منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   القرآن الكريم والأحاديث وسيرة الأنبياء والصحابة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=95)
-   -   تفسير سور القرآن الكريم كاملة (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=1546)

أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:48 AM

سورة الْقَمَر

بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة الْقَمَر من السور المكية، وقد عالجت أصول العقيدة الإِسلامية، وهي من بدئها إِلى نهايتها حملةٌ عنيفةٌ مفزعة على المكذبين بآيات القرآن، وطابع السورة الخاص، هو طابع التهديد والوعيد، والإِعذار والإِنذار، مع صور شتَّى من مشاهد العذاب والدمار.
* ابتدأت السورة الكريمة بذكر تلك "المعجزة الكونية" معجزة انشقاق القمر، التي هي إِحدى المعجزات العديدة لسيد البشر صلى الله عليه وسلم، وذلك حين طلب المشركون منه معجزة جلية تدل على صدقه، وخصصوا بالذكر أن يشق لهم القمر ليشهدوا له بالرسالة، ومع ذلك عاندوا وكابروا {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ..} الآيات.
* ثم انتقلت للحديث عن أهوال القيامة وشدائدها، بأسلوب مخيف يهز المشاعر هزاً، ويحرك في النفس الرعب والفزع من هول ذلك اليوم العصيب{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ* خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَمِنَالأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ* مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}.
* وبعد الحديث عن كفار مكة، يأتي الحديث عن مصارع المكذبين، وما نالهم في الدنيا من ضروب العذاب والدمار بدءاً بقوم نوح {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ..}.
* ثم تلاه الحديث عن الطغاة المتجبرين من الأمم السالفة، الذين كذبوا الرسل فأهلكهم الله إِهلاكاً فظيعاً، ودمَّرهم عن بكرة أبيهم، وقد تحدثت الآيات عن قوم "عاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم فرعون" وغيرهم من الطغاة المتجبرين بشيءٍ من الإِسهاب، مع تصوير أنواع العذاب.
* وبعد عرض هذه المشاهد الأليمة - مشاهد العذاب والنكال - الذي حلَّ بالمكذبين لرسل الله صلى الله عليه وسلم توجهت السورة إِلى مخاطبة قريش، وحذرتهم مصرعاً كهذه المصارع بل ما هو أشد وأنكى {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ* بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ...} الآيات.
* وختمت السورة ببيان مآل السعداء المتقين، بعد ذكر مآل الأشقياء المجرمين، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب، بأسلوبه العجيب {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}.
معجزة انشقاق القمر
{اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ(1)وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ(2)وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ(3)وَلَقَدْ جَاءهُمْمِنَالأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ(4)حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ(5)فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ(6)خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَمِنَالأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ(7)مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ(8)}
سبب النزول:
نزول الآية (1 - 2):
{اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ...}: أخرج الشيخان والحاكم - واللفظ له - عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقاً شقين بمكة، قبل مخرج النّبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سُحِرَ القمر، فنزلت: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ...}.
وأخرج محمد بن جرير وأبو داود الطيالسي والبيهقي عن عبد الله بن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كَبْشة، سحركم، فاسألوا السُّفَّار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأينا، فأنزل الله عزّ وجلّ: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}.
{اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي دنت القيامة وقد انشقِ القمر {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} أي وإِن ير كفار قريش علامة، واضحة ومعجزة ساطعة، تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم يعرضوا عن الإِيمان {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أي ويقولوا هذا سحرٌ دائم، سحر به محمدٌ أعيننا، قال المفسرون: إِن كفار مكة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقاً فشقَّ لنا القمر فرقتين، ووعدوه بالإِيمان إِن فعل، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه أن يعطيه ما طلبوا، فانشقَّ القمر نصف على جبل الصفا، ونصفٌ على جبل قيقعان المقابل له، حتى رأوا حراء بينهما، فقالوا: سحرنا محمد، ثم قالوا: إن كان سحرنا فإِنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم!! فقال أبو جهل: اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي فإِن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح، وإِلا فقد سحر محمد أعيننا، فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر فقال أبو جهل والمشركون: هذا سحرٌ مستمر أي دائم فأنزل الله {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ(1)وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} قال الخازن: وانشقاقُ القمر منءايات رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهرة، ومعجزاته الباهرة، يدل عليه ما أخرجه الشيخان عن أنس "أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين" وما روي عن ابن مسعود قال "انشق القمر عل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا" وما روي عن جبير بن مطعم قال "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فقالت قريش: سحر محمد أعيننا فقال بعضهم: لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم" فهذه الأحاديث الصحيحة، قد وردت بهذه المعجزة العظيمة، مع شهادة القرآن العظيم بذلك، فإِنه أدل دليل وأقوى مثبتٍ له وإِمكانه لا يشك فيه مؤمن، وقيل في معنى الآية: ينشق القمر يوم القيامة، وهذا قول باطل لا يحص، وشاذ لا يثبت، لإِجماع المفسرين على خلافه، ولأن الله ذكره بلفظ الماضي {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} وحمل الماضي على المستقبل بعيد {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} أي وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وما عاينوه من قدرة الله تعالى في انشقاق القمر، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} أي وكل أمرٍ من الأمور منتهٍ إِلى غاية يستقر عليها لا محالة إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر، قال مقاتل: لكل حديثٍ منتهى وحقيقة ينتهي إِليها، وقال قتادة: إِن الخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر، وكل أمرٍ مستقر بأهله {وَلَقَدْ جَاءهُمْمِنَالأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ولقد جاء هؤلاء الكفار من أخبار الأمم الماضية المكذبين للرسل، ما فيه واعظ لهم عن التمادي في الكفر والضلال {حِكمَةٌ بَالِغَةٌ} أي هذا القرآن حكمة بالغة، بلغت النهاية في الهداية والبيان {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} أي أيَّ شيءٍ تُغني النُذُر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على سمعه وقلبه؟! قال المفسرون: المعنى لقد جاءهم القرآن وهو حكمة تامة قد بلغت الغاية، فماذا تنفع الإِنذارات والمواعيد لقومٍ أصموا آذانهم عن سماع كلام الله؟ كقوله تعالى {وما تُغني الآيات والنُذر عن قومٍ لا يؤمنون} {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي فأعرض يا محمد عن هؤلاء المجرمين وانتظرهم {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} أي يوم يدعو إِسرافيل إِلى شيءٍ منكر فظيع، تنكره النفوس لشدته وهوله، وهو يوم القيامة وما فيه من البلاء والأهوال {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} أي ذليلةً أبصارهم لا يستطيعون رفعها من شدة الهول {يَخْرُجُونَمِنَالأَجْدَاثِ} أي يخرجون من القبور {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} أي كأنهم في انتشارهم وسرعة إِجابتهم للداعي جرادٌ منتشر في الآفاق، لا يدرون أين يذهبون من الخوف والحيرة، قال ابن الجوزي: وإِنما شبههم بالجراد المنتشر، لأن الجراد لا جهة له يقصدها، فهم يخرجون من القبور فزعين ليس لأحدٍ منهم جهة يقصدها، والداعي هو إِسرافيل {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي} أي مسرعين مادّي أعناقهم إِلى الداعي لا يتكلئون ولا يتأخرون {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي يقول الكافرون هذا يوم صعبٌ شديد، قال الخازن: وفيه إِشارة إلى أنَّ ذلك اليوم يومٌ شديد على الكافرين لا على المؤمنين كقوله تعالى {على الكافرين غيرُ يسير} .
قصة قوم نوح عليه السلام
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مجْنُونٌ وَازْدُجِرَ(9)فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ(10)فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ(11)وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ(12)وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ(13)تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ(14)وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(15)فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(16)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(17)}.
ثم ذكر تعالى وقائع الأمم المكذبين وما حلَّ بهم من العذاب والنكال تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذيراً لكفار مكة فقال {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي كذب قبل قومك يا محمد قومُ نوح {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} أي فكذبوا عبدنا نوحاً وقالوا إِنه مجنون، وانتهروه وزجروه عن دعوى النبوة بالسب والتخويف والوعيد بقولهم {لئن لم تنته يا نوحُ لتكوننَّ من المرجومين} قال أبو حيّان: لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إِلى الجنون أي أنه يقول ما لا يقبله عاقل وذلك مبالغة في تكذيبهم، وإِنما قال{عَبْدَنَا}تشريفاً له فمقام العبودية أعلى مقامات القرب{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}أي فدعا نوح ربه وقال يا ربّ إِني ضعيف عن مقاومة هؤلاء المجرمين، فانتقم لي منهم وانتصر لدينك، قال أبو حيّان: وإِنما دعا عليهم بعدما يئس منهم وتفاقم أمرهم، وكان الواحد من قومه يخنقه إِلى أن يخر مغشياً عليه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإِنهم لا يعلمون {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} أي فأرسلنا المطر من السماء منصباً بقوة وغزارة، قال أبو السعود: وهو تمثيلٌ لكثرة الأمطار وشدة انصبابها {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} أي جعلنا الأرض كلها عيوناً متفجرة بالماء {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي فالتقى ماء السماء وماء الأرض على حالٍ قد قدَّرها الله في الأزل وقضاها بإِهلاك المكذبين غرقاً، قال قتادة: قضى عليهم في أم الكتاب إِذا كفروا أن يُغرقوا {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} أي وحملنا نوحاً على السفينة ذات الألواح الخشبية العريضة المشدودة بالمسامير، قال في البحر: وذات الألواح والدُّسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليه السلام، ويفهم من هذين الوصفين أنها "السفينة" فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوب عنه ونحوه: قميصي مسرودة من حديد أي درع، وهذا من فصيح الكلام وبديعه، ولو جمعت بين الصفة والموصوف لم يكن بالفصيح، والدُّسُر: المسامير {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي تسير على وجه الماء بحفظنا وكلاءتنا وتحت رعايتنا {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} أي أغرقنا قوم نوح انتصاراً لعبدنا نوح لأنه كان قد كُذِّب وجُحد فضلُه، قال الألوسي: أي فعلنا ذلك جزاءً لنوح لأنه كان نعمةً أنعمها الله على قومه فكفروها، وكذلك كلُ نبيٍ نعمةٌ من الله تعالى على أمته {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} أي تركنا تلك الحادثة "الطوفان" عبرة {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي فهل من معتبر ومتعظ؟ {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} استفهام تهويل وتعجيب أي فكيف كان عذابي وإِنذاري لمن كذب رسلي، ولم يتعظ بآياتي؟ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي والله لقد سهلنا القرآن للحفظ والتدبر والاتعاظ، لما اشتمل عليه من أنواع المواعظ والعبر {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي فهل من متعظٍ بمواعظه، معتبرٍ بقصصه وزواجره؟ قال الخازن: وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به، لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده، بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير، والعربي والعجمي، قال سعيد بن جبير: يسرناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كُتب الله تعالى يُقرأ كلُّه ظاهراً إِلا القرآن، وبالجملة فقد جعل الله القرآن مهيئاً ومسهلاً لمن أراد حفظه وفهمه أو الاتعاظ به، فهو رأس سعادة الدنيا والآخرة.
قصة عاد قوم هود عليه السلام
{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي كذبت عادٌ رسولهم هوداً فكيف كان إِنذاري لهم بالعذاب؟ ثم شرع في بيان ما حلَّ بهم من العذاب الفظيع المدمر فقال {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} أي أرسلنا عليهم ريحاً عاصفة باردة شديدة الهبوب والصوت، قال ابن عباس: الصرصر: الشديدة البرد، وقال السدي: الشديدة الصوت {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} أي في يومٍ مشؤوم دائم الشؤم، استمر عليهم بشؤمه فلم يبق منهم أحدٌ إِلا هلك فيه، قال ابن كثير: استمر عليهم نحسه ودماره، لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي {تَنزِعُ النَّاسَ} أي تقلع الريح القوم ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدقُّ رقابهم وتتركهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} أي كأنهم أُصول نخلٍ قد انقلعت من مغارسها وسقطت على الأرض، شبهوا بالنخل لطولهم وضخامة أجسامهم، قال الخازن: كانت الريح تقلعهم ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم، وتفصل رؤوسهم من أجسامهم فتبقى أجسامهم بلا رءوس كعجز النخلة الملقاة على الأرض {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} تهويلٌ لما حلَّ بهم من العذاب وتعجيبٌ من أمرهم أي كيف كان عذابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن هائلاً فظيعاً؟ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؟ كرره للتنبيه على فضل الله على المؤمنين بتيسير حفظ القرآن أي ولقد سهلنا القرآن للحفظ والفهم، فهل من متعظٍ ومعتبر بزواجر القرآن!؟
قصة ثمود قوم صالح عليه السلام
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ(23)فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ(24)أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ(25)سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ(26)إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ(27)وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ(28)فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ(29)فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(30)إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ(31)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(32)}.
ثم أخبر تعالى عن قوم ثمود المكذبين لرسولهم صالح عليه السلام فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} أي كذبت ثمود بالإِنذارات والمواعظ التي أنذرهم بها نبيهم صالح {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} أي أنتَّبع إِنساناً مثلنا من آحاد الناس، ليس من الأشراف ولا العظماء، ونحن جماعة كثيرون؟ قال أبو حيّان: قالوا ذلك حسداً منهم واستبعاداً أن يكون نوع البشر يفضل بعضُه بعضاً هذا الفضل، فقالوا: أنكون جمعاً ونتبع واحداً منا؟ ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويفيض نور الهدى على من رضيه {إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} أي إنا إِذا اتبعناه لفي خطأٍ وذهابٍ عن الحقِّ واضح، وجنون دائم، قال ابن عباس: سُعُر أي جنون من قولهم ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِمِنْ بَيْنِنَا} استفهام إِنكاري أي هل خصَّ بالوحي والرسالة وحده دوننا، وفينا من هو أكثر منه مالاً وأحسن حالاً؟ قال الإِمام الفخر الرازي: وفي الآية إِشارة إِلى ما كانوا ينكرونه بطريق المبالغة، وذلك لأن الإِلقاء انزلاق بسرعة، فكأنهم قالوا: الملك جسيم والسماء بعيدة فكيف ينزل عليه الوحي في لحظة؟ وقولهم "عليه" إِنكارٌ آخر كأنهم قالوا: ما أُلقي عليه ذكرٌ أصلاً، وعلى فرض نزوله فلا يكون عليه من بيننا وفينا من هو فوقه في الشرف والذكاء؟ وقولهم {أَؤُلْقِيَ} بدلاً من قولهم {أألقى اللهُ} إِشارة إِلى أن الإِلقاء من السماء غير ممكن فضلاً عن أن يكون من الله تعالى {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي بل هو كاذب في دعوى النبوة، متجاوز في حد الكذب، متكبرٌ بطِرٌ يريد العلو علينا، وإِنما وصفوه بأنه {أَشِرٌ} مبالغة منهم في رفض دعواه كأنهم قالوا إنه كذب لا لضرورةٍ وحاجةٍ إِلى الخلاص كما يكذب الضعيف، وإِنما تكبَّر وبطر وطلب الرياسة عليكم وأراد أن تتبعوه فكذب على الله، فلا يلتفت إِلى كلامه لأنه جمع بين رذيلتين: الكذب والتكبر، وكلٌ منهما مانع من اتباعه، قال تعالى تهديداً لهم وردّاً لبهتانهم {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} أي سيعلمون في الآخرة من هو الكذَّاب الأشر، هل هو صالح عليه السلام أم قومه المكذبون المجرمون؟ قال الألوسي: المراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون، لكنْ أورد ذلك مورد الإِبهام إِيماءً إِلى أنه مما لا يكاد يخفى {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ} أي مخرجوا الناقة من الصخرة الصماء محنة لهم واختباراً كما شاءوا وطلبوا، قال ابن كثير: أخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء، من صخرة صماء طبق ما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} أي فانتظرهم وتبصَّر ما يصنعون وما يُصنع بهم، واصبر على أذاهم فإِن الله ناصرك عليهم {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي وأعلِمْهم أنَّ الماء الذي يمرُّ بواديهم مقسومٌ بين ثمود وبين الناقة كقوله تعالى {لها شربٌ ولكم شربُ يوم معلوم} قال ابن عباس: إِذا كان يوم شربهم لا تشرب الناقةُ شيئاً من الماء وتسقيهم لبناً وكانوا في نعيم، وإِذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تُبق لهم شيئاً، وإِنما قال تعالى {بَيْنَهُمْ} تغليباً للعقلاء {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} أي كل نصيب وحصة من الماء يحضرها من كانت نوبته، فإِذا كان يوم الناقة حضرت شربها، وإِذا كان يومهم حضروا شربهم {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} أي فنادت قبيلة ثمود أشقى القوم واسمه "قدار بن سالف" لقتل الناقة فتناول الناقة بسيفه فقتلها غير مكترث بالأمر العظيم {فَكَيْفَكَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فكيف كان عقابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن فظيعاً شديداً؟! {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي أهلكناهم بصيحة واحدة صاح بها جبريل عليه السلام فلم تبق منهم عين تطْرف {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} أي فصاروا هشيماً متفتتاً كيابس الشجر إِذا بلي وتحطَّم وداسته الأقدام، قال الإِمام الجلال: المحتظر هو الذي يجعل لغنمه حظيرةً من يابس الشجر والشوك يحفظهن فيها من الذئاب والسباع، وما سقط من ذلك فداسته فهو الهشيم {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}أي يسرناه للحفظ والاتعاظ فهل من معتبر؟
قصة قوم لوط عليه السلام
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ(33)إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ(34)نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ(35)وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ(36)وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ(37)وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ(38)فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ(39)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(40)}.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ} أي كذبوا بالإِنذارات التي أنذرهم بها نبيهم لوط عليه السلام {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} أي أرسلنا عليهم حجارة قذفوا بها من السماء، قال ابن كثير: أمر تعالى جبريل فحمل مدائنهم حتى وصل بها إِلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم وأرسلها واُتبعت بحجارةٍ من سجيلٍ منضود، والحاصب هي الحجارة {إِلا آلَ لُوطٍ} أي غير لوطٍ وأتباعه المؤمنين {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} أي نجيناهم من الهلاك قُبيل الصبح وقت السِّحر {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي إِنعاماً منَّا عليهم نجيناهم من العذاب {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} أي مثل ذلك الجزاء الكريم، نجزي من شكر نعمتنا بالإِيمان والطاعة {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} أي ولقد خوفهم لوط عقوبتنا الشديدة، وانتقامنا منهم بالعذاب {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} أي فتشككوا وكذبوا بالإِنذار والوعيد {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} أي طلبوا منه أن يسلّم لهم أضيافه وهم الملائكة ليفجروا بهم بطريق اللواطة {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} أي أعمينا أعينهم وأزلنا أثرها حتى فقدوا أبصارهم، قال المفسرون: لما جاءت الملائكة إِلى لوط في صورة شبابٍ مردٍ حسان، استضافهم لوط عليه السلام، فجاء قومه يُهرعون إِليه لقصد الفاحشة بهم، فأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، فخرج عليهم جبريل فضرب أعينهم بطرف جناحه فانطمست أعينهم وعموا {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فذوقوا عذابي وإِنذاري الذي أنذركم به لوط {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} أي جاءهم وقت الصبح عذابٌ دائم متصل بعذاب الآخرة، قال الصاوي: وذلك أن جبريل قلع بلادهم فرفعها ثم قلبها بهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل، واتصل عذاب الدنيا بعذاب الآخرة فلا يزول عنهم حتى يصلوا إِلى النار {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فذوقوا أيها المجرمون عذابي الأليم، وإِنذاري لكم على لسان رسولي {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي ولقد يسرنا القرآن للحفظ والتدبر فهل من متعظٍ ومعتبر؟ قال المفسرون: حكمة تكرار ذلك في كل قصة، التنبيهُ على الاتعاظ والتدبر في أنباء الغابرين، وللإِشارة إِلى أن تكذيب كل رسولٍ مقتضٍ لنزول العذاب كما كرر قوله {فبأي آلاء ربكما تكذبان} تقريراً للنعم المختلفة المعدودة، فكلما ذكر نعمةً وبَّخ على التكذيب بها.
قصة آل فرعون
{وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} أي جاء فرعون وقومه الإِنذارات المتكررة فلم يعتبروا، قال أبو السعود: صُدّرت قصتهم بالقسم المؤكد لإِبراز كمال الاعتناء بشأنها، لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها، وهول ما لاقوه من العذاب، وفرعون رأس الطغيان {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} أي كذَّبوا بالمعجزات التسع التي أعطيها موسى {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} أي فانتقمنا منهم بإِغراقهم في البحر، وأخذناهم بالعذاب أخذ إِلهٍ غالب في انتقامه، قادرٍ على إِهلاكهم لا يعجزه شيء.
تخويف الله كفار مكة، وجزاء المجرمين والمتقين
{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ(43)أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ(44)سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(45)بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ(46)إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ(47)يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ(48)إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49)وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ(50)وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(51)وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ(52)وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ(53)إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ(54)فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(55)}.
سبب النزول:
نزول الآية (45):
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ..}: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا يوم بدر: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ}، فنزلت: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}.
نزول الآية (47):
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ..}: أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدَر، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} إلى قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.
ثم خوَّف تعالى كفار مكة فقال {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ}؟ الاستفهام إِنكاري للتقريع والتوبيخ أي أكفاركم يا معشر العرب خيرٌ من أولئكم الكفار الذين أحللت بهم نقمتي مثل قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم فرعون، حتَّى لا أعذبهم؟ قال القرطبي: استفهام إِنكار ومعناه النفي أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم {أَمْ لَكُمْ بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ} أي أم لكم يا كفار قريش براءة من العذاب في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء؟ {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} أي بل أيقولون نحن جمعٌ كثير، واثقون بكثرتنا وقوتنا، منتصرون على محمد؟ قال تعالى رداً عليهم {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي سيهزم جمع المشركين ويولون الأدبار منهزمين، قال ابن الجوزي: وهذا مما أخبر الله به نبيه من علم الغيب، فكانت الهزيمةُ يوم بدر {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} أي ليس هذا تمام عقابهم بل القيامة موعد عذابهم {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} أي أعظم داهيةً وأشدُّ مرارةً من القتل والأسر {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} أي إِن المجرمين في حيرةٍ وتخبطٍ في الدنيا، وفي نيرانٍ مسعَّرة في الآخرة، قال ابن عباس: في خسران وجنون {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} أي يوم يُجرُّون في النار على وجوههم عقاباً وإِذلالاً لهم {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} أي يقال لهم: ذوقوا أيها المكذبون عذاب جهنم، قال أبو السعود: وسقر علمٌ لجهنم ولذلك لم يُصرف{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي إنا خلقنا كل شيءٍ مقدَّراً مكتوباً في اللوح المحفوظ من الأزل {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} أي وما شأننا في الخلق والإِيجاد إِلا مرة واحدة كلمح البصر في السرعة نقول للشيء: كن فيكون، قال ابن كثير: أي إِنما نأمر بالشيء مرة واحدة لا نحتاج إِلى تأكيد بثانية، فيكون ذلك موجوداً كلمح البصر لا يتأخر طرفة عين {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشيَاعَكُمْ} أي ووالله لقد أهلكنا أشباهكم ونظراءكم في الكفر والضلال من الأمم السالفة {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي فهل من يتذكر ويتعظ؟ {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} أي وجميع ما فعلته الامم المكذبة من خير وشر مكتوب عليهم، مسجل في كتب الحفظة التي بأيدي الملائكة، قال ابن زيد: {في الزُّبر} أي في دواوين الحفظة {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} أي وكل صغيرٍ وكبير من الأعمال مسطورٌ في اللوح المحفوظ، مثبتٌ فيه {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أي في جنات وأنهار، قال القرطبي: يعني أنهار الماء، والخمر، والعسل، واللبن {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي في مكان مرضيٍ، ومقام حسن {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} أي عند ربٍ عظيم جليل، قادرٍ في ملكه وسلطانه، لا يعجزه شيء، وهو الله رب العالمين.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:49 AM

سورة الرحمن



بَين يَدَي السُّورَة
* سورة الرحمن من السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية، وهي كالعروس بين سائر السور الكريمة، ولهذا ورد في الحديث الشريف (لكل شيءٍ عروس، وعروسُ القرآن سورة الرحمن).
* ابتدأت السورة بتعديد ءالاء الله الباهرة، ونعمه الكثيرة الظاهرة على العباد، التي لا يحصيها عدٌّ، وفي مقدمتها نعمة "تعليم القرآن" بوصفه المنَّة الكبرى على الإِنسان، تسبق في الذكر خلق الإِنسان ذاته وتعليمه البيان {الرحمن * علَّم القرآن * خلق الإِنسان * علَّمه البيان}.
* ثم فتحت السورة صحائف الوجود، الناطقة بألاء الله الجليلة، وآثاره العظيمة التي لا تحصى، الشمس والقمر، والنجم والشجر، والسماء المرفوعة بلا عمد، وما فيها من عجائب القدرة وغرائب الصنعة، والأرضُ التي بثَّ فيها من أنواع الفواكه، والزروع، والثمار، رزقاً للبشر {الشمسُ والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان ..} الآيات.
* وتحدثت السورة عن دلائل القدرة الباهرة في تسيير الأفلاك، وتسخير السفن الكبيرة تمخر عباب البحار وكأنها الجبال الشاهقة عظمةً وضخامة، وهي تجري فوق سطح الماء {وله الجوار المنشآتُ في البر كالأعلام .. } الآيات.
* ثم بعد ذلك الاستعراض السريع لصفحة الكون المنظور، تُطوى صفحات الوجود، وتتلاشى الخلائق بأسرها، فيلفها شبح الموت الرهيب، ويطويها الفناء، ولا يبقى إلا الحي القيوم متفرداً بالبقاء {كلُّ من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإِكرام}.
* وتناولت السورة أهوال القيامة، فتحدثت عن حال الأشقياء المجرمين، وما يلاقونه من الفزع والشدائد في ذلك اليوم العصيب {يُعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام..} الآيات.
* وبعد الحديث عن مشهد العذاب للمجرمين، تناولت السورة مشهد النعيم للمتقين في شيء من الإِسهاب والتفصيل، حيث يكونون في الجنان مع الحور والولدان {ولمن خاف مقام ربه جنتان . .} الآيات.
* وختمت السورة بتمجيد الله جل وعلا والثناء عليه، على ما أنعم على عباده من فنون النعم والإِكرام، وهو أنسب ختامٍ لسورة الرحمن {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإِكرام} وهكذا يتناسق البدء مع الختام في أروع صور البيان ‍‍.
آلاء الله الباهرة ونعمه الكثيرة الظاهرة
{ الرَّحْمَنُ(1)عَلَّمَ الْقُرْءَانَ(2)خَلَقَ الإِنسَانَ(3)عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4)الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ(5)وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ(6)وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ(7)أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ(8)وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ(9)وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ(10)فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ(11)وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ(12)فَبِأَيِّ ءالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(13)}.
{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} أي الله الرحمنُ علَّم القرآن، ويسَّره للحفظ والفهم، قال مقاتل: لما نزل قوله تعالى {اسجدوا للرحمن} قال كفار مكة: وما الرحمن؟ فأنكروه وقالوا لا نعرف الرحمن فقال تعالى {الرَّحْمَان} الذي أنكروه هو الذي {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} وقال الخازن: إن الله عز وجل عدَّد نعمه على عباده، فقدَّم أعظمها نعمة، وأعلاها رتبة، وهو القرآن العزيز لأنه أعظم وحي الله إِلى أنبيائه، وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه، وأكثره ذكراً، وأحسنه في أبواب الدين أثراً، وهو سنام الكتب السماوية المنزَّلة على أفضل البرية {خَلَقَ الإِنسَانَ} أي خلق الإِنسان السميع البصير الناطق، والمرادُ بالإِنسان الجنسُ {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي ألهمه النطق الذي يستطيع به أن يُبين عن مقاصده ورغباته، ويتميَّز به عن سائر الحيوان، قال البيضاوي: والمقصودُ تعداد ما أنعم الله به على نوع الإِنسان، حثاً على شكره، وتنبيهاً على تقصيرهم فيه، وإِنما قدَّم تعليم القرآن على خلق الإِنسان، لأنه أصل النعم الدينية فقدَّم الأهم {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي الشمس والقمر يجريان بحساب معلوم في بروجهما، ويتنقلان في منازلهما لمصالح العباد، قال ابن كثير: أي يجريان متعاقبين بحساب مقنَّن لا يختلف ولا يضطرب {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} أي والنجمُ والشجر ينقادان للرحمن فيما يريده منهما، هذا بالتنقل بالبروج، وذاك بإِخراج الثمار {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} أي والسماء خلقها عالية محكمة البناء رفيعة القدر والشأن، وأمر بالميزان عند الأخذ والإِعطاء لينال الإِنسان حقه وافياً {أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} أي لئلا تبخسوا في الميزان {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} أي اجعلوا الوزن مستقيماً بالعدل والإِنصاف {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} أي لا تطففوا الوزن ولا تنقصوه كقوله تعالى {ويلٌ للمطففين} {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} أي والأرض بسطها لأجل الخلق، ليستقروا عليها، وينتفعوا بما خلق الله على ظهرها، قال ابن كثير: أي أرساها بالجبال الشامخات لتستقر بما على وجهها من الأنام وهم الخلائق، المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم في سائر أرجائها {فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي فيها من أنواع الفواكه المختلفة الألوان والطعوم والروائح {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} أي وفيها النخل التي يطلع فيها أوعية الثمر، قال ابن كثير: أفرد النخل بالذكر لشرفه ونفعه رطباً ويابساً، والأكمام هي أوعية الطلع كما قال ابن عباس، وهو الذي يطلع فيه القنو، ثم ينشق عنه العنقود فيكون بُسراً ثم رُطباً، ثم ينضج ويتناهى ينعه واستواؤه {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} أي وفيها أنواع الحب كالحنطة والشعير وسائر ما يُتغذى به، ذو التبن الذي هو غذاء الحيوان {وَالرَّيْحَان} أي وفيها كل مشموم طيب الريح من النبات كالورد، والفُلّ، والياسمين وما شاكلها، قال أبو حيّان: ذكر تعالى الفاكهة أولاً ونكِّر لفظها لأن الانتفاع بها نفسها، ثم ثنَّى بالنخل فذكر الأصل ولم يذكر ثمرها وهو التمر، لكثرة الانتفاع بها من ليفٍ، وسعف، وجريدٍ، وجذوع، وجُمَّار، وثمر، ثم ذكر الحب الذي هو قوام عيش الإِنسان وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق، ووصفه بقوله {ذُو الْعَصْفِ} تنبيهاً على إنعامه عليهم بما يقوتهم به من الحب، وما يقوت بهائمم من ورقه هو التبنُ، وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم ليحصل ما به يُتَفَكَّهُ، وما به يُتقوَّت، وما به يحصل التلذّذ من الرائحة الطيبة، ولما عدَّد نعمه خاطب الإِنس والجن بقوله {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله يا معشر الإِنس والجن تكذبان؟ أليست نعم الله عليكم كثيرة لا تُحصى؟ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكتوا، فقال: مالي أسمع الجنَّ أحسن جواباً لربها منكم؟ ما أتيتُ على قول الله تعالى {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالوا: لا بشيءٍ من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.
دلائل قدرته ووحدانيته
{خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ(14)وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ(15)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(16)رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ(17)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(18)مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ(19)بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ(20)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(21)يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ(22)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(23)وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ(24)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(25)}.
ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} أي خلق أباكم آدم من طين يابسٍ يسمع له صلصلة أي صوتٌ إِذا نُقر، قال المفسرون: ذكر تعالى في هذه السورة أنه خلق آدم {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} وفي سورة الحِجر {من صلصالٍ من حمأٍ مسنون} أي من طين أسود متغير، وفي الصافات {من طين لازب} أي يلتصق باليد، وفي آل عمران {كمثل آدم خلقه من تراب} ولا تنافي بينها، وذلك لأن الله تعالى أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء فصار طيناً لازباً أي متلاصقاً يلصق باليد، ثم تركه حتى صار حمأً مسنوناً أي طيناً أسود منتناً، ثم صوَّره كما تُصوَّر الأواني ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة كالفخار إِذا نُقر صوَّت، فالمذكور ههنا آخر الأطوار {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} أي وخلق الجنَّ من لهبٍ خالصٍ لا دخان فيه من النار، قال ابن عباس: {مِنْ مَارِجٍ} أي لهبٍ خالصٍ لا دخان فيه، وقال مجاهد: هو اللهب المختلط بسواد النار، وفي الحديث (خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجان من مارجٍ من نار، وخُلق آدم مما وُصف لكم) {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله يا معشر الإِنس والجن تكذبان؟ قال أبو حيان: والتكرار في هذه الفواصل للتأكيد والتنبيه والتحريك، وقال ابن قتيبة: إِن هذا التكرار إِنما هو لاختلاف النعم، فكلما ذكر نعمةً كرر قوله {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد ذُكرت هذه الآية إِحدى وثلاثين مرة، والاستفهام فيها للتقريع والتوبيخ {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي هو جل وعلا ربُّ مشرق الشمس والقمر، وربُّ مغربهما، ولمّا ذكر الشمس والقمر في قوله {الشمس والقمر بحسبان} ذكر هنا أنه رب مشرقهما ومغربهما {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله التي لا تحصى تكذبان؟ {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أي أرسل البحر والملح والبحر العذب يتجاوران ويلتقيان ولا يمتزجان {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} أي بينهما حاجزٌ من قدرة الله تعالى لا يطغى أحدهما على الآخر بالممازجة، قال ابن كثير: والمراد بالبحرين: الملح والحلو، فالملح هذه البحار، والحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس، وجعل الله بينهما برزخاً وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا فيفسد كل واحد منهما الآخر {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله تكذبان؟ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي يُخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان، كما يخرج من التراب الحب والعصف والريحان، قال الألوسي: واللؤلؤ صغار الدُر، والمرجان كباره قاله ابن عباس، وعن ابن مسعود أن المرجان الخرز الأحمر، والآية بيانٌ لعجائب صنع الله حيث يخرج من الماء المالح أنواع الحلية كالدر والياقوت والمرجان، فسبحان الواحد المنَّان {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمة من نعم الله تكذبان؟ {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} أي وله جل وعلا السفن المرفوعات الجارياتُ في البحر كالجبال في العظم والضخامة، قال القرطبي: {كَالأَعْلام} أي كالجبال، والعلمُ الجبل الطويل، فالسفن في البحر كالجبال في البر، ووجه الامتنان بها أن الله تعالى سيَّر هذه السفن الضخمة التي تشبه الجبال على وجه الماء، وهو جسم لطيف مائع يحمل فوقه هذه السفن الكبار المحمَّلة بالأرزاق والمكاسب والمتاجر من قطر إِلى قطر، ومن إقليم إِلى إقليم، قال شيخ زاده: واعلم أن أصول الأشياء أربعة: الترابُ والماءُ، والهواءُ، والنارُ، فبيَّن تعالى بقوله {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} أي التراب أصلٌ لمخلوق شريف مكرَّم، وبيَّن بقوله {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} أي النار أيضاً أصلٌ لمخلوق آخر عجيب الشأن، وبيَّن بقوله {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أن الماء أيضاً أصل لمخلوق آخر له قدرٌ وقيمة، ثم ذكر أن الهواء له تأثير عظيم في جري السفن المشابهة للجبال فقال {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} وخصَّ السفن بالذكر لأن جريها في البحر لا صنع للبشر فيه، وهم معترفون بذلك حيث يقولون: "لك الفُلك ولك المُلك" وإِذا خافوا الغرق دعوا الله تعالى خاصة {مخلصين له الدين فلما نجاهم إِلى البر إِذا هم يشركون} {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تكذبان؟
فناء المخلوقات وبقاء الله سبحانه وتعالى
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أي كل من على وجه الأرض من الإِنسان والحيوان هالك وسيموت {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} أي ويبقى ذات الله الواحد الأحد، ذو العظمة والكبرياء والإِنعام والإِكرام كقوله {كلُّ شيءٍ هالكٌ إِلا وجهه} قال ابن عباس: الوجهُ عبارة عن الله جل وعلا الباقي الدائم، قال القرطبي: ووجه النعمة في فناء الخلق التسويةُ بينهم في الموت ومع الموت تستوي الأقدام، والموتُ سبب النقلة من دار الفناء إِلى دار الثواب والجزاء {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تكذبان {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي يفتقر إِليه تعالى كل من في السماوات والأرض، ويطلبون منه العون والرزق بلسان المقال أو بلسان الحال {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} أي كل ساعة ولحظة هو تعالى في شأن من شؤون الخلق، يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين قال المفسرون: هي شؤونٌ يُبديها ولا يبتديها أي يظهرها للخلق ولا ينشئها من جديد لأن القلم جفَّ على ما كان وما سيكون إِلى يوم القيامة، فهو تعالى يرفع من يشاء ويضع من يشاء، ويشفي سقيماً ويمرض سليماً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً، قال مقاتل: إن الآية نزلت في اليهود قالوا: إن الله تعالى لا يقضي يوم السبت شيئاً، فردَّ الله عليهم بذلك {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان أيها الإِنس والجان؟
محاسبة الخلائق، وإحاطة الله بمخلوقاته
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} أي سنحاسبكم على أعمالكم يا معشر الإِنس والجنِّ، قال ابن عباس: هذا وعيدٌ من الله تعالى للعباد، وليس بالله تعالى شغل وهو فارغ، قال أبو حيّان: أي ننظر في أموركم يوم القيامة، لا أنه تعالى كان له شغل فيفرغ فيه، وجرى هذا على كلام العرب يقول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك أي سأتجرد للانتقام منك من كل ما شغلني، وقال البيضاوي: أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة، وفيه تهديد مستعارٌ من قولك لمن تهدده: سأفرغ لك، فإِن المتجرد للشيء يكون أقوى عليه، وأجدَّ فيه، والثقلان: الإِنسُ والجنُّ سميا بذلك لثقلهما على الأرض {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماواتِ والأرض هاربين من الله، فارين من قضائه فاخرجوا منها، وخلصوا أنفسكم من عقابه، والأمر للتعجيز {لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} أي لا تقدرون على الخروج إِلا بقوةٍ وقهر وغلبة، وأنَّى لكم ذلك؟ قال ابن كثير: معنى الآية أنكم لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره، بل هو محيطٌ بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام الحشر حيث الملائكة محدقةٌ بالخلائق سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب إِلا بسلطان أي إِلا بأمر الله وإِرادته {يقول الإِنسان يومئذٍ أين المفرُّ}؟ وهذا إِنما يكون في القيامة لا في الدنيا بدليل قوله تعالى بعده {يرسل عليكما شواظٌ من نار} {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟ تقدم تفسيره {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} أي يرسل عليكما يوم القيامة لهب النار الحامية {وَنُحَاس} أي ونحاسٌ مذاب يصبُّ فوق رؤوسكم، قال مجاهد: هو الصفر المعروف يصب على رؤوسهم يوم القيامة، وقال ابن عباس: {وَنُحَاسٌ} هو الدخان الذي لا لهب فيه، وقول مجاهد أظهر {فَلا تَنتَصِرَانِ} أي فلا ينصر بعضكم بعضاً، ولا يخلصه من عذاب الله، قال ابن كثير: ومعنى الآية لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكةُ وزبانية جهنم، بإِرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا فلا تجدون لكم ناصراً {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره.
تصدع السماء وأحوال المجرمين يوم القيامة
{فَإِذَا انشَقَّتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ(37)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(38)فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ(39)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(40)يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ(41)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(42)هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ(43)يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ(44)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(45)}.
{فَإِذَا انشَقَّتْ السَّمَاءُ} أي فإِذا انصدعت يوم القيامة لتنزل الملائكة منها لتحيط بالخلائق من كل جانب {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} أي فكانت مثل الورد الأحمر من حرارة النار، ومثل الأديم الأحمر أي الجلد الأحمر قاله ابن عباس، وذلك من شدة الهول، ومن رهبة ذلك اليوم العظيم {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} أي ففي ذلك اليوم الرهيب يوم تنشق السماء، لا يُسأل أحد من المذنبين من الإِنس والجن عن ذنبه، لأن للمذنب علامات تدل على ذنبه كاسوداد الوجوه، وزرقة العيون، قال الإِمام الفخر الرازي: لا يُسأل أحد عن ذنبه، فلا يقال له: أنتَ المذنب أو غيرك؟ ولا يقال: من المذنب منكم؟ بل يعرفون بسواد وجوههم وغيره {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} أي يُعرف يوم القيامة أهل الإِجرام بعلامات تظهر عليهم وهو ما يغشاهم من الكآبة والحزن، قال الحسن: سواد الوجه وزرقة الأعين كقوله تعالى {ونحشر المجرمين يومئذٍ زُرقاً} وقوله {يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوه} {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} أي فتأخذ الملائكة بنواصيهم أي بشعور مقدم رؤوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في جهنم، قال ابن عباس: يُؤخذ بناصية المجرم وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب ثم يلقى في النار {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} أي يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: هذه النار التي أخبرتم بها فكذبتم، قال ابن كثير: أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها، ها هي حاضرةٌ تشاهدونها عياناً {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أييترددون بين نار جهنم وبين ماءٍ حار بلغ النهاية في الحرارة، قال قتادة: يطوفون مرةً بين الحميم، ومرة بين الجحيم، والجحيم النارُ، والحميم الشراب الذي انتهى حره {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَاتُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الإِنس والجان؟
وصف الجنتين
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(46)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(47)ذَوَاتَا أَفْنَانٍ(48)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(49)فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ(50)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(51)فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ(52)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(53)مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ(54)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(55)فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ(56) فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(57)كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ(58)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ(60)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(61)}.
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} أي وللعبد الذي يخاف قيامه بين يدي ربه للحساب جنتان: جنةٌ لسكنه، وجنةٌ لأزواجه وخدمه، كما هي حال ملوك الدنيا حيث يكون له قصرٌ ولأزواجه قصر، قال القرطبي: وإِنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إِلى جهة، وقال الزمخشري: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي وفي الحديث (جنتان من فضة آنيتُهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إِلى ربهم عز وجل إِلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثم وصف تعالى الجنتين فقال {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} أي ذواتا أغصان متفرعة وثمار متنوعة، قال أبو حيّان: وخصَّ الأفنان - وهي الغصون - بالذكر لأنها التي تورق وتثمر، ومنها تمتد الظلال وتُجنى الثمار {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي في كل واحدة من الجنتين عين جارية، تجري بالماء الزلال كقوله تعالى {فيها عينٌ جارية} قال ابن كثير: أي تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان، فتثمر من جميع الألوان، قال الحسن: تجريان بالماء الزلال إِحداهما التسنيم، والأخرى السلسبيل {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أي فيهما من جميع أنواع الفواكه والثمار صنفان: معروفٌ، وغريب لم يعرفوه في الدنيا، قال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرةٌ حلوة ومرة إِلا وهي في الجنة حتى الحنظل، إِلا أنه حلو، وليس في الدنيا مما في الآخرة إِلاَّ الأسماء {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره قال الفخر الرازي: إِن قوله تعالى {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} و {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} و {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} كلها أوصافٌ للجنتين المذكورتين، وإِنما فصل بين الأغصان والفواكه بذكر العينين الجاريتين على عادة المتنعمين، فإِنهم إِذا دخلوا البستان لا يبادرون إِلى أكل الثمار، بل يقدمون التفرج على الأكل، مع أن الإِنسان في بستان الدنيا لا يأكل حتى يجوع ويشتهي شهوة شديدة فكيف في الجنة!! فذكر تعالى ما يتم به النزهة وهو خضرة الأشجار، وجريان الأنهار، ثم ذكر ما يكون بعد النزهة وهو أكل الثمار، فسبحان من يأتي بالآيات بأحسن المعاني في أبين المباني {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} أي مضطجعين في جنان الخلد على فرشٍ وثيرة بطائنها من ديباج - وهو الحرير السميك - المزين بالذهب، وهذا يدل على نهاية شرفها لأن البطانة إِذا كانت بهذا الوصف فما بالك بالظهارة؟ قال ابن مسعود: هذه البطائن فيكف لو رأيتم الظواهر؟ وقال ابن عباس: لما سئل عن الآية: ذلك مما قال الله تعالى {فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة أعين} {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} أي ثمرها قريب يناله القاعد والقائم والنائم، بخلاف ثمار الدنيا فإِنها لا تنال إِلا بكدٍ وتعب، قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنبها وليُ الله إِن شاء قائماً، وإِن شاء قاعداً، وإِن شاء مضطجعاً {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي في تلك الجنان نساء قاصرات الطرف قصرن أعينهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم، كما هو حال المخدَّرات العفائف {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} أي لم يغشهنَّ ولم يجامعهن أحدٌ قبل أزواجهنَّ لا من الإِنس ولا من الجن، بل هنَّ أبكار عذارى، قال الألوسي: وأصلُ الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمثٌ، ثم أُطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم، ثم على كل جماع وإِن لم يكن فيه خروج دم {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن؟ {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} أي كأنهن يشبهن الياقوت والمرجان في صفائهن وحمرتهن، قال قتادة: كأنهن في صفاء الياقوت وحمرة المرجان، لو أدخلت في الياقوت سلكاً ثم نظرت إِليه لرأيته من ورائه وفي الحديث (إن المرأة من نساء أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير، حتى يُرى مخُّها) {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إِلا أن يحُسن إِليه في الآخرة، قال أبو السعود: أي ما جزاء الإِحسان في العمل، إِلا الإِحسان في الثواب والغرضُ أنَّ من قدم المعروف والإِحسان استحق الإِنعام والإِكرام {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره.
وصف آخر لجنتين أدنى من الأوليين
{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ(62)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(63)مُدْهَامَّتَانِ(64)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(65)فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ(66)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(67)فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ(68)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(69)فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ(70)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(71)حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ(72)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(73)لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ(74)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(75)مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ(76)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(77)تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ(78)}.
{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} أي ومن دون تلك الجنتين في الفضيلة والقدر جنتان أخريان، قال المفسرون: الجنتان الأوليان للسابقين، والأخريان لأصحاب اليمين ولا شك أن مقام السابقين أعظم وأرفع لقوله تعالى {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة؟ وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة؟ والسابقون السابقون أولئك المقربون} {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن؟ {مُدْهَامَّتَانِ} أي سوداوان من شدة الخضرة والريّ، قال الألوسي: والمراد أنهما شديدتا الخضرة، والخضرةُ إِذا اشتدت ضربت إِلى السواد وذلك من كثرة الريّ بالماء {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أي فوارتان بالماء لا تنقطعان، وقال ابن مسعود وابن عباس: تنْضَخُ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة، كزخ المطر {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} أي في الجنتين من أنواع الفواكه كلها وأنواع النخل والرمان، وإِنما ذكر النخل والرمان تنبيهاً على فضلهما وشرفهما على سائر الفواكه ولأنهما غالب فاكهة العرب، قال الألوسي: ثم إِن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} أي في تلك الجنان نساء صالحات كريمات الأخلاق، حِسان الوجوه {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} أي هنَّ الحورُ العين المخدرات المستورات لا يخرجن لكرامتهن وشرفهن، قد قصرن في خدورهن في خيام اللؤلؤ المجوَّف، قال أبو حيان: والنساء تُمدح بذلك إِذ ملازمتهن البيوت تدل على صيانتهن، قال الحسن: لسن بطوَّافات في الطرق، وخيامُ الجنة بيوت اللؤلؤ، وفي الحديث (إنَّ في الجنة خيمةٌ من لؤلؤةٍ مجوفة، عرضها ستون ميلاً، في كل زاويةٍ منها أهلٌ ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون) {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} أي لم يجامعهن ولم يغشهن أحد قبل أزواجهم لا من الإِنس ولا من الجن، قال ابن جزي: الجنتان المذكورتان أولاً للسابقين، والجنتان المذكورتان ثانياً لأصحاب اليمين، وانظر كيف جعل أوصاف الجنتين الأوليين أعلى من أوصاف الجنتين اللتين بعدهما، فقال هناك {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} وقال هنا {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} والجريُ أشدُّ من النضخ، وقال هناك {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} وقال هنا {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} والأول أعم وأشمل، وقال في صفة الحور هناك {كأنهنَّ الياقوتُ والمرجان} وقال هنا {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} وليس لك حُسْنٍ كحسن الياقوت والمرجان فالوصف هناك أبلغ، وقال هناك في وصف الفرش {متكئين على فرش بطائنها من استبرق} وهو الديباج وقال هنا {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} ولا شك أن الفرش المعدَّة للاتكاء أفضل من فضلالخباء {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن؟ {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} أي مستندين على وسائد خضر من وسائد الجنة {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} أي وطنافس ثخينة مزخرفة، محلاَّة بأنواع الصور والزينة، قال الصاوي: وهي نسبة إِلى "عبقر" قرية بناحية اليمن، يُنسج فيها بسط منقوشة بلغت النهاية في الحسن، فقرَّب الله لنا فرش الجنتين بتلك البسط المنقوشة {فَبِأَيِّءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تعالى تكذبان يا معشر الإِنس والجن {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} أي تنزه وتقدَّس الله العظيم الجليل، وكثرت خيراته وفاضت بركاته {ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} أي صاحب العظمة والكبرياء، والفضل والإِنعام، قال أبو حيّان: لما ختم تعالى نعم الدنيا بقوله {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإِكرام} ختم نعم الآخرة بقوله {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ * ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} وناسب هناك ذكر البقاء والديمومة له تعالى بعد ذكر فناء العالم، وناسب هنا ذكر البركة وهي النماء والزيادة عقب امتنانه على المؤمنين في دار كرامته وما آتاهم من الخير والفضل في دار النعيم.

أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:52 AM

سورة الواقعة


بَين يَدَي السُّورَة
* تشتمل هذه السورة الكريمة على أحوال يوم القيامة، وما يكون بين يدي الساعة من أهوال، وانقسام الناس إِلى ثلاث طوائف (أصحاب اليمين، أصحاب الشمال، السابقون).
* وقد تحدثت السورة عن مآل كل فريق، وما أعده الله تعالى لهم من الجزاء العادل يوم الدين، كما أقامت الدلائل على وجود الله ووحدانيته، وكمال قدرته في بديع خلقه وصنعه، في خلق الإِنسان، وإِخراج النبات، وإِنزال الماء، وما أودعه الله من القوة في النار .. ثم نوّهت بذكر القرآن العظيم، وأنه تنزيل رب العالمين، وما يلقاه الإِنسان عند الاحتضار من شدائد وأهوال.
* وختمت السورة بذكر الطوائف الثلاث وهم أهل السعادة، وأهل الشقاوة، والسابقون إلى الخيرات من أهل النعيم، وبيّنت عاقبة كل منهم، فكان ذلك كالتفصيل لما ورد في أول السورة من إجمال، والإِشادة بذكر مآثر المقربين في البدء والختام.
فـضـــلـهَا: أ- عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً).
ب- وأخرج الحافظ ابن عساكر في ترجمة (عبد الله بن مسعود) بسنده عن أبي ظبية قال: "مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيبُ أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك من بعدك، قال أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وإِني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً) فكان أبو ظبية لا يدعها".
قيام القيامة، وحال المطيعين والعاصين
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}أي إِذا قامت القيامة التي لا بد من وقوعها، وحدثت الداهية الطامة التي ينخلع لها قلب الإِنسان، كان من الأهوال ما لا يصفه الخيال، قال البيضاوي: سميت واقعة لتحقق وقوعها، وقال ابن عباس: الواقعة اسم من أسماء القيامة كالصاخة والآزفة والطامة، وهذه الأشياء تقتضي عظم شأنها {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي لا يكون عند وقوعها نفس كاذبة تكذِّب بوقوعها كحال المكذبين اليوم، لأن كل نفسٍ تؤمن حينئذٍ لأنها ترى العذاب عياناً كقوله تعالى {فلمَّا رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده} {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} أي هي خافضة لأقوام رافعةٌ لآخرين، تخفض أعداء الله في النار، وترفع أولياء الله في الجنة، قال الحسن: تخفض أقواماً إِلى الجحيم وإِن كانوا في الدنيا أعزة، وترفع آخرين إِلى أعلى عليين وإِن كانوا في الدنيا وضعاء .. ثم بيَّن تعالى متى يكون ذلك فقال {إِذَا رُجَّتْ الأَرْضُ رَجًّا} أي زلزلت زلزالاً عنيفاً، واضطربت اضطراباً شديداً، بحيث ينهدم كل ما فوقها من بناء شامخ، وطودٍ راسخ، قال المفسرون: تُرجُّ كما يرجُّ الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها من بناء، وينكسر كل ما فيها من جبال وحصون {وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا} أي فتِّتت تفتيتاً حتى صارت كالدقيق المبسوس - وهو المبلول - بعد أن كانت شامخة {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} أي فصارت غباراً متفرقاً متطايراً في الهواء، كالذي يُرى في شعاع الشمس إِذا دخل النافذة فهذا هو الهباء، والمنبثُّ المتفرق، وهذه الآية كقوله تعالى {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} وقوله {وسُيّرت الجبالُ فكانت سراباً} {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} أي وكنتم - أيها الناس - أصنافاً وفرقاً ثلاثة "أهل اليمين، وأهل الشمال، وأهل السبق" فأما السابقون فهم أهل الدرجات العُلى في الجنة، وأما أصحاب اليمين فهم سائر أهل الجنة، وأما أصحاب الشمال فهم أهل النار، وهذه مراتب الناس في الآخرة، قال ميمون بن مهران: اثنان في الجنة وواحد في النار، ثم فصَّلهم تعالى بقوله {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}؟ استفهام للتفخيم والتعظيم أي هل تدري أيُّ شيء أصحاب الميمنة؟ من هم وما هي حالهم وصفتهم؟ إنهم الذين يؤتون صحائفهم في أيمانهم، فهو تعجيبٌ لحالهم، وتعظيم لشأنهم في دخولهم الجنة وتنعمهم بها {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}؟ أي هل تدري من هم؟ وما هي حالهم وصفتهم؟ إنهم الذين يؤتون صحائفهم بشمالهم، ففيه تعجيب لحالهم في دخولهم النار وشقائهم، قال القرطبي: والتكرير في {ما أصحابُ الميمنة} و {ما أصحاب المشأمة} للتفخيم والتعجيب كقوله {الحاقة ما الحاقة} وقوله {القارعةُ ما القارعة} وقال الألوسي: والمقصود التفخيم في الأول، والتفظيع في الثاني، وتعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل: فأصحاب الميمنة في غاية حسن الحال، وأصحاب المشأمة في غاية سوء الحال {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} هذا هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة أي والسابقون إِلى الخيرات والحسنات، هم السابقون إلى النعيم والجنات، ثم أثنى عليهم بقوله{أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} أي أولئك هم المقربون من الله، في جواره، وفي ظل عرشه، ودار كرامته {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي هم في جنات الخلد يتنعمون فيها قال الخازن: فإِن قلت: لم أخَّر ذكر السابقين وكانوا أولى بالتقديم على أصحاب اليمين؟ قلت: فيه لطيفة وذلك أنَّ الله ذكر في أول السورة الأمور الهائلة عند قيام الساعة تخويفاً لعباده، فإِما محسنٌ فيزداد رغبةً في الثواب، وإمّا مسيء فيرجع عن إِساءته خوفاً من العقاب، فلذلك قدَّم أصحاب اليمين ليسمعوا ويرغبوا، ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا، ثم ذكر السابقين وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ليجدوا ويجتهدوا.
إثابة السابقين بجنات النعيم
{ثُلَّةٌمِنَالأَوَّلِينَ(13)وَقَلِيلٌمِنَالآخِرِين َ(14)عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ(15)مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ(16)يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ(17)بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ(18)لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ(19)وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ(20)وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ(21)وَحُورٌ عِينٌ(22)كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ(23)جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا(25)إِلا قِيلاً سَلامًا سَلامًا(26)}
{ثُلَّةٌمِنَالأَوَّلِينَ} أي السابقون المقربون جماعة كثيرة من الأمم السالفة {وَقَلِيلٌمِنَالآخِرِينَ} أي وهم قليلٌ من هذه الأمة، قال القرطبي: وسمُّوا قليلاً بالإِضافة إِلى من كان قبلهم، لأن الأنبياء المتقدمين كانوا كثرة، فكثر السابقون إِلى الإِيمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إِلى التصديق من أمتنا، قال الحسن: سابقو من مضى أكثر من سابقينا ثم تلا الآية وقيل: إِن المراد بقوله {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} أول هذه الأمة، والآخرون المتأخرون من هذه الأمة، فيكون كلا الفريقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} أي جالسين على أسَّرة منسوجة بقضبان الذهب، مرصَّعة بالدر والياقوت، قال ابن عباس: { مَوْضُونَةٍ} أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} أي حال كونهم مضطجعين على تلك الأسرَّة شأن المنعَّمين المترفين {مُتَقَابِلِينَ} أي وجوه بعضهم إلى بعض، ليس أحد وراء أحد، وهذا أدخل في السرور، وأكمل في أدب الجلوس {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أي يدور عليهم للخدمة أطفال في نضارة الصبا، لا يموتون ولا يهرمون، قال أبو حيان: وُصفوا بالخلد - وإِن كان كل من في الجنة مخلداً - ليدل على أنهم يبقون دائماً في سنِّ الولدان، لا يتحولون ولا يكبرون كما وصفهم جل وعلا {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} أي بأقداح كبيرة مستديرة لا عُرى لها {وَأَبَارِيقَ} جمع إِبريق أي وبأباريق لها عُرى تبرق من صفاء لونها {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أي وكأسٍ من خمرٍ لذة جارية من العيون، قال ابن عباس: لم تعصر كخمر الدنيا بل هي من عيون سارحة، قال القرطبي:والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون، ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصرٍ وتكلف معالجة {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي لا تتصدع رؤوسهم من شربها {وَلا يُنزِفُونَ} أي ولا يسكرون فتذهب بعقولهم كخمر الدنيا، قال ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السُّكرُ، والصُّداع، والقيءُ، والبول، وقد ذكر تعالى خمر الجنة ونزَّهها عن هذه الخصال الذميمة {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي ولهم فيها فاكهة كثيرة يختارون ما تشتهيه نفوسهم لكثرتها وتنوعها {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي ولحم طيرٍ مما يحبون ويشتهون، قال ابن عباس: يخطر على قلب أحدهم لحم الطير فيطير حتى يقع بين يديه على ما اشتهى مقلياً أو مشوياً وفي الحديث (إنك لتنظر إِلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً) قال الرازي: وقدَّم الفاكهة على اللحم لأن أهل الجنة يأكلون لا عن جوع بل للتفكه، فميلهم إِلى الفاكهة أكثر كحال الشبعان في الدنيا فلذلك قدمها {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي ولهم مع ذلك النعيم نساء من الحور العين، الواسعات العيون، في غاية الجمال والبهاء، كأنهن اللؤلؤ في الصفاء والنقاء، الذي لم تمسه الأيدي، قال ابن جزي: شبههن باللؤلؤ في البياض، ووصفه بالمكنون لأنه أبعد عن تغيير حسنه، وحين سألت "أم سلمة" رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه قال "صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي" {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي جعلنا لهم ذلك كله جزاءً لعملهم الصالح في الدنيا .. ثم أخبر تعالى عن كمال نعيمهم في الجنة فقال {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} أي لا يطرق آذانهم فاحشُ الكلام، ولا يلحقهم إِثمٌ مما يسمعون، قال ابن عباس: لا يسمعون باطلاً ولا كذباً {إِلا قِيلاً سَلامًا سَلامًا} أي إلا قول بعضهم لبعضٍ سلاماً سلاماً، يُحيي به بعضهم بعضاً ويفشون السلام فيما بينهم، قال أبو حيّان: والظاهر أنه استثناء منقطع لأنه لم يندرج في اللغو ولا في التأثيم، وقال أبو السعود: والمعنى أنهم يفشون السلام فيسلّمون سلاماً بعد سلام، أو لا يسمع كلٌ منهم إِلا سلام الآخر بدءاً أو ردّاً.
أحوال أصحاب اليمين في الجنة
سبب النزول:
نزول الآية (27):
{وأصحاب اليمين ..}: أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في البعث عن عطاء ومجاهد قالا: لما سأل أهل الطائف الوادي يُحمى لهم، وفيه عسل، ففعل، وهو واد معجب، فسمعوا الناس يقولون: في الجنة كذا وكذا، قالوا: يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي، فأنزل الله: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود} الآيات.
نزول الآية (29):
{وطلح منضود}: أخرج البيهقي من وجه آخر عن مجاهد قال: كانوا يعجبون بوَجّ - واد مخصب في الطائف - وظلاله وطلحِه وسِدْرِه، فأنزل الله: {وأصحاب اليمين، ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود}.
ثم شرع في تفصيل أحوال الصنف الثاني وهم أصحاب اليمين فقال {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِين}؟ استفهام للتعظيم والتعجيب من حالهم أي ما أدراك من هم، وما هي حالهم؟ {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} أي هم تحت أشجار النبق الذي قطع شوكه، قال المفسرون: والسِّدرُ: شجر النبق، والمخضود الذي خُضد أي قُطع شوكه، وفي الحديث: (أن أعرابياً جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إن الله تعالى ذكر في الجنة شجرة تؤذي صاحبها، فقال: وما هي؟ قال: السدر فإِن له شوكاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس اللهُ يقول {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ}؟ خضَدَ اللهُ شوكه فجعل مكان كل شوكةٍ ثمرة، وإِن الثمرة من ثمره تفتَّق عن اثنين وسبعين لوناً من الطعام، ما فيها لونٌ يشبه الآخر) {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} هو شجر المود ومعنى {مَنْضُودٍ} أي متراكم قد نُضد بالحمل من أسفله إِلى أعلاه {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} أي وظل دائم باقٍ لا يزول ولا تنسخه الشمس، لأن الجنة ظل كلها لا شمس فيها {لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} وفي الحديث (إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا إن شئتم) {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} وقال الرازي: ومعنى {مَمْدُودٍ} أي لا زوال له فهو دائم {أُكلُها دائم وظلُّها} أي دائم، والظلُّ ليس ظل الأشجار، بل ظل يخلقه الله تعالى {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} أي وماءٍ جارٍ دائماً لا ينقطع، يجري في غير أخدود، قال القرطبي: كانت العرب أصحاب بادية، والأنهار في بلادهم عزيزة، لا يصلون إِلى الماء إِلا بالدلو والرشاء، فوعدوا بالجنة بأسباب النزهة وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار وجريانها {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي وفاكهةٍ كثيرة متنوعة، ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم، لا تنقطع كما تنقطع ثمار الدنيا في الشتاء، وليست ممنوعة عن أحد، قال ابن عباس: لا تنقطع إِذا جُنيت، ولا تتمنع من أحدٍ إِذا أراد أخذها وفي الحديث (ما قُطعت ثمرةٌ من ثمار الجنة إِلا عاد مكانها أخرى) {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي عالية وطيئة ناعمة وفي الحديث (ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمس مائة عام) قال الألوسي: ولا تستبعد هذا من حيث العروجُ والنزولُ، فالعالم عالم آخر فوق طور عقلك تنخفض للمؤمن إِذا أراد الجلوس عليها ثم ترتفع به، والله على كل شيء قدير{إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} أي خلقنا نساء الجنة خلقاً جديداً، وأبدعناهن إِبداعاً عجيباً، قال في التسهيل: ومعنى إنشاء النساء أن الله تعالى يخلقهن في الجنة خلقاً آخر في غاية الحسن بخلاف الدنيا، فالعجوز ترجع شابة، والقبيحة ترجع جميلة، قال ابن عباس: يعني الآدميات العجائز الشمط خلقهن الله بعد الكبر والهرم خلقاً آخر {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} أي فجعلناهن عذارى، كلما أتاهنَّ أزواجهن وجدوهنَّ أبكاراً {عُرُبًا} جمع عروب وهي المتحببة لزوجها العاشقة له، قال مجاهد: هنَّ العاشقات لأزواجهن المتحببات لهم اللواتي يشتهين أزواجهن {أَتْرَابًا} أي مستويات في السنِّ مع أزواجهن، في سنّ أبناء ثلاث وثلاثين، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {إِنا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} فقال يا أم سلمة: هنَّ اللواتي قُبضن في الدنيا عجائز، شُمطاً، عُمشاً، رُمصاً، جعلهن الله بعد الكِبر أتراباً على ميلادٍ واحد في الاستواء) وفي الحديث أن امرأة عجوزاً جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: أُدع الله أن يُدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان إِن الجنة لا تدخلها عجوز، فولَّت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، فإِن الله تعالى يقول {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} {لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي أنشأنا هؤلاء النساء الأبكار لأصحاب اليمين ليستمتعوا بهنَّ في الجنة، ثم قال تعالى {ثُلَّةٌمِنَالأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌمِنَالآخِرِينَ} أي هم جماعة من الأولين من الأمم الماضية، وجماعة من المتأخرين من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال أبو حيّان: ولا تنافي بين هذه الآية {وَثُلَّةٌمِنَالآخِرِينَ} وبين الآية التي سبقتها وهي قوله {وقليلٌ من الآخرين} لأن الثانية في السابقين فلذلك قال {وقليل من الآخرين} وهذه في أصحاب اليمين ولذلك قال {وَثُلَّةٌمِنَالآخِرِينَ}.
أنواع عذاب أهل الشمال في الآخرة
{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ(41)فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ(42)وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ(43)لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ(44)إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ(45)وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ(46)وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(47)أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ(48)قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ(49)لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(50)ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ(51)لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ(52)فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(53)فَشَارِبُونَ عَلَيْهِمِنَالْحَمِيمِ(54)فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ(55)هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ(56)}
ثم شرع تعالى في بيان الصنف الثالث وهم أهل النار فقال {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} استفهام بمعنى التهويل والتفظيع والتعجيب من حالهم أي وأصحابُ الشمال - وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم - ما أصحاب الشمال؟ أي ما حالهم وكيف مآلهم؟ ثم فصَّل تعالى حالهم فقال {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} أي في ريح حارة من النار تنفذ في المسام، وماءٍ شديد الحرارة {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} أي وفي ظلٍ من دخان أسود شديد السواد {لا بَارِدٍ} أي ليس هذا الظل بارداً يستروح به الإِنسان من شدة الحر {وَلا كَرِيمٍ} أي وليس حسن المنظر يُسرُّ به من يستفيء بظله، قال الخازن: إِن فائدة الظل ترجع إِلى أمرين: أحدهما: دفع الحر، والثاني: حسن المنظر وكون الإِنسان فيه مكرماً، وظلُّ أهل النار بخلاف هذا لأنهم في ظل من دخان أسود حار .. ثم بيَّن تعالى سبب استحقاقهم ذلك فقال {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} أي لأنهم كانوا في الدنيا منعَّمين، مقبلين على الشهوات والملذات {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} أي وكانوا يداومون على الذنب العظيم وهو الشرك بالله، قال المفسرون: لفظ الإِصرار يدل على المداومة على المعصية، والحنثُ هو الذنب الكبير والمراد به هنا الكفر بالله كما قال ابن عباس {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي هل سنبعث بعد أن تصبح أجسادنا تراباً وعظاماً نخرة؟ وهذا استبعادٌ منهم لأمر البعث وتكذيب له {أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ}؟ تأكيدٌ للإِنكار ومبالغة فيه أي وهل سيبعث آباؤنا الأوائل بعد أن بليت أجسامهم وتفتَّتت عظامهم؟ {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي قل لهم يا محمد: إِن الخلائق جميعاً السابقين منهم واللاحقين، سيجمعون ويحشرون ليوم الحساب الذي حدَّده الله بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر {ذلك يومٌ مجموعٌ له الناس وذلك يومٌ مشهود * وما نؤخره إِلا لأجلٍ معدود} {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لأكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} أي ثم إنكم يا معشر كفار مكة، الضالون عن الهدى، المكذبون بالبعث والنشور، لآكلون من شجر الزقوم الذي ينبت في أصل الجحيم {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي فمالئون بطونكم من تلك الشجرة الخبيثة لغلبة الجوع عليكم {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِمِنَالْحَمِيمِ} أي فشاربون عليه الماء الحار الذي اشتد غليانه {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} أي فشاربون شرب الإِبل العطاش، قال ابن عباس: الهيمُ الإِبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها، وقال أبو السعود: إنه يسلط على أهل النار من الجوع ما يضطرهم إِلى أكل الزقوم الذي هو كالمُهل، فإِذا ملأوا منه بطونهم - وهو في غاية الحرارة والمرارة - سُلِّط عليهم العطش ما يضطرهم إِلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهيم وهي الإِبل التي بها الهيام وهو داء يصيبها فتشرب ولا تروى {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي هذه ضيافتهم وكرامتهم يوم القيامة، وفيه تهكم بهم، قال الصاوي: والنُزُل في الأصل ما يهيأ للضيف أول قدومه من التحف والكرامة، فتسمية الزقوم نُزلاً تهكم بهم.
أدلة الألوهية وإثبات القدرة على البعث والجزاء
{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ(57)أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ(58)ءأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ(59)نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ(60)عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ(61)وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ(62)أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ(63)ءأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ(64)لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلتُمْ تَفَكَّهُونَ(65)إِنَّا لَمُغْرَمُونَ(66)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(67)أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ(68)ءأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ(69)لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ(70)أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ(71) ءأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ(72)نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ(73)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ(74)}
{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي نحن خلقناكم أيها الناسُ من العدم، فهلاَّ تصدقون بالبعث؟ فإِن من قدر على البدء قادرٌ على الإِعادة {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} أي أخبروني عمَّا تصبُّونه من المنيّ في أرحام النساء {ءأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}؟ أي هل أنتم تخلقون هذا المنيَّ بشراً سوياً، أم نحن بقدرتنا خلقناه وصوَّرناه؟! قال القرطبي: وهذا احتجاج على المشركين وبيانٌ للآية الأولى والمعنى إِذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أي نحن قضينا وحكمنا عليكم بالموت وساوينا بينكم فيه، قال الضحاك: ساوى فيه بين أهل السماء والأرض، سواء في الشريف والوضيع، والأمير والصعلوك {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي وما نحن بعاجزين {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أي على أن نهلككم ونستبدل قوماً غيركم يكونون أطوع لله منكم كقوله تعالى {إن يشأ يُذهبكم ويأتِ بخلقٍ جديد} {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} أي ولسنا بعاجزين أيضاً أن نعيدكم يوم القيامة في خلقةٍ لا تعلمونها ولا تصل إِليها عقولكم، والغرضُ أن الله قادر على أن يهلكهم وأن يعيدهم وأن يبعثهم يوم القيامة، ففي الآية تهديد واحتجاج على البعث {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى} أي ولقد عرفتم أن الله أنشأكم من العدم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، فخلقكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة {فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} أي فهلا تتذكرون بأن الله قادر على إِعادتكم كما قدر على خلقكم أول مرة؟ {أولاَ يذكُر الإِنسان أنَّا خلقناه من قبل ولم يكُ شيئاً}؟! {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} هذه حجة أخرى على وحدانية الله وقدرته أي أخبرووني عن البذر الذي تلقونه في الطين {ءأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؟ أي أأنتم تنبتونه وتنشئونه حتى يكون فيه السنبل والحبُّ أم نحن الفاعلون لذلك؟ فإِذا أقررتم أن الله هو الذي يخرج الحبَّ وينبت الزرع، فكيف تنكرون إِخراجه الأموات من الأرض؟ {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} أي لو أردنا لجعلنا هذا الزرع هشيماً متكسراً لا ينتفع به في طعام ولا غيره، قال القرطبي: والحُطام الهشيم الهالك الذي لا يُنتفع به في مطعم ولا غذاء، فنبههم بذلك على أمرين: أحدهما: ما أولاهم به من النعم في زرعهم ليشكروه الثاني: ليعتبروا في أنفسهم فكما أنه تعالى يجعل الزرع حُطاماً إِذا شاء، كذلك يهلكهم إِذا شاء ليتعظوا فينزجروا {فَظلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي فظللتم وبقيتم تتفجعون وتحزنون على الزرع مما حلَّ به وتقولون {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي إنا لمحمَّلون الغرم في إِنفاقنا حيث ذهب زرعنا وغرمنا الحبَّ الذي بذرناه {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي بل نحن محرومون الرزق، غرمنا قيمة البذر، وحُرمنا خروج الزرع {أفرأيتمُ الماءَ الذي تشربون} أي أخبروني عن الماء الذي تشربونه عذباً فراتاً لتدفعوا عنكم شدة العطش {ءأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} أي هل أنتم الذين أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون له بقدرتنا؟ قال الخازن: ذكَّرهم تعالى نعمته عليهم بإِنزال المطر الذي لا يقدر عليه إِلا اللهُ عز وجل {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} أي لو شئنا لجعلناه ماءً مالحاً شديد الملوحة لا يصلح لشرب ولا لزرع، قال ابن عباس: {أُجَاجًا} شديد الملوحة، وقال الحسن: مُرّاً زُعافاً لا يمكن شربه {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} أي فهلاّ تشكرون ربكم على نعمه الجليلة عليكم؟! وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا شرب الماء قال "الحمد لله الذي سقاناً عذباً فُراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً أُجاجاً بذنوبنا" {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أي أخبروني عن النار التي تقدحونها وتستخرجونها من الشجر الرطب {ءأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} أي هل أنتم الذين خلقتم شجرها أم نحن الخالقون المخترعون؟ قال ابن كثير: وللعرب شجرتان: إِحداهما المرخُ، والأُخرى العُفار، إِذا أُخذ منهما غصنان أخضران، فحُك أحدهما بالآخر تناثر من بينهما شرر النار، وقيل: أراد جميع الشجر الذي توقد منه النار، لما روي عن ابن عباس أنه قال: ما من شجرة ولا عود إِلا وفيه النار سوى العُناب {نحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} أي جعلنا نار الدنيا تذكيراً للنار الكبرى "نار جهنم" إِذا رآها الرائي ذكر بها نار جهنم، فيخشى اللهَ ويخاف عقابه وفي الحديث (ناركم هذه التي توقدون جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم، فقالوا يا رسول الله: إِنْ كانت لكافية!! فقال: والذي نفسي بيده لقد فضّلت عليها بتسعة وتسعين جزءاً، كلهن مثل حرها) {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} أي ومنفعةً للمسافرين، قال ابن عباس: {لِلْمُقْوِينَ} المسافرين، وقال مجاهد: للحاضر والمسافر، المستمتعين بالنار من الناس أجمعين، قال الخازن: والمقوي النازلُ في الأرض القواء - وهي الأرض الخالية البعيدة عن العمران - والمعنى أنه ينتفع بها أهل البوادي والسُفَّار، فإِن منفعتهم أكثر من المقيم، فإِنهم يوقدون النار بالليل لتهرب السباع ويهتدي بها الضال إِلى غير ذلك من المنافع وهو قول أكثر المفسرين .. ولما ذكر دلائل القدرة والوحدانية في الإِنسان، والنبات، والماء، والنار، أمر رسوله بتسبيح الله الواحد القهار فقال {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي فنزِّه يا محمد ربك عما أضافه إِليه المشركون من صفات العجز والنقص وقل: سبحان من خلق هذه الأشياء بقدرته، وسخَّرها لنا بحكمته، سبحانه ما أعظم شأنه، وأكبر سلطانه!! عدَّد سبحانه وتعالى نعمه على عباده، فبدأ بذكر خلق الإِنسان فقال {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} ثم بما به قوامه ومعيشته وهو الزرع فقال {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} ثم بما به حياته وبقاؤُه وهو الماء فقال {أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} ثم بما يصنع به طعامه، ويصلح به اللحوم والخضار وهو النار فقال {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} فيا له من إله كريم، ومنعمٍ عظيم!!
إثبات صدق القرآن، وتوبيخ المشركين على فساد اعتقادهم
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ(77)فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ(79)تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80)أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ(81)وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ(83)وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ(84)وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ(85)فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ(86)تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(87)فَأَمَّا إِنْ كَانَمِنَالْمُقَرَّبِينَ(88)فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ(89)وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ(90)فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ(91)وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ(92)فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ(93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ(94)إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ(95)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ(96)}
سبب النزول:
نزول الآية (75):
{فلا أقسم ..}: أخرج مسلم عن ابن عباس قال: مُطِر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر،قالوا: هذه رحمة وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، فنزلت هذه الآيات: {فلا أقسم بمواقع النجوم} حتى بلغ {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}اللام لتأكيد الكلام وتقويته، وزيادة "لا" كثير في كلام العرب ومشهور قال الشاعر:
تذكرتُ ليلى فاعترتني صبابةٌ وكاد نياطُ القلب لا يتقطَّع
أي كاد يتقطع قال القرطبي: "لا" صلة في قول أكثر المفسرين والمعنى "فأقسم" بدليل قوله بعده {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} أي فأقسم بمنازل النجوم وأماكن دورانها في أفلاكها وبروجها {لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أي وإِن هذا القسم العظيم جليل، لو عرفتم عظمته لآمنتم وانتفعتم به، لما في المقسم به من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته تعالى أن لا يترك عباده سُدى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} هذا هو المقسم عليه، والمعنى أقسم بمواقع النجوم إِن هذا القرآن قرآن كريم، ليس بسحرٍ ولا كهانة وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم مجيد، جعله الله معجزة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو كثير المنافع والخيرات والبركات {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} أي في كتاب مصونٍ عند الله تعالى، محفوظ عن الباطل وعن التبديل والتغيير، قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ، وقال مجاهد: هو المصحف الذي بأيدينا{لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} أي لا يمس ذلك الكتاب المكنون إِلا المطهرون، وهم الملائكة الموصوفون بالطهارة من الشرك والذنوب والأحداث، أو لا يمسُّه إِلا من كان متوضئاً طاهراً، قال القرطبي: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا وهو الأظهر لقول ابن عمر "لا تمسَّ القرآن إلا وأنت طاهر" ولكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم "وألاَّ يمسَّ القرآن إِلا طاهر" {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي منزَّل من عند الله جل وعلا .. ثم لمَّا عظم أمر القرآن ومجَّد شأنه وبخ الكفار فقال {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} أي أفبهذا القرآن يا معشر الكفار تكذبون وتكفرون؟ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي وتجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون برازقكم، وهو المنعم المتفضل عليكم؟ {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} أي فهلاَّ إِذا بلغت الروح الحلقوم عند معالجة سكرات الموت {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أي وأنتم في ذلك الوقت تنظرون إِلى المحتضر وما يكابده من شدائد وأهوال {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} أي ونحن بعلمنا واطلاعنا أقرب إِلى الميت منكم ولكنْ لا تعلمون ذلك، ولا تبصرون ملائكتنا الذين حضروه لقبض روحه، قال ابن كثير: ومعنى الآية ملائكتنا أقرب إِليه منكم ولكن لا ترونهم كما قال تعالى {حتى إِذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي فهلاَّ إِن كنتم غير مجزيين بأعمالكم كما تزعمون {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي تردون نفس هذا الميت إِلى جسده بعد ما بلغت الحلقوم، قال ابن عباس: {غير مدينين} أي غير محاسبين ولا مجزيين، قال الخازن: أجاب عن قوله {فلولا إِذا بلغت الحلقوم} وعن قوله {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} بجوابٍ واحد وهو قوله {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} ومعنى الآية: إن كان الأمر كما تقولون أنه لا بعث ولا حساب، ولا إِله يجازي، فهلاّ تردون نفس من يعزُّ عليكم إِذا بلغت الحلقوم؟ وإِذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إِلى غيركم وهو الله تعالى فآمنوا به .. ثم ذكر تعالى طبقات الناس عند الموت وعند البعث، وبيَّن درجاتهم في الآخرة فقال {فَأَمَّا إِنْ كَانَمِنَالْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} أي فأما إِن كان هذا الميت من المحسنين السابقين بالدرجات العلا، فله عند ربه راحة تامّة ورزق حسن وجنة واسعة يتنعم فيها، قال القرطبي: والمراد بالمقربين السابقون المذكورون في أول السورة{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي وأما إِن كان المحتضر من السعداء أهل الجنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي فسلامٌ لك يا محمد منهم، لأنه في راحةٍ وسعادة ونعيم {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} أي وأما إِن كان المحتضر من المنكرين للبعث، الضالين عن الهدى والحق {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} أي فضيافتهم التي يُكرمون بها أول قدومهم، الحميمُ الذي يصهر البطون لشدة حرارته، قال ابن جزي: النُزل أول شيءٍ يُقدم للضيف {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي ولهم إِصلاءٌ بنار جهنم وإِذاقة لهم من حرها {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي إِن هذا الذي قصصناه عليك يا محمد من جزاء السابقين، والسعداء، والأشقياء لهو الحقُّ الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب، وهو عين اليقين الذي لا يمكن إِنكاره {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي فنزِّه ربك عن النقص والسوء، وعمَّا يصفه به الظالمون، لما نزلت هذه الآية الكريمة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في سجودكم).


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:53 AM

سورة الحديد

بَين يَدَيْ السُّورَة
* هذه السورة الكريمة من السور المدنية، التي تعنى بالتشريع والتربية والتوجيه، وتبني المجتمع الإِسلامي على أساس العقيدة الصافية، والخلق الكريم، والتشريع الحكيم.
* وقد تناولت السورة الكريمة "سورة الحديد" ثلاثة مواضيع رئيسية وهي:
أولاً: أن الكون كله لله جل وعلا، هو خالقه ومبدعه، والمتصرف فيه بما يشاء.
ثانياً: وجوب التضحية بالنفس والنفيس لإِعزاز دين الله، ورفع منار الإِسلام.
ثالثاً: تصوير حقيقة الدنيا بما فيها من بهرج ومتاعٍ خادع حتى لا يغتر بها الإِنسان.
* ابتدأت السور الكريمة بالحديث عن عظمة الخالق جلَّ وعلا الذي سبَّح له كل ما في الكون من شجر وحجر، ومدر، وإِنسانٍ، وحيوان، وجماد، فالكل ناطق بعظمته شاهد بوحدانيته.
* ثم ذكرت صفات الله الحسنى، وأسماءه العليا، فهو الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، والظاهر بآثار مخلوقاته، والباطن الذي لا يعرف كنه حقيقته أحد، وهو الخالق للإِنسان والمدبر للأكوان.
* ثم تلتها الآيات وهي تدعو المسلمين إِلى البذل والسخاء والإِنفاق في سبيل الله بما يحقق عزة الإِسلام ورفعة شأنه، فلا بدَّ للمؤمن من الجهاد بالنفس والمال لينال السعادة في الدنيا والمثوبة في الآخرة.
* وتحدثت السورة عن أهل الإِيمان، وأهل النفاق، فالمؤمنون يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، والمنافقون يتخبطون في الظلمات، كما كانوا في الدنيا يعيشون كالبهائم في ظلمات الجهل والغي والضلال.
* وتحدثت السورة عن حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وصوّرتهما أدقَّ تصوير، فالدنيا دار الفناء، فهي زائلة فانية، كمثل الزرع الخصيب الذي ينبت بقوة بنزول الغيث، ثم يصفر ويذبل حتى يصير هشيماً وحطاماً تذروه الرياح، بينما الآخرة دار الخلود والبقاء، التي لا نصب فيها ولا تعب، ولا همَّ ولا شقاء.
* وختمت السورة الكريمة بالغاية من بعثة الرسل الكرام، والأمر بتقوى الله عز وجل، والاقتداء بهدي رسله وأنبيائه.
التسميَــة:
سميت السورة "سورة الحديد" لذكر الحديد فيها، وهو قوة الإِنسان في السلم والحرب، وعدته في البنيان والعمران، فمن الحديد تبنى الجسور الضخمة، وتشاد العمائر، وتصنع الدروع والسيوف والرماح، وتكون الدبابات والغواصات والمدافع الثقيلة إلى غير ما هنالك من منافع.
التسبيح لله، ودلائل عظمته وقدرته
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1)لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(2)هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(3)هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُمِنَالسَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(5)يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(6)}.
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}أي مجَّد اللهَ ونزَّهه عن السوء كلُّ ما في الكون من إِنسانٍ، وحيوان، ونبات قال الصاوي: والتسبيحُ تنزيهُ المولى عن كل ما لا يليق به قولاً، وفعلاً، واعتقاداً، من سبح في الأرض والماءِ إِذا ذهب وأبعد فيهما، وتسبيحُ العقلاء بلسان المقال، وتسبيح الجماد بلسان الحال أي أن ذاتها دالة على تنزيه صانعها عن كل نقص، وقيل بلسان المقال أيضاً {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وقال الخازن: تسبيحُ العقلاء تنزيهُ الله عز وجل عن كل سوء، وعما لا يليق بجلاله، وتسبيحُ غير العقلاء من ناطق وجماد اختلفوا فيه، فقيل: تسبيحه دلالته على صانعه، فكأنه ناطق بتسبيحه، وقيل: تسبيحه بالقول ويدل عليه قوله تعالى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي قولهم، والحقُّ أن التسبيح هو القولُ الذي لا يصدر إِلا من العاقل العارف بالله تعالى، وما سوى العاقل ففي تسبيحه وجهان: أحدهما: أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني: أن جميع الموجودات بأسرها منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء، فإِن حملنا التسبيح على القول كان المراد بقوله {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الملائكةُ والمؤمنون العارفون بالله، وإِن حملنا التسبيح على التسبيح المعنوي، فجميع أجزاء السماوات وما فيها من شمس، وقمر، ونجوم وغير ذلك وجميع ذرات الأرضين وما فيها من جبالٍ، وبحار، وشجر، ودواب وغير ذلك كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال عظمة الله، منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء، فإِن قيل: قد جاء في بعض فواتح السور {سَبَّحَ لِلَّهِ} بلفظ الماضي، وفي بعضها {يسبح لله} بلفظ المضارع فما المراد؟ قلت: فيه إشارة إِلى كون جميع الأشياء مسبحاً لله أبداً، غير مختص بوقتٍ دون وقت، بل هي كانت مسبحة أبداً في الماضي، وستكون مسبحة أبداً في المستقبل {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو الغالب على أمره الذي لا يمانعه ولا ينازعه شيء، الحكيمُ في أفعاله الذي لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة .. ثم ذكر تعالى عظمته وقدرته فقال {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ} أي هو جل وعلا المالك المتصرف في خلقه، يحيي من يشاء، ويُميت من يشاء قال القرطبي: يميتُ الأحياء في الدنيا، ويحيي الأموات للبعث والنشور {وهوَ على كل شيءٍ قدير} أي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولفظُ {قدير} مبالغة في القادر لأن "فعيل" من صيغ المبالغة {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} أي ليس لوجوده بداية، ولا لبقائه نهاية {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} أي الظاهرُ للعقول بالأدلة والبراهين الدالة على وجوده، الباطنُ الذي لا تدركه الأبصار، ولا تصلُ العقولُ إِلى معرفة كنه ذاته وفي الحديث (أنت الأولُ فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) قال شيخ زاده: وقد فسَّر صاحب الكشاف "الباطن" بأنه غير المدرك بالحواسِ وهو تفسير بحسب التشهي يؤيد مذهبه من استحالة رؤية الله في الآخرة، والحقُّ أنه تعالى ظاهرٌ بوجوده، باطنٌ بكنهه، وأنه تعالى جامعٌ بين الوصفين أزلاً وأبداً {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو تعالى عالمٌ بكل ذرةٍ في الكون، لا يعزب عن عمله شيء في الأرض ولا في السماء {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي خلقهما في مقدار ستة أيام ولو شاء لخلقهما بلمح البصر، وهو تحقيقٌ لعزته، وكمال قدرته، كما أن قوله {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} تحقيق لحكمته، وكمال علمه {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواءً يليق بجلاله من غير تمثيلٍ ولا تكييفٍ {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي يعلم ما يدخل في الأرض من مطر وأموات، وما يخرج منها من معادن ونبات وغير ذلك {وَمَا يَنْزِلُمِنَالسَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي وما ينزل من السماء من الأرزاق، والملائكة، والرحمة، والعذاب، وما يصعد فيها من الملائكة والأعمال الصالحة كقوله {إليه يصعد الكلِمُ الطيب} {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} أي هو جل وعلا حاضرٌ مع كل أحدٍ بعلمه وإِحاطته قال ابن عباس: هو عالمٌ بكم أينما كنتم قال ابن كثير: أي هو رقيبٌ عليكم، شهيدٌ على أعمالكم، حيث كنتم وأين كنتم، من برٍّ وبحر، في ليلٍ أو نهار، في البيوت أو القفار، الجميع في علمه على السواء، يسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سرَّكم ونجواكم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي رقيب على أعمال العباد، مطلع على كل صغيرة وكبيرة {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} كرره للتأكيد والتمهيد لإِثبات الحشر والنشر أي هو المعبود على الحقيقة، المتصرف في الخلق كيف يشاء {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي إِليه وحده مرجع أمور الخلائق في الآخرة فيجازيهم على أعمالهم {يولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي هو المتصرف في الكون كيف يشاء، يقلِّب الليل والنهار بحكمته وتقديره، ويدخل كلاً منهم في الآخر، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، وأُخرى بالعكس {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي هو العالم بالسرائر والضمائر، وما فيها من النوايا والخفايا، ومن كانت هذه صفته فلا يجوز أن يُعبد سواه.
الأمر بتوحيد الله والطاعة
{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ(7)وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(8)هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْمِنَالظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(9)وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةًمِنَالَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(10)مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ(11)يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12)}.
سبب النزول:
نزول الآية (7):
{آمِنُوا بِاللَّهِ}: نزلت في غزوة العسرة، وهي غزوة تبوك.
نزول الآية (10):
{ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ..}: ذكر الواحدي عن الكلبي: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ثم لما ذكر دلائل عظمته وقدرته، أمر بتوحيده وطاعته فقال {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي صدِّقوا بأن الله واحد وأن محمداً عبده ورسوله {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي وتصدّقوا من الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرف فيها، فهي في الحقيقة لله لا لكم قال ابن جزي: يعني أن الأموال التي بأيديكم إِنما هي أموال الله لأنه خلقها، ولكنه متَّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء فلا تمنعوها من الإِنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه، والمقصود التحريضُ على الإِنفاق والتزهيد في الدنيا ولهذا قال بعده {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} أي فالذين جمعوا بين الإِيمان الصادق والإِنفاق في سبيل الله ابتغاء وجهه الكريم لهم أجر عظيم وهو الجنة قال أبو السعود: وفي الآية من المبالغات ما لا يخفى، حيث جعل الجملة اسمية {فَالَّذِينَ آمَنُوا} وأعيد ذكرُ الإِيمان والإِنفاق {آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا} وكرر الإِسناد {لَهُمْ} وفخَّم الأجر بالتنكير ووصفه بالكبير {لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} استفهام للإِنكار والتوبيخ أي أيُّ عذرٍ لكم في ترك الإِيمان بالله؟ {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} أي والحالُ أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوكم للإِيمان بربكم وخالقكم، بالبراهين القاطعة، والحجج الدامغة {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} أي وقد أخذ الله ميثاقكم - وهو العهد المؤكد - بما ركز في العقول من الأدلة الدالة على وجود الله قال أبو السعود: وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر وقال الخازن: أخذ ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم وأعلمكم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه، وقيل: أخذ ميثاقكم حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج التي تدعو إِلى متابعة الرسول {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} شرطٌ حذف جوابه أي إِن كنتم مؤمنين في وقت من الأوقات فالآن أحرى الأوقات لقيام الحجج والبراهين عليكم .. ثم ذكر تعالى بعض الأدلة الدالة على وجوب الإِيمان فقال {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي هو تعالى الذي ينزّل على محمد القرآن العظيم، المعجز في بيانه، الواضح في أحكامه قال القرطبي: يريد بالآيات البينات القرآن وقيل: المعجزات أي لزمكم الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لما معه من المعجزات، والقرآنُ أكبرها وأعظمها {لِيُخْرِجَكُمْمِنَالظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي ليخرجكم من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي مبالغ في الرأفة والرحمة بكم، حيث أنزل الكتب وأرسل الرسل لهدايتكم، ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية {وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}؟ أيْ أيُّ شيءٍ يمنعكم من الإِنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم، وأنتم تموتون وتخلّفون أموالكم وهي صائرة إِلى الله تعالى؟ قال الإِمام الفخر الرازي: المعنى إِنكم ستموتون فتورثون، فهلاً قدمتموه في الإِنفاق في طاعة الله!! وهذا من أبلغ الحث على الإِنفاق في سبيل الله {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} أي لا يستوي في الفضل منَ أنفق ماله وقاتل الأعداء مع رسول الله قبل فتح مكة، مع من أنفق ماله وقاتل بعد فتح مكة قال المفسرون: وإِنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الإِسلام إِلى الجهاد والإِنفاق كانت أشد، ثم أعز الله الإِسلام بعد الفتح وكثَّر ناصريه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً {أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةًمِنَالَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} أي أعظم أجراً، وأرفع منزلة من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا لإِعلاء كلمة الله قال الكلبي: نزلت في "أبي بكر" لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق ماله في سبيل الله، وذبَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي وكلاً ممن آمن وأنفق قبل الفتح، ومن آمن وأنفق بعد الفتح، وعده الله الجنة مع تفاوت الدرجات {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عالمٌ بأعمالكم، مطلع على خفاياكم ونواياكم، ومجازيكم عليه، وفي الآية وعدٌ ووعيد {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله ابتغاء رضوانه {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} أي يعطيه أجره على إِنفاقه مضاعفاً {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي وله مع المضاعفة ثواب عظيم كريم وهو الجنة قال ابن كثير: أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة، ولما نزلت هذه الآية قال "أبو الدحداح الأنصاري" يا رسول الله: إِنَّ الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإِني قد أقرضت ربي حائطي - أي بستاني - وله فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه هي وعيالها، فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح قالت: لبيك، قال اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل، فقالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها .. ثم أخبر تعالى عن المؤمنين الأبرار، وما يتقدمهم من الأنوار وهم على الصراط فقال {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} أي اذكر يوم ترى أنوار المؤمنين والمؤمنات تتلألأ من أمامهم ومن جميع جهاتهم ليستضيئوا بها على الصراط، وتكون وجوههم مضيئة كإِضاءة القمر في سواد الليل {بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي ويقال لهم: أبشروا اليوم بجنات الخلد والنعيم، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي الفوز الذي لا فوز بعده لأنه سبب السعادة الأبدية، روي أن نور كل أحدٍ على قدر إِيمانه، وأنهم متفاوتون في النور، فمنهم من يضيء نوره ما قرب من قدميه، ومنهم من يُطفأ نوره مرة ويظهر مرة قال الزمخشري: وإِنما قال {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم.
حال المنافقين يوم القيامة
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ(13)يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(14)فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلامِنَالَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(15)}.
ولما شرح حال المؤمنين يوم القيامة، أتبع ذلك بشرح حال المنافقين فقال {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} أي انتظرونا لنستضيء من نوركم قال المفسرون: إِن الله تعالى يعطي المؤمنين نوراً يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويترك الكافرين والمنافقين بلا نور، فيستضيء المنافقون بنور المؤمنين، فبينما هم يمشون إِذ بعث الله فيهم ريحاً وظلمة، فبقوا في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم فيقولون للمؤمنين: انتظرونا لنستضيء بنوركم {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} أي فيقول لهم المؤمنون سخريةً واستهزاءً بهم: ارجعوا إِلى الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هناك قال أبو حيان: وقد علموا أن لا نور وارءهم، وإِنما هو إِقناطٌ لهم {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} أي فضرب بين المؤمنين والمنافقين بحاجزٍ له باب، يحجز بين أهل الجنة وأهل النار {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} أي في باطن السور الذي هو جهة المؤمنين الرحمةُ وهي الجنة، وفي ظاهره وهو جهة الكافرين العذاب وهو النارُ قال ابن كثير: هو سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين، فإِذا انتهى إِليه المؤمنون دخلوه من بابه، فإِذا استكملوا دخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي ينادي المنافقون المؤمنين: ألم نكن معكم في الدنيا، نصلي كما تصلون، ونصوم كما تصومون، ونحضر الجمعة والجماعات، ونقاتل معكم في الغزوات؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي قال لهم المؤمنون: نعم كنتم معنا في الظاهر ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق {وَتَرَبَّصْتُمْ} أي انتظرتم بالمؤمنين الدوائر {وَارْتَبْتُمْ} أي شككتم في أمر الدين {وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ } أي خدعتكم الأماني الفارغة بسعة رحمة الله {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} أي حتى جاءكم الموتُ {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي وخدعكم الشيطان الماكر بقوله: إن الله عفو كريم لا يعذبكم قال قتادة: ما زالوا على خُدعةٍ من الشيطان حتى قذفهم الله في نار جهنم قال المفسرون: الغرور بفتح الغين الشيطان لأنه يغر ويخدع الإِنسان قال تعالى {فلا تغرنكم الحياةُ الدنيا ولا يَغرنكم بالله الغرور، إِنَّ الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً} {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلامِنَالَّذِينَ كَفَرُوا} أي ففي هذا اليوم العصيب لا يقبل منكم بدلٌ ولا عوضٌ يا معشر المنافقين، ولا من الكافرين الجاحدين بالله وآياته وفي الحديث (إن الله تعالى يقول للكافر: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار ؟! فيقول : نعم يا ربّ، فيقول الله تبارك وتعالى: قد سألتك ما هو أيسرُ من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم،أن لا تشرك بي فأبيتَ إِلا الشرك) {مَأْوَاكُمْ النَّارُ} أي مقامكم ومنزلكم نار جهنم {هِيَ مَوْلاكُمْ} أي هي عونكم وسندكم وناصركم لا ناصر لكم غيرها، وهو تهكم بهم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي وبئس المرجع والمنقلب نار جهنم.
الدعوة إلى الرجوع لله عز وجل، وجزاء المتصدقين والمؤمنين
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَمِنَالْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(16)اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(17)إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ(18)وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(19)}.
سبب النزول:
نزول الآية (16):
{أَلَمْ يَأْنِ ..}: أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عبد العزيز بن أي رواد: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك، فنزلت : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} أي أما حان للمؤمنين أن ترقَّ قلوبهم وتلين لمواعظ الله؟ {وَمَا نَزَلَمِنَالْحَقِّ} أي وما نزل من آيات القرآن المبين؟ {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} أي ولا يكونوا كاليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإِنجيل {فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي فطال عليهم الزمن الذي بينهم وبين أنبيائهم، حتى صلبت قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة قال ابن عباس: {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} مالوا إِلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ القرآن وقال أبو حيان: أي صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعة والغرض أن الله يحذّر المؤمنين أن يكونوا مع القرآن كاليهود والنصارى حيث قست لما طال عليهم الزمان {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي وكثير من أهل الكتاب خارجون عن طاعة الله، رافضون لتعاليم دينهم، من فرط قسوة القلب قال ابن كثير: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الزمن بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، ونبذوه وراء ظهورهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي اعلموا يا معشر المؤمنين أن الله يحيي الأرض القاحلة المجدبة بالمطر، ويخرج منها النبات بعد يبسها، وهو تمثيل لإِحياء القلوب القاسية بالذكر وتلاوة القرآن، كما تحيا الأرض المجدبة بالغيث . قال ابن عباس: يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها مخبتةً منيبة، وكذلك يحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة قال أبو حيّان: ويظهر أنه تمثيلٌ لتليين القلوب بعد قسوتها، ولتأثير ذكر الله فيها، فكما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إِجدابها مخصبة، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلةً يظهر فيها أثر الخشوع والطاعات {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ} أي وضحنا لكم الحجج والبراهين الدالة على كمال قدرتنا ووحدانيتنا {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تعقلوا وتتدبروا ما أنزل الله في القرآن {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي الذين تصدقوا بأموالهم على الفقراء ابتغاء وجه الله، والذين أنفقوا في سبيل الله وفي وجوه البر والإِحسان طيبة بها نفوسهم {يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي يضاعف لهم ثوابهم بأن تكتب الحسنة بعشر أمثالها، ولهم فوق ذلك ثواب حسن جزيل وهو الجنة قال المفسرون: أصل {الْمُصَّدِّقِينَ} المتصدقين أدغمت التاء في الصاد فصارت المصدّقين، ومعنى القرض الحسن هو التصدق عن طيب النفس، وخلوص النية للفقير، فكأن الإِنسان بإِحسانه إِلى الفقير قد أقرض اللهَ قرضاً يستحق عليه الوفاء في دار الجزاء {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي صدَّقوا بوحدانية الله ووجوده، وآمنوا برسله إِيماناً راسخاً كاملاً، لا يخالجه شك ولا ارتياب {أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي أولئك الموصوفون بالإِيمان بالله ورسله، هم الذين جمعوا أعلى المراتب فحازوا درجة الصديقية والشهادة في سبيل الله قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صدِّيقٌ وشهيد {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي لهم في الآخرة الثواب الجزيل، والنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي والذين جحدوا بوحدانية الله وكذبوا بآياته أولئك هم المخلدون في دار الجحيم قال البيضاوي: فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار، من حيث إن الصيغة تشعر بالاختصاص {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} والصحبة تدل على الملازمة ..
تحقير حال الدنيا، والحث على عمل الآخرة
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌمِنَاللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ(20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(21)}
ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا وكمال حال الآخرة فقال {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} أي اعلموا يا معشر السامعين أن هذه الحياة الدنيا ما هي إِلا لعبٌ يُتعب الناس فيها أنفسهم كإِتعاب الصبيان أنفسهم باللعب {وَلَهْوٌ} أي وشغل للإِنسان يشغله عن الآخرة وطاعة الله {وَزِينَةٌ} أي وزينة يتزين بها الجهلاء كالملابس الحسنة، والمراكب البهية، والمنازل الرفيعة {وَتَفَاخُرٌ بَيْنكُمْ} أي ومباهاة وافتخار بالأحساب والأنساب والمال والولد كما قال القائل:
أرى أهل القُصور إِذا أُميتوا بنوا فوق المقابر بالصــخور
أبوا إلا مباهـاةً وفــخراً على الفقراء حتى في القبــور
{وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} أي مباهاة بكثرة الأموال والأولاد قال ابن عباس: يجمع المال من سخط الله، ويتباهى به على أولياء الله، ويصرفه في مساخط الله، فهو ظلماتٌ بعضها فوق بعض {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أي كمثل مطرٍ غزير أصاب أرضاً، فأعجب الزُرَّاع نباتُه الناشئ عنه {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} أي ثم ييبس بعد خضرته ونُضرته فتراه مصفر اللون بعد أن كان زاهياً ناضراً {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} أي ثم يتحطم ويتكسر بعد يبسه وجفافه فيصبح هشيماً تذروه الرياح كذلك حال الدنيا قال القرطبي: والمراد بالكفار هنا الزُرَّاع لأنه يغطون البذر، ومعنى الآية أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إِليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشماً كأن لم يكن، وإِذا أعجب الزراع فهو في غاية الحسن {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌمِنَاللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أي والجزاء في الآخرة إِما عذاب شديد للفجار، وإِما مغفرة من الله ورضوانٌ للأبرار {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي وليست الحياة الدنيا في حقارتها وسرعة انقضائها إِلا متاعٌ زائل، ينخدع بها الغافل، ويغتر بها الجاهل قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغُرور إِن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إِذا دعتك إِلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة، فنعم المتاع ونعم الوسيلة .. ولما حقَّر الدنيا وصغَّر أمرها، وعظَّم الآخرة وفخَّم شأنها، حثَّ على المسارعة إِلى نيل مرضاة الله، التي هي سبب للسعادة الأبدية في دار الخلود والجزاء فقال {سَابِقُوا إِلَى مَغفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي تسابقوا أيها الناس وسارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم قال أبو حيان: وجاء التعبير بلفظ {سَابِقُوا} كأنهم في ميدان سباق يجرون إِلى غاية مسابقين إِليها، والمعنى سابقوا إِلى سبب مغفرة وهو الإِيمان، وعملُ الطاعات {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي وسارعوا إِلى جنةٍ واسعة فسيحة، عرضها كعرض السماوات السبع مع الأرض مجتمعة قال السدي: إِن الله تعالى شبَّه عرض الجنة بعرض السماوات السبع والأرضين السبع، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها، فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك وقال البيضاوي: إِذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول، {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي هيأها الله وأعدها للمؤمنين المصدّقين بالله ورسله قال المفسرون: وفي الآية دلالة على أن الجنة مخلوقة وموجودة لأن ما لم يُخلق بعد لا يوصف بأنه أُعدَّ وهُيءَ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي ذلك الموعود به من المغفرة والجنة هو عطاء الله الواسع، يتفضل به على من يشاء من عباده من غير إِيجاب {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي ذو العطاء الواسع والإِحسان الجليل.
تعلق المصائب بالقضاء والقدر، وحال البخلاء
الْحَمِيدُ(24)}

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} أي ما يحدث في الأرض من المصائب كقحطٍ، وزلزلةٍ، وعاهة في الزروع، ونقصٍ في الثمار {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} أي من الأمراض، والفقر، وذهاب الأولاد {إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي إلاَّ وهي مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن نخلقها ونوجدها قال ابن جزي: المعنى أن الأمور كلها مقدَّرة في الأزل، مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن تكون، وفي الحديث (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء) {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي إن إثبات ذلك على كثرته سهلٌ هيّنٌ على الله عز وجل وإِن كان عسيراً على العباد .. ثم بيَّن تعالى لنا الحكمة في إِعلامنا عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر فقال {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي أثبت وكتب ذلك كي لا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم الدنيا {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} أي ولكي لا تبطروا بما أعطاكم الله من زهرة الدنيا ونعيمها قال المفسرون: والمراد بالحزن الحزنُ الذي يوجب القنوط، وبالفرح الفرحُ الذي يورث الأشر والبطر، ولهذا قال ابن عباس: "ليس من أحدٍ إِلا وهو يحزن ويفرح، ولكنَّ المؤمن يجعل مصيبته صبراً، وغنيمته شكراً" ومعنى الآية: لا تحزنوا حزناً يخرجكم إِلى أن تهلكوا أنفسكم، ولا تفرحوا فرحاً شديداً يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا، ولهذا قال بعض العارفين "من عرف سرَّ الله في القدر هانت عليه المصائب" وقال عمر رضي الله عنه: "ما أصابتني مصيبة إِلا وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى: أنها لم تكن في ديني، الثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة: أن الله يعطي عليها الثواب العظيم والأجر الكبير {وبشر الصابرين * الذين إِذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا للهِ وإِنَّا إِليه راجعون * أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون} {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي لا يحب كل متكبر معجبٍ بما أعطاه الله من حظوظ الدنيا، فخور به على الناس .. ثم بيَّن تعالى أوصاف هؤلاء المذمومين فقال {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي يبخلون بالإِنفاق في سبيل الله، ولا يكفيهم ذلك حتى يأمروا الناس بالبخل ويرغبوهم في الإِمساك {وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي ومن يعرض عن الإِنفاق {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي فإِن الله مستغنٍ عنه وعن إِنفاقه، محمودٌ في ذاته وصفاته، لا يضره الإِعراض عن شكره، ولا تنفعه طاعة الطائعين، وفيه وعيدٌ وتهديد.
بعث الله الرسل لإقامة شرعه حكماً بين الناس
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد بعثنا رسلنا بالحجج القواطع والمعجزات البينات {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} أي وأنزلنا معهم الكتب السماوية التي فيها سعادة البشرية، وأنزلنا القانون الذي يُحكم به بين الناس، وفسَّر بعضهم الميزان بأنه العدلُ، وقال ابن زيد: هو ما يُوزن به ويُتعامل {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي ليقوم الناس بالحق والعدل في معاملاتهم {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي وخلقنا وأوجدنا الحديد فيه بأس شديد، لأن آلات الحرب تُتخذ منه، كالدروع، والرماح، والتروس، والدبابات وغير ذلك {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي وفيه منافع كثيرة للناس كسكك الحراثة، والسكين، والفأس وغير ذلك وما من صناعة إِلا والحديدُ آلة فيها، قال أبو حيان: وعبَّر تعالى عن إِيجاده بالإِنزال كما قال {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} لأن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تُلقى من السماء جعل الكل نزولاً منها، وأراد بالحديد جنسه من المعادن قاله الجمهور {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} عطفٌ على محذوف مقدر أي وأنزلنا الحديد ليقاتل به المؤمنون أعداءهم ويجاهدوا لإِعلاء كلمة الله، وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف والرماح وسائر الأسلحة مؤمناً بالغيب، قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه، ثم قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي قادر على الانتقام من أعدائه بنفسه، عزيزٌ أي غالب لا يُغالب فهو غني بقدرته وعزته عن كل أحد، قال البيضاوي: أي قويٌ على إِهلاك من أراد إِهلاكه، عزيزٌ لا يفتقر إِلى نصرة أحد، وإِنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا الثواب، وقال ابن كثير: معنى الآية أنه جعل الحديد رادعاً لمن أبى الحقَّ وعانده بعد قيام الحجة عليه، ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة تُوحى إِليه السور، ويقارعهم بالحجة والبرهان، فلما قامت الحجة على من خالف أمر الله، شرع الله الهجرة وأمر المؤمنين بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب، ولهذا قال عليه السلام (بُعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجُعل رزقي تحت ظل رُمحي، وجعل الذل والصَّغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم) ثم قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو قوي عزيز ينصر من شاء من غير احتياج منه إِلى الناس، وإِنما شرع الجهاد ليبلو بعضهم ببعض.
وحدة الشرائع في أصولها
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(26)ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(27)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(28) لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(29)}
سبب النزول:
نزول الآية (28):
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما نزلت: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} الآية [القصص: 54] فَخَر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لنا أجران، ولكم أجر، فاشتد ذلك على الصحابة، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} الآية، فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب، وزادهم النور.
نزول الآية (29):
{لِّئَلا يَعْلَمَ..}: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: بلغنا أنه لما نزلت: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله: {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الآية.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} لما ذكر بعثة الرسل ذكر هنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام، وأبا الأنبياء إِبراهيم عليه السلام وبيَّن أنه جعل في نسلهما النبوة والكتب السماوية أي وباللهِ لقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم وجعلنا النبوة في نسلهما، كما أنزلنا الكتب الأربعة وهي "التوراة والزبور والإِنجيل والقرآن" على ذريتهما، وإِنما خصَّ نوحاً وإِبراهيم بالذكر تشريفاً لهما وتخليداً لمآثرهما الحميدة {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي فمن ذرية نوح وإِبراهيم أناس مهتدون، وكثيرٌ منهم عصاةٌ خارجون عن الطاعة وعن الطريق المستقيم {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا} أي ثم أتبعنا بعدهم برسلنا الكرام، أرسلناهم رسولاً بعد رسول، موسى، وإِلياس، وداود، وسليمان، ويونس وغيرهم {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي وجعلناه بعد أولئك الرسل لأنه كان آخر الأنبياء من بني إِسرائيل {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} أي وأنزلنا عليه الإِنجيل الذي فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي وجعلنا في قلوب أتباعه الحواريين الشفقة واللين، قال ابن جزي: هذا ثناء من الله عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف تعالى أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم {رحماء بينهم} {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي ورهبانيةً ابتدعها القسسُ والرهبان وأحدثوها من تلقاء أنفسهم، ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها، قال أبو حيان: والرهبانيةُ رفضُ النساء وشهوات الدنيا، واتخاذ الصوامع ومعنى {ابْتَدَعُوهَا}أي أحدثوها من عند أنفسهم {إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} أي ما أمرناهم إِلا بما يرضي الله، والاستثناء منقطع ولا معنى ما كتبنا عليهم الرهبانية، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتهَا} أي فما قاموا بها حقَّ القيام، ولا حافظوا عليها كما ينبغي، قال ابن كثير: وهذا ذمٌ لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به اللهُ والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم إِلى الله عز وجل، وفي الحديث (لكل أمة رهبانية، ورهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله) {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} أي فأعطينا الصالحين من أتباع عيسى الذين ثبتوا على العهد وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ثوابهم مضاعفاً {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي وكثير من النصارى خارجون عن حدود الطاعة منتهكون لمحارم الله كقوله تعالى {إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} أي يا من صدقتم بالله اتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ودوموا واثبتوا على الإِيمان {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي يعطكم ضعفين من رحمته {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} أي ويجعل لكم في الآخرة نوراً تمشون به على الصراط {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي ويغفر لكم ما أسلفتم من المعاصي {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي إِنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بهم، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة فيهم، فلا في قوله {لِّئَلا} زائدة والمعنى ليعلم، قال المفسرون: إن أهل الكتاب كانوا يقولون الوحي والرسالة فينا، والكتابُ والشرع ليس إِلا لنا، والله خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين، فردّ الله عليهم بهذه الآية الكريمة {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي وأن أمر النبوة والهداية والإِيمان بيد الرحمن يعطيه لمن يشاء من خلقه {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي والله واسع الفضل والإِحسان.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:54 AM

سورة المجادلة


بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة المجادلة مدنية، وقد تناولت أحكاماً تشريعية كثيرة كأحكام الظهار، والكفارة التي تجب على المظاهر، وحكم التناجي، وآداب المجالس، وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم مودة أعداء الله، إِلى غير ذلك، كما تحدثت عن المنافقين وعن اليهود.
* ابتدأت السورة الكريمة ببيان قصة المجادلة "خولة بنت ثعلبة" التي ظاهر منها زوجها - على عادة أهل الجاهلية في تحريم الزوجة بالظهار - وقد جاءت تلك المرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو ظلم زوجها لها وقالت يا رسول الله: "أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني حتى إِذا كبرتْ سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني" ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: ما أُراك إِلا قد حرمت عليه، فكانت تجادله وتقول: يا رسول الله، ما طلقني ولكنه ظاهر مني، فيرد عليها قوله السابق، ثم قالت: اللهم إني أشكو إِليك، فاستجاب الله دعاءها، وفرَّج كربتها وشكواها {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ..} الآيات.
* ثم تناولت حكم كفارة الظهار {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًامِنَالْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ..} الآيات.
* ثم تحدثت عن موضوع التناجي، وهو الكلام سراً بين اثنين فأكثر، وقد كان هذا من دأب اليهود والمنافقين لإِيذاء المؤمنين، فبينت حكمه وحذَّرت المؤمنين من عواقبه {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ..} الآيات.
* وتحدثت السورة عن اليهود اللعناء، الذين كانوا يحضرون مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فيحيونه بتحية ملغوزة، ظاهرها التحية والسلام، وباطنها الشتيمة والمسبَّة كقولهم: السامُ عليك يا محمد يعنون الموت {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}.
* وتناولت السورة الحديث عن المنافقين بشيءٍ من الإِسهاب، فقد اتخذوا اليهود أصدقاء، يحبونهم ويوالونهم وينقلون إِليهم أسرار المؤمنين، فكشفت الستار عن هؤلاء المذبذبين وفضحتهم {ألم تر إِلى الذين تولَّوا قوماً غضب الله عليهم ..} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة ببيان حقيقة الحب في الله، والبغض في الله، الذي هو أصل الإِيمان وأوثق عرى الدين، ولا بدَّ في اكتمال الإِيمان من معاداة أعداء الله {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادَّ الله ورسوله، ولو كانواءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإِيمان ..} إِلى آخر السورة الكريمة.
حكم الظهار وكفارته
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(1)الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًامِنَالْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(2)وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(3)فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(4)}
سبب النزول:
نزول الآية (1) وما بعدها:
{قَدْ سَمِعَ.. }: أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: يا رسول الله، أكَلَ شبابي، ونَثَرت له بطني، حتى إذا كَبِرت سِنّي وانقطع ولدي، ظاهرَ مني، اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} وهو أوس بن الصامت.
وأخرج الإمام أحمد والبخاري في كتاب التوحيد تعليقاً عن عائشة قالت: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا..} الآية".
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} "قد" لا تدخل إِلا على الأفعال، وإِذا دخلت على الماضي أفادت التحقيق، وإِذا دخلت على المضارع أفادت التقليل كقولك: قد يجودُ البخيلُ، وقد ينزل المطر والمعنى: حقاً لقد سمع الله قول المرأة التي تراجعك وتحاورك في شأن زوجها قال الزمخشري: ومعنى سماعه تعالى لقولها إِجابة دعائها، لا مجرد علمه تعالى بذلك، وهو كقول المصلي: سمع اللهُ لمن حمده {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} أي وتتضرع إِلى الله تعالى في تفريج كربتها {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أي والله جل وعلا يسمع حديثكما ومراجعتكما الكلام، ماذا قالت لك وماذا رددت عليها {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع بمن يناجيه ويتضرع إِليه، بصير بأعمال العباد، وهو كالتعليل لما قبله، وكلاهما من صيغ المبالغة أي مبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات .. ثم ذمَّ تعالى الظهار وبيَّن حكمه وجزاء فاعله فقال {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} أي الذين يقولون لنسائهم: أنتن كظهور أمهاتنا يقصدون بذلك تحريمهن عليهم كتحريم أمهاتهن، لسن في الحقيقة أمهاتهم وإِنما هنَّ زوجاتهم قال الإِمام الفخر الرازي: الظهار هو عبارة عن قول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، يقصد عُلُوّي عليك حرامٌ كعلوي على أمي، والعربُ تقول في الطلاق: نزلتُ عن امرأتي أي طلقتها، فغرضهم من هذه اللفظة تحريم معاشرتها تشبيهاً بالأم وقوله: {منكم} توبيخٌ للعرب وتهجينٌ لعادتهم في الظهار لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصةً دون سائر الأمم {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ} أي ما أمهاتهم في الحقيقة إلا الوالدات اللاتي ولدنهم من بطونهن وفي المثل "ولدك من دمَّى عقبيك" وهو تأكيد لقوله {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} زيادة في التوضيح والبيان {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًامِنَالْقَوْلِ وَزُورًا} أي والحال أِن هؤلاء المظاهرين ليقولون كلاماً منكراً تنكره الحقيقة وينكره الشرع، وهو كذبٌ وزورٌ وبهتان {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغ في العفو والمغفرة لمن تاب وأناب قال ابن جزي: أخبر تعالى أن الظهار منكر وزور، فالمنكر هو الذي لا تعرف له حقيقة، والزور هو الكذب، وإِنما جعله كذباً لأن المظاهر يجعل امرأته كأمه، وهي لا تصير كذلك أبداً والظهار محرم ويدل على تحريمه أربعة أشياء: أحدها: قوله: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} فإِن ذلك تكذيب للمظاهر والثاني: أنه سمَّاه منكراً والثالث: أنه سماه زوراً والرابع: قوله تعالى {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} فإِنَّ العفو والمغفرة لا تقع إِلا عن ذنب، والذنب مع ذلك لازمٌ للمظاهر حتى يرفعه بالكفارة .. ثم بيَّن تعالى طريق الكفارة عن هذا القول الشنيع فقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} أي يظاهرون من زوجاتهم بتشبيههنَّ بالأمهات {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أي يعودون عمَّا قالوا، ويندمون على ما فرط منهم، ويرغبون في إِعادة أزواجهم إِليهم {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي فعليهم إِعتاقُ رقبةٍ - عبداً كان أو أمةً - من قبل أن يعاشر زوجته التي ظاهر منها أو يجامعها، والتَّماسُّ كنايةٌ عن الجماع ودواعيه من التقبيل واللمس عند الجمهور قال الخازن: المرادُ من التماسِّ المجامعةُ فلا يحل للمظاهر وطءُ امرأته التي ظاهر منها ما لم يُكفِّر وقال القرطبي: لا يجوز للمظاهر الوطءُ قبل التكفير، فإِن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير، وعن مجاهد تلزمه كفارتان {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي ذلكم هو حكم الله فيمن ظاهر ليتعظ به المؤمنون، حتى تتركوا الظهار ولا تعودوا إليه {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عالم بظواهر الأمور وبواطنها ومجازيكم بها، فحافظوا على حدود ما شرع لكم من الأحكام {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي فمن لم يجد الرقبة التي يعتقها فعليه صيام شهرين متواليين من قبل الجماع قال المفسرون: لو أفطر يوماً منها انقطع التتابع ووجب عليه أن يستأنفها {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} أي فمن لم يستطع الصيام لكبرٍ أو مرض، فعليه أن يُطعم ستين مسكيناً ما يشبعهم {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي ذلك الذي بيناه من أحكام الظهار من أجل أن تصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي وتلك هي أوامرُ الله وحدوده فلا تعتدوها {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وللجاحدين والمكذبين بهذه الحدود عذاب مؤلم موجع قال الألوسي: أطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظاً وزجراً ..
وعيد الله للمخالفين له ولرسوله صلى لله عليه وسلم
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَاءاياتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ(5)يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(6)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(7)}
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ} ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده، ذكر المحادين المخالفين لها فقال {اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يخالفون أمر الله ورسوله، ويعادون الله ورسوله قال أبو السعود: أي يعادونهما ويشاقونهما لأن كلاً من المتعاديين في حدٍّ وجهة غير حدِّ الآخر وجهته، وإِنما ذكرت المحادَّة هنا دون المعاداة والمشاقّة لمناسبة ذكر "حدود الله" فكان بينهما من حسن الموقع ما لا غاية وراءه {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي خُذلوا وأهينوا كما خُذل من قبلهم من المنافقين والكفار الذي حادُّوا الله ورسله وأُذلوا وأُهينوا {وَقَدْ أَنْزَلْنَاءاياتٍ بَيِّنَاتٍ} أي والحال أنا قد أنزلناءاياتٍ واضحات، فيها الحلال والحرام، والفرائض والأحكام {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي وللكافرين الذين جحدوها ولم يعملوا بها عذاب شديد يهينهم ويذهب عزَّهم قال الصاوي: وقد نزلت هذه الآية في كفار مكة يوم الأحزاب حين أرادوا التحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقصودُ بها تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشارته مع المؤمنين بأن أعداءهم المتحزبين سيذلون ويخذلون ويفرق جمعهم فلا تخشوا بأسهم {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي اذكر ذلك اليوم الرهيب حين يحشر الله المجرمين كلهم في صعيد واحد {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} أي فيخبرهم بما ارتكبوا في الدنيا من جرائم وآثام {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنسوهُ} أي ضبطه الله وحفظه عليهم في صحائف أعمالهم، بينما هم نسوا تلك الجرائم لاعتقادهم أن لا حساب ولا جزاء {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي وهو جل وعلا مطَّلع وناظر لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه شيء .. ثم بيَّن تعالى سعة علمه، وإِحاطته بجميع الأشياء، وأنه تعالى يرى الخلق ويسمع كلامهم ويرى مكانهم حيث كانوا وأين كانوا فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} أي ألم تعلم أيها السامع العاقل أن الله مطَّلع على كل ذرةٍ في الكون، لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى عليه سرٌّ ولا علانية، وما يقع من حديثٍ وسرٍّ بين ثلاثة أشخاص إِلا كان الله رابعهم بعلمه ومشاركاً لهم فيما يتحدثون ويتهامسون به في خفية عن الناس. {وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ} أي ولا تقع مناجاةٌ وحديث بالسر بين خمسة أشخاص إِلا كان الله معهم بعلمه حتى يكون هو سادسهم {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} أي ولا أقلَّ من ذلك العدد ولا أكثر منه إِلاّ واللهُ معهم يعلم ما يجري بينهم من حديثٍ ونجوى، والغرض: أنه تعالى حاضر مع عباده، مطَّلع على أحوالهم وأعمالهم، وما تهجس به أفئدتهم، لا يخفى عليه شيء من أمور العباد، ولهذا ختم الآية بقوله {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي ثم يخبرهم تعالى عما عملوا من حسن وسيء ويجازيهم عليه يوم القيامة، لأنه عالم بكل شيء من الأشياء قال المفسرون: ابتدأ الله هذه الآيات بالعلم بقوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ } واختتمها بالعلم بقوله {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لينبه إِلى إحاطة علمه وجل وعلا بالجزئيات والكليات، وأنه لا يغيب عنه شيء في الكائنات لأنه قد أحاط بكل شيء علماً، قال ابن كثير: وقد حكى غير واحد الإِجماع على أن المراد بالمعية في هذه الآية {إِلا هُوَ مَعَهُمْ} معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك، فسمعه مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه مطَّلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء ..
أحوال اليهود والمنافقين، وآداب المناجاة
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواعَنِالنَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ(8)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(9)إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(10)}
سبب النزول:
نزول الآية (8):
{ألم تر ...}: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيَّان قال: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من الصحابة، جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكرهه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى، فلم ينتهوا، فأنزل الله: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} الآية.
نزول قوله تعالى: {وإذا جاؤوك حيّوك بما لم يحيِّك به الله}:
عن عائشة قالت: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ، يا عائشة، فإن الله تعالى لا يحبّ الفحش ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله، ألستُ أدري ما يقولون؟ قال: ألستِ ترين أردّ عليهم ما يقولون؟ أقول: وعليكم، ونزلت هذه الآية في ذلك: {وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيِّك به الله}.
نزول الآية (10):
{إنما النجوى من الشيطان}: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كان المنافقون يتناجون بينهم، وكان ذلك يغيظ المؤمنين، ويكبر عليهم، فأنزل الله: {إنما النجوى من الشيطان} الآية.
ثم أخبر تعالى عن أحوال اليهود والمنافقين فقال : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواعَنِالنَّجْوَى} قال القرطبي: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فشكوا ذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} أي ثم يرجعون إِلى المناجاة التي نهُوا عنها قال أبو السعود: والهمزة {أَلَمْ تَرَ } للتعجيب من حالهم، وصيغة المضارع {ثُمَّ يَعُودُونَ} للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} أي ويتحدثون فيما بينهم بما هو إِثم وعدوان ومخالفة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأن حديثهم يدور حول المكر والكيد بالمسلمين، قال أبو حيان: بدأ بالإِثم لعمومه، ثم بالعُدوان لعظمته في النفوس إِذ هي ظُلامات العباد، ثم ترقَّى إِلى ما هو أعظم وهو معصية الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي هذا طعنٌ على المنافقين إِذ كان تناجيهم في ذلك {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} أي وإِذا حضروا عندك يا محمد حيَّوك بتحيةٍ ظالمةٍ لم يشرعها الله ولم يأذن فيها، وهي قولهم "السامُ عليكم" أي الموت عليكم قال المفسرون: كان اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: السامُ عليكم بدلاً من السلام عليكم، والسامُ الموتُ وهو ما أرادوه بقولهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: وعليكم لا يزيد عليها، فسمعتهم عائشة يوماً فقالت: بل عليكم السامُ واللعنة، فلما انصرفوا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة، إِن الله يكره الفُحش والتفحش فقالت يا رسول الله: أما سمعتَ ما قالوا؟ فقال لها إني قلت لهم: أما سمعتِ ما قلت لهم: وعليكم، فيستجيب الله لي فيهم، ولا يتسجيب لهم فيَّ {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} أي ويقولون فيما بينهم: هلاَّ يعذبنا الله بهذا القول لو كان محمد نبياً؟ فلو كان نبياً حقاً لعذبنا الله على هذا الكلام قال تعالى رداً عليهم {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} أي يكفيهم عذاباً أن يدخلوا نار جهنم ويصلوا حرها {فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئست جهنم مرجعاً ومستقراً لهم، قال ابن العربي: كانوا يقولون: لو كان محمد نبياً لما أمهلنا الله بسبّه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليمٌ لا يعاجل العقوبة لمن سبَّه فكيف بمن سبَّ نبيه!! وقد ثبت في الصحيح: "لا أحد أصبر على الأذى من الله، يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم" فأنزل الله تعالى هذا كشفاً لسرائرهم، وفضحاً لبواطنهم، وتكريماً لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأما إمهالهم في الدنيا فمن كراماته صلى الله عليه وسلم على ربه لكونه بعث رحمةً للعالمين .. ثم نهى تعالى المؤمنين عن التناجي بما هو إِثم ومعصية فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} أي إذا تحدثتم فيما بينكم سراً فلا تتحدثوا بما فيه إثم كالقبيح من القول، أو بما هو عدوان على الغير أو مخالفة ومعصية لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} أي وتحدثوا بما فيه خيرٌ وطاعة وإِحسان، قال القرطبي: نهى تعالى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود، وأمرهم أن يتناجوا بالطاعة والتقوى والعفاف عما نهى الله عنه {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وخافوا الله بامتثالكم أوامره واجتنابكم نواهيه، الذي سيجمعكم للحساب، ويجازي كلاً بعمله {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي ليست النجوى بالإِثم والعدوان إِلا من تزيين الشيطان، ليُدخل بها الحزن على المؤمنين، قال ابن كثير: أي إنما يصدر هذا من المتناجين عن تزيين الشيطان وتسويله {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي وليس هذا التناجي بضارٍ للمؤمنين شيئاً إِلا بمشيئة الله وإِرادته {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي وعلى الله وحده فليعتمد ولْيثق المؤمنون، ولا يبالوا بنجوى المنافقين فإِن الله يعصمهم من شرهم وكيدهم، وفي الحديث (إِذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإِن ذلك يحزنه).


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:55 AM

أدب المجالس في الإسلام
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نداءٌ من الله تعالى للمؤمنين بأكرم وصفٍ وألطف عبارة أي يا من صدَّقتم الله ورسوله وتحليتم بالإِيمان الذي هو زينة الإِنسان {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} أي إِذا قال لكم أحد توسعوا في المجالس - سواءً كان مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره من المجالس - فتوسعوا وافسحوا له {يفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} أي يوسِّع لكم ربكم في رحمته وجنته، قال مجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فأُمروا أن يفسح بعضهم لبعض، قال الخازن: أمر الله المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم ليتساوى الناس في الأخذ من حظهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث (لا يقيمنَّ أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكنْ توسَّعوا وتفسَّحوا يفسح اللهُ لكم) قال الإِمام الفخر الرازي: وقوله {يفسِح الله لكم} مطلقٌ في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه في المكان، والرزق، والصدر، والقبر، والجنة، واعلم أن الآية دلت على أن كل من وسَّع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسَّع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة وفي الحديث (لا يزال الله في عون العبد ما زال العبد في عون أخيه) {وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} أي وإِذا قيل لكم أيها المؤمنون انهضوا من المجلس وقوموا لتوسّعوا لغيركم فارتفعوا منه وقوموا، قال ابن عباس: معناه إِذا قيل لكم ارتفعوا فارتفعوا، قال أبو حيّان: أُمروا أولاً بالتفسح في المجلس، ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إِذا أُمروا، وألا يجدوا في ذلك غضاضة {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله، والعالمين منهم خاصة أعلى المراتب، ويمنحهم أعلى الدرجات الرفيعة في الجنة، قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية ثم قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم فإِن الله يقول يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليس بعالم درجات، وقال القرطبي: بيّن في هذه الآية أن الرفعة عند الله بالعلم والإِيمان، لا بالسبق إِلى صدور المجالس، وفي الحديث (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) وعنه صلى الله عليه وسلم "يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء" فأَعْظِمْ بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي خبير بمن يستحق الفضل والثواب ممن لا يستحقه.
الأمر بتقديم الصدقة قبل مساررة الرسول صلى الله عليه وسلم
سبب نزول الآيتين (12، 13):
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقّوا عليه، فأراد أن يخفف عن نبيه، فأنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} فلما نزلت، صبر كثير من الناس، وكفُّوا عن المسألة، فأنزل الله بعد ذلك: {أَأَشْفَقْتُمْ} الآية.
وأخرج الترمذي وحسَّنه، وغيره عن علي قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى، دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الآية، فبي خفف الله عن هذه الأمة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} أي إِذا أردتم محادثته سراً {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} أي فقدموا قبلها صدقة تصدَّقوا بها على الفقراء، قال الألوسي: وفي هذا الأمر تعظيم لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم، ونفعٌ للفقراء، وتمييزٌ بين المخلص والمنافق، وبين محب الدنيا ومحب الآخرة {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي تقديم الصدقات قبل مناجاته أفضل لكم عند الله لما فيه من امتثال أمر الله، وأطهر لذنوبكم {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فإِن لم تجدوا ما تتصدقون به فإِن الله يسامحكم ويعفو عنكم، لأنه لم يكلف بذلك إِلا القادر منكم {ءأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} عتابٌ للمؤمنين رقيقٌ رفيق أي أخفتم أيها المؤمنون الفقر إِذا تصدقتم قبل مناجاتكم للرسول صلى الله عليه وسلم؟ والغرضُ: لا تخافوا فإِن الله يرزقكم لأنه غني بيده خزائن السماوات والأرض، وهو عتاب لطيف كما بينا، ثم نسخ تعالى الحكم تيسيراً على المؤمنين فقال {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي فإِذا لم تفعلوا ما أُمرتم به وشقَّ ذلك عليكم، وعفا الله عنكم بأن رخَّص لكم مناجاته من غير تقديم صدقة {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي فاكتفوا بالمحافظة على الصلاة ودفع الزكاة المفروضة {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في جميع أحوالكم {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي محيطٌ بأعمالكم ونياتكم، قال المفسرون: نسخ الله في ذلك تخفيفاً على العباد حتى، قال ابن عباس: ما كان ذلك إِلا ساعةً من نهار ثم نسخ، قال القرطبي: نسختْ فرضيةُ الزكاة هذه الصدقة، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: "آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا بعدي، كان عندي دينار فتصدقت به ثم ناجيت الرسول صلى الله عليه وسلم الخ فضعيفٌ: لأن الله تعالى قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا}وهذا يدل على أن أحداً لم يتصدق بشيء.
المنافقون الموالون غير المؤمنين
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(14)أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(15)اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(16)لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(17)يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ(18)اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ(19)}.
سبب النزول:
نزول الآية (14):
{أَلَمْ تَرَ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن السدي ومقاتل في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا} الآية، قال: بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نَبْتَل المنافق، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حُجَره، إذ قال : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبَّار، وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فعلتَ، فانطلق، فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
نزول الآية (18):
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ..}: أخرج أحمد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل حجرة، وقد كاد الظل يتقلص، فقال: إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاءكم، لا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق أعور، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال: ذرني آتك بهم، فانطلق، فدعاهم، فحلفوا له ما قالوا وما فعلوا، فأنزل الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} الآية.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}تعجيبٌ للرسول صلى الله عليه وسلم من أمر المنافقين الذين اتخذوا اليهود أصدقاء أي ألا تعجب يا محمد من حال هؤلاء المنافقين الذين يزعمون الإِيمان، وقد اتخذوا اليهود المغضوب عليهم أولياء، يناصحونهم وينقلون إِليهم أسرار المؤمنين!! قال الإِمام الفخر الرازي: كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله {من لعنهُ الله وغضب عليه} وكانوا ينقلون إِليهم أسرار المؤمنين {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} أي ليس هؤلاء المنافقون من المسلمين ولا من اليهود، بل هم مذبذبون بين ذلك كقوله تعالى: {مذبذبين بين ذلك لا إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء} قال الصاوي: أي ليسوا من المؤمنين الخلَّص، ولا من الكافرين الخُلَّص، لا ينتسبون إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي ويحلفون بالله كاذبين يقولون: والله إِنا لمسلمون، وهم يعلمون أنهم كذبة فجرة، قال أبو السعود: والصيغةُ مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا، فإِن الحلف على ما يُعلم أنه كذبٌ في غاية القبح {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} أي هيأ لهم تعالى - بسبب نفاقهم - عذاباً في نهاية الشدة والألم، وهو الدرك الأسفل في جهنم {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً} {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئس ما فعلوا وبئس ما صنعوا {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي جعلوا أيمانهم الكاذبة الفاجرة وقايةً لأنفسهم وسترةً لها من القتل، قال ابن جزي: أصل الجُنَّة ما يُستتر به ويُتقى به المحذور كالترس، ثم استعمل هنا بطريق الاستعارة لأنهم كانوا يظهرون الإِسلام ليعصموا دماءهم وأموالهم {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي فمنعوا الناس عن الدخول في الإِسلام، بإِلقاء الشبهات في قلوب الضعفاء والمكر والخداع بالمسلمين {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي فلهم عذاب شديد في غاية الشدة والإِهانة {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم في الآخرة، ولن تدفع عنهم شيئاً من عذاب الله {أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم أهل النار لا يخرجون منها أبداً {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي يحشرهم يوم القيامة جميعاً للحساب والجزاء {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} أي فيحلفون لله تعالى كما يحلفون لكم اليوم في الدنيا كذباً أنهم مسلمون، قال ابن عباس: هو قولهم: {والله ربنا ما كنا مشركين} {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي يظنون أن حلفهم في الآخرة ينفعهم وينجيهم من عذابها كما نفعهم في الدنيا بدفع القتل عنهم، قال أبو حيان: والعجب منهم كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على علاَّم الغيوب، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم، والمقصود أنهم تعودوا الكذب حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كانت في الدنيا {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي ألا فانتبهوا أيها الناس إِن هؤلاء هم البالغون في الكذب الغاية القصوى حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} أي استولى على قلوبهم الشيطان وغلب عليهم وتملَّك نفوسهم حتى أنساهم أن يذكروا ربهم {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} أي أولئك هم أتباع الشيطان وأعوانه وأنصاره {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي أتباع الشيطان وجنوده هم الكاملون في الخسران والضلالة. لأنهم فوّتوا على أنفسهم النعيم الدائم وعرضوها للعذاب المقيم.
جزاء المعادين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وتحريم موالاتهم
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ(20)كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(21)لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواءاباءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(22)}
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يعادون الله ورسوله ويخالفون أمرهما {أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} أي أولئك في جملة الأذلاء المبعدين من رحمة الله {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي قضى الله وحكم أن الغلبة لدينه ورسله وعباده المؤمنين { إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو تعالى قويٌ على نصر رسله وأوليائه، غالبٌ على أعدائه، لا يُقهر ولا يُغلب، قال مقاتل: لما فتح الله مكة والطائف وخيبر للمؤمنين قالوا: نرجوا أن يُظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن سلول: أتظنون أن الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟! والله إِنهم لأكثر عدداً، وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت{كتب اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي} {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي لا يمكن أن ترى أيها السامع جماعة يصدقون بالله وباليوم الآخر يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وخالف أمرهما، لأن من أحبَّ الله عادى أعداءه، ولا يجتمع في قلب واحد حبُّ الله وحبُّ أعدائه، كما لا يجتمع النور والظلام، قال المفسرون: غرضُ الآية النهي عن مصادقة ومحبة الكفرة والمجرمين، ولكنها جاءت بصورة إِخبارٍ مبالغةً في النهي والتحذير، قال الإِمام الفخر الرازي: المعنى أنه لا يجتمع الإِيمان مع حبِّ أعداء الله، وذلك لأن من أحبَّ أحداً امتنع أن يحب عدوه، لأنهما لا يجتمعان في القلب، فإِذا حصل في القلب مودة أعداء الله لم يحصل فيه الإِيمان {وَلَوْ كَانُواءاباءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أي ولو كان هؤلاء المحادُّون لله ورسوله أقرب الناس إِليهم، كالآباء، والأبناء، والإِخوان، والعشيرة، فإِن قضية الإِيمان بالله تقتضي معاداة أعداء الله، قال أبو حيّان: بدأ بالآباء لأن طاعتهم واجبة على الأولاد، ثم بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب، ثم بالإِخوان لأنهم بهم التعاضد، ثم بالعشيرة لأن بهم التناصر والمقاتلة والتغلب على الأعداء كما قال القائل:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
قال ابن كثير: نزلت {وَلَوْ كَانُواءاباءهُمْ} في "أبي عبيدة" قتل أباه الجراح يوم بدر، {أَوْ أَبْنَاءهُمْ} في الصِّديق همَّ بقتل ابنه "عبد الرحمن بن أبي بكر" {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} في مُصعب بن عمير قتل أخاه عُبيد بن عمير يومئذٍ {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} في حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، قتلوا عُتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة يوم بدر {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} أي أثبت الإِيمان ومكنه في قلوبهم فهي مؤمنةٌ موقنةٌ مخلصة {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أي وقوَّاهم بنصره وتأييده، قال ابن عباس: نصرهم على عدوهم، وسمى ذلك النصر روحاً لأن به يحيا أمرهم {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي ويدخلهم في الآخرة بساتين فسيحة، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبد الآبدين {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} أي قبل الله أعمالهم فرضي عنهم، ونالوا ثوابه فرضوا بما أعطاهم، وإِنما ذكر رضوانه عليهم بعد دخولهم الجنة لأنه أعظم النعم، وأجل المراتب_ قال ابن كثير: وفي الآية سر بديع وهو أنهم لما سخطوا على الأقارب والعشائر في الله تعالى، عوَّضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} أي أولئك جماعة الله وخاصته وأولياؤه {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي هم الفائزون بخيري الدنيا والآخرة، وهذا في مقابلة قوله تعالى {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:57 AM

سورة الحشر


بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة الحشر مدنية وهي تعنى بجانب التشريع شأن سائر السور المدنية، والمحورُ الرئيسي الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث عن "غزوة بن النضير" وهم اليهود الذين نقضوا العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم فأجلاهم عن المدينة المنورة، ولهذا كان ابن عباس يسمي هذه السورة "سورة بني النضير" وفي هذه السورة الحديث عن المنافقين الذين تحالفوا مع اليهود، وبإِيجاز هي سورة "الغزوات والجهاد" الفيء والغنائم.
* ابتدأت السورة الكريمة بتنزيه الله وتمجيده، فالكون كله بما فيه من إِنسان، وحيوان، ونبات، وجماد، شاهد بوحدانية الله وقدرته وجلاله، ناطق بعظمته وسلطانه {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
* ثم ذكرت السورة بعض آثار قدرته، ومظاهر عزته، بإِجلاء اليهود من ديارهم وأوطانهم، مع ما كانوا فيه من الحصون والقلاع، وكانوا يعتقدون أنهم في عزة ومنعة لا يستطيع أحد عليهم، فجاءهم بأس الله وعذابه من حيث لم يكن في حسابهم {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ..} الآيات.
* ثم تناولت السورة موضوع الفيء والغنيمة، فبينت شروطه وأحكامه، ووضحت الحكمة من تخصيص الفيء بالفقراء، لئلا يستأثر به الأغنياء، وليكون هناك بعض التعادل بين طبقات المجتمع، بما فيه خير الفريقين، وبما يحقق المصلحة العامة {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُربَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِنِ...} الآيات.
* وتناولت السورة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثناء العاطر، فنوَّهت بفضائل المهاجرين ومآثر الأنصار، فالمهاجرون هجروا الديار والأوطان حباً في الله، والأنصار نصروا دين الله، وآثروا إِخوانهم - المهاجرين - بالأموال والديار على أنفسهم مع فقرهم وحاجتهم {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً..} الآيات.
* وفي مقابلة ذكر المهاجرين والأنصار، ذكرت السورة المنافقين الأشرار، الذين تحالفوا مع اليهود ضد الإِسلام، وضربت لهم أسوأ الأمثال، فمثلتهم بالشيطان الذي يُغري الإِنسان بالكفر والضلال ثم يتخلى عنه ويخذله، وهكذا كان شأن المنافقين مع إِخوانهم اليهود {ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم..} الآيات.
* ووعظت السورة المؤمنين بتذكر ذلك اليوم الرهيب، الذي لا ينفع فيه حسب ولا نسب، ولا يفيد فيه جاه ولا مال، وبينت الفارق الهائل بين أهل الجنة وأهل النار، ومصير السعداء ومصير الأشقياء في دار العدل والجزاء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقَواْ اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسُُ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ..} الآيات.
* وختمت السورة بذكر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا وبتنزيهه عن صفات النقص {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ..} الآيات وهكذا يتناسق البدء مع الختام، أبدع تناسقٍ ووئام ‍‍.
إجلاء يهود بني النضير
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ(1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ ما ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُم مَّانَعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْربُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعتَبِرُواْ يَا أُوْلِى الأّبصَارِ(2)وَلوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ(3)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ(4) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّيِنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيخْزِىَ الفَاسِقِينَ(5)}.
سبب النزول :
نزول الآية (1) :
{سَبَّحَ لِلَّهِ} : أخرج البخاري عن ابن عباس قال : سورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.
نزول الآية (5) :
{مَا قَطَعْتُم...} : أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّق بني النضير، وقطع وَدِيّ البويرة، فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّيِنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا } الآية.
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي نزَّه الله تعالى ومجَّده وقدَّسه جميع ما في السماواتِ والأرض من ملك، وإِنسان، وجماد، وشجر كقوله تعالى {وإِنْ من شيءٍ إِلا يسبّح بحمده} قال ابن كثير: يخبر تعالى أن جميع ما في السماواتِ والأرض يسبح له ويُمجده ويقدِّسه ويُوحِّده { وَهُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو العزيز في ملكه، الحكيمُ في صنعه {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ} بيانٌ لبعض آثار قدرته تعالى الباهرة وعزته الظاهرة أي هو جلَّ وعلا الذي أخرج يهود بني النضير من مساكنهم بالمدينة المنورة {لأَوَّلِ الحَشْرِ} أي في أول مرة حُشروا وأخرجوا فيها من جزيرة العرب، إِذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك قال البيضاوي : لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة صالح "بني النضير" على ألاَّ يكونوا معه ولا عليه، فلما ظهر يوم بدر قالوا: إنه النبي المنعوتُ في التوراة بالنصرة لا تُردُّ له راية، فلما هُزم المسلمون يوم أُحد ارتابوا ونكثوا، وخرج "كعب بن الأشرف" في أربعين راكباً إِلى مكة وحالفوا "أبا سفيان" فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم "محمد بن مسلمة" أخا كعبٍ من الرضاعة فقتله غيلةً، ثم صبَّحهم بالكتائب وحاصرهم، حتى صالحوه على الجلاء، فجلا أكثرهم إِلى الشام، ولحقت طائفة بخيبر، فذلك قوله {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ} قال الألوسي: ومعنى {لأَوَّلِ الحَشْرِ } أن هذا أول حشرهم إِلى الشام أي أول ما حُشروا وأُخرجوا، ونبَّه بلفظ {لأَوَّلِ} على أنهم لم يصبهم جلاءٌ قبله {ما ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن يخرجوا من أوطانهم وديارهم بهذا الذل والهوان، لعزتهم ومنعتهم، وشدة بأسهم، حيث كانوا أصحاب حصون وعقار، ونخيلٍ وثمار {وَظَنُّواْ أَنَّهُم مَّانَعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ} أي وظنوا أن حصونهم الحصينة تمنعهم من بأس الله، وتدفع عنهم عذابه وانتقامه قال البيضاوي: والأصل أن يُقال: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم من بأس الله، وتغييرُ النظم بتقديم الخبر وإِسناد الجملة إِلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بكونها حصينة، بحيث ظنوا أنه لا يخرجهم منها أحد لأنهم في عزة ومنعة {فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} أي فجاءهم بأسُ الله وعذابه من حيث لم يكن في حسابهم، ولم يخطر ببالهم {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} أي وألقى في قلوب بني النضير الخوف الشديد، مما أضعف قوتهم، وسلبهم الأمن والطمأنينة، حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث (نُصرت بالرعب من مسيرة شهر) {يُخْربُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ} أي يهدمون بيوتهم بأيديهم من الداخل، وأيدي المؤمنين من الخارج قال المفسرون: كان بنو النضير قبل إِجلائهم عن ديارهم يخربون بيوتهم فيقلعون العُمد، وينقضون السقوف، وينقبون الجدران، لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضاً، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب من ظاهرها ليقتحموا حصونهم {فَاعتَبِرُواْ يَا أُوْلِى الأّبصَارِ} أي فاتعظوا بما جرى عليهم يا ذوي العقول والألباب {وَلوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ} أي ولولا أن الله تعالى قضى عليهم بالخروج من أوطانهم مع الأهل والأولاد {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} أي لعذبهم في الدنيا بالسيف كما فعل بإِخوانهم بني قريظة {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} أ ي ولهم مع عذاب الدنيا جهنم المؤبد {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي ذلك الجلاء والعذاب بسبب أنهم خالفوا الله وعادوه وعصوا أمره، وارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم، ونقضٍ للعهود في حق رسوله {وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَاب} أي ومن يخالف أمر الله، ويعادِ دينه فاللهُ ينتقم منه لأن عذابه شديد، وعقابه أليم {وكذلك أخذ ربك إِذا أخذ القُرى وهي ظالمة إِنَّ أخذه أليمٌ شديد} .. ثم أخبر تعالى أن كل ما جرى من المؤمنين من قطع النخيل، وإِحراق بعض الأشجار المثمرة، فإِنما كان بأمر الله وإِرادته فقال {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّيِنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي ما قطعتم أيها المؤمنون من شجرة نخيل، أو تركتموها كما كانت قائمة على سوقها فبأمر الله وإِرادته ورضاه {وَلِيخْزِىَ الفَاسِقِينَ} أي وليغيظ اليهود ويذلهم، بقطع أشجارهم ونخيلهم قال الرازي: المعنى إِنما أذن تعالى في ذلك حتى يزداد غيظ الكفار، وتتضاعف حسرتهم، بسبب نفاذ حكم أعدائهم في أعزِّ أموالهم قال المفسرون: لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، كان بعض الصحابة قد شرع يقطع ويحرق في نخيلهم، إِهانةً لهم وإِرعاباً لقلوبهم، فقالوا: ما هذا الإِفساد يا محمد ؟ إِنك كنت تنهى عن الفساد، فمابالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة.
حكم الفيء في الإسلام
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُُ(6) مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُربَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وابْنِ الْسَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ(7)لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8)والَّذِينَ تَبَوَّءو الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةُُ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9)والَّذِينَ جَاءو مِن بَعدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفُُ رَّحِيم(10)}.
سبب النزول :
نزول الآية (9) :
{والَّذِينَ تَبَوَّءو..} : أخرج ابن المنذر عن زيد الأصم : أن الأنصار قالوا : يا رسول الله، اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين الأرض نصفين قال : لا، ولكن تكفونهم المؤنة وتقاسمونهم الثمرة، والأرض أرضكم، قالوا : رضينا، فأنزل الله : {والَّذِينَ تَبَوَّءو الدَّارَ} الآية.
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الْجَهْد (الجوع والفاقة) فأرسل إلى نسائه، فلم يجد عندهن شيئاً، فقال: ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله، فقام رجل من الأنصار، فقال : أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئاً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد عجب الله، أو ضحك من فلان وفلانة، فأنزل الله تعالى : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةُُ}.
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} أي وما أعاد الله وردَّه غنيمة على رسوله من أموال يهود بني النضير {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} أي لم تسيِّروا إِليه خيلكم ولا ركابكم، ولا تعبتم في تحصيله قال القرطبي: يقال: وجف البعير وجيفاً إِذا أسرع السير، وأوجفه صاحبه إِذا حمله على السير السريع، والركاب: ما يُركبُ من الإِبل، والمعنى: لم تقطعوا إِليها شُقةً، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإِنما كانت من المدينة على ميلين، فافتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحاً، وأجلاهم عنها وأخذ أموالهم، فجعلها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث شاء {وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} أي ولكنه تعالى من سنته أن ينصر رسله بقذف الرعب في قلوب أعدائه، من غير أن يقاسوا شدائد الحروب {وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُُ} أي هو تعالى قادر على كل شيءٍ، لا يُغالب ولا يُمانع ولا يعجزه شيء .. ثم بيَّن تعالى حكم الفيء عامةً - وهو ما يغنمه المسلمون بدون حرب - فقال { مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي ما جعله الله غنيمةً لرسوله بدون قتال من أموال الكفار قال ابن عباس: هي قريظة، والنضير، وفدك، وخيبر {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} أي فحكمها أنها لله تعالى يضعها حيث يشاء، ولرسوله يصرفها على نفسه وعلى مصالح المسلمين {وَلِذِي الْقُربَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكينِ} أي ولأقرباء الرسول من بني هاشم وعبد المطلب، ولليتامى الذين ماتءاباؤهم، وللمساكين ذوي الحاجة والفقر {وابْنِ الْسَّبِيلِ} أي وللغريب المنقطع في سفره قال ابن جزي : لا تعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال، فإِن آية الأنفال في حكم الغنيمة التي تؤخذ بالقتال وإِيجاف الخيل والركاب، فتلك يؤخذ منها الخمس ويقسم الباقي على الغانمين، وأما هذه ففي "حكم الفيء" وهو ما يؤخذ من الكفار من غير قتال فلا تعارض بينهما ولا نسخ، وقد قرر الفقهاء الفرق بين الغنيمة والفيء، وأنَّ حكمهما مختلف، فالغنيمة ما أُخذت بالقتال، والفيءُ ما أُخذ صلحاً، وانظر كيف ذكر هنا لفظ الفيء {ما أفاء الله على رسوله} وذكر في الأنفال لفظ الغنيمة {واعلموا أنما غنمتم من شيء} ‍‍ {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةَ بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} أي لئلا ينتفع بهذا المال ويستأثر به الأغنياء دون الفقراء، مع شدة حاجة الفقراء للمال قال القرطبي: أي فعلنا ذلك كيلا يتقاسمه الرؤساء والأغنياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لأن أهل الجاهلية كانوا إِذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه - وهو المرباعُ - ثم يصطفي منها أيضاً ما يشاء قال المفسرون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين فإِنهم كانوا حينئذٍ فقراء، ولم يُعط الأنصار منها شيئاً فإِنهم كانوا أغنياء، فقال بعض الأنصار: لنا سهمنا من هذا الفيء فأنزل الله هذه الآية {وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} أي ما أمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم فافعلوه ، وما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإِنه إِنما يأمر بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شرٍّ وفساد قال المفسرون : والآية وإِن نزلت في أموال الفيء، إلا أنها عامة في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه من واجبٍ، أو مندوب، أو مستحب، أو محرم، فيدخل فيها الفيء وغيره، عن ابن مسعود أنه قال: "لعن اللهُ الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيِّرات خلق الله" فبلغ ذلك امرأةً من بني أسد يُقال لها "أم يعقوب" - وكانت تقرأ القرآن - فأتته فقالت: ما حديثٌ بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا!! ‍‍ وذكرته له، فقال ابن مسعود: وما لي لا ألعنُ من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى ؟ فقالت المرأةُ : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته! فقال: إِن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأتِ قول الله عز وجل {وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} ؟ {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي خافوا ربكم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} أي فإِن عقابه أليم وعذابه شديد، لمن عصاه وخالف ما أمره به {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} هذا متعلقٌ بما سبق من حكم الفيء كأنه يقول : الفيءُ والغنائم لهؤلاء الفقراء المهاجرين الذين ألجأهم كفار مكة إِلى الهجرة من أوطانهم، فتركوا الديار والأموال، ابتغاء مرضاة الله ورضوانه {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي قاصدين بالهجرة إِعلاء كلمة الله ونصرة دينه {أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي هؤلاء الموصوفون بالصفات الحميدة هم الصادقون في إِيمانهم قال قتادة : هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال، والأهلين والأوطان، حباً لله ورسوله، حتى إِن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليُقيم به صُلبه من الجوع .. ثم مدح تعالى الأنصار وبينَّ فضلهم وشرفهم فقال {والَّذِينَ تَبَوَّءو الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} أي والذين اتخذوا المدينة منزلاً وسكناً وآمنوا قبل كثيرٍ من المهاجرين وهم الأنصار قال القرطبي: أي تبوءوا الدار من قبل المهاجرين، واعتقدوا الإِيمان وأخلصوه، والتبوء : التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إِليهم {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} أي يحبون إِخوانهم المهاجرين ويواسونهم بأموالهم قال الخازن: وذلك أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم، وأشركوهم في أموالهم {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ} أي ولا يجد الأنصار حزازةً وغيظاً وحسداً مما أعطي المهاجرون من الغنيمة دونهم قال المفسرون: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إِلا ثلاثةً منهم، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةُُ} أي يفضلون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الحاجة والفاقة إِليه، فإِيثارهم ليس عن غنى عن المال، ولكنه عن حاجة وفقر، وذلك غاية الإِيثار {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي ومن حماه الله وسلم من البخل فقد أفلح ونجح، والشُحُّ هو البخل الشديد مع الجشع والطمع، وهو غريزة في النفس ولذلك أضيف إِليها، قال ابن عمر: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إِنما الشحُّ أن تطمع عينه فيما ليس له وفي الحديث (واتقوا الشُحَّ فإِنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم) {والَّذِينَ جَاءو مِن بَعدِهِم} هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين المستحقين للإِحسان والفضل، وهم التابعون لهم بإِحسانٍ إِلى يوم القيامة {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} أي يدعون لهم قائلين : يا ربنا اغفر لنا ولإِخواننا المؤمنين الذين سبقونا بالإِيمان قال أبو السعود: وصفوهم بالسبق بالإِيمان اعترافاً بفضلهم، لأن أخوة الدين عندهم أعزُّ وأشرف من النسب {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} أي ولا تجعل في قلوبنا بغضاً وحسداً لأحدٍ من المؤمنين {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفُُ رَّحِيم} أي مبالغٌ في الرأفة والرحمة فاستجب دعاءنا، قال ابن كثير: وما أحسن ما استنبط الإِمام مالك من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الغنيمة شيء لعدم اتصافه بأوصاف المؤمنين، وقال شيخ زاده: بيَّن تعالى أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين بالرحمة والدعاء، فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء فقد كان خارجاً عن جملة أقسام المؤمنين بمقتضى هذه الآيات، وقد روي عن الشعبي أنه قال: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا أصحاب موسى وسئلت النصارى فقالوا : أصحاب عيسى، وسئلت الرافضة من شرُّ أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم أُمروا بالاستغفار لهم فسبُّوهم، فالسيف عليهم مسلول إِلى يوم القيامة .. اللهم ارزقنا محبة أصحاب نبيك الكريم.
تواطؤ المنافقين واليهود
{ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم وَلا نُطِيعُ فِيكُم أَحَداً أَبدَاً وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم وَ اللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ(11)لَئِن أُخرِجُوا لا يَخرُجُونَ مَعَهُم وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُم وَلَئِن نَّصَروهُم لَيُوَلُّنَّ الأَدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ(12)لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومُُ لا يَفقَهُونَ(13)لا يُقَاتِلُونَكُم جَمِيعاً إِلا فِي قُرىً محَصَّنَةٍ أَو مِن وَرَاءِ جُدُرِ بَأسُهُم بَينَهُم شَدِيدُُ تَحسَبُهُم جَمِيعاً وَقُلُوبُهُم شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومُُ لا يَعقِلُون(14)كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمرِهِم وَلَهُم عَذَابُ أَلِيمُُ(15)كَمَثَلِ الشَّيطَانِ إِذ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفُر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَريءُُ مِّنكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ(16)فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَينِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ(17)}.

سبب النزول :
نزول الآية (11) :
{ألَم تَرَ..} : أخرج ابن أبي حاتم عن السُّدِّي قال : أسلم ناس من أهل قريظة، وكان فيهم منافقون، وكانوا يقولون لأهل النضير : {لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم}، فنزلت هذه الآية فيهم : {ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ }.
{ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} تعجيبٌ من الله تعالى لرسوله من حال المنافقين أي ألا تعجب يا محمد من شأن هؤلاء المنافقين الذين أظهروا خلاف ما أضمروا ؟ {يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ} أي يقولون ليهود بني قريظة والنضير الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم {لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم} أي لئن أخرجتم من المدينة لنخرجنَّ معكم منها قال ابن جزي: نزلت في عبد الله بن أُبي بن سلول وقوم من المنافقين، بعثوا إِلى بني النضير وقالوا لهم : اثبتوا في حصونكم. فإِنا معكم كيف ما تقلبت حالكم، وإِنما جعل المنافقين إِخوانهم لأنهم كفار مثلهم {وَلا نُطِيعُ فِيكُم أَحَداً أَبدَاً} أي ولا نطيع أمر محمد في قتالكم، ولا نسمع من أحدٍ إِذا أمرنا بخذلانكم {وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم} أي ولئن قاتلكم أحد لنعاوننكم على عدوكم ونكون بجانبكم {وَ اللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} أي والله يشهد إِن المنافقين لكاذبون فيما قالوه ووعدوهم به .. ثم أخبر الله عن حال المنافقين بالتفصيل فقال {لَئِن أُخرِجُوا لا يَخرُجُونَ مَعَهُم} أي لئن أخرج اليهود لا يخرج المنافقون معهم {وَلَئِن قُوتِلوا لا يَنصُرُونَهُم} أي ولئن قوتل اليهود لا ينصرهم المنافقون ولا يقاتلون معهم قال القرطبي: وفي هذا دليل على صحة نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أمر الغيب، لأنه أُخرجوا فلم يخرجوا معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم كما أخبر عنه القرآن {وَلَئِن نَّصَروهُم لَيُوَلُّنَّ الأَدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} أي ولئن جاءوا لنصرتهم وقاتلوا معهم - على سبيل الفرض والتقدير - فسوف ينهزمون، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين قال الإِمام الفخر الرازي: أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا فإِن المنافقين لا يخرجون معهم - وقد كان الأمر كذلك، فإِن بني النضير لما أُخرجوا لم يخرج معهم المنافقون وقُوتلوا كذلك فما نصروهم - وأما قوله تعالى {وَلَئِن نَّصَروهُم} فهذا على سبيل الفرض والتقدير أي بتقدير أنهم أرادوا نصرتهم لا بدَّ وأن يتركوا تلك النصرة وينهزموا {لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ} أي لأنتم يا معشر المسلمين أشدُّ خوفاً وخشيةً في قلوب المنافقين من الله، فإِنهم يرهبون ويخافون منكم أشدَّ من رهبتهم من الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومُُ لا يَفقَهُونَ} أي ذلك الخوف منكم بسبب أنهم لا يعلمون عظمة الله تعالى حتى يخشوه حقَّ خشيته قال القرطبي: أي لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته .. ثم أخبر تعالى عن اليهود والمنافقين بأنهم جبناء من شدة الهلع، وأنهم لا يقدرون على قتال المسلمين إِلا إِذا كانوا متحصِّنين في قلاعهم وحصونهم فقال {لا يُقَاتِلُونَكُم جَمِيعاً إِلا فِي قُرىً مَّحَصَّنَةٍ} أي لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين إِلا إِذا كانوا في قرى محصَّنة بالأسوار والخنادق {أَو مِن وَرَاءِ جُدُرِ} أي أو يكونوا من وراء الحيطان ليتستروا بها، لفرط جزعهم وهلعهم {بَأسُهُم بَينَهُم شَدِيدُُ} أي عداوتهم فيما بينهم شديدة {تَحسَبُهُم جَمِيعاً وَقُلُوبُهُم شَتَّى} أي تظنهم مجتمعين على أمرٍ ورأي - في الصورة - ذوي ألفةٍ واتحاد، وهم مختلفون غاية الاختلاف لأن آراءهم مختلفة، وقلوبهم متفرقة قال قتادة: أهل الباطل مختلفةٌ آراؤهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفةُ شهادتهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق {ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومُُ لا يَعقِلُون} أي ذلك التفرق والتشتت بسبب أنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله قال أبو حيّان: وموجب ذلك التفرق والشتات هو انتفاء عقولهم، فهم كالبهائم لا تتفق على حالة {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم قَرِيباً} أي صفةُ بني النضير فيما وقع لهم من الجلاء والذل، كصفةِ كفار مكة فيما وقع لهم يوم بدر من الهزيمة والأسر قال البيضاوي: أي مثل اليهود كمثل أهل بدر، أو المهلكين من الأمم الماضية في زمان قريب {ذَاقُوا وَبَالَ أَمرِهِم} أي ذاقوا سوء عاقبة إِجرامهم في الدنيا {وَلَهُم عَذَابُ أَلِيمُُ} أي ولهم عذاب شديد موجعٌ في الآخرة {كَمَثَلِ الشَّيطَانِ إِذ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفُر} أي مثل المنافقين في إِغراء اليهود على القتال، كمثل الشيطان الذي أغرى الإِنسان بالكفر ثم تخلى عنه وخذله {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَريءُُ مِّنكَ} أي فلما كفر الإِنسان تبرأ منه الشيطان وقال {إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ} أي أخاف عذاب الله وانتقامه إِن كفرتُ به قال ابن جزي: هذا مثلٌ، مثَّل اللهُ للمنافقين - الذين أغووا يهود بني النضير ثم خذلوهم بعد ذلك - بالشيطان الذي يُغوي ابن آدم ثم يتبرأ منه، والمراد بالشيطان والإِنسان هنا الجنس، وقولُ الشيطان {إِنِّي أَخافُ اللَّهَ} كذبٌ منه ورياءٌ لأنه لو خاف الله لامتثل أمره وما عصاه {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَينِ فِيهَا} أي فكان عاقبة المنافقين واليهود، مثل عاقبة الشيطان والإِنسان، حيث صارا إِلى النار المؤبدة {وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ} أي وذلك عقاب كل ظالم فاجر، منتهكٍ لحرمات الله والدين ..
وعظ المؤمنين وتحذيرهم من الفسق
ولمَّا ذكر صفات كلٍ من المنافقين واليهود وضرب لهم الأمثال، وعظ المؤمنين بموعظةٍ حسنة، تحذيراً من أن يكونوا مثل من تقدم ذكرهم فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقَواْ اللَّهَ} أي خافوا الله واحذروا عقابه، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه {وَلتَنظُر نَفسُُ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ} أي ولتنظر كلُّ نفسٍ ما قدَّمت من الأعمال الصالحة ليوم القيامة قال ابن كثير: انظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، وسُمي يوم القيامة غداً لقرب مجيئه {وما أمرُ الساعة إِلا كلمح البصر} والتنكير فيه للتفخيم والتهويل {واتَّقُوا اللَّهَ} كرَّره للتأكيد ولبيان منزلة التقوى التي هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين {ولقد وصيَّنا الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم وإِياكم أنْ اتقوا الله} {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعمَلُونَ} أي مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها {ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم} أي ولا تكونوا يا معشر المؤمنين كالذين تركوا ذكر الله ومراقبته وطاعته، فأنساهم حقوق أنفسهم والنظر لها بما يصلحها قال أبو حيان : وهذا من المجازاة على الذنب بالذنب، تركوا عبادة الله وامتثال أوامره، فعوقبوا على ذلك بأن أنساهم حظَّ أنفسهم، حتى لم يقدموا له خيراً ينفعها {أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} أي أولئك هم الفجرة الخارجون عن طاعة الله {لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأصحَابُ الجَنَّةِ} أي لا يتساوى يوم القيامة الأشقياء والسعداء، أهل النار وأهل الجنة في الفضل والرتبة {أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ} أي أصحاب الجنة هم الفائزون بالسعادة الأبدية في دار النعيم،وذلك هو الفوز العظيم ..
روعة القرآن ومنزَّلة ذي الأسماء الحسنى
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21)هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ(22)هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسمَاءُ الْحًسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأَرضِ وهُوَ الْعَزيزُ الحَكِمُ(24)}.
ثم ذكر تعالى روعة القرآن، وتأثيره على الصمِّ الراسيات من الجبال فقال {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي لو خلقنا في الجبل عقلاً وتمييزاً كما خلقنا للإِنسان، وأنزلنا عليه هذا القرآن، بوعده ووعيده، لخشع وخضع وتشقق، خوفاً من الله تعالى، ومهابةً له وهذا تصويرٌ لعظمة قدر القرآن، وقوة تأثيره، وأنه بحيث لو خوطب به جبلٌ - على شدته وصلابته - لرأيته ذليلاً متصدعاً من خشية الله، والمراد منه توبيخ الإِنسان بأنه لا يتخشع عند تلاوة القرآن، بل يعرض عما فيه من عجائب وعظائم، فهذه الآية في بيان عظمة القرآن، ودناءة حال الإِنسان وقال أبو حيّان: والغرضُ توبيخ الإِنسان على قسوة قلبه، وعدم تأثره بهذا الذي لو أُنزل على الجبل لتخشَّع وتصدَّع، وإِذا كان الجبل على عظمته وتصلبه يعرض له الخشوع والتصدع، فابن آدم كان أولى بذلك، لكنه على حقارته وضعفه لا يتأثر {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي وتلك الأمثال نفصّلها ونوضحها للناس لعلهم يتفكرون في آثار قدرة الله ووحدانيته فيؤمنون .. ثم لما وصف القرآن بالرفعة والعظمة، أتبعه بشرح عظمة الله وجلاله فقال {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ} أي هو جلَّ وعلا الإِله المعبود بحقٍ لا إِله ولا رب سواه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ} أي عالم السر والعلن، يعلم ما غاب عن العباد مما لم يبصروه، وما شاهدوه وعلموه {هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ} أي هو تعالى ذو الرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ} كرر اللفظ اعتناءً بأمر التوحيد أي لا معبود ولا رب سواه {الْمَلِكُ} أي المالك لجميع المخلوقات، المتصرف في خلقه بالأمر والنهي، والإِيجاد والإِعدام {الْقُدُّوسُ} أي المنزَّه عن القبائح وصفات الحوادث قال ابن جزي: القُدُّوسُ مشتقٌ من التقديس وهو التنزه عن صفات المخلوقين، وعن كل نقص وعيب، والصيغة للمبالغة كالسبُّوح، وقد ورد أن الملائكة تقول في تسبيحها: "سبُّوح قُدُّوس، ربُّ الملائكة والروح" {السَّلامُ} أي الذي سلم الخلق من عقابه، وأمنوا من جوره {ولا يظلم ربك أحداً} وقال البيضاوي: أي ذو السلامة من كل نقص وآفة، وهو مصدر وصف به للمبالغة {الْمُؤْمِنُ} أي المصدِّق لرسله بإِظهار المعجزات على أيديهم {الْمُهَيْمِنُ} أي الرقيبُ الحافظ لكل شيء وقال ابن عباس: الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء {الْعَزِيزُ} أي القادر القاهر الذي لا يُغلب ولا يناله ذلك {الْجَبَّارُ} أي القهار العالي الجناب الذي يذل له من دونه قال ابن عباس : هو العظيم الذي إِذا أراد أمراً فعله، وجبروتُ الله عظمته {الْمُتَكَبِّرُ} أي الذي له الكبرياء حقاً ولا تليق إِلا به وفي الحديث القدسي (العظمة إِزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي) قال الإِمام الفخر الرازي: واعلم أن المتكبر في صفة الناس صفة ذم، لأن المتكبر هو الذي يُظهر من نفسه الكِبْر، وذلك نقصٌ في حق الخلق، لأنه ليس له كبر ولا علو، بل ليس له إلا الذلة والمسكنة، فإِذا أظهر العلو كان كاذباً فكان مذموماً في حق الناس، وأما الحقُّ سبحانه فله جميع أنواع العلو والكبرياء، فإِذا أظهره فقد أرشد العباد إلى تعريف جلاله وعظمته وعلوه، فكان ذلك في غاية المدح في حقه جل وعلا، ولهذا قال في آخر الآية {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه الله وتقدَّس في جلاله وعظمته، عمَّا يلحقونه به من الشركاء والأنداد {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ} أي هو جل وعلا الإِله الخالق لجميع الأشياء، الموجد لها من العدم، المنشئ لها بطريق الاختراع {الْمُصَوِّرُ} أي المبدع للأشكال على حسب إرادته {هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} قال الخازن: أي الذي يخلق صورة الخلق على ما يريده {لَهُ الأَسمَاءُ الْحًسْنَى} أي له الأسماء الرفيعة الدالة على محاسن المعاني {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأَرضِ} أي ينزهه تعالى عن صفات العجز والنقص جميع ما في الكون بلسان الحال أو المقال قال الصاوي: ختم السورة بالتسبيح كما ابتدأها به إشارة إلى أنها المقصود الأعظم، والمبدأ والنهاية، وأن غاية المعرفة بالله تنزيه عظمته عما صورته العقول {وهُوَ الْعَزيزُ الحَكِمُ} أي العزيز في ملكه، الحكيم في خلقه وصنعه.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:58 AM

سورة الممتحنة


بَين يَدَيْ السُّورَة
* هذه السورة الكريمة من السور المدنية، التي تهتم بجانب التشريع، ومحورُ السورة يدور حول فكرة "الحبّ والبغض في الله" الذي هو أوثق عُرى الإِيمان، وقد نزل صدر السورة عتاباً لحاطب بن أبي بلتعة حين كتب كتاباً لأهل مكة يخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تجهز لغزوهم، كما ذكر تعالى حكم موالاة أعداء الله، وضرب الأمثال في إِبراهيم والمؤمنين في تبرئهم من المشركين، وبيَّن حكم الذين لم يقاتلوا المسلمين، وحكم المؤمنات المهاجرات وضرورة امتحانهن، وغير ذلك من الأحكام التشريعية.
* ابتدأت السورة الكريمة بالتحذير من موالاة أعداء الله، الذين آذوا المؤمنين حتى اضطروهم إِلى الهجرة وترك الديار والأوطان {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ..} الآيات.
* ثم بينت السورة أنَّ القرابة والنسب والصداقة في هذه الحياة لن تنفع الإِنسان أبداً يوم القيامة، حيث لا ينفع الإِنسان إِلا الإِيمان والعمل الصالح {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة ..} الآيات.
* ثم ضربت المثل في إِيمان إبراهيم عليه السلام وأتباعه المؤمنين، حين تبرؤوا من قومهم المشركين، ليكون ذلك حافزاً لكل مؤمن على الاقتداء بأبي الأنبياء إِبراهيم خليل الرحمن {قد كانت لكم أسوة حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إِذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً ..} الآيات.
* وتحدثت السورة عن حكم الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ..} وحكم الذين قاتلوا المؤمنين وآذوهم {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين ..} الآيات.
*وبينت السورة وجوب امتحان المؤمنات عند الهجرة، وعدم ردهنَّ إِلى الكفار إِذا ثبت إِيمانهن، وقررت عدم الاعتداد بعصمة الكافر، ثم حكم مبايعة النساء للرسول صلى الله عليه وسلم وشروط هذه البيعة {يا أيها الذين آمنوا إِذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن .. } الآيات وقوله {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئاً .. } الآيات.
* وختمت السورة بتحذير المؤمنين من موالاة أعداء الله الكافرين {يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم، قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} وهكذا ختمت السورة بمثل ما بدأت به من التحذير من موالاة أعداء الله، ليتناسق الكلام في البدء والختام.
النهي عن موالاة الكفار
{يا أيها الَّذين آمنوا لا تتَّخذوا عدُوي وعدوَّكم أولياء تُلقون إِليهم بالمودَّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقِّ يُخرجون الرَّسول وإِياكم أنْ تُؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تُسرُّون إِليهم بالمودَّة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضلَّ سواء السبيلَ (1)إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إِليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودُّوا لو تكفرون(2) لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يومَ القيامة يفْصل بينكم واللهُ بما تعملون بصير(3)}
سبب النزول :
نزول الآية (1) :
{يا أيها الذين آمنوا ..} : أخرج الشيخان وبقية الأئمة عن علي رضي الله عنه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود، فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، معها كتاب، فخذوه منها، فأتوني به، فخرجوا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت : ما معي من كتاب، فقلنا : لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عِقَاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو من حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا يا حاطب ؟ قال : لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات، يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من نسب فيهم أن أتخذ يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق.
وفيه أنزلت هذه السورة : {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، تلقون إليها بالمودة} الآية.
وتفصيل القصة والكتاب : "أن مولاة أبي عمر بن صيفي بن هاشم يقال لها : سارَّة، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو متجهز لفتح مكة سنة ثمان من الهجرة، فعرضت حاجتها، فحث بني المطلب على الإحسان إليها، فأتاها حاطب بن أبي بَلْتعة، وأعطاها عشرة دنانير، وكساها بُرْداً، واستحملها كتاباً إلى أهل مكة.
{يا أيها الَّذين آمنوا لا تتَّخذوا عدُوي وعدوَّكم أولياء}أي يا معشر المؤمنين، يا من صدقتم بالله ورسوله، لا تتخذوا الكفار الذين هم أعدائي وأعداؤكم أصدقاء وأحباء، فإِنَّ من علامة الإِيمان بغض أعداء الله لا مودتهم وصداقتهم قال ابن جزي: نزلت عتاباً لحاطب وزجراً عن أن يفعل أحد مثل فعله، وفيها مع ذلك تشريفٌ له لأن الله شهد له بالإِيمان في قوله {يا أيها الذين آمنوا} {تُلقون إِليهم بالمودَّة} أي تحبونهم وتودونهم وتصادقونهم مع أنهم أعداء ألداء لكم قال القرطبي: أي تخبرونهم بسرائر المسلمين وتنصحون لهم {وقد كفروا بما جاءكم من الحقِّ} أي والحال أنهم كافرون بدينكم وبقرآنكم الذي أنزله الله عليكم بالحق الواضح {يُخرجون الرَّسول وإِياكم} أي يخرجون محمداً من مكة ظلماً وعدواناً كما يخرجون أيضاً منها المؤمنين قال أبو حيّان: وقدَّم الرسول تشريفاً له ولأنه الأصلُ للمؤمنين، ومعنى إِخراجهم أنهم ضيقوا عليهم وآذوهم حتى خرجوا منها مهاجرين إِلى المدينة {أنْ تُؤمنوا بالله ربكم} أي من أجل أنكم آمنتم بالله الواحد الأحد كقوله {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} شرطٌ حذف جوابه أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيل الله طلباً لرضوانه فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء قال الألوسي: وجواب الشرط محذوف دلَّ عليه ما تقدم كأنه قيل: لا تتخذوا أعدائي إِن كنتم أوليائي {تُسرُّون إِليهم بالمودَّة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم} أي تسرون إِليهم بالنصيحة وأنا العالم بسريرتكم وعلانيتكم، لا يخفى عليَّ شيءٌ من أحوالكم ؟ والغرض منه التوبيخُ والعتاب {ومن يفعله منكم فقد ضلَّ سواء السبيلَ} أي ومن يصادق أعداء الله، ويفش أسرار الرسول، فقد حاد عن طريق الحق والصواب .. ثم أخبر تعالى المؤمنين بعداوة الكفار الشديدة لهم، المستحكمة في قلوبهم فقال {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً} أي إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم، يُظهروا ما في قلوبهم من العداوة الشديدة لكم {ويبسطوا إِليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} أي يمدوا إِليكم أيديهم بالضرب والقتل، وألسنتهم بالشتم والسبِّ {وودُّوا لو تكفرون} أي وقد تمنوا أن تكفروا لتكونوا مثلهم قال الزمخشري: وإِنما أورده بذكر الماضي {وودوا} بعد أن ذكر جواب الشرط بلفظ المضارع {لو تكفرون} لأنهم أرادوا كفرهم قبل كل شيء كقوله تعالى {ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً} {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم} أي لن تفيدكم قراباتكم ولا أولادكم الذين توالون الكفار من أجلهم يوم القيامة شيئاً، فلن يجلبوا لكم نفعاً، ولن يدفعوا عنكم ضُرّاً قال الصاوي : هذا تخطئةٌ لحاطب في رأيه كأنه قال : لا تحملكم قراباتكم وأولادكم الذين بمكة، على خيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ونقل أخبارهم وموالاة أعدائهم، فإِنه لا تنفعكم الأرحام ولا الأولاد الذين عصيتم الله من أجلهم {يومَ القيامة يفْصل بينكم} أي في ذلك اليوم العصيب، يحكم الله بين المؤمنين والكافرين، فيدخل المؤمنين جنات النعيم، ويدخل المجرمين دركات الجحيم {واللهُ بما تعملون بصير} أي مطَّلع على جميع أعمالكم فيجازيكم عليها.
التأسي بإبراهيم عليه السلام
{قد كانت لكم أُسوةٌ حسنةٌ في إِبراهيم والذين معه إذْ قالوا لقومهم إِنَّا بُرَءاء منكم وممَّا تعبدون من دونِ الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنَّ لك وما أملِكُ لك من الله من شيءٍ ربنا عليك توكلنا وإِليك أنبنا وإِليك المصير(4)ربَّنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا واغفر لنا ربنا إِنك أنتَ العزيزُ الحكيم(5) لقد كان لكم فيهم أُسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخر ومن يتولَّ فإِنَّ اللهَ هو الغنيُ الحميدُ(6)عسى اللهُ أنْ يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودَّة والله قديرٌ واللهُ غفورٌ رحيم(7)}.
سبب النزول :
نزول الآية (7) :
{عسى الله} : قال المفسرون : يقول الله تعالى للمؤمنين : لقد كان لكم في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء اقتداء بهم في معاداة ذوي قراباتهم من المشركين، فلما نزلت هذه الآية عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين في الله، وأظهروا لهم العداوة والبراءة، وعلم الله تعالى شدة وجد المؤمنين بذلك، فأنزل الله تعالى : {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذي عاديتم منهم مودة} ثم فعل ذلك بأن أسلم كثير منهم، وصاروا لهم أولياء وإخواناً، وخالطوهم وناكحوهم، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب.
{وقد كانت لكم أُسوةٌ حسنةٌ في إِبراهيم والذين معه}أي قد كان لكم يا معشر المؤمنين قُدوة حسنةٌ في الخليل إِبراهيم ومن معه من المؤمنين {إذْ قالوا لقومهم إِنَّا بُرءاء منكموممَّا تعبدون من دونِ الله} أي حين قالوا للكفار إننا متبرؤون منكم ومن الأصنام التي تعبدونها من دون الله {كفرنا بكم} أي كفرنا بدينكم وطريقتكم {وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً} أي وظهرت بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاء إِلى الأبد ما دمتم على هذه الحالة {حتى تؤمنوا بالله وحده} أي إِلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده، وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك والأوثان قال المفسرون: أمر الله المؤمنين أن يقتدوا بإِبراهيم الخليل عليه السلام وبالذين معه في عداوة المشركين والتبرؤ منهم، لأن الإِيمان يقتضي مقاطعة أعداء الله وبغضهم {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنَّ لك} أي إلا في استغفار إبراهيم لأبيه فلا تقتدوا به، فإِنه إنما استغفر لأبيه المشرك رجاء إسلامه {فلما تبيَّن له أنه عدوٌ لله تبرأ منه} {وما أملِكُ لك من الله من شيءٍ} هذا من تتمة كلام إبراهيم لأبيه أي ما أدفع عنك من عذاب الله شيئاً إن أشركت به، ولا أملك لك شيئاً غير الاستغفار {ربَّنا عليكَ توكلنا} أي عليك اعتمدنا في جميع أمورنا {وإِليك أنبنا} أي وإِليك رجعنا وتبنا {وإِليك المصير} أي وإِليك المرجع والمعاد في الدار الآخرة قال المفسرون : إن إبراهيم وعد أباه بالاستغفار كما في سورة مريم قال {سأستغفر لك ربي إِنه كان بي حفياً} واستغفر له بالقول فعلاً كما في سورة الشعراء {واغفرْ لأبي إِنه كان من الضالين} وكلُّ هذا كان رجاء إسلامه، ثم رجع عن ذلك لمَّا تيقَّن كفره كما في سورة التوبة {وما كان استغفارُ إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدةٍ وعدها إيَّاه، فلما تبيَّن له أنه عدوٌ للهِ تبرأ منه} {ربَّنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا} أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا بعذاب لا نطيقه وقال مجاهد : أي لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذابٍ من عندك فيقولوا : لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك {واغفر لنا} أي اغفر لنا ما فرط من الذنوب {ربنا إِنك أنتَ العزيزُ الحكيم} أي أنت يا الله الغالب الذي لا يذل من التجأ إِليه، الحكيم الذي لا يفعل إِلا ما فيه الخير والمصلحة، وتكرار النداء للمبالغة في التضرع والتذلل لله تعالى {لقد كان لكم فيهم أُسوةٌ حسنةٌ} أي لقد كان لكم في إبراهيم ومن معه من المؤمنين قدوةٌ حسنة في التبرؤ من الكفار قال أبو السعود : والتكريرُ للمبالغة في الحثِّ على الاقتداء به عليه السلام ولذلك صُدِّر بالقسم {لمن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخر} أي لمن كان يرجو ثواب الله تعالى، ويخاف عقابه في الآخرة {ومن يتولَّ فإِنَّ اللهَ هو الغنيُ الحميدُ} أي ومن يُعرض عن الإِيمان وطاعة الرحمن، فإِن الله مستغنٍ عن أمثاله وعن الخلق أجمعين، وهو المحمود في ذاته وصفاته {عسى اللهُ أنْ يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودَّة} أي لعلَّ الله جل وعلا يجعل بينكم وبين الذين عاديتموهم من أقاربكم المشركين محبةً ومودة، محبةً بعد البغضاء، وألفة بعد الشحناء قال ابن جزي : لما أمر الله المسلمين بعداوة الكفار ومقاطعتهم، على ما كان بينهم وبين الكافر من القرابة والمودة، وعلم الله صدقهم آنسهم بهذه الآية، ووعدهم بأن يجعل بينهم مودة أي محبة، وهذه المودة كملت في فتح مكة فإِنه أسلم حينئذٍ سائر قريش، وجمع الله الشمل بعد التفرق وقال الرازي : وعسى وعدٌ من الله تعالى وقد حقق تعالى ما وعدهم به من اجتماع كفار مكة بالمسلمين، ومخالطتهم لهم حين فتح مكة {والله قديرٌ} أي قادر لا يعجزه شيء، يقدر على تقليب القلوب وتغيير الأحوال {واللهُ غفورٌ رحيم} أي مبالغ في المغفرة والرحمة، لمن تاب إِليه وأناب.
العلاقات بين المسلمين وغيرهم
سبب النزول :
نزول الآية (8) :
{لا ينهاكم الله ..} : أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : "قدمت أمي، وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت : يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها ؟ قال : نعم، صلي أمّك" فأنزل الله فيها : {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين}.
{لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم}أي لا ينهاكم عن البر بهؤلاء الذين لم يحاربوكم لأجل دينكم، ولم يخرجوكم من أوطانكم كالنساء والصبيان، ولفظة {أنْ تبرُّوهم} في موضع جر بـ "عن" أي لا ينهاكم جلَّ وعلا عن البر والإِحسان لهؤلاء {وتقْسطوا إِليهم} أي تعدلوا معهم {إنَّ اللهَ يحبُ المقسطين} أي يحب العادلين في جميع أمورهم وأحكامهم قال ابن عباس : نزلت في خزاعة، وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً، فرخَّص الله في برهم والإِحسان إِليهم .. [وروي عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : قدمت أمي - وهي مشركة - في عهد قريش حين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - تعني في صلح الحديبية - فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله : إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها ؟ قال: نعم صِلي أمك، فأنزل الله {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ..} الآية] {إنما ينهاكم اللهُ عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إِخراجكم أن تولَّوهم} أي إِنما ينهاكم الله عن صداقة ومودة الذين ناصبوكم العداوة، وقاتلوكم لأجل دينكم، وأعانوا أعداءكم على إِخراجكم من دياركم، أن تتولَّوهم فتتخذوهم أولياء وأنصاراً وأحباباً {ومن يتولهَّم فأولئك هم الظالمون} أي ومن يصادق أعداء الله ويجعلهم أنصاراً وأحباباً، فأولئك هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب.
حكم المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام
{يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ مهاجراتٍ فامتحنوهنَّ اللهُ أعلمُ بإِيمانهنَّ فإِنْ علمتموهنَّ مُؤمناتٍ فلا ترجعوهنَّ إِلى الكفَّار لا هُنَّ حلٌّ لهم ولا هم يحلُّون لهنَّ وآتوهم ما أنفقوا ولا جُناح عليكم أن تنكحوهنَّ إِذا آتيتموهنَّ أُجورهنَّ ولا تُمْسكوا بعصمِ الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أَنفقوا ذلك حُكْم الله يحكمُ بينكم واللهُ عليمٌ حكيم(10) وإِن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إِلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبتْ أزواجهم مثل ما أنفقوا واتَّقُوا اللَّهَ الذي أنتم به مؤمنون}.
سبب النزول :
نزول الآية (10) :
{إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات}: أخرج الشيخان عن الْمِسْور ومروان بن الْحَكَم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية، جاءه نساء من المؤمنات، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} إلى قوله: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}.
نزول الآية (11) :
{وإن فاتكم ..} أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} الآية، نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت، فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها.
{يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ مهاجراتٍ فامتحنوهنَّ}أي اختبروهنَّ لتعلموا صدق إيمانهنَّ قال المفسرون: كان صلح الحديبية الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار مكة قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يُردَّ إِليهم، ومن أتى المسلمين من أهل مكة - يعني المشركين - رُدَّ إِليهم، فجاءت "أم كلثوم" بنت عقبة بن أبي مُعيط مهاجرة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج في أثرها أخواها "عُمارة " و "الوليد" فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : رُدَّها علينا بالشرط، فقال صلى الله عليه وسلم : كان الشرطُ في الرجال لا في النساء، فأنزل الله الآية، قال ابن عباس : كانت المرأة تُستحلف أنها ما هاجرت بغضاً لزوجها، ولا طمعاً في الدنيا، وأنها ما خرجت إِلا حباً لله ورسوله، ورغبةً في دين الإِسلام {اللهُ أعلمُ بإِيمانهنَّ} أي الله أعلم بصدقهن في دعوى الإِيمان، لأنه تعالى المطّلع على قلوبهن، والجملة اعتراضية لبيان أن هذا الامتحان بالنسبة للمؤمنين، وإِلا فالله عالمٌ بالسرائر لا تخفى عليه خافية {فإِنْ علمتموهنَّ مُؤمناتٍ فلا ترجعوهنَّ إِلى الكفَّار} أي فإِن تحققتم إِيمانهن بعد امتحانهن فلا تردوهنَّ إِلى أزواجهن الكفار {لا هُنَّ حلٌّ لهم ولا هم يحلُّون لهنَّ} أي لا تحل المؤمنة للمشرك، ولا يحل للمؤمن نكاح المشركة قال الألوسي: والتكرير للتأكيد والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة بين المؤمنة والمشرك {وآتوهم ما أنفقوا} أي أعطوا أزواجهن الكفار ما أنفقوا عليهن من المهور قال أبو حيّان: أمر أن يُعطى الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إِذا أسلمت، فلا يجمع عليه خُسران الزوجة والمالية {ولا جُناح عليكم أن تنكحوهنَّ إِذا آتيتموهنَّ أُجورهنَّ} أي ولا حرج ولا إِثم عليكم أن تتزوجوا هؤلاء المهاجرات إِذا دفعتم لهن مهورهنَّ قال الخازن: أباح الله للمسلمين نكاح المهاجرات من دار الحرب إِلى دار الإِسلام وإِن كان لهن أزواج كفار - لأن الإِسلام فرَّق بينهن وبين أزواجهنَّ الكفار، وتقع الفرقة بانقضاء عدتها {ولا تُمْسكوا بعصمِ الكوافر} أي ولا تتمسكوا بعقود زوجاتكم الكافرات، فليس بينكم وبينهن عصمة ولا علاقة زوجية قال القرطبي: المراد بالعصمة هنا النكاحُ، يقول: من كانت له امرأةٌ كافرة بمكة فلا يعتد بها فليست امرأته، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أَنفقوا} أي اطلبوا يا أيها المؤمنون ما أنفقتم من المهر إِذا لحقتْ أزواجكم بالكفار، وليطلبوا هم - أي المشركون - ما أنفقوا على أزواجهم المهاجرات قال ابن العربي: كان من ذهب من المسلمات مرتداتٍ إِلى الكفار يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إِذا جاءت إِحدى الكافرات مسلمةً مهاجرة: ردُّوا إِلى الكفار مهرها، وكان ذلك نَصَفاً وعدلاً بين الحالتين {ذلك حُكْم الله يحكمُ بينكم} أي ذلكم هو شرعُ الله وحكمه العادل بينكم وبين أعدائكم {واللهُ عليمٌ حكيم} أي عليم بمصالح العباد، حكيم في تشريعه لهم، يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة {وإِن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إِلى الكفار} أي وإِن فرَّت زوجة أحدٍ من المسلمين ولحقت بالكفار {فعاقبتم} أي فغزوتم وغنمتم وأصبتم من الكفار غنيمة {فآتوا الذين ذهبتْ أزواجهم مثل ما أنفقوا} أي فأعطوا لمن فرَّت زوجته، مثل ما أنفق عليها من المهر، من الغنيمة التي بأيديكم قال ابن عباس: يعني إِن لحقت امرأة رجلٍ من المهاجرين بالكفار، أمر له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُعطى مثل ما أنفق من الغنيمة قال القرطبي: لما نزلت الآية السابقة {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} قال المسلمون: رضينا بما حكم اللهُ، وكتبوا إِلى المشركين فامتنعوا فنزلت هذه الآية {واتقوا اللَّهَ} أي وراقبوا الله في أقوالكم وأفعالكم واحذروا عذابه وانتقامه إِن خالفتم أوامره {واتقوا اللَّهَ الذي أنتم به مؤمنون} أي الذي آمنتم وصدقتم بوجوده، فإِن من مستلزمات الإِيمان تقوى الرحمن ..
مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم النساء المهاجرات
سبب النزول :
نزول الآية (12) :
نزلت يوم الفتح، فإنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء. أخرج البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت : "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجرن إليه بهذه الآية: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك - إلى قوله - : غفور رحيم} فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قد بايعتك" كلاماً، ولا، والله ما مسَّتْ يده يد امرأة في المبايعة قط، ما بايعهن إلا بقوله : قد بايعتكِ على ذلك".
نزول الآية (13) :
أخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : كان عبد الله بن عمر، وزيد بن الحارث يوادّان رجلاً من يهود، فأنزل الله : {يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم} الآية.
ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاء نساء أهل مكة يُبايعنه على الإِسلام، كما بايعه الرجال فنزلت {يا أيها النبي إِذا جاءك المُؤمناتُ يُبايعنك على أنْ لا يُشرْكن باللهِ شيئاً} أي إِذا جاء إِليك النساء المؤمنات للبيعة فبايعْهُنَّ على هذه الأمور الستة الهامة، وفي مقدمتها عدم الإِشراك بالله جلَّ وعلا {ولا يسرقْن ولا يزنين} أي ولا يرتكبن جريمة السرقة ولا جريمة الزنى، التي هي من أفحش الفواحش {ولا يقتُلنَ أولادهنَّ} أي ولا يئدن البنات كما كان يفعله أهل الجاهلية خوف العار أو خشية الفقر، قال ابن كثير: وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإِملاق أو العار، ويعمُّ قتله وهو جنينٌ كما يفعله بعض النساء الجاهلات، تُطرح نفسها لئلا تحبل، إمّا لغرضٍ فاسد أو ما أشبهه {ولا يأتين ببهتانٍ يفترينه بينَ أيديهنَّ وأرجُلهنَّ} أي لا تنسب إِلى زوجها ولداً لقيطاً ليس منه تقول له: هذا ولدي منك قال المفسرون: كانت المرأة إِذا خافت مفارقة زوجها لها لعدم الحمل، التقطت ولداً ونسبته له ليبقيها عنده، فالمراد بالآية اللقيط، وليس المراد الزنى لتقدمه في النهي صريحاً قال ابن عباس: لا تُلحق بزوجها ولداً ليس منه، وقال الفراء: كانت المرأة تلتقطُ المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، وإِنما قال {يفترينه بين أيديهنَّ وأرجلهنَّ} لأن الولد إِذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها {ولا يعصينكَ في معروفٍ} أي ولا يخالفن أمرك فيما أمرتهنَّ به من معروف، أو نهيتهن عنه من منكر، بل يسمعن ويطعن {فبايعهنَّ واستغفر لهنَّ اللهَ} أي فبايعهن يا محمد على ما تقدم من الشروط، واطلب لهنَّ من الله الصفح والغفران لما سلف من الذنوب {إنَّ الله غفور رحيم} أي واسع المغفرة عظيم الرحمة قال أبو حيان: كانت "بيعة النساء" في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا، بعدما فرغ من بيعة الرجال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا وعمر أسفل منه، يبايعهنَّ بأمره ويبلغهنَّ عنه، وما مست يده عليه الصلاة والسلام يد امرأةٍ أجنبيةٍ قطُّ، وقالت "أسماء بنتُ السكن" : كنتُ في النسوة المبايعات، فقلت يا رسول الله : أُبسط يدك نبايعك، فقال لي عليه الصلاة والسلام : (إني لا أصافح النساء، لكنْ آخذُ عليهنَّ ما أخذ اللهُ عليهنَّ) وكانت "هند بنت عُتبة" - وهي التي شقت بطن حمزة يوم أحد - متنكرة في النساء، فلما قرأ عليهن الآية {على ألاّ يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن} قالت وهي متنكرة يا رسول الله : إِن أبا سفيان رجل شحيح، وإِني لأصيب الهنة - أي القليل وبعض الشيء - من ماله، لا أدري أيحل لي ذلك أم لا ؟ فقال أبو سفيان: ما أصبتِ من شيءٍ فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإِنك لهندٌ بنتُ عتبة ؟ قالت نعم فاعفُ عما سلف يا نبيَّ الله، عفا الله عنك، فلما قرأ {ولا يزنين} قالت : أو تزني الحُرة ؟ فلما قرأ {ولا يقتلن أولادهنَّ} قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم - وكان ابنها حنظلة قد قُتل يوم بدر - فضحك عمر حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} قالت هند: والله إِن البهتان لأمرٌ قبيح، ولا يأمر اللهُ إِلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فلما قرأ {ولا يعصينك في معروف} قالت : واللهِ ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وأخرج الإِمام أحمد عن "أميمة بنت رقيقة" - أخت السيدة خديجة وخالة فاطمة الزهراء - قالت : أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساءٍ لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن {ألاَّ نشرك بالله شيئاً} الآية وقال: (فيما استطعتنَّ وأطقتُنَّ) فقلنا : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا يا رسول الله : ألا تصافحنا ؟ قال: "إني لا أصافح النساء، إِنما قولي لامرأةٍ واحدة قولي لمائة امرأة" {يا أيها الذين آمنوا لا تتولَّوا قوماً غضب اللهُ عليهم} أي لا تصادقوا يا معشر المؤمنين الكفرة أعداء الدين، ولا تتخذوهم أحباء وأصدقاء توالونهم وتأخذون بآرائهم، فإِنهم قوم غضب الله عليهم ولعنهم قال الحسن البصري: هم اليهود لقوله تعالى {غير المغضوب عليهم} وقال ابن عباس: هم كفار قريش لأن كل كافر عليه غضبٌ من الله، والظاهر أن الآية عامة كما قال ابن كثير: يعني اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب الله عليه ولعنه {قد يئسوا من الآخرة} أي أولئك الفجار الذين يئسوا من ثواب الآخرة ونعيمها {كما يئسَ الكفار من أصحاب القبور} أي كما يئس الكفار المكذبون بالبعث والنشور، من أمواتهم أن يعودوا إِلى الحياة مرة ثانية بعد أن يموتوا، فقد كانوا يقولون إذا مات لهم قريب أو صديق: هذا آخر العهد به، ولن يبعث أبداً .. ختم تعالى السورة الكريمة بمثل ما فتحها به وهو النهي عن موالاة الكفار أعداء الله، وهو بمثابة التأكيد للكلام، وتناسق الآيات في البدء والختام، وهو من البلاغة بمكان.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 03:00 AM

سورة الصف


بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة الصف هي إحدى السور المدنية، التي تُعنى بالأحكام التشريعية، وهذه السورة تتحدث عن موضوع "القتال" وجهاد أعداء الله، والتضحية في سبيل الله لإِعزاز دينه، وإِعلاء كلمته، وعن التجارة الرابحة التي بها سعادة المؤمن في الدنيا والآخرة، ولكنَّ المحور الذي تدور عليه السورة هو "القتال"، ولهذا سميت سورة الصف.
* ابتدأت السورة الكريمة - بعد تسبيح الله وتمجيده - بتحذير المؤمنين من إِخلاف الوعد، وعدم الوفاء بما التزموا به { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ
* ثم تحدثت عن قتال أعداء الله بشجاعة المؤمن وبسالته، لأنه يقاتل من أجل غرضٍ نبيل، وهو رفع منار الحق، وإِعلاء كلمة الله { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ}.
* وتناولت السورة بعد ذلك موقف اليهود من دعوة موسى وعيسى عليهما السلام، وما أصابهما من الأذى في سبيل الله، وذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ناله من كفار مكة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي.. } الآيات.
* وتحدثت السورة عن سنة الله في نصرة دينه، وأنبيائه، وأوليائه، وضربت المثل للمشركين في عزمهم على محاربة دين الله، بمن يريد إطفاء نور الشمس بفمه الحقير {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.
* ودعت السورة المؤمنين إِلى التجارة الرابحة، وحرضتهم على الجهاد في سبيل الله بالنفس والنفيس، لينالوا السعادة الدائمة الكبيرة مع النصرة العاجلة في الدنيا، وخاطبتهم بأسلوب الترغيب والتشويق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..} الآيات.
* وختمت السورة بدعوة أهل الإِيمان إِلى نصرة دين الرحمن، كما فعل الحواريون أصحاب عيسى حين دعاهم إِلى نصرة دين الله فاستجابوا ونصروا الحق والرسول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ..} وهكذا يتناسق البدء مع الختام في أبدع بيان وإِحكام.
تحذير المؤمنين من إخلاف الوعد، والدعوة إلى القتال صفاً واحداً
سبب نزول الآية (1، 2):
أخرج الترمذي كما تقدم والحاكم وصححه والدارمي عن عبد الله بن سَلام قال: قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها.
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي نزَّه اللهَ وقدَّسه ومجَّده جميعُ ما في السماواتِ والأرض من مَلَك، وإِنسان، ونبات،وجماد {وإِن من شيءٍ إِلا يسبح بحمده ولكنْ لا تفقهون تسبيحهم} قال الإِمام الفخر الرازي: أي شهد له بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات الحميدة جميع ما في السماوات والأرض {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو الغالب في ملكه، الحكيم في صنعه، الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} أي يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله لم تقولون بألسنتكم شيئاً ولا تفعلونه؟ ولأي شيءٍ تقولون نفعل ما لا تفعلونه من الخير والمعروف؟ وهو استفهام على جهة الإِنكار والتوبيخ، قال ابن كثير: هذا إنكارٌ على من يَعِد وعداً، أو يقول قولاً لا يفي به، وفي الصحيحين "آية المنافق ثلاثٌ: إِذا وعد أخلف، وإِذا حدَّث كذب، وإِذا ائتمن خان" ثم أكَّد الإِنكار عليهم بقوله {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} أي عظُم فعلكم هذا بغضاً عند ربكم {أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} أي أن، تقولوا شيئاً ثم لا تفعلونه، وأن تَعِدوا بشيء ثم لا تفون به قال ابن عباس: كان ناسٌ من المؤمنين - قبل أن يُفرض الجهاد - يقولون: لوددنا أنَّ اللهَ عز وجلَّ دلنا على أحبِّ الأعمال إِليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إِيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإِيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناسٌ من المؤمنين وشقَّ عليهم أمره فنزلت الآية وقيل: هو أن يأمر الإِنسان أخاه بالمعروف ولا يأتمر به، وينهاه عن المنكر ولا ينتهي عنه كقوله تعالى {أتأمرون الناس بالبرِّ وتنسون أنفسكم}؟ ثم أخبرهم تعالى بفضيلة الجهاد في سبيل الله فقال {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} أي يحب المجاهدين الذين يصفُّون أنفسهم عند القتال صفاً، ويثبتون في أماكنهم عند لقاء العدو {كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} أي كأنهم في تراصِّهم وثبوتهم في المعركة، بناءٌ قد رُصَّ بعضه ببعض، وأُلصق وأُحكم حتى صار شيئاً واحداً، قال القرطبي: ومعنى الآية أنه تعالى يحب من يثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء، وهذا تعليمٌ من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم.
قصة موسى وعيسى عليهما السلام مع بني إسرائيل
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(5)وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(6)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(7)يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8)هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(9)}.
سبب النزول:
نزول الآية (8):
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا..} حكى الماوردي عن عطاء عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود، أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتمّ أمره، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، واتصل الوحي بعدها.
ولما ذكر تعالى أمر الجهاد، بيَّن أنَّ موسى وعيسى أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله وأوذيا بسبب ذلك فقال {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي}؟ أي واذكر يا محمد لقومك قصة عبده وكليمه "موسى بن عمران" حين قال لقومه بني إِسرائيل: لمَ تفعلون ما يؤذيني؟ {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} أي والحال أنكم تعلمون علماً قطعياً - بما شاهدتموه من المعجزات الباهرة - أني رسولُ اللهِ إِليكم، وتعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟ وفي هذا تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من كفار مكة {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أي فلما مالوا عن الحقِّ، أمال الله قلوبهم عن الهدى {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي واللهُ لا يوفق للخير والهدى من كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الله، قال الرازي: وفي هذا تنبيهٌ على عظم إِيذاء الرسل، حتى إِنه يؤدي إِلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى .. ثم ذكر تعالى قصة عيسى عليه السلام فقال {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} أي واذكر يا محمد لقومك هذه القصة أيضاً حين قال عيسى لبني إِسرائيل إِني رسول اللهِ أرسلت إِليكم بالوصف المذكور في التوراة، قال القرطبي: ولم يقل "يا قوم" كما قال موسى، لأنه لا نسب له فيهم فيكونون قومه فإِنه لم يكن له فيهم أب {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي حال كوني مصدِّقاً ومعترفاً بأحكام التوراة، وكُتب الله وأنبيائه جميعاً، ولم آتكم بشيء يخالف التوراة حتى تنفروا عني {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} أي وجئت لأبشركم ببعثة رسولٍ يأتي بعدي يسمى "أحمد"، قال الألوسي: وهذا الاسم الكريم علمٌ لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال حسان:
صلَّى الإِلهُ ومن يحفُّ بعرشه والطّيبون على المبارك "أحمد"
وفي الحديث ( لي خمسة أسماءٍ: أنا محمدٌ، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناسُ على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب) ومعنى العاقب الذي لا نبيَّ بعده، وروي أن الصحابة قالوا يا رسول الله أخبرنا عن نفسك! فقال: دعوةُ أبي إِبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أُمي حين حملت بي كأنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشام {فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي فلما جاءهم عيسى بالمعجزات الواضحات، من إحياء الموتى، وإِبراء الأكمه والأبرص، ونحو ذلك من المعجزات الدالة على صدقه في دعوى الرسالة {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي قالوا عن عيسى: هذا ساحرٌ جاءنا بهذا السحر الواضح، والإِشارة بقولهم "سحر" إِلى المعجزات التي ظهرت على يديه عليه السلام، قال المفسرون: بشَّر كلُّ نبي قومه بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإِنما أفرد تعالى ذكر عيسى بالبشارة في هذا الموضع لأنه آخر نبيٍ قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، فبيَّن تعالى أن البشارة به عمَّت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إِلى عيسى عليه السلام آخر أنبياء بني إِسرائيل {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ} استفهامٌ بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن يدعوه ربه إِلى الإِسلام على لسان نبيه، فيجعل مكان إِجابته افتراء الكذب على الله بتسمية نبيه ساحراً، وتسميةءاياتِ الله المنزلة سحراً {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يوفق ولا يرشد إِلى الفلاح والهدى من كان فاجراً ظالماً {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يريد المشركون أن يطفئوا دين الله وشرعه المنير بأفواههم قال الفخر الرازي: وإِطفاء نور الله تعالى تهكمٌ بهم في إِرادتهم إِبطال الإِسلام بقولهم في القرآن إِنه سحر، شُبهت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، وفيه تهكم وسخريةٌ بهم {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} أي واللهُ مظهرٌ لدينه، بنشره في الآفاق، وإِعلائه على الأديان، كما جاء في الحديث (إنَّ الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإِن مُلك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها ..) الحديث، والمراد أنَّ هذا الدين سينتشر في مشارق الدنيا ومغاربها {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} أي ولو كره ذلك الكافرون المجرمون، فإِنَّ الله سيعز شأن هذا الدين رغم أنف الكافرين، قال في حاشية البيضاوي: كان كفار مكة يكرهون هذا الدين الحق، من أجل توغلهم في الشرك والضلال، فكان المناسب إِذلالهم وإِرغامهم بإِظهار ما يكرهونه من الحق، وليس المراد من إظهاره ألا يبقى في العالم من يكفر بهذا الدين، بل المرادُ أن يكون أهلهُ عالين غالبين على سائر أهل الأديان بالحجة والبرهان، والسيف واللسان، إِلى آخر الزمان {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} أي هو جلَّ وعلا بقدرته وحكمته بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالقرآن الواضح، والدين الساطع {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي ليعليه على سائر الأديان المخالفة له، من يهودية ونصرانية وغيرهما {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أي ولو كره ذلك أعداءُ الله، المشركون بالله غيره، قال أبو السعود: ولقد أنجز الله وعده بإِعزاز دين الإِسلام، حيث جعله بحيث لم يبق دينٌ من الأديان، إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإِسلام.
التجارة الرابحة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10)تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11)يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12)وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(13)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}.
سبب النزول:
نزول الآية (10):
{هَلْ أَدُلُّكُمْ..}: أخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: قالوا: لو كنا نعلم أي الأعمال أحب إلى الله وأفضل؟ فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ..} الآية، فكرهوا الجهاد، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}.
نزول الآية (11):
{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قال المسلمون: لو علمنا ما هذه التجارة، لأعطينا فيها الأموال والأهلين، فنزلت: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} أي يا من صدقتم الله ورسوله وآمنتم بربكم حقَّ الإِيمان، هل أدلكم على تجارة رابحة جليلة الشأن؟ والاستفهام للتشويق {تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي تخلِّصكم وتنقذكم من عذاب شديد مؤلم .. ثم بيَّن تلك التجارة ووضحها فقال {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إِيماناً صادقاً، لا يشوبه شكٌ ولا نفاق {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} أي وتجاهدون أعداء الدين بالمال والنفس، لإِعلاء كلمة الله، قال المفسرون: جعل الإِيمان والجهاد في سبيله "تجارة" تشبيهاً لهما بالتجارة، فإنها عبارة عن مبادلة شيء بشيء، طمعاً في الربح ومن آمن وجاهد بماله ونفسه فقد بذل ما عنده وما في وسعه، لنيل ما عند ربه من جزيل ثوابه، والنجاة من أليم عقابه، فشبَّه هذا الثواب والنجاة من العذاب بالتجارة لقوله تعالى {إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنة} قال الإِمام الفخر الرازي: والجهاد ثلاثةُ أنواع:
1- جهادٌ فيما بينه وبين نفسه، وهو قهرُ النفس ومنعُها عن اللذات والشهوات.
2- وجهادٌ فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع منهم ويشفق عليهم ويرحمهم.
3- وجهادُ أعداء الله بالنفس والمال نصرةً لدين الله {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ما أمرتكم به من الإِيمان والجهاد في سبيل الله، خيرٌ لكم من كل شيء في هذه الحياة، إن كان عندكم فهم وعلم {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} هذا جواب الجملة الخبرية {تؤمنون بالله ورسوله} لأن معناها معنى الأمر أي آمنوا بالله وجاهدوا في سبيله فإِذا فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم أي يسترها عليكم، ويمحها بفضله عنكم {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي ويدخلكم حدائق وبساتين، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي ويسكنكم في قصور رفيعة في جنات الإِقامة {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي ذلك الجزاء المذكور هو الفوز العظيم الذي لا فوز وراءه، والسعادة الدائمة الكبيرة التي لا سعادة بعدها {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} أ ي ويمنُّ عليكم بخصلةٍ أُخرى تحبونها وهي {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي أن ينصركم على أعدائكم، ويفتح لكم مكة، وقال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي وبشِّر يا محمد المؤمنين، بهذا الفضل المبين، قال أبو حيّان: لما ذكر تعالى ما يمنحهم من الثواب في الآخرة، ذكر لهم ما يسرُّهم في العاجلة، وهي ما يفتح الله عليهم من البلاد، فهذه هي خير الدنيا موصولٌ بنعيم الآخرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} أي انصروا دين الله وأعلوا مناره {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} أي كما نصر الحواريون دين الله حين قال لهم عيسى بن مريم {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي من ينصرني ويكون عوني لتبليغ دعوة الله، ونصرة دينه؟ {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} أي قال أتباع عيسى - وهم المؤمنون الخُلَّص من خاصته المستجيبون لدعوته - نحن أنصار دين الله، قال البيضاوي: والحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن به، مشتقٌّ من الحور وهو البياض، وكانوا اثني عشر رجلاً، وقال الرازي: والتشبيه في الآية محمول على المعنى أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله {فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} أي فانقسم بنو إِسرائيل إِلى جماعتين: جماعةٌ آمنت به وصدَّقته، وجماعةٌ كفرت وكذبت برسالة عيسى {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} أي فقوينا المؤمنين على أعدائهم الكافرين {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أي حتى صاروا غالبين عليهم بالحجة والبرهان، قال ابن كثير: لما بلَّغ عيسى بن مريم رسالة ربه، اهتدت طائفة من بني إِسرائيل بما جاءهم به، وضلَّت طائفة فجحدوا نبوته، ورموه وأُمه بالعظائم، وهم اليهود عليهم لعنة الله، وغلت فيه طائفةٌ من أتباعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فيه فرقاً وشيعاً، فمنهم من زعم أنه ابنُ الله، ومنهم من قال إِنه ثالث ثلاثة "الأب والابن وروح القدس" ومنهم من قال: إِنه اللهُ - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - فنصر الله المؤمنين على من عاداهم من فرق النصارى.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 03:02 AM

سورة المنافقون


بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة "المنافقون" مدنية، شأنها شأن سائر السور المدنية، التي تعالج "التشريعات والأحكام" وتتحدث عن الإِسلام من زاويته العملية وهي القضايا التشريعية.
* والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث بإِسهاب عن النفاق والمنافقين، حتى سميت السورة بهذا الاسم الفاضح، الكاشف لأستار النفاق "سورة المنافقون".
* تناولت السورة الكريمة في البدء أخلاق المنافقين، وصفاتهم الذميمة التي من أظهرها الكذب، ومخالفة الظاهر للباطن، فإِنهم يقولون بألسنتهم ما لا تعتقده قلوبهم، ثم تآمرهم على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، وقد فضحتهم السورة وكشفت عن مخازيهم وإِجرامهم، فهم بتظاهرهم بالإِسلام يصدُّون الناس عن دين الله وينالون من دعوة الإِسلام ما لا يناله الكفار المعلن لكفره، ولذلك كان خطرهم أعظم، وضررهم أكبر وأجسم {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً}.
* كما تحدثت السورة الكريمة عن مقالاتهم الشنيعة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقادهم بأنَّ دعوته ستضمحل وتتلاشى، وأنهم بعد عودتهم من "غزوة بني المصطلق" سيطردون الرسول والمؤمنين من المدينة المنورة، إِلى غير ما هنالك من أقوال شنيعة.
* وختمت السورة الكريمة بتحذير المؤمنين من أن ينشغلوا بزينة الدنيا ولهوها ومتاعها عن طاعة الله وعبادته شأن المنافقين، وبيّنت أن ذلك طريق الخسران، وأمر بالإِنفاق في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، قبل أن يفوت الأوان بانتهاء الأجل، فيتحسر الإِنسان ويندم حيث لا تنفع الحسرة والندم.
الكذب من صفات المنافقين الذميمة
{إِذا جاءك المنافقون} أي إِذا أتاك يا محمد المنافقون وحضروا مجلسك كعبد الله بن سلول وأصحابه {قالوا نشهد إِنك لرسولُ الله} أي قالوا بألسنتهم نفاقاً ورياءً : نشهد بأنك يا محمد رسولُ الله، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قال أبو السعود : أكَّدوا كلامهم بإِنَّ واللام {إنك لرسول الله} للإِيذان بأنَّ شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلوبهم، وخلوص اعتقادهم، ووفور رغبتهم ونشاطهم {واللهُ يعلم إِنك لرسوله} أي واللهُ جل وعلا يعلم أنك يا محمد رسولُه حقاً، لأنه هو الذي أرسلك، والجملةُ اعتراضية جيء بها لدفع توهم تكذيبهم في دعوى رسالته صلى الله عليه وسلم لئلا يتوهم السامع أن قولهم {إنك لرسولُ الله} كذبٌ في حدِّ ذاته قال ابن جزي : وقوله {واللهُ يعلم إِنك لرسوله} ليس من كلام المنافقين، وإِنما هو من كلام الله تعالى، ولو لم يذكره لكان يوهم أن قوله {واللهُ يشهد إِن المنافقين لكاذبون} إِبطالٌ للرسالة، فوسَّطه بين حكاية المنافقين وبين تكذيبهم ليزيل هذا الوهم وليحقق الرسالة ثم قال تعالى {واللهُ يشهدُ إِن المنافقين لكاذبون} أي يشهد بكذب المنافقين فيما أظهروه من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم، لأنَّ من قال بلسانه شيئاً واعتقد خلافه فهو كاذب، والإِظهار في موضع الإِضمار {إن المنافقين} لذمهم وتسجيل هذه الصفة القبيحة عليهم، كما جاءت الصيغة مؤكدة بإِنَّ واللام زيادةً في التقرير والبيان {اتخذوا أيمْانهم جُنَّةً} أي اتخذوا أيمانهم الفاجرة وقاية وسُترةً يستترون بها من القتل قال الضحاك : هي حلفهم بالله إِنهم مسلمون {فصدُّوا عن سبيل الله} أي فمنعوا الناسَ عن الجهادِ، وعن الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قال الطبري : أي أعرضوا عن دين الله الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم وشريعته التي شرعها لخلقه وقال ابن كثير: إِن المنافقين اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة، فاغترَّ بهم من لا يعرف جليَّة أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون، وهم في الباطن لا يألون الإِسلام وأهله خبالاً، فحصل بذلك ضررٌ كبير على كثير من الناس {إنهم ساء ما كانوا يعملون} أي قبح عملهم وصنيعهم لأنهم يظهرون بمظهر الإِيمان، وهم من أهل النفاق والعصيان، فبئست أعمالهم الخبيثة من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة قال الصاوي: وساءَ كبئس في إرادة الذم، وفيها معنى التعجب وتعظيم أمرهم عند السامعين {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا} أي ذلك الحلف الكاذب والصدُّ عن سبيل الله، بسبب أنهم آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم قال أبو السعود: أي نطقوا بكلمة الشهادة عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم المجرمين، وما فيه من الإِشارة بالبعيد "ذلك" للإِشعار ببعد منزلته في الشر {فطُبع على قلوبهم} أي ختم على قلوبهم فلا يصل إِليها هدى ولا نور {فهم لا يفقهون} أي فهم لا يعرفون الخير والإِيمان، ولا يفرقون بين الحسن والقبيح، لختم الله على قلوبهم {وإِذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} أي وإِذا رأيتَ هؤلاء المنافقين، أعجبتك هيئاتهم ومناظرهم، لحسنها ونضارتها وضخامتها {وإِن يقولوا تسمع لقولهم} أي وإِن يتكلموا تُصغ لكلامهم، لفصاحتهم وذلاقة لسانهم قال ابن عباس: كان ابن سلول - رأس المنافقين - جسيماً، فصيحاً، ذلق اللسان، فإِذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وكذلك كان أصحابه إِذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يعجب الناس بهياكلهم {كأنَّهم خُشبٌ مُسندة} أي يشبهون الأخشاب المسنَّدة إِلى الحائط، في كونهم صوراً خالية عن العلم والنظر، فهم أشباحٌ بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام قال أبو حيان: شُبّهوا بالخشب لعزوب أفهامهم، وفراغ قلوبهم من الإِيمان، والجملة التشبيهية وصفٌ لهم بالجبن والخور، ولهذا قال {يحسبون كلَّ صيحةٍ عليهم} أي يظنون - لجبنهم وهلعهم - كل نداء وكل صوت، موجَّهاً إليهم، فهم دائماً في خوفٍ ووجل من أن يهتك الله أستارهم، ويكشف أسرارهم قال ابن كثير: كلما وقع أمر أو خوفٌ يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم قال مقاتل: إذا سمعوا نشدان ضالة، أو صياحاً بأي وجه كان، طارت عقولهم، وظنوا ذلك إيقاعاً بهم {هم العدوُّ فاحذرهم} أي هم الأعداء الكاملون في العداوة لك وللمؤمنين وإِن أظهروا الإِسلام، فاحذرهم ولا تأمنهم على سرّ، فإِنهم عيونٌ لأعدائك {قاتلهم اللهُ} جملة دعائية أي أخزاهم الله ولعنهم، وأبعدهم عن رحمته {أنَّى يُؤفكون} أي كيف يصرفون عن الهدى إِلى الضلال ؟ وكيف تضل عقولهم مع وضوح الدلائل والبراهين !؟ وفيه تعجيب من جهلهم وضلالهم، وانصرافهم عن الإِيمان بعد قيام البرهان، روى الإِمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ للمنافقين علامات يُعرفون بها: تحيتُهم لعنة، وطعامهم نُهبة، وغنيمتُهم غلول، لا يقربون المساجد إِلا هُجراً، ولا يأتون الصلاة إِلا دُبُراً، مستكبرين لا يألفون ولا يُؤْلفون، خشبٌ بالليل، صُخبٌ بالنهار).
دلائل كذب المنافقين
سبب النزول :
نزول الآية (5) :
{وإذا قيل لهم ..} : أخرج ابن جرير عن قتادة قال : قيل لعبد الله بن أبي : لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فاستغفر لك، فجعل يلوي رأسه، فنزلت فيه : {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله} الآية. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة مثله.
أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطِلق على ماء يقال له (الْمُرَيْسِيع) من ناحية (قُدَيد) إلى الساحل، فازدحم أجير لعمر يقال له (جَهْجاه) مع حَليف لعبد الله بن أُبي يقال له (سِنان) على ماء (بالْمُشَلِّل) فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سِنان بالأنصار، فلَطَم جهجاه سناناً، فقال عبد الله بن أُبي: أوَ قد فعلوها ! والله ما مثلنا ومَثَلُهم إلا كما قال الأول : سَمِّن كلبك يأكلْك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل - يعني محمداً صلى الله عليه وسلم - ثم قال لقومه: كُفُّوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تنفقوا على من عندّه حتى ينفضّوا ويتركوه، فقال زيد بن أرقم - وهو من رهط عبد الله -: أنت والله الذليل الْمُنْتَقَص في قومك، ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن، ومودّة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبداً، فقال عبد الله : اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، فأقسم بالله ما فعل ولا قال، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم. قال زيد: فوجدت في نفسي ولامَني الناس، فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله. فقيل لعبد الله: قد نزلت فيكءايات شديدة، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك، فألوى برأسه، فنزلت الآيات. [متفق عليه].
نزول الآية (6) :
{استغفر لهم ..} : أخرج ابن جرير عن عروة قال : لما نزلت : {استغفرْ لهم أو لا تَسْتغفرْ لهم إنْ تَسْتغفِرْ لهم سبعين مرةً فلَنْ يَغْفِرَ الله لهم} [التوبة : 80] قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لأزيدن على السبعين"، فأنزل الله : {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ..} الآية.
نزول الآيتين (7، 8) :
أخرج البخاري كما تقدم وأحمد وغيرهما عن زيد بن أرقم قال : سمعت عبد الله بن أُبيْ يقول لأصحابه : {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمِّي، فذكر ذلك عمي للنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذَّبني، وصدّقه، فأصابني شيء لم يصبني مثله، فجلست في البيت، فقال عمي: ما أردتَ إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقَتك، فأنزل الله : {إذا جاءك المنافقون} فبعث إِليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأها، ثم قال : "إن الله قد صدَّقك".
{وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسولُ الله} أي وإِذا قيل لهؤلاء المنافقين : هلُمُّوا إِلى رسول الله حتى يطلب لكم المغفرة من الله {لوَّوا رؤوسهم} أي حركوها وهزوها استهزاءً واستكباراً {ورأيتهم يصدُّون وهم مستكبرون} أي وتراهم يعرضون عمَّا دُعوا إِليه، وهم متكبرون عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وجيء بصيغة المضارع ليدل على استمرارهم على الإِعراض والعناد قال المفسرون: لمَّا نزلت الآيات تفضح المنافقين وتكشف الأستار عنهم، مشى إِليهم أقرباؤهم من المؤمنين، وقالوا لهم: ويلكم لقد افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم، فائتوا رسول الله وتوبوا إِليه من النفاق واسألوه يستغفر لكم، فأبوا وحركوا رؤوسهم سخريةً واستهزاءً فنزلت الآية، ثم جاؤوا إِلى "ابن سلول" وقالوا له: امض إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترفْ بذنبك يستغفر لك، فلوَّى رأسه إِنكاراً لهذا الرأي ثم قال لهم: لقد أشرتم عليَّ بالإِيمان فآمنتُ، وأشرتم عليَّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلتُ، ولم يبق لكم إلاَّ أن تأمروني بالسجود لمحمد !! ثم بيَّن تعالى عدم فائدة الاستغفار لهم، لأنهم مردوا على النفاق فقال {سواءٌ عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} أي يتساوى الأمر بالنسبة لهم، فإِنه لا ينفع استغفارك لهم شيئاً، لفسقهم وخروجهم عن طاعة الله ورسوله قال الصاوي: والآية للتيئيس من إِيمانهم أي إن استغفارك يا محمد وعدمه سواء، فهم لا يؤمنون لسبق الشقاوة لهم {لن يغفر اللهُ لهم} أي لن يصفح الله عنهم لرسوخهم في الكفر، وإِصرارهم على العصيان، ثم علَّله بقوله {إنَّ الله لا يهدي القوم الفاسقين} أي لا يوفق للإِيمان، من كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الرحمن .. ثم زاد تعالى في بيان قبائحهم وجرائمهم فقال {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسولِ اللهِ حتى ينفضُّوا} أي هم الفجرة الذين قالوا لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرقوا عن محمد قال أبو حيّان: والإِشارة إِلى ابن سلول ومن وافقه من قومه، سفَّه أحلامهم في أنهم ظنوا أن رزق المهاجرين بأيديهم، وما علموا أن ذلك بيد الله تعالى، وقولهم {على من عندَ رسول الله} هو على سبيل الهزء، إذ لو كانوا مقرين برسالته ما صدر منهم ما صدر، والظاهر أنهم لم ينطقوا بنفس ذلك اللفظ، ولكنه تعالى عبَّر به عن رسوله إكراماً له وإِجلالاً {وللهِ خزائنُ السماواتِ والأرض} أي هو تعالى بيده مفاتيح الرزق يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولا يملك أحدٌ أن يمنع فضل الله عن عباده {ولكنَّ المنافقين لا يفقهون} أي ولكنَّ المنافقين لا يفهمون حكمة الله وتدبيره، فلذلك يقولون ما يقولون من مقالات الكفر والضلال .. ثم عدَّد تعالى بعض قبائحهم وأقوالهم الشنيعة فقال {يقولون لئن رجعنا إِلى المدينة} أي يقولون لئن رجعنا من هذه الغزوة - غزوة بني المصطلق - وعدنا إِلى بلدنا "المدينة المنورة" {ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ} أي لنجرجنَّ منها محمداً وصحبه، والقائل هو ابن سلول، وعنى بالأعز نفسه وأتباعه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه قال المفسرون: لما قال ابن سلول ما قال ورجع إِلى المدينة، وقف له ولده "عبد الله" على باب المدينة واستلَّ سيفه، فجعل الناسُ يمرون به، فلما جاء أبوه قال له ابنه : وراءك، والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول: إنَّ رسول الله هو الأعزُّ، وأنا الأذل فقالها، ثم جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : بلغني أنك تريد أن تقتل أبي، فإِن كنت فاعلاً فمرني فأنا أحمل إِليك رأسه !! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا {وللهِ العزَّة ولرسوله وللمؤمنين} أي لله جل وعلا القوة والغلبة ولمن أعزه وأيده من رسوله والمؤمنين لا لغيرهم، والصيغة تفيد الحصر قال القرطبي: توهموا أنَّ العزة بكثرة الأموال والأتباع، فبيَّن الله أن العزة والمنعة لله ولرسوله وللمؤمنين {ولكنَّ المنافقين لا يعلمون} أي ولكنَّ المنافقين لفرط جهلهم وغرورهم لا يعلمون أن العزة والغلبة لأوليائه دون أعدائه.
تحذير المؤمنين من الأموال والأولاد، وحثهم على الإنفاق
{يا أَيُّها الًّذين آمنوا لا تُلْهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله}لما ذكر قبائح المنافقين، نهى المؤمنين عن التشبه بهم في الاغترار بالأموال والأولاد ومعنى: لا تشغلكم أيها المؤمنون الأموال والأولاد عن طاعة الله وعبادته، وعن أداء ما ا فترضه عليكم من الصلاة، والزكاة، والحج، كما شغلت المنافقين قال أبو حيان: أي لا تشغلكم أموالكم بالسعي في نمائها، والتلذذ بجمعها، ولا أولادكم بسروركم بهم، وبالنظر في مصالحهم، عن ذكر الله وهو عام في الصلاة، والتسبيح، والتحميد، وسائر الطاعات {ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} أي ومن تشغله الدنيا عن طاعة الله وعبادته، فأولئك هم الكاملون في الخسران، حيث آثروا الحقير الفاني على العظيم الباقي، وفضلوا العاجل على الآجل {وأنفقوا مما رزقناكم} أي وأنفقوا في مرضاة الله، من بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال {من قبل أن يأتي أحدَكُم الموتُ} أي قبل أن يحلَّ الموتُ بالإِنسان، ويصبح في حالة الاحتضار {فيقول ربِّ لولا أخرتني إِلى أجلٍ قريب} أي فيقول عند تيقنه الموت: يا ربِّ هلاَّ أمهلتني وأخرت موتي إِلى زمنٍ قليل !! {فأصَّدق وأكنْ من الصالحين} أي فأتصدق وأحسن عملي، وأصبح تقياً صالحاً قال ابن كثير: كلُّ مفرطٍ يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ليستدرك ما فات، ولكن هيهات {ولن يُؤَخر اللهُ نفساً إِذا جاء أجلُها} أي ولن يمهل الله أحداً أياً كان إِذا انتهى أجله، ولن يزيد في عمره، وفيه تحريضٌ على المبادرة بأعمال الطاعات، حذراً أن يجيء الأجل وقد فرَّط ولم يستعد للقاء ربه {والله خبير بما تعملون} أي مطلع وعالم بأعمالكم من خير أو شر، ومجازيكم عليها.




الساعة الآن 12:56 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى