرابطين والحمد لله رب العالمين. وقد يغلط بعض الناس في نسب برغواطة هؤلاء فيعدهم في قبائل زناتة وآخرون يقولون في صالح أنه يهودي من ولد شمعون بن يعقوب نشأ ببرباط ورحل إلى المشرق وقرأ على عبد الله المعتزلي واشتغل بالسحر وجمع فنوناً وقدم المغرب ونزل تامستا فوجد فيها قبائل جهالا من البربر فأظهر لهم الزهد وسحرهم بلسانه وموه عليهم فقصدوه واتبعوه فادعى النبوة وقيل له برباطي نسبة إلى الموطن الذي نشأ به وهو برباط واد بفحص شريش من بلاد الأندلس فعربت العرب هذا الاسم وقالوا برغواط. ذكر ذلك كله صاحب كتاب نظم الجوهر وغيره من النسابين للبربر وهو من الأغاليط البينة. وليس القوم من زناتة وبشهد لذلك كله موطنهم وجوارهم لإخوانهم المصامدة. وأما صالح بن طريف فمعروف منهم وليس هن غيرهم ولا يتم الملك والتغلب على النواحي والقبائل لمنقطع جذمة دخيل في نسبه. سنة الله في عباده وإنما نسب الرجل في برغواطة وهم شعب من شعوب المصامدة معروف كما ذكرناه والله ولي التوفيق. غمارة الخبر عن غمارة من بطون المصامدة وما كان فيهم من الدول وتصاريف أحوالهم هذا القبيل من بطون المصامدة من ولد غمار بن مصمود وقيل غمار بن مسطاف بن مليل بن مصمود وقيل غمار بن أصاد بن مصمود. ويقول بعض العامة أنهم عرب غمروا في تلك الجبال فسموا غمارة وهو مذهب عامي وهم شعوب وقبائل أكثر من أن تنحصر. والبطون المشهورة منهم بنو حميد ومتيوة وبنو نال واغصاوة وبنو وزروال ومجكسة وهم آخر مواطنهم يعتمرون جبال الريف بساحل البحر الرومي من عن يمين بسائط المغرب من لدن غساسة فنكور فبادس فتيكيساس فتيطاوين فسبتة فالقصر إلى طنجة خمس مراحل أو أزيد أوطنوا منها جبالا شاهقة اتصل بعضها ببعض سياجاً بعد سياج خمس مراحل أخرى في العرض إلى أن ينحط إلى بسائط قصر كتامة ووادي ورغة من بسائط المغرب ترتد عنها الأبصار وتزل في حافاتها الطيور لا بل الهوام وتنفسح في رؤوسها وبين قننها الفجاج سبل السفر ومراتع السائمة وفدن الزراعة وأدواح الرياض. ويتبين لك أنهم من المصامدة بقاء هذا النسب المحيط سمة فيهم لبعض شعوبهم يعرفون بمصمودة ساكنين ما بين سبتة وطنجة وإليهم ينسب قصر المجاز الذي يعبر منه الخليج البحري إلى بلد طريف ويعضده أيضاً اتصال مواطنهم بموطن برغواطة من شعوب المصامدة بريف البحر الغربي وهو المحيط إذ كان بنو حسان منهم موطنين بذلك الساحل من لدن أزغار وأصيلا إلى أنفى ومن هنالك تتصل بهم مواطن برغواطة ودكالة إلى قبائل درن من المصامدة فما وراءها من بلاد القبلة. فالمصامدة هم أهل الجبال بالمغرب الأقصى إلا قليلا منها وغيرهم في البسائط. ولم تزل غمارة هؤلاء بمواطنهم هذه من لدن الفتح ولم يعلم ما قبل ذلك. وللمسلمين فيهم أزمان الفتح وقائع الملاحم وأعظمها لموسى بن نصير وهو الذي حملهم على الإسلام واسترهن أبناءهم وأنزل منهم عسكراً مع طارق بطنجة. وكان أميرهم لذلك العهد يليان وهو الذي وفد عليه موسى بن نصير ورغبه في غزو الأندلس وكان منزله سبتة كما نذكره وذلك قبل استحداث نكور. وكانت في غمارة هؤلاء بعد الإسلام دول قاموا بها لغيرهم وكان فيهم متنبئون ولم تزل الخوارج تقصد جبالهم للمنعة فيها والاعتصام كما نذكرهم. سبتة ودولة بني عصام الخبر عن سبتة ودولة بني عصام بها كانت سبتة هذه من الأمصار القديمة قبل الإسلام كانت يومئذ منزل يليان ملك غمارة ولما زحف إليه موسى بن نصير صانعه بالهدايا وأذعن للجزية فأمره عليها واسترهن ابنه وأبناء قومه وأنزل طارق بن زياد بطنجة وضرب عليهم العسكر للنزول معه. ثم كانت إجازة طارق إلى الأندلس فضرب عليهم البعوث وكان الفتح الذي لا كفاء له كما مر في موضعه. ولما هلك يليان استولى العرب على مدينة سبتة صلحاً من أيدي قومه فعمروها. ثم كانت فتنة ميسرة الحقير وما دعى إليه من ضلالة الخارجية وأخذ بها الكثير من البرابرة من غمارة وغيرهم ثم نزل بها ماجكس من رجالاتهم ووجوه قبائلهم وبه سميت مجكسة فبناها ورجع إليها الناس وأسلم. وسمع من أهل العلم إلى أن مات فقام بأمره ابنه عصام ووليها دهراً. ولما هلك قام بأمره ابنه مجير فلم يزل والياً عليها إلى أن هلك ووليها أخوه الرضي ويقال أنه ابنه وكانوا يعطون لبني إدريس طاعة مضعفة كما نذكره. ولما سما للناصر أمل في ملك المغرب وتناول حبله من أيدي بني إدريس المالكين ببلاد وغمارة حين أجهضتهم مكناسة وزناتة عن ملكهم بفاس وقاموا بدعوة الناصر وبثوها في أعمالهم نزلوا حينئذ للناصر عن سبتة وأشاروا له إلى تناولها من بني عصام فسرح عساكره وأساطيله مع قائده نجاح بن غفير فكان فتحها سنة تسع عشرة وثلاثمائة ونزل له الرضي بن عصام عنها وأتاه طاعته وانفرض أمر بني عصام. وصارت سبتة إلى الناصر حتى استولى عليها بعد حين بنو حماد واستحدثوا بها دولة أخرى كما نذكره. بني صالح بن منصور الخبر عن بني صالح بن منصور ملوك نكور ودولتهم في غمالة وتصاريف أحوالهم استولى المسلمون أيام الفتح على بلاد المغرب وعمالاته واقتسموه وأمدهم الخلفاء بالبعوث إلى جهاد البربر وكان فيهم من كل القبائل من العرب. وكان صالح بن منصور الحميري من عرب اليمن في البعث الأول. وكان يعرف بالعبد الصالح فاستخلص نكور لنفسه وأقطعه إياها الوليد بن عبد الملك في أعوام إحدى وتسعين للهجرة قاله صاحب المقياس حد بلد نكور ينتهي من المشرق إلى زواغة وجرواة بن أبي العيص مسافة خمسة أيام وتجاوره من هنالك مطماطة وأهل كبدانة ومرنيسة وغساسة أهل جبل هرك وقلوع جارة التي لبني ورتندي وينتهي من الغرب إلى بني مروان من غمارة وبني حميد وإلى مسطاسة وصنهاجة ومن ورائهم أوربة حزب فرحون وبني وليد وزناتة وبني يرنيان وبني واسن حزب قاسم صاحب صا والبحر جوفي نكور على خمسة أميال فأقام صالح هنالك لما اقتطع أرضها وكثر نسله واجتمع قبائل غمارة وصنهاجة مفتاح وأسلموا على يده وقاموا بأمره وملك تمسامان وانتشر الإسلام فيهم ثم ثقلت عليهم الشرائع والتكاليف وارتدوا وأخرجوا صالحاً وولوا عليهم رجلاً من نفزة يعرف بالرندي. ثم تابوا وراجعوا الإسلام ورجعوا صالحاً فأقام فيهم إلى أن هلك بتمسامان سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وولي أمرهم من بعده ابنه المعتصم بن صالح وكان شهماً شريف النفس كثير العبادة. وكان يلي الصلاة والخطبة لهم بنفسه. ثم هلك لأيام يسيرة وولي من بعده أخوه إدريس فاختط مدينة نكور في عدوة الوادي ولم يكملها. وهلك سنة ثلاث وأربعين وولي من بعده ابنه سعيد واستفحل أمره. وكان ينزل مدينة تمسامان. ثم اختط مدينة نكور لأول ولايته ونزلها وهي التي تسمى لهذا العهد المزمة بين نهرين أحدهما نكور ومخرجه من بلاد كزناية ومخرجه ومخرج وادي ورغة واحد والثاني عيس ومخرجه من بلاد بني ورياغل يجتمع النهران في أكدال. ثم يفترقان إلى البحر وتقابل نكور من عدوة الأندلس بزليانة. وغزا المجوس نكور هذه في أساطيلهم سنة أربع وأربعين فتغلبوا عليها واستباحوها ثمانياً. ثم اجتمع إلى سعيد البرانس وأخرجوهم عنها وانتقضت غمارة بعدها على سعيد فخلعوه وولوا عليهم رجلاً منهم اسمه سكن. وتزاحفوا فأظهره الله عليهم وفرق جماعتهم وقتل مقدمهم واستوسق أمره إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين لسبع وثلاثين من ملكه. وقام بأمره ابنه صالح بن سعيد فتقبل مذاهب سلفه في الاستقامة والإقتداء وكانت له مع البربر حروب ووقائع إلى أن هلك سنة خمسين ومايتين لاثنين وستين سنة من ملكه. وقام من بعده ابنه سعيد بن صالح وكان أصغر ولده فخرج عليه أخوه عبيد الله وعمه الرضي وظفر بهما بعد حروب كثيرة فغرب أخاه إلى المشرق ومات بمكة وأبقى على عمه الرضي لذمة صهر بينهما. وقتل سائر من ظفر به من عمومته وقرابته وامتعض لهم سعادة الله بن هارون منهم ولحق ببني يصلتن أهل جبل أبي الحسين ودلهم على عورته وبيتوا معسكره واستولوا عليه وأخذوا آلته وقتلوا آلافاً من مواليه وحاصروا بنكور. ثم كانت له الكرة عليهم وقتل منهم خلقاً ونجا سعادة الله إلى تمسامان وتقبض على أخيه ميمون فضرب عنقه. ثم صار سعادة الله إلى طلب الصلح فأسعفه وأنزله معه مدينة نكور. ثم غزا سعيد بقومه وأهل إيالته من غمارة بلاد بطوية ومرنيصة وقلوع جارة وبني ورتندي وأصهر بأخته إلى أحمد بن إدريس بن محمد بن سليمان صاحب وأنزله مدينة نكور معه. وتوطد الأمر لسعيد في تلك النواحي إلى أن خاطبه عبيد الله المهدي يدعوه إلى أمره وفي أسفل كتابه: فإن تستقيموا أستقم لصلاحكم وإن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا وأعلو بسيفي قاهراً لسيوفكم وأدخلها عفواً وأملؤها قتلا فكتب إليه شاعره الأحمس الطليطلي بأمر يوسف بن صالح أخي الأمير سعيد: كذبت وبيت الله ما تحسن العدلا ولا علم الرحمن من قولك الفصلا وما أنت إلا جاهل ومنافق تمثل للجهال في السنة المثلى وهمتنا العليا لدين محمد وقد جعل الرحمن همتك السفلى فكتب عبيد الله إلى مصالة بن حبوس صاحب تاهرت وأوعز إليه بغزوه فغزاه سنة أربع وثلاثمائة لأربع وخمسين من دولته فحاربه سعيد وقومه أياماً. ثم غلبهم مصالة وقتلهم وبعث برؤوسهم إلى رقادة فطيف بها وركب بقيتهم البحر إلى مالقة فتوسع الناصر في إنزالهم وإجارتهم وبالغ في تكريمهم. وأقام مصالة بمدينة نكور ستة أشهر ثم قفل إلى تاهرت وولى عليها دلول من كتامة فانقبض العسكر من حوله وبلغ الخبر إلى بني سعيد بن صالح وقومهم بمالقة وهم: إدريس المعتصم وصالح فركبوا السفن إليها وسبق صالح منهم فاجتمع إليه البربر بمرسى تمسامان وبايعوه سنة خمس وثلاثمائة ولقبوه اليتيم لصغره وزحفوا إلى دلول فظفروا به وبمن معه وقتلوهم وكتب صالح بالفتح إلى الناصر وأقام دعوته بأعماله. وبعث إليه الناصر بالهدايا والتحف والآلة ووصل إليه أخوته وسائر قومه وأتوا طاعته. ولم يزل على هدى أوليه من اقتداء إلى أن هلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة. وولي بعده ابنه عبد البديع ولقب المؤيد وزحف إليه موسى بن أبي العافية القائم بدعوة العبيديين بالمغرب فحاصره وتغلب عليه فقتله واستباح المدينة وخرب بها سنة سبع عشرة. ثم تراجع إليها فلهم وقام بأمرهم أبو أيوب إسماعيل بن عبد الملك بن عبد الرحمن بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور وأعاد المدينة التي بناها صالح بن منصور وعمرها وسكنها ثلاثاً. ثم أغزاه ميسور مولى أبي القاسم بن عبيد الله صندلاً مولاه عندما أناخ على فاس فبعث عسكراً مع صندل هذا فحاصر جراوة ثم عطف على نكور وتحصن منه إسماعيل بن عبد الملك بقلعة أكدى. وبعث إليه صندل رسله من طريقه فقتلهم فأغذ إليه السير وقاتله ثمانية أيام. ثم ظفر به فقتله واستباح القلعة وسباها واستخلف عليها من كتامة رجلاً اسمه مرمازوا ورحل صندل إلى فاس فتراجع أهل نكور وبايعوا لموسى بن المعتصم بن محمد بن قرة بن المعتصم بن صالح بن منصور. وكان بجبل أبي الحسين عند بني يصلتن وكان يعرف بابن رومي. وقال صاحب المقياس: هو موسى بن رومي بن عبد السميع بن إدريس بن صالح بن إدريس بن صالح بن منصور فأخذ مرمازوا ومن معه وضرب أعناقهم وبعث برؤوسهم إلى الناصر. ثم ثار عليه من أعياص بيته عبد السميع بن جرثم بن إدريس بن صالح بن منصور فخلعه وأخرجه عن نكور سنة تسع وعشرين ولحق موسى بالأندلس ومعه أهله وولده وأخوه هارون بن رومي وكثير من عمومته وأهل بيته. فمنهم من نزل معه المرية ومنهم من نزل مالقة. ثم انتقض أهل نكور على عبد السميع وقتلوه. واستدعوا من مالقة جرثم بن أحمد بن زيادة الله بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور فبادر إليهم وبايعوه سنة ست وثلاثين فاستقامت له الأمور وكان على مذهب سلفه في الاقتداء والعمل بمذهب مالك إلى أن مات آخر سنة ستين لخمس وعشرين سنة من ملكه. واتصلت الولاية في بيته إلى أن غلب عليهم أزداجة المتغلبون على وهران وزحف أميرهم يعلى بن فتوح الأزداجي سنة ست وأربعمائة وقيل سنة عشر فغلبهم على نكور وخربها وانقرض ملكهم بعد ثلاثمائة سنة وأربع عشرة سنة من لدن ولاية صالح وبقيت في بني يعلى بن فتوح وأزداجة إلى أعوام ستين وأربعمائة والله مالك الأمور لا إله إلا هو. |
الخبر عن حاميم المتنبي من غمارة
كان غمارة هؤلاء غريقين في الجهالة والبعد عن الشرائع بالبداوة والانتباذ عن مواطن الخير وتنبأ فيهم من مجكسة حاميم بن من الله بن حرير بن عمر بن رحفو بن أزروال بن مجكسة يكنى أبا محمد وأبوه أبو خلف. تنبأ سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة بجبل حاميم المشتهر به قريباً من تيطاوين. واجتمع إليه كثير منهم وأقروا بنبوته وشرع لهم الشرائع والديانات من العبادات والأحكام وصنع لهم قرآناً كان يتلوه عليهم بلسانهم من كلامه: يا من يخلي البصر ينظر في الدنيا خلني من الذنوب. يا من أخرج موسى من البحر آمنت بحاميم وبأبيه أبي خلف من الله. وآمن رأسي وعقلي وما يكنه صدري وأحاط به دمي ولحمي وآمنت بتابعيت عمة حاميم أخت أبي خلف من الله وكانت كاهنة ساحرة إلى غير هذا وكان يلقب المفتري وكانت أخته دبو ساحرة كاهنة وكانوا يستغيثون بها في الحروب والقحوط وقتل في حروب مصمودة بأحواز طنجة سنة خمس عشرة وثلاثمائة وكان لابنه عيسى من بعده قدر جليل في غمارة ووفد على الناصر. ورهطهم بنو رحفو موطنون بوادي لاو ووادي راس قرب تيطاوين وكذلك تنبأ منهم بعد ذلك عاصم بن جميل اليزدجومي وله أخبار مأثورة وما زالوا ينتحلون السحر لهذا العهد. وأخبرني المشيخة من أهل المغرب أن أكثر منتحلي السحر منهم النساء العواتق. قال ولهن قوة على استجلاب روحانية ما يشاؤونه من الكواكب فإذا استولوا عليه وتكيفوا بتلك الروحانية تصرفوا منها في الأكوان بما شاءوا والله أعلم. دولة الأدارسة الخبر عن دولة الأدارسة في غمارة وتصاريف أحوالهم كان عمر بن إدريس عندما قسم محمد بن إدريس أعمال المغرب بين أخوته برأي جدته كنزة أم إدريس اختص منها بتيكيساس وترغة وبلاد صنهاجة وغمارة واختص القاسم بطنجة وسبتة والبصرة وما إلى ذلك من بلاد غمارة. ثم غلب عمر عليها عندما تنكر له أخوه محمد واستضافها إلى عمله كما ذكرنا في أخبارهم. ثم تراجع بنو محمد بن القاسم من بعد ذلك إلى عملهم الأول فملكوه واختط منهم محمد بن إبراهيم بن محمد بن القاسم قلعة حجر النسر الدانية من سبتة معقلاً لهم وثغراً لعملهم. وبقت الإمارة بفاس وأعمال المغرب في ولد محمد بن إدريس. ثم أدالوا منهم بولد عمر بن إدريس وكان آخرهم يحيى بن إدريس بن عمر وهو الذي بايع لعبيد الله الشيعي على يد مصالة بن حبوس قائده وعقد له على فاس. ثم نكبه سنة تسع. وخرج عليه سنة ثلاث عشرة من بني القاسم الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس ويلقب بالحجام لطعنه في المحاجم وكاق مقداماً شجاعاً. وثار أهل فاس بريحان وملكوا الحسن وزحف إليه موسى ففله ومات. واستولى ابن أبي العافية على فاس وأعمال المغرب وأجلى الأدارسة وأحجرهم بحصنهم حجر النسر وتحيزوا إلى جبال غمارة وبلاد الريف. وكان لغمارة في التمسك بدعوتهم آثار ومقامات واستجدوا بتلك الناحية مكاً توزعوه قطعاً كان أعظمها لبني محمد هؤلاء ولبني عمر بتيكيساز ونكور وبلاد الريف. ثم سما الناصر عبد الرحمن إلى ملك العدوة ومدافعة الشيعة فنزل له بنو محمد عن سبتة سنة تسع عشرة وتناولها من يد الرضي بن عصام رئيس مجكسة كان يقيم فيها دعوة الأدارسة فأفرجوا له عنها ودانوا بطاعته وأخذها من يده. ولما أغزا أبو القاسم ميسوراً إلى المغرب لمحاربة ابن أبي العافية حين نقض طاعتهم ودعى للمروانية وجد بنو محمد السبيل إلى النيل منه بمظاهرة ميسور عليه ومالأهم على ذلك بنو عمر صاحب نكور. ولما استقل ابن أبي العافية من نكبته ورجع من الصحراء سنة خمس وعشرين منصرف ميسور من المغرب نازل بني محمد وبني عمر وهلك بعد ذلك. وأجاز الناصر وزيره القاسم بن محمد بن طملس سنة ثلاث وثلاثين لحربهم وكتب إلى ملوك مغراوة محمد بن خزر وابنه الخير بمظاهرة عساكره مع ابن أبي العافية عليهم فسارع أبو العيش بن إدريس بن عمر المعروف بابن مصالة إلى الطاعة وأوفد رسله إلى الناصر فعقد له الأمان وأوفد ابنه محمد بن أبي العيش مؤكداً للطاعة فاحتفل لقدومه وأكد له العقد وتقبل سائر الأدارسة من بني محمد مذهبهم. وسألوا مثل سؤالهم فعقد لجميع بني محمد أيضاً. وكان وفد منهم محمد بن عيسى بن أحمد بن محمد والحسن بن القاسم بن إبراهيم بن محمد وكان بنو إدريس يرجعون في رئاستهم إلى بني محمد هؤلاء منذ استبد بها أخوهم الحسن بن محمد الملقب بالحجام في ثورته على ابن أبي العافية فقدموا على أنفسهم القاسم بن محمد الملقب بكنون بعد فرار موسى بن أبي العافية وملك بلاد المغرب ما عدا فاس مقيماً لدعوة الشيعة إلى أن هلك بقلعة حجر النسر سنة سبع وثلاثين وقام بأمرهم من بعده أبو العيش أحمد بن القاسم كنون وكان فقيهاً عالماً بالأيام والأخبار شجاعاً كريماً ويعرف بأحمد الفاضل وكان منه ميل للمروانية فدعا للناصر وخطب له على منابر عمله ونقض طاعة الشيعة وبايعه أهل المغرب كافة إلى سجلماسة. ولما بايعه أهل فاس استعمل عليهم محمد بن الحسن. ووفد محمد بن أبي العيش بن إدريس بن عمر بن مصالة على الناصر عن أبيه سنة ثمان وثلاثين فاتصلت به وفاة أبيه وهو بالحضرة فعقد له الناصر على عمله وسرحه وهجم عيسى ابن عمه أبي العيش أحمد بن القاسم كنون على عمله بتيكيساس في غيبة محمد فملكها واحتوى على مال ابن مصالة. ولما أقبل محمد من الحضرة زحف برابرة غمارة إلى عيسى المذكور ابن كنون ففظعوا به وأثخنوه جراحة وقتلوا أصحابه ببلد غمارة. وأجاز الناصر قواده إلى المغرب. وكان أول من أجاز إلى بني محمد هؤلاء سنة ثمان وثلاثين أحمد بن يعلى من طبقة القواد إليهم في العساكر ودعاهم إلى هدم تيطاوين فامتنعوا انقادوا وتنصلوا وأجابوا إلى هدمها. ورجع عنهم فانتقضوا فسرح إليهم حميد بن يصل المكناسي في العساكر سنة تسع وثلاثين وزحفوا إليه بوادي لاو فأوقع بهم فأذعنوا من بعدها. وتغلب الناصر على طنجة من يد أبي العيش أمير بني محمد وبقي يصل على بيعة الناصر. ثم تخطت عساكر الناصر إلى بسائط المغرب فأذعن له أهله وأخذ بدعوته فيه أمراء زناتة من مغراوة وبني يفرن ومكناسة كما ذكرناه فضعف أمر بني محمد واستأذنه أميرهم أبو العيش في الجهاد فأذن له وأمر ببناء القصور له في كل مرحلة من الجزيرة إلى الثغر فكانت ثلاثين مرحلة فأجاز أبو العيش واستخلف على عمله أخاه الحسن بن كنون. وتلقاه الناصر بالمبرة وأجرى له ألف دينار في كل يوم وهلك شهيداً في مواقف الجهاد سنة ثلاث وأربعين. ولما أغزا معد قائده جوهراً الكاتب إلى المغرب واستنزل عماله وتحصن الحسن بن كنون منه بقلعة النسر معقلهم. وبعث إليه بطاعته فلم يعرض له جوهر. ولما قفل من المغرب راجع الحسن طاعة الناصر إلى أن هلك سنة خمسين فاستجد الحكم عزمه في سد ثغور المغرب وإحكام دعوتهم فيه. وشحذ لها عزائم أوليائهم من ملوك زناتة فكان بينهم وبين زيري وبلكين ما ذكرناه. ثم أغزا معد بلكين بن زيري المغرب سنة اثنتين وستين أولى غزواته فأثخن في زناتة وأوغل في ديار المغرب. وقام الحسن بن كنون بدعوة الشيعة ونقض طاعة المروانية فلما انصرف بلكين أجاز الحكم عساكره إلى العدوة مع وزيره محمد بن قاسم بن طملس منه اثنتين وستين لقتال الحسن بن كنون وبني محمد فكان الظهور والفلاح للحسن على عسكر الحكم. وقتل قائده محمد بن طملس وخلقاً كثيراً من عسكره وأوليائه. ودخل فلهم إلى سبتة واستصرخوا الحكم فبعث غالباً مولاه البعيد الصيت المعروف الشهامة وأمده بكفاء ذلك من الأموال والجنود وأمره باستنزال الأدارسة وإجازتهم إليه وقال له: سر يا غالب مسير من لا إذن له في الرجوع إلا حياً منصوراً أو ميتاً معذوراً. واتصل خبره بالحسن بن كنون فأفرج عن مدينة البصرة واحتمل منها أمواله وحرمه وذخيرته إلى حجر النسر معقلهم القريب من سبتة ونازله غالب بقصر مصمودة فاتصلت الحرب بينهم أياماً. ثم بث غالب المال في رؤساء البربر من غمارة ومن معه من الجنود ففروا وأسلموه وانحجز بقلعة حجر النسر ونازله غالب وأمده الحكم بعرب الدولة ورجال الثغور. وأجازهم مع وزيره صاحب الثغر الأعلى يحيى بن محمد بن هاشم التجيبي فيمن معه من أهل بيته وحشمه سنة ثلاث وستين فاجتمع مع غالب على القلعة واشتد الحصار على الحسن وطلب من غالب الأمان فعقد له وتسلم الحصن. من يلده. ثم عطف على من بقي من الأدارسة ببلاد الريف فأزعجهم وصيرهم أسوة ابن عمهم واستنزل جميع الأدارسة من معاقلهم. وسار إلى فاس فملكها واستعمل عليها محمد بن علي بن قشوش في عدوة القرويين وعبد الكريم بن ثعلبة الجذامي في عدوة الأندلس. وانصرف غالب إلى قرطبة ومعه الحسن بن كنون وسائر ملوك الأدارسة وقد مهد المغرب وفرق عماله في جهاته وقطع دعوة الشيعة وذلك سنة أربع وستين. وتلقاهم الحكم وأركب الناس للقائهم. وكان يوم دخولهم إلى قرطبة أحفل أيام الدولة. وعفا عن الحسن بن كنون ووفى له بالعهد وأجزل له ولرجاله العطاء والخلع والجعالات وأوسع عليهم الجراية وأسنى لهم الأرزاق ورتب من حاشيتهم في الديوان سبعمائة من أنجاد المغاربة. وتجنى عليه بعد ثلاث سنين بسؤاله من الحسن قطعة عنبر عظيمة تأدت إليه من بعض سواحل عمله بالمغرب أيام ملكه فاتخذ منها أريكة يرتفقها ويتوسدها فسأله حملها إليه على أن يحكمه في رضاه فأبى عليه مع سعاية بني عمه فيه عند الخليفة وسوء خلق الحسن ولجاجه فنكبه واستصفى ما لديه من قطعة العنبر وسواها. واستقام أمر المغرب للحكم وتظافر أمراؤه على مدافعة بلكين وعقد الوزير المصحفي لجعفر بن علي على المغرب واسترجع يحيى بن محمد بن هاشم. وغرب الحسن بن كنون والأدارسة جميعاً إلى المشرق استثقالاً لنفقاتهم. وشرط عليه ألا يعودوا فعبروا البحر من المرية سنة خمس وستين ونزلوا من جوار العزيز بن معد بالقاهرة خير نزل وبالغ في الكرامة ووعد بالنصرة والترة. ثم بعث الحسن بن كنون إلى المغرب وكتب له إلى آل زيري بن مناد بالقيروان بالمظاهرة فلحق بالمغرب ودعا لنفسه. وبعث المنصور بن أبي عامر العساكر لمدافعته فغلبوه وتقبضوا عليه وأشخصوه إلى الأندلس فقتل في طريقه سنة. . . كما ذكرناه في أخبارهم. وانقرض ملك الأدارسة من المغرب أجمع إلى أن كان رجوع الأمر لبني حمود منهم ببلاد غمارة وسبتة وطنجة دولة بني حمود الخبر عن دولة بني حمود ومواليهم بسبتة وطنجة وتصاريف أحوالهم وأحوال غمارة من بعدهم كان الأدارسة لما أجلاهم الحكم المستنصر عن العدوة إلى الشرق ومحا أثرهم من سائر بلاد المغرب واستقامت غمارة على طاعة المروانية وأدعنوا لجند الأندلسيين ورجع الحسن بن كنون لطلب أمرهم فهلك على يد المنصور بن أبي عامر فانقرض أمرهم وافترق الأدارسة في القبائل وانتشروا في الأرض ولاذوا بالاختفاء إلى أن خلعوا شارة ذلك النسب واستحالت صبغتهم منه إلى البداوة. ولحق بالأندلس في جملة البرابرة من ولد عمر بن إدريس رجلان منهم وهما: علي والقاسم ابنا حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس فطار لهم ذكر في الشجاعة والإقدام ولما كانت الفتنة البربرية بالأندلس بعد انقراض الدولة العامرية ونصب البرابر سليمان بن الحكم ولقبوه المستعين واختص به أبناء حمود هذان وأحسنوا الغناء في ولايته حتى إذا استولى على ملكه بقرطبة وعقد للمغاربة الولايات عقد لعلي بن حمود هذا على طنجة وأعمال غمارة فنزلها وراجع عهده معهم فيها. ثم انتقض ودعا لنفسه وأجاز إلى الأندلس وولي الخلافة بقرطبة كما ذكرناه فعقد على عمله بطنجة لابنه يحيى. ثم أجاز يحيى إلى الأندلس بعد مهلك أبيه علي منازعاً لعمه القاسم واستقل أخوه إدريس من بعده بولاية طنجة وسائر أعمال أبيه بالعدوة من مواطن غمارة. ثم أجاز بعد مهلك أخيه يحيى بمالقة فاستدعى رجال دولتهم وعقد لحسن ابن أخيه يحيى على عملهم بسبتة وطنجة وأنفذ نجا الخادم معه ليكون تحت نظره واستبداده. ولما هلك إدريس واعتزم ابن بقنة على الاستبداد بمالقة أجاز نجا الخادم بحسن بن يحيى من طنجة فملك مالقة وربت أمره في خلافته ورجع إلى سبتة. وعقد له حسن على عملهم في مواطن غمارة حتى إذا هلك حسن أجاز نجا إلى الأندلس يروم الاستبداد. واستخلف على العمل من وثق به من موالي الصقالبة فلم يزل إلى نطرهم واحدا بعد آخر إلى أن استقل بسبتة وطنجة من موالي بني حمود هؤلاء الحاجب سكوت البرغواطي وكان عبداً للشيخ حداد من مواليهم اشتراه من سبي برغواطة في بعض أيام جهادهم. ثم صار إلى علي بن حمود فأخذت النجابة بضبعه إلى أن استقل بأمرهم واقتعد كرسي عملهم بسبتة وطنجة وأطاعته قبائل غمارة. واتصلت أيامه إلى أن كانت دولة المرابطين وتغلب يوسف بن تاشفين على مغراوة بفاس. ونجا فلهم إلى بلد الدمنة من آخر بسيط المغرب مما يلي بلاد غمارة. ونازلهم يوسف بن تاشفين سنة إحدى وسبعين ودعا الحاجب سكوت إلى مظاهرته عليهم فهم بالانحياش ومظاهرته على عدوه. ثم ثناه عن ذلك ابنه الفائل الرأي. فلما فرغ يوسف بن تاشفين من أهل الذمة وأوقع بهم وافتتح حصن علودان من حصون غمارة من ورائه وانقاد المغرب لحكمه صرف وجهه إلى سكوت فجهز إليه العساكر وعقد عليها للقائد صالح بن عمران من رجالات لمتونة فتباشرت الرعايا بمقدمهم وانثالوا عليهم. وبلغ الخبر إلى الحاجب سكوت فأقسم أن لا يسمع أحداً من رعيته هدير طبولهم ولحق هو بمدينة طنجة ثغر عمله. وقد كان عليها من قبله ابنه ضياء الدولة المعز وبرز للقائهم فالتقى الجمعان بظاهر طنجة وانكشفت عساكر سكوت وطحنت رحى المرابطين وسالت نفسه على ظباهم ودخلوا طنجة واستولوا عليها. ولحق ضياء الدولة بسبتة. ولما تكالب الطاغية على بلاد الأندلس وبعث ابن عباد صريخه إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين مستنجزاً وعده في جهاد الطاغية والذب عن المسلمين وكاتبه أهل الأندلس كافة اهتز إلى الجهاد وبعث ابنه المعز سنة ست وسبعين في عساكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز فنازلها براً وأحاطت بها أساطيل ابن عباد بحراً واقتحموها عنوة. وتقبض على ضياء الدولة واقتيد إلى المعز فطالبه بالمال فأساء إيجابه فقتله لوقته وعثر على ذخائره وفيها خاتم يحيى بن علي بن حمود. وكتب إلى أبيه بالفتح وانقرضت دولة آل حمود وامحى أثر سلطانهم من بلاد غمارة وأقاموا في طاعة لمتونة سائر أيامهم. ولما نجم المهدي بالمغرب واستفحل أمر الموحدين بعد مهلكه تنقل خليفته عبد المؤمن في بلادهم في غزاته الكبرى لفتح المغرب سنة سبع وثلاثين وما بعدها قبل استيلائه على مراكش كما نذكره في أخبارهم فوحدوا صفوفهم واتبعوا أمره ونازلوا سبتة في عساكره. وامتنعت عليهم وتولى كبر امتناعها قاضيهم عياض الطائر الذكر رئيسهم لذلك العهد بدينه وأبوته وعلمه ومنصبه. ثم افتتحت بعد فتح مراكش سنة إحدى وأربعين فكانت لغمارة هؤلاء السابقة التي رعيت لهم سائر أيام الدولة. ولما فشل أمر بني عبد المؤمن وذهبت ريحهم وكثر الثوار بالقاصية ثار فيهم محمد بن محمد الكتامي سنة خمس وعشرين. كان أبوه من قصر كتامة منقبضاً عن الناس وكان ينتحل السيميا ولقنه عنه ابنه محمد هذا. وكان يلقب أبا الطواجن فارتحل إلى سبتة ونزل إلى بني سعيد وادعى صناعة الكيمياء فاتبعه الغوغاء. ثم ادعى النبوة وشرع شرائع وأظهر أنواعاً من الشعوذة فكثر تابعه. ثم اطلعوا على خبثه ونبذوا إليه عهده. وزحفت عساكر سبتة إليه ففر عنها وقتله بعض البرابرة غيلة. ثم غلب بنو مرين على بسائط المغرب وأمصاره سنة أربعين وستمائة واستولوا على كرسي الأمر بمراكش سنة ثمان وستين فامتنع قبائل غمارة من طاعتهم واستعصوا عليهم وأقاموا بمنجاة من الطاعة وعلى ثبج من الخلاف. وامتنعت سبتة من ورائهم على ملوك بني مرين بسبب امتناعهم. وصار أمرها إلى الشورى واستبد بها الفقيه أبو القاسم العزفي من مشيختهم. كما نذكر ذلك كله إلى أن وقع بين قبائل غمارة ورؤسائهم فتن وحروب ونزعت إحدى الطائفتين إلى طاعة السلطان بالمغرب من بني مرين فأتوها طواعية. ودخل الآخرون في الطاعة تلوهم طوعاً أو كرهاً. فملك بنو مرين أمرهم واستعملوا عليهم وتخطوا إلى سبتة من ورائهم فملكوها من أيدي العزفيين سنة تسع وعشرين وسبعمائة على ما نذكره بعد عند ذكر دولتهم. وهم الآن على أحسن أحوالهم من الاعتزاز والكثرة يؤتون طاعتهم وجبايتهم عند استقلال الدولة ويمرضون فيها عند التياثها بفشل أو شغل بخارج فيجهز البعوث إليهم من الحضرة حتى يستقيموا على الطاعة. ولهم بوعورة جبالهم عز ومنعة وجوار لمن لحق بهم من أعياص الملك ومستأمني الخوارج إلى هذا العهد. ولبني يكم من بينهم الحظ الوافر من ذلك لأشراف جبلهم على سائرها وسمو بقاعة إلى مجاري السحب دونها وتوعر مسالكه بهبوب الرياح فيها. وهذا الجبل مطل على سبتة من غربيها ورئيسه منهم وصاحب أمره يوسف بن عمر وبنوه ولهم فيه عزة وثروة وقد اتخذوا له المصانع والغروس وفرض لهم السلطان بديوان سبتة العطاء. وأقطعهم ببسيط طنجة الضياع والفدن استئلافاً بهم وحسماً لزبون سائر غمارة بإيناس طاعتهم ولله الخلق والأمر بيده ملك السموات والأرض. أهل جبال درن الخبر عن أهل جبال درن بالمغرب الأقصى من بطون المصامدة وما كان لهم من الظهور والأحوال ومبادئ أمورهم وتصاريفها هذه الجبال بقاسية المغرب من أعظم جبال المعمور بنا أعرق في الثرى أصلها وذهبت في السماء فروعها وملأت الجو هياكلها ومثلت سياجاً على ريف المغرب سطورها تبتدئ من ساحل البحر المحيط عند أسفى وما إليها وتذهب في الشرق إلى غير نهاية. ويقال إنها تنتهي إلى قبلة برنيق من أرض برقة وهي في الجانب مما يلي مراكش قد ركب بعضها بعضاً متتالية على نسق من الصحراء إلى التل. يسير الراكب فيها معترضاً من تامسنا وسواحل مراكش إلى بلاد السوس ودرعة من القبلة ثماني مراحل وأزيد تفجرت فيها الأنهار وجلل الأرض خمر الشعراء وتكاثفت بينها ظلال الأدواح. وزكت فيها مواد الزرع والضرع وانفسحت مسارح الحيوان ومراتع الصيد وطابت منابت الشجر ودرت أفاويق الجباية يعمرها من قبائل المصامدة أمم لا يحصيهم إلا خالقهم قد اتخذوا المعاقل والحصون وشيدوا المباني والقصور واستغنوا بقطرهم منها عن أقطار العالم فرحل إليهم التجار من الآفاق واختلفت إليهم أهل النواحي والأمصار ولم يزالوا منذ أول الإسلام وما قبله معتمرين بتلك الجبال قد أوطنوا منها أقطاراً بل أقاليم تعددت فيها الممالك والعمالات بتعدد شعوبهم وقبائلهم وافترقت أسماؤها بافتراق أحيائهم. تنتهي ديارهم من هذه الجبال إلى ثنية المعدن المعروفة ببني فازاز حيث تبتدئ مواطن صناكة ويحفون بهم كذلك من ناحية القبلة إلى بلاد السوس. وقبائل هؤلاء المصامدة بهذه المواطن كثير فمنهم: هرغة وهنتاتة وتينملل وكدميوة وكنفيسة ووريكة وركراكة ومزميرة ودكالة وحاحة وأصادن وبنو وازكيت وبنو ماكر وإيلانة ويقال هيلانة بالهاء. ويقال أيضاً إن إيلان هو ابن بر أصهر المصامدة فكانوا خلفاءهم. ومن بطون أصادن مسفاوة وماغوس ومن مسفاوة دغاغة ويوطانان. ولقال إن غمارة ورهون وأمول بن أصادن والله أعلم. ويقال إن من بطون حاحة زكن وولخص الظواعن الآن بأرض السوس أحلافاً لذوي حسان المتغلبين عليها من عرب المعقل. ومن بطون كنفيسة أيضاً قبيلة سكسيوة الموطنون بأمنع المعاقل من هذه الجبال يطل جبلهم على بسيط السوس من القبلة وعلى ساحل البحر المحيط من الغرب ولهم بمنعة معقلهم ذلك اعتزاز على أهل جلدتهم حسبما نذكره بعد. وكان لهؤلاء المصامدة صدر الإسلام بهذه الجبال عدد وقوة وطاعة للدين ومخالفة لإخوانهم برغواطة في نحلة كفرهم. وكان من مشاهيرهم كسير بن وسلاس بن شملال من أصادة وهو جد يحيى بن يحيى راوي الموطأ عن مالك. ودخل الأندلس وشهد الفتح مع طارق في آخرين من مشاهيرهم استقروا بالأندلس وكان لأعقابهم بها ذكر في دولة الأموية. وكذلك كان منهم قبل الإسلام ملوك وأمراء. ولهم مع لمتونة ملوك المغرب حروب وفتن سائر أيامهم حتى كان اجتماعهم على المهدي وقيامهم بدعوته فكانت لهم دولة عظيمة أدالت من لمتونة بالعدوتين ومن صنهاجة لإفريقية حسبما هو مشهور ونأتي الآن بذكره إن شاء الله تعالى. المهدي ودعوته الخبر عن مبدأ أمر المهدي ودعوته وما كان للموحدين القائمين بها على يد بني عبد المؤمن من السلطان والدولة بالعدوتين وإفريقية وبداية ذلك وتصاريفه لم يزل أمر هؤلاء المصامدة بجبال درن عظيماً وجماعتهم موفورة وبأسهم قوياً وفي أخبار الفتح من حروبهم مع عقبة بن نافع وموسى بن نصير حتى استقاموا على الإسلام ما هو معروف مذكور إلى أن أظلتهم دولة لمتونة فكان أمرهم فيها مستفحلا وشأنهم على أهل السلطان والدولة مهماً. حتى لقد اختطوا مدينة مراكش لنزلهم جوار مواطنهم من درن ليتمرسوا بهم ويذللوا من صعابهم. وفي عنفوان تلك الدولة على عهد علي بن يوسف منها نجم إمامهم العالم الشهير محمد بن تومرت صاحب دولة الموحدين المشتهر بالمهدي أصله من هرغة من بطون المصامدة الذين عددناهم يسمى أبوه عبد الله. وتومرت وكان يلقب في صغره أيضاً أمغار وهو محمد بن عبد الله بن وجليد بن يامصال بن حمزة بن عيسى فيما ذكره ابن رشيق وحققه ابن القطان. وذكر بعض مؤرخي المغرب أنه محمد بن تومرت بن تيطاوين بن سافلا بن مسيغون بن إيكلديس بن خالد. وزعم كثير من المؤرخين أن نسبه في أهل البيت. وأنه محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن سفيان بن صفوان ابن جابر بن عطاء بن رباح بن محمد من ولد سليمان بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخي إدريس الأكبر الواقع نسب الكثير من بنيه في المصامدة وأهل السوس. كذا ذكر ابن نخيل في سليمان هذا وأنه لحق بالمغرب إثر أخيه إدريس ونزل تلمسان وافترق ولده في المغرب. قال: فمن ولده كل طالبي بالسوس وقيل بل هو من قرابة إدريس اللاحقين به إلى المغرب وإن رباحاً الذي في عمود هذا النسب إنما هو ابن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن وعلى الأمرين فإن نسبه الطالبي وقع في هرغة من قبائل المصامدة. ووشجت عروقه فيهم والتحم بعصبيتهم فلبس جلدتهم وانتسب بنسبتهم وصار في عدادهم. وكان أهل بيته أهل نسك ورباط. وشب محمد هذا قارئاً محباً للعلم وكان يسمى أسافو ومعناه الضياء لكثرة ما كان يسرج من القناديل بالمساجد لملازمتها. وارتحل في طلب العلم إلى المشرق على رأس المائة الخامسة. ومرة بالأندلس ودخل قرطبة وهي إذ ذاك دار علم. ثم أجاز إلى الإسكندرية وحج. ودخل العراق ولقي جلة العلماء يومئذ وفحول النظار. وأفاد علماً واسعاً وكان يحدث نفسه بالدولة لقومه على يده لما كان الكهان والحزاء يتحينون ظهور دولة يومئذ بالمغرب ولقي فيما زعموا أبا حامد الغزالي وفاوضه بذات صدره في ذلك فأراده عليه لما كان فيه الإسلام يومئذ بأقطار المغرب من اختلال الدولة وتقويض أركان السلطان المجامع للأمة المقيم للملة بعد أن سأله عمن له من العصابة والقبائل التي تكون بها إلاعتزاز والمنعة وبشأنها يتم أمر الله في درك البغية وظهور الدعوة. وانطلق هذا الإمام راجعاً إلى المغرب بحراً منفجراً من العلم وشهاباً وارياً من الدين. وكان قد لقي بالمشرق أئمة الأشعرية من أهل السنة وأخذ عنهم واستحسن طريقهم في الانتصار للعقائد السلفية والذب عنها بالحجج العقلية الدافعة في صدور أهل البدعة. وذهب إلى رأيهم في تأويل المتشابه من الآي والأحاديث بعد أن كان أهل المغرب بمعزل عن أتباعهم في التأويل والأخذ برأيهم فيه اقتداء بالسلف في ترك التأويل وإمرار المتشابهات كما جاءت فطعن على أهل المغرب في ذلك وحملهم على القول بالتأويل والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد وأعلن بإمامتهم ووجوب تقليدهم وألف العقائد على رأيهم مثل المرشدة والتوحيد. وكان من رأيه القول بعصمة الإمام على رأي الإمامية من الشيعة. وألف في ذلك كتابه في الإمامة الذي افتتحه بقوله: أعز ما يطلب. وصار هذا المفتتح لقباً على ذلك الكتاب واحتل بطرابلس أول بلاد المغرب مفتياً بمذهبه ذلك مظهراً النكير على علماء المغرب في عدولهم عنه. وأخذ نفسه بتدريس العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطاع حتى لقد لقي بسبب ذلك أذايات في نفسه احتسبها من صالح أعماله. ولما دخل بجاية وبها يومئذ العزيز بن المنصور بن الناصر بن علناس بن حماد من أمراء صنهاجة. وكان من المترفين فأغلظ له ولأتباعه بالنكير. وتعرض يوماً لتغيير بعض المنكرات في الطرق فوقعت بسببها هيعة نكرها السلطان والخاصة وائتمروا به فخرج منها خائفاً ولحق بملالة على فرسخ منها وبها يومئذ بنو ورياكل من قبائل صنهاجة. وكان لهم اعتزاز ومنعة فآووه وأجاروه. وطالبهم السلطان صاحب بجاية بإسلامه إليه فأبوا وأسخطوه وأقام بينهم يدرس العلم أياماً. وكان يجلس إذا فرغ على صخرة بقارعة الطريق قريباً من ديار ملالة وهي لهذا العهد معروفة. وهنالك لقيه كبير صحابته عبد المؤمن بن علي حاجاً مع عمه فأعجب بعلمه وأثنى عزمه عن وجهه ذلك واختص به وشمر للأخذ عنه. وارتحل المهدي إلى المغرب وهو في جملته. ولحق بوانشريس. وصحبه منها البشير من جلة أصحابه. ثم لحق بتلمسان وقد تسامع الناس بخبره فأحضره القاضي بها ابن صاحب الصلاة ووبخه على منتحله ذلك وخلافه لأهل قطره. وظن أن العذل يزعه عن ذلك فصم عن قبوله. واستمر على طريقه إلى فاس ثم إلى مكناسة ونهى بها عن بعض المناكير فأوقع به الشرار من الغوغاء وأوجموه ضرباً ولحق بمراكش وأقام بها آخذاً في شأنه. ولقي علي بن يوسف بالمسجد الجامع في صلاة الجمعة فوعظه وأغلظ له القول. ولقي ذات يوم الصورة أخت علي بن يوسف حاسرة قناعها على عادة قومها الملثمين في زي نسائهم فوبخها ودخلت على أخيها باكية لما نالها من تقريعه ففاوض الفقهاء في شأنه بما وصل إليه من شهرته. وكان ملئوا منه حسداً وحفيظة لما كان ينتحل مذهب الأشعرية في تأويل المتشابه وينكر عليهم جمودهم على مذهب السلف في إمراره كما جاء ويرى أن الجمهور لقنوه تجسيماً ويذهب إلى تكفيرهم بذلك أحد قولي الأضعرية في التكفير بمآل الرأي فأغروا الأمير به وأحضره للمناظرة معهم فكان له الفتح والظهور عليهم وخرج من مجلسه ونذر بالشر منهم فلحق من يومه بأغمات وغير المناكير على عادته وأغرى به أهلها علي بن يوسف وطيروا إليه بخبره فخرج عنها هو وتلميذه الذين كانوا في صحابته. ودعا إسماعيل بن إيكيك من أصحابه مايتين من أنجاد قومه وخرج به إلى منجاة من جبال المصامدة. ولحق أولاً بمسفيوة ثم بهنتاتة. ولقيه من أشياخهم عمر بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي وهو الشيخ أبو حفص ويعرف بيته بين هنتاتة ببني فاصكات. وتقول نسابتهم: إن فاصكات هو جد وانودين ويقال لهنتاتة بلسانهم ينتى فلذلك كان يعرف عمر بينتى وسيأتي الكلام في تحقيق نسبه عند ذكر دولتهم. ثم ارتحله المهدي عنهم إلى إيكيلين من بلاد هرغة فنزل على قومه وذلك سنة خمس عشرة وخمسمائة. وبنى رابطة للعبادة واجتمعت إليه الطلبة والقبائل فأعلمهم المرشدة والتوحيد باللسان البربري. وشاع أمره في صحبته. واستدرك رئيس الفئة العلمية بمجلس الأمير علي بن يوسف وهو مالك بن وهيب أغراه به. وكان جزاء ينظر في النجوم وكان الكهان يتحدثون بأن ملكاً كائن بالمغرب لأمة من البربر ويتغير فيه شكل السكة لقران بين الكوكبين العلويين من السيارة يقتضي ذلك في أحكامهم وكان الأمير يتوقعها فقال له: احتفظ بالدولة من الرجل فإنه صاحب القران. والدرهم المربع في كلام سفساف ببسجع سوقي يتناقل الناس نصه وهو: اجعل على رجله كبلا ليلاً يسمعك طبلاً. وأظنه صاحب الدرهم المربع فطلبه علي بن يوسف فتفقده وسرح الخيالة في طلبه ففاتهم وداخل عامل السوس وهو أبو بكر بن محمد اللمتوني بعض هرغة في قتله ونذر بهم إخوانهم فنقلوا الإمام إلى معقل امتناعهم وقتلوا من داخل في أمره. ثم دعا المصامدة إلى بيعته على التوحيد وقتال المجسمين دونه سنة خمس عشرة وخمسمائة فتقدم إليها رجالاتهم من العشرة وغيرهم. وكان فيهم من هنتاتة أبو حفص عمر بن يحيى وأبو يحيى بن بكيت ويوسف بن وانودين وابن يغمور ومن تينملل أبو حفص عمر بن علي أصناك ومحمد بن سليمان وعمر بن تافراكين وعبد الله بن ملويات. وأوعب قبيلة هرغة فدخلوا في أمره كلهم ثم دخل معهم كدميوة وكنفيسة ولما كملت بيعته لقبوه بالمهدي وكان لقبه قبلها الإمام. وكان يسمي أصحابه الطلبة وأهل دعوته الموحدين. ولما تم له خمسون من أصحابه سماهم آيت الخمسين. وزحف إليهم عامل السوس أبو بكر بن محمد اللمتوني بمكانهم من هرغة فاستجاشوا بإخوانهم من هنتاتة وتينملل فاجتمعوا إليهم وأوقعوا بعسكر لمتونة فكانت مقدمة الفتح. وكان الإمام يعدهم بذلك فاستبصروا في أمره وتسابق كافتهم إلى الدخول في دعوته وترددت عساكر لمتونة إليهم مدة بعد أخرى ففضوهم. وانتقل لثلاث سنين من بيعته إلى جبل تينملل فأوطنه وبنى داره ومسجده بينهم حوالي منبع وادي وقاتل من تخلف عن بيعته من المصامدة حتى استقاموا فقاتل أولا: هزرجة وأوقع بهم مراراً ودانوا بالطاعة. ثم قاتل هسكورة ومعهم أبو درقة اللمتوني فغلبهم وقفل فاتبعه بنو وازكيت فأوقع بهم الموحدون وأثخنوا فيهم قتلا وأسراً. ثم غزا بلد عجدامة وكن قد افتتحه وترك به الشيخ أبا محمد عطية من أصحابه فغدروا به وقتلوه فغزاهم واستباحهم. ورجع إلى تينملل وأقام بها إلى أن كان شأن البشير وميز الموحد من المنافقين وكانوا يسمون لمتونة الحشم فاعتزم على غزوهم وجمع كافة أهل دعوته من المصامدة. وزحف إليهم فلقوه بكيك وهزمهم الموحدون واتبعوهم إلى أغمات فلقيهم هنالك زحوف لمتونة مع بكو بن علي بن يوسف وإبراهيم بن تاعباست فهزمهم الموحدون. وقتل إبراهيم واتبعوهم إلى مراكش فنزلوا البحيرة في زهاء أربعين ألفاً كلهم رجلى إلا أربعمائة فارس. واحتفل علي بن يوسف في الاحتشاد وبرز إليهم لأربعين من نزولهم عليه من باب إيلان فهزمهم وأثخن فيهم قتلا وسبياً وفقد البشير من أصحابه. واستحر القتل في هيلانة وأبلى عبد المؤمن في ذلك اليوم أحسن البلاء. وكانت وفاة المهدي لأربعة أشهر بعدها. وكان يسمي أتباعه بالموحدين تعريضاً بلمتونة في أخذهم بالعدول عن التأويل وميلهم إلى التجسيم. وكان حصوراً لا يأتي النساء. وكان يلبس العباءة المرقعة. وله قدم في التقشف والعبادة ولم يحفظ عنه فلتة في |
دولة عبد المؤمن خليفة المهدي
الخبر عن دولة عبد المؤمن خليفة المهدي والخلفاء الأربعة من بيته ووصف لحالهم ومصائر أمورهم لما هلك المهدي سنة اثنتين وعشرين كما ذكرناه وقد عهد بأمره من بعده لكبير صحابته عبد المؤمن بن علي الكومي المقدم ذكره ونسبه عند ذكر قومه فقبر بمسجده لصق داره من تينملل. وخشي أصحابه من افتراق الكلمة وما يتوقع من سخط المصامدة ولاية عبد المؤمن لكونه من غير جلدتهم فأرجأوا الأمر إلى أن تخالط بشاشة الدعوة قلوبهم وكتموا موته زعموا ثلاث سنين يموهون بمرضه ويقيمون سنته في الصلاة والحزب الراتب. ويدخل صحابته إلى البيت كأنه اختصهم بعبادته فيجلسون حفافي قبره ويتفاوضون في شؤونهم بمحضر أخته زينب ثم يخرجون لإنفاذ ما أبرموه ويتولاه عبد المؤمن بتسليمهم. حتى إذا استحكم أمرهم وتمكنت الدعوة من نفوس كافتهم كشفوا حينئذ القناع عن حالهم وتمالأ من بقي من العشرة على تقديم عبد المؤمن. وتولى كبر ذلك الشيخ أبو حفص وأراد هنتاتة وسائر المصامدة عليه فأظهروا للناس موت المهدي وعهده لصاحبه وانقياد بقية أصحابه لذلك. وروى يحيى بن يغمور عن الإمام أنه يقول في دعائه إثر صلواته: اللهم بارك لي في الصاحب الأفضل فرضي الكافة وانقادوا وأجمعوا على بيعته بمدينة تينملل سنة أربع وعشرين فقام بأمر الموحدين وأبعد في الغزوات فصبح تادلا وأصاب منهم. ثم غزا درعة واستولى عليها سنة ست وعشرين. ثم غزا تاشعبوت وافتتحها وقتل واليها أبا بكر بن مزروال ومن كان معه من قومه غمارة بني ونام وبني مزردع. ثم تسابق الناس إلى دعوتهم أفواجاً وانتقض البرابر في سائر أقطار المغرب على لمتونة وسرح علي بن يوسف ابنه تاشفين لقتالهم سنة ثلاث وثلاثين فجاءهم من ناحية أرض السوس واحتشد معه قبائل كزولة وجعلهم في مقدمته فلقيهم الموحدون بأوائل جبلهم وهزموهم. ورجع تاشفين ولم يلق حرباً ودخل كزولة من بعدها في دعوة الموحدين. وأجمع عبد المؤمن على غزو بلاد المغرب فعزا غزاته الطويلة منذ سنة أربع وثلاثين إلى سنة إحدى وأربعين ولما يراجع فيها تينملل حتى انقضت بالفتح والاستيلاء على المغربين خرج إليها من تينملل وخرج تاشفين بعساكره يحاذيه في البسيط والناس يفرون منه إلى عبد المؤمن وهو ينتقل في الجبال في سعة من الفواكه للأكل والحطب للدفء إلى أن وصل إلى جبال غمارة واشتعلت نار الفتنة والغلاء بالمغرب وامتنعت الرعايا من المغرم وألح الطاغية على المسلمين بالعدوة. وهلك خلال ذلك علي بن يوسف أمير لمتونة وملك العدوتين سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وولي أمرهم تاشفين ابنه وهو في غزاته هذه وقد أحيط به. وحدث بعد موت أبيه فتنة بين لمتونة ومسوفة ففزع أمراء مسوفة مثل براز بن محمد ويحيى بن تاكغت ويحيى بن إسحاق المعروف بانكمار وكان والي تلمسان. ولحقوا بعبد المؤمن فيمن إليهم من الجملة ودخلوا في دعوته ونبذ إليهم لمتونة العهد وإلى سائر مسوفة. واستمر عبد المؤمن على حاله فنازل سبتة وامتنعت عليه وتولى كبر دفاعه عنها القاضي عياض الشهير الذكر. كان رئيسها يومئذ بدينه وأبوته ومنصبه. ولذلك سخطته الدولة آخر الأيام حتى مات مغرباً عن سبتة بتادلا مستعملا في خطة القضاء بالبادية وتمادى عبد المؤمن في غزاته إلى جبال غياثة وبطوية فافتتحها ثم نزل ملوية فافتتح حصونها. لنظر يوسف بن وانودين وابن يرمور فخرج إليهم محمد بن يحيى بن فانوا عامل تلمسان فيمن معه من عساكر لمتونو وزناتة فهزمهم الموحدون وقتل ابن فانوا. وانفض عسكر زناتة ورجعوا إلى بلادهم. وولى ابن تاشفين على تلمسان أبا بكر بن مزدلي ووصل إلى عبد المؤمن بمكانه من الريف أبو بكر بن ماخوخ ويوسف بن يدر أمراء بني ومانوا فبعث معهم ابن يغمور وابن وانودين في عسكرهم من الموحدين فأثخنوا في بلاد بني عبد الواد وبني يلومي سبياً وأسراً وأمدتهم عساكر لمتونة ومعهم الزبرتير قائد الروم فنزلوا منداس واجتمعت عليهم زناتة في بني يلومي وبني عبد الواد وشيخهم حمامة بن مطهر وبني ينكاسن وبني ورسيفان وبني توجين فأوقعوا ببني ومانوا واستنقذوا غنائمهم من أيديهم. وقتلوا أبا بكر بن ماخوخ في ستمائة من قومه. وتحصن الموحدون وابن وانودين بجبال سيرات ولحق تاشفين بن ماخوخ بعبد المؤمن صريخاً على لمتونة وزناتة فارتحل معه إلى تلمسان. ثم أجاز إلى سيرات وقصد محلة لمتونة وزناتة فأوقع بهم ورجع إلى تلمسان فنزل ما بين الصخرتين من جبل بني ورنيد. ونزل تاشفين باصطفصف ووصل مدده صنهاجة من قبل يحيى بن العزيز صاحب بجاية لنظر طاهر بن كباب من قواده أمدوا به تاشفين وقومه لعصبية الصنهاجية. وفي يوم وصوله أشرف على معسكر الموحدين وكان يدل بإقدام وبأس فزارى بلمتونة وأميرهم لقعودهم عن مناحزة الموحدين وقال: إنما جئتكم لأمكنكم من صاحبكم عبد المؤمن هذا وأرجع إلى قومي فامتعض تاشفين لكلمته وأذن له في المناجزة فحمل على القوم فركبوا وصمموا للقائه فكان آخر العهد به وبعسكره. وكان تاشفين بعث من قبل ذلك قائده على الروم الزبرتير في عسكر ضخم كما قلناه فأغار على بني سنوس وزناتة الذين كانوا في بسيطهم ورجع بالغنائم فاعترضه الموحدون من معسكر عبد المؤمن فقتلوهم وقتل الزبرتير وصلب. ثم بعث بعثاً آخر إلى بلاد بني ومانوا فلقيهم تاشفين بن ماخوخ ومن كان معه من الموحدين وأوقعوا بهم. واعترضوا عسكر بجاية عند رجوعهم فنالوا منهم أعظم النيل. وتوالت هذه الوقائع على تاشفين فأجمع الرحلة إلى وهران وبعث ابنه إبراهيم ولي عهده إلى مراكش في جماعة من لمتونة وبعث كاتباً معه أحمد بن عطية. ورحل هو إلى وهران سنة تسع وثلاثين وأقام عليها شهراً ينتظر قائد أسطوله محمد بن ميمون إلى أن وصله من المرية بعشرة أساطيل فأرساها قريباً من معسكره. وزحف عبد المؤمن من تلمسان وبعث في مقدمته الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى. وبني ومانوا من زناتة فتقدموا إلى بلاد بني يلومي وبنى عبد الواد وبني ورسيفن وبني توجين وأثخنوا فيهم حتى دخلوا في دعوتهم. ووفد على عبد المؤمن برؤسائهم وكان منهم سيد الناس ابن أمير الناس شيخ بني يلومي فتلقاهم بالقبول وسار في جموع الموحدين إلى وهران ففجعوا لمتونة بمعسكرهم ففضوهم ولجأ تاشفين إلى رابطة هنالك فأحدقوا بها وأضرموا النيران حولها حتى غشيهم الليل فخرج تاشفين من الحصن راكباً على فرسه فتردى من بعد حافات الجبل وهلك لسبع وعشرين من رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. وبعث برأسه إلى تينملل. ولجأ فل العسكر. إلى وهران فانحصروا مع أهلها. حتى جهدهم العطش ونزلوا جميعاً على حكم عبد المؤمن يوم الفطر من تلك السنة. وبلغ خبر مقتل تاشفين إلى تلمسان مع فل لمتونة وفيهم أبو بكر بن ويحيى وسير بن الحاج وعلي بن فيلو في آخرين من أعيانهم ففر معهم من كان بها من لمتونة. وقدم عبد المؤمن فقتل من وجد بتاكرارت بعد أن كانوا بعثوا ستين من وجوههم فلقيهم يصلين من مشيخة بني عبد الواد فقتلهم جميعاً. ولما وصل عبد المؤمن إلى تلمسان استباح أهل تاكرارت لما كان أكثرهم من الحشم وعفا عن أهل تلمسان ورحل عنها لسبعة أشهر من فتحها بعد أن ولى عليها سليمان بن محمد بن وانودين وقيل يوسف بن وانودين. وفيما نقل بعض المؤرخين أنه لم يزل محاصراً لتلمسان والفتوح ترد عليه وهناك وصلته بيعة سجلماسة. ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب وترك إبراهيم بن جامع محاصراً لتلمسان فقصد فاس سنة أربعين وقد تحصن بها يحيى الصحراوي. ولحق بها من فل تاشفين من تلمسان فنازلها عبد المؤمن وبعث عسكراً لحصار مكناسة ثم رحل في أتباعه وترك عسكراً من الموحدين على فاس وعليهم الشيخ أبو حفص وأبو إبراهيم من صحابة المهدي العشرة فحاصروها سبعة أشهر. ثم داخلهم ابن الجياني مشرف البلد وأدخل الموحدين ليلا وفر الصحراوي إلى طنجة وأجاز منها ابن غانية بالأندلس وبلغ خبر فاس إلى عبد المؤمن وهو بمكانه من حصار مكناسة فرجع إليها وولى عليها إبراهيم بن جامع وولى على حصار مكناسة يحيى بن يغمور ورحل إلى مراكش وكان إبراهيم بن جامع لما افتتح تلمسان ارتحل إلى عبد المؤمن وهو محاصر لفاس فاعترضه في طريقه المخضب بن عسكر أمير بني مرين بادسف ونالوا منه ومن رفقته فكتب عبد المؤمن إلى يوسف بن وانودين بن عامل تلمسان أن يجهز إليهم العساكر فبعثها صحبة عبد الحق بن منغفاد شيخ بني عبد الواد فأوقعوا ببني مرين وقتل المخضب أميرهم. ولما ارتحل عبد المؤمن من فاس إلى مراكش وصلته في طريقه بيعة أهل سبتة فولى عليهم يوسف بن مخلوف من مشيخة هنتاتة ومر بسلا فافتتحها بعد مواقفة قليلة ونزل منها بدار ابن عشرة ثم تمادى إلى مراكش. وسرح الشيخ أبا حفص لغزو برغواطة فأثخن فيهم ورجع. ولقيه في طريقه ووصلوا جميعاً إلى مراكش وقد ضموا إليها جموع لمطة فأوقع بهم الموحدون وأثخنوا فيهم قتلا واكتسحوا أموالهم وظعائنهم. وأقاموا على مراكش سبعة أشهر وأميرهم إسحاق بن علي بن يوسف بايعوه صبياً صغيراً عند بلوغ خبر أبيه. ولما طال عليهم الحصار وجهدهم الجوع برزوا إلى مدافعة الموحدين فانهزموا وتتبعهم الموحدون بالقتل واقتحموا عليهم المدينة في أخريات شوال سنة إحدى وأربعين وقتل عامة الملثمين. ونجا إسحاق في جملته وأعيان قومه إلى القصبة حتى نزلوا على حكم الموحدين وأحضر إسحاق بين يدي عبد المؤمن فقتله الموحدون بأيديهم وتولى كبر ذلك أبو حفص بن واكاك منهم وامحى أثر الملثمين واستولى الموحدون على جميع بلاد المغرب. ثم خرج عليهم بناحية السوس ثائر من سوقة سلا يعرف محمد بن عبد الله بن هود وتلقب بالهادي وظهر في رباط ماسة فأقبل إليه الشرار من كل جانب وانصرفت إليه وجوه الأغمار من أهل الآفاق وأخذ بدعوته أهل سجلماسة ودرعة وقبائل دكالة وركراكة وقبائل تامسنا وهوارة. وفشت ضلالته في جميع المغرب فسرح إليه عبد المؤمن عسكراً من الموحدين لنظر يحيى انكمار المسوفي النازع إليه من إيالة تاشفين بن علي. ولقي هذا الثائر المآسي ورجع منهزماً إلى عبد المؤمن فسرح الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى وأشياخ الموحدين واحتفل في الاستعداد فنهضوا إلى رابطة ماسة. وبرز إليهم الثائر في نحو ستين ألفاً من الرجال وسبعمائة من الفرسان فهزمهم الموحدون وقتل داعيتهم في المعركة مع أكثر أتباعه وذلك في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين. وكتب الشيخ أبو حفص بالفتح إلى عبد المؤمن من إنشاء أبي جعفر بن عطية الشهير الذكر كان أبوه أبو أحمد كاتباً لعلي بن يوسف وابنه تاشفين وتحصل في قبضة الموحدين فعفا عنه عبد المؤمن. ولما نزل على فاس اعتزم أبو أحمد هذا على الفرار فقبض عليه في طريقه واعتذر فلم يقبل عذره وقتل. وكان ابنه أحمد كاتباً لإسحاق بن علي بمراكش فشمله عفو السلطان فيمن شمله من ذلك الفل وخرج في جملة الشيخ أبي حفص في وجهته هذه وطلبه للكتاب في ذلك فأجاد واستحسن كتابه عبد المؤمن لما وقف عليه فاستكتبه أولا. ثم ارتفع عنده بخلاله فاستوزره وبعد في الدولة صيته وقاد العساكر وجمع الأموال وبذلها ونال من الرتبة عند السلطان ما لم ينله أحد في دولتهم إلى أن دلت عقارب السعاية إلى مهاده الوثير فكان فيها حتفه ونكبه الخليفة سنة ثلاث وخمسين وقتله بمحبسه حسبما هو مشهور. ولما انصرف الشيخ أبو حفص من غزاة ماسة أراح بمراكش أياماً. ثم خرج غازياً إلى القائمين بدعوة الماسي بجبال درن فأوقع بأهل نفيس وهيلانة وأثخن فيهم القتل والسبي حتى أذعنوا بالطاعة ورجع. ثم خرج إلى هسكورة وأوقع بهم وافتتح معاقلهم وحصونهم. ثم نهض إلى سجلماسة فاستولى عليها ورجع إلى مراكش ثم خرج ثالثة إلى برغواطة فحاربوه مدة ثم هزموه. واضطرمت نار الفتنة في المغرب وانتقض أهل سبتة وأخرجوا يوسف بن مخلوف التينمللي وقتلوه ومن كان معه من الموحدين وأجاز القاضي عياض البحر إلى يحيى بن علي بن غانية المسوفي الوالي بالأندلس فلقيه بالخضراء وطلب منه والياً على سبتة فبعث معه يحيى بن أبي بكر الصحراوي الذي كان بفاس منذ منازلة عبد المؤمن لها. وذكرنا أنه لحق بطنجة فأجاز وبعثه ابن غانية إلى سبتة مع القاضي عياض كما ذكرناه. وقام بأمرها ووصل يده بالقبائل الناكثة لطاعة الموحدين من برغواطة ودكالة على حين هزيمتهم للموحدين كما ذكرناه. ولحق بهم من مكانه بسبتة وخرج إليهم عبد المؤمن بن علي سنة اثنين وأربعين فدوخ بلادهم واستأصل شأفتهم حتى انقادوا للطاعة وتبرأوا من يحيى الصحراوي ولمتونة ورجع إلى مراكش لستة أشهر من خروجه ووصلته الرغبة من مشيخة القبائل في يحيى الصحراوي فعفا عنه وصلحت أحوال المغرب. وراجع أهل سبتة طاعتهم فتقبل منهم وكذلك أهل سلا فصفح عنهم وأمر بهم سورهم. فتح الأندلس فتح الأندلس وشؤونها ثم صرف عبد المؤمن نظره إلى الأندلس وكان من خبرها أنه اتصل بالملثمين مقتل تاشفين بن علي ومنازلة الموحدين مدينة فاس وكان علي بن عيسى بن ميمون قائد أسطولهم قد نزع طاعة لمتونة وانتزى بجزيرة قادس فلحق بعبد المؤمن بمكانه من حصار فاس ودخل في دعوته وخطب له بجامع قادس أول خطبة خطبت لهم بالأندلس عام أربعين وخمسمائة. وبعث أحمد بن قسي صاحب مرتلة ومقيم الدعوة بالأندلس أبا بكر بن حبيس رسولا إلى عبد المؤمن فلقيه على تلمسان وأدى كتاب صاحبه فأنكر ما تضمنه من النعت بالمهدي ولم يجاوب. وكان سداري بن وزير صاحب بطليوس وباجة وغرب الأندلس قد تغلب على أحمد بن قسي هذا وغلبه على مرتلة فأجاز أحمد بن قسي البحر إلى عبد المؤمن بعد فتح مراكش لمداخلة علي بن عيسى بن ميمون ونزل بسبتة فجهزه يوسف بن مخلوف ولحق بعبد المؤمن ورغبه في ملك الأندلس وأغراه بالملثمين فبعث معه عساكر الموحدين لنظر براز بن محمد المسوفي النازع إلى عبد المؤمن من جملة تاشفين وعقد له على حرب من بها من لمتونة والثوار وأمده بعسكر آخر لنظر موسى بن سعيد وبعده بعسكر آخر لنظر عمر بن صالح الصنهاجي ولما أجازوا إلى الأندلس نازلوا أبا الغمر بن عزون من الثوار بشريش وكانت له مع رندة. ثم قصدوا لبلة وبها من الثوار يوسف بن أحمد البطورجي فأعطاهم الطاعة ثم قصدوا مرتلة وهي تحت الطاعة لتوحيد صاحبها أحمد بن قسي. ثم قصدوا شلب فافتتحوها وأمكنوا منها ابن قسي. ثم نهضوا إلى باجة وبطليوس فأطاعهم صاحبها سداي بن وزير. ثم رجع براز في عسكر الموحدين إلى مرتلة حتى انصرم فصل الشتاء فخرج إلى منازلة إشبيلية فأطاعه أهل طلياطة وحصن القصر واجتمع إليه سائر الثوار وحاصروا إشبيلية براً وبحراً إلى أن اقتحموها في شعبان سنة إحدى وأربعين. وفر الملثمون بها إلى قرمونة وقتل من أدرك منهم. وأنى القتل على عبد الله بن القاضي أبي بكر بن العربي في هيعة تلك الدخلة من غير قصد. وكتبوا بالفتح إلى عبد المؤمن بن علي. وقدم عليه وفدهم بمراكش يقدمهم القاضي أبو بكر فتقبل طاعتهم وانصرفوا بالجوائز والإقطاعات لجميع الوفد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة. وهلك القاضي أبو بكر في طريقه ودفن بمقبرة فاس. وكان عبد العزيز وعيسى أخوا المهدي من مشيخة العسكر بإشبيلية فساء أثرهما في البلد واستطالت أيديهما على أهله واستباحوا الدماء والأموال. ثم اعتزما على الفتك بيوسف البطروجي صاحب لبلة فلحق ببلده وأخرج الموحدين الذين بها وحول الدعوة عنهم. وبعث إلى طلياطة وحصن القص ووصل بالملثمين الذين كانوا بالعدوة وارتد ابن قسي في مدينة شلب وعلي بن عيسى بن ميمون بجزيرة قادس ومحمد بن علي بن الحجام بمدينة بطليوس. وثبت أبو الغمر بن عزون على طاعة الموحدين بشريش ورندة وجهاتها. وتغلب ابن غانية على الجزيرة الخضراء وانتقض أهل سبتة كما ذكرناه وضاقت أحوال الموحدين بإشبيلية فخرج منها عيسى وعبد العزيز أخوا المهدي وابن عمهما يصليتن بمن كان معهم. ولحقوا بجبل بيستر جاءهم أبو الغمر بن عزون واتصلت أيديهم على حصار الجزيرة حتى افتتحوا وقتلوا من كان بها من لمتونة ولحق أخوا المهدي بمراكش وبعث عبد المؤمن على إشبيلية يوسف بن سليمان في عسكر من الموحدين وأبقى براز بن محمد على الجباية فخرج يوسف ودوخ أعمال البطروجي بلبلة وطلياطة وعمل ابن قسي بشلب ثم أغار على طلبيرة وأطاعه عيسى بن ميمون صاحب شنتمرية وغزا معهم وأرسل محمد بن علي الحجام صاحب بطليوس بهداياه فتغلبت ورعيت له ورجع يوسف إلى إشبيلية. وفي أثناء ذلك استغلظ الطاغية على يحيى بن علي بن غانية بقرطبة ولج على جهاته حتى نزل له عن بياسة وأبدة وتغلب على الأشبونة وطرطوشة ولاردة وأفراغة وشنتمرية وغيرها من حصون الأندلس وطالب ابن غانية بالزيادة في ضريبته أو الإفراج له عن قرطبة فراسل ابن غانية براز بن محمد واجتمعا بأسجة وضمن له براز إمداد الخليفة على أن يتخلى عن قرطبة وقرمونة ويدال منها بجيان فرضي بذلك وتم العقد ووصل خطاب عبد المؤمن بإمضائه فارتحل ابن غانية إلى جيان ونازله الطاغية بها فغدر بأقماطه واعتقلهم بقلعة ابن سعيد وأفرج الطاغية عن جيان ولحق هو بغرناطة وبها ميمون بن بدر اللمتوني في جماعة من المرابطين قصده ابن غانية ليحمله على مثل حاله مع الموحدين فكان مهلكه بها بشعبان سنة ثلاث وسبعين وقبره بها معروف لهذا العهد. وانتهز الطاغية فرصته في قرطبة فزحف إليها ودفع الموحدون بإشبيلية أبا الغمر بن عزون لحمايتها ووصل إليه مدد يوسف البطروجي من لبلة. وبلغ الخبر عبد المؤمن فبعث إليها عسكراً من الموحدين لنظر يحيى بن يغمور. ولما دخلها أفرج عنها الطاغية لأيام من مدخله وبادر الثوار إلى يحيى بن يغمور في طلب الأمان من عبد المؤمن. ثم تلاحقوا به بمراكش فتقبلهم وصفح لهم ونهض إلى مدينة سلا سنة خمس وأربعين. واستدعى منها أهل الأندلس فوفدوا عليه وبايعوه جميعاً وبايعه الرؤساء من الثوار على الانخلاع من الأمر مثل: سداراي بن وزير صاحب باجة ويابورة والبطروجي صاحب لبلة وابن عزون صاحب شريش ورندة وابن الحجام صاحب بطلوس وعامل ابن منيب صاحب طابيرة. وتخلف ابن قسي وأهل شلب عن هذا الجمع فكان سبباً لقتله من بعد. ورجع عبد المؤمن إلى مراكش وانصرف أهل الأندلس إلى بلادهم واستصحب الثوار فلم يزالوا بحضرته. فتح إفريقية فتح إفريقية وشؤونها ثم بلغ عبد المؤمن ما هي عليه إفريقية من اختلاف الأمراء واستطالة العرب عليها بالعيث والفساد وأنهم حاصروا مدينة القيروان وأن موسى بن يحيى الرياحي المرداسي دخل مدينة باجة وملكها فأجمع الرحلة إلى غزو إفريقية بعد أن شاور الشيخ أبا حفص وأبا إبراهيم وغيرهما من المشيخة فوافقوه. وخرج من مراكش سنة ست وأربعين مورياً بالجهاد حتى انتهى إلى سبتة واستوضح أحوال أهل الأندلس ثم رحل عن سبتة مورياً بمراكش وأغذ السير إلى بجاية فدخل الجزائر على حين غفلة وخرج إليه الحسن بن علي صاحب المهدية فصحبه واعترضته جيوش صنهاجة بأم العلو فهزمهم وصبح بجاية من الغد فدخلهما. وركب يحيى بن العزيز البحر في أسطولين كان أعدهما لذلك واحتمل فيها ذخائره وأمواله ولحق بقسطنطينة إلى أن نزل بعد ذلك عنها على أمان عبد المؤمن واستقر بمراكش تحت الجراية والعناية إلى أن هلك رحمه الله. ثم سرح عبد المؤمن عساكر الموحدين وعليهم ابنه عبد الله إلى القلعة وبها جوشن بن العزيز في جموع صنهاجة فاقتحمها واستلحم من كان بها منهم وأضرم النار ساكنها وقتل جوشن. ويقال إن القتلى بها كانوا ثمانية عشر ألفاً وامتلأت أيدي الموحدين من الغنائم والسبي وبلغ الخبر إلى العرب بإفريقية من الأثبج وزغبة ورياح وقسرة فعسكروا بظاهر باجة وتدامروا على الدفاع عن ملكهم يحيى بن العزيز وارتحلوا إلى سطيف. وزحف إليهم عبد الله بن عبد المؤمن في الموحدين الذين معه. وكان عبد المؤمن قد قفل إلى المغرب ونزل متيجة فلما بلغه الخبر بعث المدد لابنه عبد الله والتقى الفريقان بسطيف واقتلوا ثلاثاً. ثم انفضت جموع العرب واستلحموا وسبيت نساؤهم واكتسحت أموالهم وأسر أبناؤهم. ورجع عبد المؤمن إلى مراكش سنة سبع وأربعين ووفد عليه كبراء العرب من أهل إفريقية طائعين فوصلهم ورجعهم إلى قومهم. وعقد على فاس لابنه السيد أبي الحسن واستوزر له يوسف بن سليمان. وعقد على تلمسان لابنه السيد أبي حفص واستوزر له أبا محمد بن وانودين. وعلى سبتة للسيد أبي سعيد واستوزر له محمد بن سليمان. وعلى بجاية للسيد أبي محمد عبد الله. واستوزر له يخلف بن الحسين. واختص ابنه عبد الله بولاية عهده. وتقلب بذلك كله ضمائر عبد العزيز ويحيى أخوي المهدي فلحقا بمراكش مضمرين الغدر وأدخلوا بعض الأوغاد في شأنهم فوثبوا بعمر بن تافراكين وقتلوه بمكانه من القصبة. ووصل على أثرهما الوزير أبو جعفر بن عطية وعبد المؤمن على أثره فأطفأ نار تلك الثورة وقتل أخوا المهدي ومن داخلهم فيها والله أعلم. بقية فتح الأندلس وبلغه بمراكش سنة تسع وأربعين أن يحيى بن يغمور صاحب إشبيلية قتل أهل لبلة بما كان من غدر الوهبي لها ولم يقبل معذرتهم في ذلك فسخط يحيى بن يغمور وعزله عن إشبيلية بأبي محمد عبد الله بن أبي حفص بن علي التينمللي وعن قرطبة بأبي زيد بن بكيت وبعث عبد الله بن سليمان فجاء بابن يغمور معتقلا إلى الحضرة وألزمه منزله إلى أن بعثه مع ابنه السيد أبي حفص إلى تلمسان واستقام أمر الأندلس. وخرج ميمون بن يدر اللمتوني عن غرناطة للموحدين فملكوها وأجاز إليها السيد أبو سعيد صاحب سبتة بعهد أبيه عبد المؤمن إليه بذلك. ولحق الملثمون بمراكش ونازل السيد أبو سعيد مدينة المرية حتى نزل من كان بها من النصارى على الأمان. وحضر لذلك الوزير أبو جعفر بن عطية بعد أن أمدهم ابن مردنيش الثائر بشرق الأندلس والطاغية معه وعجزوا جميعاً عن المدافعة. ثم وفد أشياخ إشبيلية سنة إحدى وخمسين ورغبوا من عبد المؤمن ولاية بعض أبنائه عليهم فعقد لابنه السيد أبي يعقوب عليها وافتتح أمره بمنازلة علي الوهبي الثائر بطبرية ومعه الوزير أبو جعفر بن عطية حتى استقام على الطاعة. ثم استولى على عمل ابن وزير وابن قسي واستنزل تاشفين اللمتوني من مرتلة سنة اثنتين وخمسين وكان الذي أمكن الملثمين منها ابن قسي واستتم الفتح. ورجع السيد إلى إشبيلية وانصرف أبو جعفر بن عطية إلى مراكش فكانت نكبته ومقتله. واستوزر عبد المؤمن بعده عبد السلام الكومي كان يمت إليه بذمة صهر فلم يزل على وزارته. بقية فتح إفريقية لما بلغ عبد المؤمن سنة ثلاث وخمسين ما كان من إيقاع الطاغية بابنه السيد أبي يعقوب بظاهر إشبيلية ومن استشهد من أشياخ الموحدين وحفاظهم ومن الثوار مثل ابن عزون وابن الحجام نهض يريد الجهاد واحتل سلا فبلغه انتقاض إفريقية وأهمه شأن النصارى بالمهدية. فلما توافت العساكر بسلا استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب وعقد ليوسف بن سليمان على مدينة فاس ونهض يغذ السير حتى نازل المهدية ومن بها من نصارى أهل صقلية فافتتحها صلحاً سنة خمس وخمسين. واستنقذ جميع البلاد الساحلية مثل صفاقس وطرابلس من أيدي العدو. وبعث ابنه عبد الله من مكان حصاره للمهدية إلى قابس فاستخلصها من يد بني كامل المتغلبين عليها من دهمان بعض بطون رياح. واستخلص قفصة من يد بني الورد وزرعة من يد بني بروكسن وطبرقة من يد علال وجبل زغوان من يد بني حماد بن خليفة وشقبنارية من يد بني عياد بن نصر الله. ومدينة الأربص من يد ملكها من العرب حسبما ذلك مذكور في أخبار هؤلاء الثوار في دولة صنهاجة. ولما استكمل الفتح وثنى عنانه إلى المغرب سنة ست وخمسين بلغه أن الأعراب بإفريقية انتقضوا عليه فرجع إليهم عسكراً من الموحدين فنهضوا إلى القيروان وأوقعوا بالعرب وقتل كبيرهم محرز بن زياد الفارغي من بني علي إحدى بطون رياح. أخبار ابن مردنيش الثائر بشرق الأندلس كان بلغ عبد المؤمن وهو بإفريقية أن محمد بن مردنيش الثائر بشرق الأندلس خرج من مرسية ونازل جيان. وأطاعه واليها محمد بن علي الكومي. ثم نازل بعدها قرطبة ورحل عنها وغدر بقرمونة وملكها ثم رجع إلى قرطبة. وخرج ابن بكيت لحربه فهزمه وقتله فكتب إلى عماله بالأندلس بفتح إفريقية وأنه واصل إليهم وعبر البحر إلى جبل الفتح. واجتمع إليه أهل الأندلس ومن بها من الموحدين ثم رجع إلى مراكش وبعث عساكره إلى الجهاد ولقيهم الطاغية فهزموه. وتغلب السيد أبو يعقوب على قرمونة من يد ابن هشمك صهر ابن مردنيش. وكان السيدان أبو يعقوب صاحب إشبيلية وأبو سعيد صاحب غرناطة ارتحلا لزيارة الخليفة بمراكش فخالف ابن همشك إلى مدينة غرناطة وغدر بها ليلا بمداخلة من بعض أهلها. واستولى عليها وانحصر الموحدون بقصبتها وخرج عبد المؤمن من مراكش لاستنقاذها فوصل إلى سلا. وقدم السيد أبا سعيد فأجاز البحر ولقيه عامل إشبيلية عبد الله بن أبي حفص بن علي ونهضوا جميعاً إلى غرناطة فنهض إليهم ابن همشك وهزمهم. ورجع السيد أبو سعيد إلى مالقة وردفه عبد المؤمن بأخيه السيد أبي يعقوب في عساكر الموحدين ونهضوا إلى غرناطة وكان قد وصلها ابن مردنيش في جموع من النصارى مدداً لابن همشك فلقيهم الموحدون بفحص غرناطة وهزموهم. وفر ابن مردنيش إلى مكانه من المشرق ولحق ابن همشك بجيان فنازله الموحدون. وارتحل السيدان إلى قرطبة فأقاما بها إلى أن استدعى السيد أبو يعقوب إلى مراكش سنة ثمان وخمسين لولاية العهد والإدالة به من أخيه محمد فلحق بمراكش وخرج في ركاب أبيه الخليفة عبد المؤمن لما نهض للجهاد. وأدركته المنية بسلا في جمادى الآخرة من هذه السنة وقبر بتينملل إلى جانب المهدي والله أعلم. |
دولة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن
لما هلك عبد المؤمن أخذ البيعة على الناس السيد أبو حفص لأخيه أبي يعقوب باتفاق من الموحدين كافة ورضي من الشيخ أبي حفص خاصة واستقل في رتبة وزارته ورجعوا إلى مراكش. وكان السيد أبو حفص هذا وزيراً لأبيه عبد المؤمن استوزره عند نكبة عبد السلام الكومي فرجعه من إفريقية سنة خمس وخمسين. وكان أبو العلى بن جامع متصرفاً بين يديه في رسم الوزارة إلى أن هلك عبد المؤمن فأخذ أبو حفص البيعه لأخيه أبي يعقوب. ثم هلك إثر وفاة عبد المؤمن ابنه السيد أبو الحسن صاحب فاس والسيد أبو محمد صاحب بجاية في طريقه إلى الحضرة. ثم استقدم أبو يعقوب السيد أبا سعيد من غرناطة سنة ستين فقدم ولقيه السيد أبو حفص بسبتة. ثم سرح الخليفة أبو يعقوب معه أخاه السيد أبا حفص إلى الأندلس في عساكر الموحدين لما بلغه من إلحاح ابن مردنيش على قرطبة بعد أن احتشد معه قبائل العرب من زغبة ورياح والاثبج فاجتاز البحر وقصد ابن مردنيش وقد جمع جموعه وأولياءه من النصارى. ولقيهم عساكر الموحدين بفحص مرسية فانهزم ابن مردنيش وأصحابه وفر إلى مرسية ونازله الموحدون بها ودوخوا نواحيه. وانصرف السيد أبو حفص وأخوه أبو سعيد سنة إحدى وستين إلى مراكش وخمدت نار الفتنة من ابن مردنيش. وعقد الخليفة على بجاية لأخيه السيد أبي زكريا وعلى إشبيلية للشيخ أبي عبد الله بن إبراهيم. ثم أدال منه بأخيه السيد أبي إبراهيم وأقر الشيخ أبا عبد الله على وزارته. وعقد على قرطبة للسيد أبي إسحاق وأقر السيد أبا سعيد على غرناطة ثم نظر الموحدون في وضع العلامة في المكتوبات بخط الخليفة فاختاروا: الحمد لله وحده لما وقفوا عليها بخط الإمام المهدي في بعض مخاطباته فكانت علامتهم إلى آخر دولتهم. فتنة غمارة وفي سنة اثنتين وستين تحرك الأمير أبو يعقوب إلى جبال غمارة لما كان ظهر بها من الفتنة التي تولى كبرها سبع بن منغفاد منهم. وناغاهم في الفتنة صنهاجة جيرانهم فبعث الأمير أبو يعقوب عساكر الموحدين لنظر الشيخ أبي حفص ثم تعاظمت فتن غمارة وصنهاجة فخرج إليهم بنفسه وأوقع بهم واستأصلهم وقتل سبع بن منغفاد وانحسم داؤهم وعقد لأخيه السيد أبي علي الحسن على سبتة وسائر بلادهم. في سنة ثلاث وستين اجتمع الموحدون على تجديد البيعة واللقب بأمير المؤمنين وخاطب العرب بإفريقية يستدعيهم إلى الغزو ويحرضهم. وكتب إليهم في أخبار الأندلس لما استوسق الأمر للخليفة أبي يعقوب بالعدوه وصرف نظره إلى الأندلس والجهاد واتصل به ما كان من غدر العدو دمره الله بمدينة ترجالة. ثم مدينة يابرة ثم حصن شبرينة ثم حصن جلمانية إزاء بطليوس ثم مدينة بطليوس فسرح الشيخ أبا حفص في عساكر من الموحدين احتفل في انتقائهم. وخرج سنة أربع وستين لاستنقاذ بطليموس من هوة الحصار فلما وصل إلى إشبيلية بلغه أن الموحدين ببطليوس هزموا ابن الرنك الذي كان يحاصرهم بإعانة ابن أذفونش. وأن ابن الرنك تحصل في قبضتهم أسيراً وفر جراندة الجليقي إلى حصنه فقصد الشيخ أبو حفص مدينة قرطبة وبعث إليه إبراهيم بن همشك من جيان بطاعته وتوحيده ومفارقته صاحبه ابن مردنيش لما حدث بينهما من الشحناء والفتنة فألخ عليه ابن مردنيش بالحرب وردد إليه الغزو فبعث إلى الشيخ أبي حفص بطاعته. وكتب الشيخ أبو حفص بذلك إلى الخليفة وبما كان من عيث النصارى بجوانب الأندلس فسرح أخاه ووزيره أبا حفص في عسكر الموحدين فنهض من مراكش سنة خمس وستين وفي جملته السيد أبو سعيد أخوه فوصل إغغشبيلية وبعث أخاه أبا سعيد إلى بطليموس فعقد الصلح مع الطاغية وانصرف ونهضوا جميعاً إلى مرسية ومعهم ابن همشك فحاصروا ابن مردنيش. وثار أهل لورقة بدعوة الموحدين فملكها السيد أبو حفص. ثم افتتح مدينة بسطة وطاع ابن عمه محمد بن مردنيش صاحب المرية فحص بذلك جناحه. واتصل الخبر بالخليفة بمراكش وقد توافت عنده جموع العرب من إفريقية صحبة السيد أبي زكريا صاحب بجاية والسيد أبي عمران صاحب تلمسان وكان يوم قدومهم عليه يوماً مشهوداً فاعترضهم وسائر عساكره ونهض إلى الأندلس. واستخلف على مراكش السيد أبا عمران أخاه فاحتل بقرطبة سنة سبع وستين. ثم ارتحل بعدها إلى إشبيلية ولقيه السيد أبو حفص هنالك منصرفاً من غزاته. وكان ابن مردنيش لما طال عليه الحصار ارتاب ففتك بهم وبادر أخوه أبو الحجاج إلى الطاعة وهلك هو في رجب من هذه السنة. ودخل ابنه هلال في الطاعة وبادر السيد أبو حفص إلى مرسية فدخلها وخرج هلال في جملته وبعثه إلى الخليفة بإشبيلية. ثم ارتحل الخليفة غازياً إلى بلاد العدو فنازل وبدة أياماً وارتحل عنها إلى مرسية. ثم رجع إلى إشبيلية سنة ثمان وستين واستصحب هلال بن مردنيش وأصهر إليه في ابنته وولى عمه يوسف على بلنسية وعقد لأخيه السيد أبي سعيد على غرناطة. ثم بلغه خروج العدو إلى أرض المسلمين مع القومس الأحدب فخرج للقائهم وأوقع بهم بناحية قلعة رباح وأثخن فيهم ورجع إلى إشبيلية وأمر ببناء حصن بالقلعة ليحضن جهاتها وقد كانت خراباً منذ فتنة ابن حجاج فيه مع كريب بن خلدون بمورة أزمان المنذر بن محمد وأخيه عبد الله من أمراء بني أمية. ثم انتقض ابن اذفونش وأغار على بلاد المسلمين فاحتشد الخليفة وسرح السيد أبا حفص إليه فغزاه بعقر داره وافتتح قنطرة السيف وهزم جموعه في كل جهة. ثم ارتحل الخليفة من إشبيلية راجعاً إلى مراكش سنة إحدى وسبعين لخمس سنين من إجازته إلى الأندلس وعقد على قرطبة لأخيه الحسن وعلى إشبيلية لأخيه علي وأصاب مراكش الطاعون فهلك من السادة أبو عمران وأبو سعيد وأبو زكريا وقدم الشيخ أبو حفص من قرطبة فهلك في طريقه ودفن بسلا. واستدعى الخليفة أخويه السيدين أبا علي وأبا الحسن فعقد لأبي علي على سجلماسة ورجع أبو الحسن إلى قرطبة وعقد لابني أخيه السيد أبي حفص: لأبي زيد منهما على غرناطة ولأبي محمد عبد الله على مالقة. وفي سنة ثلاث وسبعين سطا بوزرائه بني جامع وغربهم إلى ماردة. وفي سنة خمس وسبعين عقد لغانم بن محمد بن مردنيش على أسطوله وأغزاه مدينة الأشبوبة فغنم ورجع. وفيها كانت وفاة أخيه السيد الوزير أبي حفص بعدما أبلى في الجهاد وأبلغ في نكاية العدو. وقدم ابناه من الأندلس وأخبرا الخليفة بانتقاض الطاغية واعتزم على الجهاد وأخذ في استدعاء العرب من إفريقية. كان علي ابن المعز ويعرف بالطويل من أعقاب بني الزند ملوك قفصة قد ثار سنة خمس وتسعين كما ذكرناه في أخبارهم. وبلغ الخليفة خبره فنهض إليه من مراكش وصار إلى بجاية وسعى عنده بعلي بن المنتصر الذي كان عبد المؤمن استنزله من قفصه أنه يواصل قريبه الثائر بها ويخاطب العرب فتقبض عليه ووجدت مخاطبات عنده شاهدة بتلك السعاية واستصفى ما كان بيده وارتحل إلى فقصة ونازلها. ووفدت عليه مشيخة العرب من رياح بالطاعة فتقبلهم ولم يزل محاصراً لقفصة إلى أن نزل على ابن المعز. وانكفأ راجعاً إلى تونس. وأنفذ عساكر العرب إلى المغرب وعقد على إفريقية والزاب للسيد أبي علي أخيه وعلى بجاية للسيد أبي موسى فقفل إلى الحضرة. معاودة الجهاد لما قفل من فتح قفصة سنة سبع وسبعين وفد عليه أخوه السيد أبو إسحاق من إشبيلية والسيد أبو عبد الرحمن يعقوب من مرسية وكافة الموحدين ورؤساء الأندلس يهنونه بالإياب فأكرم موصلهم وانصرفوا إلى بلادهم. واتصل به أن محمد بن يوسف بن وانودين غزا بالموحدين من إشبيلية إلى أرض العدو فنازل مدينة يابرة وغنم ما حولها وافتتح بعض حصونها ورجع إلى إشبيلية وإن عبد الله بن إسحاق بن جامع قائد الأسطول بإشبيلية التقى بأسطول أهل أشبونة ثم بلغ الخبر بأن اذفونس بن شانجة نازل قرطبة وشن الغارات على جهة مالقة ورندة وغرناطه. ثم نازل أسجة وتغلب على حصن شنغيلة. وأسكن بها النصارى وانصرف فاستنفر السيد أبو إسحاق سائر الناس للغزو ونازل الحصن نحو أربعين يوماً. ثم بلغه خروج أذفونش من طليطلة لمدده فانكفأ راجعاً. وخرج محمد بن يوسف بن وانودين من إشبيلية في جموع الموحدين ونازل طلبيرة وبرز إليه أهلها فأوف وانصرف بالغنائم فاعتزم الخليفة أبو يوسف على معاودة الجهاد وولى على الأندلس أبناءه وقدمهم للاحتشاد فعقد لابنه أبي إسحاق على إشبيلية كما كان ولابنه السيد أبي يحيى على قرطبة ولابنه السيد أبي زيد الحرضاني على غرناطة ولابنه السيد أبي عبد الله على مرسية. ونهض سنة تسع وسبعين إلى سلا ووافاه بها أبو محمد بن أبي إسحاق بن جامع من إفريقية بحشود العرب. وسار إلى فاس وبعث مقدمته هنتاتة وتيمنلل وحشود العرب وأجاز البحر من سبتة في صفر من سنة ثمانين فاحتل جبل الفتح وسار إلى إشبيلية فوافته بها حشود الأندلس. وسخط محمد بن وانودين وغربه إلى حصن غافق ورحل غازياً إلى شنترين فحاصرها أياماً. ثم أقلع عنها وأسحر الناس يوم إقلاعه وخرج النصارى من الحصن فوجدوا الخليفة في غير أهبة ولا أستعداد فأبلى في الجهاد هو ومن حضره وانصرفوا بعد جولة شديدة. وهلك في ذلك اليوم الخليفة يقال من سهم أصابه في حومة القتال وقيل من مرض طرقه عفا الله عنه. دولة ابنه يعقوب المنصور لما هلك الخليفة أبو يعقوب على حصن شنترين سنة ثمانين بويع ابنه يعقوب ورجع بالناس إلى إشبيلية واستكمل البيعة. واستوزر الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص واستنفر الناس للغزو مع أخيه السيد أبي يحيى فأخذ بعض الحصون وأثخن في بلاد الكفار. ثم أجاز البحر إلى الحضرة ولقيه بقصر مصمودة السيد أبو زكرياء بن السيد أبي حفص قادماً من تلمسان مع مشيخة زغبة ومضى إلى مراكش فقطع المناكر وبسط العدل وباشر الأحكام وكان أول الأحداث في دولته شأن ابن غانية. الخبر عن شأن ابن غانية كان علي بن يوسف بن تاشفين لما تغلب العدو على جزيرة ميورقة وهلك واليها من موالي مجاهد وهو مبشر وبقي أهلها فوضى وقد كان مبشر بعث إليه بالصريخ والعدو محاصر له. فلما أخذها العدو وغنم وأحرق وأقلع وبعث علي بن يوسف والياً عليها وأنور بن أبي بكر من رجالات لمتونة وبعث معه خمسمائة فارس من عسكره فأرهف لهم حده وأرادهم في بناء مدينة أخرى بعيدة من البحر فامتنعوا وقتل مقدمهم فثاروا به وحبسوه. ومضوا إلى علي بن يوسف فأعفاهم منه وولى عليهم محمد بن علي بن يحيى المسوفي المعروف بابن غانية. وكان أخوه يحيى على غرب الأندلس وكان نزله بإشبيلية. واستعمل محمد أخاه على قرطبة فكتب إليه علي بن يوسف يأمره بصرف أخيه محمد إلى ولاية ميورقة فارتحل إليها من قرطبة ومعه أولاده عبد الله وعلي وإسحاق والزبير وإبراهيم وطلحة وكان عبد الله وإسحاق في تربية عمهما يحيى وكفالته فتبناهما. ولما وصل محمد بن علي بن غانية إلى ميورقة قبض على أنور وبعثه مصفداً إلى مراكش وأقام على ذلك عشراً. وهلك يحيى بن غانية ولد ولى عبد الله ابن أخيه محمد على غرناطة وأخاه إسحاق بن محمد على قرمونة. ثم هلك علي بن يوسف وضعف أمر لمتونة وظهر عليهم الموحدون فبعث محمد عن ابنيه عبد الله وإسحاق فوصلا إليه في الأسطول وانقضى ملك لمتونة. ثم عهد محمد إلى ابنه عبد الله فنافسه أخوه إسحاق وداخل جماعة من لمتونة في قتله فقتلوه وقتلوا أباه محمداً. ثم أجمعوا على الفتك به فارتاب بهم وداخل لب بن ميمون قائد البحر في أمرهم فكبسهم في منازلهم وقتلهم. وتمت بيعته سنة ست وأربعين وخمسمائة وبقي أميراً لميورقة. واشتغل أول أمره بالبناء والغراسة وضجر منه الناس لسوء ملكته وفر عنه لب بن ميمون إلى الموحدين. ثم رجع آخراً إلى الغزو وكان يبعث بالأسرى والعلوج للخليفة أبي يعقوب إلى أن هلك قبيل مهلكه سنة ثمانين. وخئف من الولد محمداً وعلياً ويحيى وعبد الله والغازي وسير والمنصور وجبارة وتاشفين وطلحة وعمر ويوسف والحسن فولى ابنه محمد وبعث إلى الخليفة أبي يعقوب بطاعته فبعث هو علي بن الزبرتير لاختبار ذلك منه وأحس بذلك أخوته فنكروه وتقبضوا عليه وقدموا علياً منهم. وبلغهم مهلك الخليفة وولاية ابنه المنصور فاعتقلوا ابن الزبرتير وركبوا البحر في أسطولهم إلى بجاية. وولى على ميورقة أخاه طلحة وطرق بجاية في أسطوله على حين غفلة وعليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن وكان خارجها في بعض مذاهبه فاستولوا عليها سنة إحدى وثمانين. وتقبضوا على السيد أبي الربيع والسيد أبي موسى عمران بن عبد المؤمن صاحب إفريقية وكان بها مجتازاً واستعمل أخاه يحيى على بجاية ومضى إلى الجزائر فافتتحها وولى عليها يحيى ابن أخيه طلحة ثم إلى مليانة فولى عليها بدر بن عائشة. ونهض إلى القلعة ثم إلى قسطنطينة فنازلها. واتصل الخبر بالمنصور وهو بسبتة مرجعه من الغزو فسرح السيد أبا زيد ابن عمه السيد أبي حفص وعقد له على حرب ابن غانية. وعقد لمحمد بن أبي إسحاق بن جامع على الأساطيل وإلى نظره أبو محمد بن عطوش وأحمد الصقلي. وانتهى السيد أبو زيد إلى تلمسان وأخوه يومئذ السيد أبو الحسن واليها وقد أنعم النظر في تحصينها ثم ارتحل بعساكره من تلمسان ونادى بالعفو في الرعية فثار أهل مليانة على ابن غانية فأخرجوه وسبقت الأساطيل إلى الجزائر فملكوها وقبضوا على يحيى بن طلحة وسيق يدر ابن عائشة من أم العلو فقتلوا جميعاً بشلف. وتقدم القائد أحمد الصقلي بأسطوله إلى بجاية فملكها ولحق يحيى بن غاينة بأخيه علي بمكانه من حصار قسطنطينة فأقلع عنها. ونزل السيد أبو زيد بتكلات. وهرج السيد أبو موسى من اعتقاله فلقيه هنالك. ثم ارتحل في طلب العدو فأفرج عن قسطنطينة وخرج إلى الصحراء واتبعه الموحدون إلى مقرة ونقاوس. ثم قفلوا إلى بجاية واستقر السيد أبو زيد بها وقصد علي بن غانية قفصة فملكها ونازل توزر فامتنعت عليه ولحق بطرابلس. وخرج غزي الصنهاجي من جموع ابن غانية في بعض أحياء العرب فتغلب على أشير وسرح إليهم السيد أبو زيد ابنه أبا حفص عمر ومعه غانم بن مردنيش فأوقعوا بهم واستولوا على حللهم. وقتل غزي وسيق رأسه إلى بجاية ونصب بها وألحق به عبد الله أخوه. وغرب بنو حمدون من بجاية إلى سلا لاتهامهم بالدخول في أمر ابن غانية. واستقدم الخليفة السيد أبا زيد من مكانه ببجاية وقدم مكانه أخاه السيد أبا عبد الله وانصرت إلى الحضرة. وبلغ الخبر أثناء ذلك باستيلاء علي بن الزبرتير على ميورقة. وكان من خبره أن الأمير يوسف بن عبد المؤمن بعثه إلى ميورقة لدعاء بني غانية إلى أمره لما كان أخوهم محمد خاطبه بذلك. فلما وصل ابن الزبرتير إليهم نكروا شأنه على أخيهم واجتمعوا دونه وتقبضوا عليه وعلى ابن الزبرتير وقدموا عليهم أخاه علياً وركبوا الأساطيل إلى بجاية. فلما خلا الجو منهم دبر ابن الزبرتير في أمره وداخل مواليهم من العلوج في تخلية سبيله من معتقله على أن يخلي سبيلهم بأهليهم وولدهم إلى أرضهم فتم له مراده منهم وثار بقفصة واستنقذ محمد بن إسحاق من مكان اعتقاله ولحقوا جميعاً بالحضرة. وبلغ الخبر علي بن غانية بمكانه من طرابلس فبعث أخاه عبد الله إلى صقلية وركب منها إلى ميورقة ونزل في بعض قراها. وعمل الحيلة في تملك البلد فاستولى عليه واضطرمت نار الفتنة بإفريقية. ونازل علي بن غانية بلاد الجريد وتغلب على الكثير منها وبلغ الخبر باستيلائه على قفصة فخرج إليه المنصور من مراكش سنة اثنين وثمانين ووصل فاس فأراح بها وسار إلى رباط تازى. ثم سار على التبعية إلى تونس وجمع ابن غانية من إليه من الملثمين والأعراب وجاء معه قراقش الغزي صاحب طرابلس فسرح إليه المنصور عساكره لنظر السيد أبي يوسف بن السيد أبي حفص ولقيهم بغمرة فانفضت جموع الموحدين وانجلت المعركة عن قتل علي بن الزبرتير وأبي علي بن يغمور وفقد الوزير عمر بن أبي زيد ولحق فلهم بقفصة فأثخنوا فيهم قتلاً ونجا الباقون إلى تونس. وخرج المنصور متلافياً جبر الحال في هذه الوقائع ونزل القيروان وأغذ السير إلى الحامة فتثاور الفريقان وتزاحفوا فكانت الدبرة على ابن غانية وأحزابه وأفلت من المعركة بدماء نفسه ومعه خليله قراقش وأتى القتل على كثيرهم وصبح المنصور قابس فافتتحها ونقل من كان بها من حرم ابن غانية وذويه في البحر إلى تونس. وثنى العنان إلى توزر فافتتحها وقتل من وجد بها ثم إلى قفصة فنازلها أياماً حتى نزلوا على حكمه. وأمن أهل البلد والأغراب أصحاب قراقش وقتل سائر الملثمين ومن كان معهم من الحشود وهدم أسوارها وانكفأ راجعاً إلى تونس فعقد على إفريقية للسيد أبي زيد وفصل إلى المغرب سنة أربع وثمانين ومر بالمهدية وأسحر على طريق تاهرت والعباس بن عطية أمير بني توجين دليله على تلمسان فنكب بها عمه السيد أبا إسحاق لشيء بلغه عنه وأحفظه. ثم ارتحل إلى مراكش ورفع إليه أن أخاه السيد أبا حفص والي مرسية الملقب بالرشيد وعمه السيد أبا الربيع والي تادلا عندما بلغهم خبر الوقيعة بغمرة حدثوا أنفسهم بالتوثب على الخلافة فلما قدموا عليه للتهنئة أمر باعتقالهما برباط الفتح خلال ما استجلى أمرهما. ثم قتلهما وعقد للسيد أبي الحسن بن السيد أبي حفص على بجاية وقصد يحيى بن غانية قسطنطينة فزحف إليه السيد أبو الحسن من بجاية فهزمه ودخل قسطنطينة وارتحل ابن غانية إلى بسكرة فقطع نخلها وافتتحها عنوه. ثم حاصر قسطنطينة وامتنعت عليه فارتحل إلى بجاية وحاصرها وكثر عيثه إلى أن كان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. أخباره في الجهاد لما بلغه تغلب العدو على قاعدة شلب وأنه أوقع بعسكر إشبيلية وترددت سراياهم على نواحيها وافتتح كثيراً من حصونها وخاطبه السيد أبو يوسف بن أبي حفص صاحب إشبيلية بذلك. استنفر الناس للجهاد وخرج سنة ست وثمانين إلى قصر مصمودة فأراح به. ثم أجاز إلى طريف وأغذ السير منها إلى شلب ووافته بها حشود الأندلس فتركهم لحصارها. وخف إلى حصن طرش فافتتحه ورجع إلى إشبيلية. ثم رجع إلى منازلة شلب سنة سبع وثمانين فافتتحه. وقدم عليه ابن وزير بعد أن كان افتتح في طريقه إليه حصوناً أخرى. ثم قفل إلى حضرته بعد استكمال غزاته. وكتب بعهده لابنه الناصر. وقدم عليه سنة ثمان وثمانين السيد أبو زيد صاحب إفريقية ومعه مشيخة العرب من هلال وسليم فلقاهم مبرة وتكريماً وانقلب وفدهم إلى بلادهم. ثم بلغه سنة تسعين استفحال ابن غانية بإفريقية وكثرة العيث والفساد بها فاعتزم على النهوض إليها ووصل إلى مكناسة فبلغه من أمر الأندلس ما أهمه فصرف وجهه إليها ووصل قرطبة سنة إحدى وتسعين فأراح بها ثلاثاً وأمداد الحشود تتلاحق به من كل ناحية. ثم ارتحل للقاء العدو ونزل بالأرك من نواحي بطليوس وزحف إليه العدو من النصارى وأمراؤهم يومئذ ثلاثة: ابن أذفونش وابن الرنك ولببوج. وكان اللقاء يوم كذا سنة إحدى وتسعين. وأبو محمد ابن أبي حفص يومئذ على المطوعة وأخوه أبو يحيى على العساكر والموحدين فكانت الهزيمة المشهورة على النصارى واستلحم منهم ثلاثون ألفاً بالسيف. واعتصم فلهم بحصن الأرك وكانوا خمسة آلاف من زعمائهم فاستنزلهم المنصور على حكمه وفودي بهم عددهم من المسلمين. واستشهد في هذا اليوم أبو يحيى بن الشيخ أبي حفص بعد أن أبلى بلاء حسناً وعرف بنوه بعدها ببني الشهيد. وانكفأ المنصور راجعاً إلى إشبيلية. ثم خرج منها سنة اثنتين وتسعين غازياً إلى بلاد الجوف فافتتح حصوناً ومدناً وخربها كان مها ترجالة وطلبيرة. وأطل على نواحي طليطلة فخرب بسائطها واكتسح مسارحها وقفل إلى إشبيلية سنة ثلاث وتسعين فرفع إليه في القاضي أبي الوليد بن رشد مقالات نسب فيها إلى المرض في دينه وعقله. وربما ألف بعضها في خطه فحبس. ثم أطلق وأشخص إلى الحضرة وبها كانت وفاته. ثم خرج المنصور من إشبيلية غازياً إلى بلاد ابن أذفونش حتى احتل بساحة طليطلة وبلغه أن صاحب برشلونة أمد ابن أذفونش بعساكره وأنهم جميعاً بفحص مجريط فنهض إليهم. ولما أطل عليهم انفضت جموع ابن أذفونش من قبل القتال وانكفأ المنصور راجعاً إلى إشبيلية. ثم رغب إليه الملوك النصرانية في السلم فبذله لهم. وعقد على إشبيلية للسيد أبي زيد ابن الخليفة. وعلى مدينة بطليوس للسيد أبي الربيع بن السيد أبي حفص وعلى المغرب للسيد أبي عبد الله بن السيد أبي حفص. وأجاز إلى حفص. وأجاز إلى حضرته سنة أربع وتسعين فطرقه المرض الذي كان منه حمامه وأوصى وصيته التي تناقلها الناس. وحضر لوصيته عيسى ابن الشيخ أبي حفص. وهلك رحمه الله سنة خمس وتسعين آخر ربيعها والله تعالى أعلم. الخبر عن وصول ابن منقذ بالهدية من قبل صاحب الديار المصرية كان الفرنج قد ملكوا سواحل الشام في آخر الدولة العبيدية منذ تسعين سنة وملكوا بيت المقدس فلما استولى صلاح الدين بن أيوب على ديار مصر والشام اعتزم على جهادهم. وكان يفتتح حصونها واحداً بعد واحد حتى أتى على جميعها. وافتتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وهدم الكنيسة التي بنوها عليها. وامتعضت أمم النصرانية من كل جهة واعترضوا أسطول صلاح الدين في البحر فبعث صريخه إلى المنصور سنة خمس وثمانين يطلب إعانته بالأساطيل لمنازلة عكا وصور وطرابلس. ووفد عليه أبو الحارث عبد الرحمن بن منقذ بقية أمراء شيزر من حصون الشام. كانوا استبدوا به عند اختلال الدولة العبيدية. فلما استقام الأمر على يد صلاح الدين وانتظم ملك مصر والشام واستنزل بني منقذ هؤلاء ورعى لهم سابقتهم وبعثه في هذه إلى المنصور بالمغرب بهدية تشتمل على مصحفين كريمين منسوبين ووزن مائة درهم من دهن البلسان وعشرين رطلا من العود وستمائة مثقال من المسك والعنبر وخمسين قوساً أعرابية بأوتارها وعشرين من النصول الهندية وسروج عدة ثقيلة. ووصل إلى المغرب ووجد المنصور بالأندلس فانتظره بفاس إلى حين وصوله فلقيه وأدى إليه الرسالة فاعتذر له عن الأسطول وانصرف. ويقال أنه جهز له بعد ذلك مائة وثمانين أسطولا ومنع النصارى من سواحل الشام. دولة الناصر بن المنصور لما هلك المنصور قام بأمره ابنه محمد ولي عهده وتلقب الناصر لدين الله. واستوزر أبا زيد بن يوجان وهو ابن أخي الشيخ أبي حفص. ثم استوزر أبا محمد بن الشيخ أبي حفص وعقد للسيد أبي الحسن بن السيد أبي حفص على بجاية وفوض إليه في شؤونها. وبلغه سنة ست وتسعين إجحاف العدو بإفريقية وفساد الأعراب في نواحيها ورجوع السيد أبي الحسن من قسطنطينة منهزماً أمام ابن غانية فأنفذ السيد أبا زيد بن أبي حفص إلى تونس في عسكر من الموحدين لسد ثغورها. وأنفذ أبا سعيد بن الشيخ أبي حفص رديفاً له وتغلب ابن غانية خلال ذلك على حصن المهدية. وثار بالسوس سنة ثمان وتسعين ثائر من كزولة يعرف بأبي قفصة فسرح الناصر إليه عساكر الموحدين فقصدوا جموعه وقتل. وفي أيامه كان فتح ميورقة على ما يتلو من خبرها. فتح ميورقة وكان من خبرها أن محمد بن إسحاق لما فصل أخوته علي ويحيى إلى إفريقية وولوا على ميورقة أخاهم طلحة داخل محمد بعض الحاشية وخرج من الاعتقال هو وابن الزبرتير وقام بدعوة المنصور وبعث بها مع ابن الزبرتير فبعث المنصور أسطوله مع أبي العلى بن جامع ليملك ميورقة فأبى محمد عن ذلك. وراسل طاغية برشلونة في المدد بجند من النصارى يستخدمهم فأجابه وانتقض عليه أهل ميورقة لذلك وخشوا عادية المنصور فطردوا محمد بن إسحاق وولوا عليهم أخاه تاشفين. وبلغ ذلك علياً وهو على قسطنطينة فبعث أخويه عبد الله والغازي فداخلوا بعض أهل البلد وعزلوا تاشفين وولي عبد الله وبعث المنصور أسطوله مراراً مع أبي العلى بن جامع. ثم مع يحيى ابن الشيخ أبي إبراهيم الهزرجي فامتنعوا منهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً. وقوي أمره وذلك سنة ثلاث وثمانين. ثم لما هلك المنصور بعث الناصر أسطوله مع عمه السيد أبي العلى والشيخ أبي سعيد بن أبي حفص فنازلوه وانخذل عنه أخوه تاشفين بالناس ودخل البلد عنوة واستفتحت وقتل. وانصرف السيد إلى مراكش وولى عبد الله بن طاع الله الكومي. ثم ولى الناصر عليها أبا زيد وجعل ابن طاع الله على قيادة البحر. وبعد السيد أبي زيد وليها السيد أبو عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن ثم أبو يحيى بن علي بن أبي عمران التينمللي ومن يده أخذها النصارى لسنة سبع وعشرين وستمائة. خبر إفريقية وتغلب ابن غانية عليها وولاية أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص لما هلك المنصور قوي أمر ابن غانية بإفريقية وولى الناصر السيد أبا زيد والشيخ أبا سعيد بن أبي حفص ويقال إن المنصور ولاهما وكثر الهرج بإفريقية. وثار بالمهدية محمد بن عبد الكريم الركراكي ودعا لنفسه ونازع ابن غانية والموحدين الأمر وتسمى صاحب قبة الأديم محمد بن عبد الكريم. ونازل تونس وعاث في قراها سنة ست وتسعين. ونازل ابن غانية بقابس فامتنع عليه وكان محمد بن مسعود البلط شيخ رياح من أشياعه فانتقض عليه وراجع ابن غانية فلأتيح له الظهور على محمد بن عبد الكريم وقصده وهو على قفصة فهزمه. واتبعه إلى المهدية فنازله بها. وبعث إلى صاحب تونس إلى المدد بأسطوله فأمده فضاقت حال ابن عبد الكريم فسأل الأمان من ابن غانية فأمنه. وخرج إليه فتقبض عليه واستولى على المهدية سنة تسع وتسعين وقتله. وبعث الناصر أسطوله في البحر مع عمه أبي العلى وعساكر الموحدين مع السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن. ونازلوا ابن عبد الكريم قبل استيلاء ابن غانية عليها فاعتذر ابن عبد الكريم بأنه حافظ للحصن من العدو ولا يمكنه إلا لثقة الخليفة. وانصرف السيد أبو الحسن إلى بجاية موضع عمله وقسم العسكر بينه وبين أخيه السيد أبي زيد صاحب تونس وصلحت الأحوال. ثم إن ابن غانية لما تغلب على المهدية وعلى قراقثس الغزي صاحب عمل طرابلس وقد مرت أخباره في أخبار ابن غانية. ثم تغلب بلاد الجريد ثم نازل تونس سنة تسع وتسعين وافتتحها عنوة وتقبض على السيد أبي زيد وطالب أهل تونس بالنفقة التي أنفق وبسط عليهم العذاب. وتولى ذلك فيهم كاتبه ابن عصفور حتى هلك في الامتحان كثير من بيوتاتهم. ثم دخل في دعوته أهل بونة وبنزرت وشقبنارية والأربص والقيروان وتبسة وصفاقس وقابس وطرابلس. وانتظمت له أعمال إفريقية وفرق العمال وخطب للعباسي كما ذكرناه في أخباره. ثم ولى على تونس أخاه الغازي ونهض إلى جبال طرابلس فأغرمهم ألف ألف دينار مكررة مرتين ورجع إلى تونس. واتصل بالناصر كثرة الهرج بإفريقية و استيلاء ابن غانية عليها وحصول السيد أبي زيد في قبضته فشاور الموحدين في أمره فأشاروا بمسألة ابن غانية. وأشار أبو محمد ابن الشيخ أبي حفص بالنهوض إليها والمدافعة عنها فعمل على رأيه ونهض من مراكش سنة إحدى وستمائة. وبعث الأسطول في البحر لنظر أبي يحيى بن أبي زكرياء الهزرجي فبعث ابن غانية ذخيرته وحرمه إلى المهدية مع علي بن الغازي بن محمد بن علي. وانتقض أهل طرابلس على ابن غانية وأخرجوا عاملهم تاشفين بن الغازي بن محمد بن علي بن غانية. وقصدهم ابن غانية فاقتحمها وخربها. ووصل أسطول الناصر إلى تونس فدخلوها وقتلوا من كان بها من أشياع ابن غانية ونهض الناصر في أتباع ابن غانية فأعجزه ونازل المهدية وبعث أبا محمد ابن الشيخ أبي حفص للقاء ابن غانية فلقيه بتاجرا فأوقع به وقتل أخاه جبارة. وكاتبه ابن اللمطي وعامله الفتح بن محمد. قال ابن نخيل: وكانت الغنائم من عسكره يومئذ ثمانية عشر ألفاً من أحمال المال والمتاع والخرثى والآلة. ونجا بأهله وولده وأطلق السيد أبو زيد الاعتقال بعد أن هم حرسه بقتله عند الهزيمة. ثم تسلم الناصر المهدية من يد علي بن الغازي المعروف بالحاج الكافي على أن يلحق بابن عمه فقبل شرطه ومضى لوجهه. ثم رجع من طريقه واختار التوحيد فقبل وناله من الكرامة والتقريب ما لا فوقه. وهلك في يوم العقاب الآتي ذكره. ثم قوض الناصر عن المهدية واستعمل عليها محمد بن يغمور الهرغي وعلى طرابلس عبد الله بن إبراهيم بن جامع ورجع إلى تونس فأقام إلى سنة ثلاث وستمائة. وسرح أخاه السيد أبي إسحاق في عسكر من الموحدين لأتباع العدو فدوخوا ما وراء طرابلس. واستأصلوا بني دمر ومطماطة وجبال نفوسة وتجاوزها إلى سويقة بني مذكور. وقفل السيد أبو إسحاق بهم إلى أخيه الناصر بتونس وقد كمل الفتح. ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب وأجمع رأيه على تولية أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص وكان شيخ دولته وصاحب رأيه فامتنع إلى أن بعث إليه الناصر في ذلك بابنه يوسف فأكبر مجيئه وأناب لذلك على أن يقيم بإفريقية ثلاث سنين خاصة خلال ما يستحكم صلاحها وأن يحكم فيمن يقيم معه من العسكر فتقبل شرطه. ورجع الناصر إلى مراكش فدخلها في ربيع سنة أربع وستمائة وقدم عبد العزيز بن أبي زيد الهنتاتي على الأشغال بالعدوتين وكان على الوزارة أبو سعيد بن جامع وكان صديقاً لابن عبد العزيز. وعند مرجعه من إفريقية توفي السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن صاحب تلمسان وسجلماسة والسيد أبو الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن صاحب بجاية وقد كان أبو الربيع هذا ولي بجاية من قبل وهو الذي جدد الرفيع والبديع من رياضها. وكان بنو حماد شيدوها من قبل فأصابهما الخراب وجددهما السيد أبو الربيع. وفي سنة خمس بعدها عقد للسيد أبي عمران بن يوسف بن عبد المؤمن على تلمسان أدال به من السيد الحسن فوصل إلى تلمسان في عساكر الموحدين وتطوف بأقطارها. وزحف إليه ابن غانية هنالك فانفض الموحدون وقتل السيد أبو عمران. وارتاع أهل تلمسان وأسرع السيد أبو زكرياء من فاس إليها فسكن نفوسهم خلال ما عقد الناصر لأبي زيد بن يوجان على تلمسان وسرحه في العساكر فنزل بها. وفر ابن غانية إلى مكانه من قاصية إفريقية ومعه محمد بن مسعود البلط شيخ الدواودة من رياح وغيره من أعراب رياح وسليم. واعترضهم أبو محمد بن أبي حفص فانكشفوا واستولى الموحدون على محلاتهم وما بأيديهم ولحقوا بجهات طرابلس. ورجع عنهم سير بن إسحاق آخذاً بدعوة الموحدين. وفي هذه السنة عقد الناصر على جزيرة ميورقة لأبي يحيى بن أبي الحسن بن أبي عمران أدال به من السيد أبي عبد الله بن أبي حفص وعقد له على بلنسية وعقد على مرسية لأبي عمران بن ياسين الهنتاتي أدال به من أبي الحسن به واكاك. وعقد للسيد أبى زيد على كورة جيان أدال به من أبي موسى بن أبي حفص وعقد للسيد أبي إبراهيم بن يوسف على إشبيلية ولأبي عبد الله بن أبي يحيى ابن الشيخ أبي حفص على غرناطة إلى أن كان ما نذكر إن شاء الله تعالى. لما بلغ الناصر تغلب العدو على كثير من حصون بلنسية أهمه ذلك وأقلقه وكتب إلى الشيخ أبي محمد بن أبي حفص يستشيره في الغزو فأبى عليه فخالفه وخرج من مراكش سنة تسع ووصل إشبيلية واستقر بها واستعد للغزو. ثم خرج من إشبيلية وقصد بلاد أذفونش فافتتح قلعة شلبطرة وأثلج في طريقه. ونازل الطاغية قلعة رباح وبها قادس وأخذ بمخنقه فصالحه على النزول ووصل إلى الناصر فقتله وسار على التعبئة إلى الموضع المعروف بالعقاب. وقد استعد له الطاغية وجاءه طاغية برشلونه مدداً فكانت الدبرة على المسلمين. وانكشفوا في يوم بلاء وتمحيص أواخر صفر سنة تسع وستمائة. وانكفأ راجعاً إلى مراكش فهلك في شعبان من السنة بعدها. وكان ابن أذفونش قد باطن ابن عمه الببوج صاحب ليون في أن يوالي للناصر ويجري الهزيمة على المسلمين ففعل ذلك. ثم رجعوا إلى الأندلس بعد الكائنة للإغارة على بلاد المسلمين فلقيهم السيد أبو زكرياء بن أبي حفص بن عبد المؤمن قريباً من إشبيلية فهزمهم وانتعش المسلمون بها واتصلت الحال على ذلك. |
ثورة ابن الفرس
كان عبد الرحيم بن عبد الرمن بن الفرس من طبقة العلماء بالأندلس ويعرف بالمهر وحضر مجلس المنصور في بعض الأيام وتكلم بها حتى خشي عاقبته في عقده وخرج من المجلس فاختفى مدة ثم بعد مهلك المنصور ظهر في بلاد كزولة وانتحل الإمامة وادعى أنه القحطاني المراد في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يقود الناس بعصاه يملأها عدلا كما ملئت جوراً " إلى آخر الحديث وكان مما ينسب له من الشعر: قولوا لأبناء عبد المؤمن بن علي تأهبوا لوقوع الحادث الجلل قد جاء سيد قحطان وعاملها ومنتهى القول والغلاب للدول والناس طوعاً عصاه وهو سائقهم بالأمر والنهي بحر العلم والعمل تبادروا أمره فالله ناصره والله خاذل أهل الزيغ والميل فبعث الناصر إليه الجيوش فهزموه وقتل وسيق رأسه إلى مراكش فنسب بها. دولة المستنصر بن الناصر لما هلك محمد الناصر بويع ابنه يوسف سنة إحدى عشرة وهو ابن ست عشرة سنة ولقب المستنصر بالله وغلب عليه ابن جامع ومشيخة الموحدين فقاموا بأمره. وتأخرت بيعة أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص من إفريقية لصغر سن المستنصر. ثم وقعت المحاولة من الوزير ابن جامع وصاحب الأشغال عبد العزيز بن أبي زيد فوصلت بيعته واشتغل المستنصر عن التدبير بما يقتضيه الشباب وعقد للسادة على عمالات ملكه: فعقد للسيد أبي إبراهيم أخي المنصور وتلقب بالظاهر على فاس وهو أبو المرتضى. وعقد على إشبيلية لعمه السيد أبي إسحاق الأحول. واستولى الفنش على المعاقل التي أخذها الموحدون وهزم حامية الأندلس ووفد رسوله ابن الفخار فحاوله ابن جامع في السلم فعقده. ثم صرف ابن جامع عن الوزارة بعد مهلك ابن أبي زيد بسعاية أبي بن يوجان واستوزر أبا يحيى الهزرجي وولى على الأشغال أبا علي بن أشرفي. ثم رضي عن ابن جامع وأعاده وعزل أبا زيد بن يوجان من ولاية تلمسان بأبي سعيد بن المنصور وبعثه إلى مرسية فاعتقل بها. واستمرت أيام المستنصر في هدنة وموادعة إلى أن ظهر بنو مرين بجهات فاس سنة ثلاث عشره فخرج إليهم واليها السيد أبو إبراهيم في جموع الموحدين فهزموه وأسروه. ثم عرفوه وأطلقوه ثم وصل الخبر بمهلك أبي محمد بن أبي حفص صاحب إفريقية فولى عليها السيد أبا العلى أخا المنصور وكان والياً بإشبيليه فعزل. وولى على إفريقية بسعاية ابن مثنى خاصة السلطان فتوجه إليها كما نذكر في أخبار بني أبي حفص. وخرج بناحية فاس رجل من العبيديين انتسب للعاضد وتسمى بالمهدي فبعث السيد أبو إبراهيم أخو المنصور والي فاس إلى شيعته وبذل لهم المال فتقبضوا عليه وساقوه إليه فقتل. وفي سنة تسع عشرة عقد المستنصر لعمه أبي محمد المعروف بالعادل على مرسية وعزله عن غرناطة. وهلك الخبر عن دولة المخلوع أخي المنصور لما هلك المستنصر في الأضحى من سنة عشرين اجتمع ابن جامع والموحدون وبايعوا للسيد أبي محمد عبد الواحد أخي المنصور فقام بالأمر وأمر بمطالبة لبن أاشرفي بالمال. وكتب لأخيه أبي العلى بتجديد الولاية على إفريقية بعد أن كان المستنصر أوعز بعزله فأدركته الولاية ميتاً فاستبد بها ابنه أبو زيد المشمر كما نذكره في أخبار إفريقية. وأنفذ المخلوع أمره بإطلاق ابن يوجان فأطلق. ثم صده ابن جامع عن ذلك وأنفذ أخاه أبا إسحاق في الأسطول ليغربه إلى ميورقة كما كان المستنصر أنفذ قبل وفاته. وكان الوالي بمرسية أبو محمد عبد الله بن المنصور فأغراه ابن يوجان بالتوثب على الأمر وشهد له أنه سمع من المنصور العهد له بالخلافة من بعد الناصر. وكان الناس على كره ابن جامع. وولاة الأندلس كلهم بنو المنصور فأصغى إليه وكان متردداً في بيعة عمه فدعا لنفسه وتسمى العادل. وكان أخوته أبو العلى صاحب قرطبة وأبو الحسن صاحب غرناطة وأبو موسى صاحب مالقة فبايعوه سراً. وكان أبو محمد بن أبي عبد الله محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن المعروف بالبياسي صاحب جيان وعزله المخلوع بعمه أبي الربيع بن أبي حفص فانتقض وبايع للعادل. وزحف مع أبي العلى صاحب قرطبة وهو أخو العادل إلى إشبيلية وبها عبد العزيز أخو المنصور والمخلوع فدخل في دعوتهم. وامتنع السيد أبو زيد بن أبي عبد الله أخي البياسي عن بيعة العادل وتمسك بطاعة المخلوع. وخرج العادل من مرسية إلى إشبيلية فدخلها مع أبي زيد بن يوجان وبلغ الخبر إلى مراكش فاختلف الموحدون على المخلوع وبادروا بعزل ابن جامع وتغريبه إلى هسكورة. وقام بأمر هنتاتة أبو زكرياء يحيى بن أبي يحيى الشهيد ابن أبي حفص وبأمر تينملل يوسف بن علي وبعث على أسطول البحر أبا إسحاق بن جامع وأنفذه لمنع الجواز من الزقاق. وكان أسر إلى ابن جامع حين خرج إلى هسكورة أن يحاول عليه من هنالك فلم يتم أمره وقتل بمكان خفي ربيع سنة إحدى وعشرين وبعث الموحدون بيعتهم إلى العادل والله أعلم. الخبر عن دولة العادل بن المنصور لما بلغت بيعة الموحدين للعادل وكتاب ابن زكرياء بن الشيهد بقصة المخلوع قارن ذلك تغييره للبياسي فانتقض عليه ودعا لنفسه ببياسة وتلقب الظافر وشغل بشأنه. وبعث أخاه أبا العلى لحصاره فامتنع عليه وبعث بعده أبا سعيد ابن الشيخ أبي حفص فامتنع عليه أيضاً. واختلفت الأحوال بالأندلس على العادل. وكثرت إغارة النصارى على إشبيلية ومرسية وهو مقيم بها. وانهزمت جيوش الموحدين على طلياطة وأغراه خاصته بابن يوجان فأخذ إلى سبتة. وعظم أمر البياسي بالأندلس وظاهره النصارى على شأنه فأجاز العادل إلى العدوة وولى أخاه أبا العلى على الأندلس. ولما كان بقصر المجاز دخل عليه عبو بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص فقال له كيف حالك فأنشد: حال متى علم ابن منصور بها جاء الزمان إليه منها تائبا فاستحسن ذلك وولاه أفريقية. وكتب للسيد أبي زيد ابن عمه بالقدوم ووصل إلى سلا وأقام بها. وبعث عن شيوخ جشم وكان لابن يوجان عناية واختصاص بهلال بن حميدان بن مقدم أمير الخلط فتثاقل ابن جرمون أمير سفيان عن الوصول واقتتل الخلط وبادر العادل إلى مراكش فدخلها واستوزر أبا زيد بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص وتغير لابن يوجان ففسد باطنه. وتغلب على الدولة ابن الشهيد ويوسف علي شيخا هنتاتة وتينملل. ثم خالفت هسكورة والخلط وعاثوا في نواحي مراكش وخرج إليهم ابن يوجان فلم يغن شيئاً فخربوا بلاد دكالة فأنفذ إليهم العادل عسكراً من الموحدين لنظر إبراهيم بن إسماعيل ابن الشي أبي حفص وهو الذي كان نازع أولاد الشيخ أبي محمد بإفريقية كما نذكره فانهزم وقتل. وخرج ابن الشهيد ويوسف بن علي إلى قبائلهما للحشد ومدافعة هسكورة فاتفقا على خلع العادل والبيعة ليحيى بن الناصر وقصدوا مراكش فاقتحموا عليه القصر ونهبوه وقتل العادل خنقاً أيام الفطر سنة أربع وعشرين. ومزاحمة يحيى بن الناصر له كان المأمون لما بلغه انتقاض الموحدين والعرب على أخيه وتلاشي أمره دعا لنفسه بإشبيلية فبويع وأجابه أكثر أهل الأندلس. وبايع له السيد أبو زيد صاحب بلنسية وشرق الأندلس. ثم كان ما قدمناه من انتقاض الموحدين على العادل وقتله بالقصر وبيعتهم ليحيى ابن أخيه الناصر فكاتب ابن يوجان سراً وعمل على إفساد الدولة فداخل هسكورة والعرب في الغارة على مراكش وهزموا عساكر الموحدين. وفطن ابن الشهيد لتدبير ابن يوجان فقتله بداره. وخرج يحيى بن الناصر إلى معتصمه كما ذكرناه فخلع الموحدون العادل وبعثوا ببيعتهم إلى المأمون. وتولى كبر ذلك الحسن أبو عبد الله الغريغر والسيد أبو حفص بن أبي حفص فبلغ خبرهم إلى يحيى بن الناصر وابن الشهيد فنزلوا إلى ماركش سنة ست وعشرين وقتلوهم. وبايع للمأمون صاحب فاس وصاحب تلمسان محمد بن أبي زيد بن يوجان وصاحب سبتة أبو موسى بن المنصور وصاحب بجاية ابن أخيه ابن الأطاس. وامتنع صاحب أفريقية وكان ذلك سبباً لاستبداد الأمير أبي زكريا على ما نذكر. ولم يبق على دعوة يحيى بن الناصر إلا أفريقية وسجلماسة. وزحف البياسي إلى قرطبة فملكها ثم زحف إلى إشبيلية فنازل بها المأمون والطاغية معه بعد أن نزل له عن قجاطة وغيرها من حصون المسلمين فهزمهم المأمون بنواحي إشبيلية ولحق البياسي بقرطبة فثاروا به ونجا إلى حصن المدور فغدر به وزيره أبو يبورك. وجاء برأسه إلى المأمون بإشبيلية. ثم ثار محمد بن يوسف بن هود وملك مرسية واستولى على الكثير من شرق الأندلس كما ذكرناه في أخباره. وزحف إليه المأمون وحاصره فامتنع عليه فرجع إلى إشبيلية ثم خرج سنة ست وعشرين إلى مراكش لما استدعاه أهل المغرب وبعثوا إليه بيعاتهم وبعث إليه هلال بن حميدان أمير الخلط يستدعيه. واستمد الطاغية عسكراً من النصارى فأمده على شروط تقبلها منه المأمون وأجاز إلى العدوة. وبادر أهل إشبيلية بالبيعة لابن هود واعترضه يحيى بن الناصر فهزمه المأمون واستلحم من كان معه من الموحدين والعرب ولحق يحيى بجبل هنتاتة. ثم دخل المأمون الحضرة وأحضر مشيخة الموحدين وعدد عليهم فعلاتهم وتقبض على مائة من أعيانهم فقتلهم وأصدر كتابه إلى البلدان بمحو اسم المهدي من السكة والخطبة والنعي عليه في النداء للصلاة باللغة البربرية وزيادة النداء لطلوع الفجر وهو: " أصبح ولله الحمد " وغير ذلك من السنن التي اختص بها المهدي وعبد المؤمن وجرى على سننها أبناؤه. فأوعز بالنهي عن ذلك كله. وشنع عليهم في وصفهم الإمام المهدي بالمعصوم وأعاد في ذلك وأبدى. وأذن للنصارى القادمين معه في بناء الكنيسة بمراكش على شرطهم فضربوا بها نواقيسهم. واستولى ابن هود بعده على الأندلس وأخرج منها سائر الموحدين وقتلهم العامة في كل قطر. وقتل السيد أبو الربيع ابن أخي المنصور كان المأمون تركه والياً بقرطبة. واستبد الأمير أبو زكريا ابن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص بأفريقية وخلع طاعته سنة سبع وعشرين فعقد للسيد أبي عمران ابن عمه محمد الحرضاني على بجاية مع أبي عبد الله اللحياني أخي الأمير أبي زكريا. وزحف إليه يحيى بن الناصر فانهزم ثم ثانية كذلك واستلحم من كان معه ونصبت رؤوسهم بأسوار الحضرة. ولحق يحيى بن الناصر ببلاد درعة وسجلماسة. ثم انتقض على المأمون أخوه أبو موسى ودعا لنفسه بسبتة وتسمى بالمؤيد فخرج المأمون من مراكش وبلغه في طريقه أن قبائل بني فازاز ومكلاتة حاصروا مكناسة وعاثوا في نواحيها فسار إليها وحسم عاملها واستمر إلى سبتة فحاصرها ثلاثة أشهر واستمد أخوه أبو موسى صاحب الأندلس ابن هود فأمده بأساطيله. وخالد يحيى بن الناصر المأمون إلى الحضرة فاقتحمها مع عرب سفيان وشيخهم جرمون بن عيسى ومعهم أبو سعيد بن واندين شيخ هنتاتة وعاثوا فيها فأقلع المأمون عن سبتة يريد الحضره وهلك في طريقه بوادي أم ربيع مفتتح سنة ثلاثين ولحين إقلاعه دخل أخوه السيد أبو موسى في طاعة ابن هود وأمكنه من سبتة فأداله منها والله تعالى الخبر عن دولة الرشيد بن المأمون لما هلك المأمون بويع ابنه عبد الواحد ولقب بالرشيد وكتموا موت أبيه وأغذوا السير إلى مراكش واقيهم يحيى بن الناصر في طريقهم بعد أن استخلف بمراكش أبا سعيد بن وانودين فهزموه وقتل أكثر من معه. وصبح الرشيد مراكش فامتنعوا عليه ساعة ثم خرجوا أليه واستقاموا على بيعته. وكان وصل في صحبته عمه السيد أبو محمد سعد فحل من الدولة بمكان وكان إليه التدبير والحل والعقد. وبعد استقرار الرشيد بالحضرة وصل إليه عمر بن وقاريط كبير الهساكرة بمن كان عنده من أولاد المأمون السيد وأخوته جاءوا من إشبيلية عند ثورة أهلها بهم واستقروا بسبتة عند عمهم أبي موسى ومنها إلى الحضرة عند استيلاء ابن هود على سبتة ومروا بهكسورة وكان ابن وقاريط حذراً من المأمون ومعتقداً أن لا يعود إليه فتذمم بصحابة هؤلاء الولد وقدم علياً لرشيد فتقبله واعتلق بوصلة من السيد أبي محمد سعد وصحابة لمسعود بن حميدان كبير الخلط. ولما هلك السيد أبو محمد لحق ابن وقاريط بقومه ومعتصمه وكشف وجه الخلاف وأخذ بدعوة يحيى بن الناصر واستنفر له قبائل الموحدين ونهض إليهم الرشيد سنة إحدى وثلاثين واستخلف على الحضرة صهره أبا العلى إدريس وصعد إليهم الجبل فأوقع بيحيى وجموعه بمكانهم من هزرجة واستولى على معسكرهم. ولحق يحيى بسجلماسة وانكفأ الرشيد راجعاً إلى حضرته واستأمن له كثير من الموحدين الذين كانوا مع يحيى بن الناصر فأمنهم ولحقوا بحضرته. وكان كبيرهم أبو عثمان سعيد بن زكريا الكدموي وجاء الباقون على أثره وبسعيه بعد أن شرطوا عليه إعادة ما كان أزاله المأمون من رسوم المهدي فأعيدت. وقدم فيهم أبو بكر بن يعزى التينمللي رسولاً عن يوسف بن علي بن يوسف شيخ تينملل ومحمد بن يزريكن الهنتاني رسولاً عن أبي علي بن عزوز ورجعا إلى مرسليهما بالقبول فقدما على الحضرة وقدم معهم موسى بن الناصر أخو يحيى وكبيره. وجاء على أثرهم أبو محمد بن أبي زكريا وأنسوا لإعادة رسوم الدعوة المهدية. وكان مسعود بن حميدان الخلطي قد أغراه عمر بن وقاريط بالخلاف لصحبة بينهما وكان مدلاً ببأسه وكثرة جموعه. يقال إن الخلط كانوا يومئذ يناهزون اثني عشر ألفاً سوى الرجل والأتباع والحشود فمرض في الطاعة وتثاقل عن الوفادة. ولما علم بمقام الموحدين أجمع اعتراضهم وقتلهم تمكيناً للفرقة والشتات في الدولة فأعمل الرشيد الحيلة في استدعائه وصرف عساكره إلى حاحة لنظر وزيره السيد أبي محمد حتى خلا لابن حميدان الجو وذهب عنه الريب واستقدمه فأسرع اللحاق بالحضرة وقدم معه معاوية عم عمر بن وقاريط فتقبض عليه وقتل لحينه. واستدعى مسعود بن حميدان إلى المجلس الخلافي للحديث فتقبض عليه وعلى أصحابه وقتلوا ساعتئذ بعد جولة وهيعة وقضى الرشيد حاجة نفسه فيهم. واستقدم وزيره وعساكره من حاجة فقدموا ولما بلغ خبر مقتل هم إلى قومهم قدموا عليهم يحيى بن هلال بن حميدان وأجلبوا على سائر النواحي وأخذوا بدعوة يحبى واستقدموه من مكانه بقاصية الصحراء. وداخلهم في ذلك عمر بن وقاريط وزحفوا لحصار الحضرة وخرجت العساكر لقتالهم ومعهم عبد الصمد بن يلولان فرجع ابن وقاريط في جموعه من العساكر فانهزموا وأحيط بجند النصارى فقتلوا وتفاقم الأمر بالحضرة وعدمت الأقوات. واعتزم الرشيد على الخروج إلى جبال الموحدين فخرج إليها. وسار منها إلى سجلماسة فملكها واشتد الحصار على مراكش وافتتحها يحيى بن الناصر وقومه من هسكورة والخلط وساء أثرهم فيها وتغيرت أحوال الخلافة. وتغلب على السلطان السيد أبو إبراهيم بن أبي حفص الملقب بأبي حاقة. وفي سنة ثلاث وثلاثين خرج الرشيد من سجلماسة بقصد مراكش وخاطب جرمون بن عيسى وقومه من سفيان فأجاز وادي أم ربيع وبرز إليه يحيى في جموعه والتقى الفريقان فانهزمت جموع يحيى واستحر القتل فيهم ودخل الرشيد إلى الحضره ظافراً. وأشار يحيى بن وقاريط على الخلط بالاستصراخ بابن هود صاحب الأندلس والأخذ بدعوته فنكثوا بيعة يحيى وبعثوا وفدهم إلى ابن هود صحبة عمر بن وقاريط فاستقر هنالك. وخرج الرشيد من مراكش وفر الخلط أمامه وسار إلى فاس وسرح وزير السيد أبا محمد إلى غمارة وفازاز لجباية أموالهم. وكان يحيى بن الناصر لما نكث الخلط بيعته سته لحق بعرب المعقل فأجاوره ووعدوه النصرة واشتطوا عليه في المطالب وأسف بعضهم بالمنع فاغتاله في جهات تازى وسيق رأسه إلى الرشيد بفاس فبعثه إلى مراكش وأوعز إلى نائبه بها أبي علي بن عبد العزيز بقتل العرب الذين كانوا في اعتقاله وهم: حسن بن زيد شيخ العاصم وفائد وفائد ابنا عامر شيخا بني جابر فقتلهم وانكفأ راجعاً إلى حضرته سنة أربع وثلاثين. وبلغه استيلاء صاحب درعة أبي محمد بن وانودين على جلماسة وذلك أن الرشيد لما فصل من سجلماسة استخلف عليها يوسف بن علي يوسف التينمللي فاستعمل ابن خالته من بني مردنيش وهو يحيى بن أرقم بن محمد مردنيش فثارعليه ثائر من صنهاجة وقتله في خبائه. وقام ابنه أرقم يطلب الثأر وبلغ منه ما أراد. ثم حدثته نفسه بالانتقاض خوفاً من عزلة الرشيد إياه فانتقض. ونهض إليه الرشيد سنة اثنتين وثلاثين فلم يزل أبو محمد بن وانودين يعمل الحيلة في استخلاصها حتى تمكن منها وعفى عن أرقم. وكان ابن وقاريط لما فصل إلى ابن هود سنة أربع وثلاثين ركب البحر في أسطول ابن هود وقصد سلا وبها السيد أبو العلى صهر الرشيد فكاد أن يغلب عليها. وفي سنة خمس وثلاثين بايع أهل إشبيلية للرشيد ونقضوا طاعة ابن هود وتولى كبر ذلك أبو عمر بن الجد وأشخص ببني حجاج إلى سبتة ووصل وفدهم إلى الحضرة ومروا في طريقهم بسبتة فاقتدى أهلها بهم في بيعة الرشيد. وخلعوا أميرهم اليانشي الثائر بها على ابن هود وقدموا على الحضرة. وولى عليهم الرشيد أبا علي بن خلاص منهم. ولأيام من مقدمهم وصل عمر بن وقاريط معتقلاً من إشبيلية أغراهم بالقبض عليه القاضي أبو عبد الله المؤمناني كان توجه رسولاً إلى ابن هود عن الرشيد فأمكنهم من ابن وقاريط. وبعثه إلى الرشيد في وفد من رسله فاعتقله بأزمور وقتل وصلب برباط هسكورة بعد أن طيف به على جمل وانصرف وفد إشبيلية وسبتة واستقدم الرشيد رؤساء الخلط فتقبض عليهم وبعث عساكره فاستباحوا حللهم وأحياءهم ثم أمر بقتل مشيختهم وقتل معهم ابن وقاريط وقطع دابرهم. وفي سنة ست وثلاثين وصلت بيعة محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر الثائر بالأندلس على ابن هود. وفي سنة سبع وثلاثين اشتدت الفتنة بالمغرب وانتشر بنو مرين في بسائطه وقاتلهم رياح بازغار وشيخهم عثمان بن نصر فهزمهم بنو مرين وقتلوهم قتلاً ذريعاً. وكان الرشيد استقدم أبا محمد بن وانودين من سجلماسة سنة خمس وثلاثين وعقد له على فاس وسجلماسة وغمارة ونواحيها من أرض المغرب فكان هنالك. ولما انتشر بنو مرين بالمغرب زحف إليهم فهزموه ثم زحف ثانية وثالثة فهزموه وأقام في محاربتهم سنتين ورجع إلى الحضرة. واشتد عدوان بني مرين بالمغرب وألحوا على مكناسة حتى أعطوا الأتاوة لبني حمامة منهم فأسفوا بني عسكر بذلك واتصل عيثهم في نواحيها. وفي سنة تسع وثلاثين قتل الرشيد كاتبه ابن المؤمناني لمداخلة له مع بعض السادة وهو عمر ابن عبد العزيز أخي المنصور وقف على كتابه إليه بخطه. وغلظ الرسول بها فدفعها بدار الخليفة. وفي سنة أربعين بعدها كانت وفاة الرشيد غريقاً زعموا في بعض حوائز القصر. ويقال إنه أخرج من الماء وحم لوقته وكان فيها مهلكه. الخبر عن دولة السعيد بن المأمون لما هلك الرشيد بويع أخوه أبو الحسن السعيد بتعيين أبي محمد بن وانودين وتلقب المعتضد بالله. واستوزر السيد أبا إسحاق بن السيد أبي إبراهيم ويحيى بن عطوش. وتقبض على جملة من مشيخة الموحدين واستصفى أموالهم واستخلص لنفسه رؤساء العرب من جشم. واستظهر بجموعهم على أمره وكان شيخ سفيان كانون بن جرمون كبير مجلسه ولأول بيعته انتقض عليه أبو علي بن خلاط البلنسي صاحب سبتة وكذلك أهل إشبيلية وبايعوا جميعاً للأمير أبي زكريا صاحب أفريقية. ثم انتقض عليه بسجلماسة عبد الله بن زكريا الهزرجي لمقالة كانت منه يوم بيعة الرشيد أسرها له فبايع للأمير أبي زكريا. ثم وصلته في هذه السنة هدية يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان فنهض الأمير أبو زكريا صاحب أفريقية بسبب ذلك إلى تلمسان واستولى عليها. ثم عقد عليها ليغمراسن حسبما نذكر في أخباره. وخرج السعيد من مراكش لتمهيد بلاد المغرب سنة اثنتين وأربعين وتغير لسعيد بن زكريا الكدميوي فتقبض عليه في معسكره بتانسفت وفر أخوه أبو زيد ومعه أبو سعيد العود الرطب ولحقوا بسجلماسة فاستصفى أموالهم بمراكش وارتحل بقصد سجلماسة وأخذ واليها عبد الله الزرجي في أسباب الامتناع فغمر به أبو زيد بن زكريا الكدميوي وداخل أهل سجلماسة في الثورة عليه وملك البلد. واستدعى السعيد لها فوصل وقتل الهزرجي. وفر أبو سعيد العود الرطب إلى تونس. ثم رجع السعيد إلى المغرب وقتل سعيد بن زكريا ونزل المقرمدة من أحواز فاس. وعقد المهادنة مع بني مرين وقفل إلى مراكش فتقبض على أبي محمد بن وانودين واعتقله بأزمور. واعتقل معه يحيى بن مزاحم ويحيى بن عطوش لنظر ابن ماكسن فأعمل الحيلة في الفرار من معتقله. وخلص ليلاً إلى كانون بن جرمون فأركبه وبعث معه من عرب سفيان من أوصله إلى قومه هنتاتة. وراسله لسعيد على أثرها وسكنه واعتذر له انتقض على السعيد كانون بن جرمون وسفيان وخالفهم إليه بنو جابر والخلط وخرج من مراكش واستوزر السيد أبا إسحاق بن السيد أبي إبراهيم إسحاق أخي المنصور. واستخلف أخاه أبا زيد على مراكش وأخاهما أبا حفص عمر على سلا وفصل من مراكش سنة. وجمع له أبو يحيى بن عبد الحق جموع بني راشد وبني ورا وسفيان حتى إذا تراءى الفريقان للقاء خالف كانون ابن جرمون الموحدين إلى أزمور. واستولى عليها ورجع السعيد أدراجه في أتباعه ففر كانون واعترضه السعيد فأوقع به واستلحم كثيراً من سفيان قومه واستولى على ماله من مال وماشة. ولحق كانون في فله ببني مرين ورجع السعيد إلى الحضرة. وفي سنة ثلاث وأربعين ثارت للعامة بمكناسة على واليها من أبل السعيد فقتلوه. وحذر مشيختها من سطوته فحولوا الدعوة إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حفص صاحب إفريقية وبعثوا إليه بيعتهم وكانت من إنشاء أبي المطرف بن عميرة وذلك بمداخلة أبي يحيى بن عبد الحق أمير بني مرين ووفاقه لهم على ذلك. وشارطوا أبا يحيى بن عبد الحق بمال دفعوه إليه على الحماية. ثم راجوا رأيهم وأوفدوا صلحاءهم ببيعتهم فرضي عنهم السعيد ورضوا عنه. وفي هذه السنة بعث أهل إشبيلية وأهل سبتة بطاعتهم للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية. وبعث ابن خلاص بهديته مع ابنه في أسطول أنشأه لذلك فغرق عند إقلاعه من المرسى. وفي وأربعين كان سنة ست وأربعين كان استيلاء الطاغية على إشبيلية لسبع وعشرين من رمضان. ولما بلغ السعيد بيعة أهل إشبيلية وسبتة للأمير أبي زكريا إلى ما كان من تغلبه على تلمسان وأخذ يغمراسن بدعوته ثم ما كان من بيعة أهل مكناسة وأهل سجلماسة له أعمل نظره في الحركة إلى تلمسان ثم إلى إفريقية. وخرج من مراكش في ذي الحجة في سنة خمس وأربعين ووافاه كانون بن جرمون فعاود الطاعة واستحشد سفيان وجاء في جملة السعيد مع سائر القبائل من جشم. ولما احتل السعيد بتازى وافاه وفد بني مرين عن أميرهم أبي يحيى بن عبد الحق فأعطوه الطاعة وبعثوا معه عسكراً من قومهم مدداً له. ثم سار السعيد إلى تلمسان فكان مهلكه بتامزردكت على يد بني عبد الواد في صفر سنة ست وأربعين حسبما نشرح في أخبارهم. ويقال إن ذلك كان بمداخلة من الخلط فاستولوا على المحلة وقتلوا عدوهم كانون وانفض العسكر إلى المغرب وقد اجتمعوا إلى عبد الله بن السعيد واعترضهم بنو مرين بجهات تازى فقتلوا عبد الله بن السعيد ولحق الفل بمراكش فبايعوا للمرتضى كما نذكره. الخبر عن دولة المرتضى ابن أخي المنصور لما لحق فل العسكر بعد مهلك السعيد بمراكش اجتمع الموحدون على بيعة السيد أبي حفص عمر بن السيد أبي إبراهيم إسحاق أخي المنصور واستقدموه لها من سلا فلقيه وافدهم بتامستا من طريقه ومعه أشياخ العرب فبايعوه وتلقب المرتضى. وعقد ليعقوب بن كانون على بني جابر ولعمه يعقوب بن جرمون على عرب سفيان بعد أن كان قومه قدموه عليهم ودخل الحشرة فاستوزر أبا محمد بن يونس وتقبض علي حاشية السعيد. ثم وصل أخوه السيد أبو إسحاق من الفل أخذاً على طريق سجلماسة فاستوزره واستبد عليه. واستولى أبو يحيى بن عبد الحق وبنو مرين إثر مهلك السعيد على رباط تازى من يد السيد أبي علي أخي أبي دبوس وأخرجوه فلحق بمراكش. ثم استولوا بعدها على مدينة فاس سنة سبع وأربعين كما نذكره في أخبارهم بعد. وفي هذه السنة ثار بسبتة أبو القاسم العزفي وأخرج ابن الشهيد الوالي على سبتة من قرابة الأمير أبي زكريا صاحب إفريقية وحول الدعوة للمرتضى حسبما نذكر في أخبار الدولة الحفصية وأخبار بني الغزي. وفي سنة تسع وأربعين وفد على المرتضى موسى بن زيان الونكاسي وأخوه على من قبائل بني مرين وأغروه بقتال بني عبد الحق فخرج إليهم. ولما انتهى إلى أمان يملولن أشاع يعقوب بن جرمون قضية الصلح بينهما فأصحوا راحلين وقد استولى الجزع على قلوبهم فانفضوا ووقعت الهزيمة من غير قتال. ووصل المرتضى إلى الحضرة فعزل أبا محمد بن يونس عن الوزارة لشيء بلغه عنه وأسكنه بجبلة مع حاشيته وفر من جملته علي بن يدر إلى السوس سنة إحدى وخمسين وجاهز بالعناد. وسرح إليه السلطان عسكراً من الجند فرجعوا عنه ولم يظفروا به. وتقاقم أمره سنة اثنين وخمسين. وجمع أعراب الشبانات وبني حسان وحمل أموال ونازل تارودنت فحاصر من كان بها. وسرح المرتضى إليه عسكراً من الموحدين فأفرج عنها. ثم رجع بعد قفولهم إلى حاله وعثر على خطابه لقريبة ابن يونس وكتاب ابن يونس إليه بخطه فاعتقل هو وأولاده ثم قتل. وفي هذه السنة استدعى مشيخة الخلط إلى الحضرة وقتلوا لما كان منهم في مهلك السعيد. وفيها خرج أبو الحسن بن يعلو في معسكر من الموحدين إلى تامستا ليكشف أحوال العرب ومعه يعقوب بن جرمون وعهد إليه المرتضى بالقبض على يعقوب بن محمد بن قيطون شيخ بني جابر فتقبض عليه وعلى وزيره ابن مسلم وطير بهما إلى الحضرة معتقلين. وفي سنة ثلاث وخمسين خرج المرتضى من مراكش لاسترجاع فاس ونواحيها من أيدي بني مرين المتغلبين عليها فوصل إلى بني بهلول وزحف إليه بنو مرين وأميرهم أبو يحيى فكانت الهزيمة على الموحدين بذلك الموضع. ورجع المرتضى مفلولاً إلى مراكش ووادع بني مرين من بعد ذلك سائراً وفي سنة خمس وخمسين بعث المرتضى إلى السوس عسكراً من الموحدين لنظر أبي محمد بن أصناك فلقيهم علي بن يدر وهزمهم واستبد بأمره في السوس. وفي هذه السنة استولى أبو يحيى بن عبد الحق على سجلماسة وتقبض على واليها عبد الحق بن أصكو بمداخلة من خديم له يعرف بمحمد القطراني كان أبوه تاجراً في القطران بنواحي سلا فصرف عبد الحق ابنه محمد هذا في مهمة وقربه من بين أهل خدمته وحدثته نفسه بالثورة فاستمال عرب المعقل أولا بالمشاركة في حاجتهم عند مخدومه والإحسان إليهم حتى اشتملوا عليه. ثم داخل أبا يحيى بن عبد الحق في تمكينه من البلد فجاء بجملته وقدم وفده إلى البلد رسلا في بعض الحديث فتقبض محمد القطراني على عبد الحق بن أصكو وأخرجه إلى أبي يحيى بن عبد الحق فقاده وسرحه إلى مراكش. وكان القطراني شرط على أبي يحيى أن يكون والي سجلماسة فأمضى له شرطه وأنزل معه بها من رجالات بني مرين حتى إذا هلك أبو يحيى بن عبد الحق أخرجهم محمد القطراني واستبد بأمر سجلمانة وراجع دعوة المرتضى واعتذر إليه واشترط عليه الاستبداد فأمضى له شرطه إلا في الأحكام الشرعية. وبعث أبا عمر بن حجاج قاضياً من الحضرة وبعض السادات للسكنى في القصبة وقائداً من النصارى بعسكر للحماية فعمل ابن حجاج الحيلة في قتل القطراني وتولاه قائد النصارى. واستبد السيد بأمر سجلماسة بدعوة المرتضى واستفحل أمر بني مرين أثناء ذلك. ونزل يعقوب بن عبد الحق بسائط تامستا فسرح إليهم المرتضى عسكر الموحدين لنظر يحيى بن وانودين فأجفلوا إلى وادي أم ربيع واتبعهم الموحدون فرجعوا إليهم وغدر بهم بنو جابر فانهزم الموحدون بأم الرجلين. ولحق شيخ الخلط علي بن أبي علي ببني مرين وارتحلوا إلى أوطانهم. وكان المرتضى قدم يعقوب بن جرمون على قبائل سفيان وكان يعقوب ابن أخيه كانون يناهضه في رياسة قومه وغص به فقتله. وثار به أخواه مسعود وعلي بعد حين فقتلاه. وولى المرتضى مكانه ابنه عبد الرحمن فاستوزر يوسف بن وارزك ويعقوب بن علوان. وشغل بلذاته وتصدى لقطع السابلة ثم نكث الطاعة ولحق ببني مرين فولى مكانه عمه عبيد الله بن جرمون ويكنى بأبي زمام. وعقد له المرتضى ثم أدال منه بأخيه مسعود لعجزه. ووفد على المرتضى عواج بن هلال من أمراء الخلط نازعاً إلى طاعته ومفارقاً لبني مرين فأنزل مع أصحابه بمراكش وجاء على أثره عبد الرحمن بن يعقوب بن جرمون فتقبض على عواج ودفعه إلى علي بن أبي علي فقتله وكان تقبض معه على عبد الرحمن بن يعقوب ووزيريه فقتلوا جميعاً واستبد برياسة سفيان مسعود بن كانون وبرئاسة بني جابر إسماعيل بن يعقوب بن قيطون. ونجي سنة ستين عند رجوع يحيى بن وانودين من واقعة أم الرجلين خرج عسكر من الموحدين إلى السوس لنظر محمد بن علي أزلماط. ولقبه علي بن يدر فهزم جموعه وقتله وعقد المرتضى من بعده على حرب علي بن يدر للوزير أبي زيد بن بكيت وسرح معه. عسكراً من الجند وكان فيهم دنلب من زعماء النصرانية فدارت الحرب بين الفريقين ولم يكن للموحدين فيها ظهور على كثرتهم وقوة جلدهم وحسن بلائهم قعد بهم عن ذلك تكاسل دنلب وخروجه عن طاعة الوزير. وكتب بذلك للمرتضى فاستقدمه وأمر أبا زيد بن يحيى الكدميوي باعتراضه في طريقه وقتله. وفي سنة اثنتين وستين أقبل يعقوب بن عبد الحق في جموع بني مرين فنازلوا مراكش واتصلت الحرب بينهم وبين الموحدين بظاهرها أياماً هلك فيها عبد الله أنعجوب بن يعقوب فبعث المرتضى إلى أبيه بالتعزية ولاطفه وضرب له أتاوة يبعث بها إليه في كل عام فرضي وارتحل عنهم. |
الخبر عن انتقاض أبي دبوس وتغلبه علي مراكش
ومهلك المرتضى وما كان في دولته من الأحداث لما ارتحل بنو مرين عن مراكش بعد مهلك أنعجوب فر من الحضرة قائد حروبه السيد أبو العلى الملقب بأبي دبوس بن السيد أبي عبد الله محمد بن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن لسعاية تمكنت فيه عند المرتضى وصحبه ابن عمه السيد أبو موسى عمران بن عبد الله بن الخليفة فلحقا بمسعود بن كلداسن كبير هسكورة فأجاره. ثم لحق بيعقوب بن عبد الحق بفاس صريخاً به على شأنه واشترط له المقاسمة في العمالة والذخيرة فأمده بالمال يقال خمسة آلاف دينار عشرية. وأوعز إلى علي بن أبي علي الخلطي بمظاهرته وأعطاه الآلة. ورجع إلى علي بن أبي علي الخلطي فأمد بقومه. ثم سار إلى هسكورة ونزل على صاحبه مسعود بن كلداسن فأطاعه قبائل هسكورة وهزرجة. وبعث إليه عزوز بن يبورك كبير صنهاجة في ناحية أزمور وكان منحرفاً عن طاعة المرتضى إلى جملة يعقوب بن عبد الحق ووفد عليه جماعة من السادة والموحدين والجند والنصارى. وارتاب المرتضى بمسعود بن كانون شيخ سفيان وبإسماعيل بن قيطون شيخ بني جابر فتقبض عليهما واعتقلهما وصار الكثير من قومهما إلى أبي دبوس. وقتل إسماعيل بن قيطون في معتقله فانتقض أخوه ثائراً ولحق بهم وحذر علوش بن كانون مثلها على أخيه فاتبعهم وزحف أبو العلى إلى مراكش. ولما بلغ أغمات وجد بها الوزير أبا زيد بن بكيت في عسكر لحمايتها فناجزه الحرب فانهزم ابن بكيت وقتل عامة أصحابه. وسار أبو دبوس إلى مراكش وأغار علوش بن كانون على باب الشريعة والناس في صلاة الجمعة وركز رمحه بمصراعه. ودخلت سنة خمس وستين والمرتضى بمراكش غافل عن شأن أبي دبوس والأسوار خالية من الحراس والحامية فقصد أبو دبوس باب أغمات فتسور البلد من هنالك ودخلها على حين غفلة. وقصد القصبة فدخلها من باب الطبول وفر المرتضى ومعه الوزيران أبو زيد بن يعلو الكومي وأبو موسى بن عزوز الهنتاتي فلحقوا بهنتاتة وألفوهم قد بعثوا بطاعتهم فرحل إلى كدميوة ومر في طريقه بعلي بن زكداز الوتكاسي كان نزع إليه عن قومه ولم يفد عليه بعد فنزل به المرتضى ورحل معه علي بمن معه إلى كدميوة وكان فيها وزيره أبو زيد عبد الرحمن بن عبد الكريم فأراد النزول عليه فمنعه ابن سعد الله فسار إلى شفشاوة ووجد بها عدداً من الظهر فمنحها علي بن زكداز. وكتب إلى ابن وانودين بمسكره من حاحة. وإلى عطوش بمعسكره من ركراكة باللحاق به فأقلعا إلى الحضرة. وخاطب أبو دبوس علي بن زكداز يرغبه في القدوم عليه فارتاب المرتضى لذلك ولحق بأزمور فتقبض عليها واليها ابن عطوش. وكان أصهره واعتقله وطير الخبر إلى أبي دبوس فأمر وزيره السيد أبا موسى أن يكاتبه في كشف أماكن الذخيرة فأجابه بإنكار أن يكون ذخر شيئاً عندهم والحلف على ذلك. وسألهم بالرحم فعطف أبو دبوس عليه وجنح إلى الإبقاء. وبعث وزيره السيد أبا مسعود بن كانون في إزعاجه إليه. ثم بدا له في استحيائه بإشارة بعض السادات فكتب خاله إلى السيد أبي موسى بقتله واستقل أبو دبوس بالأمر وتلقب الواثق بالله والمعتمد على الله. واستوزر السيد موسى وأخاه السيد أبا زيد وبذل العطاء ونظر في الولايات ورفع المكوس عن الرعية وحدث بينه وبين مسعود بن كلداسن وحشة فارتحل إليه لإزالتها. وقدم عبد العزيز بن عطوش سفيراً إليه في ذلك. وبلغه أن يعقوب بن عبد الحق نزل تامستا فأوفد عليه حميدي بن مخلوف الهسكوري بهدية فقبلها وأكد بينهما العهد وانكفأ راجعاً إلى وطنه. ورجع حميدي إلى الواثق ووافق وصول عبد العزيز بن عطوش بطاعة مسعود بن كلداسن فرجع أبو دبوس إلى مراكش بعد أن عقد لأبي موسى بن عزوز على بلاد حاحة. وبلغه في طريقه عن عبد العزيز بن السعيد أنه حدث نفسه بالملك وإن ابن بكيت وابن كلداسن داخلوه في ذلك. وساءل عن ذلك السيد أبا زيد بن السيد أبي عمران خليفته وأخبره بما سمع وأمره بالقبض عليه وقتله فأنفذ ذلك. ثم ارتحل إلى السوس لتمهيده وحسم علل ابن يدر فيه. وقدم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة ولمطة وكنفيسة وصناكة وغيرهم وسار يتقرى المنازل ويستنفر القبائل ومر بتارودنت فوجدها قفراً خلاء إلا قلائل من الدور بخارجها. ونزل على حميدي صهر علي بن يدر وقريبه بحصن تيسخت على وادي السوس كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن يدر وملكه فنازله أبو دبوس وحاصره أياماً وهزم فيها جموعه وداخل حميدي علي بن زكداز في إفراج أبي دبوس على سبعين ألف دينار يؤديها إليه فأعجله الفتح عن ذلك ونجا بدمائه إلى بيته. وطولب بالمال وبقي معتقلا عند ابن زكداز وامتنع ابن يدر بحصنه. ثم أطاع ووصلت رسله بطاعته فانصرف الواثق إلى حضرته ودخلها سنة خمس وستين. وبلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق وأنه زاحف إلى. . . فبعث بهديته إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطرال وابن أبي عثمان رسول يغمراسن وخرج بهم من مراكش ابن أبي مديون السكاسني دليلا. وسلك بهم على القفر إلى سجلماسة وبها يحيى بن يعمراسن فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه فألفوه بجهة مليانة فأقام أبو قطرال بتلمسان ينتظره. وكان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني قرين وعسكر المغرب ونزل بضواحي مراكش وأطاعه أهل النواحي ونهض إليه أبو دبوس في عساكر الموحدين فاستجره يعقوب إلى وادي أغفو ثم ناجزه الحرب فاختل مصافه وغر عسكره وانهزم يريد مراكش والقوم في أتباعه فأدرك وقتل. وبادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرم فاتح سنة ثمان وستين وفر بقية المشيخة من الموحدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا بايعوا عبد الواحد بن أبي دبوس وسموه المعتصم مدة خمسة أيام وخرج في جملتهم وانقرض أمر بني عبد المؤمن والبقاء لله وحده. الخبر عن هسكورة وأما هسكورة وهم أكثر قبائل المصامدة وفيهم بطون كثيرة أوسعها بطن هسكورة. وأما سواهم من بطون كنفيسة فأنفقتهم الدولة بما تولوا من مشايعتها وإبرام عقدتها فهلك رجالاتهم في إنفاقها سبل الأمم قبلهم في دولتهم. وأما هسكورة فكان لهم بين الموحدين مكان واعتزاز بكثرتهم وغلبهم إلا أنهم كانوا أهل بدو ولم يخالطوهم في ترفهم ولا أنعموا في نعيمهم. وكان جبلهم الذي أوطنوه من حالة دون القنة منها والذروة. واعتصموا منه بالآفاق الغدد واليفاع الأشم والطود الشاهق قد لمس الأفلاك بيده ونظم النجوم في مفرقه وتلفع بالسحاب في مروطه وآوى الرياح العواصف الدجوة وألقى إلى خبر السماء بإذنه وأظل على البحر الأخضر بشماريخه واستدبر القفر من بلاد السوس بظهره وأقام سائر جبال درن في حجره. ولما انقرض أمر الموحدين وتغلب بنو مرين على المصامدة أجمع وساموهم خطة الخسف في وضع الضرائب والمغارم عليهم فاستكانوا لعزهم وأعطوهم يد الطواعية واعتصم هسكورة هؤلاء بمعقلهم واعتزوا فيه بمنعتهم فلم يغمسوا في خدمتهم يداً ولا أعطوهم مقاداً ولا رفعوا بدعوتهم راية إنما هي منابذة لأمرهم وامتناع عليهم سائر الأيام. فإذا زحفت الحشود وتمرست بهم العساكر دافعوهم بطاعة معروفة وأتاوة غير ملتزمة ورئيسهم مع ذلك يستخلص جبايتهم لنفسه ويدفعهم في المضايق لحمايته وربما تخطاهم إلى بعض قبائل الجبل ومن قاربه من أهل بسائط السوس يعسكر بذلك للرجل من قومه هكسورة وكنفيسة وبالحشد من العرب الموطنين بأرض السوس. وسفيان وهم بطن الحارث ومن المعقل وهم بطن الشبانات وكان رئيسهم في ما ذكرنا - بعد انقراض عبد المؤمن بن يوسف وتحرير لسان الأعجمين - هو عبد الواحد وكان له في الاستبداد والصرامة ذكر. وهلك سنة ثمانين وستمائة وكان منتحلاً للعلم واعية له جماعة لكتبه ودواوينه حافظاً لفروع الفقه. يقال إن الأحاديث المدونة كانت من محفوظاته محباً في الفلسفة مطالعاً لكتبها حريصاً على نتائجها من علم الكيمياء والسيمياء والسحر والشعوذة مطلعاً على الشرائع القديمة والكتب المنزلة بكتب التوراة. ويجالس أحبار اليهود حتى لقد اتهم في عقيدته ورمي بالرغبة عن دينه. ثم ولي من بعده ابنه عبد الله وكان مقتفياً سنن أبيه في ذلك وخصوصاً في انتحال السحر والاستشراف إلى صنعة الكيمياء. ولما فرغ السلطان أبو حسن من شأن أخيه عمر وسكن فتنة المغرب ودوخ أقطاره وحل معتصمه بالعساكر وأوطأ ساحاته لكتائب رجاله دون من يمده من أعراب السوس من ورائه بما كان من تغلبه على بلادهم واقتضائه بطاعتهم وإنزال عماله بالعساكر بينهم فلاذ منه عبد الله السكسيوي بطاعة معروفة رهن فيها ابنه واشترط للسلطان الهدية والضيافة فتقبل ولما كانت نكبة السلطان بالقيروان واضطراب المغرب فتنة وخلا جو البلاد المراكشية من المشايخ اجتمع رأي الملأ من المصامدة على النزول إلى مراكش وأحكموا عقد الاتفاق بينهم وأجمعوا تخريبها بما كانت داراً للإمرة ولمقام الكتائب المجمرة وزعم عبد الله السكسيوي هذا بإنفاذ ذلك فيها وضمن هو تخريب المساجد لتجافيهم عنها فكانت مذكورة على الأيام. ثم انحل عزمهم وافترقت جماعتهم وكلمتهم بما كانت من استقامة الدولة بفاس واجتماع بني مرين على السلطان أبي عنان كما يذكر بعد فانحجر كل منهم بوجاره. ولما فرغ أبو عنان من شأن أبيه واستولى على المغرب الأوسط وغلب عليه بنو عبد الواد. ولحق أخوه أبو الفضل بن مطرح اغترابه في الأندلس بالطاعة يروم الإجازة إلى المغرب لطلب حقه فأركبه السفير إلى مراحل السوس فنزل به ولحق بعبد الله السكسيوي فأواه وظاهره على أمره. فجرد أبو عنان العزائم إليهم وعقد لوزيره فارس بن ميمون بن وادرار على حربهم. واستخرج جيوش المغرب وأناخ بساحته سنة أربع وخمسين واختط بسفح الجبل مدينة لحصاره سماها القاهرة. وأخذت بمخنقه وزاحت بمناكبها أركان معقله حتى لاذت للسلم واشترط أن ينبذ العهد إلى أبي الفضل المصري عنده يذهب حيث يشاء فتقبل منه وعقد له سلماً على عادته وأفرج عنه. وخرج على عبد الله السكسيوي لأيام السلطان أبي سالم ابنه محمد المعروف في لغتهم أيزم ومعناه الأسد فغلبه على أمره ولحق عبد الله بعامر بن الهنتاتي كبير المصامدة لعهده وعامل السلطان عليهم فاستجاش به ووعده عامر النصرة وأمهله عاماً ونصه حتى وفد على سلطان واستوهب في ذلك. ثم أجمع على نصره من عدوه فجمع له الناس وخاطب أهل ولايته أن يكون معه يداً. وزحف عبد الله حتى نزل بالقاهرة وأخذ بمخنق أبيه وأشياعه. ثم داخله بعض بطانته ودله على بعض العورات اقتحم منها الجبل وثاروا بابنه أيزم فصاح به عبد الله وقومه. وفر محمد أمامهم فأدرك بتلاسف من نواحي الجبل وقتل واسترجع عبد الله ملكه واستقلت قدمه إلى أن مكر به ابن عمه يحيى بن سليمان حين بلغ استبداد الوزير عمر بن عبد الله على سلطان المغرب واستبداد عامر بن محمد بولاية مراكش وثأر منه يحيى هذا بأبيه سليمان وهو عم عبد الله وكان قتله أيام إمارته الأولى. وأقام مملكاً على سكسيوة إلى سنة خمس وسبعين فثار عليه أبو بكر بن عمر بن خرو فقتله بأخيه عبد الله واستقل بأمر سكسيوة ومن إليهم. ثم خرج عليهم لأعوام من استقلاله ابن عم له من أهل بيته لم ينقل لي من تعريفه إلا أن اسمه عبد الرحمن لأن ثورته كانت بعد رحلتي الثانية من المغرب سنة ست وسبعين فأخبرني الثقة بأمره وأنه ظفر بأبي بكر بن عمر وقتله. واستبد بأمر الجبل إلى هذا العهد فيما زعم وهو سنة تسع وسبعين. ثم بلغني سنة ثمان وثمانين أن عبد الرحمن هذا ويعرف بأبي زيد بن مخلوف بن عمر آجليد قتله يحيى بن عبد الله بن عمر واستبد بأمر هذا الجبل وهو الآن مالكه وهو أخو أيزم بن عبد الله. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. بقية قبائل المصامدة وأبا بقية قبائل المصادمة من سوى هؤلاء السبع مثل هيلانة وحاحة ودكاكة وغيرهم ممن أوطن هضاب الجبل أو ساحته فهم أمم لا تنحصر. ودكالة منهم في ساحة الجبل من جانب الجوف مما يلي مراكش إلى البحر من جانب الغرب. وهناك رباط آسفي المعروف ببني ماكر من بطونهم وبين الناس اختلاف في انتسابهم في المصامدة أو صنهاجة وتجاورهم من جانب الغرب في بسيط ينعطف ما بين ساحل البحر وجبل درن في بسيط هناك يفضي إلى السوس يعمره من حاحة هؤلاء خلق أكثرهم في خمر الشعراء من الشجر المعروف بأرجان يتحصنون بملتفها وأدواحها ويعتصرون الزيت لأدامهم من ثمارها. وهو زيت شريف طيب اللون والرائحة والطعم يبعث منه العمال إلى في دار الملك في هداياهم فيطوفون به. وبآخر مواطنهم مما يلي أرض السوس وفي القبلة عن جبل درن دنست وبها معظم هذه الشعراء ينزلها رؤساؤهم ورياستهم في بطن منهم يعرفون بمغراوة وكان شيخهم لعهد السلطان أبي عنان إبراهيم بن حسين بن حماد بن حسين وبعده ابنه محمد بن إبراهيم بن حسين وبعده ابن عمهم خالد بن عيسى بن حماد. واستمرت رياسته عليهم إلى أعوام ست وسبعين وسبعمائة أيام استيلاء السلطان عبد الرحمن بن بطوسن على مراكش فقتله شيخ بني مرين علي بن عمر الورتاجي من بني ويغلان منهم وما أدري لمن صارت رياستهم من بعده وهم دكالة جميعاً أهل مغرم واسع وجباية موفورة فيما علمناه ولله الخلق والأمر وهو خير الوارثين. كان الواثق جهز لحرب أحد أمراء المصامدة فكان وزيره داخله في ذلك السيد أبا زيد بن السيد أبي عمران خليفته وأخبره بما سمع وأمره بالقبض عليه وقتله فأنفذ ذلك. ثم ارتحل إلى السوس لتمهيده وحسم هلال بن يدر فيه علله وقدم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة ولمطة وصناكة وغيرهم وسار يتعدى المنازل ويستنفر القبائل وهو بتارودنت فوجدها قفراً خلاء إلا قليلاً من الدور بخارجها. ونزل على حميدين صهر علي بن يدر وقريبه بحصن تيسخت على وادي السوس كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن يدر وملكه فنازله أبو دبوس وحاصره أياماً وهزم فيها جموعه. وداخل محمد بن علي بن زكدان في إفراج أبي دبوس على سبعين ألف دينار يؤديها إليه فأعجله الفتح من ذلك ونجا بدمائه إلى بيته وطولب بالمال وبقي معتقلاً عند ابن زكدان وامتنع علي بن يدر بحصنه ثم أطاع ووصلت رسله بطاعته فانصرف الواثق إلى حضرته ودخلها سنة خمس وستين وبلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق وأنهى إليه فبعث بمرتبه إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطران وابن أبي عثمان رسول يغمراسن. خرج إليهم من مراكش ابن أبي مديون الونكاسي دليلاً وسلك بهم على الثغر إلى سجلماسة وبها يحيى بن يغمراسن فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه وألفوه بجهة مليانة فأقام ابن قطرال بتلمسان ينتظره. وكان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني مرين ونزل بضواحي مراكش وأطاعه على النواحي ونهض إليه أبو دبوس بعساكر الموحدين فاستجرة يعقوب إلى وادي أعفر. ثم ناجزه الحرب فاختل مصافه وفر عسكره وانهزم يريد مراكش والقوم في أتباعه فأدرك وقتل. وبادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرم فاتح سنة ثمان وستين وفر بقية المشيخة من الموحدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا بايعوا عبد الحق أحد بني أبي دبوس وسموه متصم مدة من خمسة أيام وخرج في جملتهم وانقرض مر بني عبد المؤمن والبقاء لله وحده. بقايا قبائل الموحدين الخبر عن بقايا قبائل الموحدين من المصامدة بجبال درن بعد انقراض دولتهم بمراكش وتصاريف أحوالهم لهذا العهد لما دعى المهدي إلى أمره في قومه من المصامدة بجبال درن وكان أصل دعوته نفي التجسيم الذي إليه مذهب أهل المغرب باعتمادهم ترك التآويل في المتشابه من الشريعة وصرح بتكفير من أبى ذلك أخذاً بمذهب التكفير بالمثال. فسمى لذلك دعوته دعوة التوحيد وأتباعه بالموحدين نعياً على الملثمين مثال مذاهبهم إلى اعتقاد الجسمية وخص بالمزية من دخل في دعوته قبل تمكنها وجعل علامة تمكنها فتح مراكش فكان إنما اختص بهذا اللقب أهل السابقة قبل ذلك الفتح. وكان أهل تلك السابقة. قبل فتح مراكش ثماني قبائل سبعة من المصامدة: هرغة وهم قبيلة الإمام المهدي وهنتاتة وتينملل وهم الذين بايعوه مع هرغة على الإجارة والحماية وكنفيسة وهزرجة وكدميرة ووريكة. وثمانية قبائل الموحدين: كومية قبيلة عبد المؤمن كبير صحابته دخلوا في دعوته قبل الفتح فكانت لهم المزية بسابقة عبد المؤمن وسابقتهم فاختص هؤلاء القبائل بمزية هذه السابقة واسمها. وقاموا بالأمر وحملوا سريره وأنفقوا في مذاهبه وممالكه في سائر الأقطار على نسبة قربهم من صاحب الأمر وبعدهم. وبقي من بقي منهم بجبالهم ومعاقلهم بقية حتوف. وجرت عليهم ذيل زناتة من بعد الملك أذيال الغلب والقهر حتى ألقوهم بالأتاوات وانتظموا في عداد الغارمين من الرعايا وصاروا يولون عليهم من زناتة ومن رجالاتهم أخرى وفي ذلك عبرة هرغة فأما هرغة وهم قبيل الإمام المهدي قد دثروا وتلاشوا وانتفقوا في القاصية من كل وجه لما كانوا أشد القوم بلاء في القيام بالدعوة وأصلاهم لنارها بقرابتهم من صاحبها وتعصبهم على أمره. ولم يبق منهم إلا أخلاط وأوشاب أمرهم إلى غيرهم من رجالات المصامدة لا يملكون عليهم منه شيئاً. تينملل وكذا تينملل إخوانهم في التعصب على دعوة المهدي والاشتمال عليه والقيام بأمره حتى تهيز إليهم وبنى داره ومسجده بينهم فكان حظهم من الفناء بمقدار حظهم من الاستيلاء وأبعدوا في ممالك الدولة وعمالاتها فانقرض رجالاتهم وملك غيرهم من المصامدة أمرهم عليهم وقبر الإمام بينهم لهذا العهد على حاله من التجلة والتعظيم وقراءة القرآن عليه أحتزاباً بالغدو والعشي وتعاهده بالزيارة وقيام الحجاب دون الزائرين من الغرباء لتسهيل الإذن واستشعار الأبهة وتقديم الصدقات بين أيدي زيارته على الرسم المعروف في احتفال الدولة وهم مصممون مع ذلك وكافة المصامدة أن الأمر سيعود وإن الدولة ستظهر على أهل المشرق والمغرب وتملأ الأرض كما وعدهم المهدي لا يشكون في ذلك ولا يستريبون فيه. وأما هنتاتة وهم تلو القبيلتين في الأمر وكل من بعدهم فإنما جاء على أثرهم وتبعاً لهم بما كانوا عليه من الكثرة والبأس ومكان شيخهم أبي حفص عمر بن يحيى من صحابة الإمام والاعتزاز على المصامدة. وكانت لهم بأفريقية دولة كما نذكره فأنفقت الدولتان منهم عوالم في سبيل الاستظهار بهم وبقي بموطنهم المعروف بهم من جبال درن وهو الجبل المتاخم لمراكش على توسط من الاستبداد والخضوع. ولهم في قومهم مكان بامتناع معقلهم وإطلاله على مراكش. ولما تغلب بنو مرين على المصامدة وقطعوا عنهم أسباب الدعوة كان لرؤسائهم أولاد يونس انحياش إليهم بما كانوا مسخوطين في آخر دولة بني عبد المؤمن فاختصوهم بالأثرة والمخالصة. وكان علي بن محمد كبيرهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق خالصة له من بين قومه. وهلك سنة سبع وسبعين على يد ابن الملياني الكاتب بكتاب لبس فيه وأنفذه عن السلطان لابنه أمير مراكش بقتل رهط من مشيخة المصامدة في اعتقاله كان منهم: علي بن محمد فقام السلطان لها في ركائبه وندم على ما فرط من أمره في إفلات ابن الملياني على ما نذكره من أمر هذه الواقعة في أخبار السلطان يوسف بن يعقوب. ولما ولي السلطان أبو سعيد وانقطع عن المصامدة ما كان لهم من أثر الملك والسلطان وانقادوا للدولة رجع بنو مرين إلى التولية عليهم من رجالاتهم وتداولوا بينهم في ذلك واختار السلطان بعد صدر من دولته موسى بن علي بن محمد للولاية على المصامدة وجبايتهم فعقد له وأنزله مراكش فاضطلع بهذه الولاية سنين رسخت فيها قدمه وأورثها أهل بيته وصار لهم بها في الدولة مكان انتظموا به في الولاية وترشحوا للوزارة. ولما هلك موسى عقد السلطان من بعده لأخيه محمد وأجراه على سننه إلى أن هلك فاستعمل السلطان بنيه في وجوه خدمته وعقد لعامر منهم على قومه. ولما ارتحل السلطان أبو الحسن إلى أفريقية صحبة عامر فيمن صحبه من أمراء المصامدة وكافة الوجوه حتى إذا كانت نكبة القيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة عقد له على الشرطة بتونس على رسم الموحدين من تنويه الخطة وسعة الرزق. واستنام إليه فيها فكفاه مهمها. ولما فصل من تونس ركب الكثير من حرمه وحظاياه السفن لنظر عامر هذا حتى إذا غرق الأسطول بالسلطان أبي الحسن بما أصابهم من عاصف الريح رمى الموج بالسفينة التي كانوا بها إلى المرية من ثغور الأندلس فأنزل بها كرائم السلطان لنظره وبعث عنهن ابنه أبو عنان المستبد على أبيه بملك المغرب فامتنع من إسلامهن إليه وفاء بأمانته في خدمتهم. وخلص السلطان أبو الحسن بعد النكبة البحرية إلى الجزائر سنة خمسين وزحف إلى بني عبد الواد ففلوه ونهض إلى المغرب وسلك إليه القفر حتى نزل بسجلماسة فقصده أبو عنان فخرج عنها إلى مراكش وقام بدعوته المصامدة وعرب جشم فاحتشد ولقي ابنه أبا عنان بجهات أم ربيع فكانت الدبرة عليه ونجا إلى جبل هنتاتة. وكان عبد العزيز بن محمد شيخاً عليهم منذ مغيب عامر وكان في جملته وخلص معه فأنزله عبد العزيز بداره وتدامر هو وقومه على إجارته والموت عونه فاعتصم بمعقلهم. وجاء السلطان أبو عنان في كافة بني مرين إلى مراكش فخيم بظاهرها واحتشد لحصارهم أشهراً حتى هلك السلطان أبو الحسن كما نذكره بعد فحملوه على الأعواد ونزلوا على حكم أي عنان فكرمهم ورعى لهم وسيلة هذا الوفاء وعقد لعبد العزيز على إمارته واستقدم عامراً كبيره من مكانه بالمرية فقدم بمن لأمانته من حظايا السلطان وحرمه فلقاه السلطان مبرة وتكريماً وأناله من اعتنائه حظاً. وتخلى له أخوه عبد العزيز عن الأمر فأقره نائباً. ثم عقد السلطان لعامر سنة أربع وخمسين على سائر المصامدة واستعمله لجبايتهم فقام بها مضطلعاً وكفاه مهم الأعمال المراكشية حتى عرف عناءه فيها وشكر له كفايته. وهلك السلطان أبو عنان واستبد على ابنه السعيد وزيره الحسن بن عمر الفودودي وكان ينفس عليه ما كان له من الترشيح للرتبة وبينهما في ذلك شحناء فخشي بادرته وخرج من مراكش إلى معقله في جبل هنتاتة وحمل معه ابن السلطان أبي عنان الملقب بالمعتمد. وكان أبوه عقد له يافعاً قبيل وفاته على مراكش لنظر عامر فخلص به إلى الجبل حتى إذا استوت قدم السلطان أبي سالم في الأمر واستقل بملك المغرب سنة ستين. وفد عليه عامر بن محمد مع رسله إليه وأوفد ابن أخيه محمد المعتمد فتقبل السلطان وفادته وشكر وفاءه وأقام ببابه مدة. ثم عقد له على قومه ثم استنفره معه إلى تلمسان ولم يزل مقيماً ببابه إلى قبيل وفاته فأنفذه لمكان إمارته. ولما هلك السلطان أبو سالم واستبد بالمغرب بعده عمر بن عبد الله بن علي على ما نذكره وكانت بينه وبين عامر بباب السلطان صداقة وملاطفة وصل يده بيده وأكد العهد معه على سد تلك الفرجة وعول عليه في حوط البلاد المراكشية وأن لا يؤتى من قبله وكان زعيماً بذلك وعقد له على الأعمال المراكشية وما إليها إلى وادي أم ربيع. وفوض إليه أمر تلك الناحية واقتسما المغرب شق الأبلمة وخلص إليه الأعياص من ولد السلطان أبي سعيد أبو الفضل بن السلطان أبي سالم وعبد المؤمن بن السلطان أبي علي فاعتقل عبد المؤمن وأمكن أبا الفضل من إمارته على ما نذكر بعد. وساءت الحال بينه وبين عمر ونهض إليه من فاس بجموع بني مرين وكافة العسكر واعتصم بجبلة وقومه واستبد على الأميرين عنده. وحل عبد المؤمن من معتقله يجاجئ به بني مرين لما كانوا يؤملون من ولايته واستبداده لما أسفهم من حجر الوزراء لملوكهم. فلما رأوا استبداد عامل عليه أعرضوا عنه وانعقد السلم بينه وبين عمر بن عبد الله على ما كان عليه من مقاسمته إياه في أعمال المغرب ورجع. واستقل عامر بناحية مراكش وأعمالها حتى إذا هلك عمر بن عبد الله بيد عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن كما نذكره حدثت أبا الفضل ابن السلطان أبي سالم نفسه بالهتك بعامر بن محمد كما فتك عمه بعمر بن عبد الله. ونذر بذلك فاحتمل كرائمه وصعد إلى داره بالجبل ففتك أبو الفضل بعبد المؤمن ابن عمه كان معتقلاً بمراكش. واستحكمت لذلك السفرة بينه وبين عامر بن محمد. وبعث إلى السلطان عبد العزيز فنهض من فاس في جموعه سنة تسع وستين. وفر أبو الفضل فلحق بتادلا وتقبض عليه عمه السلطان عبد العزيز وقتله كما نذكر في أخباره. وطلب عامراً في الوفادة فخشيه على نفسه واعتصم بمعقله فرجع إلى حضرته واستجمع عزائمه. وعقد على مراكش وأعمالها لعلي بن أجانا من صنائع دولتهم وأوعز إليه بمنازلة عامر فدافعه عامر وقومه عن معتصمه وأوقع به وتقبض على طائفة من بني مرين وصنائع السلطان في المعركة أودعهم سجنه فحرك بها عزائم السلطان ونهض إليه في قومه من بني مرين وعساكر المغرب وأحاط به ونازله حولا كريتا. ثم تغلب عليه سنة إحدى وسبعين وانفضت جموعه. وتقبض عليه عند اقتحام فسيق أسيراً إلى السلطان فقيده وقفل به إلى الحضرة. ولما قضى نسك الفطر من سنته أحضره ووبخه. ثم أمر به فتل إلى مصرعه وامتحن جلداً بالسياط وضرباً بالمقارع حتى فاض عفى الله عنه. وعقد السلطان على قومه لفارس ابن أخيه عبد العزيز كان نزع إليه بين يدي مهلك عمه وعفا عن ابنه أبي يحيى بسابقته إلى الطاعة قبيل اقتحام الجبل عليهم أشار عليه بذلك أبوه نظراً له فظفر من السلامة بحظ وأصاره السلطان في جملته. ثم هلك بعد ذلك فارس بن عبد العزيز واضطرم المغرب فتنة بعد مهلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين. وصارت أعمال مراكش في إيالة السلطان عبد الرحمن بن علي الملقب بأبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي. ونزع إليه أبو يحيى بن عامر فعقد له على قومه. ثم اتهمه باحتجاز الأموال منذ عهد أبيه وشره إلى استصفائه ونفر به ابن عامر فلحق ببعض قبائل المصامدة جيرانهم بأطراف السوس ونزل عليهم. وكان مهلكه فيهم أعوام ثمانين وسبعمائة والله وارث الأرض ومن عليها. كدميوة وأما كدميوة وكانوا تبعاً لهنتاتة وتينملل في الأمر وجبلهم لصق جبل هنتاتة. وكان رؤساؤهم لعهد الموحدين بنو سعد الله. ولفا تغلب بنو مرين على المصامدة ووضعوا عليهم الضرائب وامتنع يحيى بن سعد الله بعض الشيء بحصن تافركا وتيسخت من جبلهم وخالفه عبد الكريم بن عيسى وقومه إلى طاعة بني مرين واختلفت إليهم العساكر إلى أن هلك يحيى بن سعد الله سنة أربع وتسعين وستمائة وعساكر يوسف بن يعقوب مجهزة على حصاره فهدموا حصونه وأذلوا من قومه. واستخلص السلطان يوسف بن يعقوب عبد الكريم بن عيسى منذ عهد أبيه فعقد له عليهم. ثم تقبض على أمراء المصامدة واعتقله فيمن اعتقل منهم حتى إذا فعل ابن الملياني فعلته في استهلاكهم لعداوة عمه بتلبيس الكتاب على لسان السلطان لابنه على أمير مراكش فقتل عبد الكريم فيمن قتل منهم وقتل معه بنوه عيسى وعلي ومنصور وابن أخيه عبد العزيز بن محمد. وامتعض السلطان لذلك وأفلت ابن الملياني من عسكره لحصار تلمسان فدخلها. ثم قام بأمر كدميوة عبد الحق بن. . من بيت بني سعد الله أيام السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنان. وكانت بينه وبين عامر بن محمد فتنة جرها لصق العمالة شأن المجتورين من القبائل وقديم العداوة بين السلف. فلما استفحل أمر عامر بالولاية على مراكش وسائر المصامدة نبذ إلى عبد الحق العهد ونحلة الخلاف والمداخلة للسكسيوي شيخ الفتنة المستعصي منذ أول الدولة فصمد إليه سنة سبع وخمسين وسبعمائة في قومه ومسالح السلطان التي كانت بمراكش لنظره فافتتح عليه معقله عنوة وقتله. واستولى على كدميوة ولحق بنو سعد الله بفاس وأقاموا بها حتى إذا خاض السلطان أبو سالم البحر إلى ملكة بعد أخيه أبي عنان ونزل بغمارة نزع إليه يوسف بن سعد الله واعتقد منه ذمة بسابقته تلك. فلما استولى على البلد الجديد واستقل بسلطانه عقد له على قومه رعياً لوسيلته فأقام في ولايته مدة السلطان أبي سالم. وكان عامل مراكش محمد بن أبي العلى من حاشية السلطان. وبيوت الولاة بالمغرب معولا فيها على مظاهرته. ولما هلك السلطان أبو سالم واستبد عمر بن عبد الله على الملوك بعده بادر لحين ثورته بالعقد لعامر على أعمال مراكش ليستظهر به وطير إليه الكتاب بذلك فنزل إلى مراكش وقتل بها يوسف بن سعد الله ونكب بأبي العلى ثم قتله وألحقه بأبي عبد الحق. وذهبت الرئاسة من كدميوة برهة من الدهر ثم رجعت إليهم في بني سعد الله والله قادر على ما يشاء وبيده تصاريف الأمور. |
وريكة
وأما وريكة فهم مجاورون لهنتاتة وبينهم فتنة قديمة وحرب متصلة ودماء مطلولة كانت بينهم سجالا. وهلك فيها من الفريقين أمم إلى أن غلبهم هنتاتة باعتزازهم بالولاية فخضدوا منهم بنو يدر أمراء السوس الخبر عن بني يدر أمراء السوس من الموحدين بعد انقراض بني عبد المؤمن وتصاريف أحوالهم كان أبو محمد بن يونس من علية وزراء الموحدين من هنتاتة وكان المرتضى قد استوزره ثم سخطه وعزله سنة خمسين وستمائة وألزمه داره بتامصلحت وفر عنه قومه وحاشيته وقرابته. وكان من أهل قرابته علي بن يدر من بني باداس ففر إلى السوس وجاهر بالخلاف سنة إحدى وخمسين ونزل بحصن تانصاصت سفح الجبل حيث يدفع والي السوس من درن وشيده وحصنه وتغلب على حصن تيسخت من أيدي صنهاجة وشيده وأنزل فيه ابن عمه حمدين. ثم تغلب على بسيط السوس وجأجأ ببني حسان من أعراب المعقل من مواطنهم من نواحي ملوية إلى بلاد الريف فارتحلوا إليه وعاث بهم في نواحي السوس وأطاع له كثير من قبائله فاستوفى جبايتهم. وأجلب على عامل الموحدين بتارودنت وضيق عليه المسالك وتفاقم أمره. واتهم الوزير أبو محمد بن يونس بمداخلته وعثر على كتابه إلى علي بن يدر فأمر للمرتضى باعتقاله وقتله سنة اثنتين وخمسين. وأغزى أبا محمد بن أصناك إلى بلاد السوس في عسكر الموحدين والجند وعقد له عليها فنزل تارودنت وتحصن علي بن يدر بتيونيوين وزحف إليه ابن أصناك في عسكره فهزمه ابن يدر وقتل كثيراً منهم ورجع إلى مراكش مفلولا. وأقام علي بن يدر على حاله من الخلاف وأغزاه المرتضى محمد بن علي أزلماط في عسكر من الموحدين سنة ستين فهزمهم وقتل ابن زلماط فعقد المرتضى من بعده على السوس لوزيره أبي زيد بن بكيت فزحف إليه ودارت الحرب بينهما ملياً وانقلب من غير ظفر. واستفحل أمر ابن يدر ببلاد السوس واستخدم الأعراب من بني الشبانات وذوي حسان. وأطاعته القبائل من كزولة ولمطة وزكن ولخس من شعوب لمطة وصناكة. وجبى الأموال واستخدام الرجال يقال كان جنده ألف فارس وكان بينه وبين كزولة فتن وحروب يستظهر في أكثرها بذوي حسان. ولما استولى أبو دبوس على مراكش سنة خمس ومئتين وفرغ من تمهيد ملكه بها اعتزم على الحركة إلى السوس ورحل من مراكش وقدم بين يديه يحيى بن وانودين لاحتشاد القبائل ومر بالجبل ثم أسهل من تامسكروط إلى بسيط السوس ونزل على بني باداس قبيلة ابن يدر على فرسخين من تيونيوين. وقصد تيزخت ومر بتارودنت وعاين أثر الخراب الذي بها من عيث ابن يدر ولما بلغ حصن تيزخت خيم بساحته وحشر أمماً من القبائل لحصاره وكان به حمدين ابن عم علي بن يدر فحاصره أياماً. ولما اشتد عليه الحصار داخل علي بن زكداز من مشيخة بني مرين كان في جملة أبي دبوس فداخله في الطاعة وتقبل السلطان طاعته على النزول عن حصنه. ثم أعجلته الحرب واقتحم عليهم الجبل ولجوا إلى الحصن وفر حمدين إلى بيت علي بن زكداز فأمره السلطان باعتقاله. واستولى السلطان على الحصن وأنزل به بعض السادات لولايته. وارتحل أبو دبوس إلى محاصرة علي بن يدر فحاصره أياماً ونصب عليه المجانيق. ولما اشتد عليه الحصار رغب في الإقالة ومعاودة الطاعة فتقبل وأقلع السلطان عن حصاره وقفل إلى حضرته. ولما استولى بنو مرين على ماركس سنة ثمان وستين استبد علي بن يدر بملك السوس واستولى على تارودنت وإيفري وسائر أمصاره وقواعده ومعاقله وأرهف حده للأعراب. فزحفرا إليه وكانت عليه الدبرة وقتل سنة ثمان وستين وقام بأمره علي ابن أخيه عبد الرحمن بن الحسن مدة. ثم هلك وقام بأمرهم أخوه علي بن الحسن بن يدر. ولما صار أبو علي ابن السلطان أبي سعيد إلى ملك سجلماسة بصلح عقده مع أبيه كما نذكر في أخبارهم فنزلها وشيد ملكه بها واستخدم كافة عرب المعقل فرغبوه في ملك السوس وأطمعوه في أموال ابن يدر فغزاه من سجلماسة. وفر ابن يدر أمامه إلى جبال نكيسة. واستولى السلطان أبو علي على حصنه تانصاصت وصائر أمصار السوس واستصفى ذخيرته وأمواله ورجع إلى سجلماسة. ثم استولى السلطان أبو الحسن من بعد ذلك عليه وانقرض ملك بني يدر. ولحق به عبد الرحمن بن علي بن الحسن وصار في جملته. وأنزل السلطان بأرض السوس مسعود بن إبراهيم بن عيسى اليرنياني من طبقة وزرائه وعقد له على تلك العمالة إلى أن هلك. وعقد لأخيه حسون من بعده إلى أن كانت نكبة القيروان. وهلك حسون وانفض العسكر من هنالك وتغلب عليه العرب من بني حسان والشبانات ووضعوا على قبائله الأتاوات والضرائب. ولما استبد أبو عنان بملك المغرب من بعد أبيه أغزى عساكره السوس لنظر وزيره فارس بن ودرار سنة ست وخمسين فملكه واستخدم القبائل والعرب من أهله ورتب المسالح بأمصاره وقفل إلى مكان وزارته فانفضت المسالح ولحقت به. وبقي عمل السوس ضاحياً من ظل الملك لهذا العهد وهو وطن كبير في مثل عرض البلاد الجريدية وهوائها المتصلة من لدن البحر المحيط إلى نيل مصر الهابط من وراء خط الاستواء في القبلة إلى الإسكندرية. وهذا الوطن قبلة جبال درن ذو عمائر وقرى ومزارع وفدن وأمصار وجبال وحصون يخترقه وادي السوس ينصب من باطن الجبل إلى ما بين كلاوة وسكسيوة ويدفع إلى بسيطه ثم يمر مغرباً إلى أن ينصب في البحر المحيط والعمائر متصلة حفافي هذا الوادي ذات الفدن والمزارع وأهلها يتخذون فيها قصب السكر. وعند مصب هذا الوادي من الجبل في البسيط مدينة تارودنت. وبين مصب هذا الوادي في البحر ومصب وادي ماسة مرحلتان إلى ناحية الجنوب على ساحل البحر وهنالك رباط ماسة الشهير المعروف بتردد الأولياء وعبادتهم. وتزعم العامة أن خروج الفاطمي منه. ومنه أيضاً إلى زوايا أولاد بنو نعمان مرحلتان في الجنوب كذلك على ساحل البحر وبعدها على مراحل مصب الساقية الحمراء وهي منتهى مجالات المعقل في مشاتيهم. وفي رأس وادي السوس جبل زكندر قبلة جبل الكلاوي. وفي قبلة جبال درن جبال نكيسة تنتهي إلى جبال درعة ويعرف الآخر منها في الشرق بابن حميدي ويصب من جبال نكيسة وادي نول ويمر مغرباً إلى أن يصب في البحر. وعلى هذا الوادي بلد تاكاوصت محط الرقاق والبضائع بالقبلة وبها سوق في يوم واحد من السنة يقصده التجار من الآفاق وهو من الشهرة لهذا العهد بمكان. وبلد إيفري بسفح جبل نكيسة بينها وبين تاكاوصت مرحلتان وأرض السوس مجالات لكزولة ولمطة. فلمطة منهم مما يلي درن وكزولة مما يلي الرمل والقفر. ولما تغلب المعقل على بسائطه اقتسموها مواطن فكان الشبانات أقرب إلى جبال درن. وصارت قبائل لمطة من أحلافهم وصارت كزولة من أحلاف ذوي حسان. والأمر على ذلك لهذا العهد وبيد الله تصاريف الأمور. دولة بني أبي حفص الخبر عن دولة بني أبي حفص ملوك إفريقية من الموحدين ومبدأ أمرهم وتصاريف أحوالهم قد قدمنا أن قبائل المصامدة بجبل درن وما حوله كثير مثل: هنتاتة وتينملل وهرغة وكنفيسة وسكسيوة وكدميوة وهزرجة ووريكة وهزميرة وركراكة وحاحة وبني ماغوس وكلاوة وغيرهم ممن لا يحصى. وكان منهم قبل الإسلام وبعده رؤساء وملوك. وهنتاتة هؤلاء من أعظم قبائلهم وأكثرها جمعاً وأشدها قوة وهم السابقون للقيام بدعوة الإمام المهدي والممهدون لأمره وأمر عبد المؤمن من بعده كما ذكرناه في أخباره. واسم هنتات جدهم بلسان المصامدة بنتي وكان كبيرهم لعهد الإمام المهدي الشيخ أبو حفص عمر ونقل البيذق أن اسمه بلسانهم فاصكات. وهنتاتة لهذا العهد يقولون أنه اسم جده وكان عظيماً فيهم متبوع غير مدافع وهو أول من بايع للإمام المهدي من قومه فجاء يوسف بن وانودين وأبو يحيى بن بكيت وابن يغمور وغيرهم منهم على أثره. واختص بصحابة المهدي فانتظم في العشرة السابقين إلى دعوته. وكان تلو عبد المؤمن فيهم ولم يكن مزية عبد المؤمن عليه إلا من حيث صحابة المهدي. وأما في المصامدة فكان كبيرهم غير مدافع وكان يسمى بين الموحدين بالشيخ كما كان المهدي يسمى بالإمام وعبد المؤمن بالخليفة. سمات لهؤلاء الثلاثة من بين أهل الدعوة تدل على اشتراكهم في الجلالة. وأما نسبه فهو عمر بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي بن أحمد بن والال بن إدريس بن خالد بن إليسع بن إلياس بن عمر بن وافتن بن محمد بن نحية بن كعب بن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب هكذا نسبه ابن نخيل وغيره من الموحدين. ويظهر منه أن هذا النسب القرشي وقع في المصامدة والتحم به واشتملت عليه عصبيتهم شأن الأنساب التي تقع من قوم إلى قوم وتلتحم بهم كما قلناه أول الكتاب. ولما هلك الإمام وعهد بأمره إلى عبد المؤمن وكان بعيداً عن عصبية المصامدة إلا ما كان له من أثرة المهدي واختصاصه فكتم موت المهدي وعهد عبد المؤمن ابتلاء لطاعة المصامدة. وتوقف عبد المؤمن عن ذلك ثلاث سنين ثم قال له أبو حفص نقدمك كما كان الإمام يقدمك فاعلم أن أمره منعقد. ثم أعلن بيعته وأمضى عهد الإمام بتقديم وحمل المصامدة على طاعته فلم يختلف عليه اثنان. وكان الحل والعقد في المهمات إليه سائر أيام عبد المؤمن وابنه يوسف واستكفوا به نوائب الدعوة فكفاهم مهمها. وكان عبد المؤمن يقدمه في المواقف فيجلي فيهم. وبعثه على مقدمته حين زحف إلى المغرب الأوسط قبل فتح مراكش سنة سبع وثلاثين وزناتة كلهم مجتمعون بمنداس لحرب الموحدين مثل: بني ومانوا وبني عبد الواد وبني ورسيفان وبني توجين وغيرهم فحمل زناتة على الدعوة بعد أن أثخن فيهم. ولأول دخول عبد المؤمن لمراكش خرج عليه الثائر بماسة وانصرفت إليه وجوه الغوغاء وانتشرت ضلالته في النواحي وتفاقم أمره فدفع لحربه الشيخ أبا حفص فحسم داءه ومحا أثر غوايته. ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية حركته الأولى لم يقدم شيئاً على استشارة أبي حفص. ولما رجع منها وعهد إلى ابنه محمد خالفه الموحدون ونكروا ولايته ابنه فاستدعى أبا حفص من مكانه بالأندلس وحمل الموحدين على البيعة له. وأشار بقتل يصلاتي الهرغي رأس المخالفين في شأنه فقتله وتم أمر العهد لابنه محمد. ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية سنة أربع وخمسين حركته الثانية لفتح المهدية استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب وينقل من وصاة عبد المؤمن لبنيه أنه لم يبق من أصحاب الإمام إلا عمر بن يحيى ويوسف بن سليمان. فأما عمر فإنه من أوليائكم وأما يوسف فجهزه بعسكرة إلى الأندلس تستريح منه. وكذلك فافعل بكل من تكرهه من المصامدة. وأما ابن مردنيش فاتركه ما تركك وتربص به ريب المنون واخل إفريقية من العرب وأجلهم إلى بلاد المغرب وأذخرهم لحرب ابن مردنيش إن احتجت إلى ذلك. ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن تخلف الشيخ أبو حفص عن بيعته ووجم الموحدون لتخلفه حتى استنبل غرضه في حكم أمضاه بمقعد سلطانه وأعجب بفضله فأعطاه صفقة يمينه وأعلن بالرضى بخلافته فكانت عند يوسف وقومه من أعظم البشائر وتسمى لها بأمير المؤمنين سنة ثلاث وستين. ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن وتحركت الفتنة بجبال غمارة وصنهاجة التي تولى كبرها سبع بن منغفاد سنة اثنتين وستين عقد للشيخ أبي حفص على حربهم فجلى في ذلك. ثم خرج بنفسه فأثخن فيهم وكمل الفتح كما ذكرناه. ولما بلغه سنة أربع وستين تكالب الطاغية على الأندلس وغمره بمدينة بطليوس واعتزم على الإجازة لحمايتها قدم عساكر الموحدين إليها لنظر الشيخ أبي حفص ونزل قرطبة وأمر من كان بالأندلس من السادة أن يرجعوا إلى رأيه فاستنقذ بطليوس من هوة الحصار وكانت له في الجهاد هنالك مقامات مذكورة. ولما انصرف من قرطبة إلى الحضرة سنة إحدى وسبعين هلك عفا الله عنه في طريقه بسلا ودفن بها وكان أبناؤه من بعده يتناولون الإمارة بالأندلس والمغرب وإفريقية مع السادة من بني عبد المؤمن فولى المنصور ابنه أبا سعيد على إفريقية لأول ولايته وكان من خبرة مع عبد الكريم المنتزي بالمهدية ما ذكرناه. واستوزر أبا يحيى بن أبي محمد بن عبد الواحد وكان في مقدمته يوم الأركة سنة إحدى وتسعين فجلى عن المسلمين وكان له في ذلك الموقف من الصبر والثبات ما طار له به ذكر. واستشهد في ذلك الموقف وعرف أعقابه ببني الشهيد آخر الدهر وهم لهذا العهد بتونس. ولما نهض الناصر إلى إفريقية سنة إحدى وستمائة لما بلغه من تغلب ابن غانية على تونس فاسترجعها ثم نازل المهدية فتعاوت عليه ذئات الأغراب. وجمعهم ابن غانية ونزل قابس فسرح الناصر إليهم أبا محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص في عسكر من الموحدين فأوقع بابن غانية بتاجرا من نواحي قابس سنة اثنتين وستمائة وقتل جبارة أخو ابن عانية وأثخن فيهم قتلا وسبياً واستنقذ منهم السيد أبا زيد بن يوسف بن عبد المؤمن الوالي كان بتونس وأسره ابن غانية ورجع إلى الناصر بمكانه من حصار المهدية فكانت سبباً في فتحها. وكان ذلك مما حمل الناصر على ولاية الشيخ أبي محمد بإفريقية حسبما نذكره إن شاء الله. امارة ابن الشيخ أبي حفص بإفريقية الخبر عن إمارة أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص بإفريقية وهي أولية أمرهم بها لما تكالب ابن غانية وأتباعه على إفريقية واستولى على أمصارها وحاصر تونس وملكها وأسر السعيد أبا زيد أميرها ونهض الناصر من المغرب سنة إحدى وستمائة كما ذكرناه فاسترجعها من أيديهم وشردهم عن نواحيها. وخيم على المهدية يحاصرها وقد أنزل ابن غانية ذخيرته وولده بها وأجلب في جموعه خلال ذلك على قابس فسرح الناصر إليه الشيخ أبا محمد هذا في عساكر الموحدين. وزحف إليهم بتاجرا من جهات قابس فهزمهم واستولى على معسكرهم وما كان بأيديهم وأثخن فيهم بالقتل والسبي واستنقذ السيد أبا زيد من أسرهم ورجع إلى الناصر بعسكره من حصار المهدية ظافراً ظاهراً. وعاين أهل المهدية يوم مقدمه بالغنائم والأسرى فبهتوا وسقط في أيديهم وسألوا النزول على الأمان. وكمل فتح المهدية ورجع الناصر إلى تونس فأقام بها حولا إلى منتصف سنة ثلاث وستمائة. وسرح أثناء ذلك أخاه السيد أبا إسحاق ليتتبع المفسدين ويمحو مواقع عيثهم فدوخ ما وراء طرابلس وأثخن في بني دمر ومطماطة ونفوسة وشارف أرض سرت وبرقة وانتهى إلى سويقة ابن مذكور. وفر ابن غانية إلى صحراء برقة وانقطع خبره. وانكفأ السيد راجعاً إلى تونس. واعتزم الناصر على الرحلة إلى المغرب وقد أفاء على إفريقية ظل الأمر وضرب عليهم سرادق الحماية. وبدا له أن ابن غانية سيخالفه إليها وأن مراكش بعيد عن الصريخ وأنه لا بد من رجل يسد فيها مسد الخلافة ويقيم بها سوق الملك فوقف اختياره على أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص ولم يكن ليبعدوه لما كان عليه هو وأبوه في دولتهم من الجلالة وأن أمر بني عبد المؤمن إنما تم بوفاق الشيخ أبي حفص ومظاهرته وأنا أباه المنصور كان قد أوصى الشيخ أبا محمد به وبأخوته. وكان يوليه صلاة الصبح إذا حضر شغل وأمثال ذلك. وسرى الخبر بذلك إلى أبي محمد فامتنع وشافهه الناصر به فاعتذر فبعث إليه ابنه يوسف فأكرم موصله. وأجاب على شريطة اللحاق بالمغرب بعد قضاء مهمات إفريقية في ثلاث سنين وأن يختار عليهم من رجالات الموحدين وأن لا يتعقب عليه في تولية ولا عزل فقبل شرطه فنودي في الناس بولايته ورفعت بين الموحدين رايته. وارتحل الناصر إلى المغرب ورجع عنه الشيخ أبو محمد من باجة فقعد مقعد الإمارة بقصبة تونس في السبت العاشر من شوال سنة ثلاث وستمائة وأنفذ أوامره واستكتب أبا عبد الله محمد بن أحمد بن نخيل ورجع ابن غانية إلى نواحي طرابلس فجمع أحزابه وأتباعه من العرب من سليم وهلال. وكان فيهم محمد بن مسعود البلط في قومه من الدواودة وعاودوا عيثهم وخرج إليهم أبو محمد سنة أربع وستمائة في عساكر الموحدين. وتحيز إليه بنو عوف من سليم وهم: مرادس وعلاق فلقيهم بشبرو وتواقعوا واحتربوا عامة يومهم ونزل الصبر. ثم انفض عسكر ابن غانية آخر النهار واتبعهم الموحدون والعرب واكتسحوا أموالهم وأفلت ابن غانية جريحاً إلى أقصى مفره. ورجع أبو محمد إلى تونس بالظفر والغنيمة. وخاطب الناصر بالفتح واستنجاز وعده في التحول عن الولاية فحاطته بالشكر والعذر بمهمات المغرب عن إدالته وأنه يستأنف النظر في ذلك. وبعث إليه بالمال والخيل والكساء للإنفاق والعطاء. كان مبلغها مائتا ألف دينار اثنتان وألف وثمان مائة كسوة وثلاثمائة سيف ومائة فرس غير ما كان أنفذ إليه من سبتة وبجاية ووعده بالزيادة. وكان تاريخ الكتب سنة خمس فاستمر أبو محمد على شأنه وترادفت الوقائع بينه وبين يحيى الميورقي كما نذكره. وقيعة تاهرت وما كان من أبي محمد في تلافيها واستنقاذ غنائمها كان يحيى بن غانية لما أفلت من وقيعة شبرو بدا له ليقصدن بلاد زناتة بنواحي تلمسان وقارن ذلك وصول السيد أبي عمران بن موسى بن يوسف بن عبد المؤمن والياً عليها من مراكش وخروجه إلى بلاد زناتة لتمهيد أنحائهم وجباية مغارمهم. وكتب إليه الشيخ أبو محمد نذيراً بشأنه وأن لا يتعرض له وأنه في أتباعه فأبى من ذلك وارتحل إلى تاهرت وصحبه بها ابن غانية فانفض معسكره. وفرت زناتة في حصونها وقتل السيد أبو عمران. واستبيحت تاهرت فكان آخر العهد بعمرانها وامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي وانقلبوا إلى إفريقية فاعترضهم الشيخ أبو محمد بموضع فأوقع بهم واستنقذ الأسرى من أيديهم واكتسح سائر مغانمهم وقتل فيها كثير من الملثمين. ولحق فلهم بناحية طرابلس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره. واقعة نفوسة ومهلك العرب والملثمين بها كان ابن غانية بعد واقعة شبرو واستفتاح أبي محمد تاهرت من يده خلص إلى جهات طرابلس وتلاحق به فل الملثمين وأوليائه من العرب. وكان المجلي معه في مواقفة الدواودة من رياح وكبيرهم محمد بن مسعود فتدامروا واعتزموا على معاودة الحرب وتعاقدوا الثبات والصبر وانطلقوا يستألفون الأعراب من كل ناحية حتى اجتمع إليهم من ذلك أمم كان فيهم من رياح وزغب والشريد وعوف ودباب ونفاث. واختلفوا في الاحتشاد وأجمعوا دخول إفريقية فبادرهم أبو محمد قبل وصولهم إليها. وخرج من تونس سنة ست وأغذ السير إليهم وتزاحفوا عند جبل نفوسة واشتدت الحرب. ولما حمي الوطيس ضرب أبو محمد بنتيه وفساطيطه. وتحيز إليه بعض الفرق من بني عوف بن سليم واحتل مصاف ابن غانية. واتبعه الموحدون إلى أن دخل في غيابات الليل وامتلأت أيديهم بالأسرى والغنائم وسيقت ظعائن العرب. وقد كانوا قدموها بين يديهم للحفيظة واللياذ في الكر والفر فأصبحت مغنماً للموحدين وربات خدورهم سبياً. وهلك في المعركة خلق من الملثمين وزناتة والعرب كان فيهم عبد الله بن محمد بن مسعود البليط بن سلطان وشيخ الدواودة وابن عمه حركات بن أبي شيخ بن عساكر بن سلطان وشيخ بني قرة وجرار بن ويغزن كبير مغراوة ومحمد بن الغازي بن غانية في آخرين من أمثالهم. وانصرف ابن غانية مهيض الجناح مفلول الحد محفوفاً بالبأس من جميع جهاته وانقلب أبو محمد والموحدين أعزة ظاهرين واستفحل أمر أبي محمد بإفريقية وحسم علل الفساد منها واستوفى جبايتها. وطالت مواقف حروبه ولم تهزم له فيها راية. وهلك الناصر وولي ابنه يوسف المستنصر واستبد عليه المشيخة لمكان صغره وشغلوا بفتنة بني مرين وظهورهم بالمغرب فاستكفى بالشيخ أبي محمد في إفريقية وعول على غنائه فيها وضبطه لأحوالها وقيامه بملكها فأبقاه على عملها وسرب إليه الأموال لنفقاتها وأعطياتها ولم يزل بها إلى أن هلك سنة ثمان عشرة. الخبر عن مهلك الشيخ أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص وولاية ابنه عبد الرحمن كانت وفاة الشيخ أبي محمد فاتح سنة ثمان عشرة. ولما هلك ارتاع الناس لمهلكه وافترق الموحدون في الشورى فريقين بين عبد الرحمن ابن الشيخ أبي محمد وإبراهيم ابن عمه إسماعيل ابن الشيخ أبي حفص فترددوا ملياً ثم اتفقوا على الأمير أبي زيد عبد الرحمن ابنه وأعطوه صفقة أيمانهم وأقعدوه بمجلس أبيه في الإمارة فسكن الثائر وشمر للقيام بالأمر عزائمه. وأفاض العطاء وأجاز الشعراء. واستكتب أبا عبد الله بن أبي الحسين وخاطب المستنصر بالشأن. وخرج في عساكره لتمهيد النواحي وحماية الجوانب إلى أن وصل كتاب المستنصر بعزل لثلاثة أشهر من ولايته حسبما نذكره فارتحل إلى المغرب ومعه أخوانه. وكاتبه ابن أبي الحسين ولحق بالحضرة. ولاية ابي العلا وابنه على افريقية الخبر عن ولاية السيد أبي العلا على إفريقية وابنه أبا زيد من بعده وأخبارهم فيها واعتراضاتهم في الدولة الحفصية لما بلغ الخبر إلى مراكش بمهلك أبي محمد بن أبي حفص وقارن ذلك عزلة السيد أبي العلا من إشبيلية ووصوله إلى الحضرة مسخوطاً: وهو أبو العلا إدريس بن يوسف عبد المؤمن أخو يعقوب المنصور وعبد الواحد المخلوع المبايع له بعد ذلك. وعول على الوزير ابن المثنى في جبر حاله فسعى له عند الخليفة وعقد له على إفريقية ووصل الخطاب بولايته ونيابة إبراهيم بن إسماعيل ابن الشيخ أبي حفص عنه خلال ما يصل واستقدم أبناء الشيخ أبي محمد إلى الحضرة. وقرئ الكتاب شهر ربيع الأول من سنة ثماني عشرة فقام الشيخ بالنيابة في أمره واستعمل أحمد المشطب في وزارته وغلب عليه بطانته وأساء في الموالاة لقرابته. واختص أبناء الشيخ أبا محمد بقبيحة وظن امتداد الدولة له. ووصل السيل أبو العلا شهر ذي القعدة من السنة فنزل بالقصبة ونزل ابنه السيد أبا زيد بقصر ابن فاخر من البلد ورتب الأمور ونهج السنن. ولشهر من وصوله تقبض على محمد بن نخيل كاتب الشيخ أبي محمد وعلى أخويه أبي بكر ويحيى واستصفى أموالهم واحتاز عقارهم وضياعهم. وكان المستنصر عهد إليه بذلك لما كان أسفه بفلتات من القول والكتاب تنمى إليه أيام رياسته في خدمة أبي محمد فاعتقلهم السيد أبو العلا ثم قتله وأخاه يحيى لشهر من اعتقالهما بعد أن فر من سجنه وتقبض فقتل. ونقل أبو بكر إلى مطبق المهدية فأردع به. وخرج السيد أبو العلا من تونس سنة تسع عشرة في عساكر الموحدين إلى نواحي قابس لقطع أسباب ابن غانية منها فنزل قصر العروسيين وسرح ولده السيد أبا زيد في عسكر من الموحدين إلى درج وغدامس من بلاد الصحراء لتمهيدها وجبايتها. وقدم بين يده عسكراً. آخراً لمنازلة ابن غانية بودان وواعدهم هناك منصرفه من غدامس فأرجف بهم العرب في طريقهم بمداخلة ابن غانية. ومال بذله في ذلك فانفض العسكر وزحفوا إلى قابس. وأهمل السيد أبو زيد في غدامس إليهم فلقيه خبر مفرهم. فلحق بأبيه وأخبره بالجلى في أمرهم فسخط قائد العسكر وهم بقتله. وطرق السيد أبا العلا المرض فرجع إلى تونس. وبلغه أن ابن غانية نهض من ودان إلى الزاب وأن أهل بسكرة أطاعوه فسرح السيد أبا زيد في عساكر الموحدين إليه ودخل ابن غانية الرمل فأعجزهم. ورجع السيد أبو زيد إلى بسكرة فأنزل بهم عقابه من النهب والتخريب ورجع إلى تونس. ثم بلغه أن ابن غانية قد رجع إلى جوانب إفريقية واجتمع إليه أخلاط من العرب والبربر فسرح السيد أبا زيد إليه في العساكر ونزل بالقيروان وخالفه ابن غانية إلى تونس فقصده السيد أبو زيد ومعه العرب وهوارة بظعائنهم ومواشيهم. وتزاحفوا بمجدول فاتح إحدى وعشرين واشتد القتال وعضت الموحدون الحرب وأبلى هوارة وشيخهم بعرة ابن حناش بلاء جميلا. وضرب بنتيه وتناغوا في الثبات والصبر فانهزم الملثمون وانجلت المعركة عن حصيد من القتلى من أصحاب ابن غانية واستولى الموحدون على معسكرهم. وكان بلغ السيد أبا زيد خبر مهلك أبيه السيد أبي العلا بتونس في شعبان سنة عشرين. فلما فرغ من مواقعة ابن غانية رجع إلى تونس وأقصر عن متابعته. وخاطب المستنصر بمهلك أبيه وواقعه الملثمين وكان المستنصر قد عزله واستبدل منة بأبي يحيى بن أبي عمران التينمللي صاحب ميورقة ولم يصل إليه الخبر بعزله بعد. وهلك الملك المستنصر إثر ذلك سنة عشرين وولي عبد الواحد المخلوع ابن يوسف بن عبد المؤمن فنقض تلك العقدة وكتب إلى السيد أبي زيد بالإبقاء على عمله ونقض ما أصدر المستنصر من عزله فأرسل عنانه في الولاية وبسط يده في الناس بمكروهه وتنكرت له الوجوه وانحرف عنه الناس بما كانوا عليه من الصاغية لأبي محمد بن أبي حفص وولده إلى أن عزل واستبدل بهم كما نذكره وركب البحر بذخائره وأهله فلحق بالحضرة. الخبر عن ولاية أبي محمد عبد الله بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص وما كان فيها من الأحداث لما هلك المخلوع وولي العادل ولى على إفريقية أبا محمد عبد الله بن أبي محمد عبد الواحد. وولى على بجاية يحيى بن الأطاس التينمللي وعزل عنها ابن يغمور. وكتب إلى السيد أبي زيد بالقدوم. وكتب أبو محمد عبد الله إلى ابن عمه موسى بن إبراهيم ابن الشيخ أبي حفص بالنيابة عنه خلال ما يصل فخرج السيد أبو زيد في ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين واستقل أبو عمران موسى بأمر إفريقية واستمرت نيابته عليها زهاء ثمانية أشهر. وخرج أبو محمد عبد الله من مراكش إلى إفريقية. ولما انتهى إلى بجاية قدم بين يديه أخاه الأمير أبا زكريا ليعترضه طبقات الناس للقائه فوصل إلى تونس في شعبان من هذه السنة بعد أن أوقع في طريقه بولهاصة. وكان أولاد شداد رؤساؤهم قد جمعوا لاعتراضه بناحية بونة فسرح أخاه الأمير أبا زكريا لحسم دائهم ولخروج الطبقات من أهل الحضرة للقائه فكان كذلك. وخرج في رمضان من سنته وخرج معه الناس على طبقاتهم فلقوه بسطيف ووصل إلى الحضرة في ذي القعدة من آخر السنة وتزحزح أبو عمران عن النيابة. ثم لحقه من المغرب أخوه أبو إبراهيم في صفر سنة أربع وعشرين فعقد له على بلاد قسطيلية وعقد لأخيه الأمير أبي زكريا على قابس وما إليها وذلك في جمادى من هذه السنة. وبعد استقراره بتونس بلغه أن ابن غانية دخل بجاية عنوة ثم تخطى كذلك إلى تدلس وأنه عاث في تلك الجهات فرحل من تونس وعقد لأخويه كما ذكرناه. وأغذ السير إلى فحص أبة فصبح به هوارة وقد كان بلغه عنهم السعي في الفساد فأطلق فيهم أيدي عسكره واعتقل مشايخهم وأنفذهم إلى المهدية. ثم مر في أتباع ابن غانية فانتهى إلى بجاية وسكن أحوالها ثم إلى متيحة ومليانة فأدركه الخبر أن ابن غانية قصد سجلماسة فانكفأ راجعاً إلى تونس ودخلها في رمضان سنة أربع وعشرين ولم يزل مستبداً بإمارته إلى أن ثار عليه الأمير أبو زكريا وغلبه على الأمر كما نذكر. |
الخبر عن ولاية الأمير أبي زكريا ممهد الدولة لآل أبي حفص بإفريقية
ورافع الراية لهم بالملك وأولية ذلك وبدايته لما قتل العادل بمراكش سنة أربع وعشرين وبويع المأمون بالأندلس بعث إلى أبي محمد عبد الله بتونس ليأخذ له البيعة على من بها من الموحدين. وكان المأمون قد فتح أمره بالخلاف ودعا لنفسه قبل موت أخيه العادل بأيام فامتنع أبو محمد ورد رسله إليه فكتب بذلك لأخيه الأمير أبي زكريا وهو بمكانه من ولاية قابس. وعقد له على إفريقية فأخذ له البيعة على من إليه وداخله في شأنها ابن مكي كبير المشيخة بقابس. واتصل ذلك بأبي محمد فخرج من تونس إليهم. ولما انتهى إلى القيروان نكر عليه الموحدون نهوضه إلى حرب أخيه وانتقضوا عليه وعزلوه. وطير بالخبر إلى أخيه في وفد منهم فألفوه معملا في اللحاق برخاب بن محمد وأعراب طرابلس فبايعوه ووصلوا به إلى معسكرهم. وخلع أبو محمد نفسه ثم ارتحل الأمير أبو زكريا إلى تونس فدخلها في رجب من سنة خمس وعشرين وأنزل أخاه أبا محمد بقصر ابن فاخر وتقبض على كاتبه أبي عمرو طرا من الأندلس. واستكتبه أبو محمد فغلب على هواه وكان يغريه بأخيه فبسط الأمير أبو زكريا عليه العذاب إلى أن هلك. ثم بعث أخاه أبا محمد في البحر إلى الخبر عن استبداد الأمير أبي زكريا بالأمر لبني عبد المؤمن لما اتصل به ما أتاه المأمون من قتل الموحدين بمراكش وخصوصاً هنتاتة وتينملل. وكان منهم أخواه أبو محمد عبد الله المخلوع وإبراهيم وأنه أشاع النكير على المهدي في العصمة وفي وضع العقائد والنداء للصلوات باللسان البربري وإحداث النداء للصبح وتربيع شكل الدرهم وغير ذلك من سننه. وأنه غير رسوم الدعوة وبذل أصول الدولة. وأسقط اسم الإمام من الخطبة والسكة وأعلن بلعنه. ووافق بلوغ الخبر بذلك وصول بعض العمال إلى تونس بتولية المأمون فصرفهم وأعلن بخلعه سنة ست وعشرين. وحول الدعوة إلى يحيى ابن أخيه الناصر المنتزي عليه بجبال الهساكرة. ثم اتصل به بعد ذلك عجز يحيى واستقلاله فأغفله واقتصر على ذكر الإمام المهدي وتلقب بالأمير ورسم علامته به في صدور مكتوباته. ثم جدد البيعة لنفسه سنة أربع وثلاثين وثبت ذكره في الخطبة بعد ذكر الإمام مقتصراً على لفظ الأمير لم يجاوزه إلى أمير المؤمنين. وخاض أولياء دولته في ذلك حتى رفع إليه بعض شعرائه في مفتتح كلمة مدحه بها: ألا صل بالأمير المؤمنينا فأنت بها أحق العالمينا فزحزحهم عن ذلك وأبى عنه ولم يزل على ذلك إلى آخر دولته. الخبر عن فتح بجاية وقسطنطينة لما استقل الأمير أبو زكريا بالأمر بتونس وخلع بني عبد المؤمن نهض إلى قسطنطينة سنة ست وعشرين فنزل بساحتها وحاصرها أياماً. ثم داخله ابن علناس في شأنها وأمكنه من غرتها فدخلها وتقبض على واليها السيد ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني بن يوسف العشري. وولى عليها ابن النعمان. ورحل إلى بجاية فافتتحها وتقبض على واليها السيد أبي عمران ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني وصيرهما معتقلين في البحر إلى المهدية. وأجريت عليهما هنالك الأرزاق وبعث بأهلهما وولدهما مع ابن أوماز إلى الأندلس فنزلوا بإشبيلية. وبعث معهما إلى المهدية في الاعتقال محمد بن جامع وابنه وابن أخيه جابر بن عون بن جامع من شيوخ مرداس عوف وابن أبى الشيخ بن عساكر من شيوخ الدواودة فاعتقلوا بمطبق المهدية وكان أخوه أبو عبد الله اللحياني صاحب أشغال بجاية فصار في جملته وولاه بعدها الولايات الجليلة وكان يستخلفه بتونس في مغيبه. وفي هذه السنة تقبض على وزيره ميمون بن موسى واستصفى أمواله وأشخصه إلى قابس فاعتقل بها مدة. ثم غربه إلى الإسكندرية واستوزر مكانه أبا يحيى بن أبي العلا بن جامع إلى أن هلك فاستوزر بعده أبا زيد ابن أخيه الآخر محمد إلى أن هلك. الخبر عن مهلك ابن غانية وحركة السلطان إلى بجاية وولاية ابنه الأمير أبي يحيي زكريا عليها لما استقل الأمير أبو زكريا بإفريقية وخلع طاعة بني عبد المؤمن صرف عزمه أولا إلى مدافعة يحيى بن غانية عن نواحي أعماله فكانت له في ذلك مقامات مذكورة وشرده عن جهات طرابلس والزاب وواركلا. واختط بواركلا المسجد لما نزلها في أتباعه وأنزل بالأطراف عساكره وعماله لمنعها دونه. ولم يزل ابن غانية وأتباعه من العرب من أفاريق سليم وهلال وغيرهم على حالهم من التشريد والجلاء إلى أن هلك سنة إحدى وثلاثين وستمائة وانقطع عقبه فانقطع ذكره ومحا الله آثار فتنته من الأرض. واستقام أمر الدولة ونبضت منها عروق الاستيلاء واتساع نطاق الملك. ونهضت عزائمه إلى تدويخ أرض المغرب فخرج من تونس سنة اثنتين وثلاثين يوم بلاد زناتة بالمغرب الأوسط. وأغذ السير إلى بجاية فتلوم بها. ثم ارتحل إلى الجزائر فافتتحها وولى عليها. ثم نهض منها إلى بلاد مغراوة فأطاعه بنو منديل بن عبد الرحمن. وجاهر بنو توجين بخلافه فنزل البطحاء وأوقع بهم. وتقبض على رئيسهم عبد القوي بن العباس فاعتقله وبعث به إلى تونس ودوخ المغرب الأوسط وقفل راجعاً إلى حضرته. وعقد مرجعه من المغرب لابنة الأمير أبي يحيى زكريا علي بجاية وأنزله بها. واستوزر له يحيى بن صالح بن إبراهيم الهنتاتي وجعل شواره لعبد الله بن أبي تهدى وجبايته لعبد الحق بن ياسين وكلهم من هنتاتة. وكتب إليه بوصيته مشتملة على جوامع الخلال في الدين والملك والسياسة يجب إثباتها لشرف مغزاها وغرابة معناها ويأتي نصها فيما بعد. كان لهوارة هؤلاء بإفريقية ظهور وعدد منذ عهد الفتح وكانت دولة العبيديين قد جرت عليهم بكلكلها لما كان منهم في فتنة أبي يزيد كما نذكره في أخبارهم. وبقي منهم فل بجبل أوراس وما بعده من بلاد إفريقية وبسائطها إلى أبة ومرماجنة وسبيبة وتبرسق. ولما انقرض ملك صنهاجة بالموحدين وتغلب الأعراب من هلال وسليم على سائر النواحي بإفريقية وكثروا ساكنها وتغلبوا عليهم أخذ هذا الفل بمذهب العرب وشعارهم وشارتهم في اللبوس والزي والظعون وسائر العوائد. وهجروا لغتهم العجمية إلى لغتهم ثم نسوها كأن لم تكن لهم شأن المغلوب في الاقتداء بغالبه. ثم كان لهم انحياش أول الدولة إلى الطاعة بغلب عبد المؤمن وقومه. فلما استبد الأمير أبو زكريا وانقلبت الدولة إلى بني أبي حفص ظهر منهم التياث في الطاعة وامتناع عن المغرم وأضرار بالسابلة فاعتمل السلطان في أمرهم. وخرج من تونس سنة ست وثلاثين مورياً بالغزو إلى أهل أوراس وبعث في احتشادهم فتوافدوا في معسكره. ثم صبحهم في عسكره من الموحدين والعرب ففتك بهم قتلا وسبياً واكتسح أموالهم وقتل كبيرهم أبو الطيب بعرة ابن حناش وأفلت من أفلت منهم ناجياً بنفسه عارياً من كسبه فألانت هذه البطشة من حدهم وخضدت من شوكتهم واستقاموا على الطاعة بعد. الخبر عن ثورة الهرغي بطرابلس ومآل أمره كان هذا الرجل من مشيخة الموحدين وهو يعقوب بن يوسف بن محمد الهرغي ويكنى بأبي عبد الرحمن وكان الأمير أبو زكرياء وقد عقد له على طرابلس وجهاتها وسرح معه عسكراً من الموحدين لحمايتها من أعراب دباب من بني سليم فقام بأمرها واضطلع بجباية رعاياها. واستخدم العرب والبربر الذين بساحتها وكان بينه وبين الجوهري مصدوقة ود. فلما قتل الجوهري سنة تسع وثلاثين كما قدمناه استوحش لها يعقوب الهرغي واستقدمه السلطان فتلكأ وبعث عنه أخاه ابن أبي يعقوب فازداد نفاره وحدثته نفسه بالاستبداد لما كان أثرى من الجباية وشعر لها أهل البلد. فانطلقوا وهم يتخافون أن يعاجلوه قبل مداخلته العرب في أمره فتقبضوا عليه وعلى أخيه وعلى أتباعهما ليلة أجمعوا الثورة في صباحها. وطيروا بالخبر إلى الحضرة فنفذ الأمر بقتلهم فقتلوا وبعث برؤوسهم إلى باب السلطان ونصبت أشلاؤهم بأسوار طرابلس وأصبحوا عبرة للمعتبرين وأنشد الشعراء في التهنية بهم وقامت للبشائر سوق لكائنتهم. وكان ممن قتل معه محمد ابن قاضي القضاة بمراكش أبي عمران بن عمران. وصل علقا إلى تونس وقصد طرابلس فاتصل بهذا الهرغي ونمى عنه أنه أنشأ خطبة ليوم البيعة فكانت سائقة حتفه. وكان بالمهدية رجل من الدعاة يعرف بأبي حمراء اشتهر بالنجدة في غزو البحر وقدم على الأسطول فردد الغزو حتى هابه الغزى من أمم الكفر وأمنت سواحل المسلمين من طروقهم. وطار له فيها ذكر ونمي أنه كان مداخلاً للجواهري والهرغي وأن القاضي بالمهدية أبا زكرياء البرقي اطلع على دسيستهم في ذلك فنفذ الأمر السلطاني للوالي بها أبي علي بن أبي موسى بن أبي حفص بقتل ابن أبي الأحمر وإشخاص القاضي إلى الحضرة معتقلاً فأمضى عهده. ولما وصل البرقي إلى تونس فحص السلطان عن شأنه فبرئ من مداخلتهم فسرحه وأعاده إلى بلده. وقتل بالحضرة رجل آخر من الجند اتهم بمداخلتهم وسعايته في قيامهم وكان له تعلق برحاب بن محمود أمير دباب فأوعز السلطان إلى بعض الدعار من زناتة فقتله غيلة ثم أهدر دمه. وتتبع أهل هذه الخائنة بالقتل حتى حسم الداء ومحا شوائب الفتنة. الخبر عن بيعة بلنسية ومرسية وأهل شرق الأندلس ووفدهم لما استقل أبو جميل زيان بن أبي الحملات مدافع بن أبي الحجاج بن سعد ابن مردنيش بملك بلنسية وغلب عليها السيد أبا زيد ابن السيد أبي حفص وذلك عند خمود ريح بني عبد المؤمن بالأندلس وخروج ابن هود على المأمون ثم فتنته هو مع ابن هود وثورة ابن الأحمر بأرجونة واضطراب الأندلس بالفتنة. وأسف الطاغية إلى ثغور الأندلس من كل جانب. وزحف ملك أرغون إلى بلنسية فحاصرها وكانت للعدو سنة ثلاث وثلاثين سبع محلات لحصار المسلمين: اثنتان منها على بلنسية وجزيرة شقر وشاطبة. ومحلة بجيان ومحلة بطبيرة ومحلة بمرسية ومحلة بلبلة وأهل جنوة من وراء ذلك على سبتة. ثم تملك طاغية قشتالة مدينة قرطبة وظفر طاغية أرغون بالكثير من حصون بلنسية والجزيرة وبنى حصن أنيشة لحصار بلنسية. وأنزل بها عسكره وانصرف فاعتزم زيان بن مردنيش على غزو من بقي بها من عسكره واستنفر أهل شاطبة وشقر وزحف إليهم فانكشف المسلمون وأصيب كثير منهم. واستشهد أبو الربيع بن سالم شيخ المحدثين بالأندلس وكان يوماً عظيماً وعنواناً على أخذ بلنسية ظاهراً. ثم ترعدت عليها سرايا العدو. ثم زحف إليها طاغية أرغون في رمضان سنة خمس وثلاثين فحاصرها واستبلغ في نكايتها. وكان بنو عبد المؤمن بمراكش قد فشل ريحهم وظهر أمر بني أبي حفص بأفريقية فأمل ابن مردنيش وأهل شرق الأندلس الأمير أبا زكرياء للكرة وبعثوا إليه بيعتهم وأوفد عليه ابن مردنيش كاتبه الفقيه أبا عبد الله بن الأبار صريخاً فوفد وأدى بيعتهم في يوم مشهود بالحضرة وأنشد يستصرخه فيها للمسلمين وهي هذه: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها درسا لها من عزيز النصر ما التمست فلم يزل منك عز النصر ملتمسا عاش مما تعانيه حشاشتها فطالما ذاقت البلوى صباح مسا كل شارقة إلمام بائقة يعود مأتمها عند العدى عرسا وكل غاربة أجحاف نائبة تثني الأمان حذاراً والسرور أسا قاسم الروم لا نالت مقاسمهم إلا عقائلها المحجوبة الأنسا وفي بلنسية منها وقرطبة ما يذهب النفس أو ما ينزف النفسا مدائن حلها الأشراك مبتسماً جذلان وارتحل الإيمان منبئسا وصيرتها العوادي عائثات بها يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا ما للمساجد عادت للعدى بيعاً وللنداء يرى أثناءها جرسا لهفاً عليها إلى استرجاع فائتها مدارساً للمثاني أصبحت درسا وأربعاً غنمت أيدي الربيع بها ما شئت خلع من موشية وكسا كانت حدائق للأحداق مونقة فصوخ النضر من أدواحها وعسا وحال ما حولها من منظر عجب يستوقف الركب أو يستركب الجلسا سرعان ما عاث جيش الكفر واحرباً عيث الدبا في مغانيها التي كبسا ورج أرجاءها لما أحاط بها فغادر الشم من أعلامها خنسا خلا له الجو وامتدت يداه إلى إدراك ما لم تنل رجلاه مختلسا وأكثر الزعم بالتثليث منفرداً ولو رأى راية التوحيد ما نبسا صل حبلها أيها المولى الرحيم فما أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا وأحي ما طمست منها العداة كما أحييت من دعوة المهدي ما طمسا أيام صرت لنضر الحق مستبقاً وبت من نور ذاك الهدي مقتبسا وقمت فيها لأمر الله منتصراً كالصارم اهتز أو كالعارض انبجسا تمحو الذي كتب التجسيم من ظلم والصبح ماحية أنواره الغلسا هذي رسائلها تدعوك من كتب وأنت أفضل مرجو لمن يئسا وافتك جارية بالنخح راجية منك الأمير الرضي والسيد الندسا خاضت خضارة يعلوها ويخفضها عبابه فتعاني اللين والشرسا وربما سبحت والريح عاتية كما طلبت بأقصى شدة الفرسا مؤيد لو رمى نجماً لأثبته ولو دعا أفقاً لبى وما احتبسا إمارة تحمل المقدار رأيتها ودولة عزها يستصحب القعسا يبدي النهار بها من ضوئه شنبا ويطلع الليل من ظلمائه لعسا كأنه البدر والعلياء حالته تحف من حوله شهب القنا حرسا له الثرى والثريا خطتان فلا أعز من خطتيه ما سما ورسا يا أيها الملك المنصور أنت لها علياء توسع أعداء الهدى تعسا وقد تواترت الأنباء إنك من يحيى بقتل ملوك الصفر أندلسا طهر بلادك منهم إنهم نجس ولا طهارة ما لم تغسل النجسا وأوطئ الفيلق الجرار أرضهم حتى يطأطئ رأس كل من رأسا وانصر عبيداً بأقصى شرقها شرقت عيونهم أدمعا تهمي زكاً وخسا هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت داء متى لم تباشر حسمه انتكسا أملأ هنيئاً لك التمكين ساحتها جرداً سلاهب أو خطية دعسا وكانت قيمة ذلك مائة ألف دينار. وجاءهم الأسطول بالممد وهم في هذا الحصار فنزل بمرسى دانية واستفرغ الممد بها ورجع بالناض إذا لم يخلص إليه من قبل ابن مردنيش من يتسلمه. واشتد الحصار على أهل بلنسية وعدمت الأقوات وكثر الهلاك من الجوع فوقعت المراوضة على إسلام البلد فتسلمها جاقمة ملك أركون في صفر سنة ست وثلاثين وخرج عنها ابن مردنيش إلى جزيرة شقر فأخذ البيعة على أهلها للأمير أبي زكريا. ورجع ابن الأبار إلى تونس فنزل على السلطان وصار في جملته وألح العدو على حصار ابن مردنيش بجزيرة شقر وأزعجه عنها إلى دانية فدخلها في رجب من سنته وأخذ عليهم البيعة للأمير أبي زكرياء. ثم داخل أهل مرسية وقد كان بويع بها أبو بكر عزيز بن عبد الملك بن خطاب في مفتتح السنة فافتتحها عليه في رمضان من سنته وقتله وبعث ببيعتهم إلى الأمير أبي زكرياء. وانتظمت البلاد الشرقية في طاعته وانقلب وفد ابن مردنيش إليه من تونس بولايته على عمله سنة سبع وثلاثين ولم يزل بها إلى أن غلبه ابن هود على مرسية وخرج عنها إلى لقنت الحصون سنة ثمان وثلاثين إلى أن أخذها طاغية برشلونة من يده سنة أربع وأربعين وأجاز إلى تونس والبقاء لله. الخبر عن المجوسي وأوليته ومآل أمره اسم هذا الرجل: محمد بن محمد الجوهري وكان مشتهراً بخدمة ابن أكمازير الهنتاتي والي سبتة وغمارة من أعمال المغرب. وكان حسن الضبط مترامياً إلى الرياسة. ولما ورد على تونس وتعلق بأعمال السلطان نظر فيما يزلفه ويرفع من شأنه فوجد جباية أهل الخيام بأفريقية من البرابرة الموطنين مع الأعراب غير منضبطة ولا محصلة في ديوان فنبه على أنها مأكلة للعمال ونهبة للولاة فدفع إليها فأنمى جبايتها وقرر ديوانها وصارت عملاً منفرداً يسمى عمل العمود وطار له بذلك بين العمال ذكر جذب له السلطان أبو زكرياء بضبعه وعول على نصيحته وأثره باختصاصه. ووافق ذلك موت أبي الربيع الكنفيتي المعروف بابن الغريغر صاحب الأشغال بالحضرة فاستعمل مكانه وكان لا يلي ذلك الخطة إلا كبير من مشيخة الموحدين فرشحه السلطان لها لكفايته وعنائه فظفر منها بحاجة نفسه واعتدها ذريعة إلى أمنيته فاتخذ شارة أرباب السيوف وارتبط الخيل واتخذ الآلة في حروبه مع أهل البادية إذا احتاج إليها. وأسف أثناء ذلك أبا علي بن النعمان وأبا عبيد الله بن أبي الحسن بعدم الخضوع لهما فنصبا له وأغريا به السلطان وحفراه غائلة عصيانه. وكان فيه إقدام أوجد به السبيل على نفسه ويحكى أن السلطان استشاره ذات يوم في تقويم بعض أهل الخلاف والعصيان فقال له: عندي ببابك ألف من الجنود أرم بها من تشاء من أمثالهم فأعرض عنه السلطان واعتدها عليه. وجعلها مصداقاً لما نمي عنه. ولما قدم عنه عبد الحق بن يوسف بن ياسين على الأشغال ببجاية مع زكرياء ابن السلطان أظهر له الجوهري أن ذلك بسعايته وعهد إليه بالوقوف عند أمره والعمل بكتابه فألقى عبد الحق ذلك إلى الأمير أبي زكرياء فقام لها وقعد وأنف من استبداد الجوهري عليه. ولم تزل هذه وأمثالها تعد عليه حتى حق عليه القول فسطا به الأمير أبو زكرياء وتقبض عليه سنة تسع وثمانين ووكل امتحانه إلى أعدائه ابن برعان والندرومي فتجلد على العذاب وأصبح في بعض أيامه ميتاً بمحبسه. ويقال خنق نفسه وألقي شلوه بقارعة الطريق فتفنن أهل الشمات في العيث به وإلى الله المصير. الخبر عن فتح تلمسان ودخول بني عبد الواد في الدعوة الحفصية كان الأمير أبو زكرياء منذ استقل بأمر أفريقية واقتطعها عن بني عبد المؤمن كما ذكرناه متطاولاً إلى ملك الحضرة بمراكش والاستيلاء على كرسي الدعوة. وكان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتم له ما يسمو إليه من ذلك فكان يداخل أمراء زناتة فيه ويرغبهم ويراسلهم بذلك على الأحياء من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة. وكان يغمراسن منذ تقلد طاعة آل عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزاً إليهم سلماً لوليهم وحرباً على عدوهم. وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البر والخلوص وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة وعاوده الإتحاف بأنواع الألطاف والهدايا تغمناً لمسراته وميلاً إليه عن جانب أقتاله بني مرين المجلبين على المغرب والدولة فاستكبر السلطان أبو زكرياء اتصال الرشيد هذا بيغمراسن وآله وهم جواره بالمحل القريب. وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي أمير بني توجين وبعض ولد منديل بن عبد الرحمن أمراء مغراوة صريخاً على يغمراسن فسهلوا له أمره وسولوا له الاستبداد على تلمسان. وجمع كلمة زناتة وإعداد ذلك ركاباً لما يرومه من امتطاء ملك الموحدين بمراكش وانتظامه في أمره وسلماً لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه وباباً لولوج المغرب على أهله فحركه أملاؤهم وهزه إلى النعرة صريخهم وأهاب بالموحدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان. واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في طاعته من بني سليم ورياح بظعنهم فأهطلوا لداعيه. ونهض سنة تسع وثلاثين في عساكر ضخمة وجيوش وافرة. وسرح إمام حركته عبد القوي بن العباس وأولاد منديل بن محمد لحشد من بأوطانهم من أحياء زناتة وذؤبان قبائلهم وأحياء زغبة أحلافهم فى العرب. وضرب معهم موعداً لموافاتهم في تخوم بلادهم. ولما نزل صحراء زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح وبني سليم من المغرب تثاقل العرب عن الرحلة بظعنهم في ركاب السلطان وتلووا بالمعاذير فألطف الأمير أبو زكرياء الحيلة. زعموا في استنهاضهم وتنبيه عزائمهم فارتحلوا معه حتى نازل تلمسان بجميع عساكر الموحدين وحشود زناتة وظعن العرب بعد أن كان قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة بالأعذار والدعاء إلى الطاعة فرجعهم بالخيبة. ولما حلت عساكر الموحدين بساحة البلد وبرز يغمراسن وجموعه للقاء بصحبتهم ناشئة السلطان بالنبل فانكشفوا ولاذوا بالجدران وعجزوا عن حماية الأسوار فاستمكنت المقاتلة من الصعود. ورأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتقاً في ذويه وخاصته. واعترضه عساكر الموحدين فصمم نحوهم وجندل بعض أبطالهم فأفرجوا له ولحقوا بالصحراء ونسلت الجيوش إلى البلد من كل حدب فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان واكتساح الأموال. ولما تجلى غشي تلك الهيعة وحسر تيار الصدمة وخمدت نار الحرب راجع الموحدون بصائرهم وأنعم الأمير أبو زكرياء نظره فيمن يقلده أمر تلمسان والمغرب الأوسط وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة بني عبد المؤمن والمدافعة عنها. واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبرأ أمراء زناتة ضعفاً عن مقاومة يغمراسن علماً بأنه الفحل الذي لا يقرع أنفه ولا يطرق غيله ولا يصد عن فريسته. وسرح يغمراسن الغارات في نواحي المعسكر فاختطف الناس من حوله واطلعوا من المراقب عليه. ثم بعث وفده متطارحين على السلطان في الملامة والاتفاق واتصال اليد على صاحب مراكش طالب الوتر في تلمسان وأفريقية. وأن يفرده بالدعوة الموحدية فأجابه إلى ذلك. ووفدت أمه سوط النساء للاشتراط والقبول فأكرم موصلها وأسنى جائزتها وأحسن وفادتها ومنقلبها وسوغ ليغمراسن في شرطه بعض الأعمال بأفريقية وأطلق أيدي عماله على جبايته وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله. وفي أثناء طريقه وسوس إليه الموحدون باستبداد يغمراسن وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة وأمراء المغرب الأوسط شجى في صدره ومعترضاً عن مرامه وإلباسهم ما لبس من شارة السلطان وزيه فأجابهم وقلد كلا من عبد القوي بن عطية التوجيني والعباس بن منديل المغراوي ومنصور المليكشي أمر قومه ووطنه وعهد إليهم بذلك وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم فاتخذوه بحضرته وبمشهد من ملأ الموحدين. وأقاموا مراسمها ببابه. وأغذ السير إلى تونس قرير العين بامتداد ملكه وبلوغ وطره والإشراف على إذعان المغرب لطاعته وانقياده لحكمه وإدالة دعوة بني عبد المؤمن فيه بدعوته فدخل الحضرة واقتعد أريكته وأنشده الشعراء في الفتح وأسنى جوائزهم وتطاولت إليه أعناق الآفاق كما نذكره. الخبر عن دخول أهل الأندلس في الدعوة الحفصية ووصول بيعة إشبيلة وكثير من أمصارها كان بإشبيلية أبو مروان أحمد الباجي من أعقاب أبي الوليد وأبو عمرو بن الجد من أعقاب الحافظ أبي بكر الطائر الذكر ورثا التجلة عن جدهما وأجراهما الخلفاء على سننهم. وكانا مسمتين وقورين متبوعين من أهل بلدهما مطاعين في أفقهما. وكان السادة من بني عبد المؤمن يعولون على شوراهما في مصرهما. وكان بعدوة الأندلس التياث في الملك منذ وفاة المستنصر وانتزى بها السادة وافترقوا. وثار بشرق الأندلس ابن هود وزيان بن مردنيش وبغربها ابن الأحمر. وغلب ابن هود الموحدين وأخرجهم عنها. وملك ابن هود إشبيلية سنة ست وعشرين واعتقل من كان بها من الموحدين. ثم انتقضوا عليه سنة تسع بعدها وأخرجوا أخاه أبا النجاة سالماً وبايعوا الباجي وتسمى بالمعتضد واستوزر أبا بكر بن صاحب الرد ودخلت في بيعته قرمونة وحاصره ابن هود فوصل الباجي يده بمحمد بن الأحمر الثائر بأرجونة وجيان بعد أن ملك قرطبة. وزحف ابن هود إليهم فلقوه وهزموه ورجعوا ظافرين فدخل الباجي إلى إشبيلة وعسكر بخارجها ثم انتهز فرصته في إشبيلية وبعث قريبه ابن أشقيلولة مع أهل أرجونة والنصارى إلى فسطاط الباجي فتقبضوا عليه وعلى وزيره وقتلوهما سنة إحدى وثلاثين. ودخل ابن الأحمر إشبيلية ولشهر من دخوله إليها ثار عليه أهلها ورجعوا إلى طاعة ابن هود وولى عليهم أخاه أبا النجاة سالماً. ولما هلك محمد بن هود سنة خمس وثلاثين صرف أهل إشبيلية طاعتهم إلى الرشيد بمراكش وولوا على أنفسهم محمد بن السيد أبي عمران الذي قدمنا أنه كان والياً بقسطنطينة وأن الأمير أبا زكرياء غلبه عليها واعتقله وبعث ولده إلى الأندلس فربي محمد هذا في كفالة أمه بإشبيلية. ولما سار أهل إشبيلية للرشيد قدموه على أنفسهم وتولى كبر ذلك أبو عمرو بن الجد وبعثوا وفدهم إلى الحضرة فأقر السيد أبا عبد الله على ولايتهم. واستمرت في دعوة الرشيد إلى أن هلك سنة أربعين. وقد ملك الأمير أبو زكرياء تلمسان وأشرف على أعمال المغرب فاقتدوا بمن تقدم إلى بيعته من أهل شرق الأندلس ببلنسية ومرسية وبايعوا للأمير أبي زكرياء بن أبي محمد بن أبي حفص واقتدى بهم أهل شريش وطريف وبعثوا إليه وفدهم ببيعته سنة إحدى وأربعين. وسألوا منه ولاية بعض أهل قرابته فولى عليهم أبا فارس ابن عمه يونس ابن الشيخ أبي حفص فقدم إشبيلية وقام بأمرها وسلم له ابن الجد في نقضها وإبرامها. ثم انتقض عليه سنة ثلاث وأربعين وطرده من البلد إلى سبتة واستبد بأمر إشبيلية ووصل يده بالطاغية. وعقد له السلم وضرب على أيدي أهل المغاورة من الجند وأسقطهم من ديوانه فقتلوه بإملاء قائدهم شفاف واستقل بأمر إشبيلية. ورجع أبا فارس بن أبي حفص وولاه بدعوة الأمير أبي زكرياء فسخطهم الطاغية لذلك وانتقض عليهم وملك قرمونة ومرشانة. ثم زحف إلى حصرهم وسألوه الصلح فامتنع. وصار أمر البلد شورى بين القائد شفاف وابن شعيب ويحيى بن خلدون ومسعود بن خيار وأبي بكر بن شريح ويرجعون في أمرهم آخراً إلى الشيخ أبي فارس بن أبي حفص. وأقاموا في هذا الحصار سنتين ونازلهم ابن الأحمر في جملة الطاغية وبعث إليهم الأمير أبو زكرياء المدد وجهز له الأسطول لنظر أبي الربيع بن الغريغر التينمللي. وأوعز له إلى سبتة بتجهيز أسطولهم معه فوصل إلى وادي إشبيلية وغلبهم أسطول الطاغية على مرسية فرجع. واستولى العدو عليها صلحاً سنة ست وأربعين بعد أن أعانهم ابن الأحمر بمدده وميرته. وقدم الطاغية على أهل الدخن بها عبد الحق بن أبي محمد البياسي من آل عبد المؤمن والأمر لله. |
الخبر عن بيعة أهل سبتة وطنجة وقصر ابن عبد الكريم
وتصاريف أحوالهم ومآل أمرهم كان أهل سبتة بعد إقلاع المأمون عنهم ونزول أخيه موسى عنها لابن هود قد انتقضوا وأخرجوا عنهم القشتيني والي ابن هود وقدموا عليهم أحمد الينشتي وتسمى بالموفق. ثم رجعوا إلى طاعة الرشيد عندما بايعه أهل إشبيلية سنة خمس وثلاثين. وتقبضوا على الينشتي وابنه وأدخلوا السيد أبا العباس ابن السيد أبي سعيد كان والياً بغمراة فولوه عليهم. ثم عقد الرشيد على ديوان سبتة لأبي علي بن خلاص كان من أهل بلنسية واتصل بخدمة الرشيد فجلى فيها ودفعه إلى الأعمال فضبطها فولاه سبتة فاستقل بها. وولى على طنجة يوسف ابن الأمير قائداً على الرحل الأندلسي وضابطاً لقصبتها. حتى إذا هلك الرشيد سنة أربعين وقد استفحل أمر الأمير أبي زكرياء بأفريقية واستولى على تلمسان وبايعه الكثير من أمصار الأندلس فصرف ابن خلاص وجهه إليه. وكان قد اقتنى الأموال واصطنع الرجال فدخل في دعوته وبعث الوفد ببيعته. واقتدى به في ذلك أهل قصر ابن عبد الكريم فبعثوا بيعتهم للأمير أبي زكريا. وعقد لابن خلاص على سبتة وما إليها فبعث بالهدية إليه في أسطول أنشأه لذلك سماه الميمون وأركب ابنه أبا القاسم فيه وافداً على السلطان ومعه الأديب إبراهيم بن سهل فعطب عند إقلاعه. ولما رجع الأسطول من إشبيلية كما قدمناه على بقية هذا العطب وحزن أبي علي بن خلاص على ابنه رغب من قائده أبي الربيع بن الغريغر أن يحمله بجملته إلى الحضرة فانتقل بأهله واحتمل زخيرته. ولما مر الأسطول بمرسى وهران نزل بساحلها فأراح وأحضر له تين فأكله فأصابه مغص في معاه هلك منه فجاءة سنة ست وأربعين. وعقد السلطان على سبتة لأبي يحيى بن زكريا ابن عمه أبي يحيى الشهيد ابن الشيخ أبي حفص. وبعث معه على الجباية أبا عمر بن أبي خالد الإشبيلي كان صديقاً لشفاف وعدواً لابن الجد. ولما قتل شفاف لحق بالحضرة فولاه الأمير أبو زكرياء الخبر عن بيعة المرية لما هلك محمد بن هود بالمرية سنة خمس وثلاثين كما ذكرناه واسبتد وزيره أبو عبد الله محمد بن الرميمي بها وضبها لنفسه وضايقه ابن الأحمر فبعث ببيعته سنة أربعين إلى الأمير أبي زكرياء حين أخذ أهل شرق الأندلس بطاعته. ولم يزل ابن الأحمر يحاصره إلى أن تغلب عليه سنة ثلاث وأربعين كما ذكرناه في أخباره. وخرج منها إلى سبتة بأهله وذخيرته وأحله أبو علي بن خلاص محل البر والتكرمة وأنزله خارج المدينة في بساتين بنيونش وأجمع الثورة بأبي خلاص فنذر به وتغير له. قلما رجع الأسطول من إشبيلية ركبه الرميمي ولحق بتونس فنزل على الأمير أبي زكرياء وحل من حضرته محل التكرمة. واستوطن تونس وتملك بها الضياع والقرى وشيد القصور إلى أن هلك والبقاء لله وحده. الخبر عن بيعة ابن الأحمر كان محمد بن الأحمر قد انتزى على ابن هود ببلده أرجونة وتملك جيان وقرطبة وإشبيلية وغرب الأندلس وطالت فتنته مع ابن هود وراجع طاعته. ثم انتقض عليه وبايع للرشيد سنة ست وثلاثين عندما بايعه أهل إشبيلية وسبته فلم يزلا على ذلك إلى أن هلك الرشيد على حين استفحال ملك الأمير أبي زكرياء بإفريقية وتأميله للنصرة والكرة فحول ابن الأحمر إليه الدعوة وأوفد بها أبا بكر بن عياش من مشيخة مالقة فرجعهم الأمير أبو زكرياء بالأموال للنفقات الجهادية. ولم يزل يواصلها لهم من بعد ذلك إلى أن هلك سنة سبع وأربعين فأطلق ابن الأحمر نفسه من عقال الطاعة واستبد بسلطانه. الخبر عن بيعة سجلماسة وانتقاضها كان عبد الله بن زكريا الهزرجي من مشيخة الموحدين والياً بسلجماسة لبني عبد المؤمن. ولما هلك الرشيد وبويع أخوه السعيد سنة أربعين ونميت إليه عن الهزرجي عظيمة من القول خشن بها صدره وبعث إليه مستعتباً فلم يعتبه. ومزق كتابه فخشيه الهزرجي على نفسه واتصل به ما كان من استيلاء الأمير أبي زكرياء على تلمسان ونواحيها فخاطبه بطاعته وأوفد عليه بيعته فعقد له الأمير أبو زكرياء على سجلماسة وأنحائها وفوض إليه في أمرها ووعده بالمدد من المال والعسكر لحمايتها. وخطب له عبد الله بسجلماسة وفر إليه من مراكش أبو زيد الكدميوي بن واكاك وأبو سعيد العود: الرطب فلحق بتونس. وأقام أبو زيد معه بسجلماسة. وزحف إليه السعيد سنة إحدى وأربعين وقيل سنة أربعين ومن معسكره كان مفر أولئك المشيخة. وخاطب السعيد أهل سجلماسة وداخلهم أبو زيد الكدميوي فغدروا بالهزرجي وثاروا به فخرج من سجلماسة وأسلمها وقام بأمرها أبو زيد الكدميوي. وطير بالخبر إلى السعيد فشكر له فعلته وغفر له سالفته. وتقبض على عبد الله الهزرجي بعض الأعراب وأمكن منه السعيد فقتله وبعث برأسه إلى سجلماسة فنصب بها ورجع من طريقه إلى مراكش وأقامت سجلماسة على دعوة عبد المؤمن إلى أن كان من خبرها ما نذكره في موضعه. الخبر في بيعة مكناسة وما تقدمها من طاعة بني مرين كان بين بني عبد الواد وبين بني مرين منذ أوليتهم وتقلبهم في القفار فتن وحروب ولكل منهما أحلاف في المناصرة وأشياع. فلما التاثت دولة بني عبد المؤمن غلب كل منهما على موطنه وكانت السابقة في ذلك لبني عبد الواد لبعدهم عن حضرة مراكش حيث محشر العساكر ويعسوب القبائل. ولما استبد الأمير أبو زكرياء بأمر إفريقية ودوخ المغرب الأوسط وافتتح تلمسان وأطاعه بنو عبد الواد حذر بنو مرين حينئذ غائلتهم. وخافوا أن يظاهرهم الأمير أبو زكرياء عليهم فألانوا له في القول ولاطفوه على البعد بالطاعة وخاطبوه بالتمويل وأوجبوا له حق الخلافة ووعدوه أن يكونوا أنصاراً لدعوته وأعواناً في أمره ومقدمة في عسكره إلى مراكش وزحفه. وحملوا من تحت أيديهم من قبائل المغرب وأمصاره على طاعتهم والاعتصام ببيعتهم ولم تزل المخاطبات بينهم وفي الأمير أبي زكرياء في ذلك من أميرهم عثمان بن عبد الحق وأخيه محمد من بعده. ورسلهم تفد عليه بذلك مرة بعد أخرى إلى أن هلك الرشيد. وقد استولى الأمير أبو زكرياء على تلمسان ودخل في دعوته قبائل زناتة بالمغرب الأوسط واستشرف أهل الأمصار من العدوتين إلى إيالته. وكان أهل مكناسة قد اعتصموا بوصلة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق وجاءهم وال من مراكش وأساء فيهم السيرة فتوثبوا به وقتلوه. وبعثوا إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق فحملهم على بيعة الأمير أبي زكرياء فأنفذوها من إنشاء قاضيهم أبي المطرف بن عميرة سنة ثلاث وأربعين. وضمن أبو يحيى بن عبد الحق حمايتهم خلال ما يأتيهم أمر السلطان من تونس ومدده. وبلغ الخبر إلى السعيد فأرهف حده واعتزم على النهوض إليهم فخامهم الرعب وراجعوا طاعته وأوفدوا صلحاءهم وعلماءهم في الإقالة واغتفار الجريرة فتقبل ذلك إلى أن كان من حركته بعد ذلك ومهلكه ما هو معروف. الخبر عن مهلك الأمير أبي يحيي زكرياء ولي العهد بمكان إمارته من بجاية وتصيير العهد إلى أخيه محمد كان الأمير أبو زكرياء قد عقد لابنه أبي يحيى زكرياء على ثغر بجاية قاعدة ملك بني حماد وجعل إليه النظر في سائر أعمالها من الجزائر وقسطنطينة وبونة والزاب سنة ثلاث وثلاثين كما ذكرناه فاستقل بذلك وكان بمكان من الترشيح للخلاف بنفسه وجلاله وانتظامه في سلك أهل العلم والدين وإيناس العدل. فولاه الأمير أبو زكرياء عهده سنة ثمان وثلاثين وأحضر الملأ لذلك وأشهدهم في كتابه وأوعز بذكره في الخطبة على المنابر مع ذكره. وكتب إليه بالوصية التي تداولها الناس من كلامه ونصها: اعلم سددك الله وأرشدك وهداك لما يرضيه وأسعدك وجعلك محمود السيرة مأمون السريرة. إن أول ما يجب على من استرعاه الله في خلقه وجعله مسؤولا عن رعيته في جل أمرهم ودقه أن يقدم رضى الله عز وجل في كل أمر يحاوله وأن يكل أمره وحوله وقوته لله ويكون عمله وسعيه وذبه عن المسلمين وحربه وجهاده للمؤمنين بعد التوكل عليه والبراءة من الحول والقوة إليه. ومتى فاجأك أمر مقلق أو ورد عليك نبأ مرهق فريض لبك وسكن جأشك وارع عواقب أمر تأتيه وحاوله قبل أن ترد عليه وتغشيه. ولا تقدم إقدام الجاهل ولا تحجم إحجام الأخرق المتكاسل. واعلم أن الأمر إذا ضاق مجاله وقصر عن مقاومته رجاله فمفتاحه الصبر والحزامة والأخذ مع عقلاء الجيش ورؤسائهم وفي التجارب من نبهائهم. ثم الإقدام عليه والتوكل على الله فيما لديه والإحسان لكبير جيشك وصغيره الكثير على قدره والصغير على قدره. ولا تلحق الحقير بالكبير فتجري الحقير على نفسك وتغلطه في نفسه وتفسد نية الكبير وتؤثره عليك فيكون إحسانك إليه مفسدة في كلا الوجهين ويضيع إحسانك وتشتت نفوس من معك. واتخذ كبيرهم أباً وصغيرهم ابناً وأخفض لهم جناح الذل من الرحمة وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين. واتخذ نفسك صغيرة وذاتك حقيرة وحقر أمورك ولا تستمع أقوال الغالطين المغلطين بأنك أعظم الناس قدراً وأكثرهم بذلا وأحسنهم سيرة وأجملهم صبراً فذاك غرور وبهتان وزور. واعلم أن من تواضع لله رفعه الله. وعليك بتفقد أحوال رعيتك والبحث عن عمالهم والسؤال عن سير قضاتهم فيهم ولا تنم عن مصالحهم ولا تسامح أحداً فيهم. ومهما دعيت لكشف ملمة فاكشفها عنهم ولا تراع فيهم كبيراً ولا صغيراً إذا عدل عن الحق. ولا تراع في فاجر ولا متصرف إلا ولا ذمة ولا تقتصر على شخص واحد في مسائل الرعية والمتظلمين. ولا تقف عند مراده في أحوالهم. واتخذ لنفسك ثقاة صادقين مصدقين لهم في جانب الله أوفر نصيب وفي رفع مسائل خلقه إليك أسرع مجيب. وليكن سؤالك لهم أفذاذ فإنك متى اقتصرت على شخص واحد في نقله ونصحه حمله الهوى على الميل ودعته الحمية إلى تجنب الحق وترك قول الصدق. وإذا رفع إليك أحد مظلمة وأنت على طريق فادعه إليك وسله حتى يوضح قصته لك. وجاوبه جواب مشفق مصغ إلى قوله مصيخ إلى نازلته ونقله ففي إصاختك له وحنوك عليه أكبر تأنيس واعلم أن دماء المسلمين وأموالهم حرام على كل مؤمن بالله واليوم الآخر إلا في حق أوجبه الكتاب والسنة وعضدته أقاويل الشرعية والحجة أو في مفسد عائث في طرقات المسلمين وأموالهم جار على غيه في فساد صلاحهم وأحوالهم فليس إلا السيف فإن أثره عفاء ووقعه لداء الأدمغة الفاسدة دواء ولا تقل عثرة حسود على النعم عاجز عن السعي فإن إقالته تحمله على القول والقول يحمله على الفعل ووبال عمله عائد عليك. فاحسم داءه قبل انتشاره وتدارك أمره قبل إظهاره واجعل الموت نصب عينيك ولا تغتر بالدنيا وإن كانت في يديك. لا تنقلب إلى ربك إلا بما قدمته من عمل صالح ومتجر في مرضاته رابح. واعلم أن الإيثار أربح المكاسب وأنجح المطالب والقناعة مال لا ينفد. وقد قال بعض المفسرين في قوله عز من قائل: " وتركنا عليه في الآخرين " إنه النبأ الحسن في الدنيا على ما خلد فيها من الأعمال المشكورة والفعلات الصالحة المذكورة. فليكفك من دنياك ثوب تلبسه وفرس تذب به عن عباده. وأرجو بك متى جعلت وصيتي هذه نصب عينيك لم تعدم من ربك فتحاً ييسره على يديك وتأييداً ملازماً لا يبرح عنك إلا إليك بمن الله وحوله وطوله. والله يجعلك ممن سمع فوعى ولبى داعي الرشد إذا دعا إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل. تمت الوصية المباركة فعظم ترشيح الأمير أبي يحيى لذلك وعلا في الدولة كعبه وقوي عند الكافة تأميله وهو بحالة من النظر في العلم والجنوح للدين إلى أن هلك سنة ست وأربعين فأسى له السلطان واحتفل الشعراء في ريائه وتأبينه فكانوا يثيرون بذلك شجو السلطان ويبعثون حزنه وعقد العهد من بعده لأخيه الأمير أبي عبد الله محمد بحضور الملأ وإيداع الخاصة كتابهم بذلك في السجل إلى أن كان من خلافته ما نذكره بعد. الخبر عن مهلك السلطان أبي زكرياء وما كان عقبه من الأحداث كان السلطان أبو زكرياء قد خرج من تونس إلى جهة قسطنطينة للإشراف على أحوالها ووصل إلى باغاية فعرض العساكر بها ووافته هنالك الدواودة وشيخهم موسى بن محمد. وكان منه اضطراب في الطاعة فاستقام. وأصاب السلطان هنالك المرض فرجع إلى قسطنطينة. ثم أبل من مرضه ووصل منها إلى بونة فراجعه المرض. ولما نزل بظاهر بونة اشتد به مرضه. وهلك لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين لاثنتين وعشرين سنة من ولايته ودفن بجامع بونة. ثم نقل شلوه بعد ذلك إلى قسطنطينة سنة ست وستين بين يدي حصار النصارى تونس. وبويع إثر مهلكة ابنه ولي عهده أبو عبد الله محمد كما نذكره. وطار خبر مهلكه في الآفاق فانتقض كثير من أهل القاصية ونبذوا الدعوة الحفصية وعطل ابن الأحمر منابره من الدعوة الحفصية. وتمسك بها يغمراسن بن زيان صاحب المغرب الأوسط فلم يزالوا عليها حيناً من الدهر إلى أن انقطعت في حصار تلمسان كما نذكره. ولما بلغ الخبر بمهلكه إلى سبتة وكان بها أبو يحيى ابن الشهيد من قبل الأمير أبي زكرياء كما نذكره وأبو عمرو بن أبي خالد والقائد شفاف فثارت العامة وقتل ابن أبي خالد وشفاف وطردوا ابن الشهيد فلحق بتونس. وتولى كبر هذه الثورة حجبون الرنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي. واتفق الملأ على ولاية العزفي وحولوا الدعوة للمرتضى وذلك سنة سبع وأربعين. وتبعهم أهل طنجة في الدعوة واستبد بها ابن الأمير وهو يوسف بن محمد بن عبد الله بن أحمد الهمداني كان والياً عليها من قبل أبي علي بن خلاص. فلما صار الأمر للعزفي والقائد حجبون الرنداحي خالفهم هو إلى الدعوة الحفصية واستبد عليهم. ثم خطب للعباسي وأشرك نفسه معه في الدكاء إلى أن قتله بنو مرين غدراً كما نذكره وانتقل بنوه إلى تونس ومعهم صهرهم القاضي أبو الغنم عبد الرحمن بن يعقوب من جالية شاطبة انتقل هو وقومه إلى طنجة أيام الجلاء فنزلوا بها وأصهر إليهم الأمير وارتحلوا معهم إلى تونس. وعرف دين القاضي أبي القاسم وفضله ومعرفته بالأحكام والوثائق واستعمل في خطة القضاء بالحضرة أيام السلطان وكان له في ذكر. ولما بلغ الخبر بمهلك الأمير أبي زكرياء إلى صقلية أيضاً وكان المسلمون بها في مدينة بلرم قد عقد لهم السلطان مع صاحب الجزيرة على الإشراك في البلد والضاحية فتساكنوا حتى إذا بلغهم مهلك السلطان بادر النصارى إلى العيث فيهم فلجوا إلى الحصون والأوعار ونصبوا عليهم ثائراً من بني عبس وحاصرهم طاغية صقلية بمعقلهم من الجبل. وأحاط بهم حتى استنزلهم. وأجازهم البحر إلى عدوته وأنزلهم بوجاره من عمائرها. ثم تعدى إلى جزيرة مالطة فأخرج المسلمين الذين كانوا بها وألحقهم بأخوانهم. واستولى الطاغية على صقلية وجزائرها. ومحا منها كلمة الإسلام بكلمة كفره والله غالب على أمره. الخبر عن بيعة السلطان أبي عبد الله المستنصر وما كان في أيامه من الحوادث لما هلك الأمير أبو زكرياء بظاهر بونة سنة سبع وأربعين كما قدمناه اجتمع الناس على ابنه الأمير أبي عبد الله وأخذ له البيعة عمه محمد اللحياني على الخاصة وسائر أهل المعسكر وارتحل إلى تونس فدخل الحضرة ثالث رجب من السنة فجدد بيعته يوم وصوله وتلقب المستنصر بالله. ثم جدد البيعة بعد حين واختار لوضع علامته: الحمد لله والشكر لله وقام بأعباء ملكه وتقبض على خاصة أبيه الخصي كافور كان قهرمان داره فأشخصه إلى المهدية وأوعز إلى الجهات بأخذ البيعة على أهل العمالات فترادفت من كل جانب. واستوزر أبو عبد الله بن أبي مهدي واستعمل على القضاء أبا زيد التوزري وكان يعلم ولد عمه محمد اللحياني الخبر عن ثورة ابن عمه محمد اللحياني ومقتله و مقتل أبيه كان للأمير أبي زكريا من الأخوة اثنان: محمد وكان أسن منه ويعرف باللحياني لطول لحيته والآخر أبو إبراهيم وكان بينهم من المخالصة والمصافاة ما لا يعبر عنه. ولما هلك الأمير أبو زكرياء وقام بالأمر ابنه أبو عبد الله المستنصر واستوزر محمد بن أبي مهدي الهنتاتي وكان عظيماً في قومه فأمل أن يستبد عليه لمكان صغره إذ كان في سن العشرين ونحوها. واستصعب عليه حجر السلطان بما كان له من الموالي العلوجيين والصنائع من بيوت الأندلس. فقد كان أبوه اصطنع منهم رجالا ورتب جنداً كثروا الموحدين وزاحموهم في مراكزهم من الدولة. فداخل ابن أبي مهدي أخوي السلطان وبعث عندهما الأسف على ما فاتهما من الأمر فلم يجد عندهما ما أفل من ذلك. فرجع إلى ابن محمد اللحياني فأجابه إلى ذلك. وبايعه ابن أبي مهدي سراً ووعده المظاهرة. ونمي الخبر بذلك إلى السلطان من عمه محمد اللحياني وحذره من غائلة ابنه وأبلغه ذلك أيضاً القاضي أبو زيد التوزري منتصحاً. وباكر ابن أبي مهدي مقعده للوزارة بباب السلطان لعشرين من جمادى سنة ثمان وأربعين وتقبض على الوزير أبي زيد بن جامع. وخرج ومشيخة الموحدين معه فبايعوا لابن محمد اللحياني بداره واستركب السلطان أولياءه. وعقد للعاقد ظافر على حربهم فخرج في الجند والأولياء ولقي الموحدين بالمصلى خارج البلد ففض جمعهم وقتل ابن أبي مهدي وابن وازكلدن وسار ظافر مولى السلطان إلى دار اللحياني عم السلطان فقتله وابنه صاحب البيعة وحمل رؤوسهما إلى السلطان. وقتل في طريقه أخاه أبا إبراهيم وابنه وانتهب منازل الموحدين وخربت. ثم سكنت الهيعة وهدأت الثائرة وعطف السلطان على الجند والأولياء وجهل الاصطناع فأدر أرزاقهم ووصل تفقدهم. وأعاد عبد الله بن أبي الحسين إلى مكانه بعد أن كان هجر أول الدولة وتزحزح لابن أبي مهدي عن رتبته وتضاءل لاستطالته فرجع إلى حاله واستقامت الأمور على ذلك. ثم سعى عند السلطان بمولاه الظافر وقبحوا عنده ما أتاه من الأفتيات في قتل عميه من غير جرم. ونذر بذلك فخشي البادرة ولحق بالدواودة وكان المتولي لكبر هذه السعاية هلال مولاه فقعد له مكانه واستنفر ظافر في جوار العرب طريداً إلى أن كان من أمره ما كان. الخبر عن الآثار التي أظهرها السلطان في أيامه فمنها شروعه في اختطاط المصانع الملوكية وأولها المصيد بناحية بنزرت. اتخذه للصيد سنة خمسين فأدار سياجاً على بسيط من الأرض قد خرج نطاقه عن التحديد بحيث لا يراع فيه سرب الوحش فإذا ركب للصيد تخطى ذلك السياج إلى قوره في لمة من مواليه المتخصين وأصحاب بيزرته بما معهم من الجوارح بزاة وصقوراً وكلاباً سلوقية وفهوداً فيرسلونها على الوحش في تلك القوراء وقد وثقوا باعتراض البناء لها من أمام فيقضي وطراً من ذلك القنيص سائر يومه فكان ذلك من أفخم ما عمل في مثلها. ثم وصل ما بين قصوره ورياض رأس الطائبة بحائطين ممتدين يجوزان عرض العشرة أذرع أو نحوها طريقاً سالكاً ما بينهما وعلى ارتفاع عشرة أذرع يحتجب به الحرم في خروجهن إلى تلك البساتين عن ارتفاع العيون عليهن فكان ذلك مصنعاً فخماً وأثراً على أيام الدولة خالداً. ثم بنى بعد ذلك الصرح العالي بفناء داره ويعرف بقبة أساراك. وأساراك بالسان المصمودي هو القوراء الفسيحة. وهذا الصرح هو إيوان مرتفع السمك متباعد الأقطار متسع الأرجاء يشرع منه إلى الغرب وجانبيه ثلاثة أبواب لكل باب منها مصرعان من خشب مؤلف الصنعة ينوء كل مصراع منها في فتحة وغلقه بالعصبة أولي القوة. ويفضي بابها الأعظم المقابل لسمت الغرب إلى معارج قد نصت للظهور عليها عريضة ما بين الجوف إلى القبلة بعرض الإيوان يناهز عمدها الخمسين أو نحوها ويفضي البابان عن جانبيه إلى طريقين ينتهيان إلى حائط القوراء. ثم ينعطفان إلى ساحة القوراء يجلس السلطان فيها على أريكته مقابل الداخل أيام العرض والفود ومشاهد الأعياد فجاءت من أضخم الأواوين وأحفل المصانع التي تشهد بأبهة الملك وجلالة واتخذ أيضاً بخارج حضرته البستان الطائر الذكر المعروف بأبي فهر يشتمل على جنات وغير معروشات اغترس فيها من شجره كل فاكهة من أصناف التين والزيتون والرمان والنخيل والأعناب وسائر الفواكه وأصناف الشجر. ونضد كل صنف منها في دوحة حتى لقد اغترس من السحر والطلح والشجر البري وسمى دوح هذه بالشعراء واتخذ وسطها البساتين والرياض بالمصانع والجوائز وشجر النور والنزه من الليم والنارنج والسرو والريحان وشجر الياسمين والخيري والنيلوفر وأمثاله. وجعل وسط هذه الرياض روضاً فسيح الساحة وصنع فيه للماء حائزاً من عداد البحور جلب إليه الماء في القناة القديمة كانت ما بين عيون زغوان وقرطجنة تسلك بطن الأرض في أماكن وتركب البناء العادي ذا الهياكل الماثلة والقسي القائمة على الأرجل الضخمة في أخرى فعطف هذه القناة من أقرب السموات إلى هذا البستان. وأمطاها حائطاً وصل ما بينهما حتى ينبعث من فوهة عظيمة إلى جب عميق المهوى رصيف البناء متباعد الأقطار مربع القنا مجلل بالكلس إلى أن يقمعه الماء فيرسله في قناة أخرى قريبة الغاية فتنبعث في الصهريج إلى أن يفهق حوضه وتضطرب أمواجه تترفه الحظايا عن السعي بشاطئه لبعد مداه فيركبن في الجواري المنشئات ثبجه فيتبارى بهن تباري الفتح ومثلت بطرفي هذا الصهريج قبتان متقابلتان كبراً وصغراً على أعمدة المرمر مشيدة جوانبها بالرخام المنجد ورفعت سقفها من الخشب المفدر بالصنائع المحكمة والأشكال المنمقة إلى ما اشتملت عليه ورفعت سقفها من الخشب المفدر بالصنائع المحكمة والأشكال المنمقة إلى ما اشتملت عليه هذنه الرياض من المقاصير والأواوين والحوائز والقصور غرفاً من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وتأنق في مبانيه هذه واستبلغ وعدل عن مصانع سلفه ورياضهم إلى متنزهاته من هذه فبلغ فيها الغاية في الاحتفال وطار لها ذكر في الأفاق. |
الجزء الرابع
الخبر عن فرار أبي إسحاق وبيعة رياح له وما قارن ذلك من الأحداث كان الأمير أبو إسحاق في إيالة أخيه المستنصر وكان يعاني من خلقه وملكته عليه شدة وكان السلطان يخافه على أمره وخرج سنة إحدى وخمسين لبعض الوجوه السلطانية ففر الأمير أبو إسحاق من معسكره ولحق بالدواودة من رياح فبايعوه بروايا من نواحي نقاوس واجتمعوا على أمره.وبايع له ظافر مولى أبيه النازع إليهم واعتقد منه الذمة والرتبة وقصدوا بسكرة وحاصروها ونادى بشعار طاعتهم فضل بن علي بن الحسن بن مزني من مشيختها.وائتمر به الملأ ليقتلوه ففر إليه وصار في جملته.ثم بايع له أهل بسكرة ودخلوا في طاعته ثم ارتحلوا إلى قابس فنازلوها واجتمعت عليه الأعراب من كل أوب.وأهم السلطان شأنه وتقبض على ولده فحبسهم بالقصبة جميعاً.ووكل بهم من يحوطهم وألطف ابن أبيلحسين الحيلة في فساد ما بين الأمير أبي إسحاق ومولاه ظافر وسار إلى المغرب.ثم لحق بالأندلس وافترق جموع الأمير أبي إسحاق فلحق بتلمسان وأجاز منها إلى الأندلس.ونزل على السلطان محمد بن الأحمر فرعى له عهد أبيه وأسنى له الجراية.وشهد هنالك الوقائع وأبلى في الجهاد.ولم يزل السلطان المستنصر يتاحف ابن الأحمر ويهاديه ويوفد عليه مشيخة الموحدين مصانعة في شأن أخيه واستجلاء لحاله إلى أن هلك.وكان من ولاية أخيه أبي إسحاق ما نذكر.ولحين مهلكه أجاز ظافر من الأندلس إلى بجاية.وأوفد ولده علي الواثق مستعتباً وراغباً في السبيل إلى الحج.وقلق المستولي على الدولة بمكانه وراسل شيخ الموحدين أبا هلال عياد بن محمد الهنتاني صاحب بجاية في اغتياله عن قصده فذهب دمه هدراً وبقي ولده عند بني توجين حتى جاءوا في جملة السلطان أبي إسحاق وبيد الله تصاريف الأمور. الخبر عن بني النعمان ونكبتهم والخروج أثرها إلى الزاب كان بنو النعمان هؤلاء من مشيخة هنتاتة ورؤسائهم وكان لهم في دولة الأمير أبي زكريا ظهور ومكان وخلصت ولاية قسطنطينة لهم يستعملون عليها من قرابتهم.واتصل لهم ذلك أول دولة المستنصر وكان كبيرهم أبو علي وتلوه ميمون وعبد الواحد وكان لهم في مداخلة اللحياني أثر.فلما استوسق للسلطان أمره وتمهدت دولته نكبهم وتقبض عليهم سنة إحدى وخمسين فأشخص أبو علي إلى الإسكندرية وقتل ميمون وانقرض أمرهم.وظهر أثر ذلك بالزاب خارج تسمى بأبي حمارة فخرج السلطان من تونس وقصده الزاب فأوقع به وبمجموعة وتقبض عليه وسيق إلى السلطان فقتله وبعث برأسه إلى تونس فنصب بها.وقفل السلطان إلى مقره فنزل بها وسخط وجوها من سليم: من مرداس ودباب كان فيهم رحاب بن محمود وابنه فاعتقلهم وأشخصهم إلى المهدية فأودعهم بمطبقها ورجع إلى تونس ظافراً غانماً. الخبر عن دعوة مكة ودخول أهلها في الدعوة الحفصية كان صاحب مكة ومتولي أمرها من سادة الخلق وشرفائهم ولد فاطمة ثم من ولد ابنها الحسن صلوات الله عليهم أجمعين أبو نمي وأخوة إدريس وكانوا قائمين بالدعوة العباسية منذ حولها إليهم بمصر والشام والحجاز صلاح الدين يوسف بن أيوب الكردي وأمر الموسم وولايته راجعة إليه وإلى بنيه ومواليه من بعده إلى هذا العهد.وجرت بينهم وبين شرف الدين صاحب مكة مغاضبة وافقها استيلاء الططر على بغداد ومحوهم رسم الخلافة بها وظهور الدعوة الحفصية بإفريقية وتأميل أهل الآفاق فيها وامتداد الأيدي إليها بالطاعة.وكان أبو محمد بن سبعين الصوفي نزيلاً بمكة بعد أن رحل من بلده مرسية إلى تونس وكان حافظ العلوم الشرعية والعقلية وسالكاً مرتاضاً بزعمه على طريقة الصوفية.ويتكلم بمذاهب غريبة منها ويقول برأي الوحدة كما ذكرناه في ذكر المتصوفة الغلاة ويزعم بالتصوف في الأكوان على الجملة فأرهن في عقيدته ورمي بالكفر أو الفسق في كلماته وأعلن بالنكير عليه والمطالبة له شيخ المتكلمين بإشبيلية ثم بتونس أبو بكر بن خليل السكوني فتنمر له المشيخة من أهل الفتيا وحملة السنة وسخطوا حالته.وخشي أن تأسره البينات فلحق بالمشرق ونزل مكة وتذمم بجوار الحرم الأمين ووصل يده بالشريف صاحبها.فلما أجمع الشريف أمره على البيعة للمستنصر صاحب إفريقية داخله في ذلك عبد الحق بن سبعين وحرضه عليه وأملى رسالة بيعتهم وكتبها بخطه تنويهاً بذكره عند السلطان والكافة وتأميلاً للكرة ونصها: بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على الأسوة المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً." إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً وينصرك الله نصراً عزيزاً هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً ".هذا النوع من الفتح أعني المبين هو من كل الجهات داخل الذهن وخارجه وهو الذي خصت به مكة وهو أعظم فتح نذر في أيام الدهر والزمان الفرد منه خير من أيام الشهر وبه تتم النعمة ويستقيم صراط الهداية وتحفظ النهاية وتغفر ذنوب البداية ويحصل النصر العزيز ونور السكينة وتتمكن قواعد مكة والمدينة.وكلمة الله عاملة في الموجودات بحسب قسمة الزمان.ثم لا يقال إنها متوقفة على شيء ولا في مكان دون مكان.وهذا الفتح قد كان بالقصد الأول والقدر الأكمل للمتبوع الذي أفاد الكمال الثاني كالسبع المثاني فإنه هو الأسوة صلى الله عليه وسلم وكل نعمة تظهر على سعيد ترجع إليه مثل التي ظهرت على خليقته وعلى يديه.وإن كانت نصبة مولده صلى الله عليه وسلم ورسالته تقتضي ختم الأنبياء بهذا القرن الذي نحن فيه وإمامنا فيه هو ختم الأولياء.فمن فتح عليه بفتح مكة تمت له النعمة ورفعت له الدرجة وضفت عليه الرحمة.ومن وصل سلطانه إليها فقد هدي الرشد وسار على صراطه ورجح ميزان ترجيحه على أقرانه وإرهاطه.ومن حرم هذا فقط حرم من ذلك والأمر هكذا.وسنة الله كذلك وصلى الله على رسوله الذي طلع المجد من مدينته بعد ما أطلعه من بلده ورضي الله عن خليفته المنتخب من عنصر خليفة عمر صاحب نبيه ثم من عمر صاحبه ووليه والحمد لله على نعمه.بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيد ولد آدم محمد." حتم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين.فيها يفرق كل أمر حكيم.أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين.رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ".قد صح أن هذه الليلة فيها تنزل الآيات وترتقب البينات وفيها تخصيص القضايا الممكنة وأحكام الأكوان ويفرق الأمر ويفسر الملك الموكل بقبض الأرواح بحمل الآجال في الأزمان وفيها تقرر خطة الإمامة والملك وتقيض الإمامة بالهلك وهي في القول الأظهر في أفضل الشهور وفي السابع والعشرين منه كما ورد في الحديث المشهور.ثم هي في أم القرى وفي حرمها تقدر بقدر زائد ويعم فضلها إلا للحائد عن الفائد وإنما قلت هذا ورسمته ليعلم من وقف على الخطبة التي اقتضبتها والليلة التي فيها قرأتها أنها من أفضل المطالب التي قصدت وإن القرائن التي اجتمعت فيها ولها زادت على الفضائل التي لأجلها رصدت وأيضاً تأخر فيها مجد إمام عن إمام وبعد مجد إمامه وراء إمام هو وراء الإمام ورحمت فيها نفس خليفة عبرت وتلقب وعظمت فيها ذات خليفة تحيي التي سلفت فهذه نعمة بركة ينبغي أن يقرر حدها ويتحقق مجدها ولا يقدر قدرها فإنها ليلة قدر ليلة قدرها.والحمد لله حمداً واصلاً: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على واحد الله في عنايته سيدنا محمد " طسم تلك آيات الكتاب المبين " إلى قوله: " منهم ما كانوا يحذرون " الحق الشاهد لنفسه المتفق من جميع جهاته وفي سنة الله التي لا تحول ولا تبدل والمتعارف من عادته التي ربطها بحكمته التي تعدل ولا تعدل إن لكل هداية نبوية ضلالة فرعونية وكذا الحال في الأولياء ومع كل مصيبة فرج ولا ينعكس الأمر في الأتقياء.ولكل ظلم ظالم متجبر قهر قاهر متكبر وعند ظهور ظفر المبطل يظهر قصد المحق المفضل.وفي عقب كل فترة أو فيها كلمة قائم بحق يغلب لا يغلب وفي كل دور أو قرن أمامة تطلب بشخصها ولا تطلب وكواكب الكفر إذا طلعت على أفق الإيمان فيه نكب آفلة وكلمة الله إذا عورضت تكر معارضتها قافلة.وإنما ذكرت ذلك بعد الذكر المحفوظ ليتذكر بالآيات الظاهرة إلى الآيات القاهرة.وليعلم كل مؤمن أن كلمة الله متصلة الاستصحاب والسبب وعاملة في الأشياء مع الأزمان والحقب وأن رجال الملة الحنفية أعلى المنازل والرتب.ولذلك يقول في نوع فرعون الأذل ونوع موسى الأجل: أشخاصها متعددة وأكوانها متحدة والله غالب على أمره.وقد قيل إن الملة الحنفية المضرية تنصرها السيرة العمرية المحمدية المستنصرية.ولعل الذي أقام الدين وأطلعه من المشرق وأتلفه منه يجيره من المغرب ولا ينقله عنه فينبغي لمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما يجب كما يجب أن لا يتغير قصده ولا يتوقف عند سماع المهلكات حمده قد قيدت إقدام قوم بشرك الشرك وحملهم الضجر إلى الهلك بطاعة الترك وكع كيد الكنود هلك كنعان وكل بصر بصيرته ولبس لهم ثوب الذل بالعرض وجعل مصيبة الدين تفئته مع جحوده لسلطان السنة والفرض.وأما هامان المرتدين فليس هم بالمؤمنين وعلا فرعون الشر في الأرض والله يمن على المستضعفين في الأرض بنصر من عنده ويهلك المفسدين بجند من رفده.وينبغي أو يجب أن نضرب عن ذكر كائنة مدينة السلام فإنها تزلزل الطبع وتحمل الروح إلى ساحة الشام أو تفزع في صلاة كسوف شمس سرورها إلى التسليم بالاستسلام ونكبر أربع تكبيرات على الإنس ويوح بعد ذلك وعد وسلام وينتظر قيامه بقيام أمر محيي الدين والإسلام والحمد لله على كل حال.بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على الذي أعجزت خصاله العد والحد مسلم والطبقة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيثاً لا يعده عداً ".وقال صلى الله عليه وسلم: " يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعد ".زاد أبو العباس الهمداني وأشار بيده إلى المغرب.وذكر بهاء الدين التبريزي في ملحمته التي زعم أنه لا يثبت فيها من الأخبار إلا ما صححته روايته ولا يذكر من الأحكام المنسوبة إلى الصنائع العملية إلا ما أبرزته درايته.ولا يعتبر من الأعلام الدينية إلى ما أدركته هدايته.قال في الترجمة الأولى: إذا خرجت نار الحجاز يقتل خليفة بغداد ويستقيم ملك المغرب وتبسط كلمته في الأقطار ويخطب له على منابر خلفاء بني العباس و يكثر الدر بالمعبر من بلاد الهند.ذكرت هذا ليعلم المقام أيده الله أنه هو المشار إليه وأنه الذي يعول في إصلاح ما يفسد بحول الله عليه.ومن تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: " يكون في آخر الزمان " الحديث تبين له ما أردناه وذلك يظهر من وجوه منها: أن الخليفة المذكور لم يسمع به فيما تقدم ولا ذكر في الدول الماضية ولو ذكر لرددنا القول به وأهملناه لأجل تقييده بآخر الزمان.والثاني: أن آخر الزمان الذي يراد به ظهور الشروط المتوسطة وأكثر العلامات المنذرة بالساعة هذا بعينه.الثالث: لا خليفة لأهل الملة في وقتنا هذا غير الذي قصدناه.وهذه أقطار الملة منحصرة ومعلومة لنا من كل الجهات والذي يشاركه في الاسم ويقاسمه في إطلاقه فقط لا يصدق عليه إذ هو أضعف من ذرة في كرة ومن نملة رملة.وأفقر من قصد طالب السراب ويده مع هذا أيبس من التراب فصح بالسبر والتقسيم وبتصفح الموجودات والأزمان والدول والمراتب والنعوت أنه هو لا شريك له فيها والمصحح لذلك كله والذي يصدق وينطبق عليه مدلول الحديث كرمه الذي يعجز عنه الحد ولا يتوقف فيه العد.وهذا خليفة الملة كذلك وهذه دلائله هي أوضح من نار على علم.وهذه خصاله شاهدة له بفضائل السيف والقلم وهذه خزائنه تغلب الطالب وتعجز عن الدافع وهذه سعوده في صعوده وهذه متاجر تعويله على الله رابحة وهذه أحواله بالكلية صالحة وهذه سعايته ناجحة.ثم هذه وما النصر إلا من عند الله وصلى الله على عبده محمد بن عبد الله أنه من بكة وأنه للحق وأنه بسم الله الرحمن الرحيم وأنه إلى خضر لا تحصر الخصر ويحدر فيها الندر ويحافظ على سنة الرؤوف الرحيم.صلى الله عليه وسلم أما بعد فبهداهم اقتده الحمد لله الذي أحسن بمقام الإحسان وتمم النعمة وبين لمن تبين علم البيان وحكم لمن أحكم الحكمة وسبقت في صفات أفعاله صفة الرحمة وذكر الهداية في كتابه بعد ذكر النعمة هو الرؤوف بالبرية وهو الرحيم والحفي بالحنفية وهو القاهر الماضي المشيئة الذي يقبض ويبسط ويمضي المشيئة.شهد له بالكمال الممكن الذي أبرزه وخصصه وعرفه بالجلال من يسره لذلك وخلصه.هو الذي استعمل عليها من اختاره لإقامة النافلة والفرض وأعمى من أهلها من توسل له بنية العرض وأعتق العقاب وسر العقاب وأهمل العقاب بطاعة من يستعمر به الربع المعمور وأنعم على المستضعفين في الأرض بإمام بخر المجد في بحر خصاله يعد بعض البعض.سنته محمدية وسيرته بكرية وسريرته علوية وسلالته غمرية.فهذه ذرية وأنواع مجد بعضها من بعض بل هذه خطوط فصل الطول فيها مثل العرض.عرف بالرياسة العالية ووصف بالنفاسة السالية وشهد له بذلك الخاص والعام ونزه من النقائص.النزيه النفس ومن نزهه في سلطانه علمه العام.صلى الله على الأسوة الرؤوف بالمؤمنين سيدنا محمد الذي أنزل عليه التنزيل وكتب اسمه في صحيح القصص والنصوص ونبي الله به وبأئمة أمته الذين شبههم بالبنيان المرصوص وعلى آله وصحبه الكرام البررة الذين اصطفاهم وطهرهم ثم أيدهم فطهروا الأرض من الكفرة الفجرة.وأخرج من ظهورهم ذرياتهم بالدين أظهرهم ويسر بهم السبيل ثم السبيل يسرهم.ومنهم الخليفة المستنجد بالله المفضل على الناس ولكن أكثرهم ورضي الله عنهم وعنه وضاعف للمحب الثواب الدائم منهم ومنه.وبعد خدمة يتقدم فيها بعد الحمد والتصلية والدعاء للدولة الدالة على قبول الدعوة أصلية تحية بعضها مكية وكلها ملكوتية وروضة ريحها حضرة القدس ونشرها يحرك فيه صحبة النفث روح القدس.وتكبر عن أن تشتبه بالعنبر والند والورد وأزهار الربى والرياض.لأن المفارق للمادة مفارق لغير المفارق لها مفارقة السواد للبياض.ثم هي مع هذا واجبة القصد عذبة الورد تذكر الذاكر الذكي بعرفها الذكي لمدركات جنة الخلد والنعيم.وفي مثل هذه فليتنافس المتنافسون.وتدرك النفس النفيسة لذة النعيم لأنها ظاهرة طيبة وكريمة صيبة واقفة على حضرة الملك والسلطان ومدار ذلك النسك ومستقر الإمامة والجلالة ومعقل الهداية والدلالة وأصل الأصالة ودار المتقين وبيت العدالة وحزب اليقين.وإنسانها الأعظم معلي الموحدين على الملحدين وقائم الدين وقيمه ومقر الإسلام ومقدمه القائم بالدعوة العامة بعد أبيه إمام المجد والفخر ثم الأمة الذي إذا عزم أوهم بتخصيص مهمل اتخذ في خلده ما هو بالفعل مع ما هو بالقوة وأن يعرض له في طريق إعراضه الممكن العسير يسره سعده وساعده ساعد القوة وإن سمع بالحمد في جهة حدبه بخاصة خصاله بعد مجد الأبوة وفخر النبوة لا يذكر معه ولا عنده صعب الأمور إلا بالضد فإنه مظهر العناية الإلهية ومرءاة المجد والجد.هو علم العلم ثم هو محل الحلم اسمه متوحد في مدلوله كالاسم العلم وعهده لا يتوقف على اللسان ولا على رسوم القلم.كتب في السماء وسع به في الكرسي وكذلك العرش وما هنا إنما هو مما هنالك فهو الأعلى.وإن كان في الفرش هو شامخ القدر ظاهر الفضل شديد البطش.ثم هو مما ظهر عليه علم أن الشجاعة لم تتنقل من الإنسان إلى الأسد.ولا يقال هذا بحر العلم فينقل من الطبيعة إلى بحر الخلد لأن ذلك كله فيه برجه أكمل وبه وعليه وفي يديه بنوع أفضل بلغ ذروة النهاية المخصوصة بالمطالب العالية وحصل في الزمان الفرد ما حصله الفرد في الأيام الخالية.وبلغ في تبليغ حمده بصفاته ما بلغ الأشد عمره ونال غاية الإنسان ويتعجب منه في القيامة عمره وشره أمره طلعت سعوده على مولده ومطالعه كلمة مجده لأحكام الفلك وطالعه.إن حرر القول فيه وفهم شأنه قيل هو من فوق الأطلس والمكوكب وإن قيس سعده بالكمالات الثلاثة كان كالبسيط مع أي غاية تطلب بعد طاعته وأي تجارة تنظر مع بضاعته له الحمد بيده الملك والأمانة بل له الكل بفضل الله وفيه المقصد والسلامة لا بل له الفتح المبين وتتميم النعمة والهداية ونور السكينة وفيه الإمارة والعلامة.منير منكة بازاء بيت بكة خطب بخطبته والذي ذهب بالمدينة يطلب فلعله يسعفه في خطبته أفئدة السر تطير إذا سمحت بذكره والمهندات البتر تلين لباس ساعده.ويقول طباع أربابها بشكره دولة التوحيد توحدت له إذ هو واحدها الأوحد وسياسة التسديد تحكمت له فهو مدبرها الأرشد.ومع هذا كتابه أهملت صيت الصادين.وكورت شمس الفتح ثم الفتح والصيادين.وكذلك الثلاثة الذين من قبلهم لا نذكر معه الأديب حبيب في رد الإعجاز على الصدور فإنه الذي يعتبر في ذلك والذي يصدر عنه هو واقع في الصدور وافعل في طباع المهرة وفي نفوس الصدور يتأخر عن شعره شر الرجلين.وسمه نذكر الطبقة ثم شعراء نجد والخبب والجبلي والولد بعده والهذلي والمؤكد هو تقديمه في المغرب من ذلك.والهذلي علوم الأدب الخمسة تممها وسادسها وسابعها زاده من عند نفسه.وخليل النحو لو حضر عنده كان خليله في تحصيل نوعه وجنسه والفارسي تلميذه ثم الآخر بعده والأخفش الكبير ثم الصغير ما ضرب لهم من قبل في مثله بنصيب.وأقام أئمة النحو تنحو نحوه بنحو ينحوه نحو نحوه ثم لا يكون كالمصيب.وكل كوفي بل كل بصري يجب الظهور إذا سمع به اختفى والمنصف منهم هو الذي بنجوه اكتفى.أقيسة الفقه الثلاثة هذبها وحصلها وأصوله كما يجب علمها وفصلها.والمسائل الطبولية تكلم على مفصلها ومجملها وسهل الصعب من مخصصها ومهملها.وإن فسر كتاب الله المعجز عجز أرباب البلاغة بإجاز بعد إعجازه وإن تعرض لعوارض ألفاظه أظهر العجب في اختصاره وإيجازه.وإن شرع في شرح قصصه وجدله وفي تفسير ترغيبه وترهيبه.ومثله يبصر الناظر فيه والمستمع لما لم يسمع وما لم يبصر فإنه سلك بقدم كماله وتكميله على قنطرة بعد لم تعبر ويضطر الزعيم به بتحصيله إلى تجديد قنطرة أخرى وبعد هذا يفتقر في بيانه إليه في الأولى وإلى الله في الأخرى.وإن تكلم عن متشابهه ومحكمه علم الاصطلاح.ثم بيان النوع للخبير به وبمحكمه وكذلك القول على الناسخ والمنسوخ والوعد والوعيد.وإن يشاء طول في مطولاتهم واختصر من مختصراتهم فبيده الزيادة وضد المزيد وأما تحرير أمره ونهيه وأسراره ورقائقه وفواتح سوره وحقائقه.والذي يمال إنه لا من جنس الذي يكتسب والذي هو أعظم من الذي يرد وإليه الأحوال تنسب فهو الشارح لها والخبير بها وإن تأخر.وينوع في ذلك ويزيد غير الأول وإن تكرر.وأما علوم الحديث وأنواعها السبعة فهو بعلمها وصناعته بجملتها للعلماء يعلمها.والوارقة والضبط والخط وقفت عليه مهنة غايتها وحمله الأمر علوم الشريعة كلها عرفها ووعاها ورعاها حق رعايتها.وكل العلوم العقلية والنقلية ورجالها على ذهنه الطاهر من دنس النسيان والمقامات السنية المستنزلات العلوية أدركها بعد التبيان.فمن أراد أن يمدحه ويعدل عن إطلاق القول فقد اقترف أعظم الذنب.ومن ذكره ولم يتلذذ بذلك فقد جاء بما ينضح حمله الخبب ونعوت جمالها يمنع عن إدراكها نور المتصل وحضرة جلاله محفوظة بجدها وجدها وقاطعها الفنفصل.ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قل اللهم مالك الملك الله أعلم حيث يجعل رسالاته.هذه كلها.آياته والرابعة: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " فإنها هباته إن حدث المحدث بكرمه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده ونصر الله إذا جاء لا يرده وفتحه من ذا الذي عن السعيد يصده والمؤرخ يتذكره بتذكره الكلمات الهذلي من حيث المطالب إذ قال وقد سئل عن الإمام علي بن أبي طالب هو الإمام وفيه أربعة وهو واحدها حتى في رفع التشبيه وقطع السبب والعلم والحلم والشجاعة وفضل الحسب يسر بحكمته ويغبط بها متى يتبع جملته الباحث للحكيم ولا يشعر بشعره إذا تصفح نعوته الشاعر العليم وينشد طبعه في الحين والوقت والحزة ويخرج الحروف من مخارج الهمزة.شهدت لقد أوتيت جامع فضله وأنت على علمي بذاك شهيد أدام الله له المجد الذي يسلك به على النجدين وحفظ عليه مقامه الذي لا يحتقر فيه إلا جوهر النقدين وبسط له في العلم والقدرة وبارك له في نصيب النصرة وجهز به العسرة ورد به على الشرك والفتن الكرة وعرفه في كل ما يعتزمه صنعاً جميلا ولطفاً خفياً جليلا.وكفاه الشر المحض وخير الشرين كما كشف له عن الخير المحض وعلم السرين وأيده بروح منه في السر والسريرة وحفظه في حركاته وسكناته من الصغير والكبيرة.وجعل كلمته غالبة للضد والجند وبلغ صيته الجزائر والبربر ثم إلى السند والهند.وخلد ملكه وسلم فلكه ورفعه على أوج المجد بحده الطويل العريض.واهبط عدوه من شرف الأعلى إلى الحضيض.وفتح الله به باب الفتح في المشرق والمغرب بعد فتح الثغور وشرح بنصره وفتحه أوساط الصدور ومما استنبطته الضمائر من نفثات الصدور وأبر به كسر الظفر ووصل به ما انقطع من الأسباب.وعصم جنده من ضد الدنف الأنف وردهم إلى ردم الأبواب وقدس كلمته بعد الحرمين في البيت المقدس وسلك به مسلك السبل في المقيل والمعرس.وبعد هذا فهذه أدعيتنا بل هذه أوديتنا وهذه مسائلنا بل هذه وسائلنا وهذه تحية حياها ذو الفطرة السليمة وهذه خدمة يفتخر بها طبيعة النفس العليمة.واستنبت فيها الكتاب واستثبت فيها الجواب والموجب لإصدارها محبة أصلها ثابت وفرعها في العلى وحفز عليها حافزان: شوق قديم ورعاية الآخرة والأولى بل الأمر الذي هو في خير الأمور من أوسطها وإذا نظم في عقد الأسباب الموجبة لهذه الخطابة يكون في وسطها فإنه يحكي أحكام الشأن والقصة ويعلم المقام أيده الله الذي حصل له في حرم الله وحرم نبيه من النصيب والحصة وفيه ينبغي أن تذهب الألفاظ وتلحظ عيون الأغراض وينفح المقاصد وجمل على جواهر الكمالات كالأعراض فمن ذلك ذكر الملة التي كملت وكبرت والأخرى التي كانت ثم غمرت وصغرت.والمنبر الذي صمد خطب خطبته على الخطيب وعرج إلى سماء السمو وهو على درجه والآخر الذي درج عنه خطيبه وضاق صدره الأمر حرجه وقرئت سورة الإمام بحرف المستنجد المستبصر لا بحرف المستعصم بن المستنصر.بسط القول وأطلق ترجمة عبد الله بعد ما قبضه الني أمات وأحيا وقبض على مقامه ودفع للإمام محمد بن يحيى وكان ذلك في يوم وصول الخبر بمصيبة الأخبار ثم في ليلة الآيات والاعتبار.ومن ذلك أيضاً بنعمة الحمد والدعاء الظاهر القول والمقبول في الحرم الشريف وانقياد الذي ظهر على طائفة الحق والسيد الشريف.ومن ذلك صعود علم الأعلام على جبل معظم الحج ومقر وفوق الحاج ووقف به المتكلم في مقام من كانت له سقاية الحاج وذكر كما يجب بما يجب في موقف الإمام مالك وعرف هنالك أنه الإمام والمالك لكل مالك.وتعرفت نكرة دعوة التوحيد بتخصيص خصوصية المخصوص بعرفة وتعارف بها من تعارف معه هناك ونعم التعارف والمعرفة.ثم ذكر عند المشعر الحرام وفي جهات حدود حرم المسجد الحرام وعظم اسمه بعد ذكر الله وذكر الوالدين وطلع الذاكر التركيب إلى الجدين الساكنين في الخلد والخالدين فلما وصل الحجيج إلى عقبة الجمرات ذكر مع السبع الأولى سبع مرات.وكذلك عند الركوع في مسجد الخيف وكل كلمات تمجيده بالكم والكيف وعند التوجه من هناك ويوم النفر قررت آياته المذكورة في كتاب الجفر.ثم جدد الذكر حول البيت العتيق بالحمد والشكر.فلما وصل العلم بانتقال بيت الملك والسلطان من بغداد في شهر رمضان أظهر الخفي المكنون فكان ذلك مع التسبيح والقرآن وكان الخادم في الزمان الأول وفي الذاهب ينتظر الخطفة من نحو عراق والمغرب.والآن وجد نفسها من نحو اليمن إقليم الأعراب والعرب.والذي حمل على هذا كله طاعة كاملة وغبطة عاملة والله تعالى بفضله يعصمه من كيد المعاند فإنه في إظهار دعوة التوحيد كالمجاهد والمكابد ومعاد التحية على المقام الأرفع والمقر الأنفع وعلى خدام حضرته العلية وأرباب دعوته الجلية وأنواع رحمته تعالى وبركاته.والحمد لله كما يجب وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وسلم.وكتب تجاه الكعبة المعظمة في الجانب الغربي من الحرم الشريف والحمد لله رب العالمين.ولما وصلت هذه البيعة استحضر لها السلطان الملأ والكافة وقرئت بمجمعهم وقام خطيبهم القاضي أبو البراء في ذلك المحفل فاسحنفر في تعظيمها والإشادة بحسن موقعها وإظهار رفعة السلطان ودولته بطاعة أهل البيت والحرم ودخولهم في دعوته.ثم جار بالدعاء للسلطان وأنفض الجمع فكان من الأيام المشهودة في الدولة. الخبر عن الوفود من بني مرين والسودان وغيرهم كان بنو مرين كما قدمناه قد تمسكوا بطاعة الأمير أبي زكريا ودخلوا في الدعوة الحفصية وحملوا عليها من تحت أيديهم من الرعايا مثل: أهل مكناسة وتازى والقصر وخاطبوا السلطان بالتمويل والخضوع.ولما هلك السلطان وولي ابنه المستنصر ذلك ولاية المرتضى بمراكش.ثم كان بينهم وبين المرتضى من الفتنة والحرب ما ذكرناه ونذكره فاتصل ذلك بينهم وبعث الأمير أبو يحيى بن عبد الحق بيعة أهل فاس وأوفد بها مشيخة بني مرين على السلطان وذلك سنة اثنتين وخمسين فكان لها موقع من السلطان والدولة.وقابلهم من الكرامة كل على قدره وانصرفوا محبورين إلى مرسلهم ولما هلك أبو يحيى بن عبد الحق واستقل أخوه يعقوب بالأمر أوفد إليه ثاني رسله وهديته وطلب الإعانه من السلطان على المرتضى وأمر مراكش على أن يقيموا بها الدعوة له عند فتحها.ولم يزل دأبهم هذا إلى أن كان الفتح.وفي سنة خمس وخمسين وصلت هدية ملك كانم من ملوك السودان وهو صاحب برنو مواطنه قبلة طرابلس وكان فيها الزرافة وهو الحيوان الغريب الخلق المنافر الحلى والشيات فكان لها بتونس مشهد عظيم برز إليها الجفلى من أهل البلد حتى غص بها الفضاء وطال إعجابهم بشكل هذا الحيوان وتباين نعوته وأخذها من كل حيوان بشبه.وفي سنة ثمان وخمسين وصل دون الرنك أخو ملك قشتالة مغاضباً لأخيه ووفد على السلطان بتونس فتلقاه من المبرة والحباء بما يلقى به كرام القوم وعظماء الملوك ونزل من دولته بأعز مكان.وكان تتابع هذه الوافدات مما شاد بذكر الدولة ورفع من قدرها. |
الخبر عن مقتل ابن الأبار وسياقة أوليته
كان هذا الحافظ أبو عبد الله بن الأبار من مشيخة أهل بلنسية وكان علامة في الحديث ولسان العرب وبليغاً في الترسيل والشعر.وكتب عن السيد أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن ببلنسية.ثم عن ابنه السيد أبي زيد.ثم دخل معه دار الحرب حين نزع إلى دين النصرانية ورجع عنه قبل أن يأخذ به.ثم كتب عن ابن مردنيش.ولما دلف الطاغية إلى بلنسية ونازلها بعث زيان بوفد بلنسية وبيعتهم إلى الأمير أبي زكريا وكان فيهم ابن الأبار هذا الحافظ فحضر مجلس السلطان وأنشد قصيدته على روي السين يستصرخه فبادر السلطان بإغاثتهم وشحن الأساطيل بالمدد إليهم من المال والأقوات والكسي فوجدهم في هوة الحصار إلى أن تغلب الطاغية على بلنسية.ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس غبطة بإقبال السلطان عليه فنزل منه بخير مكان ورشحه لكتب علامته في صدور رسائله ومكتوباته فكتبها مدة.ثم إن السلطان أراد صرفها لأبي العباس الغساني لما كان يحسن كتابتها بالخط المشرقي وكان آثر عنده من الخط المغربي فسخط ابن الأبار أنفة من إيثار غيره عليه وافتأت على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه وأن يبقى مكان العلامة منه لواضعها فجاهر بالرد ووضعها استبداداً وأنفة وعوتب على ذلك فاستشاط غضباً ورمى بالقلم وأنشد متمثلاً: واطلب العز في لظى وذر الذل ولو كان في جنان الخلود فنمى ذلك إلى السلطان فأمر بلزومه بيته ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عد فيه من عوتب من الكتاب واعتب.وسماه أعتاب الكتاب.واستشفع فيه بابنه المستنصر فغفر السلطان له وأقال عثرته وأعاده إلى الكتابة.ولما هلك الأمير أبو زكريا رفعه المستنصر إلى حضور مجلسه مع الطبقة الذين كانوا يحضرونه من أهل الأندلس وأهل تونس وكان في ابن الأبار أنفة وبأو وضيق خلق فكان يزري على المستنصر في مباحثه ويستقصره في مداركه فخشن له صدره مع ما كان يسخط به السلطان من تفضيل الأندلس وولايتها عليه.وكانت لابن أبي الحسين فيه سعاية لحقد قديم سببه أن ابن الأبار لما قدم في الأسطول من بلنسية نزل ببنزرت وخاطب ابن أبي الحسن بغرض رسالته ووصف أباه في عنوان مكتوبه بالمرحوم.ونبه على ذلك فاستضحك وقال: إن أباً لا تعرف حياته من موته لأب خامل.ونميت إلى ابن أبي الحسين فأسرها في نفسه ونصب له إلى أن حمل السلطان على إشخاصه من بجاية.ثم رضي عنه واستقدمه ورجعه إلى مكانه من المجلس.وعاد هو إلى مساءة السلطان بنزعاته إلى أن جرى في بعض الأيام ذكر مولد الواثق وساءل عنه السلطان فاستبهم فعدا عليه ابن الأبار بتاريخ الولادة وطالعها فاتهم بتوقع المكروه للدولة والتربص بها كما كان أعداؤه يشنعون عليه لما كان ينظر في النجوم فتقبض عليه.وبعث السلطان إلى داره فرفعت إليه كتبه أجمع وألقى أثناءها فيما زعموا رقعة بأبيات أولها: طغى بتونس حلف سموه ظلماً خليفة فاستشاط لها السلطان وأمر بامتحانه ثم بقتله قعصاً بالرماح وسط محرم من سنة ثمان وخمسين ثم أحرق شلوه وسيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه. الخبر عن مقتل اللياني وأوليته وتصاريف أحواله أصل هذا الرجل من لليانة قرية من قرى المهدية مضمومة اللام مكسورة الثانية وكان أبوه عاملا بالمهدية وبها نشأ ابنه أبو العباس.وكان ينتحل القراءة والكتاب حتى حذق في علوم اللسان.وتفقه على أبي زكرياء البرقي.ثم طالع مذاهب الفلاسفة ثم صار إلى طلب المعاش من الإمارة فولي أعمال الجباية.ثم صودر في ولايته على مال أعطاه وتخلص من نكبته فنهض في الولايات حتى شارك كل عامل في عمله بما أظهر من كفايته وتنميته للأموال حتى قصر بهم وأديل منهم.وكان الكثير منهم متعلقاً من ابن أبي الحسين رئيس الدولة بذمة خدمة فأسفه بذلك وأغرى به بطانة السلطان ومواليه حتى سعوا به عند السلطان وأنه يروم الثورة بالمهدية حتى خشن له باطن السلطان.فدخل عليه ذات يوم أبو العباس الغساني فاستجازه السلطان في قوله: اليوم يوم المطر فقال الغساني: ويوم رفع الضرر فتنبه السلطان واستزاده فأنشد: والعام تسعة كمثل عام الجوهري فكات إغراء باللياني فأمر أن يتقبض عليه وعلى عدوه ابن العطار وكان عاملا.وأمر أبا زيد بن يغمور بامتحانهما فعذبهما حتى استصفى أموالهما والميل في ذلك على اللياني.وكان في أيام امتحانه يباكر موضع عمله.ثم نمي عنه أنه يروم الفرار إلى صقلية وبوحث بعض من داخله في ذلك فأقر عليه فدفع إلى هلال كبير الموالي من العلوج فضربه إلى أن قتله ورمى بشلوه إلى الغوغاء فعبثوا به وقطعوا رأسه ثم تتبع أقاربه وذووه بالنكال إلى أن الخبر عن انتقاض أبي علي الملياني بمليانة علي يد الأمير أبي حفص كان المغرب الأوسط من تلمسان وأعمالها إلى بجاية في طاعة السلطان منذ تغلب أبوه الأمير أبو زكرياء عليه وفتح تلمسان وأطاعه يغمراسن وكان بين زناتة بتلك الجهات فتن وحروب شأن القبائل اليعاسيب وكان مليانة من قسمة مغراوة بني ورسيفان وكانوا أهل بادية.وتقلص ظل الدولة عن تلك الجهات بعض الشيء.وكان أبو العباس الملياني من مشيخة مليانة صاحب فقه ورواية وسمت ودين رحل إليه الأعلام وأخذ عنه العلماء وانتهت إليه رئاسة الشورى ببلده.ونشأ ابنه أبو علي خلوا من الخلال متهالكاً في الرياسة متبعاً غواية الشبيبة فلما رأى تقلص ظل الدولة وفتن مغراوة مع يغمراسن ومزاحمته لهم حدثته نفسه بالاستبداد فخلع طاعة آل أبي حفص ونبذ دعوتهم وانبرى بها داعياً لنفسه.وبلغ الخبر إلى السلطان فسرح إليه أخاه الأمير أبا حفص ومعه الأمير أبو زيد بن جامع ودن الرنك أخو الفنش وطبقات الجند.فخرج من تونس سنة تسع وخمسين وأغذ السير إلى مليانة فنازلها مدة وشد حصارها حتى اقتحموها غلاباً.وفر أبو علي الملياني ولحق ببني يعقوب من آل العطاف أحد شعوب زغبة فأجاروه وأجازوه إلى المغرب الأقصى إلى أن كان من خبره ما نذكره بعد.ودخل الأمير أبو حفص مليانة ومهد نواحيها وعقد عليها إلى ابن منديل أمير مغراوة فملكها مقيماً فيها لدعوة السلطان شأن غيرها من عمالات مغراوة.وقفل الأمير أبو حفص إلى تونس ولقيه بطريقه كتاب السلطان بالعقد له على بجاية وإمارتها فكره ذلك غبطة بجوار السلطان.وترددت في ذلك رغبته فأديل منها بالشيخ أبي هلال عياد بن سعيد الهنتاني وعقد له على بجاية.ولحق الأمير أبو حفص بالحضرة إلى أن كان من خلافته ما نذكره بعد.وهلك شقيقه أبو بكر ابن الأمير أبي زكريا ثانية مقدمه إلى تونس سنة إحدى وستين فتفجع له الخليفة والقرابة والناس وشهد السلطان جنازته والبقاء لله وحده.الجبر عن فرار أبي القاسم بن أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد وخروجه في رياح كان أبو القاسم بن أبي زيد هذا في جملة ابن عمه الخليفة وتحت جرايته وأبوه أبو زيد هو القائم بالأمر بعد أبيه الشيخ أبي محمد ولحق بالمغرب.وجاء أبو القاسم في جملة الأمير أبي زكريا وأوصى به ابنه إلى أن حدثته نفسه بالتوثب والخروج.وخامره الرعب من إشاعة تناقلها الدهماء سببها أن السلطان استحدث سكة من النحاس مقدرة على قيمة من الفضة حاكى بها سكة الفلوس بالمشرق تسهيلا على الناس في المعاملات بإسرافها وتيسيراً لاقتضاء حاجاتهم.ولما كان لحق سكة الفضة من غش اليهود المتناولين لصرفها وصوغها وسمى سكته التي استحدثها بالحندوس.ثم أفسدها الناس بالتدليس وضربها أهل الريب ناقصة عن الوزن وفشا فيها الفساد.واشتد السلطان في العقوبة عليها فقطع وقتل وصارت ريبة لمن تناولها.وأعلن الناس بالنكير في شأنها وتنادوا بالسلطان في قطعها وكثر الخوض في ذلك وتوقعت الفتنة.وأشيع من طريق الحدثان الذي تكلف به العامة أن الخارج الذي يثير الفتنة هو أبو القاسم بن أبي زيد فأزال السلطان تلك السكة وعفا عليه وأهمه شأن أبي القاسم ابن عمه وبلغه الخبر فخامره الرعب إلى ما كان يحدث نفسه من الخروج ففر من الحضرة سنة إحدى وستين ولحق برياح ونزل على أميرهم شبل بن موسى بن محمد رئيس الدواودة فبايع له وقام بأمره.ثم بلغه اعتزام السلطان على النهوض إليه فخشي بادرته واضطرب أمر العرب من قبيله.ولما أحس أبو القاسم باضطرابهم وخشي أن يسلموه إذا أزادهم السلطان عليها تحول عنهم ولحق بتلمسان وأجاز البحر منها إلى الأندلس وصحب الأمير أبا إسحاق ابن عمه في مثوى اغترابهما بالأندلس.ثم ساءت أفعاله وعظم استهتاره.وفشا النكير عليه من الدولة فلحق بالمغرب وأقام بتينملل مدة.ثم رجع إلى تلمسان وبها مات.وقام الأمير أبو إسحاق بمكانه من جوار ابن الأحمر إلى أن كان من أمره ما نذكره. الخبر عن خروج السلطان إلى المسيلة لما اتصل بالسلطان شأن أبي قاسم ابن عمه أبي زيد وفضاله عن رياح إلى المغرب بعد عقدهم بيعته وأجلابهم على البلاد معه خرج من تونس سنة أربع وستين في عساكر الموحدين وطبقات الجند لتمهيد الوطن ومحو آثار الفساد منه وتقويم العرب على الطاعة.وتنقل في الجهات إلى أن وصل بلاد رياح فدوخها ومهد أرجاءها وفر شبل بن موسى وقومه الدواودة إلى القفر واحتل السلطان بالمسيلة آخر وطن رياح.ووافاه هنالك محمد من عبد القوي أمير بني توجين من زناتة مجدداً لطاعته ومتبركاً بزيارته فتلقاه من البرور تلقي أمثاله وأثقل كاهله بالحباء والجوائز وجنب له الجياد المقربات بالمواكب المثقلة بالذهب واللجم المحلات.وضرب له الفساطيط الفسيحة الأرجاء من ثياب الكتان وجدل القطن إلى ما يتبع ذلك من المال والظهر والكراع والأسلحة.وأقطع له مدينة مقرة وبلد أوماش من عمل الزاب وانقلب عنه إلى وطنه.ورجع السلطان إلى تونس وفي نفسه من رياح ضغن إلى أن صرف إليهم وجه تدبيره كما نذكره ولثانية احتلاله بالحضرة سنة خمس وستين كان مهلك مولاه هلال ويعرف بالقائد وكان له في الدولة مكان بما كان تلادا للسلطان وكان شجاعاً جواداً خيراً محبباً سهلا مقبلا على أهل العلم وذوي الحاجات وله في سبيل الخير آثار منقولة طار له بها ذكر فارتمض السلطان لمهلكه. الخبر عن مقتل مشيخة الدواودة كان شبل بن موسى وقومه من الدواودة قد فعلوا الأفاعيل في اضطراب الطاعة ونصب من لحق بهم من أهل هذا البيت للملك فبايعوا للأمير أبي إسحاق كما ذكرناه.ثم بعده لأبي القاسم ابن عمه أبي زيد.وخرج إليهم السلطان سنة أربع وستين ودوخ أوطانهم ولحقوا بالصحراء ودافعوه على البعد بطاعة ممرضة فتقبلها وطوى لهم على الثنا.ورجع إلى تونس فأوعز إلى أبي هلال عياد عامل بجاية من مشيخة الموحدين باصطناعهم واستئلافهم لتكون وفادتهم عليه من غير عهد.وجمع السلطان أحلافه من كعوب بني سليم ودباب وأفاريق بنه هلال.وخرج من تونس سنة ست وستين في عساكر الموحدين وطبقات الجند.ووافاه بنو عساكر بن سلطان أخوة بني مسعود بن سلطان من الدواودة فعقد لمهدي بن عساكر على إمارة قومه وغيرهم من رياح.وفر بنو مسعود بن سلطان مصحرين في أثرهم حتى نزل نقاوس وعسكروا بثنايا الزاب ورسلهم تختلف إلى أبي هلال إيناساً للمراجعة على يده للدخلة السابقة فأشار عليهم بالوفاد على السلطان وفاء بقصده من ذلك فتقبلوا إشارته.ووفد أميرهم شبل بن موسى بن محمد بن مسعود وأخوه يحيى وبنو عمهما أولاد زيد بن مسعود: سباع بن يحيى بن دريد وابنه وطلحه بن ميمون بن دريد وحداد بن مولاهم ابن خنفر بن مسعود وأخوه فتقبض عليهم لحينهم وعلى دريد ابن تارير من شيوخ كرفة.وانتهبت أسلابهم وضربت أعناقهم ونصبت أشلاؤهم بزراية حيث كانت بيعتهم لأبي القاسم بن أبي زيد وبعث برؤوسهم إلى بسكرة فنصبت بها وأغذ السير غازياً إلى أحيائهم وحللهم بمكانها من ثناية الزاب.وصبحهم هنالك فأجفلوا وتركوا الظهر والكراع والأبنية فامتلأت أيدي العساكر وسدويكش منها ونجوا بالعيال والولد على الأقتاب والعساكر في أتباعهم إلى أن أجازوا وادي شدى قبلة الزاب وهو الوادي الذي يخرج أصله منه جبل راشد قبله المغرب الأوسط ويمر إلى ناحية الشرق مجتازاً بالزاب إلى أن يصب في سبخة نفزاوة من بلاد الجريد.فلما أجاز فلهم الوادي أصحروا إلى المفازة المعطشة والأرض الحرة السوداء المستحجرة المسماة بالحمادة فرجعت العساكر عنهم وانقلب السلطان من غماته ظافراً ظاهراً وأنشده الشعراء في التهنئة ولحق فل الدواودة بملوك زناتة فنزل بنو يحيى بن دريد على يغمراسن بن زيان وبنو محمد بن مسعود على يعقوب بن عبد الحق فأجاروهم وأوسعوهم حباء وملأوا أيديهم بالصلات ومرابطهم بالخيل وأحياءهم بالإبل ورجعوا إلى مواطنهم فتغلبوا على واركلا وقصور ريغة واقتطعوها من إيالة السلطان.ثم زحفوا إلى الزاب فجمع لهم عامله ابن عتو وكان موطناً بمقره ولقيهم على حدود أرض الزاب فهزموه واتبعوه إلى قطاوة فقتلوه عندها واستطالوا على الزاب وجبل أوراس وبلاد الحضنة إلى أن اقتطعتهم الدول إياها من بعد ذلك فصارت ملكاً لهم.هذه الأمة المعروفة بالإفرنجة وتسميها العامة بالافرانسيس نسبة إلى بلد من أمهات أعمالهم تسمى افرانسة.ونسبهم إلى يافث بن نوح وهم بالعدوة الشمالية من عدوتي هذا البحر الرومي الغربي ما بين جزيرة الأندلس وخليج قسطنطينة مجاورون الروم من جانب الشرق والجلالقة من جانب الغرب.وكانوا قد أخذوا بدين النصرانية مع الروم ومنهم لقنوا دينها.واستفحل ملكهم عند تراجع ملك الروم وأجازوا البحر إلى إفريقية مع الروم فملكوها ونزلوا أمصارها العظيمة مثل: سبيطلة وجلولا وقرطاجنة ومرفاق وباغاية ولمس وغيرها من الأمصار وغلبوا على كل من كان بها من البربر حتى اتبعوهم في دينهم وأعطوهم طاعة الانقياد.ثم جاء الإسلام وكان الفتح بانتزاع الأعراب من أيديهم سائر أمصار إفريقية والعدوة الشرقية والجزر البحرية مثل أقريطش ومالطة وصقلية وميورقة ورجوعهم إلى عدوتهم.ثم أجازوا خليج طنجة وغلبوا القوط والجلالقة والبشكنس وملكوا جزيرة الأندلس وخرجوا من ثناياها ودورها إلى بسائط هؤلاء الإفرنجة فدوخوها وعاثوا فيها.ولم تزل الصوائف تتردد إليها صدراً من دولة بني أمية بالأندلس وكان ولاة إفريقية من الأغالبة ومن قبلهم أيضاً يرددون عساكر المسلمين وأساطيلهم من العدوة حتى غلبوهم على الجزر البحرية ونازلوهم في بسائط عدوتهم فلم تزل في نفوسهم من ذلك ضغائن فكان يخالجها الطمع في ارتجاع ما غلبوا عليه منها.وكان الربع أقرب إلى سواحل الشام وطمع فيها.فلما وصل أمر الروم بالقسطنطينية ورومة واستفحل ملك الفرنجة هؤلاء وكان ذلك على هيئة سمو الخلافة بالمشرق فسموا حينئذ إلى التغلب على معاقل الشام وثغوره وزحفوا إليها وملكوا الكثير منها واستولوا على المسجد الأقصى وبنوا فيه الكنيسة العظمى بدل المسجد ونازلوا مصر والقاهرة مراراً حتى جاد الله للإسلام من صلاح الدين أبي أيوب الكردي صاحب مصر والشام في أواسط المائة السادسة جنة واقية وعذاباً على أهل الكفر مصبوباً فأبلى في جهادهم وارتجع ما ملكوه وطهر المسجد الأقصى من إفكهم وكفرهم وهلك على حين غرة من الغزو والجهاد.ثم عاودوا الكرة ونازعوا مصر في المائة السابعة على عهد المالك الصالح صاحب مصر والشام وأيام الأمير أبي زكريا بتونس فضربوا أبنيتهم بدمياط وافتتحوها وتغلبوا في قرى مصر.وهلك الملك الصالح خلال ذلك وولي ابنه المعظم وأمكنت المسلمين في الغزو فرصة أيام فيض النيل ففتحوا الغياض وأزالوا مدد الماء فأحاط بمعسكرهم وهلك منهم عالم وقيد سلطانهم أسيراً من المعركة إلى السلطان فاعتقله بالإسكندرية حتى مر عليه بعد حين من الدهر وأطلقه على أن يمكنوا المسلمين من دمياط فوفوا له.ثم على شرط المسالمة فيما بعد فنقضه لمدة قريبة واعتزم على الحركة إلى تونس متجنباً عليهم فيما زعموا بمال أدعياء تجار أرضهم وأنهم أقرضوا اللياني.فلما نكبه السلطان طالبوه بذلك المال وهو نحو ثلاثمائة دينار بغير موجب يستنمون إليه فغضبوا لذلك واشتكوا إلى طاغيتهتم فامتعض لهم ورغبوه في غزو تونس لما كان فيها من المجاعة والموتان.فأرسل الفرنسيس طاغية الإفرنج واسمه سنلويس بن لويس وتلقب بلغة الإفرنج روا فرنس ومعناه ملك افرنس فأرسل إلى ملوك النصارى يستنفرهم إلى غزوها وأرسل إلى القائد خليفة المسيح بزعمهم فأوعز إلى ملوك النصرانية بمظاهرته وأطلق يده في أموال الكنائس مدداً له.وشاع خبر استعداد النصارى للغزو في سائر بلادهم وكان الذين أجابوه للغزو ببلاد المسلمين من ملوك النصرانية ملك الانكتار وملك اسكوسيا وملك تورك وملك برشلونة واسمه ريدراكون وجماعة آخرون من ملوك الإفرنج هكذا ذكر ابن الأثير.وأهم المسلمين بكل ثغر شأنهم وأمر السلطان في سائر عمالاته بالاستكثار من العدة وأرسل في الثغور لذلك بإصلاح الأسوار واختزان الحبوب وانقبض تجار النصارى عن تعاهد بلاد المسلمين.وأوفد السلطان رسله إلى الفرنسيس لاختبار حاله ومشارطته على ما يكف عزمه.وحملوا ثمانين ألفاً من الذهب لاستتمام شروطهم فيما زعموا فأخذ المال من أيديهم وأخبرهم أن غزوه إلى أرضهم.فلما طلبوا المال اغتل عليهم بأنه لم يباشر قبضه ووافق شأنهم معه وصول رسول عن صاحب مصر وأنشده قائلا من قول أبي مطروح شاعر السلطان بمصر: قل للفرنسيس إذا جئته مقال صدق من وزير نصيح آجرك الله على ما جرى من قتل عباد نصارى المسيح أتيت مصراً تبتغي ملكها تحسب أن الزمر بالطبل ريح فساقك الحين إلى أدهم ضاق به عن ناظريك الفسيح وكل أصحابك أودعتهم بسوء تدبيرك بطن الضريح سبعون ألفاً لا يرى منهم إلا قتيل أو أسير جريح ألهمك الله إلى مثلها لعل عيسى منكم يستريح إن كان باباكم بذا راضياً فرب غش قد أتى من نصيح فاتخذوه كاهناً إنه أنصح من شق لكم أو سطيح وقل لهم إن أزمعوا عودة لأخذ ثأر أو لشغل قبيح دار ابن لقمان على حالها والقيد باق والطواشي صبيح تونس بما يسمع عنهم من المخالفات عذراً دافعهم به وصرف الرسل من سائر الآفاق ليومه.فوصل رسل السلطان منذرين بشأنهم وجمع الطاغية حشده وركب أساطيله إلى تونس آخر ذي القعدة سنة ثمان وستين فاجتمعوا بسردانية وقيل بصقلية.ثم واعدهم بمرسى تونس وأقلعوا ونادى السلطان في الناس بالنذير بالعدو والاستعداد له والنفير إلى أقرب المدائن وبعث الشواني لاستطلاع الخبر واستبهم أياماً.ثم توالت الأساطيل بمرسى قرطاجنة وتفاوض السلطان مع أهل الشورى من الأندلس والموحدين في تخليتهم وشأنهم من النزول بالساحل أو صدهم عنه فأشار بعضهم بصدهم حتى تنقذ ذخيرتهم من الزاد والماء فيضطرون إلى الإقلاع.وقال آخرون إذا أقلعوا من مرسى الحضرة ذات الحامية والعمد صبحوا بعض الثغور سواها فملكوه واستباحوه واستصعبت مغالبتهم عليه فواص السلطان على هذا وخلوا وشأنهم من النزول فنزلوا بساحل قرطاجنة بعد أن ملئت سواحل رودس بالمرابطة بجند الأندلس والمطوعة زهاء أربعة آلاف فارس لنظر محمد بن الحسين رئيس الدولة.ولما نزل النصارى بالساحل وكانوا زهاء ستة آلاف فارس وثلاثين ألفاً من الرجالة فيما حدثني أبي عن أبيه رحمهما الله.قال: وكانت أساطيلهم ثلاثمائة بين كبار وصغار وكانوا سبعة يعاسيب كان فيهم الفرنسيس وأخوه جرون صاحب صقلية وصاحب الجزر والعلجة زوج الطاغية تسمى الرينة وصاحب البر الكبير وتسميهم العامة من أهل الأخبار ملوكاً ويعنون أنهم متباينون إذ ظاهروا على غزو تونس وليس كذلك.وإنما كان ملكاً واحداً وهو طاغية الفرنجة وأخوته وبطارقته عدد كل واحد منهم ملكاً لفضل قوته وشدة بأسه فأنزلوا عساكرهم في المدينة القديمة من قرطاجنة وكانت ماثلة الجدران اضطرم المعسكر بداخلها ووصلوا ما فصله الخراب من أسوارها بألواح الخشب ونضدوا شرفاتها وأداروا على السرر خندقاً بعيد المهوى وتحصنوا.وندم السلطان على إضاعة الحزم في تخريبها أو دفاعهم عن نزلها.وأقام ملك الفرنجة وقومه متمرسين بتونس ستة أشهر والمدد يأتيه في أساطيله من البحر من صقلية والعلوة بالرجل والأسلحة والأقوات.وسلك بعض المسلمين طريقاً في البحرية واتبعهم العرب فأصابوا غرة في العدو فظفروا وغنموا وشعروا بمكانهم فكلفوا بحراسة البحيرة وبعثوا فيها الشواني بالرماة ومنعوا الطريق إليهم وبعث السلطان في ممالكه حاشداً فوافته الأمداد من كل ناحية ووصل أبو هلال صاحب بجاية وجاءت جموع العرب وسدويكش وولهاصة وهوارة حتى أمده ملوك المغرب من زناتة وسرح إليه محمد بن عبد القوي عسكر بني توجين لنظر ابنه زيان.وأخرج السلطان ابنتيه وعقد لسبعة من الموحدين على سائر الجند من المرتزقة والمطوعة وهم: إسماعيل بن أبي كلداسن وعيسى بن داود ويحيى بن أبي بكر ويحيى بن صالح وأبو هلال عياد صاحب بجاية ومحمد بن عبو وأمرهم كلهم راجع ليحيى بن صالح ويحيى بن أبي بكر منهم.واجتمع من المسلمين عدد لا يحصى وخرج الصلحاء والفقهاء والمرابطون لمباشرة الجهاد بأنفسهم والتزم السلطان القعود بإيوانه مع بطانته وأهل اختصاصه وهم الشيخ أبو سعيد المعروف بالعود وابن أبي الحسين وقاضيه أبو القاسم بن البراء وأخو العيش.واتصلت الحرب والتقوا في منتصف محرم سنة تسع بالمنصف فزحف يومئذ يحيى صالح وجرون.فمات من الفريقين خلق وهجموا على المعسكر بعد العشاء وتدامر المسلمون عنده ثم غلبوا عليه بعد أن قتل من النصارى زهاء خمسمائة فأصبحت أبنيته مضروبة كما كانت.وأمر بالخندق على المعسكر فتعاصرته الأيدي واحتفر فيه الشيخ أبو سعيد بنفسه وابتلي المسلمون بتونس وظنوا الظنون.واتهم السلطان بالتحول عن تونس إلى القيروان.ثم إن الله أهلك عدوهم وأصبح ملك الفرنجة ميتاً يقال حتف أنفه ويقال أصابه سهم غرب في بعض المواقف بأبته ويقال أصابه مرض الوباء ويقال وهو بعيد أن السلطان بعث إليه مع ابن جرام الدلاصي بسيف مسموم وكان فيه مهلكه.ولما هلك اجتمع النصارى على ابنه دمياط سمي بذلك لميلاده بها فبايعوه واعتزموا على الإقلاع.وكان أمرهم راجعاً إلى العلجة فراسلت المستنصر أن يبذل لها ما خسروه في مؤنة حركتهم وترجع بقومها فأسعفها السلطان لما كان العرب اعتزموا على الانصراف إلى مشاتيهم.وبعث مشيخة الفقهاء لعقد الصلح في ربيع الأول سنة تسع وستين فتولى عقده وكتابه القاضي ابن زيتون لخمسة عشر عاماً.وحضر أبو الحسن علي بن عمرو وأحمد بن الغماز وزيان بن محمد بن عبد القوي أمير بني توجين واختص جرون صاحب صقلية بسلم عقده على جزيرته.وأقلع النصارى بأساطيلهم وأصابهم عاصف من الريح أشرفوا على العطب وهلك الكثير منهم.وأغرم السلطان الرعايا ما أعطى العدو من المال فأعطوه طواعية.يقال إنه عشرة أحمال من المال وترك النصارى بقرطاجنة تسعين منجنيقاً.وخاطب السلطان صاحب المغرب وملوك النواحي بالخبر ودفاعه عن المسلمين وما عقده من الصلح وأمر بتخريب قرطاجنة وأن يؤتى بنيانها من القواعد فصير أبنتيها طامسة ورجع الفرنجة إلى دعوتهم فكان آخر عهدهم بالظهور والاستفحال ولم يزالوا في تناقص وضعف إلى أن افترق ملكهم عمالات.واستبد صاحب صقلية لنفسه وكذا صاحب نايل وجنوة وسردانية وبقي بيت ملكهم الأقدم لهذا العهد على غاية من الفشل والوهن.والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.أصل هذا الرجل من بني سعيد رؤساء القلعة المجاورة لغرناطة وكان كثير منهم قد استعملوا أيام الموحدين بالعدوتين وكان جده أبو الحسن سعيد صاحب الأشغال بالقيروان.ونشأ حافده هذا في كفالته.ولما عزل وقفل إلى المغرب هلك ببونة سنة أربع وستمائة ورجع حافده محمد إلى تونس والشيخ أبو محمد بن أبي حفص صاحب إفريقية لذلك العهد فاعتلق بخدمة ابنه أبي زيد.ولما ولي الأمر بعد وفاة أبيه غلب محمد هذا على هواه.ثم جاء السيد أبو علي من مراكش على إفريقية وارتحل أبو زيد إلى مراكش ومحمد بن أبي الحسين إلى تونس واتصل الأمير أبي زكرياء لأول استبداده فغلب على هواه وكان مبختاً في صحابة الملوك.ولما ولي المستنصر أجراه على سننه برهة ثم تنكر له إثر كائنه اللحياني وعظمت سعاية أعدائه من البطانة وأشاعوا بمداخلته لأبي القاسم ابن مخدومه أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد فنكبه السلطان واعتقله بداره تسعة أشهر.ثم سرحه وأعاده إلى مكانه وثار من أعدائه واستولى على أمور السلطان إلى أن هلك سنة إحدى وسبعين.وكان ابن عمه سعيد بن يوسف بن أبي الحسن صاحب أشغال الحضرة وكان قد أفنى مالا جسيماً ونال من الحضرة منالا.وكان الرئيس أبو عبد الله متفنناً في العلوم مجيداً في اللغة.يقرض الشعر فيحسن ويرسل فيجيد.وله من التواليف: كتاب ترتيب المحكم لابن سيدة على نسق الصحاح للجوهري واختصاره وسماه الخلاصة.وكان في رياسته صليب الرأي قوي الشكيمة عالي الهمة شديد المراقبة والحزم في الخدمة وله شعر نقل منه التجاني وغيره.ومن أشهر ما نقل عنه من شعره يخاطب عنان بن جابر عن الأمير أبي زكريا لما خالف واتبع ابن غانية وهي على روي الراء كان قبلها أخرى على روي الدال.وكان له ولد اسمه سعيد وترقى في حياة أبيه المراتب السلطانية.ثم اغتبظ دون غايته.وفي ثالثة مهلكه كان مهلك الشيخ أبي سعيد عثمان بن محمد الهنتاتي المعروف بالعود الرطب ويعرف أهل بيته بالمغرب ببني أبي زيد.وكان منهم عبد العزيز المعروف بصاحب الأشغال كان فر من المغرب أيام السعيد لجفوة نالته ولحق بسجلماسة سنة إحدى وأربعين.وقد كان انتزى بها عبد الله الهزرجي وبايع للأمير أبي زكريا فأجازه عبد الله إلى تونس ونزل على الأمير أبي زكريا ونظمه في طبقات مشيخة الموحدين وأهل مجلسه.ثم حظي عند ابنه المستنصر بعد نكبة بني النعمان حظوة لا لم كفاء لها.واستولى على الرأي والتدبير إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين فشيع طيب الذكر ملحفاً بالرضوان من الخاصة والكافة والله مالك الأمور. |
الخبر عن انتقاض أهل الجزائر وفتحها
كان أهل الجزائر لما رأوا تقلص ظل الدولة عن زناتة وأهل المغرب الأوسط حدثوا أنفسهم بالاستبداد والقيام على أمرهم وخلع ربقة الطاعة من أعناقهم فجاهروا بالخلعان.وسرح السلطان إليهم العساكر سنة تسع وستين وأوعز إلى صاحب ثغر بجاية وهو أبو هلال عياد بن سعيد الهنتاني فزحف إليها في عساكر الموحدين سنة إحدى وسبعين ونازلها مدة حول.وامتنعت عليه فأقلع عنها ورجع إلى بجاية وهلك بمعسكره ببني ورا سنة ثلاث وسبعين.ثم إن السلطان صرف عزمه إلى منازلتهم سنة أربع وسبعين وسرح إليهم العساكر في البر وأنفذ الأساطيل في البحر وعقد على عسكر تونس لأبي الحسن بن ياسين وأوعز إلى عامل بجاية بإنفاذ عسكر آخر فأنفذه لنظر أبي العباس بن أبي الأعلام ونهضت هذه العساكر براً وبحراً إلى أن نازلتها وأحاطت بها من كل جانب واشتد حصارها.ثم اقتحمت عنوة واستحر فيهم القتل وانتهبت المنازل وافتضح الكرائم في أبكارهن.وتقبض على مشيخة البلد فنقلوا إلى تونس مصفدين واعتقلوا بالقصبة إلى أن سرحهم الواثق بعد مهلك السلطان. الخبر عن مهلك السلطان المستنصر ووصف شيء من أحواله كان السلطان بعد فتح الجزائر قد خرج من تونس للصيد وتفقد العمالات فأصابه في سفره مرض ورجع إلى داره واشتدت علته وكثر الإرجاف بموته.وخرج يوم الأضحى سنة خمس وسبعين يتهادى بين رجلين ورجلاه لا يخطان الأرض.وجلس للناس في منبر متجلداً.ثم دخل بيته وهلك لليلته رضوان الله عليه وكان شأن هذا المستنصر في ملوك آل أبي حفص عظيماً.وشهرته طائرة الذكر بما انفسح أمد سلطانه ومدت إليه ثغور القاصية من العدوتين يد الاعتصام به.وما اجتمع بحضرته من أعلام الناس الوافدين على أبيه وخصوصاً الأندلس من شاعر مفلق وكاتب بليغ وعالم نحرير وملك أروع وشجاع أهيس متفيئين ظل ملكه متناغين في اللياذ به لطموس معالم الخلافة شرقاً وغرباً على عهده وخفوت صوت الملك إلا في إيوانه.فقد كان الطاغية التهم قواعد الملك بشرق الأندلس وغربها فأخذت قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وبلنسية سنة ست بعدها وإشبيلية سنة ست وأربعين.واستولى الططر على بغداد دار خلافة العرب بالمشرق وحاضرة الإسلام سنة ست وخمسين وانتزع بنو مرين ملك بني عبد المؤمن.واستولوا على حضرة مراكش دار خلافة الموحدين سنة ثمان وستين كل ذلك على عهده وعهد أبيه ودولتهم أشد ما كانت قوة وأعظم رفاهية وجباية وأوفر قبيلا وعصابة وأكثر عساكر وجنداً فأمله أهل العالم للكرة وأجفلوا إلى الإمساك بحقويه.وكانت له في الأبهة والجلال أخبار وفي الحروب والفتوح آثار مشهورة وفي أيلمه عظمت حضارة تونس وكثر ترف ساكنها.وتأنق الناس في الملابس والمراكب والمباني والماعون والأبنية فاستجادوها وتناغوا في اتخاذها وانتقائها إلى أن بلغت غايتها.ثم رجعت من بعده أدراجها والله مالك الأمور الخبر عن بيعة الواثق يحيي بن المستنصر وهو المشهور بالمخلوع وذكر أحواله لما هلك السلطان المستنصر سنة خمس وسبعين كما قدمناه اجتمع الموحدون وسائر الناس على طبقاتهم إلى ابنه يحيى فبايعوه ليلة مهلك أبيه وفي غدها وتلقب الواثق.وافتتح أمره برفع المظالم وتسريح أهل السجون وإفاضة العطاء في الجند وأهل الديوان وإصلاح المساجد وإزالة كثير من الوظائف عن الناس.وامتدحه الشعراء فأسنى جوائزهم وأطلق عيسى بن داود من اعتقاله ورده إلى حاله.وكان المتولي لأخذ البيعة على الناس والقيام بأمره سعيد بن يوسف بن أبي الحسين لمكانه من الدولة ورسوخه في الشهرة فقام بالأمر ولم يزل على ذلك إلى أن نكبه وأدال منه بالحببر. الخبر عن نكبة ابن أبي الحسين واستبداد ابن الحببر علي الدولة كان هذا واسمه يحيى بن عبد الملك الغافقي وكنيته أبو الحسن أندلسياً من أعمال مرسية وفد مع الجالية من شرق الأندلس أيام استيلاء العدو وكان يحسن الكتاب ولم يكن له من الخلال سواها فصرف في الآعمال ثم ارتقى إلى خدمة ابن أبي الحسين فاستكتبه ثم رقاه إلى ولاية الديوان فعظمت حاله وكانت له أثناء ذلك مداخلة للواثق ابن السلطان اعتدها له سابقة.فلما استوسق الأمر للواثق رفع منزلته واختصه بالشورى وقلده كتاب علامته.وكان سعيد بن أبي الحسين مزاحماً له منافساً لما كان أسف منه بقدميه.فأغرى به السلطان ورغبه في ماله فتقبض على سعيد بن أبي الحسين لستة أشهر من الدولة سنة ست وسبعين واعتقل بالقصبة.وتقبض على نقله ابن ياسين وابن صياد الرجالة وغيرهم وقدم على الأشغال مدافع من الموالي العلوجي.ووكل أبو زيد بن أبي الأعلام من الموحدين بمصادرة ابن أبي الحسين على المال وامتحانه.ولم يزل يستخرج منه حتى ادعى الإملاق واستحلف فحلف ثم ضرب فادعى مؤتمناً من ماله عند قوم استكشفوا عنه فأدوه.ثم دل بعض مواليه على ذخيرة بداره دفينة فاستخرج منها زهاء ستمائة ألف من الدنانير فلم يقبل بعدها مقاله وبسط عليه العذاب إلى أن هلك في ذي الحجة من سنته ودفن شلوه بحيث لم يعرف مدفنه واستبد أبو الحسن الحببر على الدولة والسلطان وبعث أخاه أبا العلى والياً على بجاية وأسف المشيخة والبطانة بعتوه واستبداده وما يتحشمونه من مباكرة بابه إلى أن عاد وبال ذلك على الدولة كما نذكره. الخبر عن إجازة السلطان أبي إسحاق من الأندلس ودخول أهل بجاية في طاعته كان السلطان المستنصر قد عقد على بجاية سنة ستين لأبي هلال عياد بن سعيد الهنتاتي وأدال به من أخيه الأمير أبي حفص فأقام والياً عليها إلى أن هلك ببني ورا سنة ثلاث وسبعين كما ذكرناه.وعقد عليها من بعده لابنه محمد فكان له غناء في ولايته واضطلع بأمره إلى أن هلك المستنصر وولى ابنه الواثق فبادر إلى إيتاء طاعته وبعث وفد بجاية بيعتهم.ثم قلد أبو الحسن الحببر القائم بالدولة أخاه إدريس ولاية الأشغال ببجاية فقام بها واقتنى الأموال وتحكم في المشيخة.وأنف محمد بن أبي هلال من استبداده عليه فهم إدريس بنكبته فخشي محمد بن أبي هلال بادرته وداخل بعض بطانته في قتله.وفاوض الملك فيه فعدوا عليه لأول ذي القعدة سنة سبع وسبعين بمقعده من باب السلطان فقتلوه ورموا برأسه إلى الغوغاء والزعانف فعبثوا به.ووافق ذلك حلول السلطان أبي إسحاق بتلمسان وكان عند بلوغ الخبر إليه بمهلك أخيه المستنصر أجمع أمره على الإجازة لطلب حقه بعدما تردد برهة.ثم اعتزم وأجاز إلى تلمسان ونزل على يغمراسن ابن زيان فقام لمورده واحتفل في مبرته.وفعل أهل بجاية وابن أبي هلال فعلتهم وخشوا بوادر السلطان بالحضرة فخاطبوا السلطان أبا إسحاق وأتوه بيعتهم وبعثوا وفدهم يستحثونه للملك فأجابهم ودخل إليهم آخر ذي القعدة من سنته فبايعه الموحدون والملأ من أهل بجاية.وقام بأمره محمد بن أبي هلال.ثم زحف في عساكرة إلى قسطنطينة فنازلها وبها عبد العزيز بن عيسى بن داود فامتنعت عليه فأقلع عنها إلى أن كان من أمره ما نذكره. الخبر عن خروج الأمير أبي حفص بالعساكر للقاء السلطان أبي إسحاق ثم دخوله في طاعته وخلع الواثق لما بلغ الخبر إلى الواثق ووزيره المستبد عليه ابن الحببر بدخول السلطان أبي إسحاق بجاية سرح العساكر إلى حربه وعقد عليها لعمه أبي حفص.واستوزر له أبا زيد بن جامع فخرج من تونس واضطرب معسكره ببجاية.وعقد الواثق على قسطنطينة لعبد العزيز بن عيسى بن داود لذمة صهر كانت له من ابن الحببر فتقدم إلى قسطنطينة ومانع عنها الأمير أبا إسحاق كما ذكرناه.ثم اضطرب رأى ابن الحببر في خروج الأمير أبي حفص وأراد انفضاض عسكره فكتب الواثق إلى أبي حفص ووزيره ابن جامع يغري كل واحد منهما بصاحبه فتفاوضا واتفقا على الدعاء للأمير أبي إسحاق وبعثوا إليه بذلك.واتصل الخبر بالواثق وهو بتونس منتبذاً عن الحامية والبطانة فاستيقن ذهاب ملكه وأشهد الملأ وانخلع عن الأمر لعمه السلطان أبي إسحاق غرة ربيع الأول من سنة ثمان وسبعين وتحول عن قصور الملك بالقصبة إلى دار الأقوري وانقرضت دولته وأمره.والبقاء لله وحده. الخبر عن استيلاء السلطان أبي إسحاق على الحضرة لما بلغ السلطان أبا إسحاق كتاب أخيه الأمير أبي حفص وابن جامع من باجة بادر مغذاً إليهم.ثم وافاه خبر انخلاع الواثق ابن أخيه بتونس فارتحلوا جميعاً وتسايل أهل الحضرة على طبقاتهم إلى لقائه وأتوه طاعتهم.ودخل الحضرة منتصف ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين ومحمد بن أبي هلال شيخ دولته.وعقد على حجابته لأبي القاسم ابن شيخ كاتب ابن أبي الحسين وعلى خطة الأشغال لابن أبي الحسن بن خلدون.كان مع وفد أبيه الحسن على الأمير أبي زكرياء من إشبيلية لذمة رعاها لهم بما كانت أم ولده أم الخلائف من هدايا ابن المحتسب أبي زكرياء محلهم.ورحل الحسن إلى المشرق ومات هنالك وبقي ابنه أبو بكر بالحضرة فاستعمله الأمير أبو إسحاق لأول دخوله في خطة الأشغال ولم يكن يليها إلا الموحدون كما قلناه.وعقد لفضل بن علي بن مزني على الزاب ولم يكن أيضاً يليها إلا الموحدون.لكن رعى لفضل بن مزني ذمة اغترابه معه إلى الأندلس فعقد له على الزاب ولأخيه عبد الواحد على بلاد قسطيلية.ثم تقبض على ابن الحببر وأمر باعتقاله ودفعه إلى موسى بن محمد بن ياسين للمصادرة والامتحان.ووجد مكان التمائم عليه طوابع وطلسمات مختلفة الأشكال والصور يسحر بها فيما زعموا مخدومه فحاق به وبالها.وكان شأنه في الامتحان والاستخلاف والهلاك بالعذاب شأن سعيد بن أبي الحسين منكوبه أيام دولته إلى أن هلك شهر جمادى الأولى من سنته والله لا يظلم مثقال ذرة.ولما اقتعد السلطان أبو إسحاق كرسي ملكه واستوثقت عرى خلافته تقبض على محمد بن أبي هلال وقتله لحين نكبته سنة ست وسبعين لما كان يتوقع منه من المكروه في الدولة وما الخبر عن مقتل الواثق وولده لما انخلع الواثق عن الأمر وتحول إلى دار الأقوري فأقام بها أياماً وكان له ثلاثة من الولد أصاغر: الفضل والطاهر والطيب فكانوا معه.ثم نفي عنه للسلطان أبي إسحاق أنه يروم الثورة وأنه داخل في ذلك بعض رؤساء النصارى الجند فأقلق السلطان مكان ترشيحه واعتقله بمكان اعتقال بنيه هو من القصبة أيام أخيه المستنصر.لم بعث إليهم لليلته فذبحوا جميعاً شهر صفر سنة تسع وتسعين.واستوسق له الأمر وأطلق من عنان الإمارة لولده إلى أن كان من شأنهم ما يذكر. الخبر عن ولاية الأمير أبي فارس ابن السلطان أبي إسحاق على بجاية بعهد أبيه والسبب في ذلك كان للسلطان أبي إسحاق من الأبناء خمسة: أبو فارس عبد العزيز وكان أكبرهم وأبو محمد عبد الواحد وأبو زكرياء يحيى وخالد وعمر.وكان السلطان المستنصر قد حبسهم عند فرار أبيهم إلى رياح في أيامه ببعض حجر القصر وأجرى عليهم رزقاً فنشئوا في ظل كفالته وجميم رزقه إلى أن استولى أبوهم السلطان أبو إسحاق على الملك فطلعوا بآفاقه.وطالت فروعهم في دوحه واشتملوا على العز واصطنعوا أهل السوابق من الرجال وأرخى السلطان لهم ظلهم في ذلك.وكان المجلي فيها كبيرهم أبو فارس بما كان مرشحاً لولاية العهد وكان ممن اصطنعه وألقى عليه رداء محبته في الناس وعنايته أحمد بن أبي بكر بن سيد الناس اليعمري وأخوه أبو الحسين لسابقة رعاها لهما وذلك أن أباهما أبا بكر بن سيد الناس كان من بيوت إشبيلية حافظاً بالحديث رواية له.ظاهرياً في فقهه على مذهب داود وأصحابه.وكانت لأهل إشبيلية خصوصاً من الأندلس وصلة بالأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص وبنيه منذ ولايته غرب الأندلس.فلما تكالب الطاغية على العدوة والتهم ثغورها واكتسح بسائطها.وأسف إلى قواعدها وأمصارها أجاز الأعلام وأهل البيوت إلى أرض المغربين وإفريقية.وكان قصدهم إلى تونس أكثر لاستفحال الدولة الحفصية بها.فلما رأى الحافظ أبو بكر اختلال أحوال الأندلس وقبح مصائرها وخفة ساكنها أجمع الرحلة عنها إلى ما كان بتونس من سابقته عند هؤلاء الخلفاء.فأجاز البحر ونزل بتونس فلقاه السلطان تكرمة وجعل إليه تدريس العلم بالمدرسة عند حمام الهوا التي أسستها أمه أم الخلائف.ونشأ بنوه أحمد وأبو الحسين في جو الدولة وحجر كفالتها للاختصاص الذي كان لأبيهم بها.وعدلوا عن طلب العلم إلى طلب الدنيا وتشوقوا إلى مراتب السلطان واتصلوا بأبناء السلطان أبي إسحاق بمكانهم من حجر القصر حيث أنزلهم عمهم بعد مذهب أبيهم فخالطوهم واستخدموا لهم.ولما استولى السلطان على الأمر ورشح ابنه أبا فارس العهد وأجراه على سنن الوزارة فاصطنع أحمد بن سيد الناس ونوه باسمه وخلع عليه لبوس كرامته.واختصه بلقب حجابته وأخوه أبو الحسين يناهضه في ذلك عنده.ونفس ذلك عليهما البطانة فأغروا السلطان أبا إسحاق بابنه وخوفوه شأنه.وإن أحمد بن سيد الناس داخله في التوثب بالدولة.وتولى كبر هذه السعاية عبد الوهاب بن قائد الكلاعي من علية الكتاب ووجوههم.كان يكتب العلامة يومئذ فسطا السلطان بابن سيد الناس سنة تسع وستين آخر ربيع استدعي إلى باب القصر فتعاورته السيوف هبراً ووري شلوه ببعض الحفر.وبلغ الخبر إلى الأمير أبي فارس فركب إلى أبيه في لبوس الحزن فعزاه أبوه عن ذلك بأنه ظهر لابن سيد الناس على المكر والخديعة بالدولة.وأماط سواده بيده ونجا أبو الحسين من هذه المهلكة.واعتقل في لمة من رجال الأمير أبي فارس وبطانته بعد أن توارى أياماً إلى أن أطلق من محبسه وكان من أمره ما نذكره بعد.واستبلغ السلطان في تأنيس ابنه ومسح الضغينة عن صدره وعقد له على بجاية وأعمالها وأنفذه إليها أميراً مستقلا.وأنفذ معه في رسم الحجابة جدي محمد ابن صاحب أشغاله أبي بكر بن الحسن بن خلدون فخرج إليها سنة تسع وستين وقام بأمرها إلى آخر دولته كما نذكره. الخبر عن ثورة ابن الوزير بقسطنطينة ومقتله اسم هذا الرجل أبو بكر بن موسى بن عيسى ونسبته في كومية من بيوت الموحدين.كان مستخدماً لابن كلداسن الوالي بقسطنطينة بعد ابن النعمان من مشيخة الموحدين أيام المستنصر.ووفد ابن كلداسن على الحضرة وأقام ابن وزير نائباً عنه بقسطنطينة فكان له غناً وصرامة.وولاه السلطان حافظاً على قسطنطينة.واتصلت ولايته وهلك المستنصر واضطربت الأحوال.ثم ولاه الواثق ثم السلطان أبو إسحاق وكان ابن وزير هذا طموحاً جموح الأمل وعلم أن قسطنطينة معقل ذلك القطر وحصنه فحدثته نفسه بالامتناع بها والاستبداد على الدولة.وساء أثره في أهلها فرفعوا أمرهم إلى السلطان أبي إسحاق واستعدوه فلم يعدهم لما رأى من مخايل انحرافه عن الطاعة.وكتب هو بالاعتذار والنكير لما جاءوا به فتقبل وأغضى له عن هناته.ولما مر به الأمير أبو فارس إلى محل إمارته من بجاية سنة تسمع وسبعين قعد عن لقائه وأوفد عليه جمعاً من الصلحاء بالمعاذير والاستعطاف فمنحه من ذلك كفاء مرضاته حتى إذا أبعد الأمير أبو فارس إلى بجاية اعتزم هو على الانتزاء.وكاتب ملك أرغون في جيش النصارى يكون معه في ثغره يردد بهم الغزو على أن يكون فيما زعموا داعية له فأجابه ووعده ببعث الأسطول إليه فجاهر بالخلعان وانتزى بثغر قسطنطينة داعياً لنفسه آخر سنة ثمانين.وزحف إليه الأمير أبو فارس من بجاية في عساكره واحتشد الأعراب وفرسان القبائل إلى أن احتل بميلة.ووفد عليه مشيخة من أهل قسطنطينة بمكر من الرغبة والتوسل بعثهم بها ابن وزير فأعرض عنهم وصبح قسطنطينة في أول ربيع سنة إحدى وثمانين فنازلها وجمع الأيدي على حصارها.ونصب المجانيق وقرب مقاعد الرماة وقاتلها يوماً أو بعض يوم وتسور عليهم المعقل من بعض جهاته.وكان المتولي لتسوره حاجبه محمد بن أبي بكر بن خلدون وأبلى ابن وزير عند الصدمة حتى أحيط به وقتل هو وأخوه وأشياعهما ونصبت رؤوسهم بسور البلد.وتمشى الأمير في سكك البلد مسكناً ومؤنساً وأمر برم ما تثلم من الأسوار وبإصلاح القناطر.ودخل إلى القصر وبعث بالفتح إلى أبيه بالحضرة.وجاء أسطول النصارى إلى مرسى القل في مواعدة ابن وزير فأخفق مسعاهم وارتحل لأمير أبو فارس ثالثة الفتح إلى بجاية فدخلها آخر ربيع من سنته. الخبر عن قيادة أبناء السلطان العساكر إلى الجهات كان السلطان يؤثر أبناءه بمراتب ملكة ويوليهم خطط سلطانه شغفاً بهم وترشيحاً لهم فعقد في رجب سنة إحدى وثمانين لابنه أبي زكرياء على عسكر من الموحدين والجند وبعثه إلى قفصة للإشراف على جهاتها.وضم مجابيها فخرج إليها وقضى شأنه من حركته وانصرف إلى تونس في رمضان من سنته.ثم عقد لابنه الآخر أبي محمد عبد الواحد على عسكره وأنفذه إلى وطن هوارة لاقتضاء مغارمهم وجباية ضرائبهم وفرائضهم وبعث معه عبد الوهاب ابن قائد الكلاعي مباشراً لذلك وواسطة بينه وبين الناس فانتهى إلى القيروان وبلغه شأن الدعي وظهوره في دباب بنواحي طرابلس فطير بالخبر إلى السلطان وأقبل على شأنه.ثم انتشر أمر الدعي فأنكفأ راجعاً إلى تونس. الخبر عن صهر السلطان مع عثمان بن يغمراسن كان السلطان لما أجاز البحر من الأندلس لطلب ملكه ونزل على يغمراسن بن زيان بتلمسان فاحتفل لقدومه وأركب الناس للقائه وأتاه ببيعته على عادته من سلفه لما علم أنه أحق بالأمر ووعد النصرة من عدوه والمؤازرة على أمره وأصهر إليه في إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة بابنه عثمان تشريفاً خطبه منه فولاه الإسعاف به.ولما استولى السلطان على حضرته واستبد بأحوال ملكه بعث يغمراسن ابنه إبراهيم المكنى بأبي عامر في وفد من قومه لإتمام ذلك العقد فاعتمد السلطان مبرتهم وأسعف طابتهم وأقاموا بالحضرة أياماً وظهر من إقدامهم في فتن الدعي مقامات وانصرفوا بظعينهم سنة إحدى وثمانين مجبورين محبورين.وابتنى بها عثمان لحين وصولها فكانت من عقائل قصورهم ومفاخر دولتهم وذكراً لهم ولقومهم آخر الأيام. الخبر عن ظهور الدعي ابن أبي عمارة وما وقع من الغريب في أمره هو أحمد بن مرزوق بن أبي عمارة من بيوتات بجاية الطارئين عليها من المسيلة ونشأ ببجاية وسيماً محترفاً بصناعة الخياطة غراً غمراً.وكان يحدث نفسه بالملك لما كان العارفون زعم يخبرونه بذلك.وكان هو بخط فيريه خطه ذلك.ثم اغترب عن بلده ولحق بصحراء سجلماسة واختلط بعرب المعقل وانتمى إلى أهل البيت وادعى أنه الفاطمي المنتظر عند الأغمار وأنه يحيل المعادن إلى الذهب بالصناعة فاشتملوا عليه وتحدثوا بشأنه أياماً.أخبرني طلحة بن مظفر من شيوخ العمارية إحدى بطون المعقل أنه رآه أيام ظهوره في المعقل ملتبساً بتلك الدعوى حتى فضحه العجز.ثم لما زهدوا فيه لعجز مدعاه ذهب يتقلب في الأرض حتى وصل إلى جهات طرابلس ونزل على دباب وصحب بينهم الفتى نصير مولى الواثق بن المستنصر وتلقب نوبى.ولما رآه تبين فيه شبهاً من الفضل ابن مولاه فطفق يبكي ويقبل قدميه فقال له ابن أبي عمارة: ما شأنك فقص عليه الخبر فقال له: صدقني في هذه الدعوى وأنا أثيرك من قاتلهم.وأقبل نصير على أمراء العرب منادياً بالسرور بابن مولاه حتى خيل عليهم.ثم لبس بما دس إلى ابن عمارة من محاورات وقعت بين العرب وبين الواثق قصها عليهم ابن أبي عمارة نفياً للريب بأمره فصدقوا واطمأنوا وأتوه بيعتهم.وقام بأمره مرعم بن صابر بن عسكر أمير دباب.وجمع له العرب ونازلوا طرابلس وبها يومئذ محمد بن عيسى الهنتاتي - ويشهر بعنق الفضة - فامتنعت عليهم ورحلوا إلى مجريس الموطنين بزنزور وجهاتها من هوارة فأوقعوا بهم.ثم سار في تلك النواحي واستوفى جبايته ولماية وزوارة وزواغة وأغرم نفوسه وغريان ومقر من بطون هوارة وضائع ألزمهم إياها واستوفاها.ثم زحف إلى قابس فبايع له عبد الملك بن مكي في رجب سنة إحدى وثمانين وأعطاه صفقته طواعية وفاه بحق آبائه فيما طوقوه ذريعة إلى الاستقلال الذي كان يؤمله وأعلن بخلافته ونادى في قومه واستخدم له بني كعب من سليم ورياستهم إذ ذاك في بني شيحة لعبد الرحمن بن شيحة فأجابوا داعية وأنابوا إلى خدمته.وتوافت إليه بيعة أهل جربة والحامة وقرى نفزاوة.ثم زحف إلى توزر وبلاد قسطيلية فأطاعوه ثم رجع إلى قفصة فبايع له أهلها وعظم أمره وعلا صيته.فجهز إليه السلطان أبو إسحاق العساكر من تونس كما نذكره. الخبر عن انفضاض عساكر السلطان وتقويضه عن تونس لما تفاقم أمر الدعي بنواحي طرابلس ودخل الكثير من أهل الأمصار في طاعته جهز السلطان عساكره وعقد لابنه الأمير أبي زكريا على حربه فخرج من تونس والقيروان واقتضى منها غرامات ووضائع واستأثر منها بأموال.ثم ارتحل إلى لقاء الدعي وانتهى إلى تمودة وبلغه هنالك ما كان من استيلاء الدعي على قفصة فأرجف العسكر وانفضوا من حوله.ورجع إلى تونس فدخلها آخر يوم من رمضان من سنته وارتحل الدعي على أثره من قفصة واحتل بالقيروان فبايع له أهلها واقتدى بهم أهل المهدية وصفاقس وسوسة فبايعوا له وكثر الإرجاف بتونس فاضطرب السلطان معسكره بظاهر البلد وسط شوال.وضرب الغزو على الناس واستكثر من العدد وخرج إلى معسكره بالمهدية وتلوم بها لإزاحة العلل.وارتحل الدعي من القيروان زاحفاً فتسربت إليه طبقات الجنود ومشيخة الموحدين رضي بمكانه وصاغية إلى بني المستنصر خليفتهم الطويل أمد الولاية عليهم ورحمة لما نال الواثق وأبناءه من عمهم.ثم انفض عن السلطان كبير الدولة موسى بن ياسين في معظم الموحدين ولقي الدعي بطريقه فاختل أمر السلطان وانتقضت على ملكه وفر إلى بجاية كما نذكره. الخبر عن لحاق السلطان أبي إسحاق ببجاية ودخول الدعي ابن أبي عمارة إلى تونس وما كان أمره بها ولما انفض معسكر السلطان أبي إسحاق آخر شوال من سنة إحدى وثمانين في خاصته وبعض جنوده ذاهباً إلى بجاية ومر بتونس فوقف عندها حتى احتمل أهله وولده وسار في كلب البرد فكان يعاني من قلة الأقوات وتعاور المطر والثلج شدة.يصانع القبائل في طريقه ببذل ماله.ثم مر بقسطنطينة فمنعه عاملها عبد الله بن يوقيان الهرغي من دخولها وقرب إليه بعض القرى من الأقوات وارتحل إلى بجاية فكان من أمره ما يذكر.ودخل الدعي ابن أبي عمارة إلى الحضرة وقلد موسى بن ياسين وزارته وأبا القاسم أحمد ابن الشيخ حجابته.وتقبض على صاحب الأشغال أبي بكر بن الحسن بن خلدون فاستصفاه وصاده على مال امتحنه عليه.ثم قتله خنقاً وصرف خطة الجباية إلى عبد الملك بن مكي رئي قابس.واستكمل ألقاب الملك وقسم الخطط بين رجال الدولة وصرف همه إلى غزو بجاية. الخبر عن استبداد الأمير أبي فارس بالأمر عند وصول أبيه إليه لما وصل السلطان أبو إسحاق إلى بجاية شهر ذي القعدة من سنته طريداً عن ملكه عاطلا عن حلى سلطانه انتقض عليه ابنه الأمير أبو فارس ومنعه من الدخول إلى قصره فنزل بروض الرفيع وأراده على الخلع فانخلع له.وأشهد الملأ من الموحدين ومشيخة بجاية بذلك وأنزله قصر الكوكب ودعا الناس إلى بيعته آخر ذي القعدة فبايعوه وتلقب المعتمد على الله.ونادى في أوليائه من رياح وسدويكش.وخرج من بجاية زاحفاً إلى الدعي واستخلف عليها أخاه الأمير أبا زكريا.وخرج معه عمه الأمير أبو حفص وأخوته فكان من أمرهم ما نذكر. الخبر عن زحف الأمير أبي فارس للقاء الدعي ثم انهزامه أمامه واستلحامه وأخوته في المعركة وما كان أثر ذلك من مهلك أبيهم السلطان أبي إسحاق وفرار أخيهم الأمير أبي زكرياء إلى تلمسان لما بلغ الخبر إلى الدعي باستبداد الأمير أبي فارس على أبيه واستعداده للقائه تقبض على أهل البيت الحفصي فاعتقلهم بعد أن هم بقتلهم.وخرج من تونس في عساكره من الموحدين وطبقات الجند في صفر سنة اثنتين وثمانين فانتهى إلى مرماجنة وتراءى الجمعان ثالث ربيع الأول فاقتتلوا علية يومهم.ثم اختل مصاف الأمير أبي فارس.وتخاذل أنصاره فقتل في المعركة وانتهب معسكره وقتل أخواته جميعاً صبراً: عبد الواحد قتله الدعي بيده وعمر وخالد ومحمد بن عبد الواحد.وبعث برؤوسهم إلى تونس فطيف بها على الرماح ونصبت بأسوار البلد. وتخلص عمه الأمير أبو حفص من الواقعة إلى أن كان من أمره ما نذكر.وبلغ خبر الواقعة إلى بجاية فاضطرب أهلها وماجوا بعضهم في بعض.وجمعهم قاضيهم أبو محمد عبد المنعم بن عتيق الجزائري للحديث في الشأن فتكالبوا وزجرهم ابنه فقتلوا.ثم أشخصوا القاضي إلى بلده في البحر.وخرج السلطان أبو إسحاق وابنه الأمير أبو زكرياء إلى تلمسان فقدم أهل بجاية عليهم محمد بن أسرعين قائماً فيهم بطاعة الدعي وخرج في أتباع السلطان فأدركه بجبل بني غبرين من زواوة فتقبض عليه ونجا الأمير أبو زكرياء إلى تلمسان وبقي السلطان أبو إسحاق ببجاية معتقلا ريثما بلغ الخبر إلى تونس وأرسل الدعي محمد بن عيسى بن داود فقتله آخر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وانقضى أمره ولله عاقبة الأمور. الخبر عن ظهور الأمير أبي حفص وبيعته وما كان على أثر ذلك من الأحداث قد ذكرنا أن الأمير أبا حفص حضر واقعة بني أخيه مع الدعي بمرماجنة فخلص من المعركة راجلا ونجا إلى قلعة سنان معقل هوارة القريب من مكان الملحمة ولاذ به في ذهابه إلى منجاته ثلاثة من صنائعهم: أبو الحسين بن أبي بكر بن سيد الناس ومحمد بن القاسم بن إدريس الفازازي ومحمد بن أبي بكر بن خلدون وهو جد المؤلف الأقرب.وربما كانوا يتناقلونه على ظهورهم إذا أصابه الكلال.ولما نجا إلى قلعة سنان تحدث به الناس وشاع خبر منجاته إليها.وكان الدعي قد أسف العرب وثقلت وطأته عليهم بما كان يسيء الملكة فيهم.فليوم دخوله شكى إليه الناس عيثهم فتقبض على ثلاثة منهم وقتلهم وصلبهم.ثم سرح شيخ الموحدين عبد الحق بن تافراكين لحسم عللهم وأوعز إليه بالإثخان فيهم فاستلى من لقي منهم.ثم تقبض على مشايخ بني علاق وأودع سجونه منهم نيفاً على ثمانين فساء أثره فيهم وتطلبوا أعياص البيت وتسامعوا بخبر الأمير أبي حفص بمكانه من قلعة سنان فدخلوا إليه وأتوه بيعتهم في ربيع سنة ثلاث وثمانين.وجمعوا له شيئاً من الآلة والأخبية وقام بأمره أبو الليل بن أحمد أميرهم.وبلغ الخبر إلى الدعي فداخلته الظنة في أهل دولته.وتقبض على أبي عمران بن ياسين شيخ دولته وعلى أبي الحسن بن ياسين وابن وانودين وعلى الحسين بن عبد الرحمن يعسوب زناتة فامتحنهم واستصفى أموالهم.ثم قتلهم آخراً وتوجع لهم الناس واضطرب أمر الدعي إلى أن كان ما نذكره. |
الخبر عن خروج الدعي ورجوعه واستيلاء السلطان أبي حفص على ملكه وغلبه ومهلكه
لما ظهر السلطان أبو حفص وبايعه العرب تسامع أهل الحضرة واجتمع إليه الناس وأوقع الدعي بأهل الدولة فمقتوه.وخرج من تونس يريد قتاله فأرجف به أهل معسكره ورجع منهزماً.ودخلت البلاد في طاعة السلطان أبي حفص ونهض إلى تونس فنزل بسحوم قريباً منها.وعسكر الدعي بظاهر البلد تجاهه وطالت بينهما الحرب أياماً والناس في كل يوم يستوضحون خبء الدعي ومكره إلى أن تبرأوا منه وأسلموه ودخل من مكان معسكره ولاذ بالاختفاء.ودخل السلطان البلد في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين واستولى على سرير ملكه وطهره من دنس فاضحه ودعيه واختفى الدعي بتونس وغاص في لجة ساكنها وأحاط به البحث فعثر عليه لليال من مدخل السلطان بدول بعض السوقة يعرف بأبي القاسم القرمادي فهدمت لحينها.وتل إلى السلطان فأحضر له الملأ ووبخه وساءله فاعترف بادعائه في بيتهم فأمر بامتحانه وقتله وذهب في غير سبيل مرحمة وطيف بشلوه ونصب رأسه.وكان عبد الله بن يغمور المباشر لقتله وكان خبره من المثلات.واستبد السلطان بملكه وتلقب المستنصر بالله.وبرز الناس إلى الدخول في طاعته.وبعث أهل القاصية بيعتهم من طرابلس وتلمسان وما بينهما.وعقد للشيخ أبي عبد الله الفازازي على عسكره وعلى الحروب والضاحية وأقطع البلاد والمغارم للعرب رعياً لذمة قيامهم بأمره ولم يكن لهم قبلها إقطاع.وكان الخلفاء قبله يتحامون عن ذلك ولا الخبر عن استيلاء العدو على جزيرة جربة وميورقة ومنازلته المهدية وأجلابه على السواحل كان من أعظم الحوادث في أيام هذا السلطان تكالب العدو على الجزر البحرية فاستولت أساطيلهم على جزيرة جربة في رجب من سنة ثلاث وثمانين ورياستها يومئذ من محمد بن سمون شيخ الوهبية ويخلف بن أمغار شيخ النكارة وهما فرقتا الخوارج.وزحف إليها المراكيا صاحب صقلية نائباً عن الفدريك بن الريداكون ملك برشلونة في أساطيله البحرية وكانوا فيما قيل سبعين أسطولا من غربان وشواني وضايقهم مراراً.ثم تغلبوا عليها فانتهبوا أموالها واحتملوا أهلها أسرى وسبياً يقال أنهم بلغوا ثمانية آلاف بعد أن رموا بالرضع في الجبوب فكانت هذه الواقعة من أشجى الوقائع للمسلمين.ثم بنوا بساحلها حصناً واعتمروه وشحنوه حامية وسلاحاً.وفرض عليهم المغرم مائة ألف دينار في السنة وأقاموا على ذلك.وهلك المراكيا على رأس المائة وبقيت الجزيرة في ملكة النصارى إلى أن أعادها الله في أواخر الأربعين والسبعمائة كما نذكر.وفي سنة خمس وثمانين ظفر العدو بجزيرة ميورقة ركب إليها طاغية برشلونة في أساطيله في عشرين ألفاً من الرجال المقاتلة ومروا بميورقة كأنهم سفر من التجار وطلبوا من أبي عمر بن حكم رئيسها النزول للاستقاء فأذن لهم.فلما تساحلوا آذنوا أهلها بالحرب فتزاحفوا ثلاثاً يثخن فيهم المسلمون في كلها قتلا وجراحة بما يناهزوا الآلاف والطاغية في بطارقته قاعد عن الزحف فلما كان في اليوم الثالث واستولت الهزيمة على قومه زحف الطاغية في العسكر فانهزم المسلمون ولحق إلى قلعتهم فانحصروا بها وعقدوا لابن حكم ذمة في أهله وحاشيته فخرجوا إلى سبتة ونزل الباقون على حكم العدو فأجارتهم إلى جارتها منورقة واستولى على ما فيها من الذخيرة والعدد والأمر بيد الله.وفي سنة ست وثمانين بعدها غدر النصارى بمرسى الخرز فاقتحموها بعد أن ثلموا أسوارها واكتسحوا ما فيها واحتملوا أهلها أسرى وأضرموا بيوتها ناراً.ثم مروا بمرسى تونس وانصرفوا إلى بلادهم وفيها أو في سنة تسع بعدها نازل أسطول العدو مدينة المهدية وكان فيهم الفرسان لقتالها فزحفوا إليها ثلاثاً ظفر بهم المسلمون في كلها.ثم جاء مدد أهل الأجم فانهزم العدو حتى اقتحموا عليهم الأسطول وانقلبوا خائبين وتمت النعمة. الخبر عن استيلاء الأمير أبي زكرياء على الثغر العربي بجاية والجزائر وقسطنطينة وأولية ذلك ومصائره كان للأمير أبي زكرياء ابن السلطان أبي إسحاق من الترشيح للأمر بهديه وشرف همته وحسن ملكته ومخالطته أهل العلم ما شهد له بمغبة حاله وهو الذي اختط المدرسة للعلم بإزاء دار الأقوري حيث كان سكناه بتونس.ولما لحق بتلمسان بعد منجاته من مهلك أبيه ببجاية نزل على صهره عثمان بن يغمراسن بتلمسان وجاء في أثره أبو الحسين بن أبي بكر بن سيد الناس صنيعة أبيه وأخيه بعد أن خلص مع السلطان أبي حفص من الواقعة إلى مرماجنة.فلما بايع له العرب وبدت مخائل الملك رأى أبو الحسين إيثار السلطان للفازازي عليهم فنكب عنه ولحق بالأمير أبي زكرياء بتلمسان واستحثه لطلب ملكه.واستقرض من تجار بجاية هنالك مالا أنفقه في إقامة أبهة الملك له وجمع الرجال واصطنع الأولياء.وفشا الخبر بما يرومه من ذلك فصده عثمان بن يغمراسن عنه لما كان تقلد من طاعة السلطان أبي حفص على سننهم مع الخلفاء بالحضرة قبله فاعتزم الأمير أبو زكرياء على شأنه وخرج من تلمسان مورياً بالصيد الذي كان ينتحله أيام مقامه بينهم ولحق بداود بن هلال بن عطاف أمير بني يعقوب وكافة بني عامر من زغبة وأوعز عثمان بن يغمراسن إلى داود برده إليه فأبى من إخفار ذفته وارتحل معه بقومه إلى آخر بلاد زغبة ونزلوا على عطية بن سليمان بن سباع من رؤساء الدواودة فتلقاه بالطاعة وارتحلوا جميعاً إلى ضواحي قسطنطينة فدخل العرب وسدويكش في طاعته.ونزل البلد سنة ثلاث وثمانين وعاملها يومئذ ابن يوقيان من مشيخة الموحدين وكان صاحب الجباية بها أبو الحسن بن طفيل.كان له من العامل فداخل الأمير أبا زكرياء في شأن البلد وشرط لنفسه وصهره فأمضى السلطان شرطهم وأمكنوه من البلد.وأقاموا بها دعوته وارتحل إلى بجاية وكانت قد حدث فيها اضطراب بين أهلها أدى إلى الخلاف والتباين.واستحثوا الأمير أبا زكرياء فأغذ السير إليهم ودخلها سنة أربع وثمانين.ويقال إن ملكه لبجاية كان سابقاً على ملكه لقسطنطينة وهو الأصح فيما سمعناه من شيوخنا.وبعث إليه أهل الجزائر وتدلس بطاعتهم فاستولى على هذه الثغور العربية وتلقب المنتخب لإحياء دين الله.وأغفل ذكر أمير المؤمنين أدباً مع عمه الخليفة بالحضرة حيث ملأ الموحدين أهل الحل والعقد من الجماعة.ونصب للحجابة أبا الحسين بن سيد الناس فقام بها ورشح ملكه وملك بنيه بهذه الناحية الغربية وانقسمت به الدولة إلى أن خلص الأمر للملوك من عقبه واستولوا على الحضرة كما نذكر. الخبر عن حركة الأمير أبي زكرياء إلى ناحية طرابلس ومنازلة عثمان في يغمراسن بجاية في مغيبه لما استولى الأمير أبو زكرياء على الناحية الغربية واقتطعها من أعمال الحضرة اعتمل في الحركة على تونس فنهض إليها في سنة خمسة وثمانين.ووفد عليه عبد الله بن رحاب بن محمود من مشيخة دباب ومانعه الفازازي عن أحواز تونس فنازل قابس وحاصرها وكان له في قتالها أثر واستوت الهزيمة على مقاتلها ذات يوم فأثخن فيهم قتلاً وأسراً وهدم ربضها وأحرق المنازل في غابتها والنخل.وارتحل إلى مسراته وانتهى إلى الأبيض وأطاعه الجواري والمحاميد وآل سالم وعرب برقة وبلغه بمكانه من مسراته أن عثمان بن يغمراسن أسف إلى منازلة بجاية وكان من خبره أن الأمير أبا زكرياء لما فصل من تلمسان لطلب ملكه على كره منه وامتنع جاره داود بن عطاف من رده امتلأ له عداوة وانحرافاً وجدد البيعة لصاحب تونس وأوفد بها على ابن محمد الخراساني من صنائعه.وكان له أثناء ذلك ظهور على بني توجين ومغراوة بالمغرب الأوسط وضاق ذرع أهل الحضرة بمكان الأمير أبي زكرياء من مطالبتهم وتدويخه لقاصيتهم فدخلوا عثمان بن يغمراسن في منازلة معقله ثغر بجاية ليردوه إلى عقبه عنهم فزحف إلى بجاية سنة ست وثمانين ونازلها أياماً وامتنع عليه سائر ضواحيها ولم يظفر بأكثر من الاطلال عليها.وانكفأ الأمير أبو زكرياء راجعاً إلى بجاية سنة ست وثمانين إلى أن كان من أمره ما نذكر. الخبر عن فاتحة استبداد أهل الجريد كان في بعض الأيام بين سدادة وكنومة من عمل تقيوس فتنة قتل فيها ابن لشيخ سدادة وأقسم ليثأرن فيه بشيخ كنومة نفسه وكان عامل توزر محمد بن يحيى بن أبي بكر التينمللي من مشيخة الموحدين فتذم شيخ كنومة به وبذل له مالاً على نصره من عدوه فكاتب الحضرة وأعلن بخلاف أهل سدادة واحتشد لهم أهل نفطة وتقيوس وخرج هو في حشد أهل توزر غزاهم في بلدهم ولاذ بإعطاء الرهن وبذل المال فلم يقبل فأمدهم أهل نفزاوة وزحفوا إليه فانهزمت جموعه وأثخنوا فيهم قتلاً وأسراً إلى توزر وذلك سنة ست وثمانين.ثم عاود غزوهم عقب ذلك فبلخوا عليه ثم عقد لهم سلماً على الوفاء بمغارمهم واشترطوا أن لا حكم عليهم في سواهم وأن رؤساء نفزاوة منهم فأمضى شرطهم وكانت أول استبداد الجريد كما نذكر. الخبر عن خروج عثمان ابن السلطان أبي دبوس داعياً لنفسه بجهات طرابلس كان أبو دبوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش لما قتل سنة ثمان وستين وستمائة وافترق بنوه وتقلبوا في الأرض لحق منهم عثمان بشرق الأندلس.ونزل على طاغية برشلونة فأحسن تكريمه ووجد هنالك أعقاب عمه السيد أبي زيد المتنصر أخي أبي دبوس في مثواهم من إيالة العدو.وكان لهم هنالك مكان وجاه لنزوع أبيهم السيد أبي زيد عن دينه إلى دينهم فاستبلغوا في مساهمة قريبهم هذا الوافد وخطبوا له من الطاغية حظاً.ووافق ذلك حصول مرغم بن صابر بن عسكر شيخ الجوالي من بني دباب في قبضة أسره وكان قد أسره العدى من أهل صقلية بنواحي طرابلس سنة اثنتين وثمانين وباعوه من أهل برشلونه فاشتراه الطاغية وأقام عنده أسيراً إلى أن نزع إليه عثمان بن أبي دبوس هذا كما ذكرناه.وشمر لطلب حقه في الدعوة الموحدية حيث كانت.وأمل الظفر في القاصيه لبعدها عن الحامية فعبر البحر إلى طرابلس وكان من حظوظ كرامته عند الطاغية أن أطلق له مرغم بن صابر وعقد له حلفاً معه على مظاهرته وجهز لهما الأساطيل وشحنها بالمدد من المقاتلة والأقوات على مال شرطوه له فنزلوا على طرابلس سنة ثمان وثمانين وأحتشد مرغم قومه وحملهم على طاعة ابن أبي دبوس ونازلوا البلد معه ومع جنده من النصرانية فحاصروها ثلاثاً وساء أثرهم فيها.ثم دخل النصارى بأسطولهم وأرسوا بأقرب السواحل إلى البلد وتنقل ابن أبي دبوس ومرغم في نواحي طرابلس بعد أن أنزلوا عليها عسكراً للحصار فاستوفوا من جباية المغارم والوضائع مالاً دفعوه للنصارى في شرطهم وانقلبوا بأسطولهم.وأقام ابن أبي دبوس يتقلب مع العرب.واستدعاه ابن مكي من بعد ذلك لأنه يشبه به في استبداده فلم يتم أمره إلى أن هلك بجربة والله وارث الأرض ومن عليها. الخبر عن مهلك أبي الحسين بن سيد الناس صاحب بجاية وولاية ابن أبي جبي مكانه قد قدمنا سلف هذا الرجل وأوليته وأنه لحق بالأمير أبي زكريا بتلمسان وأبلى في خدمته فلما استولى الأمير أبو زكريا على الثغر الغربي واقتطعه عن أعمال الحضرة ة ونزل بجاية وضاهى بها تونس عقد لأبي الحسين بن سيد الناس على حجابته وفوض إليه بابه وأجراه في رياسته على سنن ابن أبي الحسين الرئيس قبله في دولة المستنصر الذين كانوا يتلقنون طرقه وينزعون إلى مراميه بل كانت رياسة هذا في حجابته أبلغ من رياسة ابن أبي الحسين لخلاء جو الدولة ببجاية من مشيخة الموحدين الذين يزاحمونه كما كان ابن أبي الحسين مزاحماً بهم فاستولى أبو الحسين بن سيد الناس على الدولة ببجاية وقام بأمر مخدومه أحسن قيام وصار إلى الحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه وتمكن في يده الزمام إلى أن هلك سنة تسعين أعظم ما كان رياسة وأقرب من صاحبه مكاناً وسراً فأقام الأمير أبو زكريا مكانه كاتبه أبا القاسم ابن أبي جبى لا أدري من أوليته أكثر من أنه من جالية الأندلس ورد على الدولة وتصرف في أعمالها واتصل بأبي الحسين بن سيد الناس فاستكتبه ثم رقاه وخلطه بنفسه وأجره رسنه وتناول زمام الدولة من يد ابن سيد الناس فقادها في يد مطهر خدمته حتى عنت إليه الوجوه وأمله الخاصة واضطلع السلطان على اضطلاعه وكفايته في أمور مخدومه وهلك أبو الحسين بن سيد الناس فرشحه السلطان بخطته فقام بها سائر أيام ابنه الأمير أبي البقاء حتى كان من أمره ما نذكره بعد. الخبر عن خروج الزاب عن طاعة الأمير أبي حفص إلى طاعة الأمير أبي زكريا صاحب بجاية وانتظام بسكرة في عمله وكان السلطان أبو إسحاق قد عقد على الزاب لفضل بن علي بن مزني من مشيخة بسكرة كما قدمناه فقام بأمره.ولما هلك السلطان عدا عليه بعض أفاريق العرب الموطنين قرى الزاب بمداخلة قوم من أعدائه وقتلوه سنة ثلاث وثمانين كما نذكره.وأملوا الاستبداد بالبلد فدفعهم عنها المشيخة من بني رمان واستقلوا بأمر بلدهم وبايعوا للأمير أبي حفص صاحب الحضرة ودانوا بطاعته على السنن.وتوقعوا عادية منصور بن فضل بن مزني.وكان لحق بالحضرة عند مهلك أبيه فخاطبوا فيه السلطان أبا حفص ورموه بالدواهي فأمر باعتقاله وأودع السجن سبع سنين إلى أن فر منه ولحق بكرفة من أحياء هلال بن عامر وهم العرب المتولون أمر جبل أوراس.ونزل على الشبه من أفاريقهم فأركبوه وكسبوه ولحق ببجاية سنة اثنتين وتسعين فنزل بباب السلطان.ورغبه في ملك الزاب وصانع الحاجب ابن أبي جبى بأنواع التحف وضمن له تحويل الدعوة بالزاب لسلطانه الأمير أبي زكريا وتسريب جبايته إليه فاستماله بذلك وعقد له على الزاب وأمده بالعسكر ونازل بسكرة فامتنعت عليه.ورأى مشيختها بنو رمان بعدهم عن صريخ تونس وإلحاح عدوهم منصور بن فضل عليهم فأعلنوا بطاعة الأمير أبي زكريا وبعثوا إليه بيعتهم ووفدهم ورفع عادية ابن مزني عنهم فرجعهم بما أملوه من القبول وأن تكون أحكامهم إلى قائد عسكره.ونظر ابن مزني مصروفاً إلى الجباية فقط.ولما وصل الوفد إلى بسكرة خرجوا إلى القائد ومنصور بن مزني فأدخلوهما البلد ودانوا بالطاعة وتصرفت الأمور على ذلك إلى أن كان من أمر منصور بن مزني ما نذكره في أخباره ولم يزل الزاب في دعوة الأمير أبي زكريا وبنيه إلى أن استولى على الحضرة وبعده لهذا العهد كما تراه في الأخبار بعد إن شاء الله تعالى. الخبر عن مهلك أبي عبد الله الفازازي شيخ الموحدين والحاجب أبي القاسم ابن الشيخ رؤساء الدولة بالحضرة كان أبو عبد الله الفازازي من مشيخة الموحدين وكان خالصة للسلطان أبي حفص وعقد له على العساكر كما قدمناه ودفعه إلى الحروب وتمهيد النواحي فقام في ذلك المقام المحمود ودوخ الجهات واستنزل الثوار ودفعهم وجبى الخراج وكانت له في ذلك آثار مذكورة وفي بلاد الجريد ومشيختها تصاريف وأحوال.وهو الذي امتحن أحمد بن يملول بسعاية المشيخة من أهل توزر وكبح عنانه عن مراميه إلى الرياسة عليهم وهلك آخر حركاته إلى بلاد الجريد على مرحلتين من تونس سنة ثلاث وتسعين.ولسنة منها كان مهلك الحاجب أبي القاسم ابن الشيخ وكان من خبر أوليته أنه قدم من بلده دانية إلى بجاية سنة ست وعشرين واتصل بعاملها محمد بن ياسين فاستكتبه وغلب عليه.واستدعى ابن ياسين إلى الحضرة وابن الشيخ في جملته والتمس السلطان من يرشحه لكتابته ويخف عليه فأطنب ابن ياسين في وصف كاتبه أبي القاسم بن الشيخ وحلاه وابتلاه السلطان فلم يرضه وصرفه ثم راجع رأيه فيه واستحسنه ورسمه في خدمته.وأمر ابن أبي الحسين بتلقينه الآداب وتصريفه في وجوه الخدمة ومذاهبها فكان له ذلك غناء وخفة على مخدومه إلى أن هلك ابن أبي الحسين.وكان الخرج بدار السلطان موقوفاً على نظره من جملة ما إليه.وكان قلمه عاملاً فيه فأفرد ابن الشيخ بذلك بعد مهلكه إلى آخر أيام السلطان المستنصر.ولما ولي الواثق استبد ابن الحببر عليه كما قلناه فأبقاه على خطته واختصه لنفسه ودرجه في جملته.ثم جاءت دولة السلطان أبي إسحاق فأقامه في رسمه وزاحمه بأبي بكر بن خلدون صاحب أشغاله.وكان الرياسة الكبرى على عهده لبنيه أبي فارس ثم أبي زكريا وأبي محمد عبد الواحد من بعده.ثم كانت مضلة الدعي واستولى على ملكهم فاستخلص أبا القاسم ابن الشيخ واستضاف له إلى خطة التنفيذ كتاب العلامة في فواتح السجلات.فلما ارتجع السلطان أبو حفص ملكه وقتل الدعي خافه ابن الشيخ لما كان من رتبته عند الدعي فلاذ بالصلحاء لإثارة من الخير والعبادة وصلت بينهم وبينه فشفعوا له وتقبلها السلطان وأظهر لهم ذات نفسه في الحاجة إلى استعماله وقلده حجابته مجموعة إلى تنفيذ الخرج وصرف العلامة إلى غير ذلك من طبقة الدولة فلم يزل على ذلك إلى أن هلك سنة أربع وتسعين.وبقي اسم الحجابة من بعده في هذه الخطط الثلاث وأمر التدبير والحرب ورياستهما راجع إلى مشيخة الموحدين إلى أن تصرفت الأحوال وأديل بعضها من بعض كما يأتيك أثناء الأخبار وقلد السلطان من بعد ابن الشيخ حجابته لأبي عبد الله التحتي من طبقة الجند فقام بها إلى آخر الدولة والله وارث الأرض ومن عليها. الخبر عن مهلك السلطان أبي حفص وعهده بالأمر من بعده لم يزل السلطان أبو حفص على أكمل حالات الظهور والدعة إلى أن استوفى مدته وأصابه وجعه أول في الحجة من سنة أربع وتسعين.ثم اشتد به الوجع وأهمه أمر المسلمين وما قلدوه من عدتهم فعهد لابنه عبد الله بالخلافة ثاني أيام التشريق.ونكره الموحدون لتخلفه عن المراتب بصغره وأنه لم يغتلم وتحدثوا في ذلك.وأفضى الخبر إلى السلطان فأسخطه وعدل عنهم إلى الشورى مع الولي أبي محمد المرجاني وكان فيه جميلاً وظنه به صالحاً.وكان الواثق بن المستنصر لما قتل هو وبنوه بمحبسهم فرت إحدى جواريه وقد اشتملت على حمل منه إلى رباط هذا الولي فوضعته في بيته فسماه الشيخ محمداً وعق عليه وأطعم الفقراء يومئذ عصيدة الحنطة فلقب بأبي عصيدة آخر الدهر.ثم صار بعد الاختفاء ودواعيه إلى قصورهم ونشأ في ظل الخلفاء من قومه حتى شب وبقيت له مع الولي أبي محمد ذم يثابر كل منهما على الوفاء بها فلما فاوضه السلطان أبو حفص في شأن العهد وقص عليه نكير الموحدين لولده أشار عليه الشيخ بصرف العهد إلى محمد بن الواثق فتقبل إشارته وعلم ترشيحه وأنفذ بذلك عهده بمحضر الملأ ومشيخة الموحدين وهلك آخر ذي الحجة سنة أربع وتسعين وإلى الله المصير. الخبر عن بيعة السلطان أبي عصيدة وما كان أثرها من الأحوال لما هلك السلطان أبو حفص اجتمع الملأ من الموحدين والأولياء والجند والكافة إلى القصبة فبايعوا بيعة عامة لولي عهده السلطان أبي عبد الله محمد ويلقب كما ذكرناه بأبي عصيدة بن السلطان الواثق في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وتسعين فانشرحت لبيعته الصدور ورضيته الكافة وتلقب المستنصر بالله.وافتتح أمره بقتل عبد الله ابن السلطان أبي حفص لمكان ترشيحه وقلد وزارته محمد بن بريرزيكن من مشيخة الموحدين وأبقى محمد الشخشي على خطة الحجابة وصرف التدبير والعساكر ورياسة الموحدين إلى أبي يحيى زكرياء بن أحمد بن محمد اللحياني قتيل السلطان المستنصر عند تعرض ابنه للبيعة واستنامة الخلافة فقام بما دفع إليه من ذلك.وضايقه فيه عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين قبله حتى إذا نكب وهلك استبد هو على الدولة واستقل الشخشى بحجابته.وكان محمد بن إبراهيم بن الدباغ رديفاً له فيها.وكان من خبر ابن الدباغ هذا أن إبراهيم أباه وفد على تونس في جالية إشبيلية سنة ست وأربعين فولد هو بتونس ونشأ بها وأفاد صناعة الديوان وحسبانه - وكان من المبرزين فيه - أبي الحسن وأبي الحكم ابني مجاهد وأصهر إليهما في ابنه أبي الحسن فأنكحاه ورشحاه للأمانة على ديوان الأعمال.ولما استقل أبو عبد الله الفازازي بالرياسة استكتبه وكان طياشاً مستضعفاً على الخليفة فكان كاتبه محمد بن الدباغ يروضه لأغراض الخليفة إذا دسها إليه الحاجب ابن الشيخ فيقع ذلك من الخليفة أحسن المواقع.ولما ولي السلطان أبو عصيدة وكانت له عنده سابقة رعاها وكان حاجبه الشخشي بهمة غفلاً من أدوات الكتاب فاستكتب السلطان ابن الدباغ ثم رقاه إلى كتاب علامته سنة خمس وتسعين.وكان يتصرف فيها فأصبح رديفاً للشخشي في حجابته وجرت أمور الدولة على ذلك إلى أن هلك الشخشي سنة سبع وتسعين وقلده السلطان حجابته فاستقل لها على ما قدمناه من أن التدبير والحرب مصروف إلى مشيخة الموحدين الخبر عن نكبة عبد الحق بن سليمان وخبر بنيه من بعده كان أبو محمد عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين لعهد السلطان أبي حفص وأصله من تينملل الموطنين بتبرسق مذ أول الدولة كانت له ولسلفه الرياسة عليهم وصارت إليه رياسة الموحدين كافة بالحضرة أيام هذا السلطان وكان له خالصة وشيعة وكان حريصاً على ولاية ابنه عبد الله للعهد.وكان يدافع نكير الموحدين في ذلك فأسرها له السلطان أبو عصيدة.ولما استوثق له الأمر وقتل عبد الله بمحبسه تقبض على أبي محمد بن سليمان واعتقله في صفر سنة خمس وتسعين.ولم يزل معتقلاً إلى أن قتل بمحبسه على رأس المائة السابعة وفر عند نكبته ابناه محمد وعبد الله فأما عبد الله فلحق بالأمير أبي زكريا وصار في جملته إلى أن دخل تونس مع ابنه السلطان أبي البقاء خالد.وأما محمد فأبعد المفر ولحق بالمغرب الأقصى ونزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين بمعسكره من حصار تلمسان فاستبلغ في تكريمه وأقام عنده مدة.ثم عاود وطنه ونزع عن طريقه إلى النسك ولبس الصوف وصحب الصالحين وقضى فريضة الحج واستمد عمره وحسنت فيه ظنون الكافة واعتقدوا فيه وفي دعائه وكثرت غاشيته لالتماس البركة منه.وأوجب له الخلفاء إزاء ذلك تجلة أخرى وأوفدوه على ملوك زناته مرة بعد مرة في مذاهب الود وقصود الخير.وحضر في بعضها الجهاد بجبل الفتح عندما نازلته عساكر السلطان أبي الحسن ولم يزل هذا دأبه إلى أن هلك في الطاعون الجارف في منتصف المائة الثامنة. الخبر عن مراسلة يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين ومهاداته كان السلطان أبو عصيدة لما استفحل أمره واستوسق ملكه حدث نفسه بغزو الناحية الغربية وارتجاع ثغورها من يد الأمير أبي زكرياء وكان الأمير أبو زكرياء قد انتقض عليه أهل الجزائر بعد مهلك عامله عليها من الموحدين من بني الكمازير وانبر بها بعده محمد بن علان من مشيختها.واستفحل أمر عثمان بن يغمراسن وبني عبد الواد من ورائه وتغلبوا على توجين ومغراوة ومليكش وكان شيعة لصاحب الحضرة بما كان متمسكاً بدعوتهم ومتقبلاً مذهب أبيه في بيعتهم فقويت غرائم السلطان أبي عصيدة لذلك ونهض من الحضرة سنة خمس وتسعين.وتجاوز تخوم عمله إلى أعمال قسطنطينة وأجفلت أمامه الرعايا والقبائل وانتهى إلى ميلة ومنها كان منقلبه إلى حضرته في رمضان من سنته.ولما ضايق عمل بجاية بغزوه أعمل الأمير أبو زكرياء نظره في تسكين الناحية الغربية ليفرغ عنها إلى مدافعة السلطان صاحب الحضرة فوصل يده بعثمان بن يغمراسن وأكد معه قديم الصهر بحادث الود والمواصلة.وفي خلال ذلك زحف يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين إلى تلمسان وألقى عليها بكلكله.واستجاش عثمان بن يغمراسن بالأمير أبي زكرياء فأمده بعسكر من الموحدين لقيهم عسكر من بني مرين بناحية تدلس فهزموهم وأثخنوا فيهم قتلاً.ورجع فلهم إلى بجاية وسرح يوسف بن يعقوب عساكر بني مرين إلى بجاية وعقد عليها لأخيه أبي يحيى بعد أن كان عثمان بن سباع وفد عليها نازعاً عن صاحب بجاية إليه ومرغباً له في ملكها فأوسع له في الحباء والكرامة ما شاء وبعث معه هذا العسكر فانتهى إلى بجاية وضايقوها ثم جاوزوها إلى تاكرارت وبلا سدويكش وعاثوا في تلك الجهات ودوخوها وانقلبوا راجعين إلى سلطان يوسف بن يعقوب بمعسكره من تلمسان.وكان السلطان أبو عصيدة صاحب الحضرة لما علم بأمداد الأمير أبي زكرياء لعثمان بن يغمراسن بعث إلى يوسف بن يعقوب عدوهم وحرضه على بجاية ونواحيها وسفر بينهما في ذلك رئيس الموحدين أبو عبد الله بن أكمارير أولى سفارته.ثم سفر ثانية سنة ثلاث وسبعمائة بهدية ضخمة أغرب فيها بسرج وسيف ومهامز من الذهب مرصعة الحلى بالفاخر من حصباء الياقوت والجوهر.ووافقه في هذه السفارة الثانية وزير الدولة أبو عبد الله بن برزيكن ورجعا بهدية ضخمة من يوسف بن يعقوب كان من جملتهما ثلاثمائة من البغال.واتصلت المخاطبات والسفارات والهدايا والملاطفات.وكان يوسف ابن يعقوب يكاتب السلطان في تلك الشؤون تعريضاً ويكاتب رئيس الموحدين أبا يحيى بن اللحياني تصريحاً وترددت عساكر بني مرين إلى نواحي بجاية إلى أن هلك يوسف بن يعقوب كما يأتي في أخباره. الخبر عن مقتل هداج وفتنة الكعوب وبيعتهم لأبي دبوس وما كان بعد ذلك من نكبتهم كان هؤلاء الكعوب قد أثرتهم الدولة واصطنعتهم منذ قيامهم بأمر الأمير أبي حفص فاعتزوا ونموا وبطروا النعمة وكثر عيثهم وفسادهم وطال إضرارهم بالسابلة وحطمهم للجنات وانتهابهم للزرع فاضطغن لهم العامة وحقدوا عليهم سوء آثارهم.ودخل رئيسهم هداج بن عبيد سنة خمس وسبعمائة إلى البلد فخزرته العيون وهمت به العامة وحضر المسجد لصلاة الجمعة فتجنوا عليه بأنه وطئ المسجد بخفه.وقال لمن نكر عليه ذلك: " إني أدخل به مجلس السلطان " فثاروا به عقب الصلاة وقتلوه وجروا شلوه في سكك المدينة فزاد عيثهم وأجلابهم على السلطان.واستقدم أحمد بن أبي الليل شيخ الكعوب لذلك العهد عثمان بن أبي دبوس من مكانه بنواحي طرابلس ونصبه للأمر وأجلب به على الحضرة ونازلها.وخرج إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن في العساكر فهزمهم وسار بالعساكر لتمهيد الجهات وتسكين ثائر العرب فوفد عليه أحمد بن أبي الليل ومعه سليمان بن جانع من رجالات هوارة بعد أن راجع الطاعة.وصرف ابن أبي دبوس إلى مكانه فتقبض عليهما وبعث بهما إلى الحضرة فلم يزالا معتقلين إلى أن هلك أحمد بمحبسه سنة ثمان وقام بأمر الكعوب محمد بن أبي الليل ومعه حمزة ومولاهم ابنا أخيه عمر رديفين له.ثم خرج الوزير بالعساكر ثانية سنه سبع واستوفد مولاهم ابن عمر وتقبض عليه وبعث به إلى الحضرة فاعتقل مع عمه أحمد.وجاهر أخوة حمزة بالنفاق وأتبعه عليه قومه فكثر عيثهم وأضروا بالرعايا وكثرت الشكاية من العامة ولغطوا بها في الأسواق وتصايحوا.ثم نفروا إلى باب القصبة يريدون الثورة فسد الباب دونهم فرموا بالحجارة وهم في ذلك يعتدون ما نزل بهم من الحاجب ابن الدباغ ويطلبون شفاء صدورهم بقتله.ورفع أمرهم إلى.واستلحامهم جميعاً فأبى من ذلك السلطان وأمر بملاطفتهم إلى أن سكنت هيعتهم.ثم تتبع العقاب من تولى كبر ذلك منهم وانحسم الداء وكان ذلك في رمضان من سنة ثمان.واستمر العرب في غلوائهم إلى أن هلك السلطان فكان ما يأتي ذكره. |
الخبر عن انتقاض أهل الجزائر واستبداد ابن علان بها
قد قدمنا ما كان من انتقاض أهل الجزائر أيام المستنصر ودخول عساكر الموحدين عليهم عنوة واعتقال مشيختهم بتونس حتى أطلقوا بعد مهلكه ولما استقل الأمير أبو زكرياء الأوسط بملك الثغور الغربية من بجاية وقسطنطينة.وكان الوالي على الجزائر ابن أكمازير من مشيخة الموحدين فبادر إلى طاعته بإتفاق من مشيخة الجزائر ووفدوا عليه وكتب لابن أكمازير بولايتها فلم يزل والياً عليهم إلى أن كان شأن بني مرين وزحفهم إلى بجاية.وكان ابن أكمازير قد أسن وهرم فأدركته الوفاة خلال ذلك.وكان ابن علان من مشيخة الجزائر مختصاً به ومتصرفاً في أوامره ونواهيه ومصدراً لأمارته.حصلت له بذلك الرياسة على أهل الجزائر سائر أيامه.ويقال كان له معه صهر.فلما هلك ابن أكمازير حدثته نفسه بالاستبداد والانتزاء.بالجزائر فبعث عن أهل الشوكة من نظرائه ليلة هلاك أميره وضرب أعناقهم وأصبح منادياً بالاستبداد.وشغل الأمير أبو زكرياء عنه بما كان من منازلة بني مريق ببجاية إلى أن هلك وبقيت في انتقاضها على الموحدين آخر الدهر إلى أن تملكها بنو عبد الواد كما نذكره. الخبر عن مهلك الأمير أبي زكرياء صاحب بجاية وبيعة ابنه أبي البقاء خالد كان الأمير أبو زكرياء قد استولى على الثغور الغربية كما قلناه واقتطعها من أعمال الحضرة وقسم الدعوة الحفصية بدولتين.وكان على غاية من الحزم والتيقظ والصرامة لم يبلغها سواه.وكان كثير الإشراف على وطنه والمباشرة لأعماله بنفسه وسد خلله.ولم يزل على ذلك إلى أن هلك على رأس المائة السابعة.وكان قد عهد بالأمر لابنه الأمير أبي البقاء خالد سنة ثمان وتسعين قبلها وعهد له على قسطنطينة وأنزله بها.فلما هلك الأمير أبو زكرياء جمع الحاجب أبو القاسم بن أبي أبي جبى مشيخة الموحدين وطبقات الجند وأخذ بيعتهم للأمير أبي البقاء وطير له بالخبر واستقدمه فقدم وبويع البيعة العامة.وأبقى ابن أبي جبى على حجابته واستوزر يحيى بن أبي الأعلام وقدم على صنهاجة أبا عبد الرحمن يعقوب بن خلوف منهم وتسمى المزوار.وقلد رياسة الموحدين أبا زكرياء يحيى بن زكرياء من أهل البيت الحفصي واستمر الخبر عن سفارة القاضي الغبريني ومقتله قد قدمناه ما كان من زحف بني مرين إلى بجاية بمداخلة صاحب تونس.ولما ولي السلطان أبو البقاء اعتزم على المواصلة مع صاحب تونس قطعاً للزبون عنه وعيي للسفارة في ذلك شيخ القرابة يبابة أبا زكرياء الحفصي ليحكم شأن المواصلة بينه وبينه وبعث مع القاضي أبا العباس الغبريني كبير بجاية وصاحب شوراها فأدوا رسالتهم وانقلبوا إلى بجاية ووجد بطانة السلطان السبيل في الغبريني فأغروه به وأشاعوا أنه داخل صاحب الحضرة في التوثب بالسلطان.وتولى كبر ذلك ظافر الكبير وذكره بجرائره وما كان منه في شأن السلطان أبي إسحاق وأنه الذي أغرى بني غبرين به فاستوحش منه السلطان وتقبض عليه سنة أربع وسبعمائة.ثم أغروه بقتله فقتل بمحبسه تلك وتولى قتله منصور الترك والله غالب على أمره. الخبر عن سفارة الحاجب ابن ابني جبى إلى تونس وتنكرالسلطان له بعدها وعزله ولما ولي السلطان أبو البقاء كانت عساكره بني مرين مترددة إلى أعمال بجاية بمداخلة صاحب تونس كما ذكرناه فدوخوا نواحيها.وكان ابن أبي جبى مستبداً على الدولة في حجابته فضاق ذرعه بشأنهم وأهمته حال الدولة معهم.ورأى أن اتصال اليد بصاحب الحضرة مما يكف عن غربهم فعزم على مباشرة ذلك بنفسه لوثوقه من سلطانه.فخرج من بجاية سنة خمس وسبعمائة وقدم على الحضرة رسولا عن سلطانه فاهتزت له الدولة وتلقي بما يجب له ولمرسله من البر وأنزله شيخ الموحدين ومدبر الدولة أبو يحيى زكرياء بن اللحياني بداره استبلاغاً في تكريمه.وقضى من أمر تلك الرسالة حاجة صدره وكان بطانة الأمير أبي البقاء خالد لما خلا لهم وجه سلطانهم منه تهافتوا على التنصح إليه والسعاية بابن أبي جبى عنده.وشمر لذلك يعقوب بن غمر وجلى فيه وتابعه عليه عبد الله الرخامي كاتب ابن أبي جبى وصديقه بما كان ابن طفيل قريبه يسخط عليه الناس ويوغر له صدورهم ببأوه وتحقيره بهم فألح له العداوة في كل جانحة وأسخطه على عبد الله الرخامي.وكان صديقه ومداخله فتولى من السعاية فيه مع يعقوب بن غمر كبرها وألقوا إلى السلطان أن ابن أبي جبى داخل صاحب الحضرة في تمكينه من ثغر قسطنطينة وبجاية بما كان علي بن الأمين العامل بقسطنطينة صهراً لابن أبي جبى وهو الذي ولاه عليها فاستراب السلطان به ونكر له بعد عوده من تونس.وخشي كل واحد منهما بادرة صاحبه.ثم رغب ابن أبي جبى في قضاء فرضه وتخلية سبيله إليه فأسف وخرج من بجاية ذاهباً إلى الحج ولحق بالقبائل من ضواحي قسطنطينة وبجاية فنزل عليهم وأقام بينهم مدة.ثم لحق بتونس وأقام بها إلى حين مهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة أبي بكر الشهيد وحضر دخول الأمر أبي البقاء عليه بتونس وخلص من تيار تلك الصدمة فلحق بالمشرق وقضى فرضه.ثم عاد إلى المغرب ومر بإفريقية ولحق بتلمسان وأغرى أبا حمو بالحركة الخبر عن حجابة أبي عبد الرحمن بن غمر ومصائر أموره هو يعقوب بن أبي بكر بن محمد بن غمر السلمي وكنيته أبو عبد الرحمن.كان جده محمد فيما حدثني أهل بيتهم قاضياً بشاطبة وخرج مع الجالية أيام العدو إلى تونس ونزل بالربض الجوفي أيام السلطان أبي عصيدة وانتقل أبناؤه أبو بكر ومحمد إلى قسطنطينية ونزلا على ابن أوقيان العامل عليها من مشيخة الموحدين لعهد الأمير أبي زكرياء الأوسط فأوسعهما عناية وتكرمة.وولى أبا بكر على الديوان بالقل واستخلصه لنفسه.وكان يتردد إلى الحضرة ببجاية في شؤونه فاتصل بمرجان الخصي من موالي الأمير أبي زكرياء وخواص داره واستخدم على يده للأمير خالد وأمه من كرائم السلطان فحظي عندهم وتزوج ابنه يعقوب من ربيبات القصر وخوله ونشأ في جو تلك العناية.وأعلنوا بصحبة الحاج فضل قهرمان دار السلطان وخاصته فاستخدم له سائر أيامه إلى أن هلك.وكان الحاج فضل كثيراً ما يتردد إلى الأندلس لاستجلاب الثياب الحريرية من هنالك وانتقاء أصنافها.وكذلك إلى تونس لاستجادة الثياب منها.وبعثه السلطان آخر أمره إلى الأندلس فاستصحب ابن غمر وهلك الحاج فضل هنالك فعدل السلطان عن خطاب ابنه محمد إلى خطاب ابن غمر فأمره بإتمام ذلك العمل والقدوم به فقدم هو وابن الحاج فضل وساء لهما عن عملهما فكان ابن غمر أوعى من صاحبه فحلي بعينه وخف عليه واعتلق بذمة من خدمته أحظته عند السلطان ورقته فاستعمل في الجباية.ثم قلد أعمال الأشغال وزاحم ابن أبي جبى وعبد الله الرخامي وغصوا به فأغروا السلطان بنكبته.وأشخصه إلى الأندلس فأقام هنالك واستعطف السلطان أبا البقاء بعد مهلك أبيه وتشفع بوسائل خدمته فاستقدمه.وقدم مع علي وحسين ابني الرنداحي ركب معهما البحر إلى بجاية في مغيب ابن أبي جبى عن الحضرة فصادف من السلطان قبولا وشمر في السعاية بابن أبي جبى مع مرجان إلى أن تم له ما أراد من ذلك.وصرف ابن أبي جبى كما ذكرناه فقلد السلطان حجابته ليعقوب بن غمر.وقدم على الأشغال عبد الله الرخامي وكان ناهضاً في أمور الحجابة لمباشرتها مع مخدومه فأصبح رديفاً لابن عمر وخص بمكانه فأغرى به السلطان ودله على مكامن ثورته وعداوته فنكب وصودر وامتحن وغرب إلى ميورقة حتى افتداه يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين حين أسره واستقدمه ليقلده أشغاله عند تنكره لعبد الله بن أبي مدين كما نذكره في أخباره.فهلك يوسف بن يعقوب دون ما أمل من ذلك وأقام الرخامي بتلمسان وبها كان مهلكه.واستقل يعقوب بن غمر بأعباء خطته واضطلع بها وفوض إليه السلطان في الإبرام والنقض فحول المراتب بنظره وأجرى الأمور على غرضه.وكان أول ما أتاه صرعته لمرجان مصطنعه ملأ صدر السلطان عليه وحذره مغبته فتقبض عليه وألقي في البحر يلتقمه الحوت فخلا وجه السلطان لابن غمر وتفرد بالعقد والحل إلى أن استولى السلطان أبو البقاء على الحضره وكان من أمره ما نذكره. الخبر عن ثورة ابن الأمين بقسطنطينة وبيعة السلطان أبي عصيدة ثم فتح السلطان أبي البقاء خالد لها وقتله كان يوسف بن الأمين الهمداني بعد أن قتله بطنجة أبناء أبي يحيى بن عبد الحق من بني مرين كما يأتي في وأخبارهم انتقل بنوه إلى تونس أيام المستنصر ورعى لهم السلطان وسيلة قيامهم بالدعوة الحفصية أيام أبي علي بن خلاص بسبتة وبعدها إلى أن غلبهم عليها العزفي كما نذكر في أخباره فلقاهم مبرة وتكريماً ونزلوا في الحضرة خير نزل تحت جراية ونعمة وعناية.وكان كبيرهم متحمقاً متعاطفاً فربما لقي من الدولة لذلك عسفاً.إلا أن الإبقاء عليهم كان مانعاً من اضطهادهم.ونشأ بنوهم في ظل ذلك النعيم.ثم هلك السلطان واضطربت الأمور وضرب الدهر ضرباته ولحق علي منهم بالثغر الغربي وتأكدت له مع ابن أبي جبى لحمة ونسب وذمة صهر وشجت بينهما عروقها.فلما استقل ابن أبي جبى بحجابة الأمير أبي زكرياء لم يأل جهداً في مشاركة علي بن الأمير وترقيته المنازل إلى أن ولاه ثغر قسطنطينة مستقلا بها وحاجباً للسلطان أبي بكر ابن الأمير أبي زكرياء وأنزله معه فقام بحجابته.وأظهر فيها غناءه وحزمه حتى إذا سخط السلطان ابن أبي جبى وصرفه عن حجابته تنكر أبو الحسن بن الأمين وخشي بوادر السلطان فحول الدعوة إلى صاحب الحضرة وطير إليه بالبيعة واستدعى المدد والنائب فوصله رئيس الموحدين والدولة أبو يحيى زكرياء بن أحمد بن محمد اللحياني وعقد البيعة لسلطانه سنة أربع وسبعمائة.وبلغ الخبر إلى السلطان أبي البقاء ببجاية فنهض إليه بالعساكر آخر سنة أربع وسبعمائة ونازله أياماً فامتنع عليه وهم بالإفراج عنه.ثم داخل رجل من بطانة ابن الأمين يعرف بابن موزة أبا الحسن بن عثمان من مشيخة الموحدين وكان معسكره بباب الوادي فناجزهم الحرب من هنالك حتى انتهى إلى السور فتسنمه المقاتلة بإغضاء ابن موزة لهم عنه.وركب السلطان في العساكر عند الصدمة ووقف على باب البلد وقد استمكن أولياؤه منه فخرج إليه بنو الغنفل وبنو باديس ومشيخة البلد فاقتحم البلد عنوة.ومضى أبو محمد الرخامي في رجال السلطان إلى دار ابن الأمين فغشيه بها وقد انفض عنه الناس واستحصن بغرفة من غرف داره واستمات فلاطفه الرخامي واستنزله.ثم حمله على برذون مستدبراً وأحضره بين يدي السلطان فقتل ونصب شلوه وأصح آية للمعتبرين. الخبر عن حركة السلطان أبي البقاء إلى الجزائر قد قدمنا ما كان من خبر انتقاض الجزائر على الأمير أبي زكرياء واستبداد ابن علان بها.فلما استولى السلطان أبو البقاء على الأمر وتمهدت له الأحوال وأقلع بنو مرين بعد مهلك يوسف بن يعقوب عن تلمسان أعمل السلطان نظره في الحركة إليها فخرج إليها سنة سبع أو ست وانتهى إلى متيجة ودخل في طاعته منصور بن محمد شيخ مليكش وجميع قومه ولجأ إليه راشد بن محمد بن ثابت بن منديل أمير مغراوة هارباً أمام بني عبد فأواه إلى ظله وألقى عليه جناح حمايته.واحتشد جميع من في تلك النواحي من القبائل.وزحف إلى الجزائر وأقام عليها أياماً فامتنعت عليه وانكفأ راجعاً إلى حضرته ببجاية وأقام مليكش على طاعته ومطاولته الجزائر بالقتال إلى أن كان من أمرها وتغلب بني عبد الواد عليها ما نذكره في أخبارهم.وجاء معه راشد بن محمد إلى بجاية متذمماً بخدمته إلى أن قتله عبد الرحمن بن خلوف كما يذكر في موضعه. الخبر عن السلم وشروطه بين صاحب تونس وصاحب بجاية لما افتتح السلطان أبو البقاء خالد قسطنطينة وقتل ابن الأمير وفرغ من ذلك الشأن أدرك أهل الحضرة الندم على ما استدبروا من مهادنة صاحب الثغر وقارن ذلك مهلك يوسف بن يعقوب الذي كانوا يرجونه شاغلا له فجنحوا إلى السلم وبعثوا وفدهم في ذلك إليه فأسدوا وألحموا.وشرط عليهم السلطان أبو البقاء أن من هلك منهما قبل صاحبه فالأمر من بعده للآخر والبيعة له فتقبلوا الشرط وحضر الملأ والمشيخة من الموحدين ببجاية ثم بتونس فأشهدوا بها على أنفسهم وربط ذلك العقد وأحكمت أواخيه إلى أن نقضه أهل الحضرة عند مهلك السلطان أبي عصيدة كما نذكره. الخبر عن سفر شيخ الدولة بتونس أبي يحيي اللحياني لحصار جربة ومضيه منها إلى الحج لما أمر هذا الصلح واستتم راجع رئيس الدولة أبو يحيى زكرياء بن اللحياني نظره لنفسه وأعمل فكره في الخلاص من أنشوطته وكان يؤمل رجوع الوفد المغربين بالمهدية من أمراء الديار المصرية إلى يوسف بن يعقوب فيصحبهم لقضاء فرضه وأبطأ عليه شأنهم فاعتزم على قصده وورى بحركته إلى جزيرة جربة لاسترجاعها من أيدي النصارى والرجوع عنها من بعد ذاك إلى الجريد لتمهيد أحواله.وتناول الرأي في الظاهر من أمره مع السلطان فأذن له.وسرح معه العساكر فخرج من تونس في جمادى سنة ست غازياً إلى جربة.ولم يزل يغذ السير حتى انتهى إلى مجازها.ثم عبر منه إلى الجزيرة وكان النصارى لما تغلبوا عليها سنة ثمان وثمانين شيدوا بها حصناً لاعتصام الحامية سموه بالقشتيل فنزل في العساكر عليه.وأنفذ الشيخ أبو يحيى عماله للجباية وأقام في منازلته شهرين.ثم انقطعت الأقوات واستعصى الحصن إلا بالمطاولة فرجع إلى قابس.ثم ارتحل إلى بلاد الجريد وانتهى إلى توزر ونزلها وأعنى في خدمته أحمد بن محمد بن وأنزله عبد الملك بن عثمان بن مكي بداره وصرح بما روى عنه من حجه.وصرف العساكر إلى الحضرة وولي بعده رياسة الموحدين وتدبير الدولة أبو يعقوب بن يزدوتن وتحول عن قابس إلى بعض جبالها تجافياً عن هوائها الوخم.وأقام في انتظار الركب الحجازي وكان مريضاً إلى أن أبل فتحول عنه إلى طرابلس وأقام بها عاماً ونصفه إلى أن وصل وفد الترك من المغرب الأقصى آخر سنة ثمان فخرج معهم حاجاً حتى قضى فرضه وعاد فكان من شأنه واستيلائه على منصب الخلافة ما يأتي ذكره.ووصل مدد النصرانية إلى قشتيل جربة سنة ثمان بعد منصرف العساكر عنهم وفيهم فردريك بن الطاغية صاحب صقلية فقاتلهم أهل الجزيرة من النكارين لنظر أبي عبد الله بن الحسن من مشيخة الموحدين ومعه ابن أومغار في قومه من أهل جربة فأظفرهم الله بهم.ولم يزل شأن هذه الجزيرة مع العدو كذلك منذ التاثت دولة صنهاجة وربما وقعت الفتنة بين أهلها من النكارة فتصل إحدى الطائفتين يدها بالنصارى إلى أن كان ارتجاعها في هذه النوبة سنة.وأربعين لعهد مولانا السلطان أبي يحيى كما نذكر في أخباره.مهلك السلطان ابي عصيدة الخبر عن مهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة أبي بكر الشهيد كان السلطان أبو عصيدة بعد تملي سلطانه وتمهيد ملكه طرقه مرض الاستسقاء فأزمن منه.ثم مات على فراشه في ربيع الآخر سنة تسع ولم يخلف ابناً وكان بقصرهم سبط من أعقاب الأمير أبي زكرياء جدهم.ثم من ولد أبي بكر ابنه الذي ذكرنا وفاته في خبر شقيقه أبي حفص في فتح مليانة أيام السلطان المستنصر فلم يزل بنوه بقصورهم وفي ظل ملكهم.ونشأ منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر في إيالة السلطان أبي عصيدة وربي في حميم نعمته.فلما هلك السلطان أبو عصيدة ولم يعقب وكان السلطان أبو البقاء خالد قد نزع إليه حمزة بن عمر عند إياسه من خروج أخيه من محبسه فرغبه في ملك الحضرة واستحثه عليها.ثم وصل أبو علي بن كبير فنعى السلطان أبا عصيدة واستنهض السلطان أبا البقاء لملك تونس فنهض كما نذكره واستراب الموحدون بتونس بشأن حركته وخافوه على أنفسهم فبايعوا لهذا الأمير أبي زكرياء الذي عرف بالشهيد بما كان من قتله لسبع عشرة ليلة من بيعته وأبقى أبا عبد الله بن يرزيكن على وزارته وزحزح محمد بن الدباغ عن رتبة الحجابة.وتوعده لما كان يحقد عليه من التقصير به أيام سلطانه فكان عوناً عليه إلى أن هلك عند استيلاء السلطان أبي البقاء كما نذكره. الخبر عن استيلاء السلطان أبي البقاء على الحضرة وانفراده بالدعوة الحفصية لما بلغ السلطان أبا البقاء بمكانه من بجاية وأعمالها الخبر بمرض السلطان أبي عصيدة مع ما كان من العقد بينهما بأن من مات قبل صاحبه جمع الأمر من بعده للآخر داخلته الظنة أن ينقض أهل الحضرة هذا الشرط فاعتزم على النهوض لمشارقة الحضرة ووصل إليه حمزة بن عمر نازعاً عنهم فرغبه واستحثه وخرج من بجاية في عساكره وورى بالحركة إلى الجزائر لما كان من انتقاضهم على أبيه واستبداد ابن علان بها.ثم ارتحل إلى قصر جابر وعند بلوغه إليه ورد الخبر بمهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة عنه وفصل من الحضرة ولحق بقسطنطينة وصرف منصور بن فضل إلى عمله بالزاب فكان من خلافه ما يذكر.وقام ابن غمر بخدمة السلطان أبي بكر فتصرف في حجابته.ثم داخله في الانتقاض على أخيه وبدت مخايل ذلك عليهم فارتاب لهم السلطان أبو البقاء وأحس علي بن غمر بارتيابه فلحق بقسطنطينة.وجهز السلطان أبو البقاء عسكراً وعقد عليها لظافر مولاه المعروف بالكبير وسرحه إلى قسطنطينة فانتهى إلى باجة وأراح بها إلى أن كان من أمره ما نذكره.وبادر ابن غمر إلى المجاهرة بالخلعان ودعا مولانا السلطان أبا بكر إليه فأجابه وأخذ له البيعة على الناس فتمت سنة إحدى عشرة وسبعمائة وتلقب بالمتوكل وعسكر بظاهر قسطنطينة إلى أن بلغه مجاهرة ابن الخلوف بخلافهم فكان ما نذكره. الخبر عن استيلاء السلطان على بجاية وقتل ابن خلوف وما كان من الإدارة في ذلك كان يعقوب بن الخلوف ويكنى أبا عبد الرحمن كبير صنهاجة جند السلطان الموطنين بنواحي بجاية وكان له مكان في الدولة وغناء في حروبهم ودفاع عدوهم.ولما نزلت عساكر بني مرين على بجاية مع أبي يحيى بن يعقوب بن عبد الحق سنة ثلاث وسبعمائة كان له في حروبهم مقامات مذكورة وآثار معروفة.وكان الأمير أبو زكرياء وابنه يستخلفونه ببجاية أزمان سفرهم عنها وكان يلقب بالمزوار.ولما هلك خلفه في سبيله تلك ابنه عبد الرحمن واستخلفه السلطان أبو البقاء على بجاية عندما نهض إلى تونس سنة تسع وأنزله بها وكان طموحاً لجوجاً مدلاً ببأسه وقومه ومكانه من الدولة.فلما دعا السلطان أبو بكر لنفسه وخلع طاعة أخيه وأخذ له أبو عبد الرحمن بن غمر البيعة على الناس وخاطبوه بأخذ البيعة له على من يليه ببجاية وأعمالها فأبى منها وتمسك بدعوة صاحبه ونفس على ابن غمر ما تحصل له بذلك من الحظ فجاهر بخلافهم.وجمع واحتشد وتقبض على صاحب الأشغال عبد الواحد ابن القاضي أبي العباس الغماري وعلى صاحب الليوان محمد بن يحيى القالون مصطنع الحاجب ابن غمر من أهل المرية كان أسدى إليه عند اجتيازه به معروفاً ورحل إليه عندما استولى على الرتبة ببجاية فكافأه عن معروفه واصطنعه وألقى إليه محبته ورقاه إلى الرتب وصرفه في أعمال الجباية وقلده ديوان بجاية فتقبض عبد الرحمن بن الخلوف عليه وعلى صاحبه.وجمع الناس وأعلن بالدعوة للسلطان أبي البقاء خالد.وارتحل السلطان أبو بكر من معسكره طاهر قسطنطينة وأغذ السير إلى بجاية ونزل مطلاً عليها واقتتل الناس عامة يومهم.وشرط ابن الخلوف على السلطان عزلة ابن غمر وترددت الرسل بينهم في ذلك.وكان الوزير أبو زكرياء بن أبي الأعلام من الساعين في هذا الإصلاح بما كان له من الصهر مع ابن الخلوف.وحين رجع إليه بامتناع السلطان عن شرطه منعه من الرجوع إليهم وحبسه عنده وأرجف أهل المعسكر بالسلطان وخاموا عن لقاء صنهاجة ومن معهم من مغراوة أهل الشوكة والعصبية والعديد والقوة.وأجفل السلطان من معسكره فانتهب وأخذت آلته وسلب من كان في المعسكر من أخلاط الناس ودخل السلطان إلى قسطنطينة في فل من عسكره.وبعث ابن خلوف عسكراً في أتباعه فوصلوا إلى ميلة فدخلوها عنوة.ثم وصلوا إلى قسطنطينة فقاتلوها أياماً ورجعوا إلى بجاية.وأقام السلطان واضطرب أمره وتوقع زحف ظافر إليه من باجة واتصل به أن أبا يحيى زكرياء بن أحمد اللحياني قفل من المشرق وأنه لما انتهى إلى طرابلس دعا لنفسه لما وجد بإفريقية من الاضطراب فبويع وتوافت إليه العرب من كل جهة فرأى السلطان من مذاهب الحزم أن يبعث إليه بالحاجب ابن أبي عبد الرحمن بن غمر ليشيد من سلطانه ويشغل أهل الحضرة عنه فورى بالفرار عن السلطان وتواطأ معه على المكر بابن خلوف في ذلك.ولحق ابن غمر باللحياني واستحثه لملك تونس وهون عليه الأمر وغدا السلطان عند فصول ابن غمر على منازله فكبسها وسطا بحاشيته وولى حجابته حسن بن إبراهيم بن أبي بكر بن ثابت رئيس أهل الجبل المطل على قسطنطينة والفل من كتامة ويعرف قومه ببني نليلان وكان قد اصطنعه من قبل وارتحل بالعسكر إلى بجاية سنة اثنتي عشرة.واستخلف على قسطنطينة عبد الله بن ثابت أخا الحاجب.واشيع بالجهات أن السلطان تنكر لابن عمر وسخطه وأنه ذهب إلى ابن اللحياني واستجاشه على الحضرة وبلغ ذلك ابن خلوف واستيقن اضطراب حال السلطان خالد بتونس فطمع في حجابة السلطان أبي بكر.وتوثق لنفسه منه بالعهد بمداخلة عثمان بن شبل وعثمان بن سباع بن يحيى من رجالات الدواودة والولي يعقوب الملاري من نواحي قسطنطينة.وأغذ السير إلى بجاية ولقي السلطان بفرجيوه من بلاد سدويكش فلقاه مبرة ورحباً.ثم استدعاه من جوف الليل إلى رواقه في سرب من مواليه المعلوجي فعاقرهم الخمر إلى أن ثمل واستغضبوه ببعض النزعات فغضب وأقذع فتناولوه طعناً بالخناجر إلى أن قتلوه وجروا شلوه فطرحوه بين الفساطيط وتقبض على سائر قومه وحاشيته وفر كاتبه عبد الله بن هلال فلحق بالمغرب.وارتحل السلطان مغذاً إلى بجاية فدخلها على حين غفلة.واستولى على ملك ابنه بالناحية الغربية واستوثق له أمرها وأقام في انتظار حاجبه ابن غمر إلى أن كان من الأمر ما نذكره. الخبر عن مهلك السلطان أبي البقاء خالد واستيلاء السلطان أبي يحيى بن اللحياني على الحضرة كان السلطان أبو البقاء خالد بعد بيعة السلطان أبي بكر بقسطنطينة قد اضطرب أحواله وجهز إليه العساكر لمنازلة قسطنطينة وعقد عليها لمولاه ظافر المعروف بالكبير فعسكر بباجة وأراح ينتظر أمر السلطان.وكان أبو يحيى زكرياء بن أحمد بن محمد اللحياني بن أبي محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص قد بويع بطرابلس لما قفل من المشرق ورأى اضطراب الأحوال ووفد عليه الحاجب أبو عبد الرحمن بن غمر بهدية من السلطان أبي بكر وأنه ممده ومظاهره على شأنه فأحكم ذلك من عقدتة.وشد من أمره وتوافت إليه رجالات الكعوب أولاد أبي الليل وغيرهم فبايعوه واستحثوه للحضرة فارتحل إليها وبعث في مقدمته أولاد أبي الليل ومعهم شيخ دولته أبو عبد الله محمد بن محمد المزدوري فأغذوا السير إلى الحضرة.وبعث السلطان إلى مولاه ظافر بمكانه من باجة مستجيشاً فاعترضوه قبل وصوله وأوقعوا به واعتقلوا ظافراً وصبحوا تونس ثامن جمادى سنة إحدى عشرة ووقفوا بساحتها فكانت هيعة بالبلد قتل فيها شيخ الدولة أبو زكرياء الحفصي وعدا القاضي أبو إسحاق بن عبد الرفيع على السلطان.وكان متبوعاً صارماً قوي الشكيمة فأغراه بمدافعة العدو فخام عن لقائه واعتذر بالمرض وأشهد بالانخلاع عن الأمر وحل البيعة.ودخل أبو عبد الله المزدوري القصر فاستمكن ثم جاء السلطان أبو يحيى زكرياء بن اللحياني على أثره ثاني رجب فبويع العامة بظاهرها ودخل إلى البلد واستولى عليها وولى على حجابته كاتبه أبا زكرياء يحيى بن علي بن يعقوب على الأشغال بالحضرة ابن عمه محمد بن يعقوب.وبنو يعقوب هؤلاء أهل بيت بشاطبة من بيوت العلم والقضاء وقدموا إلى الحضرة مع الجالية وكان منهم أبو القاسم عبد الرحمن بن يعقوب وفد مع ابن الأمين صاحب طنجة كما قدمناه وتصرف في القضاء بإفريقية وولاه السلطان المستنصر قضاء الحضرة.وسفر عنه إلى ملوك مصر وكان بنو علي هؤلاء عبد الواحد ويحيى ومحمد من أقاربه وكان لهم ظهور في دولة السلطان أبي حفص وبعدها.وكان عبد الواحد منهم صاحب جباية الجريد وهلك بتوزر سنة اثنتين وسبعمائة.وكان السلطان أبو يحيى بن اللحياني قد استكتب أخاه أبا زكرياء يحيى أيام رياسته على الموحدين فحظي عنده واختصه ولازمه وحج معه.فلما ولي الخلافة أحظاه وولاه حجابته.ولما استقر بتونس واستوثق له الأمر أعاد الحاجب أبا عبد الرحمن بن غمر إلى مرسله السلطان أبي يحيى بعد أن وثق العهد معه على المهادنة وضمن له ابن غمر من ذلك ما رضيه وتمسك بابن عمه على ابن غمر فأقام عنده مكرماً متسع الجراية والإسهام إلى أن كان من الأمر ما نذكر. الخبر عن قدوم ابن غمر على السلطان ببجاية ونكبة ابن ثابت وظافر الكبير لما قدم ابن غمر على بجاية استبد بحجابته وكفالته كما كان وليوم وصوله فر عبد الله بن هلال كاتب ابن خلوف ولحق بتلمسان وشمر ابن غمر عزائمه للاضطلاع بأمره ودفع حسن بن إبراهيم بن ثابت عن الرتبة فلم يتزحزح له وخرج لجباية الوطن.ثم أغرى به السلطان وحذره من استبداده.بقسطنطينة لمكان معقله المجاور لها وسعايات تنصح بها حتى صادفت القبول لمكانه والوثوق بنصائحه.وخرج السلطان في العساكر من بجاية إلى قسطنطينة سنة ثلاث عشرة لنظر أحوالها.فلما انتهى إلى فرجيوه لقيه عبد الله بن ثابت فتقبض عليه وعلى أخيه حسن بن الحاجب سنة ثلاث عشرة وقتلهما بعد أن استصفى أموالهما ويقال إنه بعد خروج حسن بن ثابت إلى أعمال قسطنطينة بعث في أثره بعض مواليه وأوعز معهم إلى عبد الكريم بن منديل ورجالات سدويكش فقتلوه بوادي القطن.وإن السلطان لم يباشر نكبته.وكان ظافر الكبير بعد انهزامه وحصوله في أسر العرب كما قدمناه امتنعوا عليه وأطلقوه ولحق بالسلطان أبي بكر فأثره واستخلصه كما كان لأخيه وولاه على قسطنطينة عند نكبة ابن ثابت.واستكتب له أبا القاسم بن عبد العزيز لخلوه من الأدوات فأقام ظافراً والياً بقسطنطينة.ثم استقدمه السلطان إلى بجاية وقد غص ابن غمر بمكانه فأغرى به السلطان فتقبض عليه وأشخصه في السفين إلى الأندلس.كان السلطان أبو يحيى بعد انهزامه عن بجاية سنة عشر وبعث سعيد بن يخلف من مواليه إلى أبي حمو موسى بن عثمان بن يغمراسن.وكان قد أتيح له في زناتة المغرب الأوسط ظفر واعتزاز.وتملك أمصاره من أيدي بني مرين بعد مهلك يوسف بن يعقوب على تلمسان ودوخ جهاته.واستولى على أعمال مغراوة وتوجين وملك الجزائر واستنزل منها ابن علان الثائر بها.وملك تدلس من يد ابن خلوف فبعث إليه السلطان في المواصلة والمظافرة وأن تكون يدهما على ابن خلوف واحدة فطمع لذلك موسى بن عثمان في ملك بجاية ثم بلغه مهلك ابن خلوف واستيلاء السلطان على ثغره فاستمر على المطالبة وادعى أن بجاية له في شرطه وقارن ذلك لحاق صنهاجة إليه عند مهلك صاحبهم فرغبوه في ملك بجاية وضمنوا له أمرها.ثم قدم عثمان بن سباع بن يحيى مغاضباً للسلطان لما كان من افتياته عليه في ابن خلوف وإخفار ذمته وعهده فيه واستقر عنده ابن أبي جبى منذ منصرفه عن الحجابة ورجوعه من الحج فرغبوه في ذلك واستحثوه لطلب بجاية فسرح العساكر إليها لنظر محمد ابن عمه يوسف بن يغمراسن ومسعود ابن عمه أبي عامر إبراهيم ومولاه مسامح.وبعث معهما أبا القاسم بن أبي جبى الحاجب ففصلوا عنه من دار مقامته بشلف فأغذوا السير.وهلك ابن أبي جبى بجبل الزاب ونازلوا البلد.ثم جاوزوها إلى الجهات الشرقية فأثخنوا فيها ودخلوا جبل ابن ثابت ونالت منهم الحامية في المدافعة بالقتل والجراحة أعظم السيل وقفلوا راجعين فشيدوا حصناً بأصفون وشحنوه بالأقوات.ولما وصل محمد بن يوسف ومسامح وبخهما وطوفهما ذنب القصور والعجز وعزلهما.وبعث السلطان عسكراً في البر وأسطولاً في البحر بعد رجوعه من قسطنطينة سنة أربع عشرة لهدم حصن بني عبد الواد بأصفون خرب وانتهبت أقواته وعدده.وسرح أبو حمو عسكراً لحصار بجاية عقد عليه لمسعود ابن عمه أبي عامر إبراهيم بن يغمراسن فنازلوها سنة خمس عشرة واتصل لهم خروج محمد بن يوسف بن يغمراسن وبني توجين معه على أبي حمو وأنهم أوقعوا به وهزموه واستولوا على معسكره فأجفل مسعود بن أبي عامر وعسكره وأفرجوا عن بجاية.ووصل على أثرها خطاب محمد بن يوسف بالطاعة والانحياش فبعث السلطان إليه صنيعته محمد بن الحاج فضل بالهدية والآلة ووعده بالمظاهرة وتسويغ الإسهام التي كان ليغمراسن بإفريقية.وشغل بنو عبد الواد عن بجاية وخرج السلطان في عساكر الإشراف على وطنه إلى أن كان ما نذكره. |
الخبر عن استبداد ابن غمر ببجاية
لم يزل ابن غمر مستبداً على السلطان في حجابته يرى أن زمامه بيده وأمره متوقف على إنفاذه.وصار يغريه ببطانته فيقتلهم ويغربهم وربما كان السلطان يأنف من استبداده عليه.وداخله بعض أهل قسطنطينة سنة ثلاث عشره في اغتياله ابن غمر فهموا بذلك ولم يتم ففطن لها ابن غمر فأوقع بهم وقسمهم بين النكال والعذاب فرقاً.ثم رجع السلطان إلى بجاية سنة ثلاث عشرة لما أهمهم حصاره واتصلت حاله معه على ذلك النحو من الاستبداد إلى أن بلغ السلطان أشده وأرهف حده وسطا بمحمد بن فضل فقتله في خلوة معاقرته من غير مؤامرة الحاجب.وباكر ابن غمر مقعده بباب السلطان فوجد شلوه ملقى في الطريق مضرجاً في ثيابه وأخبر أن السلطان سطا به فداخله الريب من استبداد السلطان وإرهاف حده وخشي بوادره وتوقع سعاية البطانة ونجي الخلوة.وتحيل في بعده عنه واستبداده بالثغر دونه فأغراه بطلب إفريقية من يد ابن اللحياني وجهزه بما يصلحه من الآلة والفساطيط والعساكر والخدام ورتب له المراتب.وارتحل السلطان إلى قسطنطينة سنة خمس عشرة.ثم تقدم غازياً إلى بلاد هوارة وأجفل عنها ظافراً بمن تعاطى قائدها من مواليهم فاستوفى جباية هوارة.وقفل إلى قسطنطينة سنة ست عشرة واستبد ابن غمر ببجاية ومدافعة العدو من زناتة عنها.واستخلف على حجابته السلطان محمد بن القالون وقرت عينه بما كان يؤمل من استبداده إلى أن كان من أمره ما نذكر. الخبر عن سفر السلطان أبي يحيى اللحياني إلى قابس وتجافيه عن الخلافة كان هذا السلطان أبو يحيى بن اللحياني قد طعن في السن وكان بصيراً بالسياسة مجرباً للأمور وكان يرى من نفسه العجز عن حمل الخلافة واستحقاقها مع أبناء الأمير أبي زكرياء الأكبر.وعلم مع ذلك استفحال صاحب الثغور الغربية الأمير أبي بكر واستغلاظ أمره بمن انتظم في ملكه وارتسم في ديوان جنده من أعياص زناتة وفحول شلوهم من توجين ومغراوة وبني عبد الواد وبني مرين.كانوا ينزعون إليه مع الأيام عن ملوكهم خشية على أنفسهم لما قاسموهم في النسب وساهموهم في يعسوبية القبيل وفحولية الشول.ومنهم من غلبوا على مواطنهم وملكوها عليهم مثل مغراوة وبني توجين ومليكش فاستكثف بذلك جند السلطان وكثرت جموعه وهابه الملوك.ونهض سنة ست عشرة إلى إفريقية وجال في بلاد هوارة وأخذ جبايتها كما ذكرناه فتوقع السلطان ابن اللحياني زحفه إليه بتونس.وكانت إفريقية مضطربة عليه وكان تعويله في الحماية والمدافعة على أوليائه من العرب تولى منهم حمزة بن علي عمر بن أبي الليل فحكمه في أمره وأشركه في سلطانه وأفرده برياسة العرب وأجره الرسن وسرب إليه الأموال وكثر بذلك زبون العرب واختلافهم عليه فاعتزم على التقويض عن إفريقية ونفض اليد من الخلافة فجمع الأموال والذخيرة وباع ما كان بمودعاتهم من الآنية والفرش والخرثي والماعون والمتاع حتى الكتب التي كان الأمير أبو زكرياء الأكبر جمعها واستجاد أصولها ودواوينها.أخرجت للوراقين فبيعت بدكاكينهم.فجمع من ذلك زعموا قناطير من الذهب تجاوز العشرين وجواليقين من حصى الدر والياقوت.وخرج من تونس إلى قابس مورياً بمشارفة عملها فاتح سبع عشرة بعد أن رتب الحامية بالحضرة وباجة والحمامات واستخلف بالحضرة أبا الحسن بن وانودين وانتهى إلى قابس فقام بها وصرف العمال في جهاتها إلى أن كان من بيعة ولده بتونس ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. الخبر عن نهوض السلطان أبي بكر إلى الحضرة ورجوعه إلى قسطنطينة لما خرج السلطان من هوارة إلى قسطنطينة سنة ست عشرة كما قدمناه استبلغ في جهاز حركة أخرى إلى تونس فاحتشد وقسم العطاء وأزاح العلل واعترض الجنود عن طبقاتهم من زناتة والعرب وسدويكش.واستخلف على قسطنطينة الحاجب محمد بن القالون.وبعث إلى حاجبه الأعظم أبي عبد الرحمن بن غمر بمكانه من إمارة بجاية في مدد المال في النفقات والأعطيات.فبعث إليه منصور بن فضل بن مزني عامل الزاب.وكان ابن عمر لما رأى من كفايته وأنه جماعة للمال استضاف له عمل جبل أوراس والحضنة وسدويكش وعياض وسائر أعمال الضاحية فكانت أعمال الجباية كلها لنظره وأمواله في حسبان دخله وخرجه.فبعث ابن غمر ليقيم إنفاق السلطان.واستخلفه على خطة حجابته وارتحل السلطان من قسطنطينة في جمادى سنة سبع عشرة يطوي المراحل.ولقيه في طريقه وفود العرب وانتهى إلى باجة فانفضت وكان السلطان أبو يحيى اللحياني قد خرج عنها إلى قابس كما قدمناه واستخلف عليها أبا الحسن بن وانودين وبعث إليه بنهوض السلطان أبي بكر إلى تونس وأنه محتاج إلى المدافعة فاعتذر لهم اللحياني بما قبله من الأموال وأطلق يدهم في الجيش والمال فأركبوا واستلحقوا ورتبوا الديوان وأخرجوا ابنه محمد ويكنى أبا ضربة فأطلقوه من اعتقاله.وبغتهم الخبر بإشراف السلطان أبي بكر على باجة فخرجوا جميعاً من تونس.وخالفهم إلى السلطان مولاه ابن غمر بن أبي الليل.كان مضطغناً مع الدولة متربصاً بها لما كان اللحياني يؤثر عليه أخاه حمزة فلقي السلطان في دوين باجة فأعطاه صفقته واستحثه ووصل إلى تونس فنزل روض السناجرة من رياض السلطان في شعبان من سنة سبع عشرة.وخرج إليه الملأ وترددوا في البيعة بعض الشيء انتظاراً لشأن أبي ضربة وأصحابه.وكان من خبرهم أن السلطان لما أغذ السير من باجة بادر حمزة بن غمر إلى بطانة اللحياني وأوليائه بتونس فلقيهم وقد خرجوا عنها فأشار عليهم ببيعة أبي ضربة بن السلطان اللحياني ومزاحمة القوم به فبايعوه وزحفوا إلى لقاء السلطان.ودس حمزة إلى أخيه مولاهم أن يزحف بالمعسكر فأجفل السلطان من مقامته من روض السناجرة لسبعة أيام من احتلاله قبل أن يستكمل البيعة وارتحل إلى قسطنطينة ورجع عنه مولاهم من تخوم وطنه.وسرح منصور بن مزني إلى ابن غمر ببجاية ودخل أبو ضربة بن اللحياني والموحدون إلى تونس منتصف شعبان من سنته.وبويع بالحضرة البيعة العامة وتلقب بالمستنصر.وأراد أهل تونس على إدارة سور بالأرباض يكون سياجاً عليها فأجابوه إلى ذلك وشرع فيه.وأرهقه العرب في مطالبهم واشتطوا عليه في شروطهم إلى أن عاود مولانا السلطان حركته كما نذكر. الخبر عن استيلاء السلطان أبي بكر على الحضرة وإيقاعه بأبي ضربة وفرار أبيه من طرابلس إلى المشرق لما قفل السلطان من تونس إلى قسطنطينة بعث قائده محمد بن سيد الناس بين يديه إلى بجاية فارتاب ابن غمر بوصوله وتنكر له وشعر بذلك السلطان وأغضى له عنها وطلبه في المدد فاحتفل في الحشد والآلة والأبنية.وبعث إليه سبعة من رجال الدولة بسبعة عساكر وهم: محمد بن سيد الناس ومحمد بن الحكم وظافر السنان وأخوه من موالي الأمير أبي زكرياء الأوسط ومحمد المديوني ومحمد المجرسي ومحمد البطوني.وبعث له من فحول زناتة وعظمائهم عبد الحق بن عثمان من أعياص بني مرين كان ارتحل إليه من الأندلس كما نذكر في خبره وأبا رشيد بن محمد بن يوسف من أعياص بني عبد الواد في من كان معهم من قومهم وحاشيتهم.وتوافوا بعساكرهم عند السلطان بقسطنطينة فاعتزم على معاودة الزحف إلى تونس وكان قد اختبر أحوال إفريقية وأحسن في ارتيادها فخرج في صفر من سنة ثمان عشرة واستعمل على حجابته أبا عبد الله بن القالون ومرادفه أبو الحسن بن عمر ووافاه بالأربس وفد هوارة وكبيرهم سليمان بن جامع وأخبروه بأن أبا ضربة بن اللحياني أجفل من باجة بعد أن نزلها معتزماً على اللقاء فارتحل مولانا السلطان مغذاً ولقيه مولاهم ابن غمر فراجع الطاعة وارتحلوا في أتباع أبي ضربة وجموعه حتى شارفوا على القيروان فخرج إليه عاملها ومشيختها فألقوا إليه باليد وأعطوا الطاعة.وارتحل السلطان راجعاً عن أتباع عدوه إلى الحضرة وقد ترك بها أبو ضربة بن اللحياني من بطانته محمد بن الغلاق ليمانع دونها فأخرج الرماة إلى ساحتها وقاتل العساكر ساعة من النهار.ثم اقتحموها عليه واستبيح عامة أرباضها وقتل ابن الغلاق ودخل السلطان إلى الحضرة في ربيع من سنته فأقام خلال ما انعقدت العامة.وقدم على الشرطة ميمون بن أبي زيد واستخلفه على البلد.ورحل في أتباع أبي ضربة بن اللحياني وجموعه فأوقع بهم بمصوح من جهات بلاد هوارة.وقتل من مشيخة الموحدين أبو عبد الله بن الشهيد من أهل البيت الحفصي وأبو عبد الله بن ياسين.ومن طبقات الكتاب أبو الفضل البجائي وتقبض على شيخ الدولة أبي محمد عبد الله بن يغمور.وقيد إلى السلطان فعفا عنه ونوهه ليومه.ثم أعاده إلى خطته بعد ذلك.ورجع السلطان إلى تونس في رجب من سنته.وكان السلطان أبو عيسى بن اللحياني لما بلغه الخبر بنهوض السلطان إلى تونس حركته الثانية سنة سبع عشرة وما كان من بيعة الموحدين والعرب لابنه أبي ضربة ارتحل من مقامته بقابس إلى نواحي طرابلس.ثم بلغه رجوع السلطان إلى قسطنطينة فأوطن طرابلس فبنى مقعداً لملكه بسور البلد مما يلي البحر سماه الطارمة وبعث العمال في الجهات لجباية الأموال.وبعث على جبال طرابلس أبا عبد الله بن يعقوب قريب حاجبه ومعه هجرس بن مرغم كبير الجواري من دباب فدوخ البلاد وفتح المعاقل وجبى الأموال وانتهى إلى برقة.واستخدم آل سالم وآل سليمان من عرب دباب ورجع إلى سلطانه بطرابلس.ووافاه الخبر بانهزام أبي ضربة ابنه فبعث حاجبه أبا زكرياء بن يعقوب ووزيره أبا عبد الله بن ياسين بالأموال لاحتشاد العرب ففرقوها في علاق ودباب وزحف أبو ضربة إلى القيروان.وبلغ الخبر إلى السلطان أبي بكر فخرج من تونس آخر شعبان سنة ثمان عشرة فأجفلوا عن القيروان.ثم تدامروا وعقلوا رواحلهم مستميتين بزعمهم حتى أطلت عليهم العساكر بمكان فج النعام فانفضت جموعهم وشردت رواحلهم وارتحلوا منهزمين والقتل والنهب يأخذ منهم مأخذه.ونجا أبو ضربة في فله إلى المهدية وكانوا مقيمين على دعوة أبيه فامتنع بها إلى أن كان من شأنه ما وبلغ الخبر إلى أبيه بمكانه من طرابلس فاضطرب معسكره وبعث إلى النصارى في أسطول يحمله إلى الإسكندرية فوافوه بستة أساطيل فاحتمل أهله وولده وركب البحر ومعه حاجبه أبو زكرياء بن يعقوب إلى الإسكندرية واستخلف على طرابلس أبا عبد الله بن أبي عمران من ذوي قرابته وصهره فلم يزل بها إلى أن استدعاه الكعوب ونصبوه للأمر وأجلبوا به على السلطان مراراً كما نذكره بعد.وركب السلطان أبو يحيى بن اللحياني البحر إلى الإسكندرية فنزل بها على السلطان محمد بن قلاون من ملوك الترك بمصر والشام.واستقدمه إلى مصر فعظم من مقدمه واهتز للقائه ونوه من مجلسه وأسنى من جرايته وأقطاعه إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين.ورجع السلطان أبو بكر إلى تونس بعد الواقعة على أبي ضربة وقومه بفج النعام فدخلها في شوال من سنته.واستقامت إفريقية على طاعته وانتظمت أمصارها وثغورها في دعوتها إلا الهدية وطرابلس كما ذكرناه إلى أن كان ما يأتي ذكره. الخبر عن مهلك الحاجب ابن غمر ببجاية وولاية الحاجب محمد بن القالون عليها ثم الإدالة منه بابن سيد الناس كان الحاجب ابن غمر لما استبد ببجاية سنة خمس عشرة وانتقل السلطان إلى قسطنطينة ولم يراجعها بعد.ثم رجع من تونس ثانية حركاته سنة سبع عشرة صرف إليه منصور بن فضل وبعث في أثره قائده أبا عبد الله محمد بن حاجب أبيه أبي الحسن بن سيد الناس يهيئ قصوره ببجاية للتحول إليها فرده ابن غمر وتنكر وطالبه السلطان في الممد فبادر به فأقطعه جانب الرضى.وعقد له على بجاية وقسطنطينة كما ذكرنا ذلك كله قبل.فاستبد ابن غمر بالثغر وما إليه من الأعمال مقتصراً على ذكر السلطان في الخطبة واسمه في السكة.وأقام على ذلك إلى أن ملك السلطان تونس واستولى على جهاتها وبعث إليه بابن عمه محمد بن غمر فعقد أبو عبد الرحمن الحاجب على قسطنطينة فمضى إليها وهو في خلال ذلك كله يدافع عساكر زناتة عن بجاية.وقد كان أبو حمو صاحب تلمسان بعد ظهوره على محمد بن يوسف واسترجاعه بلاد مغراوة وتوجين من يده كما قدمناه يسرب العساكر لحصارها.وابتنى بالوادي على مرحلتين منها قلعة تكر ليجمر بها الكتائب لحصارها.ثم هلك أبو حمو وولي ابنه أبو تاشفين من بعده سنة ثمان عشرة فتنفس فخنق الحصار عن بجاية ريثما كانت حركة السلطان إلى تونس وفتحها.ثم خرج أبو تاشفين من تلمسان لتمهيد أعماله وقتل محمد بن يوسف بمعقله من جبل وانشريش كما ذكرناه في أخبارهم فارتحل من هنالك غازياً إلى بجاية فأطل عليها في سنة تسع عشرة وبدا له من حصنها وكثرة مقاتلتها وامتناعها ما لم يحتسب فانكفأ راجعاً إلى تلمسان وأصاب ابن غمر المرض فبعث عن علي ابن عمه من مكان عمله بقسطنطينة وعهد إليه بأمره والقيام بولاية وهلك لأيام على فراشه في شوال من سنة تسع عشرة وقام علي بن غمر بأمر بجاية واتصل الخبر بالسلطان فأهمه شأن الثغر.وطير ابن سيد الناس إليه مع قهرمانة داره لتحصيل تراثه والبحث عن ذخيرته فاستوفى من ذلك فوق الكثرة من الصامت والذخيرة وقدم به على السلطان واستقدم معه علي بن غمر فأولاه السلطان من رضاه ما أحسب أمله.وأقام بالحضرة إلى أن كان منه خلاف مع ابن عمران.ثم راجع الطاعة وقد أحفظ السلطان لولاية عدوه.فلما عاد إلى تونس أوعز إلى مولاه نجاح وهلال بقتله فاغتالوه خارجاً من بستانه فأشووه وهلك من جراحته. الخبر عن إمارة الأمير أبي عبد الله على قسطنطينة وأخيه الأمير أبي زكرياء على بجاية وتولية القالون علي حجابته لما هلك ابن غمر أهم السلطان شأن بجايه بما كانت عليه من شأن الحصار ومطالبة بني عبد الواد لها فرأى أن يكثف الحامية بالثغور الغربية وينزل بها أبناءه للمدافعة والحماية فعقد على قسطنطينة لابنه الأمير أبي عبد الله وعقد على بجاية لابنه الأخر الأمير أبي زكرياء.وجعل حجابتها لأبي عبد الله بن القالون مستبداً عليهما لمكان صغرهما.وأكثف له الجند وأمره بالمقام ببجاية لممانعتها من العدو الملح على حصارها.وارتحلوا من تونس فاتح سنة عشرين في احتفال من العسكر والصحاب والأبهة.وأبقى خطة الحجابة خلواً ممن يقوم بها.وأبقى علي بن القالون.وبقي للتصرف في الأمور من رجالات السلطان أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الكردي الملقب بالمزوار.وكان مقدماً على بطانة السلطان المعروفين بالدخلة وعلى الأشغال الكاتب أبو القاسم بن عبد العزيز وسنذكر أوليتهما بعد.وانصرف إلى بجاية رافلاً في حلل العز والتنويه إلى أن كان من أمره ما نذكر. الخبر عن استقدام ابن القالون والإدالة منه بابن سيد الناس في بجاية وبظافر الكبير في قسطنطينة لما انصرف أبو عبد الله بن يحيى بن القالون إلى بجاية وخلا وجه السلطان فيه لبطانته عند ولايته بجاية بثوا فيه السعايات ونصبوا له الغوائل.وتولى كبر ذلك المزوار ابن عبد العزيز بمداخلة أبي القاسم بن عبد العزيز صاحب الأشغال.وعظمت السعاية فيه عند السلطان حتى داخلت فيه المظنة.وعقد لمحمد بن سيد الناس على بجاية نقله إليها من عمله باجة وكتب له عهده بخطه.واستقدم صاحبه محمد بن القالون فقدم وقد تغير السلطان له ودخل ابن سيد الناس بجاية وقام بأمر حصارها وحجابة أميرها إلى أن استقدم للحجابة وكان من أمره ما نذكره.ومر ابن القالون بقسطنطينة في طريقه إلى الحضرة فحدثته نفسه بالامتناع بها وداخل مشيختها في ذلك فأبوا عليه فأشخصهم إلى الحضرة نكالاً بهم.ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فأسرها لابن القالون وعزم على استضافة الحجابة بقسطنطينة لابن سيد الناس فاستعفى مشيختها من ذلك واروه أن ابن الأمين قريبه وابن أخيه وذكروه ثورة أبيه فأقصر عن ذلك وصرف اعتزامه إلى مولاه ظافر الكبير وذلك عند قدومه من المغرب وكان من خبره أنه كان من موالي الأمير أبي زكرياء وكان له في دولة ابنه السلطان أبي البقاء ظهور وهو الذي زحف بالعسكر عندما استراب السلطان أبو البقاء بأخيه السلطان أبي بكر فأقام بباجة.وجاء المزدوري والعرب إلى تونس في مقدمة ابن اللحياني فزحف إليهم ففضوه وتقبضوا عليه كما ذكرنا ذلك كله.ثم لحق بعدها بمولانا السلطان أبي يحيى وأعاده إلى مكانه من الدولة وولاه قسطنطينة عند مهلك ابن ثابت سنة ثلاث عشر.ثم غص به ابن غمر وأغرى به السلطان فأشخصه في سفين إلى الأندلس وأجاز إلى المغرب.ونزل على السلطان أبي سعيد إلى أن بلغه الخبر بمهلك ابن غمر فكر راجعاً إلى تونس ولقاه السلطان مبرة وتكريماً.ووافق ذلك وصول الحاجب ابن القالون من بجاية فعقد السلطان لظافر هذا على حجابة ابنه بقسطنطينة الأمير أبي عبد الله فقدمها وقام بأمرها واستعمل ذويه وحاشيته في وجوه خدمتها وصرف من كان هنالك من الخدام أهل الحضرة إلى بلدهم.وكان بها أبو العباس بن ياسين متصرفاً بين يدي الأمير أبي عبد الله والكاتب أبو زكرياء بن الدباغ على أشغال الجباية وكانا قدما من الحضرة في ركاب الأمير أبي عبد الله فصرفهما القائد ظافر الخبر عن ظهور ابن أبي عمران وفرار ابن القالون إليه كان محمد بن أبي عمران هذا من عقب أبي عمران موسى بن إبراهيم ابن الشيخ أبي حفص وهو الذي ولي إفريقية نائباً عن أبي محمد عبد الله ابن عمه الشيخ أبي محمد عبد الواحد كتب له بها من مراكش لأول ولايته فأقام والياً عليها ثمانية أشهر إلى أن قدم آخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة وأقام أبو عمران هذا في جملتهم إلى أن هلك ونشأ بنوه في ظل دولتهم إلى أن كان من عقبه أبو بكر والد محمد هذا فكان له صيت وذكر.وكان السلطان أبو يحيى زكرياء بن اللحياني قد رعى له ذمة قرابته ووصله بصهر عقده لابنه محمد على ابنته.واستخلفه على تونس عند خروجه عنها.ثم استخلفه على طرابلس عند ركوبه السفين إلى الإسكندرية.وكان أبو ضربة بعد انهزامه وافتراق جموعه اعتصم بالمهدية ونازله بها السلطان أبو بكر فامتنعت عليه فأقلع عنها على سلم عقده لأبي ضربة.وأقام حمزة بن عمر في سبيل خلافه على السلطان ويتقلب في نواحي إفريقية حتى عظم زبونه على السلطان ونزع إليه الكثير من الأعراب وكثرت جموعه فاستقدم محمد بن أبي عمران من مكان ولايته بثغر طرابلس.وزحف إلى تونس معارضاً للسلطان قبل اجتماع عساكره وكمال تعبيته فخرج السلطان أبو بكر من تونس في رمضان سنة إحدى وعشرين ولحق بقسطنطينة وصحبه إليها مولاهم ابن عمر.وكان الحاجب محمد بن يحيى بن القولون قد غصته البطانة والحاشية بالسعاية فيه عند السلطان وتبين له انحرافه عنه.وكان معز بن مطاعن الفزاري وزيره حمزة بن عمر وصاحب شوراه صديقاً للقالون ومخالصاً فداخله في الأجلاب بابن عمران.فلما خرج السلطان أمام زحفه تخفف القالون بتونس وركب من الغد في البلد منادياً بدعوة ابن أبي عمران.ودخل محمد بن أبي عمران ثانية خروج السلطان واستولى على الحضرة وأقام بها بقية سنته وصدر من الأخرى ولحق السلطان بقسطنطينة فجمع عساكره واحتشد جموعه.وأزاح العلل واستكمل التعبية وزحف منها في صفر سنة اثنتين وعشرين.وخرج ابن أبي عمران للقائه مع حمزة بن عمر في جموع العرب فلقيهم السلطان أولى وثانية بالرجلة وأوقع بهم وقتل شيخ الموحدين أبا عبد الله بن أبي بكر.وكان على مقدمتهم محمد بن منصور بن مزني وغيرهم وأثخنت العساكر فيهم قتلاً وأسراً وكان للسلطان فيها ظهور لا كفاء له.ثم تقبض على مولاهم ابن عمر فكان من خبره ما نذكره. الخبر عن مقتل مولاهم ابن عمر وأصحابه من الكعوب لما أتيح للسلطان من الظهور على ابن عمران وأتباعه والظفر بهم ما اتيح وصنع له فيهم رغم أنف مولاهم ابن عمر وظهرت من أصحابه كلمات أنبأت بفساد دخلتهم.ثم نمي للسلطان أن مولاهم داخل في الفتك به ابنه منصور وربيبه زعدان ومعدان ابني عبد الله بن أحمد بن كعب وسليمان بن جامع من شيوخ هوارة.وشى بذلك عنهم ابن عمهم عون بن عبد الله بن أحمد بعد أن داخلوه فيها فتنصح بها للسلطان.فلما عدوا على السلطان تقبض عليهم وبعثهم إلى تونس فاعتقلوا بها ورجع هو إلى الحضرة فدخلها في جمادى من سنته.وجدد البيعة على الناس وزحفت العرب في أتباعه حتى نزلوا بظاهر البلد وشرطوا عليه إطلاق مولاهم وأصحابه فأنفذ السلطان قتلهم فقتلوا بمحبسهم وبعث بأشلائهم إلى حمزة فعظم عنده موقع هذا الحزن وصرخ في قومه وتدامروا أن يثيروا بصاحبهم وأغذوا السير إلى الحضرة وابن أبي عمران معهم على حين افتراق العساكر وإراحة السلطان.وظنوا أنهم ينتهزون الفرصة فخرج السلطان عن تونس لأربعين يوماً من دخوله ولحق بقسطنطينة ودخل ابن أبي عمران إلى تونس فأقام بها ستة أشهر خلال ما احتشد السلطان جموعه واستكمل تعبيته.ونهض من قسطنطينة وزحف إليه ابن أبي عمران وحمزة بن عمر في جموعهم فأوقع السلطان بهم وأثخن فيهم وشردهم في النواحي وعاد إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاث وعشرين ومضى حمزة لوجهه إلى أن كان من أمره ما نذكره. الخبر عن واقعة رغيس مع ابن اللحياني وزناتة وواقعة الشقة مع ابن أبي عمران لما انهزم حمزة بن عمر وابن أبي عمران عن تونس مرة بعد أخرى ورأى حمزة أن ابن أبي عمران غير مغن عنه فصرفه إلى مكان عمله بطرابلس وبعث إلى أبي ضربة ابن السلطان اللحياني بمقانه من المهدية فداخله في الصريخ بزناتة والوفود على سلطان بني عبد الواد فرحل معه أبو ضربة ووفدوا على أبي تاشفين صاحب تلمسان ورغبوه في الظفر ببجاية وأن يشغل صاحب تونس عن ملاها بترديد البعوث وتجهيز العساكر إليه فسرح معهم السلطان آلافاً من العساكر عقد عليها لموسى بن علي الكردي صاحب الثغر بتيمرزدكت وكثير الحاشية والرجالات.وارتحلوا من تلمسان يغذون السير وبلغ السلطان خبر فصولهم من تلمسان فبرز للقائهم من تونس في عساكره حتى انتهى إلى رغيس بين بونة وقسطنطينة.ولما أطلت عساكر زناتة والعرب اختل مصاف السلطان وانهزمت المجنبات وثبت في القلب وصدق العزيمة واللقاء فاختل مصافهم وانهزموا في شعبان سنة ثلاث وعشرين وامتلأت أيدي العساكر من أسلابهم من نساء زناتة ومن عليهن السلطان وأطلقهن.ورجع أبو ضربة وموسى بن علي الكردي في فلهم إلى تلمسان وعاد السلطان إلى حضرته لأيام من هزيمتهم.ولقيه الخبر في طريقه باجتماع العرب وابن أبي عمران بنواحي القيروان فتخطى الحضرة إليهم ولقيهم بالشقة وأوقع بهم ورجع إلى تونس في شوال من سنة أربع وعشرين.فاتبعه حمزة ومن معه إلى تونس وسبق إليهم بخبرهم عامر بن بوعلي بن كثير وسحيم بن.فخرج للقائهم من يومه في خف من الجنود بعد أن بعث عن عساكر باجة وقائدها عبد الله العاقل مولاه فصحبه العرب بنواحي شادلة فقاتلوه صدرها وحمي الوطيس ووصل عبد الله العاقل والناس متواقفون واشتدت الحرب.ثم كانت الهزيمة على العرب واستبيحت حرماتهم وافترقت جموعهم ورجع السلطان إلى البلد واستقر بالحضرة. الخبر عن أجلاب حمزة بإبراهيم بن الشهيد وتغلبه على الحضرة لما انهزم أبو ضربة بن اللحياني وحمزة بن عمر وعساكر بني عبد الواد لحق أبو ضربة بتلمسان فهلك بها ولقى حمزة بعده من الحروب مع السلطان ما لقي ويئس الكعوب من غلابه وتدامروا لفتنته والأجلاب عليه فوفد حمزة بن عمر على أبي تاشفين صريخاً ومعه طالب بن مهلهل قرنه في قومه ومحمد بن مسكين شيخ بني حكيم من أولاد القوس وكلهم من سليم ومعهم الحاجب ابن القالون فاستحثوا عساكره لصريخهم فكتب لهم السلطان كتيبة عقد عليها لموسى بن علي الكردي وأعاده معهم.ونصب لهم لملك تونس من أعياض أبي حفص إبراهيم بن الشهيد منهم وأبوه الشهيد هو أبو بكر بن أبي الخطاب عبد الرحمن الذي نصب للأمر عند مهلك السلطان أبي عصيمة وقتله السلطان أبو البقاء خالد كما ذكرناه.وكان إبراهيم هذا قد لحق بالعرب ونصبوه للأمر وأجلبوا به على تونس إثر واقعة رغيس.وبرزت إليهم العساكر فانهزموا كما ذكرناه ولحق بتلمسان وجاء هذا الوفد على أثره فنصبه السلطان أبو تاشفين لهم واستعمل على حجابته محمد بن يحيى بن القالون.وبعث معهم العساكر لنظر موسى بن علي الكردي وزحفوا إلى إفريقية.وخرج السلطان أبو بكر من تونس لمدافعتهم ذا القعدة من سنة أربع وعشرين وانتهى إلى قسطنطينة وعاجلوه قبل استكمال التعبية فنزلوا بساحتها.وأقام موسى بن علي على منازلتها بعساكر بني عبد الواد.وتقدم إبراهيم ابن الشهيد وحمزة بن عمر إلى تونس فدخلها في رجب سنة خمس وعشرين واستمكن منها وعقد على باجة لمحمد بن داود من مشيخة الموحدين.وثار عليه بعض ليالي رمضان بعض بطانة السلطان كانوا بالبلد في غيابات الاختفاء وكان منهم يوسف بن عامر بن عثمان وهو ابن أخي عبد الحق بن عثمان من أعياص بني مرين وفيهم القائد بلاط من وجوه الترك المرتزقة بالحضرة وابن جسار نقيب الشرفاء فاعتدوا واجتمعوا من جوف الليل وهتفوا بدعوة السلطان.وطافوا بالقصبة فامتنعت عليهم فعمدوا إلى دار كشلي من الترك المرتزقة وكان بطانة لابن القالون فقاتلوها وامتنعت عليهم.ثم أعجلهم الصباح عن مرامهم وتتبعوا بالقتل وفرغ من شأنهم وكان موسى بن علي ومن معه من العساكر لما تخلفوا عن ابن الشهيد لحصار قسطنطينة أقام عليها أياماً.ثم أقلع عنها لخمس عشرة ليلة من منازلته ورجع إلى صاحبه بتلمسان.وخرج السلطان من قسطنطينة فاستكمل الحشد والتعبية ونهض إلى تونس فأجفل منها ابن الشهيد وابن القالون ودخلها السلطان في شوال سنة خمس وعشرين واستولى على دار ملكه وأقام بها إلى أن كان من أمره ما نذكره. |
خبر عن حصار بجاية وبناء تيمرزدكت وانهزام عساكر السلطان عليها
كان أبو تاشفين مند خلا له الجو وتمكنت في الأمر منه القدم يلح على بجاية بترديد البعوث ومطاولة الحصار والسلطان أبو بكر يدفع لحمايتها من رجالات دولته وعظماء وزرائه الأول فالأول من أهل الكفاية والاضطلاع بما يدفع إليه من ذلك.وسرب إليهم المدد من الأموال والأسلحة والجنود وتعهد إليهم بالصبر والثبات في المواطن ونظره من وراء ذلك.وكان أبو تاشفين كلما أحس من السلطان أبي بكر بنهوض إلى المدافعة عنها أو عزم على غزو كتائبه المجمرة عليها رماه بشاغل يوهن عن عزمه ويمسك عنان بطشه.وكانت فتنة حمزة بن عمر من أدهى الشواغل في ذلك بما كان يخبب العرب عن الطاعة ويجمع الأحزاب للأجلاب على الحضرة وينصب الأعياص يطمعهم فيما ليس لهم من نيل الخلافة.وكان ذلك ديدناً متصلاً أزمان تلك المدة.ولما سرح أبو تاشفين العساكر سنة خمس وعشرين مع إبراهيم ابن الشهيد وحمزة بن عمر وأوليائهم من أهل إفريقية وعقد عليها لموسى بن علي من رجالاته فنازل قسطنطينة ثم أقلع عنها وعاود حصارها سنة ثمان وعشرين.وشن الغارة في نواحيها واكتسح الأموال ورجع إلى وادي بجاية فاختط مدينة بتيكلات على مرحلة منها وعلى قارعة الطريق الشارع من الغرب إلى الشرق وبما كانت بجاية زائغة عنه إلى البحر فاختطوا تلك المدينة وشيدوها وجمعوا الأيدي عليها وقسموها مسافات على جيوشهم فاستتمت لأربعين يوماً وسموها تيمرزدكت باسم حصنهم الأقدم بالجبل قبالة وجدة حيث امتنع يغمراسن على السعيد ونازله وهلك عليه كما ذكرناه في أخباره.وشحنوا هذه المدينة بالأقوات والمدد وعمروها بالمقاتلة من الرجل والفرسان والقبائل وأخذت بمخنق البلد.وقلق السلطان بمكانها فأوعز إلى قواد عساكره وأصحاب عمالاته من مواليه وصنائعه أن ينفروا بعساكرهم إلى صاحب الثغر محمد بن سيد الناس ويزحفوا معه إلى هذا البلد المخروب ويستميتوا دون تخريبه فنهض ظافر الكبير من قسطنطينة وعبد الله العاقل من هوارة وظافر السنان من بونة: وتوافوا ببجاية سنة سبع وعشرين.وبلغ موسى بن علي خبرهم فاستنفر من وراءه من عساكر بني عبد الواد.وخرجت العساكر جميعاً من بجاية تحت لواء ابن سيد الناس.وزحف إلى العدو بمخيمهم من تيكلات فكانت الدبرة عليه وعلى أصحابه فقتل ظافر الكبير ورجع فلهم إلى بجاية.وداخلت ابن سيد الناس فيهم الظنة بما كان يداخل موسى بن عيسى في الزبون كل واحد منهما لصاحبه على سلطانه فمنعهم من دخول البلد ليلتئذ وأسحروا قافلين إلى أعمالهم وعقد السلطان على قسطنطينة لأبي القاسم بن عبد العزيز أياماً.ثم استقدمه إلى الحضرة ليستعين به محمد بن عبد العزيز المزوار في خطة حجابته بما كان غفلاً من الأدوات التي تحتاج إليها الحجابة.وعقد على حجابة ابنه الأمير أبي عبد الله بقسطنطينة لمولاه ظافر السنان إلى أن كان من تحويل بنائه ما نذكره. الخبر عن مهلك الحاجب المزوار وولاية ابن سيد الناس مكانه ومقتل ابن القالون هذا الرجل محمد بن القالون المعروف بالمزوار لا أدري من أوليته أكثر من أنه كردي من الأكراد الذين وفد رؤساؤهم على ملوك المغرب أيام أجلاهم الططر عن أوطانهم بشهرزور عند تغلبهم على بغداد سنة ست وخمسين وستمائة: فمنهم من أقام بتونس ومنهم من تقدم إلى المغرب فنزلوا على المرتضى بمراكش فأحسن جوارهم.وصار قوم منهم إلى بني مرين وآخرون إلى بني عبد الواد حسبما نذكر في أخبارهم.ومن المقيمين بالحضرة كان سلف ابن عبد العزيز هذا إلى أن نشأ هو في دولة الأمير أبي زكرياء الأوسط صاحب الثغور الغربية وتحت كنف من اصطناعه.واختلط بأبنائه وقدم في جملة ابنه السلطان أبي بكر إلى تونس مقدماً في بطانته ورئيساً على الحاشية المسمين بالدخلة وكان يعرف لذلك بالمزوار.وكان شهماً وقوراً متديناً وله في الدولة حظ من الظهور وهو الذي تولى كبر السعاية في الحاجب ابن القالون حتى ارتاب بمكانه.وفر إلى ابن أبي عمران سنة إحدى وعشرين كما قدمناه.وولاه السلطان الحجابة مكانه فقام بها مستعيناً بالكاتب أبي القاسم بن عبد العزيز لخلوه هو من الأدوات.وإنما كان شجاعاً بهمة.ولم يزل على ذلك إلى أن هلك في شعبان سنة سبع وعشرين وأراد السلطان على الحجابة محمد بن خلدون جدنا الأقرب فأبى ورغب في الإقالة فأجحف جنوحاً لما كان بسبيله منذ سنين من الصاغية إلى الدين والرغبة في السكون والفرار من الرتب.وأشار على السلطان بصاحب الثغر محمد بن أبي الحسين بن سيد الناس لتقديمه سلفه مع سلف السلطان وكثرة تابعه وحاشيته وقوة شكيمته في الاضطلاع بما يدفع إليه.أجبرني بهذا الخبر أبي رحمه الله وصاحبنا محمد بن منصور بن مزني قال لي: حضرت لاستدعاء جدكم إلى معسكر السلطان بباجة يوم مهلك المزوار وأدخله السلطان إلى رواقه وغاب ملياً ثم خرج وقد استفاض بين البطانة والحاشية أنه دعي إلى الخطة فاستنكرها.وأقام السلطان يومئذ في خطة الحجابة الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم.واستقدم خالصته محمد بن حاجب أبيه أبي الحسين بن سيد على بجاية وحجابة ابنه بها فدفع إليه للنيابة عنه في الحجابة صنيعته محمد بن فرحون ومعه كاتبه أبو القاسم بن المريد.وجرى الحال على ذلك ببجاية وعساكر زناتة تجوس خلالها ومعاقلهم تأخذ بمخنقها.وقدم القالون دوين مقدم ابن سيد الناس بشفاعة من نزيله علي بن أحمد سيد الدواودة وطمع في عوده إلى الخطة.وكان من خبره أنه لما تخلف عن السلطان بتونس في خدمة ابن أبي عمران أراد ركوب السفين إلى الأندلس فأعجلهم السلطان عن ذلك وخرج مع ابن أبي عمران فأجلب معه على الحضرة مراراً ولحق بتلمسان.ثم جاء مع ابن الشهيد وفعل الأفاعيل ثم انحل أمر ابن الشهيد ولحق هو بالدواودة من رياح.ونزل على علي بن أحمد رئيسهم لذلك العهد فأجاره وأنزله بطولقة من بلاد الزاب.وخاطب السلطان في شأنه واقتضى له الأمان حتى أسعف ووفد على الحضرة مع أخيه موسى بن أحمد وفي نفس القالون طمع في الخطة.وسبقه ابن سيد الناس إلى السلطان فاستقل بها.وجاء القالون من بعد فأوصله السلطان إلى نفسه واعتنر إليه ووعده وعقد له على قفصة فسار إليها وصحب موالي السلطان من المعلوجي بشير وفارح وأوعز ابن سيد الناس إلى مشيخة قفصة أن يقبضوا على حاميته ليتمكن الموالي منه.فلما نزل بساحة البلد دخل كشلي من جند الترك المرتزقة كان في جملته منذ أيام حجابته وكان يستظهر بمكانه.فلما دخل إلى البلد قتل في سككها فكانت لمقتله هيعة تسامع الناس لغطها من خارج البلد.وبرز القالون من فسطاطه وقد جث للرعب فتقدم إليه الموالي الذين جاءوا معه وتناولوه طعناً بالخناجر إلى أن هلك والله وارث الأرض ومن عليها. الخبر عن ولاية الفضل على بونة كان السلطان قد عقد على بونة منذ أول دولته لمولاه مسرور المعلوجي فقام واضطلع بولايتها وكان من الغلظة ومراس الحروب بمكان.وكان لذلك غشوماً جباراً.وخرج إلى ولهاصة سنة.فاضطهدهم وذهبوا إلى مدافعته عن أموالهم فحاربهم.وبلغ خبر مهلكه إلى السلطان فعقد على بونة لابنه أبي العباس الفضل وبعثه إليها.وولى على حجابته وقيادة عسكره ظافراً السنان من مواليه المعلوجي فقام بما دفع إليه من ذلك أحسن قيام إلى أن كان من أمرهم ما نذكره. الخبر عن واقعة الرياس وما كان قبلها من مهلك الأمير أبي فارس أخي السلطان كان السلطان أبو بكر لما قدم إلى تونس قدم معه إخوته الثلاثة محمد وعبد العزيز وعبد الرحمن وهلك عبد الرحمن منهم وبقي الآخران وكانا في ظل ظليل من النعمة وحط كبير من المساهمة في الجاه.وكان في نفس الأمير أبي فارس تشوق إلى نيل المرتبة وتربص بالدولة.وكان عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من فحول بني مرين وأعياص ملكهم قدم على الحضرة نازعاً إليها من الأندلس فنزل على ابن عمر ببجاية قبيل مهلكه سنة ثمان عشرة.ثم لحق بالسلطان فلقاه مبرة ورحباً ووفر حظه وحظ حاشيته من الجرايات والأقطاع.وجعل له أن يستركب ويستلحق وكان يستظهر به في مواقف حروبه ويتجمل في المشاهد بمكانه من سريره بما كان سيداً في قومه.وكان قد انعقدت له بيعة على أهل وطنه وكانت فيه غلظة وأنفة وإباء.وغدا في بعض أيامه على الحاجب ابن سيد الناس فتلقاه الإذن بالغمر فذهب مغاضباً ومر بدار الأمير أبي فارس فحمله على ذات صدره من الخروج والثورة وخرجا من يومهما في ربيع سنة تسع وعشرين ومروا ببعض أحياء العرب فاعترضهما أمير الحي فعرض عليهما النزول: فأما عبد الحق فأبى وذهب لوجهه إلى أن لحق بتلمسان وأما الأمير أبو فارس فأجاب ونزل وطير بالخبر إلى السلطان فسرح لوقته محمد بن الحكيم من صنائعه وقواد دولته في طائفة من العسكر والنصارى وصبحوه في الحي وأحاطوا ببيت نزله فامتنع من الإلقاء باليد ودافع عن نفسه مستميتاً فقتلوه قعصاً بالرماح وجاءوا بشلوه إلى الحضرة فدفن بها.ونزل عبد الحق بن عثمان على أبي تاشفين خير نزل ورغبه فيما كان بسبيله من مطالبة الدولة الحفصية وتدويخ ممالكها ووفد على أثره حمزة بن عمر ورجالات سليم صريخاً على عادتهم.فأجاب أبو تاشفين صريخهم ونصب لهم محمد بن أبي عمران وكان من خبره أنه تركه السلطان اللحياني عاملاً على طرابلس.فلما انهزم أبو ضربة وانحل أمره استقدمه العرب وأجلبوا به على الحضرة سنة إحدى وعشرين فملكها ستة أشهر.ثم أجفل عنها عند رجوع السلطان إليها ولحق بطرابلس إلى أن انتقض عليه أهلها سنة أربع وعشرين وثاروا به وأخرجوه فلحق بالعرب وأجلبوا به على السلطان مراراً ينهزمون عنه في كلها.ثم لحق بتلمسان واستقر بها عند أبي تاشفين في خير جواره كرامة وجراية إلى أن وصل هذا الوفد إليه سنة تسع وعشرين فنصبه للأمر بإفريقية.وأمدهم بالعساكر من زناتة عقد عليهم ليحيى بن موسى من بطانته وصنائع أبيه.ورجع معهم عبد الحق بن عثمان بمن في جملته من بنيه وعشيرته ومواليه وحاشيته.وكانوا أحلاس حرب وفتيان كريهة فنهضوا جميعاً إلى تونس فزحف السلطان للقائهم وتراءى الجمعان بالرياس من نواحي بلاد هوارة سنة سبع وعشرين فدارت الحرب واختل مصاف السلطان وفلت جموعه.وأحيط به فأفلت بعد عصب الريق وأصابته في حومة الحرب جراحة وهن لها وقتل كثير من بطانته وحاشيته وكان من أشهرهم محمد المديوني.وانتهب المعسكر وتقبض على أحمد وعمر ابني السلطان فاحتملا إلى تلمسان حتى أطلقهما أبو تاشفين بعد ذلك في مراسلة وقعت بينه وبين السلطان فاتجه فيها أبو تاشفين وجنح إلى السلم وأطلق الابنين.ولم يتم شأن الصلح من بعد ذلك.وتقم ابن أبي عمران بعد الواقعة إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاثين.واستبد عليه يحيى بن موسى قائد بني عبد الواد وحجر عليه التصرف في شيء من أمره ثم عاد يحيى بن موسى إلى سلطانه.ونهض السلطان أبو بكر من قسطنطينة إلى تونس بعد أن استكمل الحشد والتعبية فأجفل ابن أبي عمران عنها ودخل إليها السلطان في رجب من سنته إلى أن كان ما نذكره. الخبر عن مراسلة ملك المغرب في الاستجاشة على بني عبد الواد وما تبع ذلك من المصاهرة كان السلطان أبو بكر لما خلص من واقعة الرياس نجا إلى بونة وركب منها البحر إلى بجاية وقد ضاق فرعه بإلحاح عبد الواد على ممالكه وتجهيز الكتائب على ثغره وترديد البعوث إلى وطنه فأعمل نظره في الوفادة على ملك المغرب السلطان أبي سعيد ليذكره ما بين سلفه وسلفهم من السابقة مع ما لهم عند بني عبد الواد من الأوتار والإحن لمجث بذلك دواعيهم على مطالبة بني عبد الواد فيأخذ بحجزتهم عنه.ثم عين للوفادة عليه ابنه الأمير أبا زكرياء وبعث معه أبا محمد عبد الله بن تافراكين من مشيخة الموحدين لساناً لخطابه ونجياً لشوراه.وركب البحر من بجاية فنزلوا بمرسى غساسة واهتز صاحب المغرب لقدومه وأكرم وفادته واستبلغ في القرى والإجارة وأجاب دعاءهم إلى محاربة عدوهم وعدوه على شريطة اجتماع اليد عليها وموافاة السلطان أبي سعيد والسلطان أبي يحيى بعساكرهما تلمسان لموعد ضربوه لذلك.وكان السلطان أبو سعيد قد بعث سنة إحدى وعشرين يحيى الزنداجي قائد الأسطول بسبتة إلى مولانا السلطان أبي بكر في الإصهار على إحدى كرائمه وشغل عن ذلك بما وقع من شأن ابن أبي عمران.فلما وفد عليه ابن السلطان وأولياؤه أعاد الحديث في ذلك وعين للنيابة عنه في الخطبة من السلطان إبراهيم بن أبي حاتم العزفي وصرفه مع العدو فوافوا السلطان بتونس آخر سنة ثلاثين وقد طرد عدوه وشفا نفسه فجاءوه بأمنيته من حركة صاحب المغرب على تلمسان.وخطب منه إبراهيم للأمير أبي الحسن بن السلطان أبي سعيد فعقد على ابنته فاطمة شقيقة الأمير أبي زكرياء السفير إليهم وزفها إليه في أساطيله سنة إحدى وثلاثين.وتقدم لزفافها من مشيخة الموحدين أبو القاسم بن عتو ومحمد بن سليمان الناسك وقد مر ذكره فنزلت على محل وثير من الغبطة والعز وكان الشأن في مهرها وزفافها ومشاهد أعراسها وولائمها وجهازها كله من المفاخر للدولتين ولم يزل مذكوراً على الأيام. الخبر عن حركة السلطان إلى المغرب وفرار بني عبد الواد وتخريب تامرزدكت كان مهلك السلطان أبي سعيد على تفيئة ما قدمناه من الأخبار آخر سنة إحدى وثلاثين وولي السلطان أبو الحسن من بعده فبعث إلى ابن تاشفين يخاطبه في الغض عن عنان عيثه في بلاد الموحدين وطغيانه عليها فلح واستكبر وأساء الرد فنهد إليه في سبيل الصريخ لهم سنة اثنتين وثلاثين وطوى البلاد طياً إلى تلمسان وأفرجت عساكرهم عن بجاية إلى سلطانهم.وتقدم السلطان عن تلمسان لمشارفة أحوال بجاية والأخذ بحجرة العدو المحاصر لها.وبعث عسكراً من قومه مدداً لها عقد عليهم لمحمد البطوي وأركبهم أساطيله من سواحل وهران فدخلوها وقوبلوا بما يناسبهم من الكرامة والجراية.واستنهض السلطان أبو الحسن السلطان أبا بكر لحصار تلمسان معه كما كان شرط بين أبيه وبين ابنه الأمير أبي زكرياء فشرع السلطان في جهاز حركته وإزاحة علله.وأقام السلطان أبو الحسن بتاسالة في انتظاره شهراً حتى انصرم فصل الشتاء.وبلغه بمعسكره من تاسالة أن أخاه السلطان أبا علي صاحب سجلماسة انتقض وخرج إلى درعة فقتل عامله بها بعد أن كان داخله وعقد له بعد أبيه على المهادنة والتجافي عنه بمكانه من سجلماسة.فلما بلغه هذا الخبر كر راجعاً إلى المغرب لإصلاح شأنه.وكان السلطان أبو بكر قد خرج من تونس واحتفل في الحشد والتعبية فانتهى إلى بجاية وبعث مقدماته إلى ثغور بني عبد الواد المحيطة ببجاية فهزموا كتائبها.ثم زحف بجملته إلى تيمرزدكت وفرت عنها الكتائب المجمرة بها فأناخ عليها حتى خربها وانتهب أموالها وأسلحتها.ونسف آثارها وقفل عنها إلى بلد المسيلة أختها في الغي وموطن أولاد سباع بن يحيى من الدواودة كانت مشيختهم سليمان ويحيى ابنا علي بن سباع وعثمان بن سباع عمهم وابنه سعيد قد تمسكوا بطاعة أبي تاشفين وحملوا عليها قومهم ونهجوا للعساكر السبيل إلى وطئ بلاد الموحدين والعيث فيها ومجاذبة حبلها.وأقطعهم أبو تاشفين بلد المسيلة وجبل متنان ووانوغة وجبل عياض فأصاروها عن أعمالها فلما شرد السلطان عساكرهم عن بجاية وهدم ثغرهم عليها واسترجع أعمال يجاية إليها سار في جموعه إلى هذا الوطن ليسترجع أعماله ويجدد بها دعوته.وزاد في إغرائه بذلك علي بن أحمد كبير أولاد محمد أقتال أولاد سباع هؤلاء ونظرائهم وأهل أوتارهم ودخولهم فارتحل غازياً إلى المسيلة حتى المسيلة حتى نزلها واصطلم نعمها وخرب أسوارها وبلغه بمكانه منها شأن عبد الواحد ابن السلطان اللحياني وأجلابه على تونس وكان من خبره أنه قدم من المشرق بعد مهلك أبيه السلطان أبي يحيى زكرياء سنة تسع وعشرين فنزل على دباب وبايع له عبد الملك بن مكي رئيس المشيخة بقابس وتسامع به الناس وإفريقية شاغرة من الحامية والعساكر لنهوضهم مع السلطان فاغتنم حمزة بن عمر الفرصة واستقدمه فبايع له ورحل به إلى الحضرة فنزل بمساحتها ودخل عبد الواحد بن اللحياني وحاجبه ابن مكي إلى البلد فأقاموا بها ريثما بلغ الخبر إلى خ السلطان فقفل إلى الحضرة وبعث في مقدمته محمد البطوي من بطانته في عسكر اختارهم لذلك فأجفل ابن اللحياني وجموعه من تونس لخمس عشرة ليلة من نزولهم ودخل الخبر عن نكبة الحاجب محمد بن سيد الناس وولاية ابن عبد العزيز وابن الحكيم من بعده قد قدمنا أولية هذا الرجل وأن أباه أبا الحسين كان حاجباً للأمير أبي زكرياء ببجاية.ولما هلك سنة تسعين وستمائة خلف ابنه محمد هذا في كفالة السلطان ومرعى نعمته فاشتمل قصرهم عليه وأواه إلى حجره وأرضعه مع الكثير من بنيه ونشأ في كنفه.وكان الحجاب للدولة من بعد أبيه مثل ابن أبي جبى والرخامي صنائع لأبيه فكانوا يعرفون حقه ويؤثرونه في التجلة على أنفسهم.ولم يدرك في سن الرجولة والسعي في المجد إلا أيام ابن غمر آخرهم فكان له منه مكان.حتى إذا ارتحل السلطان أبو يحيى إلى قسطنطينة لطلب تونس وجهز له ابن غمر الآلات والعساكر وأقام له الحجاب والوزراء والقواد كان فيمن سرح معه محمد بن سيد الناس قائداً على عسكر من عساكره.وكان ظئراً للسلطان فكانت له عنده أثرة واختصاص وعقد له من بعد مهلك ابن غمر على بجاية لما عزل عنها القالون كما قدمناه فاستبد بها على السلطان وحماها دون عساكر زناتة ودفع في صدورهم عنها وكان له في ذلك كله مقامات مذكورة.وكانت بينه وبين قائد زناتة موسى بن علي مداخلة في زبون كل واحد منهما بمكان صاحبه على سلطانه وفطن لأمرهما.فأما أبو تاشفين فنكب موسى بن علي كما نذكره في أخباره وأما السلطان أبو بكر فأغضى لابن سيد الناس عنها.ثم استدعاه وقلده حجابته سنة سبع وعشرين كما قدمناه واستخلف على مكانه ببجاية محمد بن فرحون وأحمد بن المزيد للقيام بما كان يتولاه من مدافعة العدو وكفالة الأمير أبي زكرياء ابن السلطان.وقدم هو على السلطان وأسكنه بقصور ملكه وفوض إليه أمور سلطانه تفويض الاستقلال فجرى في طلق الاستبداد عليه وأرخى له السلطان حبل الإمهال واعتد عليه فلتات الدالة مع ما كانت الظنون ترجم فيه بالمداهنة في شأن العدو والزبون على مولاه باستغلاظهم.وأمهله السلطان لمكانه من حماية الثغر ببجاية والاستقلال به دونه حتى إذا تجلت غيابتهم وأطل أبو الحسن عليهم من مرقبه ونهض السلطان أبو بكر إلى بجاية وخرب تيمرزدكت فأغراه البطانه حينئذ بالحاجب محمد بن سيد الناس.وتنبه له السلطان فأحفظه له استبداده وتقبض عليه مرجعه من هذه الحركة في ربيع سنة ثلاث وثلاثين واعتقله.ثم امتحنه بأنواع العذاب لاستخراج المال معه فلم ينبس بقطرة فما زال يستغيث ويتوسل بسوابقه من الرضاع والمربى وسوابق أبيه عند سلفه حتى لذعه العذاب فأفحش ونال من السلطان وأقذع فقتل شدخاً بالعصي وجر شلوه فأحرق خارج الحضرة وعفا رسمه كأن لم يكن وإلى الله عاقبة الأمور.ولما تقبض السلطان على ابن سيد الناس ومحا أثر استبداده قلد حجابته الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز وقد كان قدم من الحمة عند مبايعة ابن مكي لعبد الواحد بن اللحياني فلحق بالسلطان في طريقه إلى تيمرزدكت فلم يزل معه إلى أن دخل حضرته وتقبض على ابن سيد الناس فولاه الحجابة وكان مضعفاً لا يقوم بالحرب فعقد السلطان على الحرب والتدبير لضيعته وكبير بطانته يومئذ محمد بن الحكيم وفوض له فيما وراء الحضرة وهو محمد بن علي محمد بن حمزة بن إبراهيم أحمد اللخمي ونسبه في بني العزفي الرؤساء بسبتة.وجده أحمد هو أبو العباس المذكور بالعلم والدين والد أبي القاسم المستقل برياسة سبتة بعد الموحدين وكان من خبر أوليته فيما حدثني به محمد بن يحيى بن أبي طالب العزفي آخر رؤساء العزفيين بسبتة والمنقضي أمرهم بها بانقضاء رياسته.وحدثني بها أيضاً حسين ابن عمه عبد الرحمن بن أبي طالب وحدثني بها أيضاً الثقة عن إبراهيم ابن عمهما أبي حاتم قالوا جميعاً: إن أبا القاسم العزفي كان له أخ يسمى إبراهيم وكان مسرفاً على نفسه وأصاب دماً في سبتة وحلف أخوه أبو القاسم ليقتدن منه ففر ولحق بديار المشرق هذا آخر خبرهم.وإن محمد هذا من بنيه.وبقية الخبر عن أهل هذا البيت من سواهم أن إبراهيم أنجب محمداً وأنجب محمد حمزة ثم أنجب حمزة علياً فكلف بالقراءة واستظهر علم الطب واستقر في إيالة السلطان أبي زكرياء بالثغور الغربية.وأصاب السلطان وجع في بعض أزمانه وأعيى دواؤه فجمع له الأطباء وكان فيهم علي هذا فحدس على المرض وأحسن المداواة فوقع من السلطان أحسن المواقع واستخلصه لنفسه وخلطه بخاصته وأهل خلوته وصار له من الدولة مكان لا يجاريه أحد فيه.وكان يدعى في الدولة بالحكيم وبه عرف ابنه من بعده وأصهر إلى إحدى بيوت قسطنطينة فزوجوه وخلط أهله بحرم السلطان وولد له محمد ابنه بقصره ورضع مع الأمير أبي بكر ابنه ونشأ في حجر الدولة وكفالتها وعلى أحسن الوجوه من ترتيبها.ولما بلغ أشده صرف إليه رئيس الدولة يعقوب بن غمر وجه إقباله واختصاصه فكان له منه مكان أكسبه ترشيحاً للرياسة فيما بعد من بين خواص السلطان وخلصائه.لما نهض السلطان أبو يحيى إلى إفريقية قلده قيادة بعض العساكر ثم عقد له بعد مهلك ابن غمر على عمل باجة حين رقى ابن سيد الناس عنها إلى بجاية.وكان عمل باجة من أعظم الولايات في الدولة فاضطلع به.ثم لما أمر السلطان بطانته في نكبة ابن سيد الناس دفعه لذلك فولي القبض عليه وكمن له في عصبة من البطانة في بعض الحجر من رياض رأس الطابية.واستدعى ابن سيد الناس إلى السلطان ويمر بمكانهم فلما انتهى إليهم توثبوا به وشدوه كتافاً وتلوه إلى محبسه بالبرج المعد لقثاف مثله بالقصبة.وتولى ابن الحكيم من امتحانه وعذابه ما ذكرناه إلى أن هلك وعقد له السلطان مكانه على الحرب والتدبير من خططه وفوض إليه فيما وراء الحضرة كما قلناه.وجعل تنفيذ الأموال والكتاب على الأوامر لابن عبد العزيز فكان عدله في حمل الدولة إلا أن ابن الحكيم كان أسف فيه لما كان إليه من التدبير في الحرب والرئاسة على الكتابة لرياسة السيف على القلم فاضطلع برياسته وأحسن الغناء والولاية إلى أن كان من خبره ما نذكر. الخبر عن فتح فقصة وولاية الأمير أبي العباس عليها كان أهل الجريد منذ تقفص عنهم ظل الدولة عند انقسام الملك بين الثغور الغربية والحضرة وما إليها وصار أمرهم إلى الشورى بين المشيخة إلا في الأحايين يؤملون الاستبداد كما كانوا عليه من قبل الموحدين فقد جاء عبد المؤمن إلى إفريقية وبنو الرند على قفصة وقسطيلية وابن واطاس على توزر وابن مطروح على طرابلس فأملوا مثلها وشغل مولانا السلطان أبا بكر عنهم بعد استقلاله بالأمر وانفراده بالدعوة الحفصية شأن الفتنة مع آل يغمراسن بن زيان وأجلاب عساكرهم مع حمزة بن عمر على أوطانه.حتى إذا أخذ السلطان أبو الحسن بحرجتهم وأطل عليهم من مراقبه فعادوا إلى أوكارهم بعد أن أسفوا وتنفس مخنق الثغور الغربية من حصارهم وزال عن كاهل الدولة إصر معاناتهم.وسكن اضطراب الخوارج على الدولة وخفتت أصوات المرجفين في ممالكها وصرف السلطان نظره في أعطاف ملكه ومحو الشقاق من سائر أعماله وسمت همته في تدويخ القاصية من بلاد الجريد واستنقاذ أهلها من أيدي الذئاب العاوية والكلاب العادية زعماء أمصارها وأعراب فلاتها فنهض إلى قفصة سنة خمس وثلاثين.وقد كان استبد بشوراها يحيى بن محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد الشريدي من بيوتاتها فنازلها أياماً والعساكر تلح عليها بأنواع القتال ونصب عليها المجانيق فامتنعوا.ثم جمع الأيدي حتى قطع نخيلهم وإقلاع شجرائهم فنادوا بالأمان فأمنهم.وخرج إليه ابن عبد الجليل في ربيع الآخر من سنته فأشخصه إلى الحضرة وأنزله بها ورجالات من قومه بني العابد.وفر سائرهم إلى قابس فنزل في جوار ابن مكي ودخل أهل البلد في حكمه وتفيأوا بعد أن كانوا ضاحين من الملك كله فأحسن التجاوز عنهم وبسط المعدلة فيهم.وأحسن أمل ذوي الحاجات منهم بالإسهام والإقطاع وتجديد ما بأيديهم من المكتوبات السلطانية.ثم آثرهم بسكنى ولده المخصوص بعدئذ بعهده الأمير أبي العباس وأنزله بين ظهرانيهم وأوصاه بهم وعقد له على قسطيلية وما إليها.وجعل معه على ححابته أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وقفل إلى حضرته فدخلها في رمضان من سنته. الخبر عن ولاية الأمير أبي فارس بن عزوز وأبي البقاء خالد على سوسة ثم إضافة المهدية إليها لما نكب السلطان حاجبه ابن سيد الناس وولى محمد بن فرحون على حجابة ابنه الأمير أبي زكرياء وقارن ذلك ما نزل بيغمراسن من عدوهم وتفرغ السلطان للنظر في ملكه وتمهيد أحواله وأن يرسي قواعد أعماله بنجباء أبنائه: فعقد على سوسة والبلاد الساحلية لولديه الأميرين عزوز وخالد شريكين في الأمر وأنزلهما بسوسة وأنزل معهما محمد بن طاهر من صنائع الدولة ومن بيوت أهل الأندلس القادمين في الجالية ورياسة سلفهم بمرسية معروفة في أخبار الطوائف.وكان أخوه أبو القاسم صاحب الأشغال بالحضرة فأقاما كذلك.ثم هلك محمد بن طاهر فاستقدم السلطان محمد بن فرحون من بجاية ثقة باستبداد ابنه وأن يولي من شاء على حجابته.وأنزل ابن فرحون مع هذين الأميرين لصغرهما سنة خمس وثلاثين.ثم استدعاه الأمير أبو زكرياء فرجع إليه وأقام هذان الأميران بسوسة حتى إذا نكب السلطان قائده محمد بن الحكيم واستنزل قريبه محمد بن الركراك من المهدية كان إنزاله بها ابن الحكيم لما افتتحها من يد المتغلب عليها من أهل رجيس ويعرف بابن عبد الغفار واتخذها حصناً لنفسه وأنزل بها قريبه هذا وأشحنها بالعدد والأقوات فلم يغن عنه.ولما هلك استنزل ابن الركراك وبعث السلطان عليهما ابنه الأمير أبا البقاء وأفرد الأمير أبا فارس بولاية سوسة فأقاما كذلك إلى أن كان من خبر مهلكهما ما نذكره. |
الساعة الآن 08:37 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |