منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب تاريخ ابن خلدون (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8921)

ميارى 12 - 8 - 2010 07:40 AM

الخبر عن وفاة الأمير أبي عبد الله صاحب قسطنطينة من الأبناء
وولاية بنيه من بعده إقباله وألقى عليه محبته لما كان يتوسم في شواهده من الترشيح وما تحلى به من خلال الملك‏.‏وكان الناس يعرفون له حق ذلك‏.‏وذلك أن ابن عمر كان مستبداً بالثغور الغربية‏:‏ بجاية وقسطنطينة ومدافعاً عنها العدو من زناتة المطالبين لها‏.‏فلما هلك ابن عمر سنة تسع عشرة كما قدمناه صرف السلطان نظره إلى ثغوره فعقد على بجاية لابنه الأمير أبي زكرياء وعقد على حجابته لابن القالون وسرحه معه لمدافعة العدو وعقد على قسطنطينة لابنه الأمير أبي عبد الله ومعه أحمد بن ياسين‏.‏وخرجوا جميعاً من تونس سنة عشرين ونزل كل بعمله‏.‏وقدم ظافر الكبير من الغرب فولاه السلطان حجابة ابنه قسطنطينة وأنزله بها إلى أن هلك سنة سبع وعشرين على تيمرزدكت كما ذكرناه فجاء حجابته من تونس أبو القاسم بن عبد العزيز الكاتب فأقام أربعين يوماً‏.‏ثم رجع إلى الحضرة وأضاف السلطان حجابة قسطنطينة لابن سيد الناس إلى حجابة بجاية وبعث إليها نائباً عنه مولاه هلال النازع إليه عن موسى بن علي قائد بني عبد الواد فقام بحضرة الأمير أبي عبد الله إلى أن كانت نكبة ابن سيد الناس عندما بلغ الأمير أبو عبد الله أشده وجرى في طلق استبداده ففوض له في عمله السلطان وأطلق من عنانه وكان يؤامره في شأنه ويناجيه في خلوته‏.‏وأنزل معه بقسطنطينة مولاه نبيلاً من المعلوجي يقيم له رسم الحجابه‏.‏ثم استدعى ظافر السنان من تونس سنة أربع وثلاثين لقيادة الأعنة والحرب فقدم لذلك وأقام سنة ونصفها‏.‏ثم رجع وقام نبيل بحجابته كما كان‏.‏ودفع ليعيش بن‏.‏من صنائع الدولة لقيادة العساكر وحماية الأوطان فقاسمه لذلك مراسم الخدمة ورتب الدولة‏.‏واستمرت حال الأمير أبي عبد الله على ذلك والأيام تزيده ظوراً ومساعيه الملوكية تكسبه خلالاً وترشيحاً إلى أن اغتبط دون غايته وإعتاقه الأجل عن مداه فهلك رضوان الله عليه آخر سبع وثلاثين وقام بأمره من بعده كبير بنيه الأمير أبو زيد عبد الرحمن فعقد له السلطان أبو بكر على عمل أبيه لنظر نبيل مولاهم لمكان صغره واستمرت حالهم على ذلك إلى آخر الدولة وكان من أمرهم ما نذكره بعد والله تعالى أعلم‏.‏


الخبر عن شأن العرب ومهلك حمزة
ثم أجلاب بنيه على الحضرة وانهزامهم ومقتل معز وزيرهم وما قارن ذلك من الأحداث لما ملك السلطان أبو الحسن تلمسان وأعمالها وقطع دابر آل زيان واجتث أصلهم وجمع كملة زناتة على طاعته واستتبعهم عصباً تحت لوائه‏.‏ودانت القبائل بالانقياد له وتخبت القلوب لرعبه ووفد عليه حمزة بن عمر يرغبه في ممالك إفريقية ويستحثه لها ديدنه مع أبي تاشفين من قبله فكف بالبأس من غلوائه وزجره عن خلافه على السلطان وشقاقه‏.‏ونهج له بالشفاعة سبيلاً إلى معاودة طاعته والعمل بمرضاته فرجع حمزة إلى السلطان عائذاً بحلمه متوسلاً بشفاعة صاحبه زعيماً بإذعانه وقطع مواد الخلاف من العرب باستقامته فتلقاه السلطان بالقبول وإسعاف الرغبة والجزاء على المناصحة والمخالصة‏.‏ولم يزل حمزة بن عمر من لدن رضى مولانا السلطان عنه وإقباله عليه صحيح الطاعة خالص الطوية منادياً بمظاهرة محمد بن الحكم قائد حربه وشهاب دولته على تدويخ إفريقية وتمهيد أعمالها وحسم أدواء الفساد منها‏.‏وأخذ الصدقات من جميع ظواعن البدو الناجعة في أقطارها وجميع الطوائف المتعاصين بالثغور على إلقاء اليد للطاعة والكف عن أموال الجباية فكانت لهذا القائد آثار في ذلك مهدت من الدولة وأرغمت أنوف المتعاطين للاستبداد في القاصية حتى استقام الأمر وانمحى أثر الشقاق فاستولى على المهدية سنة تسع وثلاثين وغلب عليها ابن عبد الغفار المنتزي بها من أهل رجيس واستولى على تبسة وتقبض على صاحبها محمد بن عبدون من مشيختها وأودعه سجن المهدية إلى أن أطلق بعد نكبته ونازل توزر من بعد ذلك حتى استقام ابن يملول على طاعته المضعفة‏.‏واسترهن ولده ونازل بسكرة غير مرة يدافعه يوسف بن منصور بن مزني بذمة عليه يدعيها من السلطان أبي بكر وسلفه‏.‏ويعطيه الجباية عن يد مع ما كان له من الإعتلاق بخدمة السلطان أبي الحسن فيتجافى عنه ابن الحكيم لذلك بعد استيفاء مغارمه‏.‏وزحف إلى بلاد ريغة فافتتح قاعدتها تقرت واستولى على أموالها وذخيرتها وسار إلى جبل أوراس فافتتح الكثير من معاقله‏.‏وعصفت ريح الدولة بأهل الخلاف من كل جانب وجاست عساكر السلطان خلال كل أرض‏.‏وفي أثناء ذلك هلك حمزة بن عمر سنة اثنتين وأربعين على يد أبي عون علي بن كبير أحد بطون بني كعب بطعنة طعنه بها غيلة فأشواه وقام بأمره من بعده بنوه وكبيرهم يومئذ عمر وداخلتهم الظنة أن قتله بإملاء الدولة فاعصوصبوا وتدامروا واستجاشوا بأقتالهم أولاد مهلهل فجيشوا معهم وزحف إليهم ابن الحكيم في عساكر السلطان من زناتة والجند ففلوه واستلحموا كثيراً من وجوههم‏.‏ورجع إلى الحضرة فتحصن بها واتبعوه فنزلوا بساحتها سنة ثلاثين وقاتلوا العساكر سبع ليال‏.‏ثم اختلفوا ونزع طالب بن مهلهل في قومه إلى طاعة السلطان فأجفلوا وخرج السلطان على تفيئة ذلك في جمادى من سنته في عساكره وأحزابه من العرب وهوارة فأوقع بهم برقادة من ضواحي القيروان‏.‏ورجع إلى حضرته آخر رمضان من سنته‏.‏وذهبوا مقلولين إلى القفر ومروا في طريقهم بالأمير أبي العباس بقفصة فرغبوه في الخلاف على أبيه وأن يجلبوا به على الحضرة فأملى لهم في فلك حتى ظفر بمعز بن مطاعن وزير حمزة وكان رأس النفاق والغواية فتقبض عليه وقتله وبعث برأسه إلى الحضرة فنصب بها‏.‏ووقع ذلك من مولانا السلطان أحسن المواقع‏.‏ثم وفد بعدها على الحضرة فبايع له بالعهد في آخر سنته في محفل أشهده الملأ من الخاصة والكافة بإيوان ملكه وكان يوماً مشهوداً قرئ فيه سجل العهد على الكافة وانفضوا منه داعين للسلطان‏.‏وراجع بنو حمزة الطاعة من بعدها واستقاموا عليها إلى أن كان من أمرهم ما نذكره‏.‏


الخبر عن مهلك الحاجب ابن عبد العزيز وولاية أبي محمد بن تافراكين
من بعده وما كان على تفيئة ذلك من نكبة ابن الحكيم هذا الرجل اسمه أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز الغساني وكنيته أبو القاسم وأصل سلفه من الأندلس انتقلوا إلى مراكش واستخدموا بها للموحدين واستقر أبوه إسماعيل بتونس‏.‏ونشا أبو القاسم بها واستكتبه الحاجب ابن الدباغ ولما دخل السلطان أبو البقاء خالد إلى تونس ونكب ابن الدباغ لجأ ابن عبد العزيز إلى الحاجب ابن غمر وخرج معه من تونس إلى قسطنطينة واستقر ظافر الكبير هنالك فاستخدمه إلى أن غرب إلى الأندلس كما قدمناه‏.‏ثم استعمله ابن غمر على الأشغال بقسطنطينة سنة ثلاث عشرة فقام بها وتعلق بخدمة القانون بعد استبداد ابن غمر ببجاية‏.‏فلما وصل السلطان أبو بكر إلى تونس سنة ثمان عشرة استقدمه القالون واستعمله على أشغال تونس‏.‏ثم كانت سعايته في القالون مع المزوار بن عبد العزيز إلى أن فر القالون سنة إحدى وعشرين وولي الحجابة المزوار بن عبد العزيز وكان أبو القاسم بن عبد العزيز هذا رديفاً لضعف أدواته‏.‏ولما هلك ابن عبد العزيز المزوار بقي أبو القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم إلى أن قدم ابن سيد الناس من بجاية وتقفد الحجابة كما قدمناه فغص بمكان ابن عبد العزيز هذا وأشخصه عن الحضرة وولاه أعمال الحامة‏.‏ثم استقدم منها عندما ظهر عبد الواحد بن اللحياني بجهات قابس فلحق بالسلطان في حركته إلى تيمرزدكت وأقام في جملة السلطان إلى أن نكب ابن سيد الناس وولي الحجابة بالحضرة كما ذكرنا ذلك لكله من قبل إلى أن هلك فاتح سنة أربع وأربعين فعقد السلطان على حجابته لشيخ الموحدين أبي محمد عبد الله بن تافراكين‏.‏وكان بنو تافراكين هؤلاء من بيوت الموحدين في تينملل ومن آيت الخمسين‏.‏وولي عبد المؤمن كبيرهم عمر بن تافراكين على فاس أول ما ملكها الموحدون سنة أربعين وخمسمائة إلى أن فتحوا مراكش فكان عبد المؤمن يستخلفه عليها أيام مغيبه على الإمارة والصلاة‏.‏ولما ثار بمراكش عبد العزيز وعيسى ابنا أومغار أخي الإمام المهدي سنة إحدى وخمسين كان أول ثورتهم أن اعترضوا عمر بن تافربكين عند ندائه للصلاة فقتلوه وفضحهم الصبح واستلحمهم العامة ثم كان ابنه عبد الله بن عمر من بعده من رجالات الموحدين ومشيختهم‏.‏ولما عقد الخليفة يوسف بن عبد المؤمن على قرطبة لأخيه السيد أبي إسحاق أنزل معه عبد الله بن عمر بن تافراكين للمشورة مع جماعة من الموحدين كان منهم يوسف بن وانودين وكان عبد الله المقدم فيهم‏.‏وجاء ابنه عمر من بعده متقبلاً مذهبه مرموقاً تجلته‏.‏ولما ولي السيد أبو سعيد بن عمر بن عبد المؤمن على إفريقية ولاه قابس وأعمالها إلى أن استنزله عنها يحيى بن غانية سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة‏.‏ثم كان منهم بعد ذلك عظماء في الدولة وكبراء من المشيخة آخرهم عبد العزيز بن تافراكين خالف الموحدين بمراكش لما نقضوا بيعة المأمون فاغتالوه في طريقه إلى المسجد عند الأذان بالصبح بما كان محافظاً على شهود الجماعات‏.‏ورعاه له المأمون في أخيه عبد الحق وبنيه أحمد ومحمد وعمر فلما استلحم الموحدون وعمهم الجزع ارتحل عبد الحق مورياً بالحج ونزل على السلطان المستنصر فأنزله بمكانه من الحضرة وسرحه بعض الأحايين إلى الحامة لحسم الداء فيها‏.‏وقد كان يوقع الخلاف من مشيختها فحسن غناؤه فيها وقتل أهل الخلاف وحسم العلل‏.‏وولاه السلطان أبو إسحاق على بجاية بعد مقتل محمد بن أبي هلال فاضطلع بها‏.‏ولما ولي الدعي ابن أبي عمارة سرحه في عسكر من الموحدين لقهر العرب وكف عدوانهم فأثخن فيهم ما شاء‏.‏ولم يزل معروفاً بالرياسة مرموقا بالتجلة إلى أن هلك‏.‏وكان بنو أخيه عبد العزيز وهم‏:‏ أحمد ومحمد وعمر جاءوا على أثره من المغرب فنزلوا بالحضرة خير منزل وغذوا بلبان النعمة والجاه فيها‏.‏وكان أحمد كبيرهم‏.‏وولاه السلطان أبو حفص على قفصة ثم على المهدية ثم استعفى من الولاية وكان السلطان أبو عصيدة يستخلفه على الحضرة إذا خرج منها على ما كان لأوليه إلى أن هلك لأول المائة الثامنة سنة ثلاث‏.‏ونشأ ابناه أبو محمد عبد الله وأبو العباس أحمد في حجر الدولة وجو عنايتها‏.‏وأصهر عبد الله منهما إلى أبي يعقوب بن يزدوتن شيخ الدولة في ابنته فعقد له عليها‏.‏وأصهر من بعده أخوه أحمد إلى أبي محمد بن يغمور في ابنته فعقد له أيضاً عليها‏.‏واستخلص أبو ضربة اللحياني كبيرهما أبا محمد عبد الله وآثره بصحابته فلم يزل معه إلى أن كانت الوقيعة عليه بمصوح وتقبض على كثير من الموحدين فكان في جملتهم‏.‏ومن عليه السلطان أبو بكر ورقاه في رتب عنايته إلى أن ولأه الوزارة بعد الشيخ أبي محمد بن القاسم‏.‏ثم قدمه شيخاً على الموحدين بعد مهلك شيخهم أبي عمر بن عثمان سنة اثنتين وأربعين وبعثه إلى ملك المغرب مع ابنه الأمير أبي زكرياء صاحب بجاية صريخاً على بني عبد الواد فجلى في خدمة ابن السلطان وعرض سفارته‏.‏وتوجه لإيثار بعدها إليه واختص بالسفارة إلى ملك المغرب سائر أيامه‏.‏وغص الحاجب ابن سيد الناس بمكانه وهم بمكروهه فكبح السلطان عنانه عنه ويقال أنه أفضى إليه بذات صدره من نكبته‏.‏ولما انقسمت خطط الدولة من الحرب والتدبير ومخالصة السلطان وتنفيذ أوامره بين ابن عبد العزيز الحاجب وابن الحكيم القائد كان له هو القدح المعلى في المشورة والتدبير وكانوا يرجعون إليه ويعولون على رأيه وكان ثالث أثافيهم ومصقلة آرائهم‏.‏ولما هلك الحاجب ابن عبد العزيز وكان السلطان قد أضمر نكبة ابن الحكيم لما كان يتعاطاه من الاستبداد ويحتجنه من أموال السلطان وأسر الحاجب ابن عبد العزيز إلى السلطان زعموا بين يدي مهلكه بالتحذير من ابن الحكيم وسوء دخلته وأنه فاوضه أيام نزول العرب عليه بساح تونس سنة اثنتين وأربعين كما قدمناه في الإدالة من السلطان ببعض الأعياص من بني أبي دبوس كانوا معتقلين بالحضرة ألقاها الغدر على لسانه ضجراً من قعود السلطان عن الخروج بنفسه إلى العرب وسأمه مما هو فيه من الحصار فاعتدها عليه ابن عبد العزيز حتى ألقاها إلى السلطان عند موته وبرئ منها إليه فأودعها أذناً واعية وكان حتف ابن الحكيم فيها‏.‏فلما هلك وولي شيخ الموحدين أبو محمد بن تافراكين فاوضه في نكبة ابن الحكيم وكان بتربص به لما كان بينهما من المنافسة‏.‏وكان ابن الحكيم غائباً عن الحضرة في تدويخ القاصية وقد نزل جبل أوراس واقتضى مغارمه وتوغل في أرض الزاب واستوفى جبايته من عامله يوسف بن منصور وتقدم إلى ريغ ونازل تغرت وافتتحها وامتلأت أيدي عساكرهم من مكاسبهم وحليهم‏.‏واتصل به خبر مهلك ابن عبد العزيز وولاية أبي محمد بن تافراكين الحجابة فنكر ذلك لما كان يظن أن السلطان لا يعدل بها عنه‏.‏وكان يرشح لها كاتبه أبا القاسم بن واران ويرى أن ابن عبد العزيز قبله لم يتميز بها إيثاراً عليه فبدا له ما لم يحتسبه فظن الظنون ونعر ثم أصحب وأغذ السير إلى الحضرة وقد واكب السلطان أبا محمد بن تافراكين في نكبته وأعد البطانة للقبض عليه وقدم على الحضرة منتصف ربيع من سنة أربع وأربعين وجلس له السلطان جلوساً فخماً فعرض عليه هديته من المقربات والرقيق والأنعام حتى إذا انفض المجلس وشيع السلطان وزراءه وانتهى إلى بابه أشار إلى البطانة فأحدقوا به وتلوه إلى محبسه‏.‏وبسط عليه العذاب لاستخراج الأموال فأخرجها من مكامن احتجانها وحصل منها في مودع السلطان أربعمائة ألف من الذهب العين ومثلها أو ما يقاربها من الجوهر والعقار إلى أن استصفى‏.‏ولما أمتك عظمه ونفد ماله خنق بمحبسه في رجب من سنته وذهب مثلاً في الأيام‏.‏وغرب ولده مع أمه إلى المشرق وطوح بهم الاغتراب إلى أن هلك منهم من هلك وراجع الحضرة علي وعبيد منهم في آخرين من أصاغرهم بعد أيام وأحوال والله يحكم لا معقب لحكمه‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:41 AM

الخبر عن شأن الجريد واستكمال فتحه
وولاية ابنه أبي العباس عليه وولاية صاحب قابس أحمد بن مكي علي جزيرة جربة كان أمر الجريد قد صار إلى الشورى مند شغلت الدولة بمطالبة زناتة بني عبد الواد وما نالها لذلك من الاضطراب واستبد مشيخة كل بلد بأمره ثم انفرد واحد منهم بالرياسة وكان محمد بن يملول من مشيخة توزر هو القائم فيها والمستبد بأمرها كما سنذكره‏.‏ولما فرغت الدولة إلى الاستبداد وأرهف السلطان حمده للثوار وعفا على آثار المشيخه بقفصة وعقد لابنه الأمير أبي العباس على بلاد قسطيلية‏.‏ونزل بقفصة فأقام بها ممهداً لأمارته مردداً بعوثه إلى البلاد اختباراً لما يظهرون من طاعته‏.‏وزحف حاجبه أبو القاسم بن عتو بالعساكر إلى نفطة ابتلاء لطاعة رؤسائها بني مدافع المعروفين ببني الخلف وكانوا أخوة أربعة استبدوا في رياستها في شغل الدولة عنهم فسامهم سوء العذاب ولاذوا بجدران الحصون التي ظنوا أنها مانعتهم وتبرأت منهم الرعايا فأدركهم الدهش وسألوا النزول على حكم السلطان فجنبوا إلى مصارعهم وصلبوا على جذوعهم آية للمعتبرين وأفلت السيف علياً صغيرهم لنزوعه إلى العسكر قبل الحادثة فكانت له ذمة واقية من الهلكة‏.‏وانتظم الأمير أبو العباس بلد نفطة في ملكته وجدد له العقد عليه أبوه‏.‏وتملك الكثير من نفزاوة‏.‏ولما استبيحت نفطة ونفراوة سمت همته إلى ملك توزر جرثومة الشقاق وعش الخلاف والنفاق وخشي مقدمها محمد بن يملول مغبة حاله وذهب إلى مصانعة قائد الدولة محمد بن الحكيم بذات صدره فتجافى عنه إلى أن كان مهلكها في سنة واحدة واضطرب أمر توزر وتواثب بنوه وأخوته وقتل بعضهم بعضاً‏.‏وكان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذ عليه المواثيق بالطاعة والجباية ومضى إلى توزر فملكها وطالبه الأمير أبو العباس صاحب قفصة وبلاد قسطيلية بالانقياد الذي عاهد عليه فنازعه ما كان في نفسه من الاستبداد‏.‏وصارت توزر لذلك شجاً معترضاً في صدر إمارته فخاطب أباه السلطان أبا بكر‏.‏وأكراه به فنهض إليه سنة خمس وأربعين وانتهى إلى قفصة وطار الخبر إلى أبي بكر بن يملول رئيسها يومئذ فأدركه الدهش وانفض من حوله الأولياء وجاهر بطاعة السلطان ولقائه ففر عنه كاتبه وكاتب أبيه المستولي على أمره علي بن محمد التمودي المعروف الشهرة ولحق ببسكرة في جوار يوسف بن مزني واتخذ السلطان السير إلى توزر فخرج إليه أبو بكر بن يملول وألقى إليه بيده وخلط نفسه بجملته‏.‏ثم ندم على ما فرط من أمره وأحس بالنكراء من الدولة ونذر بالمهلكة فلحق بالزاب ونزل على يوسف بن منصور ببسكرة فتلقاه من الترحيب والقرى بما يحدث به الناس‏.‏ولما استولى السلطان على توزر وانتظمها في أعماله عقد عليها لابنه الأمير أبي العباس وأنزله بها وأمكنه من رمتها ورجع السلطان إلى الحضرة ظاهراً عزيزاً وتملأ أيام ملكه إلى أن هلك على فراشه كما نذكر‏.‏واتصلت ممالك الأمير أبي العباس في بلاد الجريد وشاور أبو بكر بن يملول توزر مراراً يفلت في كلها من المهلكة إلى أن مات ببسكرة سنة سبع وأربعين قبل مهلك السلطان كما نذكر‏.‏وأقام الأمير أبو العباس بمحل إمارته ولم يزل يمهد الأحوال ويستنزل الثوار‏.‏وكان ابن مكي قد امتنع عليه بقابس وكان من خبره أنه لما رجع عبد الملك من تونس مع عبد الواحد بن اللحياني الذي كان حاجباً له ذهب ابن اللحياني إلى المغرب وأقام هو بقابس‏.‏ثم استراب بمئال أمره مع السلطان حين ذهب ملك آل زيان وأوفد أخاه أحمد بن مكي على السلطان أبي الحسن متنصلاً من ذنوبه متذمماً بشفاعة منه إلى السلطان أبي بكر فشفع له وأعاده السلطان إلى مكان رياته‏.‏واستقام هو على الطاعة ونكب عن سنن العصيان والفتنة‏.‏وكان لأحمد بن مكي حظ من الخلال والأدوات ونفس مشغوفة بالرياسة والسرو‏.‏وكان يقرض الشعر فيجيد ويرسل فيحسن وكان خط كتابه أنيقاً ينحو به منحى الخط الشرقي شأن أهل الجريد فيمتع ما شاء فكانت لذلك كله في نفى الأمير أبي العباس صاغية إليه‏.‏وكان هو مستريباً بالمخالطة لما شاء من إثارة السالفة‏.‏ولم يزل الأمير أبو العباس يفتل له في الذروة والغارب إلى أن جمعها مجلس السيدة أمة الواحدة أخت مولانا السلطان قافلة من حجها فمسح ما كان في صدره وأحكم له عقد مخالصته واصطنعه لنفسه فحل من إمارته بمكان غبطة واعتزاز‏.‏وعقد له السلطان على جزيرة جربة واستضافها إلى عمله وأنزل عنها مخلوف بن الكماد من صنائعه كان افتتحها سنة ثمان وثمانين وعقد له السلطان عليها ونزلها أحمد بن مكي‏.‏واستقل أخوه عبد الملك برياسة قابس وأقاما على ذلك وجردا عزائمهما في ولاية أبي


الخبر عن مهلك الوزير أبي العباس بن تافراكين
كان السلطان أبو بكر عند نكبته لقائده ابن الحكيم استعمل على حجابته شيخ الموحدين أبا محمد بن تافراكين كما ذكرناه وفوض إليه فيما وراء بابه وعقد على الوزارة لأخيه أبي العباس أحمد‏.‏وكان أبو محمد جلس بالباب لمكان الحجابة فدفع إلى الحرب وقود العساكر وإمارة الضاحية أخاه أبا العباس فقام بما دفع إليه من ذلك‏.‏وكان بنو سليم بعد مهلك حمزة بن عمر نقموا ما كان عليه من الإذعان وسموا إلى الخلاف والعناد فكان من أبناء حمزة في ذلك من الأجلاب على الحضرة ما ذكرناه‏.‏وكان سحيم ابن‏.‏من أولاد القوس بن حكيم بهمة غوار ومارد خلاف وعناد وكان السلطان قد ولى على حجابة ابنه الأمير أبي العباس في أعمال الجريد أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وكان يناهض بني تافراكين بزعمه في الشرف وينفس عليهم ما أتاهم الله من الرتبة والحظ فلما ولي أبو محمد الحجابة ملئ منه حسداً وحفيظة وداخل فيما زعموا سحيماً هذا الغوي في النيل من أبي العباس بن تافراكين صاحب العساكر وشارطه على ذلك بما أداه إليه وتكاتموا أمرهم‏.‏وخرج أبو العباس بن تافراكين فاتح سنة سبع في العساكر لجباية هوارة فوفد عليه سحيم هذا وقومه وضايقوه في الطلب‏.‏ثم انتهزوا الفرصة بعض الأيام وأجلبوا عليه فانفض معسكره وكبا به فرسه فقتل وحمل شلوه إلى الحضرة فدفن بها‏.‏وجاهر سحيم بالخلاف وخرج إلى الرمال فلم يزل كذلك إلى حين مهلك السلطان كما نذكره‏.‏


الخبر عن مهلك الأمير أبي زكرياء صاحب بجاية من الأبناء
وما كان بعد ذلك من ثورة أهل بجاية بأخيه الأمير أبي حفص وولاية ابنه الأمير أبي عبد الله كان السلطان أبو بكر لما هلك الحاجب ابن غمر عقد على بجاية لابنه الأمير أبي زكرياء كبير ولده وأنفذه إليها مع حاجبه محمد بن القالون كما ذكرناه وجعل أموره تحت نظره‏.‏ثم رجع القالون إلى تونس فأنزل معه ابن سيد الناس كذلك فلما استبد بحجابة الحضرة جعل على حجابته أبا عبد الله بن فرحون‏.‏ثم لما تقبض على ابن سيد الناس وعلى ابن فرحون وقد استبد الأمير أبو زكرياء بأمره وقام على نفسه فوض السلطان إليه الأمر في بجاية وبعث إليه ظافر السنان مولى أبيه الأمير أبي زكرياء الأوسط قائداً على عسكره والكاتب أبا إسحاق بن غلان متصرفاً في حجابته فأقام ببابه مدة‏.‏ثم صرفهما إلى الحضرة وقدم لحجابته أبا العباس أحمد بن أبي زكرياء الرندي كان أبوه من أهل العلم وكان ينتحل مذهب الصوفية الغلاة ويطالع كتب عبد الحق بن سبعين‏.‏ونشأ أحمد هذا ببجاية واتصل بخدمة السلطان وترقى في الرتب إلى أن استعمله الأمير أبو زكرياء كما قلناه‏.‏ثم هلك وقد أنف السلطان أبو بكر من انتزاء هؤلاء السوقة على حجابة ابنه فأنفذ لهم حضرته كبير الموحدين يومئذ صاحب السفارة أبا محمد بن تافراكين سنة أربعين وسبعمائة فأقام أحوال ملكه وعظم أبهة سلطانه وجهز العساكر لسفره وأخرجه إلى أعماله فطاف عليها وتفقدها وانتهى إلى تخومها من المسيلة ومقرة‏.‏ولم يستكمل الحول حتى سخطه مشيخة من أهل بجاية لما نكروا من الأبهة والحجاب حتى استغلظ عليهم باب السلطان وتولى كبر ذلك القاضي ابن أبي يوسف تعنتاً وملالاً واستعفى هو من ذلك فأعفي وعاد إلى مكانه بالحضرة‏.‏ثم استقدم الأمير أبو زكرياء حاجبه الأول لعهد ابن سيد الناس وهو أبو عبد الله محمد بن فرحون وقد كان السلطان بعثه في غرض الرسالة إلى ملك المغرب في الأسطول الذي بعثه مدداً للمسلمين عند إجازة السلطان أبي الحسن إلى طريف‏.‏وكان أخوه زيد بن فرحون قائد ذلك الأسطول بما كان قائد البحر ببجاية فلما رجع ابن عبد الله بن فرحون من سفارته تلك أذن له في المقام عند الأمير أبي زكرياء واستعمله على حجابته إلى أن هلك فولى من بعده في تلك الخطة ابن القشاش من صائع دولته‏.‏ثم عزله وولى عليها أبا القاسم بن علناس من طبقة الكتاب اتصل بدار هذا الأمير وترقى في ديوانه إلى أن ولاه خطة الحجابة‏.‏مم عزله بعلي بن محمد بن المنت الحضرمي وكان أبوه وعمه قدما مع جالية الأندلس وكانا ينتحلان القراءات‏.‏وأخذ أهل بجاية عن عمه أبي الحسن علي القراءات وكان طموحاً للرياسة واتصل بحظية كانت لمولى أبي زكرياء تسمى أم الحكم قد غلبت على هواه فرسخت على ابن المنت هذا خطة الحجابة واستعمله فيها فقام بها وأصلح مونات السلطان وأحوال مقامته في سفره وجهز له العساكر وجاد في نواحي أعماله‏.‏وهلك هذا الأمير في إحدى سفاراته وهو على حجابته بتاكرارت من أعمال بجاية من مرض كان أزمن به في ربيع الأولى سنة سبع وأربعين وكان ابنه الأمير أبو عبد الله في حجر مولاه فارح من معلوجي بن سيد الناس‏.‏وكانوا اصطنعوه فألفوه قابلاً للترشيح فأقام مع ابن مولاه ينتظر أمر الخليفة وبادر حاجبه الأول أبو القاسم بن علناس إلى الحضرة وأنمى


الخبر إلى الخليفة فعقد على بجاية لابنه الأمير أبي حفص
كان معه الحضرة وهو أصاغر ولده وأنفذه إليها مع رجاله وأولي اختصاصه‏.‏وخرج معه أبو القاسم بن علناس فوصل إلى بجاية ودخلها على حين غفلة‏.‏وحمله الأوغاد من البطانة على إرهاف الحد وإظهار السطو فخشي الناس البوادر وائتمروا‏.‏ثم كانت في بعض الأيام هيعة تمالأ فيها الكافة على التوثب بالأمير القادم فطافوا بالقصبة في سلاحهم ونادوا بإمارة ابن مولاهم‏.‏ثم تسوروا جدرانها واقتحموا داره وملكوا عليه أمره وأخرجوه برمته بعد أن انتهبوا جميع موجوده وتسايلوا إلى دار الأمير أبي عبد الله محمد ابن أميرهم ومولاهم بعد أن كان معتزماً على التقويض عنهم واللحاق بالخليفة جده‏.‏وأذن له في ذلك عمه الأمير القادم فبايعوه بداره من البلد‏.‏ثم نقلوه من الغد إلى قصره بالقصبة وملكوه أمرهم‏.‏وقام بأمره مولاه فارح ولقبه باسم الحجابة واستمر حالهم على ذلك‏.‏ولحق الأمير أبو حفص بالحضرة آخر جمادى الأولى من سنته لشهر من يوم ولايته إلى أن كان من شأنه بعد مهلك مولانا السلطان ما نذكره‏.‏وتدارك السلطان أمر بجاية وبعث إليهم أبا عبد الله بن سليمان من كبراء الصالحين من مشيخة الموحدين يسكنهم ويؤنسهم وبعث معهم كتاب العقد عليها لحافده الأمير أبي عبد الله محمد بن الأمير أبا زكرياء ذهاباً مع مرضاتهم لسكنت نفوسهم وأنسوا بولاية ابن مولاهم وجرت الأمور إلى مصايرها كما نذكره‏.‏مهلك السلطان ابي بكر وولاية ابنه


الخبر عن مهلك مولانا السلطان أبي بكر
وولاية ابنه الأمير أبي حفص بينما الناس في غفلة من الدهر وظل ظليل من العيش وأمن من الخطوب تحت سرادق من العز وذمة واقية من العدل إذ ريع السرب وتكدر الشرب وتقلصت ظلال العز والأمن وتعطل فناء الملك ونعي السلطان أبو بكر بتونس فجأة من جوف الليل ليلة الأربعاء ثاني رجب سنة سبع وأربعين وسبعمائة فهب الناس من مضاجهم متسايلين إلى القصر يستمعون نبأ النعي وأطافوا به سائر ليلتهم تراهم سكارى وما هم بسكارى‏.‏وبادر الأمير أبو حفص عمر ابن السلطان من داره إلى القصر فملكه وضبط أبوابه واستدعى الحاجب أبا محمد بن تافراكين من داره ودعوا المشيخة من الموحدين والموالي وطبقات الجند وأخذ الحاجب عليهم البيعة للأمير أبي حفص‏.‏ثم جلس من الغداة جلوساً فخماً على الترتيب المعروف في الدولة أحكمه الحاجب أبو محمد لمعرفته بعوائدها وقوانين ترتيبها لقنه عن أشياخه أهل الدولة من الموحدين وغدا عليه الكافة في طبقاتهم فبايعوا له وأعطوه صفقة إيمانهم‏.‏وانفض المجلس وقد انعقدت بيعته وأحكمت خلافته‏.‏وكان الأمير خالد ابن مولانا السلطان مقيماً بالحضرة قدمها سائراً منذ أشهر وأقام متملياً من الزيارة فلما سمع النعي فر من ليلته وتقبض عليه أولاد منديل من الكعوب وردوه إلى الحضرة فاعتقل بها‏.‏وقام أبو محمد بن تافراكين بخطة الحجابة كما كان وزيادة تفويض واستبداد إلا أن بطانة السلطان كانوا يكثرون السعاية فيه ويوغرون صدره عليه بذكر منافسات ومناقشات سابقة بين الحاجب والأمير أيام أبيه واتصل ذلك غصاً بمكانه ونذر الحاجب بذلك منهم فأعمل الحيلة في الخلاص من صحابتهم كما نذكر بعد‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:42 AM

الخبر عن زحف الأمير أبي العباس ولي العهد من مكان إمارته بالجريد إلى الحضرة
وما كان من مقتله
ومقتل أخويه الأميرين أبي فارس عزوز وأبي البقاء خالد كان السلطان أبو بكر قد عهد إلى ابنه الأمير أبي العباس صاحب أعمال الجريد كما ذكرناه سنة ثلاث وأربعين فلما بلغه مهلك أبيه وما كان من بيعة أخيه نعى على أهل الحضرة ما جاءوا به من نقض عهده‏.‏ودعا العرب إلى مظاهرته على أمره فأجابوه ونزعوا جميعاً إلى طاعته عن طاعة أخيه بما كان مرهفاً لحده في الاستبداد والضرب على أيدي أهل الدولة من العرب وسواهم‏.‏وزحف إلى الحضرة ولقيه أخوه أبو فارس صاحب عمل سوسة لقيه بالقيروان فأتاه طاعته وصار في جملته وجمع السلطان أبو حفص عمر جموعه واستركب واستلحق وأزاح العلل وأخرج غرة شعبان وارتحل عن تونس وحاجبه أبو محمد بن تافراكين قد نذر منه بالهلكة واعتمل في أسباب النجاة حتى إذا تراءى الجمعان رجع الحاجب إلى تونس في بعض الشغل وركب الليل ناجياً من المغرب‏.‏وبلغ خبر مفره إلى السلطان فأجفل واختل مصافه وتحيز إلى باجة فتلوم بها وتخلف عنه أهل المعسكر فلحقوا بالأمير أبي العباس وملك الحضرة ثامن رمضان ونزل برياض رأس الطابية وأطلق أخاه أبا البقاء من معتقله‏.‏ثم دخل إلى قصره سبع ليال من ملكه وصبحه الأمير أبو حفص ثامنها فاقتحم عليه البلد لصاغية كانت له في قلوب الغوغاء من غشيانه أسمارهم وطروقه منازلهم أيام جنون شبابه وقضاء لذاته في مرباه‏.‏وفتك بأخيه الأمير أبي العباس‏.‏ولسرعان ما نصب رأسه على القناة وداست شلوه سنابك العسكر وأصبح آية للمعتبرين‏.‏وثارت العامة بمن كانت بالبلد من وجوه العرب ورجالاتهم فقتلوا في تلك الهيعة من كتب عليه القتل‏.‏وتلوا كثيراً منهم إلى السلطان فاعتقلهم وقتل أبا الهول بن حمزة بن عمر من بينهم‏.‏وتقبض على أخوته خالد وعزوز وأمر بقطعهم من خلاف فقطعوا وكان فيه مهلكهم‏.‏واستوسق ملكه بالحضرة واستعمل على حجابته أبا العباس أحمد بن علي بن رزين من طبقة الكتاب كان كاتباً للشخشي الحاجب وبعده للقائد ظافر الكبير‏.‏واتصل بالسلطان أبي بكر لأول ملكه بالحضرة فأسف علي بن عمر بولاية ابن القالون الحاجب فخاطب السلطان فيه ونكبه‏.‏ثم أطلق من محبسه ومضى إلى المغرب ونزل على السلطان أبي سعيد فأحمد نزله‏.‏ثم رجع إلى الحضرة ولم يزل مشنوءاً أيام السلطان كلها واستكتب الأمير أبو حفص ولده محمداً وكانت له به وصلة فلما استوسق له الملك بعد مفر أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه ولى أباه أبا العباس هذا على حجابته وعقد على حربه وعساكره لظافر مولى أبيه وجده المعروف بالسنان واستخلص لنجواه وسرة مكتبه أبو عبد الله محمد بن الفضل بن نزار من طبقة الفقهاء ومن أهل البيوت النابهة بتونس كان له بها سلف مذكور واتصل بدار السلطان وارتسم بها مكتباً لولده‏.‏وقرأ عليه هذا الأمير أبو حفص فيمن قرأ عليه منهم فكانت له من أجل ذلك خصوصية به ومزيد عناية عنده‏.‏ولما استبد بأمره كان هو مستبداً بشوراه وجرت الحال على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكره‏.‏


الخبر عن استيلاء السلطان أبي الحسن على إفريقية ومهلك الأمير أبي حفص
وانتقال الأبناء من بجاية وقسطنطينة إلى المغرب وما تخلل ذلك من الأحداث كان السلطان أبو الحسن يحدث نفسه منذ ملك تلمسان وقبلها بملك إفريقية ويتربص بالسلطان أبي بكر وشر له حسواً في ارتغاء‏.‏فلما لحق به حاجبه أبو محمد بن تافراكين بعد مهلكه رغبه في سلطانها واستحثه للقدوم عليها وحرك له الحوار فتنبهت لذلك عزائمه‏.‏ثم وصل الخبر بمهلك ولي العهد وأخويه وخبر الواقعة فأحفظه ذلك بما كان من رضاه بعهده وخطة الوفاق على ذلك بيده في سجله وذلك أن حاجب الأمير أبي العباس وهو أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين كان سفر عن السلطان لآخر أيامه إلى السلطان أبي الحسن بهدية‏.‏وحمل سجل العهد فوقف عليه السلطان أبو الحسن وسأل منه أمضاه لمولاه وكتاب ذلك بخطه في سجله فخطه بيمينه وأحكم له عقده‏.‏فلما بلغه مهلك ولي العهد تعلل بأن النقض أتى على ما أحكمه فأجمع غزو إفريقية ومن بها فعسكر ظاهر تلمسان وفرق الأعطيات وأزاح العلل‏.‏ثم رحل في صفر من سنة ثمان وأربعين يجر الدنيا بما حملت‏.‏وأوفد عليه أبناء حمزة بن عمر أمراء البدو بإفريقية ورجالات الكعوب أخاهم خالداً يستصرخه لثأر أخيه أبي الهول الهالك يوم الواقعة فأجابهم‏.‏ونزع إليهم أيضاً أهل القاصية بإفريقية بطاعتهم فجاءوا في وفد واحد‏:‏ ابن مكي صاحب قابس وابن يملول صاحب توزر وابن العابد صاحب قفصة ومولاهم ابن أبي عنان صاحب الحامة وابن الخلف صاحب نفطة فلقوه بوهران وأتوه بيعتهم رغبة ورهبة وأدوا بيعة ابن ثابت صاحب طرابلس ولم يتخلف عنهم إلا لبعد داره‏.‏ثم جاء من بعدهم وعلى أثرهم صاحب الزاب يوسف بن منصور بن مزني ومعه مشيخة الموحدين الدوادرة وكبيرهم يعقوب بن علي فلقوه ببني حسن من أعمال بجاية فأوسع الكل حباء وكرامة وأسنى الصلاة والجوائز وعقد لكل منهم على بلده وعمله‏.‏وبعث مع أهل الجزائر الولاة للجباية لنظر مسعود بن إبراهيم اليرنياني من طبقة وزرائه وأغذ السير إلى بجاية فلما أطلت عساكره عليها توامر أهلها في الامتناع ثم أنابوا وخرج أميرها أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي زكرياء فأتاه طاعته وصرفه إلى المغرب مع إخوانه وأنزله ببلد ندرومه‏.‏وأقطع له الكفاف من جبايتها وبعث على بجاية عماله وخلفاءه‏.‏وسار إلى قسطنطينة فخرج إليه أبناء الأمير أبي عبد الله يقدمهم كبيرهم الأمير أبو زيد فأتوه طاعتهم وأقبل عليهم وصرفهم إلى المغرب وأنزلهم بوجدة وأقطعهم جبايتها وأنزل بقسطنطينة خلفاءه وعماله وأطلق القرابة من مكان اعتقالهم بها وفيهم أبو عبد الله محمد أخو السلطان أبي بكر وبنوه ومحمد ابن الأمير خالد وإخوانه وبنوه وأصارهم في جملته حتى صرفهم الغرب من الحضرة من بعد ذلك‏.‏ووفد عليه هنالك بنو حمزة بن عمر ومشايخ قومهم الكعوب فأخبروه بإجفال المولى أبي حفص من تونس مع ظواعن أولاد مهلهل واستحثوه باعتراضهم قبل لحاقهم القفر وسرح معهم العساكر في طلبه لنظر حمو العشري من مواليه وسرح عسكراً آخراً إلى تونس لنظر يحيى بن سلسمان من بني عسكر ومعه أبو العباس بن مكي وسارت العساكر لطلب الأمير أبي حفص فأدركوه بأرض الحامة من جهات قابس وصبحوهم فدافعوا عن أنفسهم بعض الشيء‏.‏ثم انفضوا وكبا بالأمير أبي حفص جواده في بعض نافقاء الجرابيع وانجلت الغيابة عنه وعن مولاه ظافر راجلين فتقبض عليهما وواثقهما قائد الكتائب في قيده حتى إذا جن الليل وتوقع أن يفلتهما العرب من أساره قبل أن يصل بهما إلى مولاه فذبحهما وبعث برؤوسهما إلى السلطان أبي الحسن فوصلا إليه بباجة‏.‏وخلص الفل من الواقعة إلى قابس فتقبض عبد الملك بن مكي على رجالات من أهل الدولة كان فيهم أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وصخر بن موسى من رجالات سدويكش وغيرهما من أعيان الدولة فبعث بهم ابن مكي إلى السلطان‏.‏فأما ابن عتو وصخر بن موسى وعلي بن منصور فقطعهم من خلاف واعتقل الباقين وسيقت العساكر إلى تونس‏.‏ثم جاء السلطان على أثرهم ودخل الحضرة في الزي والاحتفال في جمادى الآخرة من سنته وخفيت الأصوات وسكنت الدهماء وانقبضت أيدي أهل الفساد‏.‏وانقرض أمر الموحدين إلا ذبالاً في بونة فإنه عقد عليها للمولى الفضل ابن مولانا أبي بكر لمكان صهره ووفادته عليه بين يدي مهلك أبيه‏.‏ثم ارتحل السلطان إلى القيروان ثم إلى سوسة والمهدية وتطوف على المعالم التي بها ووقف على آثار ملوك الشيعة وصنهاجة في مصانعها ومبانيها والتمس البركة في زيارة القبور التي تذكر للصحابة والسلف من التابعين والأولياء وقفل إلى تونس ودخلها آخر شعبان من سنته‏.‏


الخبر عن ولاية الأمير أبي العباس الفضل على بونة وأولية ذلك ومصائره
كان السلطان أبو الحسن قد أصهر إلى السلطان أبي بكر قبيل مهلكه في إحدى كرائمه وأوفد عليه في ذلك عريف بن يحيى كبير بني سويد من زغبة وصاحب شوراه وخالصة سره مع وفد من رجالات دولته من طبقات الفقهاء والكتاب والموالي كان فيهم صاحب الفتيا بمجلسه أبو عبد الله السطي وكاتب دولته أبو الفضل بن عبد الله بن أبي مدين وأمير الحرم عنبر الخصي فأسعف السلطان وعقد له على حظيته عزونة شقة ابنه الفضل وزفها إليه بين يدي مهلكه مع أخيها الفضل ومعه أبو محمد عبد الواحد من مشيخة الموحدين وأدركهم الخبر بمهلك السلطان في طريقهم‏.‏فلما قدموا على السلطان أبي الحسن تقبلهم بقبول حسن ورفع مجلس الفضل ولما استتب له ملكها أعرض له عن ذلك إلا أنه رعى له ذمة الصهر وسابقة الوعد فأقنعه بالعقد على بونة مكان عمله منذ أيام أبيه وأنزله بها عندما رحل عنها إلى تونس‏.‏واضطغن المولى الفضل من ذلك حقداً لما كان يرجوه من تجافيه له عن ملك آبائه ولحق وفادته وصهره وأقام بمكان عمله منها يؤمل الكرة إلى أن كان من أمن ما نذكره والله أعلم‏.‏


الخبر عن بيعة العرب لابن أبي دبوس وواقعتهم مع السلطان أبي الحسن بالقيروان وما قارن ذلك كله من الأحداث
كان السلطان أبو الحسن لما استوسق له ملك إفريقية أسف العرب بمنعهم من الأمصار التي ملكوها بالإقطاعات والضرب على أيديهم في الأتاوات فوجموا لذلك واستكانوا لغلبته وتربصوا الدوائر‏.‏وربما كان بعض البادية منهم يشن الغارات في الأطراف فيعتدها السلطان من كبرائهم‏.‏وأغاروا بعض الأيام في ضواحي تونس فاستاقوا الظهر الذي كان للسلطان في مراعيها وأظلم الجو بينهم وبينه وخشوا عاديته وتوقعوا بأسه‏.‏ووفد عليه أيام الفطر من رجالاتهم خالد بن حمزة وأخوه أحمد من بني كعب وخليفة بن عبد الله بن مسكين وخليفة بن بوزيد من رجالات حكيم‏.‏وساءت ظنونهم في السلطان لسوء أفعالهم فداخلوا عبد الواحد بن اللحياني في الخروج على السلطان‏.‏وكان من خبر عبد الواحد هذا أنه بعد إجفاله من تونس سنة اثنتين وثلاثين كما ذكرناه لحق بأبي تاشفين فأقام عنده في مبرة وتكرمة‏.‏ولما أخذ السلطان أبو الحسن بمخنق تلمسان واشتد حصارها سأل عبد الواحد من أبي تاشفين تخليته للخروج فودعه وخرج للسلطان أبي الحسن فنزل عليه‏.‏ولم يزل في جملته إلى أن احتل بإفريقية‏.‏فلما خشن ما بينه وبين الكعوب والتمسوا الأعياص من بني أبي حفص ينصبونهم للأمر رجوا أن يظفروا من عبد الواحد بالبغية فداخلوه وارتاب لذلك وخشي بادرة السلطان فرفع إليه الخبر فتقبض السلطان عليهم بعد أن أحضرهم معه فأنكروا وبهتوا‏.‏ثم وبخهم واعتقلهم وعسكر بساحة الحضرة لغزوهم وتلوم لبعث الأعطيات وإزاحة العلل وبلغ الخبرإلى أحيائهم فقطع اليأس أسباب رجائهم‏.‏وانطلقوا يحزبون الأحزاب ويلتمسون للملك الأعياص‏.‏وكان أولاد مهلهل أقتالهم وعديلة حملهم قد أيأسهم السلطان من القبول والرضى بما بلغوا في نصيحة المولى أبي حفص ومظاهرته فلحقوا بالقفر ودخلوا الرمال فركب إليهم فتيتة بن حمزة وأمه ومعهما ظواعن أبنائهما متذممين لأولاد مهلهل بالعصبية والقرابة فأجابوهم واجتمعوا بقسطيلية وتواهبوا التراث والدماء وتدامروا بما شملهم من رهب السلطان وتوقع بأسه‏.‏وتفقدوا من أعياص الموحدين من ينصبونه للأمر وكان بتوزر أحمد بن عثمان بن أبي دبوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش وقد ذكرنا خبره وخروجه بجهات طرابلس وأجلابه مع العرب على تونس أيام السلطان أبي عصيدة‏.‏ثم انفضوا وبقي عثمان بجهات قابس وطرابلس إلى أن هلك بجزيرة جربة واستقر بنو ابنه عبد السلام بالحضرة بعد حين فاعتقلوا بها أيام السلطان أبي بكر‏.‏ثم غربهم إلى الإسكندرية مع أولاد ابن الحكيم عند نكبته كما ذكرنا ذلك كله فنزلوا بالإسكندرية وأقبلوا على الحرف لمعاشهم‏.‏ورجع أحمد هذا من بينهم إلى المغرب واستقر بتوزر واحترف بالخياطة‏.‏ولما تفقد العرب الأعياص دلهم على نكرته بعض أهل عرفانه فانطلقوا إليه وجاءوا به وجمعوا له الآلة ونصبوه للأمر وتبايعوا على الاستماتة‏.‏وزحف إليهم السلطان في عساكره من تونس أيام الحج من سنة ثمان ولقيهم بالثنية دون القيروان فغلبهم وأجفلوا أمامه إلى القيروان‏.‏ثم تدامروا ورجعوا مستميتين ثاني محرم سنة تسع فاختل مصافه ودخل القيروان وانتهبوا معسكره بما يشتمل عليه وأخذوا بمخنقه إلى أن اختلفوا وأفرجوا عنه وخلص إلى تونس كما نذكر والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:43 AM

الخبر عن حصار القصبة بتونس ثم الإفراج عن القيروان وعنها وما تخلل ذلك
كان الشيخ أبو محمد بن تافراكين أيام حجابته للسلطان أبي بكر مستبداً بأمره مفوضاً إليه في سائر شؤونه فلما استوزره السلطان أبو الحسن لم يجره على مألوفه لما كان قائماً على أمره وليس التفويض للوزراء من شأنه‏.‏وكان يظن أن السلطان أبا الحسن سيكل إليه أمر إفريقية وينصب معه الفضل للملك‏.‏وربما زعموا أنه عاهده على ذلك فكان في قلبه من الدولة مرض وكان العرب يفاوضونه بذات صدورهم من الخلاة والأجلاب فلما حصلوا على البغية من الظهور على السلطان أبي الحسن وعساكره وأحاطوا به في القيروان تحيل ابن تافراكين في الخروج عن السلطان لما تبين فيه من النكراء منه ومن قومه‏.‏وبعث العرب في لقائه وأن يحملوه حديث فيئهم إلى الطاعة فأذن له وخرج إليهم‏.‏وقلدوه حجابة سلطانهم ثم سرحوه إلى حصار القصبة‏.‏وكان السلطان عند رحيله من تونس خلف بها الكثير من حرمه وأبنائه ووجوه قومه واستخلف عليها يحيى بن سليمان العسكري من كبار بطانته وأهل مجلسه ووجوه قومه‏.‏فلما كانت واقعة القيروان واتصل الخبر بتونس كانت لبناته هيعة خشي عليها عسكر السلطان على أنفسهم فلجأ من كان معهم بتونس إلى قصبتها وأحاط بهم الغوغاء فامتنعت عليهم واتخذوا الآلة للحصار وفرقوا الأموال في الرجال وعظم فيها غناء بشير من المعلوجي الموالي فطار له ذكر‏.‏وكان الأمير أبو سالم ابن السلطان أبي الحسن قد جاء من المغرب فوافاه الخبر دوين القيروان فانفض معسكره ورجع إلى تونس فكان معهم بالقصبة‏.‏ولما خرج ابن تافراكين من هوة الحصار بالقيروان إليهم طمعوا في الاستيلاء على قصبة تونس وفض ختامها فدفعوه إلى ذلك‏.‏ثم لحق به سلطانهم ابن أبي دبوس وعانى من ذلك ابن تافراكين صعباً لكثرة الرجل الذين كانوا بها ونصبوا المجانيق عليها فلم يغن شيئاً وهو أثناء ذلك يحاول النجاة لنفسه لاضطراب الأمور واختلال الرسوم إلى أن بلغه خلوص السلطان من القيروان إلى سوسة‏.‏وكان من خبره أن العرب بعد إيقاعهم بعساكره أحاطوا بالقيروان واشتدوا في حصارها وداخل السلطان أولاد مهلهل من الكعوب وحكيماً من بني سليم في الإفراج عنه واشترط لهم على ذلك الأموال واختلف رأي العرب لذلك ودخل عليه فتيتة بن حمزة بمكانه من القيروان زعيماً للطاعة فتقبله وأطلق إخوانه خالداً وأحمد ولم يثق إليهم ثم دخل إليه محمد بن طالب من أولاد مهلهل وخليفة بن بو زيد وأبو الهول بن يعقوب من أولاد القوس وأسرى معهم بعسكره إلى سوسة فصبحها منها في أساطيله إلى تونس وسبق الخبر إلى ابن تافراكين بتونس فتسلل من أصحابه وركب السفين إلى الإسكندرية في ربيع سنة تسع وأربعين‏.‏وأصبحوا وقد تفقدوه فاضطربوا وأجفلوا عن تونس وخرج أهل القصبة من أولياء السلطان فملكوها وخربوا منازل الحاشية فيها‏.‏ونزل السلطان بها من أسطوله في ربيع الآخر فاستقلت قدمه من العثار ورجا الكرة لولا ما قطع أسبابها عنه مما كان من انتزاء أبنائه بالمغرب على ما نذكره في أخبارهم‏.‏وأجلب العرب وابن أبي دبوس معهم على الحضرة ونازلوا بها السلطان فامتنعت عليهم فرجعوا إلى مهادنته فعقد لهم السلم ودخل حمزة بن عمر إليه وافداً فحبسه إلى أن تقبض على ابن أبي دبوس وأمكنه منه فلم يزل في محبسه إلى أن رحل إلى المغرب ولحق هو بالأندلس كما نذكره في أخباره وأقام السلطان بتونس ووفد عليه أحمد بن مكي فعقد لعبد الواحد بن اللحياني على الثغور الشرقية طرابلس وقابس وصفاقس وجربة وسرحه مع ابن مكي فهلك عند وصوله إليها في الطاعون الجارف وعقد لأبي القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وهو الذي كان قطعه بإغراء أبي محمد بن تافراكين‏.‏فلما ظهر خلافه أعاد ابن عتو إلى مكانه وعقد له على بلاد قسطيلية وسرحه إليها وأقام هو بتونس إلى أن كان ما نذكره‏.‏


الخبر عن استيلاء الأمير الفضل على قسطنطينة وبجاية ثم استيلاء أمرائهما عليهما
كان سنن السلطان أبو الحسن في دولته بالمغرب وفود العمال عليه آخر كل سنة لإيراد جبايتهم والمحاسبة على أعمالهم فوفدوا عليه عامهم ذلك من قاصية المغرب ووافاهم خبر الواقعة بقسطنطينة وكان معهم ابن مزني عامل الزاب وفد أيضاً بجبايته وهديته وكان معهم أبو عمر تاشفين ابن السلطان أبي الحسن كان أسيراً من يوم واقعة طريف‏.‏وقعت المهادنة الطاغية وبين أبيه فأطلقه وأوفد معه جمعاً من بطارقته وقدموا معه على أبيه ووفد معه أخوه عبد الله من المغرب وكان أيضاً معهم وفد السودان من أهل مالي في غرض السفارة واجتمعوا كلهم بقسطنطينة‏.‏فلما اتصل بهم خبر الواقعة على السلطان كثر الاضطراب وتجلبت السفاه من الغوغاء إلى ما بأيديهم وخشي الملأ من أهل البلد على أنفسهم فاستدعوا أبا العباس الفضل من عمله ببونة‏.‏ولما أطل على القسطنطينة ثارت العامة بمن كان هنالك من الوفود والعمال وانتهبوا أموالهم واستلحموا منهم وخلص أبناء السلطان مع وفود السودان والجلالقة إلى بسكرة مع ابن مزني وفي خفارة يعقوب بن علي أمير الدواودة فأوسعهم ابن مزني قرى وتكرمة إلى أن لحقوا بالسلطان أبي الحسن بتونس في رجب من سنة تسع‏.‏ودخل المولى الفضل إلى قسطنطينة وأعاد ما ذهب من سلطان قومه‏.‏وشمل الناس بعدله وإحسانه وسوغ الإقطاع والجوائز ورحل إلى بجاية لما أنس من صاغية أهلهما إلى الدعوة الحفصية‏.‏فلما أطل عليها ثأر أهلها بالعمال الذين كان السلطان أنزلهم بها استباحوهم وأفلتوا من أيدي نكبتهم بجريعة الذقن ودخل المولى الفضل إلى بجاية واستولى على كرسي ملكها ونظمها مع قسطنطينة وبونة في ملكه‏.‏وأعاد ألقاب الخلافة ورسومها وشياتها كما كانت واعتزم على الرحيل إلى الحضرة‏.‏وبينما هو يحدث نفسه بذلك إذ وصل الخبر بقدوم أمراء بجاية وقسطنطينة من المغرب وكان من خبرهم أن الأمير أبا عنان لما بلغه خبر الواقعة بأبيه وإنتزاء منصور ابن أخيه أبي مالك بالبلد الجديد دار ملكهم وأحس بخلاص أبيه من هوة الحصار بالقيروان فوثب على الأمر ودعا لنفسه ورحل إلى المغرب كما نذكره في أخباره‏.‏وسرح الأمير أبا عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكرياء صاحب بجاية من الأبناء إلى عمله وأمده بالأموال وأخذ عليه المواثيق ليكونن له رداء عون أبيه وليحول بينه وبين الخلوص إليه متى مر به‏.‏وانطلق أبو عبد الله إلى بجاية وقد سبقه إليها عمه الفضل واستولى عليها فنازله بها وطال حصارها ولحق به بمكانه من منازلتها نبيل المولى من المعلوجي مع أبناء الأمير أبي عبد الله وكافل بنيه من بعده‏.‏وتقدم إلى قسطنطينة وبها عامل من قبل الفضل فثار به الناس لحينه ودخل نبيل وملك البلد وأقام فيها دعوة أبي زيد ابن الأمير أبي عبد الله‏.‏وكان الأمير أبو عنان استصحبه وإخوانه إلى المغرب وبعد احتلاله بفاس سرحهم إلى مكان إمارتهم بقسطنطينة بعد أن أخذ عليهم الموثق في شأن أبيه بمثل موثق ابن عمهم فجاءوا على أثر نبيل مولاهم ودخلوا البلد‏.‏واحتل أبو زيد منها بمكان إمارته وسلطان قومه كما كان قبل رحلتهم إلى المغرب‏.‏ولم يزل الأمير أبو عبد الله ينازل بجاية إلى أن بيتها بعض ليالي رمضان من سنته بمداخلة بعض الأشياع من زعانفتها داخلهم مولاه وكافله فارح في ذلك فسرب فيهم الأموال وواعدوه للبيات وفتحوا له باب البر من أبوابها فاقتحمها وفاجأهم هدير الطبول فهب السلطان من نومه وخرج من قصره فتسنم الجبل المطل عليها متسرباً في شعابه إلى أن وضح الصباح وظهر عليه فجيء به إلى ابن أخيه فمن عليه واستبقاه وأركبه السفين إلى بلده بونة في شوال من سنة تسع وأربعين‏.‏ووجد بعض الأعياص من قرابته قد ثاروا بها وهو محمد بن عبد الواحد من ولد أبي بكر ابن الأمير أبي زكرياء الأكبر كان هو وأخوه عمر بالحضرة وكان لعمر منهما النظر على القرابة‏.‏فلما كان هذا الاضطراب لحقوا بالفضل وتركهم ببونة عند سفره إلى بجاية فحدثتهم أنفسهم بالانتزاء فلم يتم لهم الأمر‏.‏وثارت بهم الحاشية والعامة فقتلوا لوقتهم ووافى الفضل إلى بونة وقد انجلت غيابتهم ومحيت آثارهم ودخل إلى قصره وألقى عصا تسياره واستقل الأمير أبو عبد الله ابن الأمير أبي زكرياء ببجاية محل إمارة أبيه والأمير أبو زيد بن الأمير أبي عبد الله بقسطنطينة محل إمارة أبيه والأمير أبو العباس الفضل ببونة محل إمارته منذ عهد الإمرة والسلطان أبو الحسن بتونس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن حركة الفضل إلى تونس بعد رحيل السلطان أبي الحسن إلي المغرب
كان العرب بعد ما قدمنا من طاعتهم وإسلامهم السلطان ابن أبي دبوس قد انقبضوا عن السلطان أبي الحسن وأجلبوا عليه ثانية وتولى كبر ذلك فتيتة بن حمزة وخالف إلى السلطان أخوه خالد مع أولاد مهلهل وافترق أمرهم‏.‏وخرج كبيرهم عمر بن حمزة حاجاً واستقدم فتيتة وأصحابه الأمير الفضل من مكان إمارته ببونة لطلب حقه واسترجاع ملك آبائه فأجابهم ووصل إلى أحيائهم آخر سنة تسع فنازلوا تونس وأجلبوا عليها‏.‏ثم أفرجوا عنها وعاودوا منازلتها أول سنة خمسين وأفرجوا عنها آخر المصيف‏.‏واستدعاهم أبو القاسم بن عتو صاحب الجريد من مكان عمله بتوزر فدخل في طاعة الفضل وحمل أهل الجريد كلهم عليها واتبعه في ذلك بنو مكي وانتقضت إفريقية على السلطان أبي الحسن من أطرافها فركب أساطيله إلى المغرب أيام الفطر من سنة خمسين‏.‏ونهض المولى الفضل إلى تونس وبها أبو الفضل ابن السلطان أبي الحسن كان أبوه قد عقد له عليها عند رحيله إلى المغرب تفادياً من ثورات الغوغاء ومعرات هيعتهم وأمن عليه بما كان قد عقد له من الصهر مع عمر بن حمزة في ابنته فلما أطلت رايات المولى الفضل على تونس أيام الحج نبضت عروق التشيع للدعوة الحفصية وأحاطت الغوغاء بالقصر ورجموه بالحجارة‏.‏وأرسل أبو الفضل إلى بني حمزة متذمماً بصهرهم فدخل عليه أبو الليل وأخرجه ومن معه من قومه إلى الحي‏.‏واستركب له من رجالات بني كعب من أبلغه مأمنه وهداه السبيل إلى وطنه ودخل الفضل إلى الحضرة وقعد بمجلس آبائه من الخلافة وجدد ما طمسه بنو مرين من معالم الدولة واستمر أمره على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن مهلك الفضل وبيعة أخيه المولى أبي إسحاق في كفالة أبي محمد بن تافراكين وتحت استبداده
لما دخل أبو العباس الفضل إلى الحضرة واستبد بملكها عقد إلى حجابته لأحمد بن محمد بن عتو نائباً عن عمه أبي القاسم ريثما يصل من الجريد وعقد على جيشه وحربه لمحمد بن الشواش من بطانته‏.‏وكان وليه المطارد به أبو الليل فتية بن حمزه مستبداً عليه في سائر أحواله مشتطاً في طلباته‏.‏وأنف له بطانته من ذلك فحملوه على التنكر له وأن يديل منه بولاية خالد أخيه‏.‏وبعث عن أبي القاسم بن عتو وقد قلده حجابته وفوض إليه في أمره وجعل مقاد الدولة بيده فركب إليه البحر من سوسة واستأنف له خالد بن حمزة ظهيراً على أخيه بعد أن نبذ إليه عهده وفاوضهم أبو الليل بن حمزة قبل استحكام أمورهم فغلب على السلطان وحمله على عزله قائده محمد بن الشواش فدفعه إلى بونة على عساكرها‏.‏واضطرمت نار الفتنة بين أبي الليل بن حمزة وأخيه خالد وكاد شملهم أن ينصدع‏.‏وبينما هم يحشون نار الحرب ويجمعون الجموع والأحزاب إذ قدم كبيرهم عمر وأبو محمد عبد الله بن تافراكين من حجهم‏.‏وكان ابن تافراكين لما احتل بالإسكندرية بعث السلطان أبو الحسن فيه إلى أهل المشرق وخاطب ملوك مصر في التحكيم فيه فأجاره عليه الأمير المستبد على الدولة حينئذ بيبغاروس وخرج من مصر لقضاء فرضه وخرج عامئذ عمر بن حمزة لقضاء فريضه الحج أيضاً فاجتمعا في مشاهد الحج آخر سنة خمسين وتعاقدا على الرجوع إلى إفريقية والتظاهر على أمرهما وقفلا فألفيا خالداً وفتيتة على الصفين فأشار عمر بن داية فاجتمعا وتواقفا ومسح الإحن من صدورهما وتواطأوا جميعاً على المكر بالسلطان وبعث إليه فتية بالمراجعة فقبله واتفقوا على أن يقلد حجابته أبا محمد بن تافراكين حاجب أبيه وكبير دولته ويديل به من ابن عتو فأبى‏.‏ثم أضحت ونزلت أحياؤهم ظاهر البلد واستحثوا السلطان للخروج إليهم ليكملوا عقد ذلك معه فخرج ووقف بساحة البلد إلى أن أحاطوا به ثم اقتادوه إلى بيوتهم وأذنوا لابن تافراكين في دخول البلد فدخلها لإحدى عشرة من جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين‏.‏وعمد إلى دار المولى أبي إسحاق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي بكر فاستخرجه بعد أن بذل لأمه من العهود والمواثيق ما رضيته وجاء به إلى القصر وأقعده على كرسي الخلافة وبايع له الناس خاصة وعامة وهو يومئذ غلام مناهز فانعقدت بيعته ودخل بنو كعب فأتوه طاعتهم وسيق إليه أخوه الفضل ليلتئذ فاعتقله وغط من جوف الليل بمحبسه حتى فاض‏.‏ولاذ حاجبه أبو القاسم بن عتو يومئذ بالاختفاء في غيابات البلد وعثر عليه لليال فامتحن وهلك في امتحانه وخوطب العمال في الجهات بأخذ البيعة على من قبلهم فبعثوا به‏.‏واستقام ابن يملول صاحب توزر على الطاعة وبحث بالجباية والهدية واتبعه صاحب نفطة وصاحب قفصة وخالفهم ابن مكي وذهب إلى الأجلاب على ابن تافراكين لما كان قد كفل السلطان وحجره عن التصرف في أمره واستبد عليه إلى أن كان ما نذكر إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم‏.‏


الخبر عن حركة صاحب قسطنطينة إلى تونس
وما كان من حجابة أبي العباس بن مكي وتصاريف ذلك لما استولى أبو محمد بن تافراكين على تونس وبايع للمولى أبي إسحاق بالخلافة واستبد عليه نقم عليه الأمراء شأن استبداده وشمر ابن مكي للسعي عليه بمنافسة كانت بينهما قديمة من لدن أيام السلطان أبي بكر‏.‏واستعان على ذلك بأولاد مهلهل مقاسمي أولاد أبي الليل في رياسة الكعوب ومجاذبيهم حبل الإمارة‏.‏فلما رأوا صاغية بن تافراكين إلى أولاد أبي الليل أقتالهم أجمعوا له ولهم وحالفوا بني حكيم من قبائل علاق وأجلبوا على الضواحي وشنوا الغارة‏.‏ثم وفدوا على الأمير أبي زيد صاحب قسطنطينة وأعمالها يستحثوهم للنهوض إلى إفريقية واستخلاص ملك آبائه ممن استبد عليه واحتازه فسرح معه عسكرين لنظر ميمون ومنصور الجاهل من مواليه وموالي أبيه وارتحلوا من قسطنطينة‏.‏وارتحل معهم يعقوب بن علي كبير الدواودة بمن معه من قومه‏.‏وسرح أبو محمد بن تافراكين من الحضرة للقائهم عسكراً مع أبي الليل بن حمزة لنظر مقاتل من موالي السلطان والتقى الجمعان ببلاد هوارة سنة اثنتين وخمسين فكانت الدبرة على أولاد أبي الليل‏.‏وقتل يومئذ أبو الليل فتيتة بن حمزة بيد يعقوب بن سحيم من أولاد القوس شيوخ بني حكيم ورجع فلهم إلى تونس فامتدت أيدي أولاد مهلهل وعساكر قسطظينة في البلاد وجبوا الأموال من أوطان هوارة وانتهوا إلى أبة‏.‏ثم قفلوا راجعين إلى قسطنطينة‏.‏وولي على أولاد أبي الليل مكان فتيتة أخوه خالد بن حمزة وقام بآمرهم‏.‏وكان أبو العباس بن مكي أثناء ذلك يكاتب المولى أبا زيد صاحب قسطنطينة من مكان ولايته بقابس ويعده من نفسه الوفادة والمدد بالمال والأحزاب والقيام بأعطيات العرب حتى إذا انصرم فصل الشتاء وفد عليه مع أولاد مهلهل فلقاه مبرة وتكريماً‏.‏وعقد له على حجابته وجمع عساكره وجهز آلته وأزاح علل تابعه ورحل من قسطنطينة سنة ثلاث وخمسين من صفر وجهز أبو محمد بن تافراكين سلطانه أبا إسحاق بما يحتاج إليه من العساكر والآلة وجعل على حربه ابنه أبا عبد الله محمد بن نزار من طبقة الفقهاء ومشيخة الكتاب كان يعلم أبناء السلطان الكتاب ويقرئهم القرآن كما قدمناه وفصل من تونس في التعبية حتى تراءى الجمعان بمرماجنة وتزاحفوا فاختل مصاف السلطان أبي إسحاق وافترقت جموعه وولوا منهزمين‏.‏واتبعهم القوم عشية يومهم ولحق السلطان بحاجبه محمد بن تافراكين بتونس وجاءوا على أثره فنازلوا تونس أياماً وطالت عليها الحرب‏.‏ثم امتنعت عليهم وارتحلوا إلى القيروان ثم إلى قفصة وبلغهم أن ملك المغرب الأقصى السلطان أبا عنان بعد استيلائه على المغرب الأوسط زحف إلى التخوم الشرقية وانتهى إلى المرية‏.‏وكان صاحب بجاية أبو عبد الله قد خالفهم إلى قسطنطينة بمداخلة أبي محمد بن تافراكين واستجاشته‏.‏ونازل جهات قسطنطينة وانتسف زروعها وشن الغارات في بسائطها فبلغه أنه رجع إلى بجاية منكمشاً من زحف بني مرين واعتزم الأمير أبو زيد على مبادرة ثغره ودار إمارته قسطنطينة‏.‏ورغب إليه أبو العباس بن مكي من أولاد مهلهل أن يخلف بينهم من إخوانه من يجتمعون إليه ويزاحفون به فولى عليهم أخاه أبا العباس فبايعوه وأقام فيهم هو وشقيقه أبو يحيى زكرياء إلى أن كان من شأنه ما نذكر وانصرف الأمير أبو زيد عند ذلك من قفصه يغذ السير إلى قسطنطينة واحتل بها في جمادى من سنته والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:44 AM

الخبر عن وفادة صاحب بجاية على ابني عنان واستيلاؤه عليه وعلى بلده ومطالبته قسطنطينة
كان بين الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية وبين الأمير أبي عنان أيام إمارته بتلمسان ونزول الأعياص الحفصيين بندرومة ووجدة أيام أبيه كما ذكرناه اتصال ومخالصة أحكمها بينهما نسب الشباب والملك وسابقة الصهر‏:‏ فكان للأمير أبي عبد الله من أجل ذلك صاغية إلى بني مرين أوجد بها السبيل على ملكه‏.‏ولما مر به السلطان أبو الحسن في أسطوله عند ارتحاله من تونس كما قدمناه أمر أهل سواحله بمنعه الماء والأقوات من سائر جهاتها رعياً للذمة التي اعتقدها مع الأمير أبي عنان في شأنه وجنوحاً إلى تشييد سلطانه‏.‏ولما أوقع السلطان أبو عنان ببني عبد الواد سنة ثلاث وخمسين واستولى على المغرب الأوسط ونجا فلهم إلى بجاية أوعز إلى الأمير أبي عبد الله باعتراضهم في جهاته والتقبض عليهم فأجابه إلى ذلك وبعث العيون بالمراصد فعثروا في ضواحي بجاية على محمد ابن سلطانهم أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن وعلى أخيه أبي ثابت الزعيم ابن عبد الرحمن وعلى وزيرهم يحيى بن داود بن مكن فأوثقوهم اعتقالا وبعث بهم إلى ثم جاء على أثرهم فتلقاه بالقبول والتكرمة وأنزله بأحسن نزل‏.‏ثم دس إليه من أغراه بالنزول له عن بجاية رغبه فيما عند السلطان إزاء ذلك من التجلة والإدالة منها بمكناسة المغرب والراحة من زبون الجند والبطانة وإخفاقاً مما سواه إن لم يتعهده فأجاب إليه على اليأس والكره وشهد مجلس السلطان في بني مرين بالرغبة في ذلك فأسعف وأسنيت جائزته وأقطعت له مكناسة من أعمال المغرب‏.‏ثم انتزعها لأيام قلائل ونقله في جملته إلى المغرب وبعث الأمير أبو عبد الله مولاه فارحاً المستبد كان عليه ليأتيه بأهله وولده وعقد أبو عنان على بجاية لعمر بن علي ابن الوزير من بني واطاس وهم ينتسبون بزعمهم إلى علي بن يوسف أمير لمتونة فاختصه أبو عنان بولايتها لمتات هذا النسب الصنهاجي بينه وبين أهل وطنها منهم‏.‏وانصرفوا جميعاً من المرية‏.‏ولما احتلوا بجاية تآمر أولياء الدعوة الحفصية بها من صنهاجة والموالي وتمشت رجالاتهم في قتل عمر بن علي الوزير وأشياع بني مرين وتصدى لذلك زعيم صنهاجة منصور بن إبراهيم بن الحاج في رجالات من قومه بإملاء فارح كما زعموا‏.‏وغدوا عليه بداره من القصبة فأكب عليه منصور يناجيه فطعنه وطعن آخر منهم القاضي ابن فركان بما كان شيعة لبني مرين‏.‏ثم أجهزوا على عمر بن علي ومضى القاضي إلى داره فمات‏.‏واتصلت الهيعة بفارح فركب إليها وهتف الهاتف بدعوة صاحب قسطظينة محمد بن أبي زيد وطيروا إليه بالخبر واستحثوه للقدوم‏.‏وأقاموا على ذلك أياماً‏.‏ثم تآمر الملأ من أهل بجاية في التمسك بدعوة صاحب المغرب خوفاً من بوادره فثاروا بفارح وقتلوه أيام التشريق من سنة ثلاث وبعثوا برأسه إلى السلطان بتلمسان‏.‏وتولى كبر ذلك صاحبه من موالي ابن سيد الناس ومحمد ابن الحاجب أبي عبد الله بن سيد الناس ومشيخة البلد واستقدموا العامل بتدلس من بني مرين وهو يحيى بن عمر بن عبد المؤمن من بني ونكاسن فبادر إليهم‏.‏وسرح السلطان أبو عنان إليها حاجبه أبا عبد الله محمد بن أبي عمرو في الكتائب فدخلها فاتح سنة أربع وخمسين‏.‏وذهبت صنهاجة في كل وجه فلحق كبراؤهم وذوو الفعلة منهم بتونس وتقبض على هلال مولى ابن سيد الناس لما داخلته فيه من الظنة وعلى القاضي محمد بن عمر لما كان شيعة لفارح عرفاء الغوغاء من أهل المدينة وأشخصهم معتقلين إلى المغرب‏.‏وصرف نظره إلى يمهيد الوطن واستدعى كبراء العرب وأهل النواحي وأعمال بجاية وقسطنطينة‏.‏وفد عليه يوسف بن مزني صاحب الزاب ومشيخة الدواودة فاسترهن أبناءهم على الطاعة وقفل بهم إلى المغرب‏.‏واستعمل أبو عنان على بجاية موسى بن إبراهيم اليرنيابي من طبقة الوزراء وبعثه إليها‏.‏ولما وفدوا على السلطان جلس لهم جلوساً فخماً ووصلوا إليه ولقاهم تكرمة ومبرة وأوسعهم حباء وإقطاعاً وأنفذ لهم الصكوك والسجلات وأخذ على طاعتهم العهود والمواثيق والرهن وانقلبوا إلى أهلهم‏.‏وعقد لحاجبه أبي عمرو على بجاية وأعمالها وعلى حرب قسطنطينة من ورائها ورجعه إليها فدخلها في رجب من سنته‏.‏وأوعز السلطان إلى موسى بن إبراهيم بالولاية على سدويكش والنزول ببني ياورار في كتيبة جهزها هنالك لمضايقة قسطنطينة وجباية وطنها وكل ذلك لنظر الحاجب ببجاية وكان بقسطنطينة أبو عمر تاشفين ابن السلطان أبي الحسن معتقلا من لدن واقعة بني مرين بها‏.‏وكان موسوساً في عقله معروفاً بالجنون عند قومه‏.‏وكان الأمراء بقسطنطينة قد أسنوا جرايته في اعتقاله وأوله من المبرة والحفاوة كفاء نفسه‏.‏فلما زحفت كتائب بني مرين إلى بني ياورار آخر عمر بجاية وأذنوا قسطنطينة ومن بها بالحرب والحصار نصب المولى أبو زيد هذا الموسوس أبا عمر ليجأجئ به رجالات بني مرين أهل العسكر ببجاية وبني ياورار وجهز له الآلة وتسامعوا بذلك فنزع إليهم الكثير منهم‏.‏وخرج نبيل حاجب الأمير أبي زيد إلى أهل الضاحية من بونة ومن كان على دعوته من سدوبكش والدواودة فجمعهم وزحفوا جميعاً إلى وطن بجاية واتصل الخبر بالحاجب ببجاية فبعث في الدواودة من مشاتيهم بالصحراء فأقبلوا إليه حتى نزلوا التلول‏.‏ووفد عليه أبو دينار بن علي بن أحمد واستحثه للحركة على قسطنطينة فاعترض عساكره وأزاح عللهم وخرج من بجاية في ربيع من سنة خمسين فكر أبو عمر ومن معه راجين إلى قسطنطينة‏.‏وزحف الحاجب فيمن معه من بني مرين والدواودة وسدويكش ولقيهم نبيل الحاجب بمن معه فكانت عليه الدبرة واكتسحت أموال بونة ورجع ابن أبي عمر بعساكره إلى قسطنطينة فأناخ سبعاً‏.‏ثم ارتحل عنها إلى ميلة وعقد يعقوب بن علي بين الفريقين صلحاً على أن يمكنوه من أبي عمر الموسوس فبعثوا به إلى أخيه السلطان أبي عنان فأنزله ببعض الحجر ورتب عليه الحرس‏.‏وسار الحاجب في نواحي أعماله وانتهى إلى المسيلة واقتضى مغارمها ثم انكفأ راجعاً إلى بجاية وهلك فاتح ست وخمسين‏.‏وعقد السلطان على بجاية وأعمالها بعده لوزيره عبد الله بن علي بن سعيد من بني يابان وسرحه إليها فدخلها وزحف إلى قسطنطينة فحاصرها وامتنعت عليه فرجع إلى بجاية‏.‏ثم زحف من العام المقبل سنة سبع وخمسين كذلك ونصب عليها المجانيق فامتنعت عليه ورجف في معسكره بموت السلطان فانفضوا وأحرق مجانيقه‏.‏ورجع إلى بجاية وجمر الكتائب ببني ياورار لنظر موسى بن إبراهيم اليرنياني عامل سدويكش إلى أن كان من الإيقاع به وبعسكره ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏والله أعلم‏.‏


الخبر عن حادثة طرابلس واستيلاء النصارى عليها ثم رجوعها إلى ابن مكي
كانت طرابلس هذه ثغراً منذ الدول القديمة وكانت لهم عناية بحمايتها لما كان وضعها في البسيط وكانت ضواحيها قفراً من القبائل فكان النصارى أهل صقلية كثيرا ما يحدثون أنفسهم بملكها‏.‏وكان ميخائيل الأنطاكي صاحب أسطول رجار قد تملكها من أيدي بني خيزرون من مغراوة آخر دولتهم ودولة صنهاجة كما ذكرنا‏.‏ثم رجعها ابن مطروح ودخلت في دعوة الموحدين ومرت عليها الأيام إلى أن استبد بها ابن ثابت ووليها من بعده ابنه في أعوام خمسين وسبعمائة منقطعاً عن الحضرة مقيماً رسم الدعوة‏.‏وكان تجار الجنويين يترددون إليها فاطلعوا على عوراتها وائتمروا في غزوها واتعدوا لمرساها فوافوه سنة خمس وخمسين وانتشروا بالبلد في حاجاتهم‏.‏ثم بيتوها ذات ليلة فصعدوا أسوارها وملكوها عليهم‏.‏وهتف هاتفهم بالحرب وقد لبسوا السلاح قارتاعوا وهبوا من مضاجعهم‏.‏فلما رأوهم بالأسوار لم يكن همهم إلا النجاة بأنفسهم‏.‏ونجا ثابت بن عمر مقدمهم إلى حلة الجواري أعراب وطنها من دباب إحدى بطون بني سليم فقتل لدم كان أصابه منهم‏.‏ولحق أخوته بالإسكندرية واستباحها النصارى‏.‏واحتملوا في سفنهم ما وجدوا بها من الخرثى والمتاع والعقائل والأسرى وأقاموا بها‏.‏وداخلهم أبو العباس بن مكي صاحب قابس في فدائها فاشترطوا عليه خمسين ألفاً من الذهب العين فبعث فيها لملك المغرب السلطان أبي عنان يطرفه بمثبوتها‏.‏ثم تعجلوا عليه فجمع ما عنده واستوهب ما بقي من أهل قابس والحامة وبلاد الجريد فجمعوها له حسبة ورغبة في الخبر‏.‏وأمكنه النصارى من طرابلس فملكها واستولى عليها وأزال ما دنسها من وضر الكفر‏.‏وبعث السلطان أبو عنان بالمال إليه وأن يرد على الناس ما أعطوه وينفرد بمثوبتها وذكرها فامتنعوا إلا قليلا منهم ووضع المال عند ابن مكي لذلك ولم يزل ابن مكي أميراً عليها إلى أن هلك كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن بيعة السلطان أبي العباس أمير المؤمنين
ومفتتح أمره السعيد بقسطنطينة كان الأمير أبو زيد قد ولي الأمر من بعد أبيه الأمير أبي عبد الله بولاية جده الخلية أبي بكر وكان أخوته جميعاً في جملته ومنهم السلطان أبو العباس أمير المؤمنين لهذا العهد والمفرد بالدعوة الحفصية‏.‏وكان الناس من لدن مهلك أبيهم يرون أن الوارثة لهم وأن الأمر فيهم حتى لقد يحكى عن شيخ وقته الولي أبي هادي المشهور الذكر وكان من أهل المكاشفة أنه قال ذات يوم وقد جاءوا لزيارته بأجمعهم على طريقتهم وسنن أسلافهم في التبرك بالأولياء فدعا لهم الشيخ ما شاء ثم قال‏:‏ البركة إن شاء الله في هذه العشر وأشار إلى الأخوة مجتمعين‏.‏وكان الحزى والمنجمون أيضاً يخبرون بمثلها ويحومون بظنونهم على أبي العباس من بينهم لما يتفرسون فيه من الشواهد والمخايل‏.‏فلما كان من منازلة أخيه أبي زيد لتونس سنة ثلاث وخمسين ما قدمناه ثم ارتحل عنها إلى قفصة وأراد الرجوع إلى قسطنطينة للإرجاف بشأن السلطان أبي عنان وأنه زحف إلى آخر عمله من تخوم بجاية رغب حينئذ إليه أولاد مهلهل أولياؤه من العرب وشيعته وحاجبه أبو العباس بن مكي صاحب عملي قابس وجربة أن يستعمل عليهم من أخوته من يقيم معه لمعاودة تونس بالحصار فسرح أخاه مولانا أبا العباس فتخلف معهم في ذلك وفي جملته شقيقه أبو يحيى فأقاما بقابس‏.‏وكان صاحب طرابلس محمد بن ثابت قد بعث أسطوله لحصار جربة فدخل الأمير أبو العباس بمن معه إلى الجزيرة وخاضوا إليها البحر فأجفل عسكر ابن ثابت وأفرجوا عن الحصن‏.‏ثم رجع السلطان إلى قابس وزحف العرب أولاد مهلهل معه إلى تونس وحاصروها أياماً فامتنعت عليهم‏.‏ورجع إلى أعمال الجريد وأوفد أخاه أبا يحيى زكرياء على السلطان صريخاً سنة خمس وخمسين فلقاه مبرة ورحباً وأسنى جائزته وأحسن وعده وانكفأ راجعاً عنه إلى وطنه‏.‏ومر بالحاجب ابن أبي عمرو عند إفراجه عن قسطنطينة ولحق بأخيه بمكانه من قاصية إفريقية واتصلت أيديهما على طلب حقهما‏.‏وفي خلال ذلك فسد ما بين أبي محمد بن تافراكين صاحب الأمر بتونس وبين خالد بن حمزة كبير أولاد أبي الليل فعدل عنه إلى أقتاله أولاد مهلهل واستدعاهم للمظاهرة فأقبلوا عليه‏.‏وتحيز خالد إلى السلطان أبي العباس وزحفوا إلى تونس فنازلوها سنة ست وخمسين وامتنعت عليهم فأفرجوا عنها واستقدمه أخوه أبو زيد إثر ذلك لينصره من عساكر بني مرين عندما تكاثفوا عليه وضاق به الحصار فأجابه وقدم عليه بخالد واستخلف على قسطنطينة أخاه أبا العباس فدخلها ونزل بقصور الملك منها وأقام بها مدة وعساكر بني مرين قد ملأت عليه الضاحية فدعا الأولياء إلى الاستبداد وأنه أبلغ في المدافعة والحماية لما كانوا يتوقعون من زحف العساكر إليهم من بجاية فأجاب وبويع سنة خمس وخمسين وانعقد أمره‏.‏وزحف عبد الله بن علي صاحب بجاية إلى قسطنطينة في سنته وفي سنة سبع بعدها فحاصرها ونصب المجانيق‏.‏ثم أجفل آخراً للإرجاف كما ذكرناه‏.‏وتنفس مخنق الحصار عن قسطنطينة وكان الأمير أبو زيد أخوه لما ذهب مع خالد إلى تونس ونازلها امتنعت عليه ورجع وقد استبد أخوه بأمر قسطنطينة فعدل إلى بونة وراسل أبا محمد بن تافراكين في سكنى الحضرة والنزول لهم عن بونة فأجابه ونزل عنها الأمير أبو زيد لعمه السلطان أبي إسحاق وتحول إلى تونس فأوسعوا له المنازل وأسنوا الجرايات والجوائز وأقام في كفالة عمه إلى أن كان من أمره ما نذكره‏.‏


الخبر عن واقعة موسى بن إبراهيم واستيلاء أبي عنان بعدها على قسطنطينة وما تخلل ذلك من الأحداث
لما استبد السلطان أبو العباس بالأمر وزحفت إليه عساكر بجاية وبني مرين فأحسن دفاعها عن بلده‏.‏وتبين لأهل الضاحية مخايل الظهور فيه فداخله رجالات من سدويكش من أولاد المهدي بن يوسف في غزو موسى بن إبراهيم وكتائبة المجمرة ببني ياورار ودعوا إلى ذلك ميمون بن علي بن أحمد وكان منحرفاً عن أخيه يعقوب ظهير بني مرين ومناصحهم فأجاب‏.‏وسرح السلطان أخاه أبا يحيى زكرياء معهم بمن في جملته من العساكر وصبحوهم في غارة شعواء فلما شارفوهم ركبوا إليهم فتقدموا قليلا ثم أحجموا واختل مصافهم وأحيط بهم وأثخن قائد العساكر موسى بن إبراهيم بالجراحة واستلحم بنوه زيان وأبو القاسم ومن إليهم وكانوا أسود هياج وفرسان ملحمة في آخرين من أمثالهم وتتبعوا بالقتل والنهب إلى أن استبيحوا ونجا فلهم إلى بجاية ولحقوا بالسلطان أبي عنان‏.‏ولما بلغه الخبر قام في ركائبه وقعد وفتح ديوان العطاء وبعث وزراءه للحشد في الجهات‏.‏واعترض الجنود وأزاح العلل وشكى له موسى بن إبراهيم بقعود عبد الله بن علي صاحب بجاية عن نصره فسخطه ونكبه وعقد مكانه ليحيى بن ميمون بن مصمود وتلوم بعده أشهراً في تجهيز العساكر وبعث السلطان أبو العباس أخاه أبا يحيى إلى تونس صريخاً لعمه السلطان أبي إسحاق فأعجله الأمر عن الإياب إليه وارتحل أبو عنان في عساكره‏.‏ثم بعث في مقدمته وزيره فارس بن ميمون بن ودرار وزحف على أثره في ربيع سنة ثمان وخمسين وأغذ السير إلى قسطنطينة وقد نازلها وزيره ابن ودرار قبله‏.‏فلما نزل بساحتها وقد طبق الأرض الفضاء بجيوشه وعساكره وجم أهل البلد وأدركهم الدهش فانفضوا وتسللوا إليه وتحيز السلطان أبو العباس إلى القصبة فامتنع بها حتى توثق لنفسه بالعهد‏.‏ثم نزل إليه فكفاه تكرمة ورحباً وبنى له الفساطيط في جواره‏.‏ثم بدا له في أيام قلائل فنقض عهده وأركبه السفن إلى المغرب وأنزله بسبتة‏.‏ورئت عليه الحرس بعث خلال ذلك إلى بونة فدخلت في طاعته وفر عنها عمال الحضرة‏.‏ولما استولى عقد على قسطنطينة لمنصور بن خلوف شيخ بني يابان من قبائل بني مرين‏.‏ثم بعث رسله إلى أبي محمد بن تافراكين في الأخذ بطاعته والنزول عن تونس فردهم وأخرج سلطانه المولى أبا إسحاق مع أولاد أبي الليل ومن إليهم من العرب بعد أن جهز له العساكر وما يصلحه من الآلة والجند وأقام هو بتونس وأجمع أبو عنان النهوض إليه ووفد إليه أولاد مهلهل يستحثون لذلك فسرح معهم عسكراً في البر لنظر يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي كبير تيربيعين من قبائل بني مرين وصاحب الشورى في مجلسه وسرح عسكراً آخراً في أسطول لنظر محمد بن يوسف المعروف بالأبكم من بني الأحمر من الملوك بالأندلس لهذا العهد فسبق الأسطول وصبحوا تونس وقاتلوها يوماً أو بعض يوم‏.‏وأتيح لهم الظهور فخرج عنها أبو محمد بن تافراكين ولحق بالمهدية واستولت عساكر بني مرين على تونس في رمضان سنة ثمان وخمسين ولحق يحيى بن رحو بعسكره فدخل البلد وأمضى فيها أوامر السلطان‏.‏ثم دعاه أولاد مهلهل إلى الخروج لمباغتة أولاد أبي الليل وسلطانهم فخرج معهم لذلك وأقام ابن الأحمر وأهل الأسطول بالبلد‏.‏وفي خلال ذلك جاهر يعقوب بن علي بالخلاف لما تبين من نكراء السلطان أبي عنان وإرهاف حده للعرب ومطالبتهم بالرهن وقبض أيديهم عن الأتاوات ومسح أعطافه بالمدارات فلم يقبلها يعقوب بالرمل وأتبعه السلطان فأعجزه فعدا على قصوره ومنازله بالتل والصحراء فخربها وانتسفها‏.‏ثم رجع إلى قسطنطينة وارتحل منها يريد إفريقية وقد نهض المولى أبو إسحاق بمن معه من العرب للقائه وانتهوا إلى فحص سبتة‏.‏ثم تمشت رجالات بني مرين وائتمروا في الرجوع عنه حذراً أن يصيبهم بإفريقية ما أصابهم من قبل فانفضوا متسللين إلى المغرب‏.‏ولما خف المعسكر من أهله أقصر عن القدوم على إفريقية فرجع إلى المغرب بمن بقي معه واتبع العرب آثاره وبلغ الخبر إلى أبي محمد بن تافراكين بمكان منجاته من المهدية فصار إلى تونس‏.‏ولما أطل عليها ثار أهل البلد بمن كان عندهم من عسكر بني مرين وعاملهم فنجوا إلى الأساطيل ودخل أبو محمد بن تافراكين إلى الحضرة وأعاد ما طمس من الدولة‏.‏ولحق به السلطان أبو إسحاق بعد أن تقدم الأمير أبو زيد في عسكر الجنود والعرب لاتباع آثار بني مرين ومنازلة قسطنطينة فأتبعه إلى تخوم عملهم ورجع أبو زيد إلى قسطنطينة وقاتلها أياماً فامتنعت عليه فانكفأ راجعاً إلى الحضرة‏.‏ولم يزل مقيماً بها إلى أن هلك عفا الله عنه‏.‏وكان أخوه أبو يحيى زكرياء قد لحق بتونس من قبل صريخاً كما قلناه فلما بلغهم أن قسطنطينة قد أحيط بها تمسكوا به فلحق به الفل من مواليهم وصنائعهم فكانوا معه إلى أن يسر الله أسباب الخير والسعادة للمسلمين وأعاد السلطان أبا العباس إلى الأمر من بعد مهلك أبي عنان كما نذكر ومد إيالته على الخلق فطلع على الرعايا بالعدل والأمان وشمول العافية والإحسان وكف أيدي العدوان‏.‏ورتع الناس من دولته في ظل ظليل ومرعى جميل كما نذكره بعد إن شاء الله‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:45 AM

الخبر عن انتقاض الأمير أبي يحيى زكريا بالمهدية
ودخوله في دعوة أبي عنان ثم نزوله عنها إلى الطاعة وتصاريف ذلك كان الحاجب أبو محمد عند رجوعه إلى الحضرة صرف عنايته إلى تحصين المهدية يعدها للدولة وزراً من حادث ما يتوقعه من المغرب وأهله فشيد من أسوارها وشحن بالأقوات والأسلحة مخازنها ومستودعاتها وعقد عليها للأمير زكرياء أخي السلطان أبي إسحاق وكان في كفالته وأنزله بها‏.‏وبعث على حجابته أحمد بن خلف من أوليائه وذويه مستبداً عليه فقام على ذلك حولا أو بعضها‏.‏ثم ضجر الأمير أبو يحيى زكرياء من الاستبداد عليه واستنكف من حجره في سلطانه فبيت أحمد بن خلف فقتله وبعث عن أبي العباس أحمد بن مكي صاحب جربة وقابس ليقيم له رسم الحجابة بما كان مناوئاً لأبي محمد بن تافراكين فوصل إليه وطيروا بالخبر إلى السلطان أبي عنان صاحب المغرب وبعثوا إليه ببيعتهم واستحثوه لصريخهم‏.‏واضطراب أمرهم وسرح أبو محمد بن تافراكين إليها العسكر فأجفلوا أمامه ولحق المولى أبو يحيى زكرياء بقابس واستولى عليها العسكر واستعمل عليها أبو محمد بن تافراكين محمد بن الجكجاك من قرابة ابن ثابت اصطنعه عندما وقعت الحادثة على طرابلس ولحق به فاستعمله على المهدية‏.‏ولما وصل الخبر إلى أبي عنان بشأن المهدية جهز إليها الأسطول وشحنه بالمقاتلة والرجل وعين الوالي والخاصة فألفوها قد رجعت إلى إيالة الحضرة ووصل إليها ابن الجكجاك وقام بها وحسن غناؤه فيها إلى أن كان من أمره ما نذكر‏.‏وأقام الأمير زكرياء بقابس وأجلب به أبو العباس بن مكي على تونس‏.‏ثم بعثوه بالدواودة ونزل على يعقوب بن علي وأصهر إليه في ابنة أخيه سعيد فعقد له عليها‏.‏ولما استولى أخوه أبو إسحاق على بجاية استعمله على سدويكش بعض الأعوام ولم يزل بين الدواودة إلى أن هلك سنة ست وسبعين كما نذكره بعد‏.‏


الخبر عن استيلاء السلطان أبي إسحاق على بجاية وإعادة الدعوة الحفصية إليها
لما رجع السلطان أبو عنان من قسطنطينة إلى المغرب أراح بسبتة وسرح عساكره من العام المقبل إلى إفريقية لنظر وزيره سليمان بن داود فسار في نواحي قسطنطينة ومعه ميمون بن علي بن أحمد أديل به من يعقوب على قومه من الدواودة وعثمان بن يوسف بن سليمان شيخ أولاد سباع منهم‏.‏وحضر معه يوسف بن مزني عامل الزاب أوعز إليه السلطان بذلك فدوخ الجهات وانتهى إلى آخر وطن بونة واقتضى المغارم‏.‏ثم انكفأ راجعاً إلى المغرب‏.‏وهلك السلطان أبو عنان إثر قفوله سنة تسع وخمسين واضطرب أمر المغرب‏.‏ثم استقام على طاعة أخيه السلطان أبي سالم كما نذكره وكان أهل بجاية قد نقموا على عاملهم يحيى بن ميمون من بطانة السلطان أبي عنان سوء ملكته وشدة سطوته وعسفه فداخلوا أبا محمد بن تافراكين على البعد في التوثب به فجهز إليهم السلطان أبا إسحاق بما يحتاج إليه من العساكر والآلة ونهض من تونس ومعه ابنه أبو عبد الله على العساكر‏.‏وتلقاهم يعقوب بن علي وظاهرهم على أمرهم وسار أخوه أبو دينار في جملتهم‏.‏ولما أطلوا على بجاية ثارت الغوغاء بيحيى بن ميمون العامل كان عليهم منذ عهد السلطان أبي عنان فألقى بيده وتقبض عليه وعلى من كان من قومه وأركبوا السفين إلى الحضرة وأودعهم أبو محمد بن تافراكين سجونه تحت كرامة وجراية إلى أن من عليهم من بعد ذلك وأطلقهم إلى المغرب‏.‏ودخل السلطان أبو إسحاق إلى بجاية سنة إحدى وستين واستبد بها بعض الاستبداد وحاجبه وكافله أبو محمد يدبر أمره من الحضرة‏.‏ثم استقدم ابنه ونصب لوزارة السلطان أنجا محمد عبد الواحد بن محمد من أكمازير من مشيخة الموحدين فكان يقيم لهم رسم الحجابة‏.‏وقام بأمر الرجل بالبلد من الغوغاء علي بن صالح من زعانفة بجاية وأوغادها التف عليه الشرار والدعار وأصبحت له بهم شوكه كان له بها تغلب على الدولة إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم‏.‏


الخبر عن فتح جربة ودخولها في دعوة السلطان أبي إسحاق صاحب الحضرة
هذه الجزيرة جربة من جزر هذا البحر الذي يمر قريباً من قابس وإلى الشرق عنها قليلا طولها من المغرب إلى المشرق ستون ميلا وعرضها من ناحية المغرب عشرون ميلا‏.‏ومن ناحية الشرق خمسة عشر ميلا‏.‏وبينها وبين قرقنة في ناحية المغرب ستون ميلا وشجرها التين والنخل والزيتون والعنب واختصت بالتفاح وعمل الصوف للباسهم يتخذون منه الأكسية المعلمة للاشتمال وغير المعلمة للباس‏.‏وتجلب منها إلى الأقطار فينتقيه الناس للباسهم‏.‏وأهلها من البربر من كتامة وفيهم إلى الآن سدويكش وصدغيان من بطونهم وفيهم أيضاً من نفزة وهوارة وسائر شعوب البربر‏.‏وكانوا قديماً على رأي الخوارج وبقي بها إلى الآن فرقتان منهم‏:‏ الوهبية وهم بالناحية الغربية ورياستهم ببني سمومن والنكارة وهم بالناحية الشرقية‏.‏وجربة فاصلة بينهما‏.‏والظهور والرياسة على الكل ببني سمومن‏.‏وكان فتحها أول الإسلام على يد رويفع بن ثابت بن سكن بن عدي بن حارثة من بني ملك بن النخار من الأنصار من جند مصر ولاه معاوية على طرابلس سنة ست وأربعين فغزا إفريقية وفتح جربة سنة سبع بعدها وشهد الفتح حنش بن عبد الله الصنعاني ورجع إلى برقة فمات بها‏.‏ولم تزل في ملكة المسلمين إلى أن دخل دين الخوارج إلى البربر فأخذوا به‏.‏ولما كان شأن أبي يزيد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة فأخذوا بدعوته بعد أن دخلوها عنوة وقتل مقدمها يومئذ ابن كلدين وصلبه‏.‏ثم استردها المنصور إسماعيل وقتل أصحاب أبي يزيد‏.‏ولما غلبت العرب صنهاجة على الضواحي وصارت لهم أخذ أهل جربة في إنشاء الأساطيل وغزو السواحل‏.‏ثم غزاهم علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس سنة تسع وخمسمائة بأساطيله إلى أن انقادوا وضمنوا قطع الفساد وصلح الحال‏.‏ثم تغلب النصارى عليها سنة تسع وعشرين وخمسمائة عند تغلبهم على سواحل إفريقية‏.‏ثم ثار أهلها عليهم وأخرجوهم سنة ثمان وأربعين‏.‏ثم تغلبوا عليها ثانية وسبوا أهلها واستعملوا على الرعية وأهل الفلح‏.‏ثم عادت للمسلمين ولم تزل مترددة بين المسلمين والنصارى إلى أن غلب عليها الموحدون أيام عبد المؤمن واستقام أمرها إلى أن استبد بنو أبي حفص بإفريقية‏.‏ثم افترق أمرهم بعد حين واستبد المولى أبو زكرياء ابن السلطان أبي إسحاق بالناحية الغربية وشغل صاحب الحضرة بشأنه كما قدمناه فتغلب على هذه الجزيرة أهل صقلية سنة ثمان وثمانين وستمائة وبنوا بها حصن القشتيل مرثع الشكل في كل ركن منه برج وبين كل ركنين برج‏.‏ويدور به حفير وسوران‏.‏وأهم المسلمين شأنها ولم تزل عساكر الحضرة تتردد إليها كما تقدم إلى أن كان فتحها أيام السلطان أبي بكر على يد مخلوف بن الكماد من بطانته سنة ثمان وثلاثين واستضافها ابن مكي صاحب قابس إلى عمله فأضافها إليه وعقد له عليها فصارت من عمله سائر أيام السلطان ومن بعده‏.‏واتصلت الفتنة بين أبي محمد بن تافراكين وبين ابن مكي وبعث الحاجب أبو محمد بن تافراكين عن ابنه أبي عبد الله وكان في جملة السلطان ببجاية كما قلناه‏.‏ولما وصل إليه سرحه في العساكر لحصار جربة وكان أهلها قد نقموا على ابن مكي سيرته فيهم ودسوا إلى أبي محمد بن تافراكين بذلك فسرح إليه ابنه في العساكر سنة ثلاث وستين‏.‏وكان أحمد بن مكي غائباً بطرابلس قد نزلها منذ ملكها من أيدي النصارى وجعلها داراً لإمارته فنهض العسكر من الحضرة لنظر أبي عبد الله ابن الحاجب أبي محمد ونهض الأسطول في البحر فنزلوا بالجزيرة وضايقوا القشتيل بالحصار إلى أن غلبوا عليه وملكوه وأقاموا به دعوة صاحب الحضرة‏.‏واستعمل أبو عبد الله بن تافراكين كاتبة محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون كان من صنائع الدولة منذ العهد وكانت لأبيه قرابة من ابن عبد العزيز الحاجب يرقى بها إلى ولاية الأشغال بتونس مناهضاً لأبي القاسم بن طاهر الذي كان يتولاها يومئذ فكان رديفه عليها إلى أن هلك ابن طاهر فاستبد هو بها منذ أيام الحاجب أبي محمد واتصل ابنه محمد هذا بخدمة ابن الحاجب واختص بكتابته إلى أن استعمله على جربة عند استيلائه عليها هذه السنة وانكفأ راجعاً إلى الحضرة فلم يزل محمد بن أبي العيون والياً عليها‏.‏ثم استبد بها على السلطان بعد مهلك الحاجب وفرار ابنه من السلطان إلى أن غلبه عليها السلطان أبو العباس سنة أربع وسبعين كما نذكره‏.‏


الخبر عن عودة الأمراء من المغرب واستيلاء السلطان أبي العباس على قسطنطينة
لما هلك السلطان أبو عنان قام بأمره من بعده وزيره الحسن بن عمر ونصب ابنه محمد السعيد للأمر كما نذكره في أخباره‏.‏وكان يضطغن للأمير أبي عبد الله صاحب بجاية فتقبض عليه لأول أمره واعتقله حذراً من وثوبه على عمله فيما زعم‏.‏وكان السلطان أبو العباس بسبتة منذ أنزله السلطان أو عنان بها ورتب عليه الحرس كما ذكرنا فلما انتزى على الملك منصور بن سليمان من أعياص ملكهم ونازل البلد الجديد دار الملك ودخل في طاعته سائر الممالك والأعمال بعث في السلطان أبي العباس واستدعاه من سبتة فنهض إليه‏.‏وانتهى في طريقه إلى طنجة‏.‏ووافق ذلك إجازة السلطان أبي سالم من الأندلس لطلب ملكه‏.‏وكان أول ما استولى عليه من أعمال المغرب طنجة وسبتة فاتصل به السلطان أبو العباس وظاهره على أمره إلى أن نزع إليه قبيلة بنو مرين عن منصور بن سليمان المنتزي على ملكهم فاستوسق أمره واستتب سلطانه به ودخل فاس‏.‏وسرح الأمير أبا عبد الله من اعتقال الحسن بن عمر كما قدمناه‏.‏ورعى للسلطان أبي العباس ذمة سوابقه القديمة والحادثة فرفع مجلسه وأسنى جرايته ووعده بالمظاهرة على أمره واستقروا جميعاً في إيالته إلى أن كان من تغلب السلطان أبي سالم على تلمسان والمغرب الأوسط ما نذكره في أخبارهم‏.‏واتصل به ثورة أهل بجاية بعاملهم يحيى بن ميمون ورجالات قبيلهم فامتعض لذلك‏.‏وحين قفل إلى المغرب نفض يده من الأعمال الشرقية‏.‏ونزل للسلطان أبي العباس عن قسطنطينة دار إمارته ومثوى عزه ومنبت ملكه فأوعز إلى عاملها منصور بن خلوف بالنزول له عنها وسرحه إليها وسرح معه الأمير أبا عبد الله ابن عمه لطلب حقه في بجاية والأجلاب على عمه السلطان أبي إسحاق جزاء بما نال من بني مرين عند افتتاحها من المعرة‏.‏وارتحلوا من تلمسان في جمادى من سنة إحدى وستين وأغذوا السير إلى مواطنهم‏.‏فأما السلطان أبو العباس فوقف منصور بن خلوف عامل البلد على خطاب سلطانه بالنزول عن قسطنطينة فنزل وأسلمها إليه وأمكنه منها فدخلها شهر رمضان سنة إحدى وستين واقتعد سرير ملكه منها وتباشرت بعودته مقاصر قصورها فكانت مبدءاً لسلطانه ومظهراً لسعادته ومطلعاً لدولته على ما نذكر بعد‏.‏وأما الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية فلحق بأول وطنها واجتمع إليه أولاد سباع أهل ضاحيتها وقفرها من الدواودة‏.‏ثم زحف إليها فنازلها أياماً وامتنعت عليه فرحل عنها إلى بني ياورار واستخدم أولاد محمد بن يوسف والعزيزيين أهل ضاحيتها من سدويكش‏.‏ثم نزعوا عنه إلى خدمة عمه ببجاية فخرج إلى القفر مع الدواودة إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:47 AM

الخبر عن وصول الأخ الأمير أبي يحيي زكرياء من تونس وافتتاحه بونة واستيلائه عليها
كان الأمير أبو يحيى زكريا منذ بعثه أخوه أبو العباس إلى عمهما السلطان أبي إسحاق صريخاً لهم لم يزل مقيماً بتونس وبلغه استيلاء السلطان أبي عنان على قسطنطينة فخشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين بادرته وتوقع زحفه إليه وغلبه إياه على الأمر‏.‏ورأى أن يحصر جناحه في أخيه ويتوثق به فاعتقله بالقصبة تحت كرامة ورعي‏.‏وبعث فيه السلطان أبو الحسن بعد مراوضة في السلم فأطلقه وانعقد بينهما السلم‏.‏ولما وصل الأمير أبو يحيى إلى أخيه بقسطنطينة عقد له على العساكر وزحف إلى بونة فملكها سنة اثنتين وستين وعقد له عليها وأنزله بها مع العساكر وأصارها تخماً لعمله واستمرت حالها على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن استيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية ثم على تدلس بعدها
لما قدم السلطان أبو عبد الله من المغرب ونازل بجاية فامتنعت عليه خرج إلى أحياء العرب كما قدمناه ولزم صحابته أولاد يحيى بن علي بن سباع فغربوا في الوفاء بها‏.‏وأقام بين ظهرانيهم وفي حللهم متقلباً في طلب بجاية برحلة الشتاء والصيف وتكفلوا نفقة عياله ومؤنة حشمه وأنزلوه ببلد المسيلة من أوطانهم وتجافوا له عن جبايتهم وأقام على ذلك سنين خمساً ينازل بجاية في كل سنة منها مراراً‏.‏وتحول في السنة الخامسة عنهم إلى أولاد علي بن أحمد ونزل على يعقوب بن علي فأسكنه بمقرة من بلاده إلى أن بدا لعمه المولى أبي إسحاق رأيه في اللحاق بتونس لما توقع من مهلك حاجبه وكافله أبي محمد بن تافراكين أسره إليه بعض الحزى فحذر مغبته ووقع لذلك في نفوس أهل بجاية انحراف عنه ومرج أمرهم وراسلوا أميرهم الأقدم أبا عبد الله من مكانه بمقرة‏.‏وظاهره على ذلك يعقوب بن علي وأخذ له العهد على رجالات سدويكش أهل الضاحية وارتحلوا معه إلى بجاية ونازلها أياماً‏.‏ثم استيقن الغوغاء اعتزام سلطانهم على التقويض عنهم وسيموا ملكة علي بن صالح الذي كان عريفاً عليهم فثاروا به ونبذوا عهده وانفضوا من حوله إلى الأمير أبي عبد الله بالرسة من ساحة البلد‏.‏ثم قادوا إليه عمه أبا إسحاق فمن عليه وخلى سبيله إلى حضرته فلحق بها واستولى أبو عبد الله على بجاية محل إمارته في رمضان سنة خمس وستين على علي بن صالح ومن معه من عرفاء الغوغاء أهل الفتنة فاستصفى أموالهم ثم أمضى حكم الله في قتلهم‏.‏ثم نهض إلى تدلس لشهرين من ملكه بجاية فغلب عليها عمر بن موسى عامل بني عبد الواد ومن أعياص قبيلهم وتملكها في آخر سنة خمس‏.‏وبعث عني من الأندلس كنت مقيماً بها نزيلا عند السلطان أبي عبد الله بن أبي الحجاج بن الأحمر في سبيل اغتراب ومطاوعة تقلب منذ مهلك السلطان أبي سالم الجاذب بضبعي إلى تنويهه والراقي بي في خطط كتابته من ترسيل وتوقيع ونظر في المظالم وغيرها‏.‏فلما استدعاني هذا الأمير أبو عبد الله بادرت إلى امتثاله ‏"‏ ولو شاء الله ما فعلوه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ‏"‏ فأجزت البحر شهر جمادى من سنة ست وقلدني حجابته ودفع إلي أمور مملكته وقمت في ذلك المقام المحمود إلى أن أذن الله بانقراض أمره وانقطاع دولته ولله الخلق والأمر وبيده تصاريف الأمور‏.‏


الخبر عن مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين واستبداد سلطانه من بعده
كان السلطان أبو إسحاق آخر دولته ببجاية قد تحين مهلك حاجبه المستبد عليه أبي محمد بن تافراكين لما كان أهل صناعة التنجيم يحدثونه بذلك فأجمع الرحلة إليها وانفض عنه أهل بجاية إلى ابن أخيه كما قدمناه‏.‏واستولى عليه ثم أطلقه إلى حضرته فلحق بها في رمضان سنة خمس وستين‏.‏وتلقاه أبو محمد بن تافراكين وراءه مرهف الحد للاستبداد الذي لفه ببجاية فكايله بصاع الوفاق وصارفه نقد المصانعة وازدلف بأنواع القربات‏.‏وقاد إليه الجنائب ومنحه من الذخائر والأموال وتجافى له عن النظر في الجباية‏.‏ثم أصهر إليه السلطان في كريمته فعقد له عليها وأعرس السلطان بها‏.‏ثم كان مهلكه عقب ذلك سنة ست وستين فوجم السلطان لنعيه وشهد جنازته حتى وضع بملحده من المدرسة التي اختطها لقراءة العلم إزاء داره جوفي المدينة‏.‏وقام على قبره باكياً وحاشيته يتناولون التراب حثياً على جدثه فغرب في الوفاء معه بما تحدث به الناس واستبد من بعده بأمره وأقام سلطانه لنفسه‏.‏وكان أبو عبد الله الحاجب ابن أبي محمد غائباً عن الحضرة‏.‏خرج منها بالعساكر للجباية والتمهيد فلما بلغه خبر مهلك أبيه داخلته الظنة وأوجس الخيفة فصرف العسكر إلى الحضرة وارتحل مع حكيم من بني سليم وعرض نفسه على معاقل إفريقية إلى كان يتظنن أنها خالصة لهم‏.‏فصلى محمد بن أبي العيون كاتبه عن جربة ومحمد بن الجكجاك صنيعتهم وبطانتهم عن المهدية‏.‏وبعث إليه السلطان بما رضيه من الأمان فأصحب بعد النفور وبادر إلى الحضرة فتلقاه السلطان بالبر والترحيب وقلده حجابته وأنزله على مراتب العز والتنويه‏.‏ونكر هو مباشرة السلطان للناس ورفعه للححاب ولم يرضه لما ألف من الاستبداد منذ عهد أبيه فأظلم الجو بينه وبين السلطان ودبت عقارب السعايه لمهاده الوثير فتنكر وخرج من تونس ولحق بقسطنطينة ونزل بها على السلطان أبي العباس مرغباً له في ملك تونس ومستحثاً فأنزله خير نزل ووعده بالنهوض معه إلى إفريقية بعد الفراغ من أمر بجاية لما كان بينه وبين ابن عمه صاحبها من الفتنة كما نذكره بعد‏.‏واستبد السلطان أبو إسحاق بعد مفر ابن تافراكين عنه ونظر في أعطاف ملكه وعقد على حجابته لأحمد بن إبراهيم اليالفي مصطنع الحاجب أبي محمد من طبقة العمال وعلى العساكر والحرب لمولاه منصور سريحه من المعلوجي ورفع الحاجب بينه وبين رجال دولته وصنائع ملكه حتى باشر جباة الخراج وعرفاء الحشم وأوصلهم إلى نفسه وألغى الوسائط بينهم وبينه إلى حين مهلكه كما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى والله أعلم‏.‏


الخبر عن استيلاء السلطان أبي العباس على بجاية ومهلك صاحبها ابن عمه
لما ملك الأمير أبو عبد الله بجاية واستقل بإمارتها تنكر للرعية وساءت سيرته فيهم بإرهاف الحد للكافة وإسخاط الخاصة فنغلت الصدور ومرضت القلوب واستحكمت النفرة وتوجهت الصاغية إلى ابن عمه السلطان أبي العباس بقسطنطينة لما كان أسوس منه وأغلب للذاته وأقوم على سلطانه‏.‏وكانت بينهم فتنة وحروب جر بها المنافسة في تخوم العمالتين منذ عهد الآباء‏.‏وكان السلطان أبو العباس أيام نزوله على السلطان أبي سالم محمود السيرة والخلال عنده مستقيم الطريقة في مثوى اغترابه‏.‏وربما كان ينقم على ابن عمه هذا بعض النزعات المعرضة لصاحبها للملامة فيستثقل نصيحته‏.‏ونغل بذلك ضميره فلما استولى على بجاية عاد إلى الفتنة فشبها وشمر عزائمه لها فكان مغلباً فيها‏.‏واعتلق منه يعقوب بن علي بذمة في المظاهرة على السلطان أبي العباس فلم يغن عنه وراجع يعقوب سلطانه‏.‏ثم جهز هو العساكر من بجاية لمزاحمة تخوم قسطنطية ففضها أبو العباس فنهض إليه ثانية بنفسه في العساكر وتراجع العرب من أولاد سباع بن يحيى وجمع هو أولاد محمد وزحف فيهم وفي عسكر من زناتة والتقى الفريقان بناحية سطيف فاختل مصاف أهل بجاية وانهزموا واتبعهم السلطان أبو العباس إلى تاكرارت وجال في عمله ووطئ نواحي وطنه وقفل إلى بلده‏.‏ودخل الأمير أبو عبد الله إلى بجاية وقد استحكمت النفرة بينه وبين أهل بلده فدسوا إلى السلطان أبي العباس بقسطنطينة بالقدوم عليهم فوعدهم من العام القابل وزحف سنة سبع وستين في عساكره وشيعته من الدواودة أولاد محمد وانضوى إليه أولاد سباع شيعة بجاية بالجوار والسابقة القديمة لما نكروا من أحوال سلطانهم‏.‏وعسكر الأمير أبو عبد الله بلبزو في جمع قليل من الأولياء وأقام بها يرجو مدافعة ابن عمه بالصلح فبيته السلطان بمعسكره من لبزو وصبحه في غارة شعواء فانفض جمعه وأحيط به وانتهب المعسكر ومر إلى بجاية فأدرك في بعض الطريق وتقبض عليه وقتل قعصاً بالرماح‏.‏وأغذ السلطان أبو العباس السير إلى بجاية فأدرك بها صلاة الجمعة تاسع عشر شعبان من سنة سبع وستين وكنت بالبلد مقيماً خرجت إليه في الملأ وتلقاني بالمبرة والتنويه‏.‏وأشار إلي بالاصطناع واستوسق له ملك جده الأمير أبي زكريا الأوسط في الثغور العربية وأقمت في خدمته بعض شهر‏.‏ثم توجست الخيفة في نفسي وأذنته في الانطلاق فأذن لي تكرماً وفضلا وسعة صدر ورحمة ونزلت على يعقوب بن علي‏.‏ثم تحولت عنه إلى بسكرة ونزلت على ابن مزني إلى أن صفا الجو واستقبلت من أمري ما استدبرت لثلاث عشرة سنة من انطلاقي عنه في خبر طويل نقصه من شأني فأذن لي وقدمت عليه فقابلتني وجوه عنايته وأشرقت علي أشعة بخته كما نذكر ذلك من بعد إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن زحف أبي حمو وبني عبد الواد إلى بجاية ونكبتهم عليها وفتح تدلس من أيديهم بعدها
كان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية لما اشتدت الفتنة بينه وبين ابن عمه السلطان أبي العباس مع ما كان بينه وبين بنتي عبد الواد من الفتنة عند غلبه إياهم على تدلس تكاءد عن حمل الغداوة من الجانبين وصغى إلى مهادنة بني عبد الواد فنزل لهم عن تدلس وأمكن منها قائد العسكر المحاصر لها‏.‏وأوفد رسله على سلطانهم أبي حمو بتلمسان وأصهر إليه أبو حمو في ابنته فعقد له عليها وزفها إليه بجهاز أمثالها‏.‏فلما غلبه السلطان أبو العباس على بجاية وهلك في مجال حربه أشاع أبو حمو الامتعاض له لمكان الصهر وجعلها ذريعة إلى الحركة على بجاية‏.‏وزحف من تلمسان يجر الشوك والمدد في آلاف من قومه وطبقات العسكر والجند‏.‏وتراجع العرب حتى انتهى إلى وطن حمزة فأجفل أمامه أبو الليل بن موسى بن زغلي في قومه بني يزيد وتحصنوا في جبال زواوة المطلة على وطا حمزة‏.‏وبعث إليه رسله لاقتضاء طاعته فأوثقهم كتافاً وكان فيهم يحيى حافد أبي محمد صالح نزع من السلطان أبي العباس إلى أبي حمو وكان عيناً على غرات أبي الليل هذا بما بينهما من المربى والجوار في الوطن فجاء في وفد الرسالة عن أبي حمو فتقبض عليهم وعليه فقتله وبعث برأسه إلى بجاية‏.‏وامتنع على أبي حمو وعساكره فأجازوا على بجاية ونزل معسكره بساحتها وقاتلها أياماً‏.‏وجمع الفعلة على الآلات للحصار‏.‏وكان السلطان أبو العباس بالبلد وعسكره مع مولاه بشير بتاكرارت ومعهم أبو زيان بن عثمان بن عبد الرحمن وهو ابن عم أبي حمو من أعياص بيتهم وكان من خبره أنه كان خرج من المغرب كما نذكره في أخباره‏.‏ونزل على السلطان أبي إسحاق بالحضرة ورعى له أبو محمد الحاجب حق بيته فأوسع في كرامته‏.‏ولما غلب الأمير أبو عبد الله على تدلس بعث إليه من تونس ليوليه عليها ويكون رداء بينه وبين بني حمو ويتفرغ هو للأجلاب على وطن قسطنطينة فبادر إلى الإجابة وخرج من تونس‏.‏ومر السلطان أبو العباس بمكانه من قسطنطينة فصده عن سبيله واعتقله عنده مكرماً‏.‏فلما غلب على بجاية وبلغه الخبر بزحف أبي حمو أطلقه من اعتقاله ذلك واستبلغ في تكرمته وحبائه ونصبه للملك وجهز له بعض الآلة‏.‏وخرج في معسكر مولاه بشير ليجأجئ به بني عبد الواد عن ابن عمه أبي حمو لما سيموا من ملكته وعنفه‏.‏وكان زغبة عرب المغرب الأوسط في معسكر أبي حمو وكانوا حذرين مغبة أمره معهم فراسلوا أبا زيان وائتمروا بينهم في الأرجاف بالمعسكر‏.‏ثم تحينوا لذلك أن يشب الحرب بين أهل البلد وأهل المعسكر فأجفلوا خامس في الحجة وانفض المعسكر وانتهوا إلى مضائق الطرقات بساح البلد فكظت بزحامهم وتراكموا عليها فهلك الكثير منهم وخففوا من الأثقال والعيال والسلاح والكراع ما لا يحيط به الوصف‏.‏وأسلم أبو حمو عياله وأمواله فصارت نهبا واحتلبت حظاياه إلى السلطان فوهبها لابن عمه ونجا أبو حمو بنفسه بعد أن طاح في كظيظ الزحام عن جواده فنزل له وزيره عمران بن موسى عن مركوبه فكان نجاؤه عليه ولحق بالجزائر في الفل‏.‏ثم لحق منها بتلمسان واتبع أبو زيان أثره واضطرب المغرب الأوسط كما نذكره في أخباره‏.‏وخرج السلطان أبو العباس من بجاية على إثر هذه الواقعة فنازل تدلس وافتتحها وغلب عليها من كان بها من عمال بني عبد الواد وانتظمت الثغور الغربية كلها في ملكه كما كانت في ملك جده الأمير أبي زكرياء الأوسط حين قسم الدعوة الحفصية بها إلى أن كان ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى‏.‏كان أبو عبد الله ابن الحاجب أبي محمد بن تافراكين لما نزع عن السلطان أبي إسحاق صاحب الحضرة لحق بحلل أولاد مهلهل من العرب ووفدوا جميعاً على السلطان أبي العباس فاتح سنة سبع وستين يستحثونه إلى الحضرة ويرغبونه في ملكها فاعتذر لهم بما كان عليه من الفتنة مع ابن عمه صاحب بجاية‏.‏وزحف إليها في حركة الفتح‏.‏وصاروا في جملته فلما استكمل فتح بجارة سرح معهم أخاه المولى أبا يحيى زكريا في العساكر فصاروا معه إلى الحضرة وابن تافراكين في جملته فنازلوها أياماً وامتنعت عليهم فأقلعوا على سلم ومهادنة انعقدت بين صاحب الحضرة وبينهم وقفل المولى أبو يحيى بعسكره إلى مكان عمله‏.‏ولحق ابن تافراكين بالسلطان فلم يزل في جملته إلى أن كان من فتح تونس ما نذكر‏.‏


الخبر عن مهلك السلطان أبي إسحاق صاحب الحضرة
وولاية ابنه خالد من بعده لم تزل حال السلطان أبي إسحاق بالحضرة على ما ذكرناه ويختلف في الفتنة والمهادنة مع السلطان أبي العباس طوراً بطور واستخلص لدولته منصور أبي حمزة أمير بني كعب يستظهر به على أمره ويستدفع برأيه وشوكته فخلص له سائر أيامه‏.‏وعقد سنة تسع وستين لابنه خالد على عسكر لنظر محمد بن رافع من طبقات الجند من مغراوة مستبداً على ابنه‏.‏وسرحه مع منصور بن حمزة وقومه وأوعز إليهم بتدويخ ضواحي بونة واكتساح نعمها وجباية ضواحيها فساروا إليها‏.‏وسرح الأمير أبو يحيى زكرياء صاحب عسكره مع أهل الضاحية فأغنوا في مدافعتهم وانقلبوا على أعقابهم فكان آخر العهد بظهورهم‏.‏ولما رجعوا إلى الحضرة تنكر السلطان لمحمد بن رافع قائد العسكر وخرج من الحضرة ولحق بقومه بمكانهم من لحقه من أعمال تونس‏.‏واستقدمه السلطان بعد أن استعتب له فلما قدم تقبض عليه وأودعه السجن‏.‏وعلى إثر ذلك كان مهلك السلطان فجاءة ليلة من سنة سبعين بعد أن قضى وطراً من محادثة السمر وغلبه النوم آخر ليلة فنام ولما أيقظه الخادم وجده ميتاً فاستحال السرور وعظم الأسف وغلب على البطانة الدهش‏.‏ثم راجعوا بصائرهم ودفعوا الدهش عن أنفسهم وتلافوا أمرهم بالبيعة لابنه الأمير أبي البقاء خالد فأخذها له على الناس مولاه منصور سريحه من المعلوجي وحاجبه أحمد بن إبراهيم البالقي وحضر لها الموحدون والفقهاء والكافة‏.‏وانفض المجلس وقد انعقد أمره إلى جنازة أبيه حتى واروه التراب‏.‏واستبد منصور وابن البالقي على هذا الأمير المنصوب للأمر فلم يكن له تحكم عليهما‏.‏وكان أول ما افتتحا به أمرهما أن تقبضا على القاضي محمد بن خلف الله من طبقة الفقهاء كان نزع إلى السلطان من بلده نفطة مغاضباً لمقدمها عبد الله بن علي بن خلف فرعى له نزوعه إليه واستعمله بخطة القضاء بتونس عند مهلك أبي علي عمر بن عبد الرفيع‏.‏ثم ولاه قيادة العساكر إلى بلاد الجريد وحربهم فكان فيه غناء واستدفعوه مرات بجبايتهم يبعثون بها إلى السلطان ومرات بمصانعة العرب على الأرجاف بمعسكره‏.‏وكان ابن البالقي يغص بمكانه من السلطان فلما استبد على ابنه أعظم فيه السعاية وتقبض عليه وأودعه السجن مع محمد بن علي بن رافع‏.‏ثم بعث عليهما من داخلهما في الفرار من الاعتقال حتى دبروه معه وظهر على أمرهما فقتلهما في محبسهما خنقاً والله متولي الجزاء منه ‏"‏ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ‏"‏‏.‏ثم أظهر ابن البالقي من سوء سيرته في الناس وجوره عليهم وعسفه بهم وانتزاع أموالهم وإهانة سبال الأشراف ببابه منهم ما نقموه وضرعوا إلى الله في إنقاذهم من ملكته فكان ذلك على يد مولانا السلطان أبي العباس كما نذكر إن شاء الله تعالى‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:48 AM

الخبر عن فتح تونس واستيلاء السلطان عليها واستبداده بالدعوة الحفصية في سائر عمالات إفريقية وممالكها
لما هلك السلطان أبو إسحاق صاحب الحضرة سنة سبعين كما قدمناه وقام بالأمر مولاه منصور سريحه وحاجبه البالقي ونصبوا ابنه الأمير خالداً للأمر صبياً لم يناهز الحلم غراً فلم يحسنوا تدبير أمره ولا سياسة سلطانه وأسخطوا لوقتهم منصور بن حمزه أمير بني كعب المتغلبين على الضاحية بما أطمعوه بسوء تدبيرهم في شركته لهم في الأمر‏.‏ثم قلبوا له ظهر المجن فسخطهم ولحق بالسلطان أبي العباس وهو مطل علهم بمرقبة من الثغور الغربية مستجمع للتوثب فاستحثه لملكهم وحرضه على تلافي أمرهم ورم ما تثلم من سياج دولتهم‏.‏وكان الأحق بالأمر لشرف نفسه وجلاله واستفحال ملكه وسلطانه وشياع الحديث عن عدله ورفقه وحميد سيرته وأمان أهل مملكته من نظر يعقب نظره فيهم أو استبداد سواه عليهم فأجاب صريخه وشحذ للنهوض عزمه‏.‏وكان أهل قسطنطينة قد بعثوا بمثل ذلك فسرح إليهم أبا عبد الله ابن الحاجب أبي محمد بن تافراكين لاختبار طاعتهم وابتلاء دخلتهم فسار إليهم واقتضى بيعاتهم وطاعتهم وسارع إليها يحيى بن يملول مقدم توزر والخلف بن الخلف مقدم نفطة فأتوها طواعية‏.‏وانقلب عنهم وقد أخذوا بدعوة السلطان وأقاموها‏.‏ثم خرج السلطان من بجاية في العسكر وأغذ السير إلى المسيلة وكان بها إبراهيم ابن عمه الأمير أبي زكرياء الأخير جأجأ به أولاد سليمان بن علي من الدواودة من مثوى اغترابه بتلمسان ونصبوه لطلب حقه في بجاية من بعد أخيه الأمير أبي عبد الله وكان ذلك بمداخلة أبي حمو صاحب تلمسان ومواعيد بالمظاهرة مخلفة‏.‏فلما انتهى السلطان إلى المسيلة نبذوا إلى إبراهيم عهده وتبرأوا منه ورجعوه من حيث جاء وانكفأ راجعاً إلى بجاية‏.‏ثم نهض منها إلى الحضرة وتلقته وفود إفريقية جميعاً بالطاعة وانتهى إلى البلد فخيم بساحتها أياماً يغاديها القتال ويراوحها‏.‏ثم كشف عن مصدوقته وزحف إلى أسوارها وقد ترجل أخوه والكثير من بطانته وأوليائه فلم يقم لهم شيء حتى تسنموا الأسوار برياض رأس الطابية فنزل عنها المقاتلة وفروا إلى داخل البلد‏.‏وخامر الناس الدهش وتبراوا بعضهم من بعض وأهل الدولة في موكبهم وقوف بباب الغدر من أبواب القصبة‏.‏فلما رأوا أنهم أحيط بهم ولوا الأعقاب وقصدوا باب الجزيرة فكسروا أقفاله وثار أهل البلد جميعاً بهم فخلصوا سلطانهم من البلد بعد عصب الريق ومضى الجند في أتباعهم فأدرك أحمد بن البالقي فقتل وسيق رأسه إلى السلطان‏.‏وتقبض على الأمير خالد فاعتقل ونجا العلج منصور سريحه برأس طمرة ولجام وذهل عن القتال دون الأحبة‏.‏ودخل السلطان القصر واقتعد أريكته وانطلقت أيدي العيث في ديار أهل الدولة فاكتسحت بما كان الناس يضطغنون عليهم تحاملهم على الرعية واغتصاب أموالهم فاضطرمت نار العيث في دورهم ومخلفهم فلم تكد أن تنطفئ ولحق بعض أهل العافية معرات من ذلك لعموم النهب وشموله حتى أطفأه الله ببركة السلطان وجميل نيته وسعاد أمره‏.‏ولاذ الناس منه بالملك الرحيم والسلطان العادل وتهافتوا عليه تهافت الفراش على الذبال يلثمون أطرافه ويجأرون بالدعاء له ويتنافسون في التماح محياه إلى أن غشيهم الليل‏.‏ودخل السلطان قصوره وخلا بما ظفر من ملك آبائه وبعث بالأمير خالد وأخيه في الأسطول إلى قسطنطينة فعصفت بهما الريح وانخرقت السفينة وتقاذفت الأمواج إلى أن هلكا‏.‏واستبد السلطان بأمره وعقد لأخيه الأمير أبي يحيى زكرياء على حجابته‏.‏ورعى لابن تافراكين حق انحياشه إليه ونزوعه فجعله رديفاً لأخيه واستمر الأمر على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن انتقاض منصور بن حمزة وأجلابه بالعم أبي يحيي زكرياء
على الحضرة وما كان عقب ذلك من نكبة ابن تافراك كان منصور بن حمزة هذا أمير البدو من بني سليم بما كان سيد بني كعب‏.‏وكان السلطان أبو إسحاق يؤثره بمزيد العناية وجعل له على قومه المزية‏.‏وكان بنو حمزة هؤلاء منذ غلبوا السلطان أبا الحسن على إفريقية وأزعجوه منها قد استطالت أيديهم عليها وتقاسموها أوزاعاً وأقطعهم أمراء الحضرة السهمان في جبايتها زيادة لما غلبوا عليه من ضواحيها وأمصالها استئلافاً لهم على المظاهرة وإقامة الدعوة والحماية من أهل الثغور الغربية فملكوا الأكثر منها وضعف سهمان السلطان بينهم فيها‏.‏فلما استولى هذا السلطان أبو العباس على الحضرة واستبد بالدعوة الحفصية كبح أعنتهم عن التغفب والاستبداد وانتزع ما في أيديهم من الأمصار والعمالات التي كانت من قبل خالصة للسلطان‏.‏وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبونه فأحفظهم ذلك وأهمهم شأنه وتنكر منصور بن حمزة وقلب ظهر المجن ونزع يده من الطاعة وغمسها في الخلاف وتابعه على خروجه على السلطان أبو صعنونة أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين شيخ حكيم‏.‏وارتحل بأحيائه إلى الدواودة صريخاً مستحيشاً بالأمير أبي يحيى ابن السلطان أبي بكر المقيم بين ظهرانيهم من لدن فعلته بالمهدية وانتزائه بها على أخيه المولى أبي إسحاق كما ذكرنا فنصبوه للأمر وبايعوه وارتحل معهم وأغذوا السير إلى تونس‏.‏ولقيه منصور بن حمزة في أحيائه بنواحي تبسة فبايعوا له‏.‏وأوفدوا مشيختهم على يحيى بن يملول شيطان الغواية المارد على الخلاف يستحثونه للطاعة والمدد لمداخلة كانت بينهم في ذلك سول لهم فيها بالمواعيد وأملى لهم حتى إذا غمسوا أيديهم في النفاق والأجلاب سوفهم عن مواعيده ضنانة بماله فأسرها منصور في نفسه واعتزم من يومئذ على الرجوع إلى الطاعة‏.‏ثم رحلوا للأجلاب على الحضرة وسرح السلطان أبو العباس أخاه الأمير أبا يحيى زكرياء للقيهم في العساكر وتزاحفوا وأتيح لمنصور وقومه ظهور على عساكر السلطان وأوليائه لم يستكمله وأجلبوا على البلد أياماً‏.‏ونمي إلى السلطان أن حاجبه عبد الله بن تافراكين داخلهم في تبيين البلد فتقبض عليه وأشخصه في البحر قسطنطينة فلم يزل بها معتقلا إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين‏.‏ثم سرب السلطان أمواله فانتقض على منصور قومه وخشي مغبة حاله وسوغه السلطان جائزته فعود الطاعة ابنه ونبذ إلى سلطانه زكرياء العم عقده ورجعه على عقبه إلى الدواودة‏.‏والتزم طاعة السلطان والاستقامة على المظاهرة إلى أن هلك سنة ست وتسعين قتله محمد ابن أخيه فتيتة في مشاجرة كانت بينهما طعنه لها فأشواه ورجع جريحاً إلى بيته وهلك دونها آخر يومه‏.‏وقام بأمر بني كعب بعد صولة ابن أخين خالد وعقد له مولانا السلطان على أمرهم واستمرت الحال إلى أن كان من أمرهم ما نذكره‏.‏


الخبر عن فتح سوسة والمهدية
كان سوسة منذ واقعة بني مرين بالقيروان وتغلب العرب على العمالات أقطعها السلطان أبو الحسن لخليفة بن عبد الله بن مسكين فيما سوغ للعرب من الأمصار والإقطاعات مما لم يكن لهم فاستولى عليها خليفة هذا ونزلها واستقل بجبايتها وأحكامها‏.‏واستبد بها على السلطان ولم يزل كذلك إلى أن هلك وقام بأمره في قومه عامر ابن عمه مسكين أيام استبداد أبي محمد بن تافراكين فسوغها له كذلك متقبلا من قبله‏.‏ثم قتله بنو كعب وقام بأمر حكيم من بعده أحمد الملقب أبو صعنونة بن محمد أخي خليفة بن عبد الله بن مسكين فاستبد بسوسة على السلطان واقتعدها دار إمارته وربما كان ينتقض على صاحب الحضرة فيجلب عليها من سوسة ويشن الغارات في نواحيها حتى لقد أوقع في بعض أيامه بمنصور سريحه مولى السلطان أبي إسحاق عساكره فتقبض عليه واعتقله بسوسة أياماً ثم من عليه وأطلقه وعاود الطاعة معه ولم يزل هذا دأبهم‏.‏وكانت لهم في الرعايا آثار قبيحة وملكات سيئة ولم يزالوا يضرعون إلى الله في إنقاذهم من أيدي جورهم وعسفهم إلى أن تأذن الله لأهل إفريقية باقتبال الخير وفيء ظلال الأمر‏.‏واستبد مولانا السلطان أبو العباس بالحضرة وسائر عمالات إفريقية وهبت ريح العز على العرب في جميع النواحي فتنكر أهل سوسة لعاملهم أبي صعنونة هذا وأحس بنكرائهم وخرج عنهم وتجافى للسلطان عن البلد‏.‏وثارت عامتها لعماله فأجهضوهم ونزل عمال السلطان بها‏.‏ثم كانت من بعد ذلك حركة المولى أبي يحيى إلى نواحي طرابلس ودوخ جهاتها واستوفى جباية عمالها‏.‏وكان بالمهدية محمد بن الجكجاك استعمله عليها الحاجب أبو محمد بن تافراكين أيام ارتجاعه إياها من يد أبي العباس بن مكي والأمير أبي يحيى زكرياء المنتزي بها ابن مولانا السلطان أبي بكر كما مر‏.‏وأقام ابن الجكجاك أميراً عليها واستبد بها بعد موت الحاجب‏.‏فلما وخزته شوكة الاستطالة من الدولة وطلع نحوه قتام العساكر فرق من الاستيلاء عليه وركب أسطوله إلى طرابلس ونزل على صاحبها أبي بكر بن ثابت لذمة صهر قديم كانت بينهما‏.‏وبادر مولانا السلطان إلى تسلم المهدية وبعث عليها عماله وانتظمت في ملكه واطردت أحوال الظهور والنجح وكان بعد ذلك ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن فتح جربة وانتظامها في ملك السلطان
كان محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون منذ ولاه أبو عبد الله بن تافراكين على هذه الجزيرة قد تقبل مذاهب جيرانها من أهل قابس وطرابلس وسائر الجريد في الامتناع على السلطان ومصارفة الاستبداد وانتحال مذاهب الإمارة وطرقها ولبوس شارتها‏.‏وقد ذكرنا سلفه من قبل وأن والده كان صاحب الأشغال بالحضرة أيام الحاجب أبي محمد بن تافراكين وأنه اعتلق بمكاتبة ابنه أبي عبد الله فولاه على جربة عند افتتاحه إياها وأنه قصده عند مفره عن المولى أبي إسحاق لينزل جربة معولاً على قديم اصطناعه إياه فمنعه‏.‏ثم داخل شيوخ الجزيرة من بني سمومن في الامتناع على السلطان والاستبداد بأمرهم فأجابوه وأقام ممتنعاً سائر دولة المولى أبي إسحاق وابنه من بعده‏.‏ولما استولى مولانا السلطان أبو العباس على تونس داخله الروع والدهش وصار إلى مكاثر رؤساء الجريد في التظافر على المدافعة بزعمهم فأجرى في ذلك شأواً بعيداً مع تخلفه في مضماره بقديمه وحديثه‏.‏وصادف السلطان سوء الامتثال والتياث الطاعة ومنع الجباية فأحفظه ولما افتتح أمصار الساحل وثغوره سرح ابنه الأمير أبا بكر في العساكر إلى جربة ومعه خالصة الدولة محمد بن علي بن إبراهيم من ولد أبي هلال شيخ الموحدين وصاحب بجاية لعهد المستنصر وقد تقدم ذكره‏.‏وأمده بالأسطول في البحر لحصارها‏.‏ونزل الأمير بعسكره على مجازها ووصل إلى مرساها فأطاف بحصن القشتيل وقد لاذ ابن أبي العيون بجدرانه وافترق عنه شيوخ الجزائر من البربر وانحاش بطانته من الجند المستخدمين معه بها‏.‏ولما رأوا ما لا طاقة لهم به وأن عساكر السلطان قد أحاطت بهم براً وبحراً نزلوا إلى قائد الأسطول وأمكنوه من الحصن وبادروا إلى معسكر الأمير فأقبل معهم الخاصة أبو عبد الله بن أبي هلال فيمن معه من بطانة الأمير وحاشيته فاقتحموا الحصن وتقبضوا على محمد بن أبي العيون ونقلوه من حينه إلى الأسطول واستولوا على داره وولوا على الجزيرة وارتحلوا قافلين إلى السلطان‏.‏ووصل محمد بن أبي العيون إلى الحضرة ونزل بالديوان فأركب إلى القصبة على جمل وطيف به على أسواق البلد إظهاراً لعقوبة الله النازلة به وأحضره السلطان فوبخه على مرتكبه في العناد ومداخلته أهل الغواية من أمراء الجريد في الانحراف عنه‏.‏ثم تجافى عن دمه وأودعه السجن إلى أن هلك سنة تسع وسبعين‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:48 AM

الخبر عن استقلال الأمراء من الأبناء بولاية الثغور الغربية
كان السلطان عندما استجمع الرحلة إلى إفريقية باستحثاث أهلها لذلك ووفادة منصور بن حمزة شيخ الكعوب مبرغباً فيها فأهمه عند ذلك شأن الثغور الغربية وأجال اختياره في بنيه يسبر أحوالهم ويفتش عن الأكفاء لهذه الثغور منهم فوقع نظره أولاً على كبير ولده المخصوص بعناية الله في إلقاء محبته عليه الأمير أبي عبد الله فعقد له‏.‏بجاية وأعمالها وأنزله بقصور الملك منها وأطلق يده في مال الجباية وديوان الجند‏.‏واستعمل على قسطنطينة وضواحيها لمولاه القائد بشير سيف دولته وعنان حربه ناشئ قصره وتلاد مرباه‏.‏وكانت لهذا الرجل نخوة من الصرامة والبأس ودالة بالقديم والحادث وخلال لقيها أيام التقلب في أواوين الملك‏.‏وكان ملازماً ركاب مولاه في مطارح اغترابه وأيام تحيصه‏.‏وربما لقي عند إلحاحه على قسطنطينة من المحنة والاعتقال الطويل ما أعاضه الله عنه بجميل التنويه وعود العز والملك إلى مولاه على أحسن الأحوال‏.‏وظفر من ذلك بالبغية وحصل من الرتبة على الأمنية‏.‏وكان السلطان يثق بنظره في العساكر ويبعثه في مقدمة الحروب وكان عند استيلائه على بجاية وصرف عنايته إليها ولاه أمر قسطنطينة وأنزله بها وأنزل معه ابنه الأمير أبا إسحاق وجعل إليه كفالته لصغره ثم استنفره بالعسكر عند النهوض إلى إفريقية فنهض في جملته وشهد معه الفتح‏.‏ثم رجعه إلى عمله بقسطنطينة بمزيد التفويض والاستقلال فلم يزل بما دفع من ذلك إلى أن هلك‏.‏وكان السلطان قد أوفد ابنه أبا إسحاق على ملك المغرب السلطان عبد العزيز عندما استولى على تلمسان مهنياً بالظفر ملفحاً غراس الود وأوفد معه شيخ الموحدين ببابه أبا إسحاق بن أبي هلال وقد مر من قبل ذكره وذكر أخيه فتلقاهما ملك المغرب بوجوه المبرة والاحتفاء ورجعهما بالحديث الجميل عنه سنة ثلاث وسبعين‏.‏ونزل الأمير أبو إسحاق بقسطنطينه دار إمارته وعقد له السلطان عليها وألقاب الملك ورسومه مصروفة إليه‏.‏والقائد بشير مولى ابنه مستبد عليه لمكان صغره إلى أن هلك بشير سنة ثمان وسبعين عندما استكمل الأمير أبو إسحاق الخلال واستجمع للإمارة فجدد له السلطان عهده عليها وفوض إليه في إمارتها وقام بما دفع إليه من ذلك أحسن مقام وأكفأه مصدقاً الظنون التي كانت تومئ إليه وشهادة المخايل التي دلت عليه فاستقبل هذان الأميران بثغر بجاية وقسطنطينة وأعمالها مفوضاً إليهما في الإمارة مأذوناً لهما في اتخاذ الآلة وإقامة الرسوم الملوكية والشارة‏.‏وكان الأمير أبو يحيى زكرياء الأخ الكريم مستقلاً أيضاً ببونة وعملها منذ استيلائه عليها قد أضافها السلطان إليه وأصارها في سهمانه فلما ارتحلوا إلى إفريقية عام الفتح وتيقن الأخ أبو يحيى طول مغيبه واغتباط السلطان أخيه بكونه معه عقد عليه لابنه الأمير أبي عبد الله محمد وأنزله بقصره منها وفوض إليه في إمارتها لما استجمع من خلال الترشيح والذكر الصالح في الدين‏.‏واستمر الحال على ذلك لهذا العهد وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة والله مدبر الأمور‏.‏


الخبر عن فتح قفصة وتوزر وانتظام أعمال قسطنطينة في طاعة السلطان
كان أمر هذا الجريد قد صار شورى بين رؤساء أمصاره فيما قبل دولة السلطان أبي بكر لاعتلال الدولة حينئذ بانقسامها كما مر فلما استبد السلطان أبو بكر بالدعوة الحفصية وفرغ من الشواغل صرف إليهم نظره وأوطأهم عساكره‏.‏ثم نهض بنفسه فمحى أثر الشورى منها وعقد لابنه أبي العباس عليها كما قلناه‏.‏فلما كان بعد مهلكه من اضطراب إفريقية وتغلب الأعراب على نواحيها ما كان منذ هزيمة السلطان أبي الحسن وبني مرين بالقيروان عاد أهل الشورى في الجريد إلى دينهم من التوثب على الأمر والاستبداد على السلطان وتناغى رؤساؤهم بعد أن كانوا سوقة في انتحال مذاهب الملك وشاراته يقتعدون الأرائك ويعقدون في المشي بين السكك المواكب ويهينون في إيوانهم سبال الأشراف ويتخذون الآلة أيام المشاهد آية للمعتبرين في تقلب الأيام وضحكة لأهل الشمات حتى لقد حدثتهم أنفسهم بألقاب الخلافة وأقاموا على ذلك أحوالا والدولة في التياثها‏.‏فلما استبد السلطان أبو العباس بإفريقية وعمالاتها وأتيح منه بالحضرة البازي المطل من مرقبه والأسد الحادر في عرينه وأصبحوا فرائس له يتوقعون انصبابه إليهم وتوثبه بهم داخلوا حينئذ الأعراب في مدافعته عنهم بإضرام نار الفتنة واقتعاد مطية الخلاف والنفاق يفتون بذلك في عزائمه‏.‏وأرخى هو لهم طيل الأمهال وفسح لهم مجال الإيناس بالمقاربة والوعد رجاء الفيئة إلى الطاعة المعروفة والاستقامة على الجادة فأصروا وازدادوا عناداً ونفاقاً‏.‏فشمر لهم عن عزائمه ونبذ إليهم عهدهم على سواء‏.‏ونهض من الحضرة سنة سبع وسبعين في عساكره من الموحدين وطبقات الجند والموالي وقبائل زناتة ومن استألف إليه من العرب أولاد مهلهل وحكيم وإظاهر أولاد أبي الليل على المدافعة عن أهل الجريد وواقفوا السلطان أياماً‏.‏ثم أجفلوا أمامه وغلبهم السلطان على رعاياهم مرنجيزة وكانوا من بقايا بني يفرن عمروا ضواحي إفريقية مع ظواعن هوارة ونفوسة ونفزاوة‏.‏وكانت للسلطان عليهم مغارم وجبايات وافرة‏.‏فلما تغلب العرب على بسائط إفريقية وتنافسوا في الإقطاعات كانت ظواعن مرنجيزة هؤلاء في أقطاع أولاد حمزة فكانت جبايتهم موفورة ومالهم دثراً بما صاروا مدداً لهم بالمال والكراع والزرع والأدم وبالفرسان منهم يستظهرون في حروبهم مع السلطان ومن قومهم فاستولى السلطان عليهم في هذه السنة واكتسح أموالهم وبعث برجالهم أسرى إلى سجون الحضرة وقطع بها عنهم أعظم مادة كانت تمدهم فخمد بذلك من عتوهم وقص من جناحهم آخر الدهر ووهنوا لها‏.‏ثم عاد السلطان إلى حضرته وافترق أشياعه ونزع عنهم أبو صعنونة فتألف مع أولاد أبي الليل ورجعوا إلى الحضرة فأجلبوا بساحلها أياماً وشنوا الغارات عليها‏.‏ثم انفضوا عنها وخرج على أثرهم لأول فصل الشتاء وتساحل إلى سوسة والمهدية فاقتضى مغارم الأوطان التي كانت لأبي صعنونة ثم رجع إلى القيروان وارتحل منها يريد قفصة‏.‏وجمع أولاد أبي الليل للمدافعة عنها وسرب فيهم صاحب توزر الأموال فلم تغن عنه‏.‏وزحف السلطان إلى قفصة فنازلها ثلاثاً ولجوا في عصيانهم وقاتلوه فجمع الأيدي على قطع نخيلهم فتسايلت إليه الرعية من أماكنهم وأسلموا أحمد بن العابد مقدمهم وابنه محمد المستبد عليه لكبره وذهوله فخرج إلى السلطان واشترط له ما شاء من الطاعة والخراج ورجع إلى البلد وقد ماج أهلها بعضهم في بعض وهموا بالخروج فسابقهم ابنه أحمد المستبد على أبيه‏.‏وكان السلطان سرح أخاه أبا يحيى في الخاصة والأولياء إلى البلد فلقيه محمد هذا في ساحتها فبعث به إلى السلطان ودخل هو إلى القصبة وتملك البلد‏.‏وتقبض السلطان على محمد بن العابد لوقته وسيق إليه أبوه من البلد فجعل معه واستولى على داره وذخائره‏.‏واجتمع الملأ والكافة من أهل البلد عند السلطان وأتوه بيعتهم عليها لابن أبي بكر وارتحل يغذ السير إلى توزر وقد طار الخبر بفتح قفصة إلى ابن يملول فركب لحينه واحتمل أهله وما خف من ذخيرته ولحق بالزاب‏.‏وطير أهل توزر بالخبر إلى السلطان فلقيه أثناء طريقه وتقدم إلى البلد فملكها واستولى على ذخيرة ابن يملول ونزل بقصوره فوجد بها من الماعون والمتاع والسلاح وآنية الذهب والفضه ما لا يعتد لأعظم ملك من ملوك الأرض وأحضر بعض الناس ودائع كانت عندهم من نفيس الجوهر والحلى والثياب وبرءوا منها إلى السلطان‏.‏وعقد السلطان على توزر لابنه المنتصر وأنزله قصور ابن يملول وجعل إليه إمارتها‏.‏واستقدم السلطان الخلف بن الخلف صاحب نفطة فقدم عليه وأتاه طاعته وعقد له على بلده وولاية حجابة ابنه بتوزر وأنزله معه وقفل إلى الحضرة‏.‏وقد كان أهل الخلاف من العرب عند تغلبه على أمصار الجريد خالفوه إلى التلول فلما قصد حضرته اعترضوه دونها فأوقع بهم وفل من غربهم وأجفلوا إلى الجهات الغربية يؤملون منها كرة لما كن ابن يملول قد جأجأ بهم إلى خدمة صاحب تلمسان والاستجاشة به فوفد عليه بتلمسان منصور بن خالد منهم ونصر ابن عمه منصور صريخين به على عادة صريخهم بأبي تاشفين سلفه فدافعهم بالمواعد وتبينوا منها عجزه وانكفوا راجعين‏.‏ووفد صولة على السلطان بعد أن توثق له لنفسه فاشترط له على قومه ما شاء ورجع إليهم فلم يرضوا بشرطه‏.‏ونهض السلطان من الحضرة في العساكر والأولياء من العرب وأجفلوا أمامه فاتبعهم وأوقع بهم ثلاث مرات واقفوه فيها‏.‏ثم أجقلوا ولحقوا بالقيروان وقدم وفدهم على السلطان بالطاعة والاشتراط له كما يشاء فتقبل ووسعهم عفوه وصاروا إلى الانقياد والاعتمال في مذاهب السلطان ومرضاته وهم على ذلك لهذا العهد‏.‏


الخبر عن ثورة أهل قفصة ومهلك ابن الخلف
لما استقل الخلف بن علي بن الخلف بحجابة المنتصر ابن السلطان وعقد له مع ذلك على عمله بنفطة فاستخلف عليها عامله ونزل بتوزر مع المنتصر‏.‏ثم سعى به أنه يداخل ابن يملول ويراسله فبث عليه العيون والأرصاد وعثر على كتابة بخط كاتبه المعروف إلى ابن يملول وإلى يعقوب بن علي أمير الدوادوة يحرضهما على الفتنة فتقبض عليه وأودعه السجن‏.‏وبعث عماله إلى نفطة واستولى على أمواله وذخائره وخاطب أباه في شأنه فأمهله بعد أن تبين نقضه للطاعة وسعيه في الخلاف‏.‏وكان السلطان قبل فتح قفصة قد نزع إليه من بيوتاتها أحمد بن أبي زيد وسار في ركابه إليها‏.‏فلما استولى على البلد رعى له ذمة نزوعه إليه وأوصى به ابنه أبا بكر فاستولى على مشورته وحله وعقده وطوى على النث‏.‏ثم حدثته نفسه بالاستبداد وتحين له المواقيت واتفق أن سار الأمير أبو زكرياء من قفصة لزيارة أخيه المنتصر بتوزر وخلف بالبلد عبد الله التريكي من مواليهم وكان السلطان أنزله معه وولاه حجابته فلما توارى الأمير عن البلد داخل ابن أبي زيد زعنفة من الأوغاد وطاف في سكك المدينة والهاتف معه ينادي بالثورة ونقض الطاعة‏.‏وتقدم إلى قفصة فأغلقها القائد عبد الله دونه وحاربها فامتنعت‏.‏عليه‏.‏وقرع عبد الله الطبل بالقصبة واجتمع عليه أهل القرى فأدخلهم من باب كان بالقصبة يفضي إلى الغابة فكثروا شيع ابن أبي زيد وتسلل عنه الناس فلاذ بالاختفاء‏.‏وخرج القائد من القصبة فتقبض على كثير من أهل الثورة فأودعهم السجن واستولى على البلد‏.‏وسكن الهيعة وطار الخبر إلى المولى أبي بكر فأغذ السير منقلباً إلى قفصة‏.‏ولحين دخوله ضرب أعناق المعتقلين من أهل الثورة وأمر الهاتف فنادى في الناس بالبراءة من ابن أبي زيد وأخيه‏.‏ولأيام من دخوله عثر بهما الحرس في مقاعدهم بالباب مستترين بزي النساء فتقبضوا عليهما وتفوهما إلى الأمير فضرب أعناقهما وصلبهما في جذوع النخل‏.‏وكانا من المترفين فأصبحا مثلاً في الأيام وقد خسرا دينهما ودنياهما وذلك هو الخسران المبين‏.‏وارتاب المنتصر صاحب توزر حينئذ بابن خلف وحذر مغبة حاله فقتله بمحبسه وذهب في غير سبيل مرحمة وانتظم السلطان أمصار الجربد كلها في طاعته واتصل ظهوره إلى أن كان ما نذكر‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:50 AM

الخبر عن فتح قابس وانتظامها في ملكة السلطان هذا البلد
لم يزل في هذه الدولة الحفصية لبني مكي المشهور ذكرهم في هذه العصور وما إليها‏.‏وسيأتي ذكر أخبارهم ونسبهم وأوليتهم في فصل نفرده لهم فيما بعد‏.‏وكان أصل رياستهم فيها اتصالهم بخدمة الأمير أبي زكرياء الأول أيام ولايته قابس سنة ثلاث وعشرين وستمائة فاختصوا به وداخلهم في الانتقاض على أخيه أبي محمد عبد الله عندما استجمع لذلك فأجابوه وبايعوا له فرعى لهم هذه الوسائل عندما استبد بإفريقية وأفردهم برياسة الشورى في بلدهم‏.‏ثم سموا إلى الاستبداد عندما فشل ريح الدولة عن القاصية بما حدث من فتن وانفراد الثغور الغربية بالملك‏.‏ولم يزالوا جانحين إلى هذا الاستبداد سانحين إليه بثأر الفتن والانتقاض على السلطان ومداخلة الثوار والأجلاب بهم على الحضرة والدولة أثناء ذلك في شغل عنهم وعن سواهم من أهل الجريد منذ أحقاب متطاولة بما كان من انقسام الدولة وإلحاح صاحب الثغور الغربية على ثم استبد مولانا السلطان بالدعوة الحفصية في سائر عمالات إفريقية وشغله عنهم شاغل الفتنة مع صاحب تلمسان في الأجلاب على الحضرة مع جيوشه ومنازلتهم ثغر بجاية وتسريبه جيوش بني عبد الواد مرة بعد أخرى مع الأعياص من بني أبي حفص والعرب إلى إفريقية‏.‏وكان المتولي لرياسة قابس يومئذ عبد الملك بن مكي بن أحمد بن عبد الملك ورديفه فيها أخوه أحمد وكانا يداخلان أبا تاشفين صاحب تلمسان في الأجلاب على الحضرة مع جيوشه والثوار القادمين معهم‏.‏وربما خالفوا السلطان إلى الحضرة أزمان مغيبه عنها كما وقع له مع عبد الواحد بن اللحياني وقد مر ذكر ذلك‏.‏فلما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان وانمحى أثر بني زيان فرغ السلطان أبو بكر لهؤلاء الثوار الرؤساء بالجريد الدائنين بالانتقاض سائر أيامهم‏.‏وزحف إلى قفصة فملكها فذعروا ولحق أحمد بن مكي بالسلطان أبي الحسن متذمماً بشفاعته بعد أن كان الركب الحجازي من المغرب مر بقابس وبه بعض كرائم السلطان فأوسعوا حباءها وسائر الركب قرى وحباء‏.‏وقدموا ذلك وسيلة بين يدي وفادته فتقبل السلطان وسيلته وكتب إلى مولانا السلطان أبي بكر شافعاً فيهم لذمة السلطان والصهر فتقبل شفاعته وتجاوز عن الانتقام منهم بما اكتسبوا‏.‏ثم هلك مولانا السلطان أبو بكر وهاج بحر الفتنة والخلاف وعادت الدولة إلى حالها من الانقسام واشتدت على صاحب الحضرة وجوه الانتصاف منهم فعاد بنو مكي وسواهم من رؤساء الجريد إلى حالهم من الاستبداد على الدولة‏.‏وقطع أسباب الطاعة ومنع المغارم والجباية ومشايعة صاحب الغربية زبونا على صاحب الحضرة‏.‏فلما استبد مولانا السلطان أبو العباس بالدعوة الحفصية وجمع الكلمة واستولى على كثير من الثغور المنتقضة تراسل أهل هذه القصور الجريدية وتحدثوا فيما دهمهم وطلبوا وجه الخلاص منه والامتناع عليه‏.‏وكان عبد الملك بن مكي أقعدهم بذلك لطول مراسه الفتن وانحياشه إلى الثوار وكان أحمد أخوه ورديفه قد هلك سنة خمس وستين وانفرد هو برياسة قابس فراسلوه وراسلهم في الشأن وأجمعوا جميعاً على تخبيب العرب على السلطان وتسريب الأموال فيهم ومشايعة صاحب تلمسان بالترغيب في ملك إفريقية فانتدبوا لذلك من كل ناحية‏.‏وبعثوا البريد إلى صاحب تلمسان فأطمعهم من نفسه وعللهم بالمواعيد الكاذبة والسلطان أبو العباس مقبل على شأنه يفتل لهم في الفروة والغارب حتى غلب أولاد أبي الليل الذين كانوا يعدونهم بالمدافعة عنهم وافتتح قفصة وتوزر ونفطة‏.‏وتبين لهم عجز صاحب تلمسان عن صريخهم فحينئذ بادر عبد الملك إلى هراسلة السلطان يعده من نفسه الطاعة والوفاء بالجباية ويستدعي لاقتضاء ذلك منه بعض حاشيته فأجابه إلى ذلك وبعث وافده إليه ورجع إلى الحضرة في انتظاره فطاوله ابن مكي ثم اضطرب أمره وانتقض عليه أهل ضاحيته بنو أحمد إحدى بطون دباب وركبوا إليه فحاصروه وضيقوا عليه واستدعوا المدد لذلك من الأمير أبي بكر صاحب قفصة وأمدهم بعسكر وقائد فنازلوه واشتد الحصار‏.‏واتهم ابن مكي بعض أهل البلد بمداخلتهم فكبسهم في منازلهم وقتلهم وتنكرت له الرعية وساء حاله ودس إلى بعض المفسدين من العرب من بني علي في تبييت العسكر المحاصرين له واشترط لهم على ذلك ما رضوه من المال فجمعوا لهم وبيتوهم فانفضوا ونالوا منهم‏.‏وبلغ السلطان خبرهم فأحفظه وأجمع الحركة على قابس وعسكر بظاهر الحضرة في رجب سنة إحدى وثمانين وتلوم أياماً حتى استوفى العطاء واعترض العساكر وتوافت أحياء أوليائه من أولاد مهلهل وأحلافهم من سائر سليم‏.‏ثم ارتحل إلى القيروان وارتحل منها يريد قابس وقد استكمل التعبية‏.‏وبادر إلى لقائه والأخذ بطاعته مشيخة دباب أعراب قابس من بني سليم‏.‏ووفد منهم خالد بن سباع بن يعقوب شيخ المحاميد وابن عمه علي بن راشد فيمن إليهم يستحثونه إلى منازلة قابس فأغذ السير إليها وقدم رسله بين يديه بالإنذار لابن مكي‏.‏وانتهوا إليه فرجعهم بالإنابة والانقياد إلى الطاعة‏.‏ثم احتمل رواحله وعبأ ذخائره وخرج من البلد ونزل على أحياء دباب هو وابنه يحيى وحافده عبد الوهاب ابن ابنه مكي الهالك منذ سنين من قبل‏.‏واتصل الخبر إلى السلطان فبادر إلى البلد ودخلها في ذي القعدة من سنته واستولى على منازل ابن مكي وقصوره‏.‏ولاذ أهل البلد بطاعته وولى عليها من حاشيته وكان أبو بكر بن ثابت صاحب طرابلس قد بعث إلى السلطان بالطاعة والانحياش ووافته رسله دوين قابس‏.‏فلما استكمل فتحها بعث إليه من حاشيته لاقتضاء ذلك فرجعهم بالطاعة وأقام عبد الملك بن مكي بعد خروجه من قابس بين أحياء العرب ليالي قلائل‏.‏ثم بغته الموت فهلك ولحق ابنه وحافده بطرابلس فمنعهم ابن ثابت الدخول إليها فنزلوا بزنزور من قراها في كفالة الجواري من بطون دباب‏.‏ولما استكمل السلطان الفتح وشؤونه انكفأ راجعاً إلى الحضرة فدخلها فاتح اثنتين وثمانين ولحقه رسله من طرابلس بهدية ابن ثابت من الرقيق والمتاع بما فيه الوفاء بمغارمه بزعمه‏.‏ووفد عليه بعد استقراره بالحضرة رسل أولاد أبي الليل متطارحين في العفو عنهم والقبول عليهم فأجابهم إلى ذلك ووفد صولة بن خالد شيخهم وقبله أبو صعنونه شيخ حكيم ورهنوا أبناءهم على الوفاء واستقاموا على الطاعة‏.‏واتصل النجح والظهور والأمر على ذلك لهذا العهد وهو فاتح ثلاث وثمانين وسبعمائة والله مالك الأمور لا رب غيره‏.‏


الخبر عن استقامة ابن مزني وانقياده وما اكتنف ذلك من الأحوال
كان هؤلاء الرؤساء المستبدون بالجريد والزاب منذ فرغ السلطان لهم من الشواغل واسترابوا بمغبة حالهم معه ومراوغتهم له بالطاعة يرومون استحداث الشواغل ويؤملون لها سلطان تلمسان لعهدهم أبا حمو الأخير وأنه يأخذ بحجزته عنهم أن وصلوا به أيديهم واستحثوه لذلك لائتلافهم مثلها من سلف قومه‏.‏وابن حمو وأبي تاشفين من قبله قياساً متورطاً في الغلط بعيداً من الإصابة لما نزل بسلطان بني عبد الواد في هذه العصور من الضعف والزمانة وما أصاب قومهم من الهلاك والشتات بأيديهم وأيدي عدوهم وتقدمهم في هذا الشأن أحمد بن مزني صاحب بسكرة لقرب جواره واشتهار مثلها من سلفه فأتبعوه وقلدوه وغطى هواهم جميعاً على بصيرتهم‏.‏وقارن ذلك نزول الأمير أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عم أبي حمو علي بن يملول بتوزر عند منابذة سالم بن إبراهيم الثعالبي إياه وكان طارد به أياماً‏.‏ثم راجع أبا حمو وصرفه سنة ثمان وسبعين فخرج من أعمال تلمسان وأبعد المذهب عنهم ونزل على ابن يملول بتوزر‏.‏وطير الخبر إلى إمامه في تلك الفتنة أحمد بن مزني واغتبطوا بمكان أبي زيان وأن تمسكهم به ذريعة إلى اعتمال أبي حمو في مرضاتهم وإجابته إلى داعيهم وركض بريدهم إلى تلمسان في ذلك ذاهباً وجائياً حتى أعيت الرسل واشتبهت المذاهب ولم يحصلوا على غير المقاربة والوعد لكن على شريطة التوثق من أبي زيان‏.‏وبينما هم في ذلك إذ هجم السلطان على الجريد وشرد عنه أولاد أبي الليل الذين تكفلوا لرؤسائه بالمدافعة‏.‏وافتتح قفصة وتوزر ونفطة ولحق يحيى بن يملول ببسكرة واستصحب للأمير أبا زيان فنزل على ابن مزني وهلك لأيام قلائل كما ذكرنا‏.‏واستحكمت عندها استرابة يعقوب بن علي شيخ رياح بأمره مع السلطان لما سلف منه في مداخلة هؤلاء الرهط وتمسكهم بحقويه والمبالغة في العذر عنهم‏.‏ثم غيرته بأنظاره من مشيخة الدواودة الذين انحاشوا إلى السلطان فأفاض عليهم عطاءه واختصهم بولايته فحدث لذلك منه نفرة واضطراب وارتحل إلى السلطان أبي حمو صاحب تلمسان فاتح اثنتين وثمانين يستجيشه لهؤلاء الرهط ويهزه بها إلى البدار بصريخهم‏.‏ونزل على أولاد عريف أوليائه من سويد وأوفد عليه ابنه فتعلل لهم بمنافرة حدثت في الوقت بينه وبين صاحب المغرب وأنه لهم بالمبرصاد متى رابهم ريب من نهوض السلطان أبي العباس إليهم تمسك بذلك طرف التوثق من أبي زيان وربما دس إليهم بمشارطة اعتقاله وإلقائه في غيابات السجون‏.‏وفي مغيب يعقوب هذا طرق السلطان تمحيص من المرض أرجف له المفسدون بالجريد ودس شيع آل يملول بخبره إلى صبي من أبناء يحيى مخلف ببسكرة فذهل ابن مزني عن التثبت لها ذهاباً مع صاغية الولد وأوليائه وجهزهم لانتهاز الفرصة في توزر مع العرب المشارطين في مثلها بالمال وأغذ السير إلى توزر على حين غفلة من الدهر وخف من الجند فجلى المنتصر وأوليائه في الامتناع وصدق الدفاع وتمحصت بهذا الابتلاء طاعة أهل توزر ومخالصتهم وانصرف أبن يملول بإخفاق من السير واليم من الندم وتوقع للمكاره‏.‏ووافق ببسكرة قدوم يعقوب بن علي مرجعه من الغرب فبالغ في تغييبهم بالملامة على ما أحدثوا بعده من هذا الخرق المتسع المعيي على الراقع‏.‏وكان السلطان لأول بلوغ الخبر بأجلابهم على توزير وممالأة ابن مزني على ابنه وأوليائه أجمع النهوض إلى بسكرة وعسكر بظاهر الحضرة وفتح ديوان العطاء وجهز آلات الحصار‏.‏وسرى الخبر بذلك إليهم فخلصوا نجياً ونفضوا عيبة آرائهم فتمحض لهم اعتقال أبي زيان الكفيل لهم بصريخ أبي حمو على زعمه فتعللوا عليه ببعض النزعات وتورطوا في إخفار ذمته وطيروا بالصريخ إلى أبي حمو وانتظروا فما راعهم إلا وافده بالعذر عن صريخهم والإعاضة بالمال فتبينوا عجزه ونبذوا عهده وبادروا لتخلية السبيل لأبي زيان والعذر له لما كان السلطان نكر عليهم من أمره فارتحل عنهم ولحق بقسطنطينة‏.‏وحملهم ابن علي على اللياذ بالطاعة وأوفد ابن عمه متطارحاً وشافعاً فتقبل السلطان فيئته ووسيلته وأغضى لابن مزني عن هناته وأسعفهم بكبير دولته وخالصه سره أبي عبد الله بن أبى هلال ليتناول منه المخالصة‏.‏ويمكن له الألفة وتمسح عن هواجس الارتياب والمخافة‏.‏وكان لقاؤه أشهى إليهم من الحياة ففصل عن الحضرة وانتهى السلطان في ذي القعدة آخر سنة اثنتين وثمانين لتفقد أعماله وابتلاء الطاعة من أهل أوطانه‏.‏ولما وصل وافد السلطان إلى ابن‏.‏مزني ألقى زمامه إليه وحكمه في ذات يده وقبله ومحى أثر المراوغة واستجد لبوس الانحياش والطاعة وبادر إلى استجادة المقربات وانتقى صنوف التحف‏.‏وبعث بذلك في ركاب الوافد مع الذي عليه من الضريبة المعروفة محملاً أكتاد ثقاته وظهور مطاياه‏.‏ووصلوا معسكر السلطان بساح تبسة فاتح ثلاث وثمانين فجلس لهم السلطان جلوساً فخماً ولقاهم قبولاً وكرامة فعرضوا الهدية وأعربوا عن الانحياش والطاعة وحسن موقع ذلك من السلطان وشملهم إحسان السلطان في مقاماتهم وجوائزه على الطبقات في انصرافهم وانقلبوا بما ملأ صدورهم إحساناً ونعمة وظفروا برضى السلطان وغبطته‏.‏وحسبهم بها أمنية وبيد الله تصارف الأمور ومظاهر الغيوب‏.‏


الخبر عن انتقاض أولاد أبي الليل ثم مراجعتهم الطاعة
قد ذكرنا ما كان من رجوع أولاد أبي الليل هؤلاء إلى طاعة السلطان إثر منصرفه من فتح قابس وأنهم وفدوا عليه بالحضرة فتقبلهم وعفا عنهم كبائرهم واسترهن على الطاعة أبناءهم واقتضى بالوفاء على ذلك إيمانهم‏.‏وخرج الأخ الكريم أبو يحيى زكرياء في العساكر لاقتضاء المغارم من هوارة التي استأثروا بها في فترة هذه الفتن‏.‏وارتحل معه أولاد أبي الليل وأحلافهم من حكيمن حتى استوفى جبايته وجال في أقطار عمله‏.‏ثم انكفأ راجعاً إلى الحضرة ووفدوا معه على السلطان يتوسلون به في إسعافهم بالعسكر إلى بلاد الجريد لاقتضاء مغارمهم على العادة واستيفاء إقطاعاتهم فسرح السلطان معهم لذلك أبا فارس وارتحلوا معه بأحيائهم وكان ابن مزني وابن يملول من قبله وابن يعقوب بن علي كثيراً ما يراسلونهم ويستدعونهم لمثل ما كانوا فيه من الانحراف ومشايعة صاحب تلمسان‏.‏ولما اعتقلوا أبا زيان ببسكرة كما ذكرناه وثوقاً بصريخ أبي حمو ومظاهرته‏.‏نبضت عروق الخلاف في أولاد أبي الليل ونزعوا إلى اللحاق بيعقوب بن علي رجاء فيما توهموه من استغلاظ أمرهم بصاحب تلمسان ويأساً من معاودة التغلب الذي كان لهم على ضواحي إفريقية ففارقوا الأمير أبا فارس بعد أن أبلغوه مأمنه من قفصة وساروا بأحيائهم إلى الزاب فلم يقعوا على الغرض ولا ظفروا بالبغية ووافوا يعقوب وابن مزني وقد جاءهم وافد أبي حمو بالقعود عن نصرتهم والأمير أبو زيان قد انطلق لسبيله عنهم فسقط في أيديهم وعاودهم الندم على ما استدبروا من أمرهم وحملهم يعقوب على مراجعة السلطان وأوفد أبنه محمداً في ذلك مع وافد العزيز أبي عبد الله محمد بن أبي هلال فتقبلهم وأحسن التجاوز عنهم‏.‏وبعث أبا يحيى أخاه لاستقدامهم أماناً لهم وتأنيساً‏.‏وبذل لهم فوق ما أملوه من مذاهب الرضى والقبول واتصال النجح والظهور والحمد لله وحده‏.‏تغلب ابن يملول على توزر وارتجاعها منه قد كان تقدم لنا أن يحيى بن يملول لما هلك ببسكرة تخلف صبياً اسمه أبو يحيى وذكرنا كيف أجلب على توزر سنة اثنتين وثمانين مع لفيف أعراب رياح ومرداس‏.‏فلما كان سنة ثلاث وثمانين بعدها وقعت مغاضبة بين السلطان وبين أولاد هلال من الكعوب وانحدروا إلى مشاتيهم بالصحراء فبعث أميرهم يحيى بن طالب عن هذا الصبي أبي يحيى من بسكرة ونزل بأحيائه بساح توزر ودفع الصبي إلى حصارها واجتمع عليه شيعته من نواحي البلد وأوشاب من أعراب الصحراء وأجلبوا على البلد وناوشوا أهلها القتال وكان بها المنتصر ابن السلطان فقاتلهم أياماً‏.‏ثم تداعى شيعهم من جوانب المدينة وغلبوا عساكرهم وأحجروهم بالبلد ثم دخلوا عليهم وخرج المنتصر ناجياً بنفسه إلى بيت يحيى بن طالب‏.‏واستذم به فأجاره وأبلغه إلى مأمنه بقفصة وبها عاملها عبد الله التريكي‏.‏واستولى ابن يملول على توزر واستنفد ما معه وما استخرجه من ذخائرهم بتوزر في أعطيات العرب وزادهم جباية السنة من البلد بكمالها ولم يحصل على رضاهم‏.‏وبلغ الخبرإلى السلطان‏.‏بتونس فشمر عزائمه وعسكر بظاهر البلد واعترض الجند وأزاح عللهم وارتحل إلى ناحية الأربص وهو يستألف الأعراب ويجمع لقتال أولاد مهلهل أقتالهم وأعداءهم أولاد أبي الليل وأولياءهم وأحلافهم ليستكثر بهم حتى نزل فحص تبسة فأراح بهم أياماً حتى توافت أمداده من كل ناحية ثم نهض يريد توزر‏.‏ولما احتل بقفصة قدم أخاه الأمير أبا يحيى وابنه الأمير المنتصر في العساكر ومعهما صولة بن خالد بقومه أولاد أبي الليل وسار على أثرهم في التعبية‏.‏ولما انتهى أخوه وابنه إلى توزر حاصروها وضيقوا عليها أياماً‏.‏ثم وصل السلطان فزحف إليها العساكر من جوانبها وقاتلوها يوماً إلى المساء‏.‏ثم باكروها بالقتال فخذل ابن يملول أصحابه وأفردوه فذهب ناجياً بنفسه إلى حلل العرب ودخل السلطان البلد واستولى عليه وأعاد ابنه إلى محل إمارته منه وانكفأ راجعاً إلى قفصة‏.‏ثم إلى تونس منتصف أربع وثمانين‏.‏ولاية الأمير زكرياء ابن السلطان على توزر ثم عاد ابن يملول إلى الأجلاب على توزر من السنة القابلة وخرج السلطان في عساكره فكر راجعاً إلى الزاب ونزل السلطان قفصة ووافاه هنالك ابنه المنتصر وتظلم أهل توزر من أبي القاسم الشهرزوري الذي كان حاجباً للمنتصر فسمع شكواهم وأنهى إليه الخاصة سوء دخلته وقبيح أفعاله فقبض عليه بقفصة واحتمله مقيداً إلى تونس‏.‏وغضب لذلك المنتصر وأقسم لا يلي على توزر‏.‏وسار معه السلطان إلى تونس وولى على توزر الأمير زكرياء من ولده الأصاغر لما كان يتوسم فيه من النجابة فصدقت فراسته فيه وقام بأمرها وأحسن المدافعة عنها وقام باستئلاف الشارد من أحياء العرب وأمرائها حتى تم أمره وحسنت ولايته والله متولي الأمور بحكمته سبحانه‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:51 AM

وفاة الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية
كان السلطان لما سار إلى فتح تونس ولى على بجاية ابنه محمداً كما مر وأقام له حاجباً وأوصاه بالرجوع إلى محمد بن أبي مهدي زعيم البلد وقائد الأسطول المتقدم على أهل الشطارة والرجولة من رجل البلد ورماتهم فقام هذا الأمير أبو عبد الله في منصب الملك ببجاية أحسن قيام واصطنع ابن أبي مهدي أحسن اصطناع فكان يجري في قصوره وأغراضه ويكفيه مهمة في سلطانه ويراقب مرضاة السلطان في أحواله والأمير يعرف له ذلك ويوفيه حقه إلى أن أدركته المنية أوائل خمس وثمانين فتوفي على فراشة آنس ما كان سرباً وآمن روعاً مشيعاً من رضى أبيه ورعيته بما يفتح له أبواب الرضى من ربه وبلغ نعيه إلى أبيه بتونس فبادر بإنفاذ العهد لابنه أبي العباس أحمد بولاية بجاية مكان أبيه وجعل كفالة أمره لابن أبي مهدي مستبداً عليه واستقامت الأمور على ذلك‏.‏حركة السلطان إلى الزاب كنت أنتهي بتأليف الكتاب إلى ارتجاع توزر من يد ابن يملول وأنا يومئذ مقيم بتونس ثم ركبت البحر منتصف أربع وثمانين إلى بلاد الشرق لقضاء الفرض ونزلت بالإسكندرية ثم بمصر وصارت أخبار المغرب تبلغنا على ألسنة الواردين فمن أول ما بلغنا وفاة هذا الأمير ابن السلطان ببجاية سنة خمس وثمانين‏.‏ثم بلغنا بعدها حركة السلطان إلى الزاب سنة ست وثمانين وذلك أن أحمد بن مزني صاحب بسكرة والزاب لعهده كان مضطرب الطاعة يجير على السلطان ويمنع في أكثر السنين المغارم معولا على مدافعة العرب الذين ملكوا ضواحي الزاب والتلول دونه وأكثر وثوقه في ذلك بيعقوب ابن علي وقومه الدواودة‏.‏وقد مر طرف من أخباره في ذلك مثبوتاً في أخبار الدولة‏.‏وكاز ابن يملول قد أوى إلى بلده واتخذ وكراً في وجوه وأجلب على توزر مراراً برأيه ومعونته فأحفظ ذلك السلطان ونبه له عزائمه‏.‏ثم نهض سنة ست وثمانين يريد الزاب بعد أن جمع الجموع واحتشد الجنود واستألف العرب من بني سليم فصاروا معه وأوعبوا ومر على فحص تبسة‏.‏ثم خرج من طرف جبل أوراس إلى بلد تهودا من أعمال الزاب واعصوصب الدواودة ومن تبعهم من قبائل رياح على المدافعة دون بسكرة والزاب غيرة من بني سليم أن يطرقوا أوطانهم أو يردوا مراعيهم إلا بني سباع بن شبل من الدواودة فإنهم تحيزوا إلى السلطان‏.‏واستنفر ابن مزني حماة وطنه ورجالة قومه من الأتبج فغصت بسكرة بجموعهم وتوافت الفريقان وناوشهم السلطان القتال أياماً وهو يراسل يعقوب بن علي ويستحثه لما كان يطمعه به من المظاهرة على ابن مزني ويعقوب يخادعه بانحراف قومه عنه وائتلافهم على ابن مزني ويرغبه في قبول طاعته ووضع أوزار الحرب مع رياح حتى تتمكن له فرصة أخرى فتقبل السلطان نصيحته في ذلك وأغضى لابن مزني ولرياح عنها وقبل طاعته وضريبته المعلومة وانكفأ راجعاً ومر بجبل أوراس ثم إلى قسطنطينة فأراح بها ثم ارتحل إلى تونس فوصل إليها منتصف ست وثمانين‏.‏


حركة السلطان إلى قابس
كان السلطان قد فتح مدينة قابس سنة إحدى وثمانين وانتظمها في أعماله وشرد عنها بني مكي فذهبوا إلى نواحي طرابلس وهلك كبيرهم عبد الملك وعبد الرحمن ابن أخيه أحمد وذهب ابنه يحيى إلى الحج وأقام عبد الوهاب بزنزور ثم رجع إلى جبال قابس يحاول على ملكها‏.‏واستتب له ذلك بوثوب جماعة من أهل البلد بعاملها يوسف الأبار من صنائع السلطان لقبح إيالته وسوء سيرته فداخلوا جماعة من شيعة بني مكي في ضواحي قابس وقراها وواعدوهم فجاءوا لميعادهم وعبد الوهاب معهم واقتحموا باب البلد وقتلوا البواب‏.‏ثم قصدوا ابن الأبار فقتلوه في مسكنه سنة اثنتين وثمانين‏.‏وملك عبد الوهاب البلد واستقل بها كما كان سلفه‏.‏وجاء أخوه يحيى من المشرق فأجلب عليه مراراً يروم ملك البلد منه فلم يتهيأ له ذلك ونزل على صاحب الحامة وأقام عنده يحاول أمر البلد منها فبعث عبد الوهاب إلى صاحب الحامة وبذل له المال على أن يمكنه منه فبعث إليه به فاعتقله بقصر العروسيين وأقام يراوغ السلطان عن الطاعة ويبذل ماله في أعراب الضاحية من دباب وغيرهم للمدافعة عنه ومنع الضريبة التي كانوا يؤدونها للسلطان أيام طاعتهم والسلطان مشغول عنهم بمهمه فلما فرغ من شواغله بإفريقية والزاب نهض إليه سنة تسع وثمانين بعد أن اعترض عساكره واستألف من العرب أولياءه وسرب فيهم عطاءه‏.‏ونزل على قابس وقد استعد لها وجمع الآلات لحصارها فاكتسح نواحيها وجثم عليهما عساكره يقاتلها ويقطع نخيلها حتى أعاد الكثير من الفرفهة‏.‏براحاً وموج الهواء في ساحتها فصح بعد أن كانوا يستوخمونه لاختفائه بين الشجر وفي متكاثف الظلال وما يلحقه بذلك من التعفن فذهب عنها ما كان يعهد فيها من ذلك الوخم رحمه من الله أصابتهم من عذاب هذا السلطان وربما صحت الأجسام بالعلل‏.‏ولما اشتد بهم الحصار وضاق المخنق وظن ابن مكي أنه قد أحيط به استعتب للسلطان واستأمن فأعتبه وأمنه ورهن ابنه على الطاعة وأداء الضريبة وأفرج عنه السلطان وانكفأ راجعاً إلى تونس واستقام ابن مكي حتى كان من تغلب عمه يحيى عليه ما نذكره‏.‏كان العرب أيام ولاية المنتصر بتوزر قد حمدوا سيرته وأصفقوا على محبته والتشيع له فلما رجع السلطان عن قابس رغبوا إليه في طريقهم أن يولي المنتصر على بلاد الجريد كما كان ويرفد على عمله بتوزر‏.‏وتولى ذلك بنو مهلهل وأركبوا نساءهم الظعن في الهوادج واعترضوا بهن السلطات سافرات مولولات دخلاء عليه في إعاجة المنتصر إلى توزر لما لهم فيه من المصالح فقبل السلطان وسيلتهن وأعاده إلى توزر ونقل ابنه زكرياء إلى نفطة وأضاف إليها عمل نفزاوة فسار إليها واستعمله وأظهر من الكفاية والاضطلاع ما تحدث به الناس عنه وكانت ولايته أول سنة تسعين‏.‏


فتنه الأمير إبراهيم صاحب قسطنطينة مع الدواودة
ووفاة يعقوب بن علي ثم وفاة الأمير إبراهيم إثرها كان للدواودة بقسطنطينة عطاء معلوم مرتب على مراتبهم زيادة لما بأيديهم البلاد في التلول والزاب بأقطاع السلطان وضاق نطاق الدولة لهذه العصور فضاقت الجباية وصار العرب يزرعون الأراضي في بلادهم بالتلول ولا يحتسبون بمغارمها فيضيق الدخل ويمنعهم السلطان العطاء من أجل ذلك فتفسد طاعتهم وتنطلق بالعيث والنهب أيديهم‏.‏ولما رجع الأمير إبراهيم من حركته في ركاب أبيه إلى قابس وكان منذ أعوام ينقص من عطائهم لذلك ويعللهم بالمواعيد فلما قفل من قابس اجتمعوا إليه وطلبوا منه عطاءهم فتعلل عليهم وجاءه يعقوب بن علي مرجعه من الحج وأشار عليه بإنصاف العرب من مطالبهم فأعرض عنه وارتحل لبعض مذاهبه وتركه ونادى في العرب بالفتنة معه يروم استئلاف أعدائه فأجابه الكثير من أولاد سباع بن شبل وأولاد سباع بن يحيى وباديتهم من ذؤبان رياح وخرج يعقوب من التل فنزل في نقاوس فأقام بها وانطلقت أيدي قومه على تلول قسطنطينة بالنهب وانتساف الزروع حتى اكتسحوا عامتها ولحقوا به مالئي اليد مثقلي الظهر‏.‏ثم طرقه المرض فهلك سنة تسعين ونقلوا شلوه إلى بسكرة فدفنوه بها وقام مكانه في قومه ابنه محمد‏.‏واستمر على العصيان وصعد إلى التل في منتصف إحدى وتسعين واستألف الأمير إبراهيم أعداءه من الدواودة وأحلافهم من البادية وجنح إليه أبو ستة بن عمر أخو يعقوب بن علي بمن معه من أولاد عائشة أم عمر وخالفه أخوه صميت إلى محمد بن يعقوب‏.‏ثم تحاربوا مع الأمير إبراهيم فهزموه وقتل أبو ستة‏.‏ثم جمع السلطان لحربهم ودفعهم عن التلول ومنعهم من المصيف عامهم ذلك‏.‏وانحدروا إلى مشاتيهم وعجزوا بعدها عن الصعود إلى التلول وقضوا مصيفهم عامهم ذلك بالزاب وانحدروا منه إلى المشاتي فلما رجعوا من مشاتيهم وقد فقدوا الميرة انطلقت أيديهم على نواحي الزاب فانتسفوا زروعه وكاد أن يفسد ما بينهم وبين ابن مزني مظاهرهم على تلك الفتنة‏.‏ثم ارتحلوا صاعدين إلى التلول وقد جمع الأمير إبراهيم لدفاعهم عنه‏.‏وبينما هو في ذلك ألم به طائف من المرض فتوفي سنة اثنتين وتسعين وافترقت جموعه‏.‏وأغذ محمد بن يوسف السير إلى نواحي قسطنطينة فاحتل بها مظاهراً للطاعة متبرياً من الخلاف وناس في أهل البلاد بالأمان والعمارة فصلحت أحوال الرعايا والسابلة‏.‏وبعثوا إلى السلطان بتونس مستأمنين مستعتبين فأمنهم وأعتبهم وأقام بقسطنطينة مكان ابنه إبراهيم ابنه وبعث من حضرته محمد بن مولاه بشير لكفالته والقيام بدولته فقام بأمرها وصلحت الأحوال‏.‏منازلة نصارى الفرنج للمهدية كانت أمة الفرنج وراء البحر الرومي في الشمال قد صار لهم التغلب ودولة بعد انقراض دولة الروم فملكوا جزائره مثل‏:‏ دانية وسردانية وميورقة وصقلية وملأت أساطيلهم فضاءه ثم تخطوا إلى سواحل الشام وبيت المقدس فملكوها وعادت لهم سورة التغلب في هذا البحر بعد أن كان سورة المسلمين فيه لا يتقاوم إلى آخر دولة الموحدين بكثرة أساطيله ومران راكبيه فغلبهم الفرنج وعادت السورة لهم وزاحمتهم أساطيل المغرب لعهد بني مرين أياماً‏.‏ثم فشل ريح الفرنجة واختل مركز دولتهم بافرنسة وافترقت طوائف في أهل برشلونة وجنوة والبنادقة وغيرهم من أمم الفرنجة النصرانية وأصبحوا دولاً متعددة فتنبهت عزائم كثير من المسلمين بسواحل إفريقة لغزو بلادهم وشرع في ذلك أهل بجاية منذ ثلاثين سنة فيجمع النفراء والطائفة من غزاة البحر ويصنعون الأسطول ويتخيرون له الأبطال الرجال ثم يركبونه إلى سواحل الفرنجة وجزائرهم على حين غفلة فيتخطفون منها ما قدروا عليه ويصاعدون ما يلقون من أساطيل الكفرة فيظفرون بها غالباً ويعودون بالغنائم والسبي والأسرى حتى امتلأت سواحل الثغور الغربية من بجاية بأسراهم تضج طرق البلد بصخب السلاسل والأغلال عندما ينتشرون في حاجاتهم ويغالون في فدائهم بما يتعذر معه أو يكاد فشق ذلك على أمم الفرنجة وملأ قلوبهم ذلا وحسرة وعجزوا عن الثأر به وصرخوا على البعد بالشكوى إلى السلطان بإفرنجة فصم عن سماعها وتطارحوا بثهم وثكلهم فيما بينهم وتداعوا لنزال المسلمين والأخذ بالثأر منهم‏.‏وبلغ خبر استعدادهم إلى السلطان فسرح ابنه أبا فارس يستنفر أهل النواحي ويكون رصداً للأسطول هنالك واجتمعت أساطيل جنوة وبرشلونة ومن وراءهم أو مجاورهم من أمم النصرانية وأقلعوا من جنوة فحطوا بمرسى المهدية منتصف اثنتين وتسعين وطرقوها على حين غفلة وهي على طرف من البر داخل في البحر كأنه لسان دالع فأرسوا عندها وضربوا عند أول الطرف سوراً من الخشب بينه وبين البر حتى أصاروا المعقل في حكمهم وعالوا عليه بالأبراج وشحنوها بالمقاتلة ليتمكنوا من قتال البلد ومن يأتيهم من مدد المسلمين وصنعوا برجاً من الخشب من جهة البحر يشرف على أسوار المعقل لتعظم نكايتهم وتحصن أهل البلد وبلغ الخبرإلى السلطان فأهمه أمرها وسرح العساكر تترى إلى مظاهرتهم‏.‏ثم خرج أخوه الأمير أبو يحيى زكرياء وسائر بنيه فيمن حضره من العساكر فانطلقوا لجهاد هذا العدو واستنفروا المقاتلة من الأعراب وغيرهم فاجتمعت بساحتها أمم وألحوا على الفرنجة بالقتال ونضح السهام حتى أحجروهم في سورهم‏.‏وبرز الفرنجة للقتال فكان بينهم وبين المسلمين جولة جلى فيها أبناء السلطان وكاد الأمير أبو فارس منهم أن يتورى لو لا حماية الله التي وقته‏.‏ثم تداركت عليهم الحجارة والسهام والنفط من سور البلد فاحترق البرج المطل عليها من جهة البحر فوجموا لحريقه‏.‏ثم ركبوا من الغد أسطولهم وأقلعوا إلى بلادهم وخرج أهل المهدية يتباشرون بالنجاة ويتنادون بشكر الأمراء على ما اعتمدوه في نصرهم ‏"‏ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال ‏"‏‏.‏وأمر الأمير أبو يحيى برم ما تثلم من أسوارها ولم ما تشعب منها وقفل إلى تونس وقد أنجح الله قصدهم وأظهرهم على عدوهم‏.‏انتقاض قفصة وحصارها كان السلطان أبو العباس قد ولي على قفصة عندما ملكها ابنه الأمير أبا بكر وأقام في خدمته من رجال دولتهم عبد الله التريكي من موالي جدهم السلطان أبي يحيى فانتظم به أمره وأقام بها حولا‏.‏ثم تجافى عن إمارتها ولحق بأبيه بتونس سنة اثنتين وثمانين فجعل السلطان أمر قفصة لعبد الله التريكي وولاه عليها ثقة بغنائه واضطلاعه‏.‏ولم يزل والياً بها إلى أن هلك سنة أربع وتسعين وولى السلطان مكانه ابنه محمداً وكان له أخوة أصاغر أبناء علات فنافسوه في تلك الرتبة وحسدوه عليها وأغراهم به محمد الدنيدون من قرابة أحمد بن العابد كان ينظر في قسمة الماء بالبلد وكان فيها عدلا معقلا فلم تطرقه النكبة كما طرقت قومه وأبقاه السلطان بالبلد فأغرى هؤلاء الأخوة بأخيهم ووثبوا به فاعتقلوه وأظهروا العصيان‏.‏ثم حمله أعيان البلد على البراءة من بني عبد الله التريكي استرابة بهم أن يراجعوا طاعة السلطان فتوثب بهم وأخرجهم واستصفاهم واستقل برياسة البلد كما كان قومه والسلطان في خلال ذلك يرعد ويبرق ويواصل الأعذار والإنذار وهم قد لجوا في طغيانهم‏.‏ثم جمع جنوده واحتشد واستألف الأعراب ووفر لهم الأعطيات‏.‏ونهض إليها حتى نزل بساحتها منتصف خمس وتسعين‏.‏وقد استعدوا وتحصنوا فألح عليهم القتال وأذاقهم النكال وقطع عنهم الميرة فضيق مخنقهم‏.‏ثم عدا على نخلهم فقطعها حتى صرع جذوعها وفسح المجال بين لفافها‏.‏ولما اشتد بهم الحصار وضاق عليهم المخنق خرج شيخهم الدنيدن إلى السلطان يعقد معه صلحاً على بلده وقومه فغدر به وحبسه رجاء أن يملك بذلك البلد‏.‏وكان بعض بني العابد اسمه عمر بن الحسن قد انتبذ عن قفصة أيام نكبتهم وأبعد في المغرب ثم رجع ونزل بأطراف الزاب‏.‏ولما استقل الدنيدن بقفصة قدم عليه فأقام معه أياماً‏.‏ثم استراب به وتقبض عليه وحبسه‏.‏فلما غمر به السلطان اجتمعت عليه المشيخة وعقدوا له الإمرة وبعثوا إلى العرب يسترحمونهم ويعطفونهم على ذخيرتهم فيهم‏.‏وسربوا إليهم الأموال فتصدى للدفاع عنهم صولة بن خالد بن حمزة أمير أولاد أبي الليل‏.‏وزحف إلى السلطان بمعسكره من ظاهر البلد وكان أولياءه من العرب قد ابعدوا عنه في الجهات لانتجاع إبلهم فما راعه إلا إطلاق صولة براياته في قومه فأجفل واتبعوه‏.‏وما زال يكر عليهم في بنيه وخواصه حتى ردهم على أعقابهم‏.‏وأغد السير إلى تونس وهم في اتباعه ولم يظفروا منه بعقال إلا ما كان من طعن القنا ووقع السيوف حتى وصل إلى حضرته‏.‏ثم ندم صولة على ما كان منه وأرسل السلطان بطاعته فلم يقبله وانحدر إلى مشاتيه سنة ست وتسعين‏.‏واستدعى ابن يملول من عش نفاقه ببسكرة فخف إليه ودفعه إليها تربه في الغي أحمد بن مزني صاحب الزاب‏.‏ووصل ابن يملول إلى صولة فأغراه بحصار توزر ونزل معه عليها بقومه فجلى الأمير المنتصر في دفاعهم والامتناع عليهم حتى يئسوا واضطربت آراؤهم وأفرجوا عنها مفترقين‏.‏وصعد صولة إلى التل للمصيف به وعاود الرغبة من السلطان في قبول طاعته‏.‏وكان محمد الدنيدن لما أجفل السلطان عن قفصة تركه بتلك الناحية فلما وصل إلى تونس راسل أهل قفصة في الرجوع إليهم فأجابه بعض أشياعه ودخل البلد فنذر به عمر بن العابد وكبسه بمكانه الذي نزل به وقتله واستبد بمشيخة قفصة‏.‏وخشي أهل قفصة من عائلة السلطان وسوء مغبة العصيان فبعثوا إلى السلطان بطاعتهم وشرط عليهم نزول عامله عندهم وهذا آخر ما بلغنا عنهم ولم يبلغنا أنه عقد لهم ولا لصولة أمراً والله يصرف الأمور بحكمته‏.‏


ولاية عمر ابن السلطان على صفاقس واستيلائه منها
على قابس وجزيرة جربة هذا الأمير عمر ابن السلطان هو شقيق إبراهيم الذي كان أميراً بقسطنطينة وكان في كفالة أخيه إبراهيم فلما توفي كما مر لحق بالسلطان أبيه وأقام عنه‏.‏ولما كان من وفاة أبي بكر بن ثابت شيخ طرابلس ما قدمناه واضطراب قومه من بعده ونزع قائدهم قاسم بن خلف إلى السلطان فبعث معه ابنه عمر هذا سنة اثنتين وتسعين لحصار طرابلس وأقام عليها حولا كريتا يحاصرها ويمنع الأقوات عنها حتى ضجروا وضجر من طول المقامة فدافعوه بالضريبة وانكفأ راجعاً إلى أبيه سنة خمس وتسعين‏.‏ووافاه جاثماً على قفصة عندما انتقضوا عليه‏.‏وقد كان مر في طريقه على جربة وأراد الدخول إليها فمنعه عامل أبيه بها من الموالي المعلوجي فأنف من ذلك وشكاه إلى أبيه فولاه على صفاقس‏.‏ووعده بولاية جربة فسار هو إلى صفاقس وأجاز البحر إلى جزيرة جربة وانضم إليه جميع من بها من القبائل‏.‏وامتنع العلج منصور العامل بحصنها المسمى بالقشتيل بلسان الفرنج حتى كاتب السلطان وأمره بتمكين ابنه من الحصن والإفراج له عن الجزيرة أجمع فاستبد بها ثم إن الأمير عمر سما إلى ملك قابس فداخل أهل الحافة جارتها المجلبة عليها على الأيام في ذلك وأجابوه وساروا معه بجموعه سنة ست وتسعين فبيتها وملكها‏.‏وقبض على رئيسها يحيى بن عبد الملك بن مكي فضرب عنقه وانقرض أمر بني مكي من قابس واستقل بها الأمير عمر مضافة إلى ما كان بيده والله وارث الأمور‏.‏


وفاة السلطان أبي العباس وولاية ابنه أبي فارس عزوز
كان السلطان أبو العباس قد أزمن به وجع النقرس حتى كان في غالب أسفاره يحمل على البغال في المحفة‏.‏ثم اشتد به آخر عمره وأشرف في سنة ست وتسعين على الهلكة‏.‏وكان أخوه زكرياء رديفه في الملك والمرشح بعده للأمر وابنه محمد والياً في بونة موضع إمارته من قبل‏.‏وكان للسلطان ولد كثيرون يتطاولون إلى مكان أبيهم ويغصون بعمهم زكرياء ويخشون غائلته بعد أبيهم‏.‏فلما قارب السلطان منيته اشتد جزعهم وإشفاقهم من عمهم‏.‏وبعث السلطان كبيرهم أبا بكر بعهده على قسطنطينة فسار إليها بين أيدي موته واعصوصب الباقون على كبيرهم بعده أبي فارس عزوز فقبضوا على عمهم زكرياء وقد دخل يعود أخاه وأودعوه في بعض الحجر ووكلوا به‏.‏وهلك السلطان لثلاث بعدها فبايعوا أخاهم أبا فارس رابع شعبان سنة ست وتسعين وجاء أهل البلد إلى بيعته أفواجاً من الأعيان والكافة فتمت بيعته وأمر بنقل ما في بيوت عمه من الأموال والذخيرة إلى قصره حتى استوعبها وضيق عليه في محبسه وقام بتدبير ملكه وسياسة سلطانه‏.‏وولى بعض إخوانه على منابر عمله بإفريقية فبعث أحدهم على سوسة والثاني على المهدية وردف أخاه إسماعيل في ملكه بتونس وأحل الباقين محل الشورى والمفاوضة‏.‏وبلغ الخبرإلى أخيه المنتصر بتوزر فاضطرب أمره ولحق بالحامة فأقام بها‏.‏وكذلك أخوه زكرياء بنفطة فلحق بجبال نفزاوة‏.‏وكان أخوه أبو بكر لما سار إلى قسطنطينة لولاية أبيه قبل وفاته مر ببونة فلقيه صاحبها الأمير محمد ابن عمه زكرياء بما شاء من أنواع الكرامة والمبرة ووافى قسطنطينة فطلب منه القائمون بها كتاب السلطان بعهده عليها فأقرأهم إياه وفتحوا له الأبواب فدخل واستولى على أمرها‏.‏وكان خالصة السلطان محمد بن أبي هلال قد بعثه السلطان قبيل موته إلى السلطان أبي فارس عبد العزيز المتولي بالمغرب بعد وفاة أبيه السلطان أبي العباس بن أبي سالم في صفر من شهور السنة وحمله من الهدايا والتحف ما يليق بأمثالهما فسار فلما انتهى إلى ميلة بلغه الخبر بوفاة السلطان مرسله وأوعز إليه الأمير أبو بكر من قسطنطينة بالرجوع إليه فرجع بهديته واستقر عنده هنالك‏.‏هذا آخر ما بلغنا من الأخبار الصحيحة عنهم لهذه بني مزني


الخبر عن بني مزني أمراء بسكرة وما إليها من الزاب هذا البلد بسكرة
هو قاعدة وطن الزاب لهذا العهد وحده من لدن قصر الدوسن بالغرب إلى قصور تنومة وبادس في الشرق يفصل بينه وبين البسيط الذي يسمونه الحضنة جبل جاثم من المغرب إلى المشرق ذو ثنايا تفضي إليه من تلك الحضة وهو أبل درن المتصل من أقصى المغرب إلى قبلة برقة‏.‏يعمر ذلك الجبل في محاذاة الزاب من غربيه بقايا عمرت من زناتة ويتصل من شرقيه بجبل أوراس المطل على بسكرة المعترض في ذلك البسيط من القبلة إلى الشمال وهو جبل مشهور الذكر يأتي الخبر عن بعض ساكنيه‏.‏وهذا الزاب وطن كبير يشتمل على قرى‏.‏متعددة متجاورة جمعاً جمعاً يعرف كل واحد منها بالزاب‏.‏وأولها زاب الدوسن ثم زاب طولقة ثم زاب مليلة وزاب سرة وزاب تهودا وزاب بادس‏.‏وبسكرة أم هذه القرى كلها وكانت مشيختها في القديم بعد الأغالبة والشيعة لعهد صنهاجة ملوك القلعة في بني رمان من أهلها بما كثروا ساكنها وملكوا عامة ضياعها‏.‏كان لجعفر بن أبي رمان منهم صيت وشهرة‏.‏وربما نقضوا الطاعة لعهد بلكين بن محمد بن حماد صاحب القلعة في سني خمسين وأربعمائة وضبطوا البلد وامتنعوا‏.‏وتولى كبر ذلك جعفر بن أبي رمانة ونازلتهم جيوش صنهاجة إلى نظر الوزير خلف بن آبي حيدرة من صنائع الدولة فاقتحمها عليهم واحتملهم إلى القلعة فقتلهم بلكين جميعاً وجعلهم عظة لمن بعدهم‏.‏وأصار أمر الشورى لبني سندي من أهلها‏.‏وكان لعروس منهم بعد ذلك خلوص في الطاعة وانحياش إلى الدولة على حين تقلص ظلها وفشل ريحها وألوى الهرم بشبابها‏.‏وهو الذي فتك بالمنتصر بن خزرون الزناتي عند وصوله من المشرق واجتلابه على السلطان بقومه من مغراوه وأعراب الأثبج وبني عدي من بني هلال فمكر به السلطان وأقطعه ضواحي الزاب وريغة طعمة‏.‏ودس إلى عروس في الفتك به ففعل كما قدمنا ذكره في أخبار آل حماد‏.‏وانقرضت رئاسة بني سندي بانقراض أمراء صنهاجة من إفريقية‏.‏وجاءت دولة الموحدين والكثرة والبيت لبني رمان‏.‏وكان بنو مزني لفقاً من لفائق الأعراب وصلوا إلى إفريقية أحلافاً لطوالع بني هلال بن عامر في المائة الخامسة كما قدمنا‏.‏ونسبهم بزعمهم في مازن من فزارة والصحيح أنهم في لطيف من الأثبج‏.‏ثم من بني جرى بن علوان بن محمد بن لقمان بن خليفة بن لطيف واسم أبيهم مزنة بن ديفل بن محيا بن جرى هكذا تلقيته من بعض نسابة الهلاليين وشهد لذلك الوطن فإن أهل الزاب كلهم من أفاريق الأثبج عجزوا عن الظعن ونزلوا قراه على من كان بها قبلهم من زناتة وطوالع الفتح‏.‏وإنما يرعون عن هذا النسب فزارة لما صار إليه أهل الأثبج بالزاب من المغرم والوضائع فيستنكفون لذلك وينتسبون إلى غرائب الأنساب‏.‏وكان أول نزلهم بقرية من قرى بسكرة كانت تعرف بقرية حياس‏.‏ثم عفوا وتأثلوا وأخذوا مع أهل بسكرة بحظ وافر في تملك العقار والمياه‏.‏ثم انتقلوا إلى البلد واستمتعوا منها بالمنزل والظلال وقاسموا أهلها في الحلو والمر وانتظم كبارهم في أرباب الشورى من المشيخة‏.‏ثم استنكف بنو رمان من انتظامهم معهم وحسدوهم ما آتاهم الله من فضله وحذروهم على أنفسهم فاضطرمت بينهم نار العداوة والإحن كان أولها الكلام والترافع إلى سدة السلطان بتونس على حين استقلال أبي حفص بإفريقية ولعهد الأمير أبي زكرياء وابنه السلطان المستنصر‏.‏ثم تناجزوا الحرب وتواقعوا سكك المدينة وكانت صاغية الدولة مع بني رمان لقديمهم في البلد‏.‏ولما خرج الأمير أبو إسحاق على أخيه محمد المستنصر لأول بيعته ولحق بالدواودة من العرب وبايع له موسى بن محمد بن مسعود البلط أمير البدو يومئذ واعتمل به بسكرة وبلاد الزاب وأناخ عليها بكلكله كما قدمناه‏.‏قام يومئذ فضل بن علي بن أحمد بن الحسن بن علي بن مزني بدعوته وأعلن بين أهل البلد بطاعته واتبعوه على كره‏.‏ثم عاجلتهم عساكر السلطان وأجهضتهم عن الزاب فاعتلق فضل بن علي به واستمسك بذيله وصحبه في طريقه إلى الأندلس وبدار غربته منها إلى أن هلك المستنصر أخوه‏.‏وهيأ الله له من أمر الخلافة ما هيأ حسبما ذكرناه‏.‏ولما تم أمره واقتعد بتونس كرسي خلافته عقد لفضل بن علي على الزاب ولأخيه عبد الواحد على بلد الجريد رعياً لذمة خدمتهما وذكراً لائتلافهما في المنزل الخشن وصحبتهما فقدم والياً على الزاب ودخل بسكرة واستكان بنو رمان لصولته وانقادوا في مرضاة الدولة إلى أمره فلم ينبسوا بكلمة في شأنه واضطلع بتلك الولاية ما شاء الله‏.‏ثم كان شأن الدعي ابن أبي عمارة وتلبيسه ومهلك السلطان أبي إسحاق على يده‏.‏ثم ثار منه السلطان أبو حفص بأخيه واسترجع ما ضاع من ملكهم وكل منهم يثق بغنائه ويعول في أمر الزاب على كفايته‏.‏وسيم أعداؤه بنو رمان أيام ولايته فداخلوا أولاد حريز من لطيف أحد بطون الأثابج كانوا نزلوا بقرية ماشاش لصق المدينة حين عجزوا عن الطعن وخالطوا أهل البلد في أحوالهم وامتزجوا معهم بالنسب والصهر فأغروهم بفضل بن علي أن يكون التقدم لهم في الفتك به وتناول الأمر من يده وأن يخربوا بيوتهم من قرية ماشاش بأيديهم ليسكنوا إليهم ويطمئنوا إلى ولايتهم حلفاً عقدوه على المكر بهم‏.‏ولما أوقعوا به بظاهر البلد في بعض أيام ركوبه سنة ثلاث وثمانين ونزلوا من أمر الزاب ما كان يتولاه تنكر لهم بنو رمان لحولين من ذلك الحلف ونابذوهم العهد فخرجوا عن البلد وفقدوا المأوى للتمرس بها من قريب فتفرقوا في بلد ريغة‏.‏واستبد بنو رمان بشورى بسكرة والزاب منتقضين عليهم وعلى السلطان والدواودة قد تغلبوا عليه وعلى بلاد الحضنة من ورائه نقاوس ومقرة والمسيلة‏.‏وكان منصور بن فضل بن علي عند مهلك أبيه بالحضرة في بعض شؤونه فلما هلك أبوه واستبد بنو رفان بعده بثوا السعايات فيه إلى السلطان بالحضرة فأنجحت وتقبض عليه واعتقل أيام السلطان أبي ولما تغلب المولى أبو زكرياء يحيى ابن الأمير أبي إسحاق على بجاية وقسطنطينة وبونة واستقل بأمرها وانقسمت دولة آل أبي حفص بملكه ذلك منها تمسك أهل الزاب بدعوة صاحب الحضرة المولى أبي حفص وفر منصور بن فضل بن علي من محبسه بتونس ولحق ببجاية بعهد مهلك الحاجب القائم بالأمر أبي الحسين بن سيد الناس وتولية السلطان أبي زكرياء مكانه كاتبه أبا القاسم بن أبي يحيى سنة إحدى وتسعين وستمائة فلازم خدمته وخف عليه وصانعه بوجوه التحف وضمن له تحويل الدعوة بالزاب لسلطانه وتسريب أمواله وجبايته إليه واستماله بذلك فعقد له على الزاب وأمده بعسكر فنازل بسكرة‏.‏ووفد أهلها بنو رمان على السلطان ببجاية ببيعتهم فرجعهم على الأعقاب إلى عاملهم منصور وكتب إليه بقبول فيئتهم فدخل البلد سنة ثلاث وتسعين وكادهم في بناء القصر لشيعته وتحصن العسكر بسوره‏.‏ثم نابذهم العهد وثار بهم وأجلاهم عن البلد واستمكن فيه ورسخت قدم إمارته واستدر جباية السلطان واتسع له نطاق العمالة فاستضاف إلى عمل الزاب جبل أوراس وقرى ريغة وبلاد واركلي وقرى الحضنة‏:‏ مقرة ونقاوس والمسيلة‏.‏فعقد له السلطان على جميعها ودفعه إلى مزاحمة العرب في جبايتها وانتهاش لحومها إذ كانوا قد غلبوا على سائر الضواحي فساهمهم في جبايتها حتى كاد يغلبهم عليها‏.‏ووفر أموال الدولة وأنمى الخراج وصانع رجال السلطان فألقوا عليه بالمحبة وجذبوا بضبعه إلى أقصى مراتب الاصطناع فأثرى واحتجن الأموال ووشجت عروق رياسته ببسكرة ورسخت منابت عزه‏.‏وهلك المولى أبو زكرياء الأوسط على رأس المائة السابعة وولوا مكانه ابنه الأمير أبا البقاء خالد كما قدمناه وقام بأمره حاجبه أبو عبد الرحمن بن غمر‏.‏وكان لمنصور بن فضل هذا اختصاص به واعتلاق بيد جاهه فاستنام إليه وعول في سائر الضواحي من ممالك السلطان على نظره وعقد له على بلاد التل من أرض سدويكش وعياض فاستضافها إلى عمله وجرد عن ساعد كفايته في جبايتها فلقح عقيمها وتفجرت ينابيعها‏.‏ثم حدث بينه وبين الدولة منافرة وأجلب على قسطنطينة بيحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحاق جأجأ به تلمسان وبايع له واستأنف الدواودة لمشايعته ونازل به قسطنطينة ثم اطلع على كامن صدره فيه وما طوى عليه من التربص به فحل عقدته ولحق بعسكره ببسكرة وراجع الطاعة‏.‏ولحق به يحيى بن خالد فاعتقله إلى أن هلك سنة عشرين وكانت بينه وبين المرابطين أهل السنة من العرب أتباع سعادة المشهور الذكر فتن وحروب طالبوه بترك المغارم والمكوس تخفيفاً عن الرعية وعملا بالسنة التي كانوا ملتزمين لطريقها ونازلوه من أجل ذلك ببسكرة مراراً‏.‏ثم هلك سعادة في بعض حروبه على مليلى كما مر في ذكره سنة خمسين وسبعمائة‏.‏وجمع منصور بن مزني للمرابطين وبعث عسكره يقوده ابنه علي بن منصور مع علي بن أحمد شيخ الدواودة وعلى المرابطين أبو يحيى بن أحمد أخوه ومعه رجالات المرابطين مثل‏:‏ عيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد عساكر وعطية بن سليمان بن سباع وحسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة فهزموا عسكر ابن مزني وقتلوا ابنه علياً وتقبضوا على علي بن أحمد ثم منوا عليه وأطلقوه‏.‏ورجعوا إلى بسكرة فنازلوها وقطعوا نخيلها‏.‏ثم عاودوه ثانية وثالثة‏.‏ولم يزل الحرب بينه وبين هؤلاء المرابطين سائر أيامه‏.‏وكان الحاجب ابن غمر قد استخلصه لنفسه وأحله محل الثقة بخلته والاستقامة إلى صفائه‏.‏
ولما نهض السلطان أبو البقاء إلى تونس صحبه الحاجب في جملته حتى إذا أعمل المكيدة في الانصراف عن السلطان شاركه في تدبيرها إلى أن تمت كما قدمناه‏.‏ورجع الحاجب إلى قسطنطينة وصرفه إلى مكان عمله من الزاب‏.‏وكان يتردد إليه ببجاية للزيارة والمطالعة في أعماله إلى أن غمر به العرب في بعض طرقه إليها‏.‏وتقبض عليه من أمراء الدواودة علي بن أحمد بن عمر بن محمد بن مسعود وسليمان بن علي بن سباع بن يحيى بن مسعود على حين اجتذبا حبل الإمارة من يد عثمان بن سباع بن شبل بن موسى بن محمد واقتسما رياسة الدواودة قومهما فاستمكنا من هذا العامل منصور بن فضل في مرجعه من عمله ببلاد سدويكش وأوثقوه اعتقالاً وهموا بقتله فافتدى منهم بخمسة قناطير من الذهب وارتاشوا بمكسوبهم وصرفوا في وجوه رياستهم إنفاقها‏.‏وقبض منصور بن فضل عنانه عن السفر بعدها إلا في الأحايين‏.‏وبعد أخذ الرهن من العرب إلى أن كانت حركة مولانا السلطان أبي يحيى إلى تونس سنة سبع عشرة أول حركاته إليها وطالب حاجبه يعقوب بن غمر وهو بثغر بجاية بالأموال للنفقات والاعطيات فبعث إليه بمنصور بن فضل وأشار بعقده له على حجابته ليقوم بأمره ويكفيه مهمات شؤونه‏.‏واعتدها منصور على ابن غمر فساء ظنه وتنكر له ابن غمر وحالت صبغة وده وانكفأ السلطان من حركته تلك مخفق السعي بعد أن نزل ظاهر تونس بعساكره كما قدمناه‏.‏ولما احتل بقسطنطينة بدت له من يعقوب بن غمر صاحب الثغر مخايل الامتناع فأقصر عن اللحاق به وترددت بينهما الرسل وبعث له ابن غمر في منصور بن فضل‏.‏ونذر منه بالشر فأجاب داعيه وصحب قائد السلطان يومئذ محمد بن أبي الحسين بن سيد الناس إليه حتى إذا كان ببعض الطريق عدل إلى بلده وهم به القائد فأجاره أولياؤه من العرب‏:‏ عثمان بن الناصر شيخ أولاد حربي ويعقوب بن إدريس شيخ أولاد خنفر ومن معهم من ذويهم‏.‏ولحق ببسكرة وبلغ الخبرإلى ابن غمر فقرع سن الندم عليه وشايع منصور بن مزني عدوهم صاحب تلمسان أبا تاشفين ودخل في دعوته وأوفد ابنه يوسف عليه بالطاعة والهدية‏.‏وملك السلطان خلال ذلك تونس وسائر بلاد إفريقية‏.‏وهلك ابن غمر سنة تسع عشرة ولم يزل منصور بن مزني ممتنعاً سائر أيامه على الدولة والعساكر من بجاية تتردد لمنازلته إلى أن هلك سنة خمس وعشرين وسبعمائة وقام بأمره من بعده ابنه عبد الواحد فعقد له السلطان على عمل أبيه بالزاب واستضاف إليه ما وراءه من البلاد الصحراوية‏:‏ قرى ريغة وواركلي‏.‏وكان السلطان قد عقد على الثغر بعد مهلك ابن غمر لمحمد بن أبي الحسين بن سيد الناس وجعل له كفالة ابنه يحيى ودفعه إليه فتجددت الوحشة بين عبد الواحد هذا وبين صاحب الثغر في سبيل المنافسة في المرتبة عند السلطان لما كانوا جميعاً صنائع وبطانة للحاجب ابن غمر‏.‏وبعث العساكر لحربه ومنازلة حصنه‏.‏وناول عبد الواحد هذا لآل زيان مخانقي الدولة طرفاً من حبل طاعته تقبل فيها مذهب أبيه آخر عمره‏.‏وطال تمرس الجيوش به إلى أن استجن منه عبد الواحد بصهر عقد له على ابنته واشتراط المهادنة وتسليم الجباية وتودع أمره إلى أن اغتاله أخوه يوسف سنة تسع وعشرين بمداخلة بطانتهم من بني سماط وبني أبي كواية‏.‏ولما أحكم مداخلتهم آذنه عشاء للشورى معه في بعض المهمات وطعنه بخنجره فأشواه وهلك لحينه‏.‏واستقل يوسف بن منصور بإمارة الزاب ووصله مرسوم السلطان بالتقليد والخلع على العادة وأجرى الرسم في الدعاء له على منابر عمله‏.‏وكان السلطان قد استدعى محمد بن سيد الناس من الثغر لحجابته وفوض له أمور مهلكه فلهجت نار العداوة والإحن القديمة ما بينه وبين يوسف بن منصور عامل الزاب وهم به لولا ما أخذ بحجزته من الشغل الشاغل للدولة بتحيف آل زيان وهلك الحاجب سنة اثنتين وثلاثين في نكبة السلطان إياه كما ذكرناه وعقد لمحمد بن الحكيم على القيادة وجعل بيده زمام العساكر وفوض له في سائر القرى والضواحي فأجره وسنه وحكمه في دولته وتغلب على أمره حين فرغ السلطان من الشغل بمدافعة عدوه وحط ما كان من إصرهم على كاهل دولته‏.‏ونهض السلطان أبو الحسن إلى يغفراسن فقدم أظفار أعدائهم وفل شبا عزائمهم كما شرحناه قبل فأذكى القائد محمد بن الحكيم مع يوسف بن منصور نار العداوة‏.‏وأثار له من السلطان كامن الحفيظة وصرف وجوه العزائم إلى حمله على الجادة وتقويمه عن المراوغة في الطاعة وناهضه بالعساكر مرات ثلاثاً يدافعه في كلها بتسليم الجباية إليه‏.‏ثم كانت بينه وبين علي بن أحمد كبير الدواودة فتن وحروب دعا إليها منافسة علي في استئثاره بمال الجباية دونه فواضعه الحرب ودعا العرب إلى منازلته مموهاً بالدعاء إلى السنة وحشد أهل ريغ لذلك ونازله وانحرف عنه ابنه يعقوب ودخل إلى بسكرة فأصهر له ابن مزني في أخته بنت منصور بن فضل‏.‏وعقد له عليها فحسن دفاعه عنه وبعث ابن مزني عن سليمان بن علي كبير أولاد سباع وقريع علي بن أحمد في شوله فكان عنده ببسكرة يغاديه القتال ويراوحه إلى أن امتنع ابن مزني‏.‏ورحل علي ابن أحمد بن بسكرة وصار مع ابن مزني إلى الاتفاق والمهادنة أعوام الأربعين من المائة الثامنة‏.‏ثم كانت غزاة القائد ابن الحكيم إليه نهض من إفريقية بعد أن نازل بلاد الجريد واقتضى طاعتهم ومغارمهم واسترهن ولد ابن يملول ثم ارتحل إلى الزاب في جنوده ومعه العرب من سليم فأجفل بالزاب ونزل بلد أوماش من قراه وفرت العرب من الدواودة وسائر رياح أمامه ودافعه يوسف بن مزني بهديته دفعها إليه وهو بمكانه من أوماش‏.‏وارتحل عنه إلى بلاد ريغ فافتتح تقرت معقلهم واستباحها ودوخ سائر أعماله‏.‏ورجع إلى تونس ونكب السلطان قائده محمد بن الحكيم هذا سنة أربع وأربعين وولى ابنه أبا حفص عمر‏.‏وخشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين بادرة بطانته فلحق بملك المغرب المرهوب الشبا المطل على الممالك يعسوب القبائل والعشائر أبي الحسن وأغراه بملك إفريقية واستجره إليها فنهض في الأمم العريضة سنة ثمان وأربعين كما ذكرنا ذلك كله من قبل‏.‏ووفد عليه يوسف بن منصور أمير الزاب بمعسكره من بني حسن فلقاه براً وترحيباً واستتبعه في جملته إلى قسطنطينة‏.‏ثم عقد له عنى الزاب وما وراءه من قرى ريغة وواركلي وصرفه إلى عمالته‏.‏واستقبل تونس وأمره برفع الجباية إليه مع العمال القادمين من أقصى المغرب على رأس الحول فاستعد لذلك حتى إذا سمع بوصولهم من المغرب لحقهم بقسطنطينة وفجأهم هنالك جميعاً

ميارى 12 - 8 - 2010 07:53 AM

الخبر بنكبة السلطان على القيروان
كما ذكرناه فاعتزم على اللحاق ببلاده‏.‏واعصوصب عليه يعقوب بن علي بن أحمد أمير البدو بالناحية القريبة من إفريقية لأزمة صهر كانت بينهما ومخالصة‏.‏وتحيز إليهم من كان بقسطنطينة من أولياء السلطان وحاشيته وعماله ورسل الطاغية والسودان الوافدين مع ابنه عبد الله من أصاغر بنيه أواهم يوسف بن منصور جميعاً إليه وأنزلهم ببلده وكفاهم مهماتهم شهوراً من الدهر حتى خلص السلطان من القيروان إلى تونس ولحقوا به مع يعقوب بن علي فكانت تلك يداً اتخذها يوسف بن يعقوب عند السلطان أبي الحسن وبنيه باقي الأيام‏.‏ثم أتبع ذلك بمخالفة رؤساء النواحي من إفريقية جميعاً في الانتقاض عليه وأقام متمسكاً بطاعته يسرب الأموال إليه بتونس وبالجزائر عند خلوصه إليها من النكبة البحرية كما سنذكره ويدعو له على منابره بعد تقويضه عن الجزائر إلى المغرب الأقصى لاسترجاع ملكه إلى أن هلك السلطان أبو الحسن بجبل هنتاتة من أقصى المغرب سنة اثنتين وخمسين واستقام أمر الدولة المرينية الحية الذكر لابنه السلطان أبي عنان ولما استضاف إلى ملكه ملك تلمسان ومحا ما جدده بنو عبد الواد من رسوم ملكهم وجمع كلمة زناتة وأطل على البلاد الشرقية سنة ثلاث وخمسين بادر يوسف بن منصور بطاعته فأتاها طواعية وأوفد على السلطان رسله بكتاب بيعته‏.‏ثم أوفد عليه ثانياً مع حاجبه الكاتب أبي عبد الله محمد بن أبي عمر وبعثه بالعساكر لتدويخ إفريقية وتمهيد ملكه ببجاية كما سنذكره‏.‏وأوفد عليه أمراء القبائل والبدو ورؤساء النواحي سنة أربع وخمسين ووفد في جملتهم يوسد بن منصور أمير الزاب ويعقوب بن علي أمير البدو وسائر الدواودة فلقاه السلطان تكرمة ورعياً لأزمة خلوصهم لأبيه وقومه من بين أهل إفريقية وأسنى جوائزهم‏.‏وعقد ليوسف بن مزني على الزاب وما وراءه من بلاد ريغة وواركلي على عادته وانقلب محبواً محبوراً‏.‏وقد ثبت له من ولاية السلطان ومخالطته حظ ورفع له ببساطه مجلس‏.‏ولما نهض السلطان إلى إفريقية لافتتاح قسطنطينة سنة ثمان وخمسين كما سنذكره تلقاه يوسف بن منصور على قسطنطينة فخلطه بأوليائه ونظمه في طبقات وزرائه‏.‏واستوحش يعقوب بن علي يومئذ من مطالبته بالرهن له ولقومه وانتقض وأجفلت أحياؤه إلى بلاد الزاب‏.‏وخرب بلاد يعقوب بن علي بالزاب والتل بقطع شجرائها وبغور مياهها وبهدم بنائها وبنسف آثارها‏.‏ودخل يعقوب بأحيائه الرمل وأعجزوا السلطان فانكفأ راجعاً واحتل بظاهر بسكرة فتلوم بها ثلاثاً لإراحة العساكر وإزاحة عللهم من وعثاء السفر وشعث الصحراء فغرب يوسف بن منصور في قرى عسكره أيام مقامه شملهم فيها من العلوفة والحنطة واللحمان والأدم بما أرغد عيشهم وكفاهم مهمهم‏.‏وتحدث بها الناس دهراً ورفع إليه جباية الزاب لعامه قناطير من الذهب دفعه ببيت المال فقبضه القهارمة من ثقاته وأجزل السلطان مثوبته وأسنى عطيته واختضه بكسوة ثيابه وعياله من كسى حرمه وثياب قصره‏.‏وانكفأ راجعاً إلى حضرته‏.‏ثم أوفد يوسف بن منصور ابنه أحمد على السلطان بسدته من فاس عند منصرف وزيره سليمان بن داود من حركة إفريقية سنة تسع وخمسين وأصحبه هدية من عتاق الخيل وفاره الرقيق‏.‏وأقام أياماً في نزل كريم ومحل من المجلس رفيع إلى أن هلك السلطان خاتمة تسع وخمسين فأرغد القائم بالدولة من بعده جائزته وأسنى صلته وصرفه إلى عمله واستوصى به أمراء النواحي والثغور في طريقه‏.‏ولم ينشب أن شئت نار الفتنة وانتزى الخوارج بالجهات بعد مهلك السلطان فخلص إلى أبيه بعد عناية وعلى يأس من النحاة بعد أن حصل في قبضة أبي حمو سلطان بني عبد الواد عند استيلائه على تلمسان وهو بها مع بني مرين وقد مر بهم مجازاً إلى وطنه فأجاره عليه صغير بن عامر شيخ بني عامر من زغبة رعياً لأزمة أبيه يوسف صاحب الزاب وتأميلاً للعرب فيه وفي أعماله‏.‏وبعد أن بذل له من يده ومن طرف ما وصله بنو مرين من ذخائرهم فبعث معه صغير ركاباً من قومه أبلغوه فكانت إحدى الغرائب في نجاته‏.‏واسترجع الموحدون ثغورهم‏:‏ بجاية وقسطنطينة من يد بني مرين وأزعجوا عنها العساكر المجمرة بها من قبائلهم كما قدمناه فراجع يوسف بن منصور طاعته المعروفة إلى أن هلك سنة سبع وستين ليوم عاشوراء وقام بأمره ابنه أحمد وجرى على سننه وهو لهذا العهد أمير على الزاب بمحل أبيه من إمارته متقبل في مذهبه وطريقه إلا أن خلق أبيه كان سخية وخلق هذا تلهوقا لما فيه من التحذلق وربك يخلق ما يشاء ويختار‏.‏وله ولد كبيرهم أبو يحيى من بنت محمد بن يملول أخت يحيى وهو لهذا العهد مرشح لمكانه‏.‏ولما حلت بهل الجريد الفاقرة ونزل به يحيى بن يملول المشؤوم على وطنه توجس الخيفة من السلطان وتوقع المطالبة بطاعة غير طاعته المعروفة فسرب الأموال العرب ومد يده إلى حبل صاحب تلمسان ليتمسك به فوجده قاصراً عنه‏.‏وأقام يقدم في أمره رجلا ويؤخر أخرى‏.‏ثم قذف الله نور الهداية في قلبه وأراه سنن رشده‏.‏وبادر إلى الاستقامة في الطاعة والعدول عن المراوغة ووصله وافد السلطان أبي العباس الموحدين أبو عبد الله بن أبي هلال وكشف له قناع المخالصة والانحياش وبعث معه وفده بهديته واستقامته وتقبله السلطان وأعاده إلى أحسن الأحوال من الرضا عنه والله متولي الأمور سبحانه‏.‏


الخبر عن رياسة بني يملول بتوزر وبني الخلف بنفطة
وبني أبي منيع بالحامة زعيم هؤلاء الرؤساء ابن يملول صاحب توزر لاتساع بلده وتمدن مصره واحتلاله منها بأم القرى من قطره وهو يحيى بن محمد بن يملول‏.‏ونسبهم بزعمهم في طوالع العرب من تنوخ استقر أولوه بهذا الصقع منذ أول الفتح فعفوا وتأثلوا ووشجت به عروقهم نسباً وصهراً حتى انتظموا في بيوت الشورى المتقدمين للوفادة على الملوك وتلقي العمال القائمين من دار الخلافة والنظر في مصالح الكافة أيام آل حماد بالقلعة وآل عبد المؤمن بمراكش وآل أبي حفص بتونس‏:‏ مثل بني واطاس وبني فرقان وبني ماردة وبني عوض‏.‏وكان التقدم فيهم أيام عبيد الله الشيعي لابن فرقان وهو الذي أخرج أبا يزيد حين شعر أنه يروم القيام على أبي القاسم القائم وأيام آل حماد ليحيى بن واطاس وهو النازع بطاعة أهل قسطنطينة إليهم عن آل بلكين ملوك القيروان حين انقسمت دولة آل زيري وافترق أمرهم‏.‏ثم عادت الرياسة لبني فرقان لأول دولة الموحدين ومنهم كان الذي لقي عبد المؤمن وأتاه الطاعة عن نفسه وعن أهل بلده توزر فتقبله ووصله‏.‏وصار الأمر للموحدين فمحوا منها آثار المشيخة والاستبداد‏.‏ونشأ أحمد هذا الجد مترامياً إلى الرياسة بهذا القطر يدافع عنه بالراح ويزاحم بالمناكب من وجوه البلد وأشراف الوطن‏.‏وسعى به إلى شيخ الموحدين وقائد العسكر أيام السلطان أبي حفص محمد الفازاري فنكبه وصادره على مال امتحنه عليه‏.‏كانت أول نكباته التي أورت من زناده وأذكت من جمره فخلص إلى الحضرة يؤمل اقتعاد مطيته وثبوت مركزه من دار الخلافة فأوطنها أياماً يباكر أبواب الوزراء والخاصة ويلثم أطراف الأولياء والحاشية ويبذل كرائم ماله فيما يزلفه لديهم ويؤثره بعنايتهم حتى استعمل بديوان البحر مقعد العمال بمرفأ السفن لجباية الأعشار من تخار دار الحرب‏.‏ثم استضاف بما كان من غنائه فيها واضطلاعه سائر أعمال الحضرة فتقلدها زعيماً بإمضاء الجرايات وإدرار الجباية واستمرت على ذلك حاله وتضاعفت فائدته فأثرى واحتجن المال واستخلص الذخيرة قاطعاً لألسنة السعاية المصانعة والإتحاف بطرف ما يجلبه الروم من بضائعهم حتى أبطره الغنى ودلت على مكامنه الثروة ورفع أمره إلى الحاجب فخرج التوقيع بالقبض عليه واستصفاء ماله لعهد السلطان أبي يحيى اللحياني فنكب الثانية وصودر على مئتين من آلاف الدنانير وامتحن لها وباع فيها مكسوبه حتى من الكتب‏.‏وخلص من النكبة مثلوب الأمانة ممزق الأديم فقيد الرياش أحوج ما كان إلى ما يعوز عن الكن والدفء وبلالة العيش‏.‏ولحق ببلده ناجياً بالرمق ضارعاً للدهر‏.‏ودفعه الملأ إلى ما يستنكفون عنه من خدمة العمال ومباكرة أبوابهم والامتهان في ضروراتهم وأنجده في ذلك بخت جذب بضبعه‏.‏وكان في خلال ذلك شغل الحضرة شأن الثغور الغربية وأمرائها فتقلص ظل الدولة عن هؤلاء بعض الشيء وهملت الرعايا بالبلاد الجريدية وصار أمرها إلى الشورى التي كانت عليها قبل‏.‏فلما أدرك أحمد هذه الشورى التي كان يسمو لها سمو حباب الماء ثلج صدره وأنجح سعيه واستبد بمشيخة توزر‏.‏وهلك في أعوام ثماني عشرة فخلفه من بعده في سبيله تلك ولده يحيى طموحاً إلى المرتبة منافساً في الاستقلال‏.‏وزاحم بيوتات المصر بمناكب استوصلها سائر عمره من الدعار والأوغاد بمعاقرة الخمر والمجاراة في فنون الشباب ليستبد أمره والاستيلاء على نظرائه حتى تطارحوا في هوة المهلك بين قتيل ومغرب ومخيف العمران لم تعطفه عليهم عواطف الرحم ولا زجره وازع التقوى والسلطان حتى خلا له الجو واستوسق الأمر واستقر من أمر البلد والحل والعقد بأوفى من استبداد أبيه‏.‏وكان مهلكه قريباً من استبداده لخمس سنين فتلقف الكرة من يده أخوه تربه في الرياسة ومجاريه في مضمارها فأجرى إلى الغاية واقتعد كرسي الرياسة وعفا على آثار المشيخة‏.‏واستظهر على أمره بمصانعة أمراء البدو وأولاد أبي الليل والمتات إليهم بصهر كان عقده أبوه أحمد لأبي الليل جدهم على أخته أوعمته‏.‏فكانوا رداء له من الدولة فبعد صيته وعظم استيلاؤه وامتدت أيامه وعنى الملوك بخطابه وإسناد الأمور في تلك البلاد إليه خلال ما تعود الكرة وتهب ريح الدولة‏.‏وزحف إليه القائد محمد بن الحكيم سنة أربعين فلاذ منه بالطاعة والمصانعة بالمال ورهنه ولده يحيى فرجعه إليه ابن الحكيم وتقبل طاعته من غير رهن استقامة لما ابتلاه من خلوصه‏.‏وأقام على ذلك إلى أن هلك أعوام أربعة وأربعين من المائة الثامنة‏.‏وتصدى ولده عبد الله للقيام بالأمر فوثب عليه عمه أبو زيد بن أحمد فقتله على جدث أبيه صبح مواراته بعد أن كان أظهر الرضى به والتسليم له فثارت به العامة لحينه وكان مصرعهما واحداً‏.‏وقام بالأمر أخوه يملول بن أحمد أربعة أشهر كانت شر مدة وأسوأ ولاية لما أصاب الناس بسوء ملكته من سفك الدماء واستباحة الحرم واغتصاب الأموال حتى كان ينسب إلى الجنون مرة وإلى الكفر مرة أخرى فمرج أمرهم واستولى الضجر على نفوسهم‏.‏وكان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فراسله أهل توزر سراً وأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذت عليه المواثيق بالطاعة والوفاء بالجباية فصمد إليها بمن في لفه من الأعراب وحشد نفزاوة المجاورين لها في القرى الظاهرة المقدرة السير وأجلب عليهم ثم بيتها فافتتحها‏.‏وبادر الناس إلى القبض على يملول أخيه وأمكنه منه فاعتقله بداره وتبرأ من دمه وأصبح لثالثة اعتقاله ميتاً بمحبسه‏.‏وكانت قفصة من قبل ذلك لما صار أمر الجريد إلى الشورى قد استبد بها يحيى بن محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد من بيوتها ونسبهم في زعمهم في بلى ولهم خلف بزعمهم في الشريد من بطون سليم‏.‏والله أعلم بأولية نزولهم بقفصة حتى التحموا بأهلها وانتظموا في بيوتاتها‏.‏وكانت البيوت بها بيت بني عبد الصمد وبيت بني أبي زيد وكانت رياسته لبعض بني أبي زيد لعهد الأمير أبي زكرياء الأعلى كان يستعمله على جباية أموال الجريد ثم سعى به أنه أصاب منها فنكبه وصودر على آلاف من المال فأعطاها وأقامت رياستهم متفرقة في هذه البيوتات‏.‏ولما حدثت العصبية بالبلد أيام صار أمر الجريد إلى الشورى كان بنو العابد هؤلاء أقوى عصبية من سائرهم واستبد بها كبيرهم يحيى بن علي‏.‏فلما فرغ السلطان من شغله بزناتة وجثم السلطان أبو الحسن على تلمسان يحاصرها‏.‏وأقبل السلطان على النظر في تمهيد ملكه وإصلاح ثغوره وافتتح أمره بغزو قفصة ونهض إليها سنة خمس وثلاثين في عساكره من الموحدين وطبقات الجند والأولياء من العرب فحاصرها شهراً أو نحوها وقطع نخيلها وضاق عنقهم بالحصار وتلاوموا في الطاعة‏.‏واستبقوا بها إلى السلطان وفر الكثير من بني العابد فلحقوا بقابس في جوار ابن مكي‏.‏ونزل أهل البلد على حكم السلطان فتقبل طاعتهم وأحسن التجاوز عنهم وبسط المعدلة فيهم وأحسب أمل ذوي الحاجات منهم وانكفأ راجعاً إلى حضرته بعد أن آثرهم بسكنى ولده المخصوص بعدئذ بعهده الأمير أبي العباس وأنزله بين ظهرانيهم وعقد له على بلاد الجريد واحتمل مقدم قفصة يحيى بن علي إلى الحضرة فلم يزل بها إلى أن هلك سنة ربع وأربعين وأستبد الأمير أبو العباس بأمر الجريد واستولى على نفطة كما قدمناه‏.‏وقتل بني خلف وهم‏:‏ مدافع وأبو بكر وعبد الله ومحمد وابنه أحمد بن محمد أخوة أربعة وابن أخيهم الخلف بن علي بن الخلف بن مدافع ونسبهم في غسان في طوالع العرب‏.‏وانتقل جدهم من بعض قرى نفزاوة إلى نفطة وتأثل بها وكان لبنيه بها بيت‏.‏واستبد هؤلاء الأخوة الأربعة أزمان الشورى كما قدمناه‏.‏ولما استولى السلطان أبو بكر على الجريد وأنزل ابنه أبا العباس بقفصة وعقد له على سائر أمصاره اقتضى طاعتهم فامتنعوا فسرح إليهم وزيره أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين‏.‏وجهزت له العساكر من الحضرة ونازلها وقطع نخلها فلاذ أهلها بالطاعة وأسلموا بني مدافع المتغلبين فضرب أعناقهم وصلبهم في جذوع النخل آية للمعتبرين‏.‏وأفلت السيف منهم علياً صغيرهم لذمة اعتدها له أبو القاسم بن عتو لنزوعه قبل الحادثة فكانت واقيته من الهلكة‏.‏واستولى الأمير أبو العباس على نفطة واستضافها إلى عمله‏.‏ثم مرض أبو بكر بن يملول في طاعته فنهض إليه السلطان أبو بكر من تونس سنة خمس وأربعين وكان الفتح كما قدمناه‏.‏ولحق أبو بكر بن يملول ببسكرة فلم يزل بها إلى أن أجلب على توزر فنبذ إليه يوسف بن مزني عهده وانتقل إلى حصون وادي ابن يملول المجاورة لتوزر وهلك سنة ست وأربعين‏.‏ثم كان مهلك السلطان وابنه الأمير أبي العباس صاحب الأعمال الجريدية إثر ذلك سنة سبع وأربعين ورجع إلى كل مصر من الجريد مقدموه فرجع أحمد بن العابد إلى قفصة من مكانه في جوار ابن مكي واستولى على بلده في مكان ابن عمه يحيى بن علي ورجع علي بن الخلف إلى نفطة واستبد بها ورجع يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول إلى توزر من مثوى اغترابه ببسكرة وارتحل إليها مع عمه أبي بكر طفلا فلما خلا الجديد من الإمارة درج يحيى هذا من عشه في جوار يوسف بن منصور بن مزني وأطلقه مع أولاد مهلهل من الكعوب بعد أن وصلهم وشارطهم واسترهن فيه أبناءهم فأوصلوه إلى محل رياسته بتوزر ونصبه شيعته وأولياء أبيه وقاموا بأمره‏.‏ورجع أمر الجريد كله إلى رياسة مقدمه كما كان‏.‏ثم وفدوا على السلطان أبي الحسن عند زحفه إلى إفريقية ولقوه بوهران فلقاهم مبرة وتكرمة ورجع كلاً إلى بلده ومحل رياسته بعد أن أسنى الجائزة ووفر الإسهام والأقطاع وأنفذ الصكوك والكتب‏:‏ فرجع إلى توزر يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول صبياً مغتلماً وإلى نفطة علي بن الخلف بن مدافع وإلى قفصة أحمد بن عمر بن العابد‏.‏وأنزل بكل واحد من هذه الأمصار عاملا وحامية‏.‏وعقد على الجريد كله لمسعود بن إبراهيم بن عيسى اليرنياني من طبقة وزرائه واستوصى لهؤلاء الرؤساء خيراً في جواره‏.‏حتى إذا كانت نكبة السلطان بالقيروان سنة تسع وأربعين وارتحل عامل الجريد مسعود بن إبراهيم يريد المغرب بمن معه من العمال والحامية ونمي خبره إلى الأعراب من كرفة فصبحوه في بعض مراحل سفره دون أرض الزاب فاستلحموه ومن كان معه من الحامية واستولوا على أبنيتهم وذخيرتهم وكراعهم واستبد رؤساء تلك البلاد بأمصارهم وعادوا إلى ديدنهم من التمريض وآذنوا بالدعاء لصاحب الحضرة منابرهم واستمروا على ذلك‏.‏فأما يحيى بن محمد بن يملول فنزع إلى مناغاة الملوك في الشارة والحجاب واتخاذ الآلة والبيت المقصور للصلاة واقتعاد الأريكة وخطاب التمويل‏.‏وفسح للمجون والعكوف على اللذات مجالا يرى أن جماع السياسة والملك في إدارة الكأس وافتراش الآس والحجبة عن الناس والتأله على الندمان والجلاس‏.‏وفتح مع ذلك على رعيته وأهل إيالته باب العسف والجور‏.‏وربما بيت مشاهيرهم غيلة فأتلف نفوسهم وامتد أمده في ذلك إلى أن استولى السلطان أبو العباس على إفريقية وكان من أمره ما نذكره‏.‏وأما جاره الجنب علي بن الخلف فلم يلبث لما استبد برياسته أن حج سنة أربع وستين والتزم مذاهب الخير وطرق الرضى والعدالة وهلك سنة خمس بعدها وولي مكانه ابنه محمد جارياً على سننه‏.‏ثم هلك لسنة من ولايته وقام بأمره أخوه عبد الله بن علي فأذكى سياسته وأيقظ حزمه وأرهف للناس حلى فنقموا عليه سيرته وسيموا عسفه واستمكن مناهضهم في الشرف ومحاذيهم في رياسة البلد القاضي محمد بن خلف الله من صاحب الحضرة بذمة كانت له في خدمة قديمة استعمله لرعيها في خطة القضاء بحضرته وآثره بالمكان منه والصحبة فسعى بعبد الله هذا عند الخليفة ودله على مكامن هلكته وبصره بعورات بلده‏.‏واقتاد عساكر السلطان إليه في زمامه‏.‏ولما احتل بظاهر البلد وعبد الله رئيسها أشد ما كان قوة وأكثر جمعاً وأمضى عزماً استألف أخوه الخلف بن علي بن الخلف جماعة المشيخة دونه وحرضهم عليه وداخل القاضي في تبييت البلد وأنه بالمرصاد في اقتحامها حتى إذا كانت الهيعة دس إلى بعض الأوغاد في قتل أخيه عبد الله ومكر بالقاضي والعسكر وامتنع عليهم واعتصم دونهم واستقل برياسة بلده وأقام على ذلك يناغي ابن يملول في سيره ويطارحه الكثير من مذاهبه ويجري في الشأو الذي بلغ إلى غايته وأوفى على ثنيته‏.‏وأما أحمد بن عمر بن العابد فلم يزل من لدن استبداده في قفصة سالكاً مسالك الخمول منحطاً عن رتب التكبير منتحلا مذاهب أهل الخير والعدالة في شارته وزيه ومركبه جانحاً إلى التقلل‏.‏فلما أوفى على شرف من العمر استبد عليه ابنه محمد وترفع عن حال أبيه بعض الشيء إلى مناغاة هؤلاء المترفين فبينما هؤلاء المتقدمون في هذه الحال من الاستبداد على السلطان والتخفق بأخلاق الملوك والتثاقل على الرعايا بالتعسف والجور واستحداث المكوس والضرائب إذا أطل على مفاحصهم السلطان أبو العباس الحضرة مستبداً بدعوته صارفاً إلى فتحها عزائمه فوجموا وتوجسوا الخيفة منه‏.‏وائتمروا في المظاهرة واتصال اليد بعد أن كانوا يستحثونه إلى الحضرة ويبعثون إليه بالانحياش على البعد زبوناً على صاحب الحضرة وتراوغاً عن مصدوقة الطاعة‏.‏فلما استبد السلطان أبو العباس بالدعوة استرابوا في أمرهم وسربوا أموالهم في الأعراب المخالفين على السلطان من الكعوب يؤملون مدافعتهم عنهم فشمر لها أولاد أبي الليل بما كان وقع بينهم وبين السلطان من النفرة‏.‏ونهض إليهم السلطان فغلبهم على ضواحي إفريقية وعلى الظواعن التي كانت جبايتها لهم من مرنجيزة كما قلناه واكتسحهم فأوهن بذلك من قوتهم‏.‏ثم زحف الثانية إلى أمصار الجريد فلاذوا بالامتناع فأناخ السلطان بعساكره وأوليائه من العرب أولاد مهلهل على قفصة فقاتلوها يوماً أو بعض يوم وغدا في ثانيه على خيلهم يقطعها فكأنما يقطع بذلك أمعاءهم فتبرأوا من مقدمهم وشعر بذلك فبادر إلى السلطان ونزل على حكمه فتقبض عليه وعلى ابنه شهر ذي القعدة من سنة ثمانين وتملك البلد واستولى على ديار ابن العابد بما فيها‏.‏وكان شيئاً لا يعبر عنه لطول أيامه في الولاية وكثرة احتجانه للأموال‏.‏وعقد السلطان على قفصة لابنه أبي بكر وارتحل يريد توزر وطار الخبر لابن يملول في توزر فقوض عنها بأهله ونزل على أحياء مرداس وسرب فيهم المال فرحلوا معه إلى الزاب ولحق ببسكرة مأوى نكباته ومنتهى مفره فنزل بها على أحمد بن يوسف بن مزني وأقام هنالك على قلعة من توقع مطالبة السلطان له ولجاره ابن مزني وخسارة أموالهم في زبون العرب وسوء المغبة إلى أن هلك لسنة أو نحوها‏.‏وائتمر أهل توزر بعد تقويضه عنهم وبعثوا إلى السلطان ببيعتهم فلقيته أثناء طريقه وتقدم إلى البلد فنزل بقصور ابن يملول واستولى على ذخيرته وتبرأ إليه أهل البلد من ودائع كانت له عندهم من خالص الذخيرة فرفعوها إلى السلطان‏.‏وعقد لابنه المنتصر على توزر واستقدم الخلف بن الخلف من نفطة وكان يخالف أصحابه إلى الطاعة متى نقضوها زبوناً على يملول وسالفة من العداوة كان يتقبلها‏.‏فلما أحيط بهم أدركه الدهش بطاعته فأتاها وقدم عليه فتقبل السلطان ظاهره وأغضى له عن غيرها طمعاً في استصلاحه وعقد له على حجابة ابنه المنتصر وأنزله معه بتوزر وأمره بالاستخلاف على بلده نفطة وعقد له على ولايتها وانكفأ راجعاً إلى الحضرة وقدم ابن الخلف على أمره ورأى أنه قد تورط في الهلكة فراسل ابن يملول بمكانه من توزر وعثر أولياء السلطان على كتابه إلى يعقوب بن علي شيخ رياح ومدره حروبهم على صريخ ابن يملول ومعونته فعلموا نكثه ومداجاته وبادروا إلى التقبض عليه وولوا على نفطة من قبلهم وخاطبوا السلطان بالشأن وأقام في اعتقاله إلى أن كانت حادثة قافصة وكان من خبر قفصة أن ابن أبي زيد من مشيختها كان نزع إلى السلطان قبل فتحها هو وأخوه لمنافسة بينهما وبين ابن العابد وهما‏:‏ محمد وأحمد ابنا عبد العزيز بن عبد الله بن أحمد بن علي بن عمر بن أبي زيد‏.‏وقد ذكرنا أوليتهم واستعمال سلفهم أيام الأمير أبي زكرياء الأعلى في جباية الجريد‏.‏فلما استولى على البلد رعى لهما تشيعهما وبدارهما إلى طاعته مع قديمهما فأنزلهما مع ابنهما بقفصة وكبيرهما رديف لحاجبه عبد الله من الموالي الأتراك ومدبر لأمور البلد في طاعة السلطان‏.‏ثم نزغ الشيطان في صدره وحدثته نفسه بالاستبداد وأقام يتحين له الفرص‏.‏وذهب الأمير أبو بكر إلى زيارة أخيه بتوزر فكاده في التخلف عنه وجمع أوشاباً من الغوغاء والزعانف وتقدم بهم إلى القصبة للفتك بعبد الله التريكي ونذر بذلك فأغلق أبواب القصبة وبعث الصريخ في أهل القرى وقاتلهم ساعة من نهار حتى وافى إليه المدد‏.‏فلما استغلظ بمدده أدركهم الدهش وانفض الأشرار من حولهم ولجأوا إلى الاختفاء في بيوت البلد وتقبض على الكثير ممن داخلهم في الثورة ووصل الخبر إلى الأمير أبي بكر بتوزر فبادر إلى مكانه وقد سكنت الهيعة فاستلحم جميع من تقبض عليه حاجبه وناس في الناس بالبراءة من أبي زيد فتبرأوا منه‏.‏وعثر الحرس عليه وعلى أخيه خارجين من أبواب البلد في زي النساء فقادهما إليه فقتلهما بعد أن مثل بهما‏.‏وبادر المولى المنتصر بتوزر لقتل الخلف بن الخلف أن يخوض في مثلها فذهب في غير مرحمة لم يعطف عليه رحم ولا تكنه سماء ولا أرض‏.‏واستبد السلطان بالجريد ومحا منه آثار المشيخة وعفا عليها وانتظمه في عمالات السلطان‏.‏وأما بلد الحامة وهي من عمالات قسطيلية وتعرف بحامة قابس وحامة مطماطة نسبة إلى أهلها الموطنين كانوا بها من البربر وهم فيما يقال الذين اختطوها وأما الآن ففيها ثلاث قبائل من توجن وبني ورياجن وهم في العصبية فرقتان‏:‏ أولاد يوسف ورياستهم في أولاد أبي منيع وأولاد جحاف ورياسهم في أولاد وشاح ولا أدري كيف نسب لفرقتين‏.‏فأما بنو أبي منيع فالحديث عن رياستهم في قومهم أن جدهم رجا بن يوسف كان له ثلاثة من الولد وهم‏:‏ بوساك ويحمد وملالت وأن رئاسته بعده كانت لابنه بوساك ثم ابنه أبي منيع من بعده ثم لابنه حسن بن أبي منيع ثم لابنه محمد بن حسن ثم لأخيه موسى بن حسن ثم لأخيهما ابن علان إلى أن كان ما نذكر‏.‏وأما أولاد جحاف فكانت أول رياستهم لمحمد بن أحمد بن وشاح وقبله خاله القاضي عمر بن كلى‏.‏وكان العمال من الحضرة يتعاقبون فيهم إلى أن أسقط السلطان عنهم الخراج والمغارم بأمرها‏.‏وكان مقدمهم لأول دولة السلطان أبي بكر من أولاد أبي منيع وهو موسى بن حسن‏.‏وكان المديوني قائد السلطان والياً عليهم وارتاب بهم بعض الأيام وأحبوا الثورة به فدس بها إلى السلطان في بعض حركاته وغزاهم بنفسه ففروا وأدرك سبعة من أولاد يوسف هؤلاء وتقبض عليهم فقتلوا‏.‏ثم رجع الأمر وولي موسى بن حسن‏.‏ولما هلك ولي بعده أخوه أبو علان وطال أمد ولايته عليهم وكان منسوباً إلى الخير والعفاف‏.‏وهلك سنة اثنتين وأربعين وولي بعده ابنه عمر ثم ابنه الآخر أبو زيان‏.‏ثم ولي بعدهما ابن عمهما مولاهم ابن محمد‏.‏ووفد على السلطان أبي الحسن مع وفد أهل الجريد كما مر‏.‏ثم هلك فولي بعده من بني عمهم حسان بن هجرس وثار به محمد بن أحمد بن وشاح من أولاد جحاف المذكوا فعزله وأقام في ولايتها إلى سنة ثمان وسبعين فثار به أهل الحامة وقتلوا عمر بن كلى القاضي وولوا عليهم حسان بن هجرس واليهم‏.‏ثم ثار به يوسف واعتقله وهو يوسف بن عبد الملك بن حجاج بن يوسف بن وشاح وهو الآن مقدمها يعطي طاعة معروفة ويستدعي العامل في الجباية ويراوغ عن المصدوقة والغلب والاستيلاء وقد أحاط به من كل جهة‏.‏وأملى علي بعض نسابتهم أن مشيخة أهل الحامة في بني بوساك ثم في بني تامل بن بوساك‏.‏وأن تامل أول من رأس عليهم وأن وشاحاً من ولد تامل وأن بني وشاح على فرقتين‏:‏ بنو حسن وبنو يوسف فحسان بن هجرس ومولاهم وعمر وأبو علان كلهم من بني حسن ومحمد بن أحمد بن وشاح من بني يوسف وهذا مخالف للأول والله أعلم بالصحيح في أمرهم‏.‏فأما نفزا وأعمال قسطيلية وتنسب لهذا العهد إلى توزر وهي القرى العديدة المقدرة السير يعترض بينها وبين توزر إلى القبلة عنها السبخة المشهورة المانعة من الاعتساف إلا معالم قائمة من الخشب يهتدي بها السالك وربما يضل خائضها فتبتلعه‏.‏ويسكن هذه القرى قوم من بقايا نفزاوة من البرابرة البتر أبقوا هنالك بعد انقراض جمهورهم وتحيف العرب لسائر بطون البربر ومعهم معاهدون من الفرنجة ينسبون إلى سردانية نزلوا على الذمة والجزية وبها الآن أعقابهم ثم نزل عليهم من عرب الشريد وزغب من بني سليم كل من عجز عن الظعن وملكوا بها العقار والمياه وكثروا نفزاوة وهم لهذا العهد عامة أهلها وليس في نفزاوه هذه رياسة لصغرها ورجوعها في الغالب إلى أعمال توزر ورياستها‏.‏هذا حال للمتقدمين ببلاد الجريد في الدولة الحفصية أوردنا أخبارهم فيها لأنهم من صنائعها وفي عداد ولايتها ومواليها والله متولي الأمور‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:53 AM

الخبر عن بني مكي رؤساء قابس وأعمالها
كانت قابس هذه من ثغور إفريقية ومنتظمة في عمالاتها وكان ولاتها من القيروان أيام الأغالبة والعبيديين وصنهاجة من لدن الفتح ولما دخل الهلاليون إفريقية واضطربت أمورها واقتسمت دولة صنهاجة طوائف انتزى بقابس من صنهاجة المعز بن محمد الصنهاجي وأدال منه مونس بن يحيى الصنبري من مرداس رياح بأخيه إبراهيم إلى أن هلك وولي أخوه قاضي بن إبراهيم ثم نازله أهل قابس وقتلوه أيام تميم بن باديس وبايعوا لعمر بن المعز بن باديس كان مخالفاً على أخيه وذلك سنة تسع وثمانين وأربعمائة‏.‏ثم غلبه عليها أخوه تميم وكان مغلباً للعرب‏.‏وكانت قابس وضواحيها في قسم زغبة من عرب هلال‏.‏ثم غلبتهم رياح عليها ونزل مكن بن كامل بن جامع من بني دهمان أخوة فادغ وهما معاً من بني علي إحدى بطون رياح فاستحدث بها مكن ملكاً لقومه بني جامع وأورثه بنيه إلى أن استولى الموحدون على إفريقية وبعث عبد المؤمن عساكره إلى قابس ففر عنها مدافع بن رشيد آخرهم وانتظمها كما ذكرناه في أخبارهم وملكها وانقرض ملك بني جامع وصارت قابس وعملها للموحدين وكانت ولاة إفريقية من السادة يولون عليها من الموحدين إلى أن تغلب بنو غانية وقراقش على طرابلس وقابس وأعمالها وكان ما ذكرناه في أخبارهم‏.‏ثم غلب الموحدون يحيى بن غانية عليها وأنزلوا بها عمالهم‏.‏ولما عاد بنو أبي حفص إلى إفريقية العودة الثانية بعد مهلك الشيخ أبي محمد عبد الواحد وعقد العادل على إفريقية لابنه أبي محمد عبد الله معه على قابس للأمير أبي زكريا أخيه فنزلها أميراً ثم كان من شأن استبداده وخلعه لأخيه ولطاعة بني عبد المؤمن ما ذكرناه‏.‏وكان مشيخة قابس لذلك العهد في بيوت من بيوتاتها وهم بنو مسلم ولم يحضرني فيمن هو نسبهم‏.‏وبنو مكي ونسبهم في لواتة وهو مكي بن فراج بن زيادة الله بن أبي الحسن بن محمد بن زيادة الله بن أبي الحسين اللواتي‏.‏وكان بنو مكي هؤلاء خالصة للأمير أبي زكرياء‏.‏ولما اعتزم على الاستبداد داخل أبا القاسم عثمان بن أبي القاسم بن مكي وتولى له أخذ البيعة على الناس فكان له ولقومه بذلك مكان من الموالي أبي زكرياء رعى لهم ذمتها ورفع من شأنهم بسببها ورموا ببني سليم نظرائهم في رياسة البلد بصاغيتهم إلى ابن غانية فأخمدوا ذبالهم واستقلوا بشورى بلدهم‏.‏وأقاموا على ذلك أيام المولى أبي زكرياء الأول وابنه المستنصر‏.‏ثم كان ما قدمناه من مهلك الواثق ابن المستنصر وبنيه على يد عمهم السلطان أبي إسحاق وما كان من أمر الداعي بن أبي عمارة وكيف شبه على الناس بالفضل ابن المخلوع بحيلة مولاهم نصير رام أن يثار بها من قاتلهم فتمت مكيدته في ذلك لما أراده الله‏.‏ولما أظهر نصير أمره وتسايلت العرب إلى بيعته خاطب لأول أمره رئيس قابس لذلك العهد من بني مكي عبد الملك بن عثمان بن مكي فسارع إلى طاعته وحمل الناس عليها وكانت له بذلك قدم في الدولة معروف رسوخه‏.‏ولما ألقى الداعي ابن أبي عمارة جسداً على كرسي الخلافة سنة إحدى وثمانين قلده خطة الجباية بالحضرة مستقلاً فيها بالولاية والعزل والفرض والتقدير والحسبان وبعد أن أجزل من بيت المال عطاءه وأسنى رزقه وجرايته وأهدى الجواري من القصر إليه‏.‏ولما هلك الداعي واستقلت قدم الخلافة من عثارها كما قدمناه سنة ثلاث وثمانين لحق عبد الحق بن مكي ببلده وامتنع بها على حين ركود ريح الدولة وفشلها ومرض في طاعته ودافع أهل الدولة بالدعاء للخليفة على منابره‏.‏ثم جاهر بالخلعان سنة ثلاث وتسعين وبعث بطاعته إلى صاحب الثغور المولى أبي زكرياء الأوسط‏.‏وهلك ابنه أحمد ولي عهده سنة سبع وتسعين‏.‏ثم هلك هو من بعده على رأس المائة السابعة وتخلف حافده مكياً فنصبوه للملك يفعة وكفله ابن عمه يوسف بن حسن‏.‏وقام بالأمر مستبداً عليه إلى أن هلك وخلفه في كفالة أحمد بن ليران من بيوت أهل قابس وأصهار بني مكي‏.‏والتاث أمرهم بمهلك يوسف فنقلهم السلطان ابن اللحياني إلى الحضرة ثم هلك خلال ذلك مكي وتخلف صبيين يافعين عبد الملك وأحمد فكفلهما أحمد بن ليران إلى أن شبا واكتهلا ولهما من الامتناع على الدولة والاستبداد بأمر القطر والاقتصار على الدعاء للخليفة مثل ما كان لأبيهما وأكثر لتقلص ظل الملك عن قطرهم‏.‏وشغل السلطان بمدافعة آل يغمراسن وعساكرهم عن الثغور الغربية وأجلابهم بالأعياص من أهل البيت على الحضرة‏.‏ولما هلك السلطان أبو يحيى اللحياني قفل ابنه عبد الواحد إلى المغرب يحاول أسباب الملك ونزل بساحتهم على ما كان من صنع أبيه إليهم فذكروا العهد وأوجبوا الحق وأتوه بيعتهم‏.‏وقام كبيرهم عبد الملك بأمره ودعا الناس إلى طاعته وخالف السلطان أبا يحيى عند نهوضه إلى الثغر ببجاية سنة ثلاث وثلاثين كما قدمناه فدخل الحضرة ولبث بها أياماً لم تبلغ نصف شهر‏.‏وبلغ خبرهم إلى السلطان فانكفأ راجعاً وفروا إلى مكانهم من قابس والدولة تنظر لهم الشزر وتتربص بهم الدوائر إلى أن غلب السلطان أبو الحسن على تلمسان ومحا دولة آل يغمراسن وفرغت الدولة من شأنهم إلى تمهيد أعمالها وتقويم المنحرفين عن الطاعة من ولاتها‏.‏وقفل حمزة بن عمر بشفاعة من السلطان أبي الحسن إلى السلطان أبي يحيى في شأنه فتقبل وسيلته واستخلصه لنفسه من بعدها واستقام هو على الطاعة التي لم تجد وليجة عنها وسلك سبيله تلك أقتاله من الدولة الطائحين في هوة الشقاق فأوفد عبد الملك هذا شقيقه أحمد على السلطان أبي الحسن متنصلا من ذنوبه لائذاً بشفاعته متوسلا بما قدمناه من خدمته حظاياه في طريقهن إلى الحج ذاهباً وجائياً فخاطب السلطان أبا يحيى في شأنه وأعاده إلى مكانه من اصطناع سلفه واستقام على طاعته‏.‏ولما انتظم السلطان أبو يحيى سائر البلاد الجريدية في ملكه وعقد عليها لابنه أبي العباس ولي عهده وأنزله دار إمارتها متردداً ما بين توزر وقفصة إلى أن قفلت عمته من الحج سنة ست وأربعين وخرج للقائها مختفياً بين الظعائن فجمعه مجلسها بأحمد بن مكي كان قد اعتمد تلقيها والقيام بصحابتها في مراحل سفرها من بلده إلى آخر عمله فمسح الأمير أبو العباس الإحن عن صدره وأدال له الأمين والرضى من توحشه واستخلصه لدولته ونجوى أسراره واصطفاه لنفسه وحمله رديفاً لحاجبه فحل من دولته بمكان غبطة فيه امتيازه من أمراء تلك الطوائف‏.‏وعقد له السلطان أبو يحيى على جزيرة جربة بوسيلة أبي العباس ابنه وقد كان افتتحها مخلوف بن الكماد من صنائعهم من يد العدو أهل صقلية كما ذكرناه فضمها إليه وصيرها في أعماله‏.‏ولم يزل هذا شأنه معه إلى أن هلك أبو العباس ولي العهد بتونس على يد أخيه أبي حفص عمر عندما دخلها بعد مهلك أبيهما كما ذكرناه ولحق أحمد بن مكي ببلده‏.‏ثم سار في وفد رؤساء الجريد إلى تلقي السلطان أبي الحسن عند نهوضه إلى إفريقية سنة ثمان وأربعين ولقيه معهم بوهران من أعمال تلمسان وكان قدمه عنده فوق قدمهم‏.‏ورجع الوفد على أعقابهم محبورين‏.‏وتمسك بأحمد بن مكي في جملته إلى الحضرة ووفد عليه أخوه عبد الملك مؤديًا طاعة السلطان فكرم موصله وأحسن متقلبهما جميعاً إلى بلدهما على ما كان بيدهما من عمل قابس وجربة‏.‏ثم كانت نكبة السلطان أبي الحسن على القيروان فوفد عليه أحمد بتونس بعد خلوصه من القيروان مجدداً لعهد طاعته فأرادهم السلطان على الامتنان لعبد الواحد اللحياني سلطانهم الأقدم وعقد له على تلك الثغور الشرقية وأنزله جربة وأمرهما بالطاعة له ما دام في طاعته‏.‏وعقد لأبي القاسم بن عتو شيخ الموحدين على توزر وقسطيلية بعد أن كان قطعه عندما تقبض عليه في واقعة السلطان أبي حفص عمر‏.‏ثم استقبل رأيه في استخلاصه عندما انتقض عليه أبو محمد بن تافراكين‏.‏ولما رجع من القيروان إلى تونس عقد له توزر كما ذكرناه ولعبد الواحد بن اللحياني على قابس وجربة فأسف بذلك بني مكي هؤلاء‏.‏وهلك ابن اللحياني لحين نزوله بجربة بما أصابه من علة الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين فانتقض بنو مكي على السلطان أبي الحسن ودعوا إلى الخروج عليه وبايعوا الأفضل ابن السلطان أبي يحيى عندما أفرج عن حصار تونس سنة خمسين وداخلوا أبا القاسم بن عتو وهو إذ ذاك لم يتوزر فأجابهم وكانت من دواعي رحلة السلطان أبي الحسن من إفريقية وتقويضه عنها كما قدمناه‏.‏ولما رجع الحاجب أبو محمد بن تافراكين من المشرق واستقل بأمر تونس ونصب الإمام أبا إسحاق ابن السلطان أبي يحيى للخلافة بها في كفالته غصوا بمكانه من التغلب وأنفوا من استبداده وانحرفوا إلى دعوة الأمير أبي زيد صاحب ثغر قسطنطينة‏.‏ووفد عليه أحمد بن مكي مع محمد بن طالب بن مهلهل كبير البدو بإفريقية فيمن إليه فاستنهضوه وقلده الأمير أبو زيد حجابته وجعل أمره إليه‏.‏وأبرز الحاجب أبو محمد بن تافراكين سلطانه أبا إسحاق في عساكره مع خالد بن حمزة وقومه فالتقى الجمعان بمرمجنة وكانت الدبرة على السلطان أبي إسحاق سنة ثلاث وخمسين وجاءوا على أثرهم فنازلوا تونس أياماً وما أفرجوا عنها إلا للصائح يخبرهم باحتلال عساكر بني مرين بالمرية من آخر أعمال تلمسان وأن السلطان أبا عنان قد استحلم بني عبد الواد وجمع كلمة زناتة واستقام له أمر المغربين‏.‏وأطل على الثغور الشرقية فافترق جمعهم‏.‏ولحق الأمير أبو زيد بقسطنطينة وأحمد بن مكي بقابس‏.‏وسأل من الأمير أبي زيد أن يقسم رسم الإمارة بينهم في قابس وجربة بأخيه السلطان أبي العباس فأذن له في ذلك فكانت أول ولايته السعيدة ومضى إلى قابس فنزلها ثم أجاز البحر إلى جربة ودفع عنها العسكر الذي كان محاصراً للقشتيل من قبل ابن ثابت صاحب طرابلس ورجع إلى قابس حتى كان من أمره ما ذكرناه‏.‏وأوفد السلطان أبو العباس أخاه أبا يحيى زكرياء على أبي عنان ملك المغرب صريخاً على شأنه وأوفد ابن مكي رسله متذمماً ومذكراً بوسائله فتقبل وأغضى‏.‏ثم كانت واقعة العدو دمره الله بطرابلس سنة أربع وخمسين كما قدمناه فبعث إلى السلطان أبي عنان يسأله فديتها والنظر لها من بين ثغور المسلمين فحمل إليه خمسة أحمال من الذهب العين من بيت المال أوفد بها من أعيان مجلسه‏:‏ الخطيب أبا عبد الله بن مزروق وأبا عبد الله محمد حافد المولى أبي علي عمر بن سيد الناس‏.‏وعقد لأحمد بن مكي على طرابلس فاستقل بها وعقد لأخيه عبد الملك على قابس وجربة وأقاموا على دعوته‏.‏ومد أحمد يده إلى صفاقس فنازلها وتغلب عليها سنة سبع وخمسين‏.‏وهلك السلطان أبو عنان وقد شرق صدر ابن تافراكين الغالب على الحضرة بعدا وتهمتاً فردد عليهما البعوث براً وبحراً إلى أن استخلص جزيرة جربة من أيديهما أعوام أربعة وستين وعقد عليهما لولده محمد فاستخلف بها كاتبه محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون من صنائع الدولة كما ذكرناه‏.‏وهلك أحمد بن مكي سنة ست وستين على تفيئة مهلك الحاجب ابن تافراكين بالحضرة فكأنما ضربا موعداً للهلكة وتوافياه‏.‏وتخلف ابنه عبد الرحمن بطرابلس في كفالة مولاه ظافر العلج وهلك ظافر إثر مهلكه فاستبد عبد الرحمن بطرابلس وساءت سيرته فيها إلى أن نازله أبو بكر بن محمد بن ثابت في أسطوله كما نذكره سنة اثنتين وسبعين‏.‏وأجلب عليه بالبرابرة والعرب من أهل الوطن فانتقض عليه أهل البلد وثاروا به‏.‏وبادر أبو بكر بن ثابت لاقتحامها عليه وأسلموه ففر إلى بيت أحد أمراء دباب فأجاره إلى أن أبلغه مأمنه من محلة قومه وإيالة عمه عبد الملك بقابس إلى أن هلك سنة تسع وسبعين‏.‏ولم يزل عبد الملك لهذا العهد وهو سنة إحدى وثمانين والياً على عمله بقابس وابنه يحيى مستبد بوزارته وحافده عبد الوهاب لابنه مكي رديف له وقد تراجعت أحوالهم عما كانت وخرجت من أيديهم الأعمال التي كانت في إيالتهم لعهد أخيه أحمد مثل‏:‏ طرابلس وجزيرة جربة وصفاقس وما إلى ذلك من العمالات حتى كان البخت إنما كان لأخيه واليمن إنما اقترن بحياته وسيرتهما جميعاً من العدالة وتحري مذاهب الخير والسمت والإتسام بسمات أهل الدين وحلية الفقه معروفة حتى كان كل واحد منهم إنما يدعى بالفقيه علماً بين أهل عصره حرصاً على الإنغماس في مذاهب الخير وطرقه‏.‏وكان لأحمد حظ من الأدب وكان يقرض الأبيات من الشعر فيجيد عفا الله عنه‏.‏وله في الترسيل حظ ووساع بلاغة وخط وينحو في كتابته منحى أهل المشرق في أوضاع حروفهم وأشكال رسومها ولأخيه عبد الملك حظ من ذلك شارك به جهابذة أهل عصره وأفقه‏.‏ولما انتظم السلطان أبو العباس أمصار أفريقية في ملكه واستبد بالدعوة الحفصية على قومه داخل أهل الجريد منه الروع وفزعوا إليه للمقاوضة في الإمتناع فداخلهم في ذلك‏.‏وأشاروا إلى صاحب تلمسان بالترغيب في إفريقية فعجز عنهم وألحوا عليه فخام عن العداوة‏.‏وزحف مولانا السلطان خلال ذلك إلى الجريد فملك قفصة وتوزر ونفطة فبادر ابن مكي إلى التلبيس بالإستقامة وبعث إليه بالطاعة‏.‏ثم رجع السلطان إلى الحضرة فرجع هو عن المصدوقة واتهم أهل البلد بالميل إلى السلطان فتقبض على بعضهم وفر آخرون‏.‏وانتقض بنو أحمد أهل ضواحيه من دباب فنازلوه وبعثوا إلى الأمير أبي بكر بقفصة في العسكر لمنازلته فبعثه إليهم وأحاطوا به‏.‏ثم انتهز الفرصة وداخل بعض العرب من بني علي في تبييت المعسكر وبذل لهم في ذلك المال فبيتوه وانفض وبلغ الخبرإلى السلطان فخرج من حضرته سنة إحدى وثمانين ونزل القيروان وتوافت إليه أحاديات وبعث رسله للأعذار بين يديه فردهم ابن مكي بالطاعة‏.‏ثم احتمل رواحله ونزل بأحياء العرب وأغذ السلطان السير إلى البلد فدخلها واستولى على قصورها ولاذ أهل البلد بالبيعة فأتوها واستعمل عليهم من بطانته وانكفأ راجعاً إلى تونس‏.‏وهلك عبد الملك لأيام قلائل بين أحياء العرب‏.‏وهلك بعده عبد الرحمن ابن أخيه أحمد الذي كان صاحب طرابلس بعد أبيه‏.‏ولحق ابنه يحيى وحافده عبد الوهاب بطرابلس فمنعهم ابن ثابت من النزول ببلده لما كان متمسكاً بطاعة السلطان فنزلوا بزنزور من بلاد دباب التي بضاحيتها وأقاموا هنالك‏.‏واستقامت النواحي الشرقية على طاعة السلطان وانتظمت في دعوته والله مالك الملك‏.‏ثم ذهب يحيى بن عبد الملك إلى المشرق لقضاء فرضه وأقام عبد الوهاب أحياء البربر بالجبال هنالك وكان الوالي الذي تركه السلطان بقابس قد ساء أثره أهلها فدس شيعتهم إلى عبد الوهاب بذلك وجاء إلى البلد فبيتها وثاروا بالوالي فقتلوه سنة ثلاث وثمانين وملك عبد الوهاب قابس وجاء أخوه يحيى من المشرق بعد فرضه فأجلب عليه مراراً يروم ملكها منه ولم يتهيأ له ونزل على صاحب الحمة فداخله عبد الوهاب في أن يمكنه منه ويشترط ما شاء‏.‏وتم ذلك بينهما وأوثقه كتافاً وبعث به فاعتقله بقصر العروسيين فمكث في السجن أعواماً‏.‏ثم فر من محبسه ولحق بالحامة على مرحلة من قابس مستنجداً بابن وشاح صاحبها فأنجده وما زال يجلب على نواحي قابس إلى أن ملكها وتقبض على عبد الوهاب ابن أخيه مكي فقتله أعوام تسعين وسبعمائة‏.‏ولم يزل مستبداً ببلده إلى سنة ست وتسعين‏.‏وكان الأمير عمر ابن السلطان أبي العباس قد بعثه أبوه لحصار طرابلس فحاصرها حولاً كما نذكره حتى استقام أهلها على الطاعة وأعطوا الضريبة فأفرج عنها‏.‏ورجع إلى أبيه فولاه على صفاقس وأعمالها فاستقل بها ثم داخل أهل الحامة في ملك قابس فأجابوه وساروا معه فبيتها ودخلها وقبض على يحيى بن عبد الملك فضرب عنقه وانقرض أمر بني مكي من قابس ولله الأمر من قبل ومن بعد وهو خير الوارثين‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:54 AM

الخبر عن بني ثابت رؤساء مدينة طرابلس وأعمالها
قد تقم لنا شأن هذا البلد لأول الفتح الإسلامي وأن عمرو بن العاص هو الذي تولى فتحه وبقي بعد ذلك من جملة أعمال إفريقية تنسحب عليه ولاية صاحبها فلم يزل ثغراً لهذه الأعمال من لدن أمارة عقبة ومن بعده وفي دول الأغالبة‏.‏وكان المعز لدين الله من خلفاء الشيعة لما ارتحل إلى القاهرة وعقد على إفريقية لبلكين بن زيري بن مناد أمير صنهاجة عقد على طرابلس لعبد الله بن يخلف من رجالات كتامة‏.‏ثم لما ولي الخلافة سنة سبع وستين طلب منه بلكين أن يضيف عمل طرابلس إلى عمله فأجاب وعهد له بها وولى عليها بلكين من رجالات صنهاجة‏.‏ثم عقد عليها الحاكم بعد مهلك المنصور بن بلكين ليانس الصقلبي سنة تسعين وثلاثمائة بمداخلة عاملها يمصول من صنهاجة وأعانه على ذلك برجوان الصقلبي المتغلب على الدولة يومئذ لمنافسته ليأنس فوصل إليها في ألف وخمسمائة فارس فملكها فسرح باديس جعفر بن حبيب لحربه في عسكر من صنهاجة وتزاحفا يومين بساحة زنزور ثم انفض عسكر يانس في الثالث وقتل ولحق فله بطرابلس فاعتصموا بها‏.‏ونازلهم جعفر بن حبيب القائد وزحف فلفول بن ثم قصد جعفر بن حبيب بمكانه من حصار طرابلس فأفرج عنها جعفر ولحق بنفوسة وأميرهم يحيى بن محمد فامتنع عليهم ثم لحق بالقيروان ومضى فلفول بن سعيد إلى طرابلس فخرج إليه فتوح بن علي ومن معه من أصحاب يأنس فملكوه وقام فيها بدعوة الحاكم من خلفاء الشيعة وأوطنها‏.‏وعقد الحاكم عليها ليحيى بن علي بن حمدون أخي جعفر صاحب المسيلة النازع إليه من الأندلس فوصل إليها واستظهر بفلفول على بجاية ونازل قابس فامتنعت عليه‏.‏ثم عجز عن الولاية ورأى استبداد فلفول عليه بعصبته فرجع إلى مصر واستبد فلفول بطرابلس وتداولها بنوه مع ملوك صنهاجة إلى أن استبدوا بها آخراً‏.‏ودخل العرب الهلاليون إلى إفريقية فخربوا أوطانها وطمسوا معالمها‏.‏ولم تزل بأيدي بني خزرون هؤلاء إلى أن غلبهم عليها جرجي بن ميخائيل صاحب أسطول رجار ملك صقلية من الأفرنج سنة أربعين وخمسمائة وأبقى المسلمين بها واستعمل عليهم كما فعل في سواحل إفريقية فأقاموا في ملكة النصارى أياماً‏.‏ثم ثار بهم المسلمون بمداخلة أبي يحيى بن مطروح من أعيانهم وفتكوا بهم‏.‏ولما افتتح عبد المؤمن المهدية سنة خمس وخمسين وفد عليه ابن مطروح ووجوه أهل طرابلس فأوسعهم تكرمة وردهم إلى بلدهم وولى عليهم ابن مطروح إلى أن كبر سنه وعجز‏.‏وارتحل إلى المشرق سنة ست وثمانين بإذن السيد أبي زيد بن عمر بن عبد المؤمن عامل إفريقية من قبل عمه يوسف واستقر وتعاقبت عليها ولاة الموحدين ثم كان من أمر ابن غانية وقراقش ما قدمناه وصارت طرابلس لقراقش‏.‏ثم استبد بنو أبي حفص بإفريقية على بني عبد المؤمن‏.‏وهلك قراقش وابن غانية وانتظم عمل طرابلس في أعمال الأمير أبي زكرياء وبنيه إلى أن انقسمت دولتهم واقتطعت الثغور الغربية عن الحضرة‏.‏وفشل ريح الدولة بعض الشيء وتقلص ظلها عن القاصية فصارت رياسة طرابلس إلى الشورى ولم يزل العامل من الموحدين يجيء إليها من الحضرة إلا أن رئيسها من أهلها مستبد عليها وحدثت العصبية في البلد لحدوث الشورى والمنافسة فيها‏.‏ثم نزلها السلطان أبو يحيى بن اللحياني سنة سبع عشرة وسبعمائة حين تجافى عن ملك الحضرة وأحس بزحف السلطان أبي يحيى صاحب بجاية إليها فأبعد عن تونس إلى ثغر طرابلس وأقام بها وأقام أحمد بن عربي من مشيختها بخدمته‏.‏ولما فارق ابن اللحياني تونس ويئس الموحدون من عوده أخرجوا ابنه محمد المكنى بأبي ضربة من الاعتقال وبايعوا له‏.‏وخرج للقاء السلطان أبي بكر ومدافعته فهزمه السلطان أبو بكر وحمله الأعراب الذين معه على قصد طرابلس لانتزاع الأموال والذخائر الملوكية من يد أبيه‏.‏ولما أحس بذلك أبوه ركب البحر من طرابلس إلى الإسكندرية كما هو مذكور في خبره واستخلف على طرابلس صهره محمد بن أبي عمر بن إبراهيم بن أبي حفص فقام بأمرها وولى حجابته رجلاً من أهله يشهر بالبطيسي فساء أثره في أهل طرابلس وحجب عنهم وجه الرضى من سلطانه وحمله على مصادرتهم واستخلاص أموالهم حتى أجمعوا الثورة بالسلطان فركب السفين ناجياً منهم بعد أن تعرض بعضهم لوداعه فأطلعه على سعايات البطيسي بهم فقتلوه لوقته وقتلوا قاضياً بطرابلس من أهل تونس كان يمالئ على ذلك‏.‏وتولى كبر ذلك أحمد بن عربي‏.‏ثم هلك وقام بأمر طرابلس محمد بن كعبور فقتله سعيد بن طاهر المزوغي وملك أمر البلد وكان معه أبو البركات بن أبي الدنيا فمات حتف أنفه‏.‏واستقل ابن طاهر بأمر طرابلس اثنتي عشرة سنة‏.‏ثم هلك وقام بأمرها ثابت بن عمار الزكوجي من قبائل هوارة‏.‏وثار به لستة أشهر من ولايته أحمد بن سعيد بن طاهر فقتله واستبد به‏.‏ثم ثار به جماعة زكوجة وقتلوه في مغتسله عند الأذان بالصبح وولوا محمداً ابن شيخهم ثابت بن عمار أعوام سبعة وعشرين فاستبد بأمر طرابلس نحواً من عشرين سنة وظل الدولة متقلص عنه‏.‏وهو يغالط عن الإمارة بالتجارة والإحتراف بها ولبوس شارتها والسعي راجلاً في سكك المدينة يتناول حاجاته وماعونه بيده ويخالط السوقة في معاملاته يذهب في ذلك مذهب التخلق والتواضع يسر منه حسواً في ارتغاء ويطلب العامل من تونس فيبعثه السلطان على طرابلس يقيم عنده معتملاً في تصريفه‏.‏وهو يبرأ إليه ظاهراً من الأحكام والنقض والإبرام إلى أن كان تغلب بني مرين على إفريقية‏.‏ووصل السلطان أبو الحسن إلى الحضرة على ما نذكره فداوله طرف الحبل وهو ممسك بطرفه ونقل إلى الإسكندرية ماله وذخيرته‏.‏ثم اغتاله أثناء ذلك جماعة من مجريش عند داره فقتلوه وثار منهم للحين بطانته وشيعه‏.‏وولي بعده ابنه ثابت فتزيا بزي الإمارة في اللبوس والركوب بحلية الذهب واتخاذ الحجاب والبطانة‏.‏وأقام على ذلك إلى أن اجتمع بها أسطول من تجار النصارى أغفلوا أمرهم لكثرة طروقهم وترددهم في سبيل التجارة وكثرة ما يغشاها من سفنهم فغدروا بها ليلاً وثاروا فيها وكثروا أهلها فأسلم الحامية إليهم باليد‏.‏وفر مقدمهم ثابت إلى حلة أولاد مرغم أمراء الجواري في أنحائها فقتلوه صبراً لدم كان أصابه منهم في رياسته فكانت مدته ست سنين وقتلوا معه أخاه عماراً‏.‏واكتسح النصارى جميع ما كان بالبلد من الذخيرة والمتاع والخرثى والماعون وشحنوا السفن بها وبالأسرى من العقائل والحامية مصفدين وأقاموا بالبلد أياماً على قلق ورهب من الكرة لو كان لها رجال‏.‏ثم تحدثوا مع من جاورها من المسلمين في فدائها فتصدى لذلك صاحب قابس أبو العباس أحمد بن مكي وبذل لهم فيها خمسين ألفاً من الذهب استوهب أكثرها من جماعة المسلمين بالبلاد الجريدية تزلفاً إلى الله باستخلاص الثغر من يد الكفر وذلك سنة‏.‏وخمسين ولحق ولد ابن ثابت بثغر الإسكندرية فأقاموا به يحترفون بالتجارة إلى أن هلك أحمد بن مكي سنة ست وستين وقام بأمره ولده عبد الرحمن فسما أبو بكر بن محمد بن ثابت إلى رياسة أبيه وذكر عهود الصبا في معاهد قومه فاكترى من النصارى سفناً شحنها بصنائعه وموالي أبيه ونازلها سنة إحدى وسبعين في أسطول من أساطيلهم‏.‏واجتمع إليه ذؤبان العرب ففرق فيهم الأموال وأجلب عليها بمن في قراها وأريافها من الرجل فاقتحمها على عبد الرحمن بن أحمد بن مكي عنوة وأجاره العرب من أولاد مرغم بن صابر تولى ذلك منهم إلى أن أبلغوه مأمنه في إيالة عمه عبد الملك بمكان إمارتهم بقابس‏.‏واستوسق أمر طرابلس لأبي بكر هذا واستقل بولايتها‏.‏ودخل في طاعة السلطان أبي العباس بتونس وخطب له على منابره وقام يصانعه بما للسلطان من الضريبة ويتحفه حيناً بعد حين بالهدايا والطرف إلى أن هلك سنة اثنتين وتسعين وولي مكانه علي ابن أخيه عمار وقام بكفالته عمه‏.‏وكان قائده قاسم بن خلف الله متهماً بالتشيع للصبي المخلف عن أبي يحيى فارتاب ودفعوه لاقتضاء المغارم من مسرتة فتوحش الخليفة من علي وانتقض‏.‏ثم بعث إليه بأمانه فرجع إلى طرابلس ثم استوحش وطلب الحج فخلوا سبيله وركب البحر إلى الإسكندرية‏.‏ولقي بها خالصة السلطان محمد بن أبي هلال عام حج فأخذ منه ذمة وكر راجعاً في السفين إلى تونس يستحث السلطان لملك طرابلس‏.‏فلما مر بهم راسلوه ولاطفوه واستعادوه إلى مكانه فعاد إليهم‏.‏ثم جاءته النفر بالهلكة ففر ولحق السلطان بتونس واستحثه لملك طرابلس‏.‏وبلغ الخبرإلى السلطان فبعث معه ابنه الأمير أبا حفص عمر لحصار طرابلس فنزل بساحتها وافترق عرب دياب عليه وعلى ابن ثابت وقام ابن خلف الله في خدمته المقام المحمود ووفر له جباية الوطن ومغارمه ونقل العرب إلى طاعته ويستألفهم به وأقام عليها حولاً كريتا يمنع عنهم الأقوات ويبترزون إليه فيقاتلهم بعض الأحيان‏.‏ثم دفعوه بالضريبة التي عليهم لعدة أعوام نائطة وكان قد ضجر من طول المقامة فرضي بطاعتهم وانكفأ راجعاً إلى أبيه سنة خمس وتسعين فولاه على صفاقس وافتتح منها قابس كما قدمناه‏.‏وأقام علي بن عمار على إمارته بطرابلس إلى هذا العهد والله مدبر الأمور بحكمته‏.‏هذا آخر الكلام في الدولة الحفصية من الموحدين وما تبعها من أخبار المقيمين المستبدين بأمصار الجريد والزاب والثغور الشرقية فلنرجع إلى أخبار زناتة ودولهم وبكمالها يكمل الكتاب إن شاء الله تعالى‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:55 AM

الخبر عن زناتة من قبائل البربر
يوم كان بين أجيالهم من العز والظهور وما تعاقب فيهم من الدول القديمة والحديثة هذا الجيل في المغرب جيل قديم العهد معروف العين والأثر وهم لهذا العهد آخذون من شعائر العرب في سكنى الخيام واتخاذ الإبل وركوب الخيل والتغلب في الأرض وإيلاف الرحلتين وتخطف الناس من العمران والإباية عن الانقياد للنصفة‏.‏وشعارهم بين البربر اللغة التي يتراطنون بها وهي مشتهرة بنوعها عن سائر رطانة البربر‏.‏ومواطنهم في سائر مواطن البربر بإفريقية والمغرب‏.‏فمنهم ببلاد النخيل ما بين غدامس والسوس الأقصى حتى أن عامة تلك القرى الجريدية بالصحراء منهم كما نذكره‏.‏ومنهم قوم بالتلول بجبار طرابلس وضواحي إفريقية وبجبل أوراس بقايا منهم سكنوا مع العرب الهلاليين لهذا العهد وأذعنوا لحكمهم والأكثر منهم بالمغرب الأوسط حتى أنه ينسب إليهم ويعرف بهم فيقال وطن زناتة‏.‏ومنهم بالمغرب الأقصى أمم أخرى وهم لهذا العهد أهل دول وملك بالمغربين‏.‏وكان لهم فيه دول أخرى في القديم‏.‏ولم يزل الملك يتداول في شعوبهم حسبما نذكره بعد لكل شعب منهم إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن نسبة زناتة وذكر الخلاف الواقع فيه وتعديد شعوبهم
أما نسبهم بين البربر فلا خلاف بين نسابتهم أنهم من ولد شانا وإليه نسبهم وأما شانا فقال أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة قال بعضهم‏:‏ هو جانا بن يحيى بن صولات بن ورماك بن ضري بن رحيك بن مادغيس بن بربر‏.‏وقال أيضاً في كتاب الجمهرة‏:‏ ذكر لي يوسف الوراق عن أيوب بن أبي يزيد يعني حين وفد على قرطبة عن أبيه الثائر بإفريقية أيام الناصر قال‏:‏ هو جانا بن يحيى بن صولات ورساك بن ضري بن مقبو بو قروال بن يملا بن مادغيس بن زجيك بن همرحق بن كراد بن مازيغ بن لريك بن برا بن بربر بن كنعان بن حام‏.‏هذا ما ذكره ابن حزم‏.‏ويظهر منه أن مادغيس ليس نسبة إلى البربر وقد قدمنا ما في ذلك من الخلاف وهذا أصح ما ينقل في هذا الآن بن حزم موثوق ولا يعدل به غيره‏.‏ونقل عن ابن أبي زيد وهو كبير زناتة ويكون البربر على هذا من نسل برنس فقط والبتر الذين هم بنو مادغيس الأبتر ليسوا من البربر‏.‏ومنهم زناتة وغيرهم كما قدمنا لكنهم إخوة البربر لرجوعهم كلهم إلى كنعان بن حام كما يظهر من هذا النسب‏.‏ونقل عن أبي محمد بن قتيبة في نسب زناتة هؤلاء أنهم من ولد جالوت في رواية أن زناتة هو شانا بن يحيى بن ضريس بن جالوت وجالوت هو ونور بن هرييل بن جديلان بن جاد بن رديلان بن حصى بن باد بن زجيك بن مادغيس الأبتر بن قيس بن عيلان‏.‏وفي رواية أخرى عنه أن جالوت هو ابن جالود بن ديال بن قحطان بن فارس وفارس مشهور‏.‏وفي رواية أخرى عنه أنه ابن هوبال بن بالود بن ديال بن برنس بن سفك وسفك أبو البربر كلهم ونسابة الجيل نفسه من زناتة يزعمون أنهم من حمير ثم من التبابعة منهم‏.‏وبعضهم يقول إنهم من العمالقة ويزعمون أن جالوت جدهم من العمالقة والحق فيهم ما ذكره أبو محمد بن حزم أولا وما بعد ذلك فليس شيء منه بصحيح‏.‏فأما الرواية الأولى عن أبي محمد بن قتيبة فمختلطة وفيها أنساب متداخلة‏.‏وأما نسب مادغيس إلى قيس عيلان فقد تقدم في أول كتاب البربر عند ذكر أنسابهم وأن أبناء قيس معروفون عند النسابة‏.‏وأما نسب جالوت إلى قيس فأمر بعيد عن القياس ويشهد لذلك أن معد بن عدنان الخامس من آباء قيس إنما كان معاصراً لبختنصر كما ذكرناه أول الكتاب‏.‏وأنه لما سلط على العرب أوحى الله إلى أرمياء نبي بني إسرائيل أن يخلص معداً ويسير به إلى أرضه وبختنصر كان بعد داود بما يناهز أربعمائة وخمسين من السنين فإنه خرب بيت المقدس بعد بناء داود وسليمان له بمثل هذه المدة‏.‏فمعد متأخر عن داود بمثلها سواء فقيس الخامس من أبنائه متأخر عن داود بأكثر من ذلك فجالوت على ما ذكر أنه من أبناء قيس متأخر عن داود بأضعاف ذلك الزمن‏.‏وكيف يكون ذلك مع أن داود هو الذي قتل جالوت بنص القرآن‏.‏وأما إدخاله نسب جالوت في نسب البربر وأنه من ولد مادغيس أو سفك فخطأ وكذلك من نسبه إلى العمالقة‏.‏والحق أن جالوت من بني فلسطين بن كسلوحيم بن مصرايم بن حام أحد شعوب حام بن نوح وهم إخوة القبط والبربر والحبشة والنوبة كما ذكرناه في نسب أبناء حام‏.‏وكان بين بني فلسطين هؤلاء وبين بني إسرائيل حروب كثيرة وكان بالشام كثير من البربر إخوانهم ومن سائر أولاد كنعان يضاهونهم فيها ودثرت أمة فلسطين وكنعان وشعوبها لهذا العهد ولم يبق إلا البربر واختص اسم فلسطين بالوطن الذي كان لهم فاعتقد سامع اسم البربر مع ذكر جالوت أنه منهم وليس كذلك‏.‏وأما ما رأى نسابة زناتة أنهم من حمير فقد أنكره الحافظان أبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم وقالا‏:‏ ما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في أكاذيب مؤرخي اليمن وإنما حمل نسابة زناتة على الانتساب في حمير الترفع عن النسب البربري لما يرونهم في هذا العهد خولاً وعبيداً للجباية وعوامل الخراج‏.‏وهذا وهم فقد كان في شعوب البربر من هم مكافئون لزناتة في العصبية أو أشد منهم مثل هوارة ومكناسة وكان فيهم من غلب العرب على ملكهم مثل كتامة وصنهاجة ومن تلقف الملك من يد صنهاجة مثل المصامدة كل هؤلاء كانوا أشد قوة وأكثر جمعاً من زناتة‏.‏فلما فنيت أجيالهم أصبحوا مغلبين فنالهم ضر المغرم وصار اسم البربر مختصاً لهذا العهد بأهل المغرم فأنف زناتة منه فراراً من الهضيمة‏.‏وأعجبوا بالدخول في النسب العربي لصراحته وما فيه من المزية بتعدد الأنبياء ولا سيما نسب مضر وأنهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم بن نوح بن شيث بن آدم خمسة من الأنبياء ليس للبربر إذا نسبوا إلى حام مثلها مع خروجهم عن نسب إبراهيم الذي هو الأب الثالث للخليقة إذ الأكثر من أجيال العالم لهذا العهد من نسله‏.‏ولم يخرج عنه لهذا العهد إلا الأقل مع ما في العروبية أيضاً من عز التوحش والسلامة من مذمومات الخلق بانفرداهم في البيداء‏.‏فأعجب زناتة نسبهم وزينه فهم نسابتهم والحق بمعزل عنه كونهم من البربر بعموم النسب لا ينافي شعارهم من الغلب والعزة فقد كان الكثير من شعوب البربر مثل ذلك وأعظم منه‏.‏وأيضاً فقد تميزت الخليقة وتباينوا بغير واحد الأوصاف والكل بنو آدم ونوح من بعده‏.‏وكذلك تميزت العرب وتباينت شعوبها والكل لسام ولإسمعيل بعده‏.‏وأما تعدد الأنبياء في النسب فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ولا يضر الاشتراك مع جيل في النسب العام إذا وقعت المباينة لهم في الأحوال التي ترفع عنهم مع أن المذلة بربر إنما هي حادثة بالقلة ودثور أجيالهم بالملك الذي حصل لهم ونفقوا في سبله وترفه كما تقدم لك في الكتاب الأول من تأليفنا‏.‏وإلا فقد كان لهم من الكثرة والعز والملك والدولة ما هو معروف‏.‏وأما أن جيل زناتة من العمالقة الذين كانوا بالشام فقول مرجوح وبعيد من الصواب لأن العمالقة الذين كانوا بالشام صنفان‏:‏ عمالقة من ولد عيصو بن إسحق ولم تكن لهم كثرة ولا ملك ولا نقل أن أحداً منهم انتقل إلى المغرب بل كانوا لقلتهم ودثور أجيالهم أخفى من الخفاء‏.‏والعمالقة الأخرى كانوا من أهل الملك والدولة بالشام قبل بني إسرائيل وكان أريحاء دار ملكهم‏.‏وغلب عليهم بنو إسرائيل وابتزوهم ملكهم بألشام الحجاز وأصبحوا حصائد سيوفهم فكيف يكون هذا الجيل من أولئك العمالقة الذين دثرت أجيالهم‏.‏وهذا لو نقل لوقع به الاسترابة فكيف وهو لم ينقل هذا بعيد في العادة‏.‏والله أعلم بخلقه‏.‏وأما شعوب زناتة وبطونهم فكثير ولنذكر المشاهير منها فنقول‏:‏ اتفق نساب زناتة على أن بطونهم كلها ترجع إلى ثلاثة من ولد جانا وهم‏:‏ ودليك وفرني والديرت هكذا في كتب أنساب زناتة‏.‏وذكر أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة له من ولد ورسيك عند نسابتهم مسارت ورغاي وواشروجن ومن واشروجن واريفن بن واشروجن‏.‏وقال أبو محمد بن حزم في ولد ورسيك أنهم مسارت وتاجرت وراسين‏.‏وأما فرني بن جانا فمن ولده عند نسابة زناتة يزمرتن ومرنجيصة ووركلة ونمالة وسبرترة ولم يذكر أبو محمد بن حزم سبرترة وذكر الأربعة الباقية‏.‏وأما الديرت بن جانا فمن ولده عند نسابة زناتة جراو بن الديرت ولم يذكره ابن حزم‏.‏وإنما قال عند ذكر الديرت‏:‏ ومن شعوبه بنو ورسيك بن الديرت وهم بطنان عمر بن ورسيك وزاي بن ورسيك‏.‏قال‏:‏ ودمر لقب واسمه الغانا‏.‏قال‏:‏ فمن ولد زاكيا بنو مغراو وبنو يفرن وبنو واسين‏.‏قال‏:‏ وأمهم واسين مملوكة لأم مغراو وهم ثلاثتهم بنو يصلتن بن مسرا بن زاكيا‏.‏ويزيد نسابة زناتة في هؤلاء يرنيان بن يصلتن أخا لمغراو ويفرن وواسين ولم يذكره ابن حزم‏.‏قال‏:‏ وعن ولد دمر ورنيد بن وانتن بن وارديرن بن دمر وذكر لبني عمر أفخاذاً سبعة وهم‏:‏ غرزول ولقورة وورتاتين وهؤلاء الثلاثة مختصون بنسب عمر وبرزال ويصدرين وصغمان ويطوفت هكذا ذكر أبو محمد بن حزم وزعم أنه من إملاء أبي بكر بن يكنى البرزالي الأباضي وقال فيه‏:‏ كان ناسكاً عالماً بأنسابهم‏.‏وذكر أن بني بواسين وبني برزال كانوا أباضية وأن بني يفرن ومغراوة كانوا سنية‏.‏وعند نسابة البربر مثل سابق بن سليمان المطماطي وهانىء بن صدور الكومي وكهلان بن أبي لوا وهو مسطر في كتبهم أن بني ورسيك بن الديرت بن جانا ثلاثة بطون وهم‏:‏ بنو زاكيا وبنو دمر وآنشة بنو آنش وكلهم بنو وارديرن وورسيك‏.‏فمن زاكيا بن وارديرن أربعة بطون‏:‏ مغراوة وبنو يفرن وبنو يرنيان وبنو واسين كلهم بني يصلتن بن مسرا بن زاكيا‏.‏ومن آنش بن وارديرن أربعة بطون‏:‏ بنو برنال وبنو صقمان وبنو يصدورين وبنو يطوفت كلهم بنو آنش بن وارديرن‏.‏ومن دمر بن وارديرن ثلاثة بطون‏:‏ بنو تقورت وبنو غرزول وبنو ورتاتين كلهم بنو وريند بن دمر هذا الذي ذكره نسابة البربر وهو خلاف ما ذكره ابن حزم‏.‏ويذكر نسابة زناتة آخرين من شعوبهم ولا ينسبونهم مثل يجفش وهم أهل جبل قازاز قريب مكناسة وسنجاسن وورسيفان وتحليلة وتيسات وواغمرت وتيغرض ووجديجن وبني يلومي وبني ومانوا وبني توجين‏.‏على أن بني توجين ينتسبون في بني واسين نسباً ظاهراً صحيحاً بلا شك على ما يذكر في أخبارهم‏.‏وبعضهم يقول في وجديجن وواغمرت بنو ورتنيض أنهم من البرانس من بطون البربر على ما قدمناه‏.‏وذكر ابن عبد الحكم في كتابه فتح مصر خالد بن حميد الزناتي وقال فيه‏:‏ هو من هتورة إحدى بطون زنانة ولم نره لغيره‏.‏هذا ملخص الكلام في شعوب زناتة وأنسابهم بما لا يوجد في كتاب‏.‏والله الهادي إلى مسالك التحقيق لا رب غيره‏.‏فصل تسمية زناتة ومبنى هذه الكلمة اعلم أن كثيراً من الناس يبحثون عن مبنى هذه الكلمة واشتقاقها على ما ليس معروفاً للعرب ولا لأهل الجيل أنفسهم فيقال‏:‏ هو اسم وضعته العرب على هذا الجيل‏:‏ بل الجيل وضعوه لأنفسهم أو اصطلحوا عليه‏.‏ويقال‏:‏ هو زانا بن جانا فيزيدون في النسب شيئاً لم تذكره النسابة‏.‏وقد يقال إنه مشتق ولا يعلم في لسان العرب أصل مستعمل من الأسماء يشتمل على حروفه المادية‏.‏وربما يحاول بعض الجهلة اشتقاقه من لفظ الزنا ويعضده بحكاية خسيسة يدفعها الحق وهذه الأقوال كلها ذهاب إلى أن العرب وضعت لكل شيء اسماً وأن استعمالها إنما هو لأوضاعها التي من لغتها ارتجالا واشتقاقاً‏.‏وهذا إنما هو في الأكثر وإلا فالعرب قد استعملت كثيراً من غير لغتها في مسماه إما لكونه علماً فلا يغير مثل‏:‏ إبراهيم ويوسف من اللغة العبرانية وإما استعانة وتخفيفاً لتداوله بين الألسنة كاللجام والديباج والزنجبيل والنيروز والياسمين والآجر فتصير باستعمال العرب كأنها من أوضاعهم‏.‏ويسمونها المعربة وقد يغيرونها بعض التغيير في الحركات أو في الحروف وهو شائع لهم لأنه بمنزلة وضع جديد‏.‏وقد يكون الحرف من الكلمة ليس من حروف لغتهم فيبدلونه بما يقرب منه في المخرج فإن مخارج الحروف كثيرة منضبطة وإنما نطقت العرب منها بالثمانية والعشرين حروف أبجد‏.‏وبين كل مخرجين منها حروف أكثر من واحد‏.‏فمنها ما نطقت به الأمم ومنها ما لم تنطق به ومنها ما نطق به بعض العرب كما هو مذكور في كتب أهل اللسان‏.‏وإذا تقرر ذلك فاعلم أن أصل هذه اللفظة التي هي زناتة من صيغة جانا التي هي اسم أبي الجيل كله وهو جانا بن يحيى المذكور في نسبهم‏.‏وهم إذا أرادوا الجنس في التعميم ألحقوا بالاسم المفرد تاء فقالوا جانات‏.‏وإذا أرادوا التعميم زادوا مع التاء نوناً فصار جاناتن‏.‏ونطقهم بهذه الجيم ليس من مخرج الجيم عند العرب بل ينطقون بها بين الجيم والشين وأميل إلى السين‏.‏وبقرب للسمع منها بعض الصفير فأبدلوها زايا محضة لاتصال مخرج الزاي بالسين فصارت زانات لفظاً مفرداً دالاً على الجنس‏.‏ثم ألحقوا به هاء النسبة وحذفوا الألف التي بعد الزاي تخفيفاً لكثرة دورانه على الألسنة‏.‏والله أعلم‏.‏

فصل في أولية هذا الجيل وطبقاته
أما أولية هذا الجيل بإفريقية والمغرب فهي مساوقة لأولية البربر منذ أحقاب متطاولة لا يعلم مبدأها إلا الله تعالى ولهم شعوب أكثر من أن تحصى مثل مغراوة وبني يفرن وجراوة وبني يرنيان ووجد يجن وغمرة وبني ويجفش واسين وبني تيغرست وبني مرين وتوجين وبني عبد الواد وبني راشد وبني برزال وبني ورنيد وبني زنداك وغيرهم‏.‏وفي كل واحد من هذه الشعوب بطون متعددة‏.‏وكانت مواطن هذا الجيل من لدن جهات طرابلس إلى أوراس والزاب إلى قبلة تلمسان ثم إلى وادي ملوية‏.‏وكان الكثرة والرياسة فيهم قبل الإسلام لجراوة ثم لمغراوة وبني يفرن‏.‏ولما ملك الإفرنجة بلاد البربر ودانوا لهم بدين النصرانية ونزلوا الأمصار بالسواحل وكان زناتة هؤلاء وسائر البربر في ضواحيهم صاروا يؤدون لهم طاعة معروفة وخراجاً معروفاً مؤقتاً ويعسكرون معهم في حروبهم ويمتنعون عليهم فيما سوى ذلك حتى جاء الله بالإسلام وزحف المسلمون إلى إفريقية وملك الإفرنجة بها يومئذ جرجير زناتة والبربر على شأنه مع المسلمين وانفضوا جميعاً‏.‏وقتل جرير وأصبحت أموالهم مغانم ونساؤهم سبايا وافتتحت سبيطلة‏.‏ثم عاود المسلمون غزو إفريقية‏:‏ وافتتحوا جلولاء وغيرها من الأمصار ورجع الإفرنجة الذين كانوا يملكونهم على أعقابهما إلى مواطنهم وراء البحر‏.‏وظن البربر بأنفسهم مقاومة العرب فاجتمعوا وتمسكوا بحصون الجبال‏.‏واجتمعت زناتة إلى الكاهنة وقومها جراوة بجبل أوراس حسبما نذكر فأثخن العرب فيهم واتبعوهم في الضواحي والجبال والقفار حتى دخلوا في دين الإسلام طوعاً وكرهاً وانقادوا إلى إيالة مصر وتولوا من أمرهم ما كان الإفرنجة يتولونه‏.‏حتى إذا انحلت بالمغرب عرى الملك العربي وأخرجهم من إفريقية البربر من كتامة وغيرهم قدح هذا الجيل الزناتي زناد الملك فأورى لهم وتداول فيهم الملك جيلا بعد جيل في طبقتين حسبما نقصه عليك إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن الكاهنة وقومها جراوة من زناتة وشأنهم مع المسلمين عند الفتح
كانت هذه الأمة من البربر بإفريقية والمغرب في قوة وكثرة وعديد وجموع وكانوا الإفرنجة بأمصارهم طاعة معروفة وملك الضواحي كلها لهم وعليهم مظاهرة الإفرنجة مهما احتاجوا إليهم‏.‏ولما أطل المسلمون في عساكرهم على إفريقية للفتح ظاهروا جرجير في زحفه إليهم حتى قتله المسلمون وانفضت جموعهم وافترقت رياستهم ولم يكن بعدها بإفريقية موضع للقاء المسلمين بجمعهم لما كانت غزواتهم لكل أمة البربر في ناحيتها وموطنها ومع من تحيز إليهم من قبل الإفرنجة‏.‏ولما اشتغل المسلمون في حرب علي ومعاوية أغفلوا أمر إفريقية ثم ولاها معاوية بعد عام عقبة بن نافع الفهري فأثخن في المغرب في ولايته الثانية وبلغ إلى السوس وقتل بالزاب في مرجعه‏.‏واجتمعت البربر على كسيلة كبير أوربة‏.‏وزحف إليه بعد ذلك زهير بن قيس البلوي أيام عبد الملك بن مروان فهزمه وملك القيروان وأخرج المسلمين من إفريقية‏.‏وبعث عبد الملك حسان بن النعمان في عساكر المسلمين فهزموا البربر وقتلوا كسيرة واسترجعوا القيروان وقرطاجنة وإفريقية وفر بقية الإفرنجة والروم إلى صقلية والأندلس وافترقت رياسة البربر في شعوبهم‏.‏وكانت زنانة أعظم قبائل البربر وأكثرها جموعاً وبطوناً وكان موطن جراوة منهم بجبل أوراس وهم ولد كراو بن الديرت بن جانا‏.‏وكانت رياستهم للكاهنة دهيا بنت تابنة بن نيقان بن باورا بن مصكسري بن أفرد بن وصيلا بن جراو‏.‏وكان لها بنون ثلاثة ورثوا رياسة قومهم عن سلفهم وربوا في حجرها فاستبدت عليهم وعلى قومها بهم وبما كان لها من الكهانة والمعرفة بغيب أحوالهم وعواقب أمورهم فانتهت إليها رياستهم‏.‏قال هاني بن بكور الضريسي‏:‏ ملكت عليهم خمساً وثلاثين سنة وعاشت مائة وسبعاً وعشرين سنة‏.‏وكان قتل عقبة بن نافع في البسيط قبلة جبل أوراس بإغرائها برابرة تهودا عليه وكان المسلمون يعرفون ذلك منها‏.‏فلما انقضى جمع البربر وقتل كسيلة زحفوا إلى هذه الكاهنة بمعتصمها من جبل أوراس وقد ضوي إليها بنو يفرن ومن كان بإفريقية من قبائل زناتة وسائر البتر فلقيتهم بالبسيط أمام جبلها‏.‏وانهزم المسلمون واتبعت آثارهم في جموعها حتى أخرجتهم من إفريقية وانتهى حسان إلى برقة فأقام بها حتى جاءه المدد من عبد الملك فزحف إليهم سنة أربع وسبعين وفض جموعهم وأوقع بهم وقتل الكاهنة واقتحم جبل أوراس عنوة واستلحم فيه زهاء مائة ألف‏.‏وكان للكاهنة ابنان قد لحقا بحسان قبل الواقعة أشارت عليهما بذلك أمهما دهيا لأثارة علم كان لديها في ذلك من شيطانها فتقبلهما حسان‏.‏وحسن إسلامهما واستقامت طاعتهما‏.‏وعقد لهما على قومهما جراوة ومن انضوى إليهم بجبل أوراس‏.‏ثم افترق فلهم من بعد ذلك وانقرض أمرهم‏.‏وافترق جراوة أوزاعا بين قبائل البربر وكان منهم قوم بسواحل مليلة وكان لهم آثار بين جيرانهم هناك‏.‏وإليهم نزع ابن أبي العيش لما غلبه موسى بن أبي العافية على سلطانه بتلمسان أول المائة الرابعة حسبما نذكره‏.‏فنزل إليهم وبنى القلعة بينهم إلى أن خربت من بعد ذلك‏.‏والفل منهم بذلك الوطن إلى الآن لهذا العهد مندرجون في يطوفت ومن إليهم من قبائل


الخبر عن مبتدأ دول زناتة في الإسلام ومصير الملك إليهم بالمغرب وإفريقية
لما فرغ شأن الردة من إفريقية والمغرب وأذعن البربر لحكم الإسلام وملكت العرب واستقل بالخلافة ورياسة العرب بنو أمية اقتعدوا كرسي الملك بدمشق واستولوا على سائر الأمم والأقطار وأثخنوا في القاصية من لدن الهند والصين في المشرق وفرغانة في الشمال والحبشة في الجنوب والبربر في المغرب وبلاد الجلالقة والإفرنجية في الأندلس‏.‏وضرب الإسلام بجرانه وألقت دولة العرب بكلكلها على الأمم‏.‏ثم جدع بنو أمية أنوف بني هاشم مقاسميهم في نسب عبد مناف والمدعين استحقاق الأمر بالوصية‏.‏وتكرر خروجهم عليهم فأثخنوا فيهم بالقتل والأسر حتى توغرت الصدور واستحكمت الأوتار وتعددت فرق الشيعة باختلافهم في مساق الخلافة من علي كرم الله وجهه إلى من بعده من بني هاشم‏:‏ فقوم ساقوها إلى آل العباس وقوم إلى آل الحسن وآخرون إلى آل الحسين فدعت شيعة آل العباس بخراسان وقام بها اليمنية فكانت الدولة العظيمة الحائزة للخلافة ونزلوا بغداد واستباحوا الأمويين قتلاً وسبياً‏.‏وخلص من جاليتهم إلى الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام فجدد بها دعوة الأمويين واقتطع ما وراء البحر عن ملك الهاشميين فلم تخفق لهم به راية‏.‏ثم نفس آل أبي طالب على آل العباس ما أكرمهم الله به من الخلافة والملك فخرج المهدي محمد بن عبد الله المدعو بالنفس الزكية في بني أبي طالب على أبي جعفر المنصور وكان من أمرهم ما هو مذكور واستلحمتهم جيوش بني العباس في وقائع عديدة‏.‏وفر إدريس بن عبد الله أخو المهدي ناجياً من بعض وقائعهم إلى المغرب الأقصى فأجاره البرابرة من أوروبة ومغيلة وصدينة وقاموا بدعوته ودعوة بنيه من بعده ونالوا به الملك وغلبوا على المغرب الأقصى والأوسط وبثوا دعوة إدريس وبنيه من أهله بعده في أهله من زناتة مثل بني يفرن ومغراوة وقطعوه من ممالك بني العباس واستمرت دولتهم إلى حين انقراضها على يد العبيديين‏.‏ولم يزل الطالبيون أثناء ذلك بالمشرق ينزعون إلى الخلافة ويبثون دعاتهم بالقاصية إلى أن دعا أبو عبد الله المحتسب بإفريقية إلى المهدي ولد إسمعيل الإمام ابن جعفر الصادق فقام برابرة كتامة ومن إليهم من صنهاجة وملكوا إفريقية من يد الأغالبة‏.‏ورجع العرب إلى مركز ملكهم بالمشرق ولم يبق لهم في نواحي المغرب دولة ووضع العرب ما كان على كاهلهم من أمر المغرب ووطأة مضر بعد أن رسخت الملة فيهم وخالطت بشاشة الإيمان قلوبهم واستيقنوا بوعد الصادق أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده‏.‏فلم تنسلخ الملة بانسلاخ الدولة ولا تقوضت مباني الدين بتقويض معالم الملك وعداً من الله لن يخلفه في تمام أمره وإظهار دينه على الدين كله‏.‏فتناغى حينئذ البربر في طلب الملك والقيام بدعوة الأعياص من بني عبد مناف يسترون منها حسوا في ارتغاء إلى أن ظفروا من ذلك بحظ مثل كتامة بإفريقية ومكناسة بالمغرب‏.‏ونافسهم في ذلك زناد وكانوا من أكثرهم جمعاً وأشدهم قوة فشمروا له حتى ضربوا معهم بسهم فكان لي يفرن بالمغرب وإفريقية على يد صاحب الحمار ثم على يد يعلى بن محمد وبنيه ملك ضخم‏.‏ثم كان لمغراوة على يد بني خزر دولة أخرى تنازعوها مع بني يفرن وصنهاجة ثم انقرضت تلك الأجيال وتجرد الملك بالمغرب بعدهم في جيل آخر منهم فكان لبني مرين بالمغرب الأقصى ملك ولبني عبد الواد بالمغرب الأوسط ملك آخر تقاسمهم فيه بنو توجين والفل من مغراوة حسبما نذكر ونستوفي شرحه ونجلب أيامهم وبطونهم على الطريقة التي سلكناها في أخبار البربر والله المعين سبحانه لا رب سواه ولا معبود إلا إياه‏.‏الطبقة الأولى من زناتة بنو يفرن ونبدأ منها ب

ميارى 12 - 8 - 2010 07:57 AM

الخبر عن بني يفرن وأنسابهم وشعوبهم وبنو يفرن
هؤلاء من شعوب زناتة وأوسع بطونهم وهم عند نسابة زناتة بنو يفرن بن يصلتين بن مسرا بن زاكيا بن ورسيك بن الديرت بن جانا وإخوته مغراوة و يرنيان وبنو واسين والكل بنو يصلتين‏.‏ويفرن في لغة البربر هو القار‏.‏وبعض نسابتهم يقولون إن يفرن هو ابن ورتنيذ بن جانا وإخوته مغراوة وغمرت ووجديجن‏.‏وبعضهم يقول يفرن بن مرة بن ورسيك بن جانا‏.‏وبعضهم يقول هو ابن جانا لصلبه والصحيح ما نقلناه عن أبي محمد بن حزم‏.‏وأما شعوبهم فكثير ومن أشهرهم بنو واركوا ومرنجيصة‏.‏وكان بنو يفرن هؤلاء لعهد الفتح أكبر قبائل زناتة وأشدها شوكة وكان منهم بإفريقية وجبل أوراس والمغرب الأوسط بطون وشعوب فلما كان الفتح غشي إفريقية ومن بها من البربر جنود الله المسلمون من العرب فتطامنوا لبأسهم حتى ضرب الدين بجرانه وحسن إسلامهم‏.‏ولما فشا دين الخارجية في العرب وغلبهم الخلفاء بالمشرق واستلحموهم نزعوا إلى القاصية وصاروا يبثون بها دينهم في البربر فتلقفه رؤساؤهم على اختلاف مذاهبه باختلاف رؤوس الخارجية في أحكامهم من أباضية وصفرية وغيرهما كما ذكرناه في بابه ففشا في البربر وضرب فيه يفرن هؤلاء بسهم وانتحلوه وقاتلوا عليه‏.‏وكان أول من جمع لذلك منهم أبو قرة من أهل المغرب الأوسط‏.‏ثم من بعده أبو يزيد صاحب الحمار وقومه بنو واركوا ومرنجيصة‏.‏ثم كان لهم بالمغرب الأقصى من بعد الانسلاخ من الخارجية

الخبر عن أبي قرة وما كان لقومه من الملك بتلمسان ومبدأ ذلك ومصادره
كان من بني يفرن بالمغرب الأوسط بطون كثيرة بنواحي تلمسان إلى جبل بني راشد المعروف بهم لهذا العهد وهم الذين اختطوا تلمسان كما نذكره في أخبارها‏.‏وكان رئيسهم لعهد انتقال الخلافة من بني أمية إلى بني العباس أبو قرة ولا نعرف من نسبه أكثر من أنه منهم‏.‏ولما انتقض البرابرة بالمغرب الأقصى وقام ميسرة وقومه بدعوة الخارجية وقتله البرابرة قدموا على أنفسهم مكانه خالد برت حميد من زناتة فكان من حروبه مع كلثوم بن عياض وقتله إياه ما هو معروف‏.‏ورأس على زناتة من بعده أبو قرة هذا‏.‏ولما استأثلت دولة بني أمية كثرت الخارجية في البربر وملك ورفجومة القيروان وهوارة وزناتة طرابلس ومكناسة سجلماسة وابن رستم تاهرت وقدم ابن الأشعث إفريقية من قبل أبي جعفر المنصورة وخافه البربر فحسم العلل وسكن الحروب‏.‏ثم انتقض بنو يفرن تلمسان ودعوا إلى الخارجية وبايعوا أبا قرة كبيرهم بالخلافة سنة ثمان وأربعين ومائة وسرح إليهم ابن الأشعث الأغلب بن سوادة التميمي فانتهى إلى الزاب‏.‏وفر أبو قرة إلى المغرب الأقصى ثم راجع موطنه بعد رجوع الأغلب‏.‏ولما انتقض البرابرة على عمر بن حفص بن أبي صفرة الملقب ‏"‏ هزارمرد ‏"‏ عام خمسين ومائة وحاصروه بطبنة كان فيمن حاصره أبو قرة اليفرني في أربعين ألفاً صفرية من قومه وغيرهم حتى اشتد عليه الحصار وداخل أبا قرة في الإفراج عنه على يد ابنه على أن يعطيه أربعين ألفا ولابنه أربعة آلاف فارتحل بقومه وانفض البرابرة عن طبنة‏.‏ثم حاصروه بعد ذلك بالقيروان واجتمعوا عليه وأبو قرة معهم بثلثمائة وخمسين ألفا‏:‏ الخيالة منها خمسة وثمانون ألفا‏.‏وهلك عمر بن حفص في ذلك الحصار‏.‏وقدم يزيد بن حاتم والياً على إفريقية ففض جموعهم وفرق كلمتهم ولحق أبو قرة ببني يفرن أصحابه بمواطنهم من تلمسان بعد أن قتل صاحبه أبو حاتم الكندي رأس الخوارج واستلحم بن يفرن وتوغل يزيد بن حاتم في المغرب ونواحيه وأثخن في أهله إلى أن استكانوا واستقاموا‏.‏ولم يكن لبني يفرن من بعدها انتقاض حتى كان شأن أبي يزيد بإفريقية في بني واركوا ومرنجيصة حسبما نذكره إن شاء الله تعالى الكريم‏.‏وبعض المؤرخين ينسب أبا قرة هذا إلى مغيلة ولما أظفر بصحيح في ذلك والطرائق متساوية في الجانبين فإن نواحي تلمسان وإن كانت موطنا لبني يفرن فهي أيضاً موطن لمغيله والقبيلتان متجاورتان‏.‏لكن بني يفرن كانوا أشد قوة وأكثر جمعاً ومغيلة أيضاً كانوا أشهر بالخارجية من بني يفرن لأنهم كانوا صفرية‏.‏وكثير من الناس يقولون إن بني يفرن كانوا على مذهب أهل السنة كما ذكره ابن حزم وغيره والله أعلم‏.‏هذا الرجل من بني واركوا إخوة مرنجيصة وكلهم من بطون بني يفرن وكنيته أبو زيد واسمه مخلد بن كيداد لا يعلم من نسبه فيهم غير هذا‏.‏وقال أبو محمد بن حزم‏:‏ ذكر لي أبو يوسف الوراق عن أيوب بن أبي يزيد أن اسمه مخلد بن كيداد بن سعد الله بن مغيث بن كرمان بن مخلد بن عثمان بن ورينت بن حونيفر بن سميران بن يفرن بن جانا وهو زناتة‏.‏قال‏:‏ وقد أخبرني بعض البربر بأسماء زائدة بين يفرن وجانا كلام ابن حزم‏.‏ونسبه ابن الرقيق أيضاً في بني واسين بن ورسيك بن جانا وقد تقدم نسبهم أول الفصل‏.‏وكان كيداد أبوه يختلف إلى بلاد السودان في التجارة فولد له أبو يزيد بكر كوامن بلادهم وأمه أم ولد اسمها سبيكة ورجع به إلى قيطون زناتة ببلاد قصطيلة‏.‏ونزل توزر متردداً بينها وبين تقيوس وتعلم القرآن وتأدب وخالط النكارية فمال إلى مذاهبهم وأخذها عنهم ورأس فيها ورحل إلى مشيختهم‏.‏وأخذ عن أبي عبيدة منهم أيام اعتقال عبيد الله المهدي بسجلماسة‏.‏
ومات أبوه كيداد وتركه على حال من الخصاصة والفقر فكان أهل القيطون يصلونه بفضل أموالهم وكان يعلم صبيانهم القرآن ومذاهب النكارية‏.‏واشتهر عنه تكفير أهل الملة وسب علي فخاف وانتقل إلى تقيوس‏.‏وكان يختلف بينها وبين توزر وأخذ نفسه بالتغيير على الولاة‏.‏ونمي عنه اعتقاد الخروج عن السلطان فنذر الولاة بقسطيلة دمه فخرج إلى الحج سنة عشر وثلثمائة وأرهفه الطلب فرجع من نواحي طرابلس إلى تقيوس‏.‏ولما هلك عبد الله أوعز إلى أهل قسطيلة في القبض عليه فلحق بالمشرق وقضى الفرض وانصرف إلى موطنه‏.‏ودخل توزر سنة خمس وعشرين مستتراً‏.‏وسعى به ابن فرقان عند والي البلد فتقبض عليه واعتقله وأقبل سرعان زناتة إلى البلد ومعهم أبو عمار الأعمى رأس النكارية واسمه كما سبق عبد الحميد‏.‏وكان ممن أخذ عنه أبو يزيد فتعرضوا للوالي في إطلاقه فتعلل عليهم بطلبه في الخراج فاجتمعوا إلى فضل ويزيد ابني أبي يزيد وعمدوا إلى السجن فقتلوا الحرس وأخرجوه فلحق ببلد بني واركلا وأقام بها سنة يختلف إلى جبل أوراس وإلى بني برزال في مواطنهم بالجبال قبالة المسيلة وإلى بني زنداك من مغراوة إلى أن أجابوه فوصل إلى أوراس ومعه أبو عمار الأعمى في اثني عشر من الراحلة‏.‏ونزلوا على النكارية بالنوالات واجتمع إليه القرابة وسائر الخوارج وأخذ له البيعة عليهم أبو عمار صاحبه على قتال الشيعة وعلى استباحة الغنائم والسبي وعلى أنهم إن ظفروا بالمهدية والقيروان صار الأمر شورى وذلك سنة إحدى وثلاثين‏.‏وترصدوا غيبة صاحب باغاية في بعض وجوهه فضربوا على بسيطها واستباح بعض القصور بها سنة اثنتين وثلاثين وغمس بذلك أيدي البربر في الفتنة‏.‏ثم زحف بهم إلى باغاية واستولت عليه وعلى أصحابه الهزيمة فلحقوا بالجبل‏.‏وزحف إليهم صاحب باغاية فانهزم ورجع إلى بلده فحاصره أبو يزيد وأوعز أبو القاسم القائم إلى كتامة في أمداد كنون صاحب باغاية فتلاحقت به العساكر فبيتهم أبو يزيد وأصحابه ففلوهم وامتنعت عليه باغاية‏.‏وكاتب أبو يزيد البربر الذين حول قسطيلة من بني واسين وغيرهم فحاصروا توزر سنة ثلاث وستين ورحل إلى تبسة فدخلها صلحاً ثم إلى بجاية كذلك ثم إلى مرماجنة كذلك وأهدوا له حماراً أشهب فلزم ركوبه حتى اشتهر به‏.‏وبلغ خبره عساكر كتامة بالإربس فانفضوا وملك الإربض وقتل إمام الصلاة بها‏.‏وبعث عسكراً إلى تبسة فملكوها وقتلوا عاملها‏.‏وبلغ الخبرالقائم وهو بالمهدية فهاله وسرح العساكر لضبط المدن والثغور وسرح مولاه بشرى الصقلبي إلى باجة وعقد لميسور على الجيوش فعسكر بناحية المهدية‏.‏وسرح خليل بن إسحق إلى القيروان فعسكر بها‏.‏وزحف أبو يزيد إلى بشرى بباجة واشتدت الحرب بينهم وركب أبو يزيد حماره وأمسك عصاه فاستمات النكارية وخالفوا بشرى إلى معسكره فانهزم إلى تونس‏.‏واقتحم أبو يزيد باجة واستباحها ودخل بشرى إلى تونس وارتدت البرابر من كل ناحية فأسلم تونس ولحق بسوسة‏.‏واستأمن أهل تونس إلى أبي يزيد فأمنهم وولى عليهم وانتهى إلى وادي مجردة فعسكر بها‏.‏ووافته الحشود هنالك ورعب الناس منه فأجفلوا إلى القيروان وكثرت الأراجيف وسرب أبو يزيد جيوشه في نواحي إفريقية فشنوا الغارات وأكثروا السبي والقتل والأسر‏.‏ثم زحف إلى رقادة فانفض كتامة الذين كانوا بها ولحقوا بالمهدية‏.‏ونزل أبو يزيد رقادة في مائة ألف‏.‏ثم زحف إلى القيروان فانحصر بها خليل بن إسحق‏.‏ثم أخذه بعد مراوضة في الصلح وهم بقتله فأشار عليه أبو عمار باستبقائه فلم يطعه وقتله ودخلوا القيروان فاستباحوها ولقيه مشيخة الفقهاء فأمنهم بعد التقريع والعتب وعلى أن يقتلوا أولياء أشيعة‏.‏وزحف وبعث رسله في وفد من أهل القيروان إلى الناصر الأموي صاحب قرطبة ملتزماً لطاعته والقيام لدعوته وطالباً لمدده فرجعوا إليه بالقبول والوعد‏.‏ولم يزل يردد ذلك سائر أيام الفتنة حتى أوفد ابنه أيوب في آخرها سنة خمس وثلاثين فكان له اتصال الناصر سائر أيامه‏.‏وزحف ميسور من المدية بالعساكر وفر عنه بنو كملان من هوارة ولحقوا بأبي يزيد وحرضوه على لقاء ميسور فزحف إليه واستوى اللقاء‏.‏واستمات أبو يزيد والنكارية فانهزم ميسور وقتله بنو كملان وبعث برأسه إلى القيروان ثم إلى المغرب واستبيح معسكره‏.‏وسرح أبو يزيد عساكره إلى مدينة سوسة فاقتحموها عنوة وأكثروا من القتل والمثلة‏.‏وعظم القتل بضواحي إفريقية وخلت القرى والمنازل ومن أفلته السيف أهلكه الجوع واستخف أبو يزيد بالناس بعد قتل ميسور فلبس الحرير وركب الفاره‏.‏ونكر عليه أصحابه ذلك وكاتبه به رؤساؤهم من البلاد والقائم خلال ذلك بالمهدية يخندق على نفسه ويستنفر كتامة وصنهاجة للحصار معه‏.‏وزحف أبو يزيد حتى نزل المهدية وناوش عساكرها الحرب فلم يزل الظهور عليهم وملك زويلة‏.‏ولما وقف بالمصلى قال القائم لأصحابه‏:‏ من ههنا يرجع واتصل حصاره للمهدية واجتمع إليه البربر من قابس وطرابلس ونفوسة‏.‏وزحف إليهم ثلاث مرات فانهزم في الثالثة ولم يقلع وكذلك في الرابعة‏.‏واشتد الحصار على أهل المهدية ونزل الجوع بهم‏.‏واجتمعت كتابة بقسنطينة وعسكروا بها لإمداد القائم فسرح إليهم أبو يزيد يكموس المزاتي من ورفجومة فانفض معسكر كتامة من قسنطينة‏.‏ويئس القائم من مددهم وتفرقت عساكر أبي يزيد في الغارات والنهب فخف المعسكر ولم يبق به إلا هوارة وراس وبنو كملان‏.‏وكثرت مراسلات القائم للبربر‏.‏واستراب بهم أبو يزيد وهرب بعضهم إلى المهدية ورحل آخرون إلى مواطنهم فأشار عليه أصحابه بالإفراج عن المهدية فأسلموا معسكرهم ولحقوا بالقيروان سنة أربع وثلاثين‏.‏ودبروا أهل القيروان في القبض عليه فلم يتهيأ لهم وعذله أبو عمار فيما أتاه من الاستكثار من الدنيا فتاب وأقلع وعاود لبس الصوف والتقشف‏.‏وشاع خبر إجفاله عن المهدية فقتل النكارية في كل بلد وبعث عساكره فعاثوا في النواحي وأوقعوا بأهل الأمصار وخربوا كثيراً منها‏.‏وبعث ابنه أيوب إلى باجة فعسكر بها ينتظر وصول المدد من البربر وسائر النواحي فلم يفجأه إلا وصول علي بن حمدون الأندلسي صاحب المسيلة في حشد كتامة وزواوة وقد مر بقسنطينة والإربس وسقنبارية واصطحب منها العساكر فبيته أيوب وانفض معسكره وتردى به فرسه في بعض الأوعار فهلك‏.‏ثم زحف أيوب في عسكره إلى تونس وقائدها حسن بن علي من دعاة الضيعة فانهزم ثم أتيحت له الكرة‏.‏ولحق حسن بن علي ببلد كتامة فعسكر بهم على قسنطينة‏.‏وسرح أبو يزيد جموع البربر لحربه‏.‏ثم اجتمعت لأبي يزيد حشود البربر من كل ناحية وثابت إليه قوته‏.‏وارتحل إلى سوسة فحاصرها ونصب عليها المجانيق‏.‏وهلك القائم سنة أربع وثلاثين في شوال وصارت الخلافة لابنه إسمعيل المنصور فبعث بالمدد إلى سوسة بعد أن اعتزم على الخروج إليها بنفسه فمنعه أصحابه‏.‏ووصل المدد إلى سوسة فقاتلوا أبا يزيد فانهزم ولحق بالقيروان فامتنعت عليه فاستخلص صاحبه أبا عمار أيديهم وارتحل عنهم‏.‏وخرج المنصور من المهدية إلى سوسة ثم إلى القيروان فملكها وعفا عن أهلها وأمنهم وأحسن في مخلف أبي يزيد وعياله‏.‏وتوافى المدد إلى أبي يزيد ثالثة فاعتزم على حصار القيروان وزحف إلى عسكر المنصور بساحتها فبيتهم واشتد الحرب واستمات الأولياء وافترقوا آخر نهارهم وعاودوا الزحف مرات ووصل المدد إلى المنصور من الجهات‏.‏حتى إذا كان منتصف المحرم كان الفتح وانهزم أبو يزيد وعظم القتل في البربر ورحل المنصور في أتباعه فمر بسبيبة ثم تبسه حتى انتهى إلى باغايه‏.‏ووافاه بها كتاب محمد بن خزر بالطاعة والولاية والاستعداد للمظاهرة فكتب إليه بترصد أبى يزيد والقبض عليه ووعده في ذلك بعشرين حملا من المال‏.‏ثم رحل إلى طبنة فوافاه بها جعفر بن على عامل المسيلة بالهدايا والأموال‏.‏وبلغه أن أبا يزيد نزل بسكرة وأنه كاتب محمد بن خزر يسأله النصرة فلم يجد عنده ما يرضيه فارتحل المنصور إلى بسكرة فتلقاه أهلها‏.‏وفر أبو يزيد إلى بني برزال بجبل سالات ثم إلى جبل كتامة وهو جبل عياض لهذا العهد وارتحل المنصور في أثره إلى ومرة وبيته أبو يزيد هنالك فانهزم ولم يظفر وانحاز إلى جبل سالات‏.‏ثم لحق بالرمال ورجع عنه بنو كملان وأمنهم المنصور على يد محمد بن خزر‏.‏وسار المنصور في التعبية حتى نزل جبل سالات وارتحل وراءه إلى الرمال‏.‏ثم ودخل بلاد صنهاجة وبلغه رجوع أبي زيد إلى جبل كتامة فرجع إليه ونزل عليه المنصور في كتامة وعجيسة وزواوة وحشد بني زنداك ومزاتة ومكناسة ومكلاتة‏.‏وتقدم سور إليه فقاتلوا أبا يزيد وجموع النكارية فهزموهم واعتصموا بجبل كتامة‏.‏ورحل صور إلى المسيلة وانحصر أبو يزيد في قلعة الجبل وعسكر المنصور إزاءها واشتد الحصار وزحف إليها مرات‏.‏ثم اقتحمها عليهم فاعتصم أبو يزيد بقصر في ذروة القلعة فأحيط به واقتحم وقتل أبو عمار الأعمى ويكموس المزاتي ونجا أبو يزيد مثخناً بالجراحة محمولاً بين ثلاثة من أصحابه فسقط في مهواة من الأوعار فوهن وسيق من الغداة إلى المنصور فأمر بمداواته‏.‏ثم أحضره ووبخه وأقام الحجة عليه وتجافى عن دمه‏.‏وبعثه إلى المهدية وفرض له بها الجراية فجزاه خيراً‏.‏وحمل في القفص فمات من جراحته سنة خمس وثلاثين‏.‏وأمر به فسلخ وحشي جلده بالتبن وطيف به في القيروان‏.‏وهرب الفل من أصحابه إلى ابنه فضل وكان مع معبد بن خزر فأغاروا على ساقة المنصور وكمن لهم زيري بن مناد أمير صنهاجة فأوقع بهم‏.‏ولم يزل المنصور في أتباعه إلى أن نزل المسيلة قطع أثر معبد ووافاه بمعسكره هنالك انتقاض حميد بن يصل عامل تيهرت من يائهم وأنه ركب البحر من تنس إلى العدوة فارتحل إلى تيهرت وولي عليها وعلى تنس‏.‏ثم قصد لواتة فهربوا إلى الرمال‏.‏ورجع إلى إفريقية سنة خمس وثلاثين‏.‏ثم بلغه فضل بن أبي يزيد أغار على جهات قسطيلة فرحل من سنته في طلبه وانتهى إلى قفصة ثم ارتحل إلى ميطلة من أعمال الزاب وفتح حصن ماداس مما يليه‏.‏وهرب فضل في الرمال فأعجزه ورجع إلى القيروان سنة ست وثلاثين‏.‏ومضى فضل إلى جبل أوراس سار منه إلى باغاية فحاصرها‏.‏وغدر به ماطيط بن يعلى من أصحابه وجاء برأسه إلى منصور وانقرض أمر أبي يزيد وبنيه وافترقت جموعهم‏.‏واغتال عبد الله بن بكار من رؤساء مغراوة بعد ذلك أيوب بن أبي يزيد وجاء برأسه إلى المنصور متقرباً إليه‏.‏وتتبع المنصور قبائل بني يفرن بعدها إلى أن انقطع أثر الدعوة‏.‏والبقاء لله تعالى وحده‏.‏


الخبر عن الدولة الأولى لبني يفرن بالمغرب الأوسط والأقصى ومبادىء أمورهم ومصايرهم
كان لبني يفرن من زناتة بطون كثيرة وكانوا متفرقين بالمواطن فكان منهم بإفريقية بنو واركوا ومرنجيصة وغيرهم كما قدمناه وكان منهم بنواحي تلمسان ما بينها وبين تاهرت أمم كثير عددهم وهم الذين اختطوا مدينة تلمسان كما نذكره بعد‏.‏ومنهم أبو قرة المنتزي بتلك الناحية لأول الدولة العباسية وهو الذي حاصر عمر بن حفص بطبنة كما تقدم ولما انقرض أمر أبي يزيد وأثخن المنصور فيمن كان بإفريقية من بني يفرن أقام هؤلاء الذين كانوا بنواحي تلمسان على وفودهم‏.‏وكان رئيسهم لعهد أبي يزيد محمد بن صالح‏.‏ولما تولى المنصور محمد بن خزر وقومه مغراوة وكان بينه وبين بني يفرن هؤلاء فتنة هلك فيها محمد بن صالح على يد عبد الله بن بكار من بني يفرن كان متحيزاً إلى مغراوة‏.‏وولي أمره في بني يفرن من بعده ابنه يعلى فعظم صيته واختط مدينة إيفكان‏.‏ولما خطب عبد الرحمن الناصر طاعة الأموية من زناتة أهل العدوة واستالف ملوكهم سارع يعلى لإجابته واجتمع عليها مع الخير بن محمد بن خزر وقومه مغراوة وأجلب على وهران فملكها سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة من يد محمد بن عون وكان ولاه عليها صولات اللميطي أحد رجالات كتامة سنة ثمان وتسعين ومائتين فدخلها يعلى عنوة على بنيه وخربها‏.‏وكان يعلى قد زحف مع الخير بن محمد إلى تاهرت وبرز إليه ميسور الخصي في شيعته من لماية فهزموهم وملكوا تاهرت وتقبضوا على ميسور وعبد الله بن بكار فبعث به الخير إلى يعلى بن محمد ليثأر به فلم يرضه كفؤاً لدمه ودفعه إلى من ثأر به من بني يفرن‏.‏واستفحل سلطان يعلى في ناحية المغرب وخطب على منابرها لعبد الرحمن الناصر ما بين تاهرت إلى طنجة‏.‏واستدعى من الناصر تولية رجال بيته على أمصار المغرب‏:‏ فعقد على فاس لمحمد بن الخير بن محمد بن عشيرة ونسك محمد لسنة من ولايته واستأذن في الجهاد والرباط بالأندلس فأجاز لذلك واستخلف على عمله ابن عمه أحمد بن عثمان بن سعيد وهو الذي اختط مأذنة القرويين سنة أربع وأربعين كما ذكرناه‏.‏ولم يزل سلطان يعلى بن محمد بالمغرب عظيماً إلى أن أغزى المعز لدين الله كاتبه جوهر الصقلي من القيروان إلى المغرب سنة سبع وأربعين‏.‏فلما فصل جوهر بالجنود عن تخوم إفريقية بادر أمير زناته بالمغرب يعلى بن محمد اليفرني إلى لقائه والإذعان لطاعته والانحياش إليه ونبذ عهد الأموية وأعمل إلى لقيه الرحلة من بلده إيفكان وأعطاه يد الانقياد‏.‏وعهد البيعة عن قومه بني يفرن وزناتة فتقبلها جوهر وأضمر الفتك به وتخير لذلك يوم فصوله من بلده‏.‏وأسر إلى بعض مستخلصيه من الأتباع فأوقعوا نفرة في أعقاب العسكر طار إليها الزعماء من كتامة وصنهاجة وزناتة وتقبض على يعلى فهلك في وطيس تلك الهيعة فغص بالرماح على أيدي رجالات كتامة وصنهاجة وذهب دمه هدراً في القبائل‏.‏وخرب جوهر مدينة إيفكان وفرت زناتة أمامه وكشف القناع في مطالبتهم‏.‏وقد ذكر بعض المؤرخين أن يعلى إنما لقي جوهراً عند منصرفه من الغزاة بمدينة تاهرت وهنالك كان فتكه به بناحية شلف فتفرقت بعدها جماعة بني يفرن وذهب ملكهم فلم يجتمعوا إلا بعد حين على ابنه بدوي بالمغرب كما نذكره‏.‏ولحق الكثير منهم بالأندلس كما يأتي خبره في موضعه وانقرضت دولة بني يفرن هؤلاء إلى أن عادت بعد مدة على يد يعلى بفاس‏.‏ثم استقرت آخراً بسلا وتعاقبت فيهم هنالك إلى الدولة الثانية لبني يفرن


الخبر عن الدولة الثانية لبني يفرن بسلا من المغرب الأقصى وأولية ذلك وتصاريفه
لما أوقع جوهر الكاتب قائد المعز بيعلى بن محمد أمير بني يفرن وملك المغرب سنة سبع وأربعين كما ذكرناه وتفرقت جموع بني يفرن لحق ابنه بدوي بن يعلى بالمغرب الأقصى وأحس بجوهر من ورائه فأبعد المفر وأصحر إلى أن رجع جوهر من المغرب‏.‏ويقال إن جوهراً تقبض عليه واحتمله أسيراً فاعتقل إلى أن فر من معتقله بعد حين واجتمع عليه قومه من بني يفرن‏.‏وكان جوهر عند منصرفه من المغرب ولى على الأدارسة المتحيزين إلى الريف وبلاد غمارة الحسن بن كنون شيخ بني محمد منهم فنزل البصرة‏.‏وأجاز الحكم المستنصر لأول ولايته سنة خمس وثلثمائة وزيره محمد بن قاسم بن طملس في العساكر لتدويخ المغرب فجمع له الحسن بن كنون وأوقع به ورجع إلى الأندلس مفلولا فسرح الحكم فولاه غالباً لتدويخ المغرب واقتلاع جرثومة الأدارسة فأجاز في العساكر وغلبهم على بلادهم وأزعجهم جميعاً عن المغرب إلى الأندلس سنة خمس وستين كما ذكرناه‏.‏ومهد دعوة الأموية بالمغرب وأقفل الحكم مولاه غالبا ورده إلى الثغر لسده وعقد على المغرب ليحيى بن محمد بن هاشم التجيبي صاحب الثغر الأعلى وكان أجازه مدداً لغالب في رجال العرب وجند الثغور حتى إذا انغمس الحكم في علة الفالج وركدت ريح المروانية بالمغرب واحتاجت الدولة إلى رجالها لسد الثغور ودفاع العدو استدعى يحيى بن محمد بن هاشم من العدوة وأداله الحاجب المصحفي بجعفر بن علي بن حمدون أمير الزاب والمسيلة النازع إليهم من دعوة الشيعة وجمعوا بين الانتفاع به في العدوة والراحة مما يتوقع منه على الدولة ومن البرابرة في التياث الخلافة لما كانوا أصاروا إليه من النكبة وطوقوه من المحنة‏.‏ولما كان اجتمع بقرطبة من جموع البرابرة فعقدوا له ولأخيه يحيى على المغرب وخلعوا عليهما وأمكنوهما من مال دثر وكسي فاخرة للخلع على ملوك العدوة فنهض جعفر إلى المغرب سنة خمس وستين وضبطه‏.‏واجتمع إليه ملوك زناتة مثل بدوي بن يعلى أمير بني يفرن وابن عمه نوبخت بن عبد الله بن بكار ومحمد بن الخير بن خزر وابن عمه بكساس بن سيد الناس وزيري بن خزر وزيري ومقاتل ابنا عطية بن تبادلت وخزرون بن محمد وفلفول بن سعيد أمير مغراوة وإسمعيل بن البوري أمير مكناسة ومحمد بن عمه عبد الله بن مدين وخزرون بن محمد الأزداجي وكان بدوي بن يعلى من أشدهم قوة وأحسنهم طاعة‏.‏ولما هلك الحكم وولي مكانه هشام المؤيد‏.‏وانفرد محمد بن أي عامر بحجابته اقتصر من العدوة لأول قيامه على مدينة سبتة فضبطها بجند السلطان ورجال الدولة وقلدها الصنائع من أرباب السيوف والأقلام وعول في ضبط ما وراء ذلك على ملوك زناتة وتعهدهم بالجوائز والخلع وصار إلى إكرام وفودهم وإثبات من رغب في الإثبات في ديوان السلطان منهم فجردوا في ولاية الدولة وبث الدعوة‏.‏وفسد ما بين أمير العدوة جعفر بن علي وأخيه يحيى واقتطع يحيى مدينة البصرة لنفسه وذهب بأكثر الرجال‏.‏ثم كانت على جعفر النكبة التي نكبه برغواطة في غزاته إياهم واستدعاه محمد بن أبي عامر لأول أمره لما رآه من استقامته إليه وشد أزره به وتلوى عليه كراهية لما يلقى بالأندلس من الحكم‏.‏ثم أصلحه وتخلى لأخيه عن عمل المغرب وأجاز البحر إلى ابن أبي عامر فحل منه بالمكان الأثير وتناغت زناتة في التزلف إلى الدولة بقرب الطاعات فزحف خزرون بن فلفول سنة ست وستين إلى مدينة سجلماسة فافتتحها ومحا أثر دولة آل مدرار منها وعقد له المنصور عليها كما ذكرنا ذلك قبل‏.‏وزحف عقب هذا الفتح بلكين بن ريري قائد إفريقية للشيعة إلى المغرب سنة تسع وستين زحفه المشهور‏.‏وخرج محمد بن أبي عامر من قرطبة إلى الجزيرة لمدافعته بنفسه واحتمل من بيت المال مائة حمل ومن العساكر ما لا يحصى عده‏.‏وأجاز جعفر بن علي بن حمدون إلى سبتة وانضمت إليه ملوك زناتة ورجع بكلين عنهم إلى برغواطة إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين ورجع جعفر إلى مكانه من ابن أبي عامر لم يسمح بمقامه عنه‏.‏ووصل حسن بن كنون خلال ذلك من القاهرة بكتاب عبد العزيز بن نزار بن معد إلى بلكين صاحب إفريقية في إعانته على ملوك المغرب وإمداده بالمال والعساكر فأمضاه بلكين لسبيله وأعطاه مالاً ووعده بإضعافه‏.‏ونهض إلى المغرب فوجد طاعة المروانية قد استحكمت فيه‏.‏وهلك بلكين إثر ذلك وشغل ابنه المنصور عن شأنه فدعا الحسن بن كنون إلى نفسه فدعا أبو محمد بن أبي عامر ابن عمه محمد بن عبد الله ويلقب عسكلاجة لحربه سنة خمس وسبعين‏.‏وجاء أثره إلى الجزيرة كيما يشارف القصة وأحيط بالحسن بن كنون فسأل الأمان وعقد له مقارعه عمر وعسكلاجة وأشخصه إلى الحضرة فلم يمض ابن أبي مر أمامه ورأى أن لا ذمة له لكثرة نكثه فبعث من ثقاته من أتاه برأسه وانقرض أمر الأدارسة وانمحى أثرهم فأغضب عمر وعسكلاجة لذلك‏.‏واستراح إلى الجند بأقوال نميت عنه إلى المنصور فاستدعاه من العدوة وألحقه بمقتوله ابن كنون‏.‏وعقد على العدوة للوزير حسن بن أحمد بن الورود السلمي وأكثف عدده وأطلق في المال يده‏.‏ونفذ إلى عمله سنة ست فضبط المغرب أحسن ضبط وهابته البرابرة ونزل فاس من العدوة فعز سلطانه وكثر جمعه وانضم إليه ملوك النواحي حتى حذر ابن أبي عامر مغبة استقلاله واستدعاه ليبلو صحة طاعته فأسرع اللحاق به فضاعف تكرمته وأعاده إلى عمله‏.‏وكان بدوي بن يعلى هذا من بين ملوك زناتة كثير الاضطراب على الأموية والمراوغة لهم بالطاعة‏.‏وكان المنصور بن أبي عامر يضرب بينه وبين قرينه زيري بن عطية ويقرن كلاً منهما بمناغاة صاحبه في الاستقامة وكان إلى زيري أميل وبطاعته أوثق لخلوصه وصدق طويته وانحياشه فكان يرجو أن يتمكن من قياد بدوي بن يعلى بمناغاته‏.‏فاستدعى بزيري بن عطية إلى الحضرة سنة سبع وسبعين فبادر إلى القدوم عليه وتلقاه وأكبر موصله وأحسن مقامه ومنقلبه وأعظم جائزته وسام بدوي مثلها فامتنع وقال لرسوله قل لابن أبي عام‏:‏ متى عهد حمر الوحش تنقاد للبياطرة وأرسل عنانه في العيث والفساد ونهض إليه صاحب المغرب الوزير حسن بن عبد الودود في عساكره وجموعه من جند الأندلس وملوك العدوة مظاهراً عليه لعدوه وزيري بن عطية وجمع لهم بدوي ولقيهم سنة إحدى وثمانين فكان الظهور له‏.‏وانهزم عسكر السلطان وجموع مغراوة واستلحموا وجرح الوزير حسن بن عبد الودود جراحات كان فيها لليال مهلكه‏.‏وطار الخبر إلى ابن أبي عامر فاغتم لذلك وكتب إلى زيري بضبط فاس ومكاتبة أصحاب حسن وعقد له على المغرب كما نستوفي ذكره عند دولتهم‏.‏وغالبه بدوي عليها مرة بعد أخرى ونزع أبو البهار بن زيري بن مناد الصنهاجي عن قومه ولحق بسواحل تلمسان ناقضاً لطاعة الشيعة وخارجاً على ابن أخيه المنصور بن بلكين صاحب القيروان‏.‏وخاطب ابن أبي عامر من وراء البحر وأوفد عليه ابن أخيه ووجوه قومه فسرب إليه الأموال والصلات بفاس مع زيري حسبما نذكره وجمع أيديهما على مدافعة بدوي فساء أمره فيهما جميعاً إلى أن راجع أبو البهار ولاية منصور ابن أخيه كما نذكره بعد‏.‏وحاربه زيري فكان له الظهور عليه ولحق أبو البهار بسبتة‏.‏ثم عاد إلى قومه‏.‏واستفحل زيري من بعد ذلك وكانت بينه وبين بدوي وقعة اكتسح زيري من ماله ومعسكره مالا كفؤ له وسبى حرمه‏.‏واستلحم من قومه زهاء ثلاثة آلاف فارس‏.‏وخرج إلى الصحراء شريداً سنة ثلاث وثمانين‏.‏وهلك هناك فولي أمره في قومه حبوس ابن أخيه زيري بن يعلى ووثب به ابن عمه أبو يداس بن دوناس فقتله طمعاً في الرياسة من بعده واختلف عليه قومه فأخفق أمله وعبر البحر إلى الأندلس في جمع عظيم من قومه‏.‏وولي أمر بني يفرن من بعده حمامة بن زيري بن يعلى أخو حبوس المذكور فاستقام عليه أمر بني يفرن وقد مر ذكره في خبر بدوي غير مرة وأنه كانت الحرب بينه وبين زيري بن عطية سجالاً وكانا يتعاقبان ملك فاس بتناول الغلب‏.‏وأنه لما وفد زيري على المنصور خالفه بدوي إلى فاس فملكها وقتل بها خلقاً من مغراوة وأنه لما رجع زيري اعتصم بفاس فنازله زيري‏.‏وهلك من مغراوة وبني يفرن في ذلك الحصار خلق‏.‏ثم اقتحمها زيري عليهم عنوة فقتله وبعث برأسه إلى سدة الخلافة بقرطبة سنة ولما اجتمع بنو يفرن على حمامة تحيز بهم إلى ناحية شاله من المغرب فملكها وما إليها من تادلا واقتطعها من زيري ولم يزل عميد بني يفرن في تلك العمالة والحرب بينه وبين زيري ومغراوة متصلة‏.‏وكانت بينه وبين المنصور صاحب القيروان مهاداة فأهدى إليه وهو محاصر لعمه حماد بالقلعة سنة ست وأربعمائة وأوفد بهديته أخاه زاوي بن زيري فلقيه بالطبول والبنود‏.‏ولما هلك حمامة قام بأمر بني يفرن من بعده أخوه الأمير أبو الكمال تميم بن زيري بن يعلى فاستبد بملكهم وكان مستقيما في دينه مولعاً بالجهاد فانصرف إلى جهاد برغواطة وسالم مغراوة وأعرض عن فتنتهم‏.‏ولما كانت أربع وعشرين وأربعماية تجددت العداوة بين هذين الحيين بني يفرن ومغراوة وثارت الإحن القديمة وزحف أبو الكمال صاحب شالة وتادلا وما إلى ذلك في جموع يفرن‏.‏وبرز إليه حمامة بن المعز في قبائل مغراوة ودارت بينهم حروب شديدة وانكشفت مغراوة وفر حمامة إلى وجدة واستولى الأمير أبو الكمال تميم وقومه على فاس وغلبوا مغراوة على عمل المغرب‏.‏واكتسح تميم اليهود بمدينة فاس واصطلم نعمهم واستباح حرمهم‏.‏ثم احتشد حمامة من وجدة سائر قبائل مغراوة وزناتة وبعث الحاشدين في قياطينهم لجميع بلاد المغرب الأوسط ووصل إلى تنس صريخاً لزعمائهم‏.‏وكاتب من بعد عنه من رجالاتهم وزحف إلى فاس سنة تسع وعشرين فأفرج عنها أبو الكمال تميم ولحق ببلده ومقر ملكه من شالة وأقام بمكان عمله وموطن أمارته منها إلى أن هلك سنة تسع وأربعين‏.‏وولي ابنه حماد إلى أن هلك سنة تسع وأربعين وولي بعده ابنه يوسف إلى أن توفي سنة ثمان وخمسين فولي بعده عمه محمد ابن الأمير أبي تميم إلى أن هلك في حروب لمتونة حين غلبوهم على المغرب أجمع حسبما نذكره والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏.‏وأما أبو يداس بن دوناس قاتل حبوس بن زيري بن يعلى بن محمد فإنه لما اختلف عليه بنو يفرن وأخفق أمله في اجتماعهم له أجاز البحر إلى الأندلس سنة اثنتين وثمانين فرفعه إخوانه أبو قرة وأبو زيد وعطاف فحل كلهم من المنصور محل التكرمة والإيثار ونظمه في جملة الرؤساء والأمراء وأسنى له الجراية والإقطاع وأثبت رجاله في الديوان ومن أجاز من قومه فبعد صيته وعلا في الدولة كعبه‏.‏ولما افترقت الجماعة وانتثر سلك الخلافة كان في حروب البربر مع جند الأندلس آثار بعيدة وأخبار غريبة‏.‏ولما ملك المستعين قرطبة سنة أربعمائة واجتمع إليه من كان بالأندلس من البرابرة لحق المهدي بالثغور واستجاش طاغية الجلالقة فزحف معه إلى غرناطة وخرج المستعين في جموعه من البرابرة إلى الساحل واتبعهم المهدي في جموعه فتواقعوا بوادي أيرة فكانت بين الفريقين جولة عظم بلاء البرابرة وطار لأبي يداس فيها ذكر وانهزم المهدي والطاغية وجموعهم بعد أن تضايقت المعركة وأصابت أبا يداس بن دوناس جراحة كان فيها مهلكه ودفن هناك‏.‏وكان لابنه خلوف وحافده تميم بن خلوف من رجالات زناتة بالأندلس شجاعة ورياسة وكان يحيى بن عبد الرحمن بن أخيه عطاف من رجالاتهم وكان له اختصاص ببني حمود ثم بالقاسم منهم ولاه على قرطبة أيام خلافته والبقاء لله وحده‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:31 PM

الخبر عن أبي نور بن أبي قرة وما كان له من الملك بالأندلس أيام الطوائف
هذا الرجل اسمه أبو نور بن أبي قرة بن أبي يفرن من رجالات البربر الذين استظهر بهم قومهم أيام الفتنة تغلب على رندة أزمان تلك الفتن وأخرج منها عامر بن فتوح من موالي الأموية سنة خمس وأربعمائة فملكها واستحدث بها لنفسه سلطاناً‏.‏ولما استفحل أمر ابن عباد بإشبيلية وأسف إلى تملك ما جاوره من الأعمال والثغور نشأت الفتنة بينه وبين أبي نور هذا‏.‏واختلف حاله معه في الولاية والانحراف وسجل له سنة ثلاث وأربعين برندة وأعمالها فيمن سجل له من البربر‏.‏واستدعاه بعدها سنة خمسين لبعض ولائمه وكاده بكتاب أوقفه عليه على لسان جارية بقصره تشكو إليه ما نال منها ابنه من المحرم فانطلق إلى بلده وقتل ابنه‏.‏وشعر بالمكيدة فمات أسفاً وولي ابنه الآخر أبو نصر إلى سنة سبع وخمسين فغدر به بعض جنده وخرج هارباً فسقط من السور ومات‏.‏وتسلم المعتمد رندة من بعد ذلك ويقال إن ذلك كان عند كائنة الحمام سنة خمس وأربعين وإن أبا نور هلك فيها‏.‏ولما بلغ الخبرابنه أبا نصر وقع ما وقع والله أعلم‏.‏


الخبر عن مرنجيصة من بطون بني يفرن وشرح أحوالهم
كان هذا البطن من بني يفرن بضواحي إفريقية وكانت له كثرة وقوة‏.‏ولما خرج أبو يزيد على الشيعة وكان من أخوالهم بنو واركوا ظاهروه على أمره بما كان له معهم من العصبية‏.‏ثم انقرض أمره وأخذتهم دولة الشيعة وأولياؤهم صنهاجة وولاتهم على إفريقية بالسطوة والقهر وإنزال العقوبات بالأنفس والأموال إلى أن تلاشوا وأصبحوا في عداد قبائل الغارمة‏.‏وبقيت منهم أحياء نزلوا ما بين القيروان وتونس أهل شاء وبقر وخيام يظعنون في نواحيها وينتحلون الفلح في معاشهم وملك الموحدون إفريقية وهم بهذه الحال وضربت عليهم المغارم والضرائب والعسكرة مع السلطان في غزواته بعدة مفروضة يحضرون بها متى استقروا‏.‏ولما تغلبت الكعوب من بني سليم على ضواحي إفريقية وأخرجوا منها الدواودة من رياح أعداء الدولة لذلك العهد‏.‏واستظهر بهم السلطان عليهم‏.‏اتخذوا إفريقية وطناً من قابس إلى باجة‏.‏ثم اشتدت ولايتهم للدولة وعظم الاستظهار بهم وأقطعهم ملك الدولة ما شاؤوه من الأعمال والخراج فكان في إقطاعهم خراج مرنجيصة هؤلاء‏.‏ولما كانت وقعة بنو مرين على القيروان وكان بعدها في الفترة ما كان من طغيان الفتنة التي اعتز فيها العرب على السلطان والدولة كان لهؤلاء الكعوب المتغلبين مدد قوي من أحياء مرنجيصة هؤلاء من الخيل للحملان والجباية للإنفاق والإنعام للحمال والخيالة للاستظهار بأعدادهم في الحروب فصاروا لهم لحمة وخولا وتملكوهم تملك العبيد حتى إذا ذهب الله بحمى الفتنة وأقام مائل الخلافة والدولة وصار تراث هذا الملك الحفصي إلى الأحق به مولانا السلطان أبي العباس أحمد فانقشع الجو وأضاء الأفق ودفع المتغلبين من العرب عن أعماله وقبض أيديهم عن رعاياه‏.‏وأصار مرنجيصة هؤلاء من صفاياه بعد إنزال العقوبة بهم على لياذهم بالعرب وظعنهم معهم فراجعوا الحق وأخلصوا في الانحياش ورجعوا إلى ما ألفوه من الغرامة وقوانين الخراج وهم على ذلك لهذا العهد‏.‏والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏


الخبر عن مغراوة من أهل الطبقة الأولى من زناتة وما كان لهم من الدول بالمغرب ومبدأ ذلك
هؤلاء القبائل من مغراوة كانوا أوسع بطون زناتة وأهل البأس والغلب ونسبهم إلى مغراوة بن يصلتين بن مسرا بن زاكيا بن ورسيك بن الديرت بن جانا إخوة بني يفرن وبني يرنيان وقد تقدم الخلاف في نسبهم عند ذكر بني يفرن‏.‏وأما شعوبهم وبطونهم فكثر مثل بني يلنت وبني زنداك وبني وراق وورتزمير وبني أبي سعيد وبني ورسيفان ولغواط وبني ريغة وغيرهم ممن لم يحضرني أسماؤهم‏.‏وكانت مجالاتهم بأرض المغرب الأوسط من شلف إلى تلمسان إلى جبل مديونة وما إليها ولهم مع إخوانهم بني يفرن اجتماع وافتراق ومناغاة في أحوال البدو‏.‏وكان لمغراوة هؤلاء في بدوهم ملك كبير أدركهم عليه الإسلام فأقره لهم وحسن إسلامهم‏.‏وهاجر أميرهم صولات بن وزمار إلى المدينة ووفد على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فلقاه براً وقبولاً لهجرته وعقد له على قومه ووطنه‏.‏وانصرف إلى بلاده محبواً محبوراً مغتبطاً بالدين مظاهراً لقبائل مضر فلم يزل هذا دأبه‏.‏وقيل إنه تقبض عليه أسيراً لأول الفتح في بعض حروب العرب مع البربر قبل أن يدينوا بالدين فأشخصوه إلى عثمان لمكانه من قومه فمن عليه وأسلم فحسن إسلامه‏.‏وعقد له على عمله فاختص صولات هذا وسائر الأحياء من مغرارة بولاء عثمان وأهل بيته من بني أمية وكانوا خاصة لهم دون قريش وظاهروا دعوة المروانية بالأندلس رعياً لهذا الولاء على ما تراه بعد في أخبارهم‏.‏أعظم ملوكهم‏.‏ثم لما هلك قام بأمره ابنه خزر‏.‏وعندما تقلص ظل الخلافة عن المغرب الأقصى بعض الشيء وأطلت فتنة ميسرة الحقير ومطخرة فاعتز خزر وقومه على أمراء المضرية بالقيروان واستفحل ملكهم وعظم شأن سلطانهم على البدو من زناتة بالمغرب الأوسط‏.‏ثم انتقض أمر بني أمية‏.‏بالمشرق فكانت الفتنة بالمغرب فازدادوا اعتزازاً وعتواً‏.‏وهلك خلال ذلك خزر وقام بملكه ابنه محمد وخلص إلى المغرب إدريس الأكبر بن الله بن حسن بن الحسن سنة سبعين ومائة في خلافة الهادي‏.‏وقام برابرة المغرب من أوربة ومدينة ومغيلة بأمره واستوثق له الملك واقتطع المغرب عن طاعة بني العباس سائر الأيام‏.‏ثم نهض إلى المغرب الأوسط سنة أربع وسبعين فتلقاه محمد بن خزر هذا وألقى إليه المقادة وبايع له عن قومه وأمكنه من تلمسان بعد أن غلب عليها بني يفرن أهلها‏.‏وانتظم لإدريس بن إدريس الأمر وغلب على جميع أعمال أبيه وملك تلمسان‏.‏وقام بنو خزر هؤلاء بدعوته كما كانوا لأبيه‏.‏وكان قد نزل تلمسان لعهد إدريس الأكبر أخوه سليمان بن عبد الله بن حسن بن الحسن القادم إليه من المشرق وسجل له بولاية تلمسان من سجل ابنه إدريس لمحمد ابن عمه سليمان من بعده فكانت ولاية تلمسان وأمصارها في عقبه واقتسموا ولاية ثغورها الساحلية فكانت تلمسان لولد إدريس بن محمد بن سليمان وأرشكول لولد عيسى بن محمد وتنس لولد ولم يزل الملك بضواحي المغرب الأوسط لمحمد بن خزر كما قلناه إلى أن كانت دولة الشيعة واستوثق لهم ملك إفريقية‏.‏وسرح عبيد الله المهدي إلى المغرب عروبة بن يوسف الكتامي في عساكر كتامة سنة ثمان وتسعين ومائتين فدوخ المغرب الأدنى ورجع‏.‏ثم سرح بعده مصالة بن حبوس إلى المغرب في عساكر كتامة فاستولى على أعمال الأدارسة واقتضى طاعتهم لعبيد الله‏.‏وعقد على فاس ليحيى بن إدريس بن عمر آخر ملوك الأدارسة‏.‏وخلع نفسه ودان بطاعتهم وعقد له مصالة على فاس وعقد لموسى بن أبي العالية أمير مكناسة وصاحب تازة واستولى على ضواحي المغرب وقفل إلى القيروان وانتقض عمر بن خزر من أعقاب محمد بن خزر الداعية الإدريس الأكبر وحمل زناتة وأهل المغرب الأوسط على البرابرة من الشيعة وسرح عبيد الله المهدي مصالة قائد المغرب في عساكر كتامة سنة تسع ولقيه محمد بن خزر في جموع مغراوة وسائر زناتة ففل عساكر مصاله وخلص إليه فقتله‏.‏وسرح عبيد الله ابنه أبا القاسم في العساكر إلى المغرب سنة عشر وعقد له على حرب محمد بن خزر وقومه فأجفلوا إلى الصحراء واتبع آثارهم إلى ملوية فلحقوا بسلجماسة وعطف أبو القاسم على المغرب فدوخ أقطاره وجال في نواحيه وجدد لابن أبي العافية على عمله ورجع ولم يلق كيداً‏.‏ثم إن الناصر صاحب قرطبة سما له أمل في ملك العدوة فخاطب ملوك الأدارسة وزناتة وبعث إليهم خالصته محمد بن عبيد الله بن أبي عيسى سنة ست عشرة فبادر محمد بن خزر إلى إجابته وطرد أولياء الشيعة من الزاب‏.‏وملك شلب وتنس من أيديهم وملك وهران وولى عليها ابنه الخير وبث دعوة الأموية في أعمال المغرب الأوسط ما عدا تاهرت‏.‏وبدأ في القيام بدعوة الأموية إدريس بن إبراهيم بن عيسى بن محمد بن سليمان صاحب أرشكول‏.‏ثم فتح الناصر سبتة سنة سبع عشرة من يد الأدارسة وأجاز موسى بن أبي العالية على طاعته واتصلت يده بمحمد بن خزر وتظاهروا على الشيعة‏.‏وخالف فلفول بن خزر أخاه محمد إلى طاعة الشيعة وعقد له عبد الله على مغراوة‏.‏وزحف إلى المغرب حميد بن يصل سنة إحدى وعشرين في عساكر كتامة إلى عبد الله على تاهرت فانتهى إلى فاس وأجفلت أمامه ظواعن زناتة ومكناسة ودوخ المغرب‏.‏وزحف من بعده ميسور الخصي سنة اثنتين وعشرين فحاصر فاس وامتنعت عليه ورجع‏.‏ثم انتقض حميد بن يصل سنة ثمان وعشرين وتحيز إلى محمد بن خزر‏.‏ثم أجاز إلى الناصر وولاه على المغرب الأوسط‏.‏ثم شغل الشيعة بفتنة أي يزيد وعظمت آثار محمد بن خزر وقومه من مغراوة‏.‏وزحفوا إلى تاهرت مع حميد بن يصل قائد الأموية سنة ثلاث وثلاثين‏.‏وزحف معه الخير بن محمد وأخوه حمزة وعمه عبد الله بن خزر ومعهم يعلى بن محمد في قومه بني يفرن وأخذوا تاهرت عنوة وقتلوا عبد الله بن بكار وأسروا قائدها ميسور الخصي بعد أن قتل حمزة بن محمد بن خزر في حروبها‏.‏وكان محمد بن خزر وقومه زحفوا قبل ذلك إلى بسكرة ففتحوا وقتلوا زيدان الخصي‏.‏ولما خرج إسمعيل من حصار أبي يزيد وزحف إلى المغرب في أتباعه خشية محمد بن خزر على نفسه لما سلف منه في نقض دعوتهم وقتل أتباعهم فبعث إليه بطاعة معروفة‏.‏وأوعز إليه إسمعيل بطلب أبي يزيد ووعده في ذلك بعشرين حملا من مال‏.‏وكان أخوه معبد بن خزر في موالاة أبي يزيد إلى أن هلك‏.‏وتقبض إسمعيل بعد ذلك على معبد سنة أربعين وقتله ونصب رأسه بالقيروان‏.‏ولم يزل محمد بن خزر وابنه خير متغلباً على المغرب الأوسط ومقاسماً فيها ليعلى بن محمد‏.‏ووفد فتوح بن الخير سنة أربعين على الناصر مع مشيخة تاهرت ووهران فأجازهم وصرفهم إلى أعمالهم‏.‏ثم حدثت الفتنة بين مغراوة وصنهاجة وشغل محمد بن خزر وابنه الخير بحروبهم وتغلب يعلى بن محمد على وهران وخربها وعقد الناصر لحميد بن يصل على تلمسان وأعمالها وليعلى بن محمد على المغرب وأعماله فراجع محمد بن خزر لاعة الشيعة من أجل قريعة يعلى بن محمد‏.‏ووفد على المعز بعد مهلك أبيه إسمعيل سنة اثنتين وأربعين فأولاه تكرمة على طاعتهم إلى أن حضر مع جوهر في غزاته إلى المغرب بأعوام سبع أو ثمان وأربعين‏.‏ثم وفد على المعز بعد ذلك سنة خمسين وهلك بالقيروان وقد نيف على المائة من السنين‏.‏وهلك الناصر المرواني عامئذ على حين انتشرت دعوة الشيعة بالمغرب وانقبض أولياء الأموية إلى أعمال سبتة وطنجة فقام بعده ابنه الحكم المستنصر واستأنف مخاطبة ملوك العدوة فأجابه محمد بن الخير بن حمد بن خزر بما كان من أبيه الخير وجده محمد في ولاية الناصر والولاية التي لبني أمية على آل خزر بوصية عثمان بن عفان لصولات بن وزمار جدهم كما ذكرناه فأثخن في الشيعة ودوخ بلادهم‏.‏ورماه معد بقريعه زيري بن مناد أمير صنهاجة فعقد له على حرب زناتة وسوغه ما غلب عليه من أعمالهم وجمعوا للحرب سنة ستين ومائتين فلقي بلكين بن زيري جموعهم بدسيسة من بعض أولياء محمد بن الخير قبل أن يستكمل تعبيتهم فأبلى منهم ثباتاً وصبراً واشتدت الحرب بينهم وانهزمت زناتة حتى إذا رأى محمد بن الخيران قد أحيط به انتبذ إلى ناحية من العسكر وذبح نفسه‏.‏واستمرت الهزيمة على قومه وجندل منهم في المعركة سبعة عشر أميراً سوى الأتباع‏.‏وتحيز كل إلى فريقه‏.‏وولي بعد محمد في مغراوة ابنه الخير وأغرى بلكين بن زيري الخليفة معد وجندل بن جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة والزاب بموالاة حمد بن الخير فاستراب جعفر وبعث عنه معد لولاية إفريقية حتى اعتزم على الرحيل إلى القاهرة فاشتدت استرابته ولحق بالخير بن محمد وقومه‏.‏وزحفوا إلى صنهاجة فأتيحت لهم الكرة وأصيب زيري بن مناد كبير العصابة وبعثوا برأسه إلى قرطبة في وفد من وجوه بني خزر مع يحيى بن علي أخي جعفر‏.‏ثم استراب بعدها جعفر من زناتة ولحق بأخيه يحيى ونزلوا على الحكم‏.‏وعقد معد لبلكين بن زيري على حرب زناتة وأمده بالأموال والعساكر وسوغه ما تغلب عليه من أعمالهم فنهض إلى المغرب سنة إحدى وستين وأوغر بالبرابرة منهم وتقرى أعمال طبنة وباغاية والمسيلة وبسكرة وأجفلت زناتة أمامه‏.‏وتقدم إلى تاهرت فمحا من المغرب الأوسط آثار زناتة ولحق بالمغرب الأقصى‏.‏واتبع بلكين آثار الخير بن محمد وقومه إلى سجلماسة فأوقع بهم وتقبض عليهم فقتله صبراً وفض جموعهم ودوخ المغرب وانكفأ راجعاً‏.‏ومر بالمغرب الأوسط فاستلحم بوادي زناتة ومن إليهم من الخصاصين ورفع الأمان عن كل من ركب فرسا أو أشج خيلا من سائر البربر‏.‏ونذر دماءهم فأقفر المغرب الأوسط من زناتة وساروا إلى ما وراء ملوية من بلاد المغرب الأقصى إلى أن كان من رجوع بني يعلى بن محمد إلى تلمسان وملكهم إياها ثم هلك بنو خزر بسجلماسة وطرابلس وملك بني زيري بن عطية بفاس ما نحن ذاكروه إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن آل زيري بن عطية ملوك فاس وأعمالها من الطبقة الأولى من مغراوة
وما كان لهم بالمغرب الأقصى من الملك والدولة ومبادئ ذلك وتصاريفه كان زيري هذا أمير آل خزر في وقته ووارث ملكهم البدوي وهو الذي مهد الدولة بفاس والمغرب الأقصى وأورثها بنيه إلى عهد لمتونة حسبما نستوفي شرحه‏.‏واسمه زيري بن عطية بن عبد الله بن خزر وجده عبد الله أخو محمد داعية الناصر الذي بالقيروان كما ذكرناه وكانوا أربعة إخوة‏:‏ محمد ومعبد الذي قتله إسمعيل وفلفول الذي خالف محمداً إلى ولاية الشيعة وعبد الله هذا وكان يعرف بأمه واسمها تبادلت‏.‏وقد قيل إن عبد الله هذا هو ابن محمد بن خزر وأخوه حمزة بن محمد الهالك في حربه مع ميسور عند فتح تاهرت‏.‏ولما هلك الخير بن محمد كما قلناه بيد بلكين سنة إحدى وستين وارتحلت زناتة إلى ما وراء ملوية من المغرب الأقصى وصار المغرب الأوسط كله لصنهاجة واجتمع مغراوة إلى بقية آل خزر وأمراؤهم يومئذ محمد بن خير المذكور ومقاتل وزيري ابنا مقاتل بن عطية بن عبد الله وخزرون بن فلفول‏.‏ثم كان ما ذكرناه من ولاية بلكين بن زيري على إفريقية وزحف إلى المغرب الأقصى زحفه المشهور سنة تسع وستين وأجفلت أمامه ملوك زناتة من بني خزر وبني محمد بن صالح وانحازوا جميعاً إلى سبتة‏.‏وأجاز محمد بن الخير البحر إلى المنصور بن أبي عامر صريخاً فخرج المنصور في عساكره إلى الجزيرة مدداً لهم بنفسه‏.‏وعقد لجعفر بن علي على حرب بلكين وأجازه البحر وأمده بمائة حمل من المال فاجتمعت إليه ملوك زناتة وضربوا مصافهم بساحة سبتة وأظل عليهم بلكين من جبل تطاون فرأى ما لا قبل له به فارتحل عنهم وأشغل نفسه بجهاد برغواطة إلى أن هلك منصرفاً من المغرب سنة اثنتين وسبعين كما ذكرناه‏.‏وعاد جعفر بن علي إلى مكانه من الحضرة وساهمه المنصور في حمل الرياسة وبقي المغرب غفلا من الولاية واقتصر المنصور على ضبط سبتة ووكل إلى ملوك زناتة دفاع صنهاجة وسائر أولياء الشيعة‏.‏وقام يبلو طاعتهم إلى أن قام بالمغرب الحسن بن كنون من الأدارسة بعثه العزيز نزار من مصر لاسترجاع ملكه بالمغرب وأمده بلكين بعسكر من صنهاجة وهلك على تفيئة ذلك بلكين ودعا الحسن إلى أمره بالمغرب‏.‏وانضم إليه بدوي بن يعلى بن محمد اليفرني وأخوه زيري وابن عمه أبو يداس فيمن إليهم من بني يفرن فسرح المنصور لحربه ابن عمه أبا الحكم عمرو بن عبد الله بن أبي عامر الملقب عسكلاجة وبعثه بالعساكر والأموال فأجاز البحر وانحاش إليه ملوك آل خزر محمد بن الخير ومقاتل وزيري ابنا عطية وخزرون بن فلفول في جمع مغراوة وظاهروه على شأنه‏.‏وزحف بهم أبو الحكم بن أبي عامر إلى الحسن بن كنون حتى ألجأوه إلى الطاعة وسأل الأمان على نفسه فعقد له عمرو بن أبي عامر ما رضيه من ذلك وأمكن به من قياده وأشخصه إلى الحضرة فكان من قتله وإخفار ذمة أبي الحكم بن أبي عامر وقتله بعده ما تقدم حسبما ذكرنا ذلك من قبل‏.‏وكان مقاتل وزيري ابنا عطية من بين ملوك زناتة أشد الناس انحياشاً للمنصور قياماً بطاعة المروانية‏.‏وكان بدوي بن يعلى وقومه بنو يفرن منحرفين عن طاعتهم‏.‏ولما انصرف أبو الحكم بن أبي عامر عن المغرب عقد المنصور عليه للوزير حسن بن أحمد عبد الودود السلمي وأطلق يده في انتقاء الرجال والأموال فأنفذه إلى عمله سنة ست وسبعين وأوصاه بملوك مغراوة من زناتة واستبلغ بمقاتل وزيري من بنيهم لحسن انحياشهم وطاعتهم وأغراه ببدوي بن يعلى المضطرب الطاعة الشديد المراوغة فنفذ لعمله ونزل بفاس وضبط أعمال المغرب واجتمعت إليه ملوك زناتة‏.‏وهلك مقاتل بن عطية سنة ثمان وسبعين واستقل برياسة الظواعن البدو عن مغراوة أخوه زيري بن عطية وحسنت مخاللته لابن عبد الودود صاحب المغرب وانحياشه بقومه إليه‏.‏واستدعاه المنصور من محله بفاس سنة إحدى وثمانين إشادة بتكريمه وأغراه ببدوي بن يعلى بمنافسته في الخط وإيثار الطاعة فبادر إلى إجابته بعد أن استخلف على المغرب ابنه المعز وأنزله بتلمسان ثغر المغرب وولى عن عدوة القرويين من فاس علي بن محمود بن أبي علي قشوش وعلى عدوة الأندلسيين عبد الرحمن بن عبد الكريم بن ثعلبة‏.‏وقدم بين يديه هدية إلى المنصور ووفد عليه فاستقبله بالجيش والعدة واحتفل للقائه وأوسع نزله وجرايته ونوه باسمه في الوزارة وأقطعه رزقها‏.‏وأثبت رجاله الديوان ووصله بقيمة هديته وأسنى فيها وأعظم جائزة وفده وعجل تسريحه إلى عمله فقفل إلى إمارته من المغرب‏.‏ونمي عنه خلاف ما احتسب فيه من غمط المعروف وإنكار الصنيع والاستنكاف من لقب الوزارة التي نوه به حتى أنه قال لبعض حشمه وقد دعاه بالوزير‏:‏ وزير من يا لكع لا والله إلا أمير ابن أمير واعجباً من ابن أبي عامر وخرفته والله لو كان بالأندلس رجل ما تركه على حاله وإن له منا ليوماً والله لقد تأجرني فيما أهديت حطا للقيم ثم غالطني بما بدله تبتيتاً للكرم إلا أن يحتسب بثمن الوزارة التي حطني بها عن رتبتي‏.‏ونمي ذلك إلى ابن أبي عامر فصر عليها أذنه وزاد في اصطناعه وبعث إلى يدو بن يعلى اليفرني قريعه في ملك زناتة يدعوه إلى الوفادة فأساء إجابته وقال‏:‏ متى عهد المنصور حمر الوحش تنقاد إلى البياطرة‏.‏وأخذ في إفساد السابلة والأجلاب على الأحياء والعيث في العمالة فأوعز المنصور إلى عامله على المغرب الوزير حسن برت عبد الودود بنبذ العهد إليه ومظاهرة عدوه زيري بن عطية عليه فجمعوا له سنة إحدى وثمانين ولقوه فكانت الدائرة عليهم وتخرم العسكر وأثبتت الوزير ابن عبد الودود جراحة كان فيها حتفه‏.‏وبلغ الخبرإلى المنصور فشق عليه وأهمه شأن المغرب وعقد عليه لوقته لزيري بن عطية وكتب إليه بعهده وأمره بضبط المغرب ومكاتبة جند السلطان وأصحاب حسن بن عبد الودود فاضطلع بأعبائه وأحسن الغناء في عمله‏.‏واستفحل شأن يدو بن يعلى وبني يفرن واستغلظوا على زيري بن عطية وأصلوه نار الفتنة وكانت حربهم سجالاً‏.‏وسيمت الرعايا بفاس كثرة تعاقبهم عليها وانتزائهم على عملها‏.‏وبعث الله لزيري بن عطية ومغراوة مدداً من أبي البهار بن زيري بن مناد بما كان انتقص لذلك العهد على أخيه منصور بن بلكين صاحب القيروان وإفريقية ونزع عن دعوة الشيعة إلى المروانية‏.‏واقتفى أثره في ذلك خلوف بن أبي بكر صاحب تيهرت لصهر كان بينهما وبين زيري فاقتطعوا أعمال المغرب الأوسط ما بين الزاب ووانشريش ووهران وخطبوا في سائر منابرها باسم هشام المؤيد‏.‏وخاطب أبو البهار من وراء البحر المنصور بن أبي عامر وأوفد عليه أبا بكر ابن أخيه حبوس بن زيري في طائفة من أهل بيته ووجوه قومه فاستقبلوا بالجيش ولقاه رحباً وتسهيلاً وأعظم موصله وأسنى جوائز وفده وصلاتهم وأنفذ معه إلى عمه أبي البهار بخمسماية قطعة من صنوف الثياب الخز والعبيد وقيمة عشرة آلاف درهم من الآنية والحلي وبخمسة وعشرين ألفا من الدنانير ودعاه إلى مظاهرة زيري بن عطية على يدو بن يعلى وقسم بينهما عمل المغرب شق الأبلمة حتى لقد اقتسما مدينة فاس عدوة بعدوة فلم يرع ذلك يدو ولا وزعه عن شأنه من الفتنة والأجلاب على البدو والحاضرة وشق عصا الجماعة‏.‏وانتقض خلوف بن أبي بكر على المنصور لوقته وراجع ولاية المنصور بن بلكين‏.‏ومرض أبو البهار في المظاهرة عليه للوصلة بينهما وقعد عما قام له زيري بن عطية من حرب خلوف بن أبي بكر وأوقع به زيري في رمضان سنة إحدى وثمانين واستلحمه وكثيراً من أوليائه واستولى على عسكره وانحاش إليه عامة أصحابه‏.‏وفر عطية شريداً إلى الصحراء ثم نهض على أثرها ليدو بن يعلى وقومه فكانت بينهما لقاءة صعبة انكشف فيها أصحاب يدو واستلحم منهم زهاء ثلاثة آلاف واكتسح معسكره وسبيت حرمه التي كانت منهن أمه وأخته وتحيز سائر أصحابه إلى فئة زيري وخرج شريداً إلى الصحراء إلى أن اغتاله ابن عمه أبو يداس بن دوناس حسبما ذكرناه‏.‏وورد خبر الفتحين متعاقبين على المنصور فعظم موقعهما لديه‏.‏قيل إن مقتل يدو إنما كان عند إياب زيري من الوفادة وذلك أنه لما استقدمه المنصور ووفد عليه كما ذكرناه خالفه يدو إلى فاس ودخلها وقتل بها من مغراوة خلقا واستمكن بها أمره‏.‏فلما رجع زيري من وفادته امتنع به يدو فنازله زيري وطال الحصار وهلك من الفريقين خلق‏.‏ثم اقتحمها عليه عنوة فقتل وبعث برأسه إلى سدة الخلافة بقرطبة‏.‏إلا أن راوي هذا الخبر يجعل وفادة زيري على المنصور وقتله ليدو سنة ثلاث وثمانين فالله أعلم أي ذلك كان‏.‏ثم إن زيري فسد ما بينه وبين أبي البهار الصنهاجي وتزاحفا فأوقع به زيري‏.‏وانهزم أبو البهار إلى سبتة مورياً بالعبور إلى المنصور فبادر بكاتبه عيسى بن سعيد بن القطاع في قطعة من الجند إلى تلقيه فحاد عن لقائه‏.‏وصعد إلى قلعة جراوة وقد قدم الرسل على ابن أخيه المنصور صاحب القيروان مستميلا إلى أن التحم ذات بينهما‏.‏ثم تحيز إليه وعاد إلى مكانه من عمله وخلع ما تمسك به من طاعة الأموية وراجع طاعة الشيعة فجمع المنصور لزيري بن عطية أعمال المغرب‏.‏واستكفى به في سد الثغر وعول عليه من بين ملوك المغرب في الذب عن الدعوة وعهد إليه بمناجزة أبي البهار‏.‏وزحف إليه زيري في أمم عديدة من قبائل زناتة وحشود البربر وفر أمامه ولحق بالقيروان‏.‏واستولى زيري على تلمسان وسائر أعمال أبي البهار‏.‏وملك ما بين السوس الأقصى والزاب فاتسع ملكه وانبسط سلطانه واشتدت شوكته وكتب بالفتح إلى المنصور‏.‏وبعث إليه بمايتين من عتاق الخيل وخمسين جملاً من المهارى السبق وألف دوقة من جلود اللمط وأحمال من قسي الزان وقطوط الغالية والزرافة وأصناف الوحوش الصحراوية كاللمط وغيره وألف حمل من التمر وأحمال من ثياب الصوف الرفيعة كثيرة فجدد له عهده على المغرب سنة إحدى وثمانين وأنزل أحياءه بأنحاء فاس في قياطنهم‏.‏واستفحل أمر زيري بالمغرب ودفع بني يفرن عن فاس إلى نواحي سلا واختط مدينة وجدة سنة أربع وثمانين وأنزلها عساكره وحشمه واستعمل عليها ذويه ونقل إليها ذخيرته وأعدها معتصماً فكانت ثغراً لعمله بين المغرب الأقصى والأوسط‏.‏ثم فسد ما بينه وبين المنصور سنة ست وثمانين بما نمي عنه من التأنف لهشام باستبداد المنصور عليه فسامه المنصور الهضيمة‏.‏وأبى منها فبعث كاتبه ابن القطاع في العسكر فاستعصى عليه‏.‏وأمكنه قائد قلعة حجر النسر منها فأشخصه إلى الحضرة‏.‏وأحسن إليه المنصور وسقاه الناصح وكشف زيري وجهه في عداوة ابن أبي عامر والإغراء به والتشيع لهشام المؤيد والامتعاض له من هضيمته وحجره فسخط ابن أبي عامر وقطع عنه رزق الوزارة ومحا اسمه من ديوانها وناس بالبراءة منه‏.‏وعقد لواضح مولاه على المغرب وعلى حرب زيري بن عطية وانتقى له الحماة من سائر الطبقات وأزاح عللهم‏.‏وأمكنه من الأموال للنفقات وأحمال السلاح والكسى وأصحبه طائفة من ملوك العدوة كانوا بالحضرة منهم‏:‏ محمد بن الخير بن محمد بن الخير وزيري بن خزر وابن عمهما بكساس بن سيد الناس‏.‏ومن بني يفرن أبو نوبخت بن عبد الله بن بكار‏.‏ومن مكناسة إسماعيل بن البوري ومحمد بن عبد الله بن مدين ومن أزداجة خزرون بن محمد وأمده بوجوه الجند‏.‏وفصل من الحضرة سنة سبع وثمانين وسار في التعبية‏.‏وأجاز البحر إلى طنجة فعسكر بوادي ركاب وزحف زيري بن عطية في قومه فعسكر إزاءه وتواقفا ثلاثة أشهر‏.‏واتهم واضح رجالات بني برزال بالإدهان فأشخصهم إلى الحضرة‏.‏وأغرى بهم المنصور فوبخهم‏.‏وتنصلوا فصفح عنهم وبعثهم في غير ذلك الوجه‏.‏ثم تناول واضح حصن أصيلا ونكور فضبطهما‏.‏واتصلت الوقائع بينه وبين زيري وبيت واضح معسكر زيري بنواحي أصيلا وهم غازون فأوقع بهم‏.‏وخرج ابن أبي عامر من الحضرة لاستشراف أحوال واضح وإمداده فسار في التعبئة واحتل بالجزيرة عند فرضة المجاز‏.‏ثم بعث عن ابنه المظفر من مكان استخلافه بالزاهرة وأجازه إلى العدوة واستكمل معه أكابر أهل الخدمة وجلة القواد‏.‏وقفل المنصور إلى قرطبة واستذاع خبر عبد الملك بالمغرب فرجع إليه عامة أصحاب زيري في ملوك البربر وتناولهم من إحسانه وبره ما لم يعهدوا مثله‏.‏وزحف عيد الملك إلى طنجة واجتمع مع واضح وتلوم هنالك مزيحا لعلل العسكر فلما استتم تدبيره زحف في جمع لا كفاء له‏.‏ولقيه زيري بوادي منى من أحواز طنجة في شوال من سنة ثمان وثمانين فدارت بينهما حرب شديدة هم فيها أصحاب عبد الملك وثبت هو‏.‏وبينما هم في حومة الحرب إذا طعن زيري بعض الموتورين من أتباعه اهتبل الغرة في ذلك الموقف فطعنه ثلاثا في نحره وأشواه بها ومر يشتد نحو المظفر وبشره فاستكذبه به لثبوت رايته‏.‏ثم سقط إليه الصحيح فشد عليهم فاستوت الهزيمة وأثخن فيهم بالقتل واستولى على ما كان في معسكرهم مما يذهب فيه الوصف‏.‏ولحق زيري بفاس جريحاً في قلة فامتنع عليه أهلها ودافعوه بحرمه فاحتملهن وفر أمام العسكر إلى الصحراء وأسلم جميع أعماله‏.‏وطير عبد الملك بالفتح إلى أبيه فعظم موقعه عنده وأعلن بالشكر لله والدعاء وبث الصدقات وأعتق الموالي وكتب إلى ابنه عبد الملك بعهده على المغرب فأصلح نواحيه وسد ثغوره وبعث العمال في جهاته‏:‏ فأنفذ محمد بن حسن بن عبد الودود في جند كثيف إلى تادلا واستعمل حميد بن يصل الكتامي على سجلماسة فخرج كل لوجهه واقتضوا الطاعة وحملوا إليه الخراج فأقفل المنصور ابنه عبد الملك في جمادى من سنة تسع وثمانين وعقد على المغرب لواضح فضبطه واستقام على تدبيره‏.‏ثم عزله في رمضان من سنته بعبيد الله ابن أخيه يحيى ثم ولى عليه من بعده إسماعيل بن البوري ثم من بعده أبا الأحوص مقن بن عبد العزيز التجيبي إلى أن هلك المنصور‏.‏وأعاد المظفر المعز بن زيري من منتبذه الأوسط إلى ولاية أبيه بالمغرب فنزل بفاس وكان من خبر زيري أنه لما استقل من نكبته وهزيمة عبد الملك إياه واجتمع إليه بالصحراء من مغراوة وبلغه اضطراب صنهاجة واختلافهم على باديس بن المنصور عند مهلك أبيه وأنه خرج عليه عمومته مع ماكسن بن زيري فصرف وجهه حينئذ إلى أعمال صنهاجة ينتهز فيها الفرصة‏.‏واقتحم المغرب الأوسط ونازل تاهرت وحاصر بها يطوفت بن بلكين‏.‏وخرج باديس من القيروان صريخاً له‏.‏فلما مر بطبنة امتنع عليه فلفول بن خزرون وخالفه إلى إفريقية فشغل بحربه‏.‏وقد كان أبو سعيد بن خزرون لحق بإفريقية وولاه المنصور بن بلكين على طبنة كما نذكره فلما انتقض سار إليه باديس ودفع حماد بن بلكين في عساكر صنهاجة إلى مدافعة زيري بن عطية فالتقيا بوادي مناس قرب تاهرت فكانت الدبرة على صنهاجة واحتوى زيري على معسكرهم واستلحم ألوفاً منهم‏.‏وفتح مدينة تاهرت وتلمسان وشلف وتنس والمسيلة‏.‏وأقام الدعوة فيها كلهما للمؤيد هشام ولحاجبه المنصور من بعده‏.‏ثم اتبع آثار صنهاجة إلى أشير قاعدة ملكهم فأناخ عليها‏.‏واستأمن إليه زاوي بن زيري ومن معه من أكابر أهل بيته المنازعين لباديس فأعطاه منه ما سأل‏.‏وكتب إلى المنصور بذلك يسترضيه ويشترطه على نفسه الرهن والاستقامة أن أعيد إلى الولاية ويستأذن في قدوم زاوي وأخيه خلال وأذن لهما فقدما سنة تسعين وسأل أخوهما أبو البهار مثل ذلك وأنفذ رسله تذكر بقديمه فسوفه المنصور لما سبق من نكثه‏.‏واعتل زيري بن عطية وهو بمكانه من حصار أشير فأفرج عنها‏.‏وهلك في منصرفه سنة إحدى وتسعين واجتمع آل خزر وكافة مغراوة من بعده على ابنه المعز بن زيري فبايعوه وضبط أمرهم وأقصر على محاربة صنهاجة‏.‏ثم استجدى للمنصور واعتلق بالدعوة العامرية وصلحت حاله عندهم‏.‏وهلك المنصور خلاك ذلك ورغب المعز من ابنه عبد الملك المظفر أن يعيده إلى عمله على مال يحمله إليه وعلى أن يكون ولده معنصر رهينة بقرطبة فأجابه إلى ذلك وكتب له عهده وأنفذ به وزيره أبا محمد علي بن جدلم ونسخته‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد‏.‏من الحاجب المظفر سيف دولة الإمام الخليفة هشام المؤيد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر إلى كافة مديني فاس وكافة أهل المغرب سلمهم الله‏.‏أما بعد أصلح الله شأنكم وسلم أنفسكم وأديانكم فالحمد لله علام الغيوب وغفار الذنوب ومقلب القلوب ذي البطش الشديد المبدي المعيد الفعال لما يريد لا راد لأمره ولا معقب لحكمه بل له الملك والأمر وبيده الخير والشر‏.‏إياه نعبد وإياه نستعين وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون‏.‏صلى الله على محمد سيد المرسلين وعلى آله الطيبين وعلى جميع النبيين والمرسلين والسلام عليكم أجمعين‏.‏وإن المعز بن زيري بن عطية أكرمه الله تابع لدينا رسله وكتبه متنصلا من هنات دفعته إليها ضرورات ومستغفراً من سيئات حطتها من توبته حسنات والتوبة محاء للذنب والاستغفار منقذ من العتب‏.‏وإذا أذن الله بشيء يسره وعسى أن تكرهواً شيئاً ولكم فيه خير‏.‏وقد وعد من نفسه استشعار الطاعة ولزوم الجادة واعتقاد الاستقامة المعونة وخفة المونة فوليناه ما قبلكم وعهدنا إليه أن يعمل بالعدل فيكم وأن يرفع أحكام الجور عنكم‏.‏وأن يعمر سبلكم وأن يقبل من محسنكم ويتجاوز عن مسيئكم إلا في حدود الله تبارك وتعالى‏.‏وأشهدنا الله عليه بذلك وكفى بالله شهيداً‏.‏وقد وجهنا الوزير أبا محمد علي بن جدلم أكرمه الله وهو من ثقاتنا ووجوه رجالنا ليأخذ ميثاقه ويؤكد العهد فيه عليه بذلك وأمرناه بإشراككم فيه ونحن بأمركم معتنون ولأحوالكم مطالعون وأن يقضي على الأعلى للأدنى ولا يرتضي فيكم بشيء من الأذى فثقوا بذلك واسكنوا إليه‏.‏وليمض القاضي أبو عبد الله أحكامه مشدوداً ظهره بنا معقوداً سلطانه بسلطاننا ولا تأخذه في الله لومة لائم‏.‏فلذلك طبنا به إذ وليناه وأملنا فيه إذ قلدناه والله المستعين وعليه التكلان لا إله إلا هو‏.‏تبلغوا منا سلاماً طيباً جزيلاً ورحمة الله وبركته‏.‏ولما وصل إلى المعز بن زيري عهد المظفر إليه بولايته على المغرب ما عدا كورة سجلماسة فإن واضحاً مولى المنصور عهد بها في ولايته على المغرب لوانودين بن خزرون بن فلفول حسبما نذكر بعد فلم تدخل في ولاية المعز هذه‏.‏فلما وصله عهد المظفر ضم نشره وثاب إليه نشاطه وبث عماله في جميع كور المغرب وجبا خراجها‏.‏ولم تزل ولايته متسعة وطاعة رعاياه منتظمة‏.‏ولما افترق أمر الجماعة بالأندلس واختل رسم الخلافة وصار الملك فيها طوائف استحدث المعز رأيا في التغلب على سجلماسة وانتزاعها من أيدي بني وانودين بن خزرون فأجمع لذلك‏.‏ونهض إليه سنة سبع وأربعمائة وبرزوا إليه في جموعهم فهزموه‏.‏ورجع إلى فاس في فل من قومه‏.‏وأقام على الاضطراب من أمره إلى أن هلك سنة سبع عشرة وولي من بعده ابن عمه حمامة بن المعز بن عطية وليس كما يزعم بعض المؤرخين أنه ابنه وإنما هو اتفاق في الأسماء أوجب هذا الغلط فاستولى حمامة هذا على عملهم واستفحل ملكه وقصده الأمراء والعلماء وانتابته الوفود ومدحه الشعراء‏.‏ثم نازعه الأمر أبو كمال تميم بن زيري بن يعلى اليفرني في سنة أربع وعشرين من بني يذو بن يعلى المتغلبين على نواحي سلا وزحف إلى فاس في قبائل بني يفرن ومن انضاف إليهم من زناتة‏.‏وبرز إليه حمامة في جموع مغراوة ومن إليهم فكانت بينهم حرب شديدة أجلت عن هزيمة حمامة‏.‏وهلك من مغراوة أمم واستولى تميم وبنو يفرن على فاس وأعمال المغرب‏.‏ولما دخل فاس استباح يهود وسبا حرمهم واصطلم نعمتهم‏.‏ولحق حمامة بوجدة فاحتشد من هنالك من قبائل مغراوة من أنجاد مديونه وملوية‏.‏وزحف إلى فاس فدخلها سنة تسع وعشرين وتحيز تميم إلى موضع إمارته من سلا وأقام حمامة في سلطان المغرب وزحف إليه سنة ثلاثين وأربعمائة صاحب القلعة القائد ابن حماد في جموع صنهاجة‏.‏وخرج إليه حمامة مجمعاً حربه وبث القائد عطاءه في زناتة واستفسدهم على صاحبهم حمامة فأقصر عن لقائه ولاذ منه بالسلم والطاعة فرجع القائد عنه ورجع هو إلى فاس‏.‏وهلك سنة إحدى وثلاثين فولي من بعده ابنه دوناس ويكنى أبا العطاف فاستولى على فاس وسائر عمل أبيه وخرج إليه لأول أمره حماد ابن عمه معنصر بن المعز فكانت له معه حروب ووقائع وكثرت جموع حماد فغلب دوناس على الضواحي وأحجره بمدينة فاس وخندق دوناس على نفسه الخندق المعروف بسياج حماد‏.‏وقطع حماد جرية الوادي عن عدوة القرويين إلى أن هلك محاصراً لها سنة خمس وثلاثين فاستقامت دولة دوناس وانفسحت أيامه وكثر العمران ببلده‏.‏واحتفل في تشييد المصانع وأدار السور على أرباضها وبنى بها الحمامات والفنادق فاستبحر عمرانها ورحل التجار بالبضائع إليها‏.‏وهلك دوناس سنة إحدى وخمسين فولي من بعده ابنه الفتوح ونزل بعدوة الأندلس‏.‏ونازعه الأمر أخوه الأصغر عجيسة وامتنع بعدوة القرويين وافترق أمرهم بافتراقهما‏.‏وكانت الحرب بينهما سجالا ومجالها بين المينتين حيث يفضي باب النقبة لعدوة القرويين لهذا العهد‏.‏وشيد الفتوح باب عدوة الأندلسيين وهو مسمى به إلى الآن‏.‏واختط عجيسة باب الجيسة وهو أيضاً مسمى به إلى الآن وإنما حذفت عينه لكثرة الدوران في استعمالهم وأقاموا على ذلك إلى أن غدر الفتوح بعجيسة أخيه سنة ثلاث وخمسين فظفر به وقتله ودهم المغرب إثر ذلك على ما دهمه من أمر المرابطين من لمتونة وخشي الفتوح مغبة أحوالهم فأفرج عن فاس‏.‏وزحف صاحب القلعة بلكين بن محمد بن حماد إلى المغرب سنة أربع وخمسين على عادتهم في غزوه ودخل فاس واحتمل من أكابرهم وأشرافهم رهناً على الطاعة وقفل إلى قلعته‏.‏وولي على المغرب بعد الفتوح معنصر بن حماد بن منصور وشغل بحروب لمتونة‏.‏وكانت لهم عليه الواقعة المشهورة سنة خمس وخمسين ولحق بصدينة‏.‏وملك يوسف بن تاشفين والمرابطون فاس وخلف عليها عامله وارتحل إلى غمارة فخالفه معنصر إلى فاس وملكها وقتل العامل ومن معه من لمتونة ومثل بهم بالحرق والصلب‏.‏ثم زحف إلى مهدي بن يوسف الكزنائي صاحب مدينة مكناسة وقد كان دخل في دعوة المرابطين فهزمه وبعث برأسه إلى سكون البرغواطي الحاجب صاحب سبتة‏.‏وبلغ الخبرإلى يوسف بن تاشفين فسرح عساكر المرابطين لحصار فاس فأخذوا خنقها وقطعوا المرافق عنها حتى اشتد بأهلها الحصار ومسهم الجهد‏.‏وبرز معنصر لإحدى الراحتين فكانت الدبره عليه وفقد في الملحمة ذلك اليوم سنة ستين وبايع أهل فاس من بعده ابن تميم بن معنصر فكانت أيامه أيام حصار وفتنة وجهد وغلاء‏.‏وشغل يوسف بن تاشفين عنهم بفتح بلاد غمارة حتى إذا كانت سنة اثنتين وستين وفرغ من فتح غمارة صمد إلى فاس فحاصرها أياما ثم اقتحمها عنوة وقتل بها زهاء ثلاثة آلاف من مغراوة وبني يفرن ومكناسة وقبائل زناتة‏.‏وهلك تميم في جملتهم حتى أعوزت مزاراتهم فرادى فاتخذت لهم الأخاديد وقبروا جماعات‏.‏وخلص من نجا من القتل منهم إلى تلمسان وأمر يوسف بن تاشفين بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين العدوتين وصيرها مصراً وأدار عليهما سوراً واحداً وانقرض أمر مغراوة من فاس والبقاء لله‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:33 PM

الخبر عن بني خزرون ملوك سجلماسة
من الطبقة الأولى من مغراوة و أولية ملكهم ومصادره وكان خزرون بن فلفول بن خزر من أمراء مغراوة وأعيان بني خزر ولما غلبهم بلكين بن زيري وصنهاجة على المغرب الأوسط تحيزوا إلى المغرب الأقصى وراء ملوية‏.‏وكان بنو خزر يدينون بالدعوة المروانية كما ذكرناه‏.‏وكان المنصور ابن أبي عامر القائم بدولة المؤيد قد اقتصر لأول حجابته من أحوال العدوة على ضبط سبتة برجال الدولة ووجوه القواد وطبقات العسكر ودفع ما وراءها إلى أمراء زناتة من مغراوة وبني يفرن ومكناسة‏.‏وعول في ضبط كوره وسداد ثغوره عليهم وتعهدهم بالعطاء وأفاض فيهم الإحسان فازدلفوا إليه بوجوه التقربات وأسباب الوصائل‏.‏وإن خزرون بن فلفول هذا زحف يومئذ إلى سجلماسة وبها المعتز من أعقاب آل مدرار انتزى بها أخوه المنتصر بعد قفول جوهر إلى المغرب وظفره بأميرهم الشاكر لله محمد بن الفتح فوثب المسنتصر من أعقابهم بعده على سجلماسة وتملكها‏.‏ثم وثب به أخوه أبو محمد سنة اثنتين وخمسين وثلاثماية فقتله وقام بأمر سجلماسة وأعاد بها ملك بني مدرار وتلقب المعتز بالله فزحف إليه خزرون بن فلفول سنة ست وستين في جموع مغراوة وبرز إليه المعتز فهزمه خزرون واستولى على مدينة سجلماسة‏.‏ومحا دولة آل مدرار والخوارج منها آخر الدهر وأقام الدعوة بها للمؤيد هشام فكانت أول دعوة أقيمت للمروانية بذلك الصقع ووجد للمعتز مالاً وسلاحاً فاحتقبها وكتب بالفتح إلى هشام وأنفذ رأس المعتز فنصب بباب سدته‏.‏ونسب الأثر في ذلك الفتح إلى صحابة محمد بن أبي عامر ويمن طائره وعقد لخزرون على سجلماسة وأعمالها وجاءه عهد الخليفة بذلك فضبطها وقام بأمرها إلى أن هلك فولي أمر سجلماسة من بعده ابنه وانودين‏.‏ثم كان زحف زيري بن مناد إلى المغرب الأقصى سنة تسع وستين وفرت زناتة أمامه إلى سبتة‏.‏وملك أعمال المغرب وولى عليها من قبله وحاصر سبتة‏.‏ثم أفرج عنها وشغل بجهاد برغواطة وبلغه أن وانودين بن خزرون أغار على نواحي سجلماسة وأنه دخلها عنوة وأخذ عامله وما كان معه من المال والذخيرة فرحل إليها سنة ثلاث وتسعين وفصل عنها فهلك في طريقه ورجع وانودين بن خزرون إلى سجلماسه‏.‏وفي أثناء ذلك تغلب زيري بن عطية بن عبد الله بن خزر على المغرب وملكه فاس بعد هشام‏.‏ثم انتقض على المنصور آخرأ وأجاز ابنه عبد الملك في العساكر إلى العدوة سنة ثمان وثمانين فغلب عليها بني خزر ونزل فاس وبث العمال في سائر نواحي المغرب لسد الثغور وجباية الخراج وكان فيها عقد على سجلماسه لحميد بن يصل المكناسي النازع إليهم من أولياء الشيعة فعقد له على سجلماسه حين فر عنها بنو خزرون فملكهما وأقام فيها الدعوة‏.‏ولما قفل عبد الملك إلى العدوة وأعاد واضحاً إلى عمله بفاس استأمن إليه كثير من وجوه بني خزر‏:‏ كان منهم وانودين بن خزرون صاحب سجلماسة وابن عمه فلفول بن سعيد فأمنهم ثم رجع وانودين إلى عمله بسجلماسة بعد أن تضامن أمرها وانودين وفلفول بن سعيد على مال مفروض وعدة من الخيل والحرق يحملان ذلك إليه كل سنة وأعطيا ابناهما رهناً فعقد لهما واضح بذلك واستقل وانودين بعد ذلك بملك سجلماسة منذ أول سنة تسعين مقيماً فيها للدعوة المروانية‏.‏ورجع المعز بن زيري إلى ولاية المغرب بعهد المظفر بن أبي عامر سنة ست وتسعين واستثنى عليه فيها أمر سجلماسة لمكان وانودين بها‏.‏ولما انتثر سلك الخلافة بقرطبة وكان أمر الجماعة لطوائف واستبد أمراء الأمصار والثغور وولاة الأعمال بما في أيديهم استبد وانودين هذا بأعمال سجلماسة وتغلب على عمل درعة واستضافه إليه‏.‏ونهض المعز بن زيري صاحب فاس سنة سبع وأربعمائة في جموعهم من مغراوة يحاول انتزاع هذه الأعمال من يد وانودين فبرز إليه في جموعه وهزمه وكان ذلك سبباً في اضطراب أمر المعز إلى أن هلك واستفحل ملك وانودين واستولى على صفروي من أعمال فاس وعلى جميع قصور ملوية وولى عليها من أهل بيته‏.‏ثم هلك وولي أمره من بعده ابنه مسعود بن وانودين ولم أقف على تاريخ ولايته ومهلك أبيه‏.‏ولما ظهر عبد الله بن ياسين واجتمع إليه المرابطون من لمتونة ومسوفة وسائر الملثمين وافتتحوا أمرهم بغزو درعة سنة خمس وأربعين فأغاروا على إبل كانت هنالك في حمى لمسعود بن وانودين حماه لها وهو بسجلماسة فنهض لمدافعتهم وتواقفوا فانهزم مسعود بن وانودين وقتل كما ذكرناه في أخبار لمتونة‏.‏ثم أعادوا الغزو إلى سجلماسة من العام المقبل فدخلوها وقتلوا من كان بها من فل مغراوة‏.‏تتبعوا من بعد ذلك أعمال المغرب وبلاد سوس وجبال المصامدة واقتحموا صفروي سنة خمس وخمسين وقتلوا من كان بها من أولاد وانودين وبقية مغراوة‏.‏ثم اقتحموا حصون ملوية سنة ثلاث وستين وأنقرض أمر بني واندين كأن لم يكن والبقاء لله وحده‏.‏وكل شيء هالك إلا وجهه سبحانه وتعالى لا رب سواه ولا معبود إلا إياه وهو على كل شيء قدير‏.‏


الخبر عن ملوك طرابلس من بني خزرون بن فلفول
من أهل الطبقة الأولى وأولية أمرهم وتصاريف أحوالهم كان مغراوة وبنو خزر ملوكهم قد تحيزوا إلى المغرب الأقصى أمام بلكين ثم اتبعهم سنة تسع وستين في زحفه المشهور وأحجرهم بساحه سبتة حتى بعثوا صريخهم المنصور‏.‏وجاءهم إلى الجزيرة مشارفا لأحوالهم وأمدهم بجعفر بن يحيى ومن كان معه من ملوك البربر وزناتة فامتنعوا على بلكين ورجع عنهم فتقرى أعمال المغرب وهلك في منصرفه سنة اثنتين وسبعين ورجع أحياء مغراوة وبين يفرن إلى مكانهم منه‏.‏وبعث المنصور الوزير حسن بن عبد الودود عاملا على المغرب وقدم سنة ست وسبعين واختص مقاتلاً وزيري ابني عطية بن عبد الله بن خزر بمزيد التكرمة ولحق نظراؤهما من أهل بيتهما الغيرة من ذلك فنزع سعيد بن خزرون بن فلفول بن خزر إلى صنهاجة سنة سبع وسبعين منحرفاً عن طاعة الأموية‏.‏ووافى المنصور بن بلكين بأشير منصرفه من إحدى غزواته فتلقاه بالقبول والمساهمة واستبلغ في ترك الإحن‏.‏وعقد له على عمل طبنة وعقد لابنه وزو بن سعيد على إحدى بناته إحكاماً للمخالصة فنزل سعيد وأهل بيته بمكان أمارته من طبنة‏.‏ووفد على المنصور ثانية بالقيروان سنة إحدى وثمانين وخرح للقائه واحتفل في تكرمته ونزله‏.‏وأدركه الموت بالقيروان فهلك لسنته‏.‏ووفد ابنه فلول من مكان عمله فعقد له على عمل أبيه وخلع عليه وزف إليه ابنته وسوغه ثلاثين حملاً من المال وثلاثين تختاً من الثياب وقرب إليه مراكب بسروج مثقلة وأعطاه عشرة من البنود مذهبة وانصرف إلى عمله‏.‏وهلك المنصور بن بلكين سنة خمس وثمانين وولي ابنه باديس فعقد لفلفول على عمله بطبنة‏.‏ولما انتقض زيري بن عطية على المنصور بن أبي عامر وسرح إليه ابنه المظفر في العساكر كما قلناه فغلبه على أعمال المغرب‏.‏ولحق زيري بالقفر ثم عرج على المغرب الأوسط ونازل ثغور صنهاجة وحاصر تيهرت وبها يطوفت بن بلكين‏.‏وزحف إليه حماد بن بلكين من أشير في العساكر من تلكانة ومعه محمد بن أبي العرب قائد باديس بعثه في عساكر صنهاجة من القيروان مدداً ليطوفت‏.‏وأوعز إلى حماد بن بلكين وهو باشير أن يكون معه‏.‏ولقيهم زيري بن عطية ففض جموعهم واستولى على معسكرهم واضطرمت إفريقية فتنة وتنكرت صنهاجة لمن كان بجهاتها من قبائل زناتة‏.‏وخرج باديس بن المنصور من رقادة في العساكر إلى المغرب‏.‏ولما مر بطبنة استقدم فلفول بن سعيد بن خزرون ليستظهر به على حربه فاستراب واعتذر عن الوصول‏.‏وسأل تجديد العهد إلى مقدم السلطان فأسعف‏.‏ثم اشتدت استرابته ومن كان معه من مغراوة فارتحلوا عن طبنة وتركوها‏.‏ولما أبعد باديس رجع فلفول إلى طبنة فعاث في نواحيها ثم فعل في تيجس كذلك ثم حاصر باغاية‏.‏وانتهى باديس إلى أشير وفر زيري بن عطية إلى صحراء المغرب ورجع باديس بعد أن ولى على تاهرت واشير عمه يطوفت بن بلكين‏.‏وانتهى إلى المسيلة فبلغه خروج عمومته ماكسن وزاوي وعزم ومغنين فخاف أبو البهار إحن زيري ولحق بهم من معسكره‏.‏وبعث باديس في أثرهم عمه حماد بن بلكين ورحل هو إلى فلفول بمن سعيد بعد أن كان سرح عساكره إليه وهو محاصر باغاية وهزمهم وقتل قائدهم أبا زعيل‏.‏ثم بلغه وصول باديس فأفرج عنها واتبعه باديس إلى مرماجنة فتزاحفوا وقد اجتمع لفلفول من قبائل زناتة والبربر أمم فلم يثبتوا للقاء وانكشفوا عنه‏.‏وانهزم إلى جبل الحناش وترك القيطون بما فيه‏.‏وكتب باديس بالفتح إلى القيروان وقد كان الأرجاف أخذ منهم المأخذ وفر كثير منهم إلى المهدية وشرعوا في عمل الدروب لما كانوا يتوقعون من فلفول بن سعيد حين قتل أبا زعيل وهزم جيوش صنهاجة وكانت الواقعة آخر سنة تسع وثمانين‏.‏وانصرف باديس إلى القيروان ثم بلغه أن أولاد زيري اجتمعوا مع فلفول بن سعيد وعاقدوه ونزلوا جميعاً بحصن تبسة فخرج ياديس من القيروان إليهم فافترقوا ولحق العمومة بزيري بن عطية ما خلا ماكسن وابنه محسن فأنهما أقاما مع فلفول‏.‏ورحل باديس في أثره سنة إحدى وتسعين وانتهى إلى بسكرة ففر فلفول إلى الرمال‏.‏وكان زيري بن عطية محاصراً لأشير أثناء هذه الفتنة فأفرج عنها ورجع عنه أبو البهار بن زيري إلى باديس وقفل معه إلى القيروان‏.‏وتقدم فلفول بن سعيد إلى نواحي قابس وطرابلس فاجتمع إليه من هنالك من زناتة وملك طرابلس على ما نذكر‏.‏وذلك أن طرابلس كانت من أعمال مصر وكان العامل عليها بعد رحيل معد إلى القاهرة عبد الله بن يخلف الكتامي‏.‏ولما هلك معد رغب بلكين من نزار العزيز إضافتها إلى عمله فأسعفه بها وولى عليها تمصولت بن بكار من خواص مواليه‏.‏نقله إليها من ولاية بونة فأقام والياً عليها عشرين سنة إلى أيام باديس فتنكرت له الأحوال عما عهد وبعث إلى الحاكم بمصر يرغب الكون في حضرته وأن يتسلم منه عمل طرابلس‏.‏وكان يرجوان الصقلبي مستبداً على الدولة وكان يغص بمكان يأنس الصقلبي منها فأبعده عن الحضرة لولاية برقة‏.‏ثم لما تتابعت رغبة تمصولت صاحب طرابلس أشار برجوان ببعث يأنس إليها فعقد له الحاكم عليها وأمره بالنهوض إلى عملها فوصلها سنة تسعين‏.‏ولحق تمصولت بمصر وبلغ الخبرإلى باديس فسرح القائد جعفر بن حبيب في العساكر ليصده عنها‏.‏وزحف إليه يأنس فكانت عليه الهزيمة وقتل‏.‏ولحق فتوح بن علي من قواده بطرابلس فامتنع بها ونازله جعفر بن حبيب وأقام عليها مدة‏.‏وبينما هو محاصر لها إذ وصله كتاب يوسف بن عامر عامل قابس يذكر أن فلفول بن سعيد نزل على قابس إلى طرابلس فرحل جعفر عن البلد إلى ناحية الجبل‏.‏وجاء فلفول فنزل بمكانه وضاقت الحال بجعفر وأصحابه فارتحلوا مصممين على المناجزة وقاصدين قابس فتخلى فلفول عن طريقهم وانصرفوا إلى قابس‏.‏وقصد فلفول مدينة طرابلس فتلقاه أهلها ونزل له فتوح بن علي عن إمارتها فملكها وأوطنها من يومئذ وذلك سنة إحدى وتسعين وبعث بطاعته إلى الحاكم فسرح الحاكم يحيى بن علي بن حمدون وعقد له على أعمال طرابلس وقابس فوصل إلى طرابلس وارتحل معه فلفول بن سعيد وفتوح بن علي بن غفيانان في عساكر زناتة إلى حصار قابس فحصروها مدة ورجعوا إلى طرابلس‏.‏ثم رجع يحيى بن علي إلى مصر واستبد فلفول بعمل طرابلس وطالت الفتنة بينه وبين باديس‏.‏ويئس من صريخ مصر فبعث بطاعته إلى المهدي محمد بن عبد الجبار بقرطبة وأوفد عليه رسله في الصريخ والمدد وهلك فلفول قبل رجوعهم إليه سنة أربعماية واجتمعت زناتة على أخيه ورو بن سعيد‏.‏وزحف باديس إلى طرابلس وأجفل ورو ومن معه من زناتة عنها ولحق بباديس من كان بها من الجند فلقوه في طريقه وتماس إلى طرابلس فدخلها ونزل قصر فلفول‏.‏وبعث إليه ورو بن سعيد يسأل الأمان له ولقومه فبعث إليه محمد بن حسن من صنائعه فاستقدم وفدهم بأمانه فوصلهم وولى ورو على نفزاوة والنعيم بن كنون على قسطيلية وشرط عليهم أن يرحلوا بقومهم عن أعمال طرابلس ورجعوا إلى أصحابهم‏.‏وارتحل باديس إلى القيروان وولى على طرابلس محمد بن حسن‏.‏ونزل ورو بنفزاوة والنعيم بقسطيلية ثم انتقض ورو سنة إحدى وأربعماية ولحق بجبال إيدمر فتعاقدوا على الخلاف‏.‏واستضاف النعيم بن كنون نفزاوة إلى عمله‏.‏ورجع خزرون بن سعيد عن أخيه ورو إلى السلطان باديس وقدم عليه بالقيروان سنة اثنتين وأربعماية فتقبله ووصله وولاه عمل أخيه نفزاوة وولى بني مجلية من قومه على قفصة وصارت مدن الماء كلها لزناتة‏.‏وزحف ورو بن سعيد فيمن معه من زناتة إلى طرابلس‏.‏وبرز إليه عاملها محمد بن حسن فتواقفوا ودارت بينهم حرب شديدة انهزم فيها ورو وهلك كثير من قومه‏.‏ثم راجع حصارها وضيق على أهلها فبعث باديس إلى خزرون أخيه وإلى النعيم بن كنون أمراء الجريد من زناتة بأن يخرجوا لحرب صاحبهم فخرجوا إليه وتواقفوا بصبرة ما بين قابس وطرابلس‏.‏ثم اتفقوا ولحق أصحاب خزرون بأخيه ورو‏.‏ورجع خزرون إلى عمله واتهمه السلطان بالمداهنة في شأن أخيه ورو واستقدمه من نفزاوة فاستراب وأظهر الخلاف‏.‏وسرح السلطان إليه فتوح بن أحمد في العساكر فأجفل عن عمله‏.‏واتبعه النعيم وسائر زناتة ولحقوا جميعاً بورو بن سعيد سنة أربع وتظاهروا على الخلاف ونصبوا الحرب على مدينة طرابلس‏.‏واشتد فساد زناتة فقتل السلطان من كان عنده رهن زناتة‏.‏واتفق وصول مقاتل بن سعيد نازعاً عن أخيه ورو في طائفة من أبنائه وإخوانه فقتلوا معهم جميعاً‏.‏وشغل السلطان بحرب عمه حماد‏.‏ولما غلبه بشلف وانصرف إلى القيروان بعث إليه ورو بطاعته‏.‏ثم كان مهلك ورو سنة خمس وأربعماية وانقسم قومه على ابنه خليفة وأخيه خزرون بن سعيد واختلفت كلمتهم‏.‏ودس محمد بن حسن عامل طرابلس في التضريب بينهم‏.‏ثم صار أكثر زناتة إلى خليفة وناجز عنه خزرون الحرب فغلبه على القيطون وضبط زناتة وقام فيهم بأمر أبيه وبعث بطاعته إلى السلطان باديس بمكانه من حصار القلعة فتقبلها‏.‏ثم هلك باديس وولي ابنه المعز سنة ست وانتقض خليفة بن ورو عليه وكان أخوه حماد بن ورو يضرب على أعمال طرابلس وقابس ويواصل عليها الغارة والنهب إلى سنة ثلاث عشرة فانتقض عبد الله بن حسن صاحب طرابلس على السلطان وأمكنه من طرابلس‏.‏وكان سبب ذلك أن المعز بن باديس لأول ولايته استقدم محمد بن حسن من طرابلس فاستخلف عليها أخاه عبد الله بن حسن وقدم على المعز وفوق إليه تدبير مملكته وأقام على ذلك سبعاً وتمكنت حاله عند السلطان وكثرت السعاية فيه فنكبه وقتله‏.‏وبلغ الخبرإلى أخيه فانتقض كما قلناه خليفة بن ورو وقومه من مدينة طرابلس وقتلوا الصنهاجيين واستولوا عليهم‏.‏ونزل خليفة بقصر عبد الله وأخرجه عنه واستصفى أمواله وحرمه‏.‏واتصل ملك خليفة بن ورو وقومه بني خزرون بطرابلس‏.‏وخاطب الخليفة بالقاهرة الظاهر بن الحاكم سنة سبع عشر بالطاعة وضمان السابلة وتشييع الرفاق ويخطب عهده على طرابلس فأجابه إلى ذلك وانتظم في عمله‏.‏وأوفد في هذه السنة أخاه حماداً على المعز بهدية فتقبلها وكافأه عليها‏.‏هذا آخر ما حدث ابن الرقيق من أخبارهم‏.‏ونقل ابن حماد وغيره أن المعز زحف أعوام ثلاثين وأربعماية إلى زناتة بجهات طرابلس فبرزوا إليه وهزموه وقتلوا عبد الله بن حماد وسبوا أخته أم العلو بنت باديس ومنوا عليها بعد حين وأطلقوها إلى أخيها‏.‏ثم زحف إليهم ثانية فهزموه‏.‏ثم أتيحت به الكرة عليهم فغلبهم وأذعنوا لسلطانه واتقوه بالمهادنة فاستقام أمرهم على ذلك‏.‏كان خزرون بن سعيد لما غلبه خليفة بن ورو على زناتة لحق بمصر فأقام فيها بدار الخلافة ونشأ بنوه بها وكان منهم المنتصر بن خزرون وأخوه سعيد‏.‏ولما وقعت الفتنة بين الترك والمغاربة بمصر وغلبهم الترك وأجلوهم عنها لحق المنتصر وسعيد بطرابلس وأقاما في نواحيها‏.‏ثم ولي سعيد أمر طرابلس ولم يزل بها والياً إلى أن هلك سنة تسع وعشرين‏.‏وقال أبو محمد التجاني في رحلته عند ذكر طرابلس‏:‏ ولما قتلت زغبة سعيد بن خزرون سنة تسع وعشرين وقدم خزرون بن خليفة من القيطون بقومه إلى ولايتها فأمكنه رئيس الشورى بها يومئذ من الفقهاء أبو الحسن بن المنذر المشهور بعلم الفرائض وبايع له وأقام بها خزرون إلى سنة ثلاثين بعدها فقدم المنتصر بن خزرون في ربيع الأول منها ومعه عساكر زناتة ففر خزرون بن خليفة من طرابلس مختفياً وملكها المنتصر بن خزرون وأوقع بابن المثمر ونفاه واتصلت بها إمارته‏.‏انتهى ما نقله التجاني‏.‏وهذا الخبر مشكل من جهة أن زغبة من العرب الهلاليين وإنما جاءوا إلى أفريقية من مصر بعد الأربعين من تلك الماية فلا يكون وجودهم بطرابلس سنة تسع وعشرين إلا أن كان تقدم بعض أحياهم إلى إفريقية من قبل ذلك‏.‏وقد كان ولم تزل طرابلس بأيدي بني خزرون الزناتيين‏.‏ولما وصل العرب الهلاليون وغلبوا المعز بن باديس على أعمال إفريقية واقتسموهما كانت قابس وطرابلس في قسمة زغبة والبلد لبني خزرون‏.‏ثم استولى بنو سليم على الضاحية وغلبوا عليها زغبة ورحلوهم عن تلك المواطن‏.‏ولم تزل البلد لبني خزرون‏.‏وزحف المنتصر بن خزرون مع بني عدي من قبائل هلال مجلباً على أعمال بني حماد حتى نزل المسيلة ونزل أشير‏.‏ثم خرج إليهم الناصر ففروا أمامه إلى الصحراء ورجع إلى القلعة فرجعوا إلى الأجلاب على أعماله فراسله الناصر في الصلح وأقطعه ضواحي الزاب وريغة‏.‏وأوعز إلى عروس بن سندي رئيس بسكرة لعهده أن يمكر به‏.‏فلما وصل المنتصر إلى بسكرة أنزله عروس ثم قتله غيلة أعوام ستين وأربعمائة وولي طرابلس واحد من قومه بني خزرون لم يحضرني اسمه واختل ملك صنهاجة واتصل فيهم ملك تلك الأعمال إلى سنة أربعين وخمسماية‏.‏ثم نزل بطرابلس ونواحيها في هذه السنة مجاعة وأصابتهم منها شدة هلك فيها الناس وفروا عنها وظهر اختلال أحوالها وفناء حاميتها فجهز إليها رجار طاغية صقلية أسطولا لحصارها بعد استيلائه على المهدية وصفاقس واستقرار ولاته فيهما‏.‏ووقع بين أهل طرابلس الخلاف فغلب عليهم جرجي بن ميخائيل قائد الأسطول وملكها وأخرج منها بني خزرون وولى على البلد شيخه أبا يحيى بن مطروح التميمي فانقرض أمر بني خزرون منها‏.‏وبقي منهم من بقي بالضاحية إلى أن افتتح الموحدون إفريقية‏.‏وكانت ثورة المسلمين بهم وإخراج النصارى من بين أظهرهم كما ذكرناه في أخبار إفريقية آخر الدولة الصنهاجية‏.‏والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده سبحانه لا إله غيره‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:34 PM

الخبر عن بني يعلى ملوك تلمسان من آل خزر
من أهل الطبقة الأولى وللإلمام ببعض أحوالهم ومصادرها قد ذكرنا في أخبار محمد بن خزر وبنيه أن محمد بن الخير الذي قتل نفسه في معركة بلكين كان من ولده الخير ويعلى‏.‏وأنهم الذين ثاروا منهم بأبيه زيري فقتلوه واتبعهم بلكين من بعد ذلك وأجلاهم إلى المغرب الأقصى حتى قتل محمد منهم صبراً أعوام ستين وثلاثماية بنواحي سجلماسة قبل وصول معد إلى القاهرة وولاية بلكين على إفريقية‏.‏وقام بأمر زناتة بعد الخير ابنه محمد وعمه يعلى بن محمد وتكررت إجازة محمد بن الخير هذا وعمه يعلى إلى المنصور بن أبي عامر كما ذكرنا ذلك من قبل‏.‏وغلبهم ابنا عطية بن عبد الله بن خزر‏:‏ وهما مقاتل وزيري على رياسة مغراوة‏.‏وهلك مقاتل واختص المنصور زيري بن عطية بإثرته وولاه على المغرب كما ذكرناه‏.‏وقارن ذلك مهلك بلكين وانتقاض أبي البهار بن زيري صاحب المغرب الأوسط على باديس فكان من شأنه مع زيري ويدو بن يعلى ما قدمناه‏.‏ثم استقل زيري وغلبهم جميعاً على المغرب ثم انتقض على المنصور فأجاز إليه ابنه المظفر وأخرج زناتة من المغرب الأوسط فتوغل زيري في المغرب الأوسط ونازل أمصاره وانتهى إلى المسيلة واشير‏.‏وكان سعيد بن خزرون قد برع إلى صنهاجة وملك طبنة واجتمع زناتة بإفريقية عليه وعلى ابنه فلفول من بعده‏.‏وانتقض فلفول على باديس عند زحف زيري إلى المسيلة واشير وشغل باديس ثم ابنه المنصور عن المغرب الأوسط بحرب فلفول وقومه ودفعوا إليه حماد بن بلكين فكانت بينه وبين زناتة حروب سجال‏.‏وهلك زيري بن عطية واستقل المعز ابنه ملك المغرب سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وغلب صنهاجة على تلمسان وما إليها واختط مدينة وجدة كما ذكرنا ذلك كله من قبل‏.‏ونزل يعلى بن محمد مدينة تلمسان فكانت خالصة له وبقي ملكها وسائر ضواحيها في عقبه‏.‏ثم هلك حماد بعد استبداده ببلاد صنهاجة على آل بلكين وشغل بنوه بحرب بني باديس فاستوسق ملك بني يعلى خلال ذلك بتلمسان واختلفت أيامهم مع آل حماد سلماً وحرباً‏.‏ولما دخل العرب الهلاليون إفريقية وغلبوا المعز وقومه عليها واقتسموا سائر أعمالها ثم تخطوا إلى أعمال بني حماد فأحجروهم بالقلعة وغلبوهم على الضواحي فرجعوا إلى استيلائهم واستخلصوا الأثبج منهم وزغبة فاستظهروا بهم على زناتة المغرب الأوسط وأنزلوهم بالزاب وأقطعوهم الكثير من أعماله فكانت بينهم وبين بني يعلى أمراء تلمسان حروب ووقائع‏.‏وكانت زغبة أقرب إليهم بالمواطن‏.‏وكان أمير تلمسان لعهدهم بختي من ولد يعلى‏.‏وكان وزيره وقائد حروبه أبو سعدى بن خليفة اليفرني فكان كثيراً ما يخرج بالعساكر من تلمسان لقتال عرب الأثبج وزغبة ويحتشد من إليهم من زناتة أهل المغرب الأوسط مثل مغراوة وبني يلوموا وبني عبد الواد وتوجين وبني مرين‏.‏وهلك في بعض تلك الملاحم هذا الوزير أبو سعدى أعوام خمسين وأربعمائة‏.‏ثم ملك المرابطون أعمال المغرب الأقصى بعد مهلك بختي وولاية ابنه العباس بن بختي تلمسان‏.‏وسرح يوسف بن تاشفين قائده مزدلي في عساكر لمتونة لحرب من بقي بتلمسان من مغراوة ومن لحق بهم من فل بني زيري وقومهم فدوخ المغرب الأوسط وظفر بيعلى بن العباس بن بختي برز لمدافعتهم فهزمه وقتله وانكفأ راجعاً إلى المغرب‏.‏ثم نهض يوسف بن تاشفين بنفسه في جموع المرابطين سنة ثلاث وسبعين فافتتح تلمسان واستلحم بني يعلى ومن كان بها من مغراوة وقتل العباس ابن بختي أميرها من بني يعلى‏.‏ثم افتتح وهران وتنس وملك جبل وانشريش وشلف إلى الجزائر وانكفأ راجعاً وقد محا أثر مغراوة من المغرب الأوسط وأنزل محمد بن تينعمر المسوفي في عسكر من المرابطين بتلمسان واختط مدينة تاكرارت بمكان معسكره وهو اسم محله بلسان البربر وهي التي صارت اليوم مع تلمسان القديمة التي تسمى أكادير بلداً واحداً وانقرض أمر مغراوة من جميع المغرب كأن لم يكن‏.‏والبقاء لله وحده سبحانه‏.‏


الخبر عن أمراء أغمات من مغراوة
لم أقف على أسماء هؤلاء إلا أنهم كانوا أمراء باغمات آخر دولة بني زيري بفاس وبني يعلى اليفرني بسلا وتادلا في جوار المصامدة وبرغواطة‏.‏وكان لقوط بن يوسف بن علي آخرهم في سني الخمسين وأربعماية وكانت امرأته زينب بنت إسحاق النفزاوية من إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة‏.‏ولما غلب المرابطون على أغمات سنة تسع وأربعين فر لقوط هذا إلى تادلا ونزل على محمد بن تميم اليفرني صاحب سلا أعمالها إلى أن افتتح المرابطون تادلا سنة إحدى وخمسين وقتل الأمير محمد واستلحم بنو يفرن فكان الأمير لقوط فيمن استحلم‏.‏وخلفه أبو بكر بن عمر أمير المرابطين على زينب بنت إسحاق حتى إذا ارتحل إلى الصحراء سنة ثلاث وخمسين واستعمل ابن عمه يوسف بن تاشفين على المغرب نزل له عن زوجه زينب هذه فكان لها في سياسة أمره وسلطانه وما أشارت عليه عند مرجع أبي بكر من الصحراء في إظهار الاستبداد حتى تجافى عنه منازعته وخلص ليوسف بن تاشفين ملكه أمر كما ذكرنا في أخبارهم‏.‏ولم نقف من أخبار لقوط بن يوسف وقومه على غير هذا الذي كتبناه والله ولي العون‏.‏


الخبر عن بني سنجاس وريغة والأغواط وبني ورا من قبائل مغراوة
من أهل الطبقة الأولى وتصاريف أحوالهم هذه البطون الأربعة من بطون مغراوة وقد زعم بعض الناس أنهم من بطون زناتة غير مغراوة‏.‏أخبرني بذلك الثقة عن إبراهيم بن عبد الله التيمزوغتي قال وهو نسابة زناتة لعهده‏:‏ ولم لزل هذه البطون الأربعة من أوسع بطون مغراوة‏.‏فأما بنو سنجاس فلهم مواطن في كل عمل من إفريقية والمغربين فمنهم قبلة المغرب الأوسط بجبل راشد وجبل كريكرة وبعمل الزاب وبعمل شلف‏.‏ومن بطونهم بنو غيار ببلاد شلف أيضاً وبنو غيار بعمل قسنطينة‏.‏وكان بنو سنجاس هؤلاء من أوسع القبائل وأكثرهم عدداً وكان لهم في فتنة زناتة وصنهاجة آثار بإفريقية والمغرب وأكثرها في إفساد السبيل والعيث في المدن ونازلوا قفصة سنة أربع عشرة وخمسماية بعد أن عاثوا بجهات القصر وقتلوا من وجدوا هنالك من عسكر ملكاتة وخرجت إليهم حامية قفصة فأثخنوا فيهم ثم كثر فسادهم وسرح السلطان قائده محمد بن أبي العرب في العساكر إلى بلاد الجريد فشردهم عنها وأصلح السابلة‏.‏ثم عاثوا إلى مثلها سنة خمس عشرة فأوقع بهم قائد بلاد الجريد وأثخن فيهم بالقتل وحمل رؤوسهم إلى القيروان فعظم الفتح فيهم‏.‏ولم تزل الدولة تتبعهم بالقتل والإثخان إلى أن خضدوا من شوكتهم‏.‏وجاء العرب الهلاليون وغلبوا على الضواحي كل من كان بها من صنهاجة وزناتة وتحيز فلهم إلى الحصون والمعاقل وضربت عليهم المغارم إلا ما كان ببلاد القفر مثل جبل راشد فإنهم لبعدهم عن منازل الملك لا يعطون مغرماً إلا أنهم غلب عليهم هنالك العمور من بطون الهلاليين ونزلوا معهم وملكوا عليهم أمرهم وصاروا لهم فيئة‏.‏ومن بني سنجاس من نزل بالزاب وهم لهذا العهد أهل مغارم لمن غلب على ثغورهم من مشايخهم‏.‏وأما من نزل منهم ببلاد شلف ونواحي قسنطينة فهم لهذا العهد أهل مغارم الدول وكان دينهم جميعاً الخارجية على سنن زناتة في الطبقة الأولى ومن بقي اليوم منهم بالزاب فعلى ذلك‏.‏ومن بني سنجاس هؤلاء بأرض المشنتل ما بين الزاب وجبل راشد أوطنوا جباله في جوار غمرة وصاروا عند تغلب الهلاليين في ملكهم يقبضون الأتاوة منهم‏.‏ونزل معهم لهذا العهد السحارى من بطون عروة من زغبة وغلبوهم على أمرهم وأصاروهم خولا‏.‏وأما بنو ريغة فكانوا أحياء متعددة‏.‏ولما افترق أمر زناتة تحيز منهم إلى جبل عياض وما إليه من البسيط إلى نقاوس وأقاموا في قياطنهم‏:‏ فمن كان بجبل عياض منهم أهل المغارم لأمراء عياض يقبضونها منهم للدولة الغالبة ببجاية وأما من كان ببسيط نقاوس فهم في أقطاع العرب لهذا العهد‏.‏ونزل أيضاً الكثير منهم ما بين قصور الزاب وواركلا فاختطوا قرى كثيرة في عدوة واد ينحدر من الغرب إلى الشرق ويشتمل على المصر الكبير والقرية المتوسطة والأطم قد رف عليها الشجر ونضدت حفافيفها النخيل وانساحت خلالها المياه وزهت بنابعها الصحراء وكثر في قصورها العمران من ريغة هؤلاء وبهم تعرف لهذا العهد وهم أكثرها ومن بني سنجاس وبني يفرن وغيرهم من قبائل زناتة‏.‏وتفرقت جماعتهم للتنازع في الرياسة فاستقلت كل طائفة منهم بقصور منها أو بواحد‏.‏ولقد كانت فيما يقال أكثر من هذا العدد أضعافاً وأن ابن غانية المسوفي حين كان يجلب على بلاد إفريقية والمغرب في فتنه مع الموحدين خرب عمرانها واجتث شجرها وغور مياهها ويشهد لذلك أثر العمران بها في أطلال الديار ورسوم البناء وأعجاز النخل المنقعر‏.‏وكان هذا العمل يرجع في أول الدولة الحفصية لعامل الزاب وكان من الموحدين وينزل بسكرة يتردد ما بينها وبين مقرة‏.‏وكان من أعماله قصور واركلة أيضاً‏.‏ولما فتك المستنصر بمشيخة الدواودة كما قلناه في أخباره وقتلوا بعد ذلك عامل الزاب ابن عتو من مشيخة الموحدين وغلبوا ضواحي الزاب وريغة وواركلة وأقطعتهم إياها الدول بعد ذلك فصارت في إقطاعهم‏.‏ثم عقد صاحب بجاية بعد ذلك على العمل كله لمنصور بن مزني واستقر في عقبه‏.‏فربما يسومون بعض الأحيان أهل تلك القصور الغرم للسلطان بما كان من الأمر القديم ويعسكر عليهم في ذلك كتائب من رجالة الزاب وخيالة العرب ويبذرق عليها الأمر الدواوة ثم يقاسمهم فيما يمتريه منهم‏.‏وأكبر هذه الأمصار تسمى تقرت مصر مستبحر العمران بدوي الأحوال كثير المياه والنخل ورياسته في بني يوسف بن عبد الله كانت لعبيد الله بن يوسف ثم لابنه داود ثم لأخيه يوسف بن عبيد الله‏.‏وتغلب على واركلة من يد أي بكر بن موسى أزمان حداثته وأضافها إلى عمله‏.‏ثم هلك وصار أمر تقرت لأخيه مسعود بن عبيد الله ثم لابنه حسن بن مسعود ثم لابنه أحمد ين حسن شيخهما لهذا العهد‏.‏وبنو يوسف بن عبيد الله هؤلاء من ريغة ويقال إنهم من سنجاس‏.‏وفي أهل تلك الأمصار من مذاهب الخوارج وفرقهم كثير وأكثرهم على دين العزابة ومنهم النكاريه أقاموا على انتحال هذه الخارجية لبعدهم عن منال الأحكام‏.‏ثم بعد مدينة تقرت بلد تماسين وهي دونها في العمران والخطة ورياسته لبني إبراهيم من ريغة وسائر أمصارهم كذلك‏:‏ كل وأما لقواط وهم فخذ من مغراوة أيضاً فهم في نواحي الصحراء ما بين الزاب وجبل راشد ولهم هنالك قصر مشهور بهم فيه فريق من أعقابهم على سغب من العيش لتوغله في القفر وهم مشهورون بالنجدة والامتناع من العرب وبينهم وبين الدوسن أقصى عمل الزاب مرحلتان وتختلف قصودهم إليه لتحصيل المرافق منه‏.‏والله يخلق ما يشاء ويختار‏.‏وأما بنو ورا فهم فخذ مغراوة أيضاً ويقال من زناتة وهم متشعبون ومفترقون بنواحي المغرب‏:‏ فمنهم بناحية مراكش والسوس ومنهم ببلاد شلف ومنهم بناحية قسنطينة‏.‏ولم يزالوا على حالهم منذ انقراض زناتة الأولين وهم لهذا العهد أهل مغارم وعسكرة مع الدول‏.‏وأكثر الذين كانوا بمراكش قد انتقل رؤساؤهم إلى ناحية شلف نقلهم يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين في أول هذه الماية الثامنة فلما ارتاب بأمرهم في تلك الناحية وخشي من فسادهم وعيثهم فنقلهم في عسكر إلى موطن شلف لحمايته فنزلوا به‏.‏ولما ارتحل بنو مرين بعد مهلك يوسف بن يعقوب أقاموا ببلاد شلف فأعقابهم به لهذا العهد وأحوالهم جميعاً في كل قطر متقاربة في المغرم والعسكرة مع السلطان‏.‏ولله الخلق والأمر جميعاً‏.‏سبحانه لا إله إلا هو الملك العظيم‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:35 PM

الخبر عن بني يرنيان إخوة مغراوة وتصاريف أحوالهم
قد ذكرنا بني يرنيان هؤلاء وأنهم إخوة مغراوة وبني يفرن والكل ولد يصليتن‏.‏ونسبهم جميعاً إلى جانا مذكور هنالك وهم مبثوثون كثيراً بين زناتة في المواطن‏.‏وأما الجمهور منهم فموطنهم بملوية من المغرب الأقصى ما بين سجلماسة وكرسيف كانوا هنالك مجاورين لمكناسة في مواطنهم واختطوا حفافي وادي ملوية قصوراً كثيرة متقاربة الخطة ونزلوها وتعدت بطونهم وأفخاذهم في تلك الجهات‏.‏ومنهم بنو وطاط موطنون لهذا العهد بالجبال المطلة على وادي ملوية من جهة القبلة ما بينه وبين تازى وفاس وبهم تعرف تلك القصور لهذا العهد‏.‏وكان لبني يرنيان هؤلاء صولة واعتزاز وأجاز الحكم بن المستنصر منهم والمنصور بن أبي عامر من بعده فيمن أجازوه من زناته ثم الماية الرابعة وكانوا من أفحل جند الأندلس وأشدهم شوكة وبقي أهل المواطن منهم في مواطنهم مع مكناسة أيام ملكهم ويجمعهم معهم عصبية يحيى‏.‏ثم كانوا مع مغراوة أيضاً أيام ملكهم المغرب الأقصى‏.‏ولما ملك لمتونة والموحدون من بعدهم لحق الظواعن منهم بالقفر فاختلطوا بأحياء بني مرين الموالين لتلول المغرب من زناتة وأقاموا معهم في أحيائهم وبقي من عجز عن الظعن منهم بمواطنهم‏:‏ مثل بني وطاط وغيرهم ففرضت عليهم المغارم والجبايات‏.‏ولما دخل بنو مرين إلى المغرب ساهموهم في أقسام أعماله وأقطعوهم البلد الطيب من ضواحي سلا والمعمورة زيادة إلى وطنهم الأول بملوية وأنزلوهم بنواحي سلا بعد أن كان منهم انحراف عن مواطنهم الأولى‏.‏ثم أصحبوا ورعى لهم بنو عبد الحق سابقتهم معهم فاصطفوهم للوزارة والتقدم في الحروب ودفعوهم إلى المهمات وخلطوهم بأنفسهم‏.‏وكان من أكابر رجالاتهم لعهد السلطان أبي يعقوب وأخيه أبي سعيد الوزير إبراهيم بن عيسى استخلصوه للوزارة مرة بعد أخرى واستعمله السلطان أبو سعيد على وزارة ابنه أبي علي ثم لوزارته‏.‏واستعمل ابنه السلطان أبو الحسن أبناء إبراهيم هذا في أكابر الخدام فعقد لمسعود بن إبراهيم على أعمال السوس عندما فتحها أعوام الثلاثين وسبعماية ثم عزله بأخيه حسون وعقد لمسعود على بلاد الجريد من إفريقية عند فتحه إياها سنة ثمان وأربعين وكان فيها مهلكه‏.‏ونظم أخاهما موسى في طبقة الوزراء ثم أفرده بها أيام نكبته ولحاقه بجبل هنتاتة واستعمله السلطان أبو عنان بعده في العظيمات وعهد له على أعمال سدويكش بنواحي قسنطينة‏.‏ورشح ابنه محمد السبيع لوزارته إلى أن هلك وتقلبت بهم الأيام بعده‏.‏وقلد عبد الحليم المعروف بحلي ابن السلطان أبي علي وزارته محمد بن السبيع هذا أيام حصاره لدار ملكهم سنة اثنتين وستين كما نذكره في أخبارهم فلم يقدر لهم الظفر‏.‏ثم رجع السبيع بعدها إلى محله من دار السلطان وطبقة الوزارة وما زال يتصرف في الخدم الجليلة والأعمال الواسعة ما بين سجلماسة ومراكش وأعمال تازى وتادلا وغمارة وهو على ذلك لهذا العهد‏.‏والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير وجديجن وواغمرت


الخبر عن وجديجن وواغمرت من قبائل زناتة ومبادىء أحوالهم وتصاريفها
قد تقدم أن هذين البطنين من بطون زناتة من ولد ورتنيص بن جانا وكان لهم عدد وقوة ومواطنهم مفترقة في بلاد زناتة‏:‏ فأما وجديجن فكان جمهورهم بالمغرب الأوسط ومواطنهم منه منداس ما بين بني يفرن من جانب الغرب ولواتة من جانب القبلة في السرسو ومطماطة من جانب الشرق في وانشريش‏.‏وكان أميرهم لعهد يعلى بن محمد اليفرني رجلاً منهم اسمه عنان وكانت بينهم وبين لواتة الموطنين بالسرسو فتنة متصلة يذكر أنها بسبب امرأة من وجديجن نكحت في لواتة وتلا جامعها نساء قيوطنهم فعيرنها بالفقر فكتبت بذلك إلى عنان تدمره فغضب واستجاش بأهل عصبته من زناتة وجيرانه فزحف معه يعلى في بني يفرن وكلمام بن حياتي في مغيلة وغرابة في مطماطة ودارت الحرب بينهم وبين لواتة ملياً‏.‏ثم غلبوا لواتة في بلاد السرسو وانتهوا بهم إلى كدية العابد من آخرها‏.‏وهلك عنان شيخ وجديجن في بعض تلك الوقائع بملاكو من جهات السرسو‏.‏ثم لجأت لواتة إلى جبل كريكرة قبلة السرسو وكان يسكنه أحياء من مغراوة يعرف شيخهم لذلك العهد علاهم ربيب لشيخهم عمر بن تامصا الهالك قبله ومعنى تامصا بلسان البربر الغول‏.‏ولما لجأت لواتة إليه غدر بهم وأغرى قومه فوضعوا أيديهم فيهم سلباً وقتلاً فلاذوا بالفرار ولحقوا بجبل لعود وجبل دراك فاستقروا هنالك آخر الدهر‏.‏وورثت وجديجن مواطنهم بمنداس إلى أن غلبهم عليها بنو يلومي وبنو ومانو كل من جهته ثم غلب الآخرين عليها بنو عبد الواد وبنو توجين إلى هذا العهد‏.‏والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏وأما واغمرت ويسمون لهذا العهد غمرت وهم إخوة وجديجن ومن ولد بن جانا كما قلناه فكانوا من أوفر القبائل عدداً ومواطنهم متفرقة وجمهورهم بالجبال إلى قبلة بلاد صنهاجة من المشنتل إلى الدوسن‏.‏وكان لهم مع أبي يزيد صاحب الحمار في الشيعة آثار وأوقع بهم إسماعيل عند ظهوره على أبي يزيد وأثخن فيهم وكذلك بلكين وصنهاجة من بعده‏.‏ولما افترق أمر صنهاجة بحماد وبنيه كانوا شيعاً لهم على بني بلكين‏.‏ونزع عن حماد أيام فتنته ابن أبي جلى من مشيختهم وكان مختصًا به فنزع إلى باديس فوصله وحمل أصحابه وعقد له على طبنة وأعمالها‏.‏حتى إذا جاء الهلاليون وغلبوهم على الضواحي اعتصموا بتلك الجبال قبلة المسيلة وبلاد صنهاجة وصدوا بها عن الظعن وتركوا القيطون إلى سكنى المدن‏.‏ولما غلب الدواودة على ضواحي الزاب وما إليها اقطعتهم الدولة مغارم هذه الجبال التي لغمرت‏.‏وهم لهذا العهد في سهمان أولاد يحيى بن علي بن سباع من بطونهم‏.‏وكان في القديم من هؤلاء كاهن زناتة موسى بن صالح مشهور عندهم حتى الان ويتناقلون بينهم كلماته برطانتهم على طريقة الرجز فيها أخبار بالحدثان فيما يكون لهذا الجيل الزناتي والدولة والتغلب على الأحياء والقبائل والبلدان‏.‏شهد كثير من الواقعات على وفقها بصحتها حتى لقد نقلوا من بعض كلماته تلك ما معناه باللسان العربي أن تلمسان ينالها الخراب وتصير دورها فدنا حتى يثير أرضها حراث أسود بثور أسود أعور‏.‏وذكر الثقات أنهم عاينوا ذلك بعد انتشار كلمته هذه أيام لحقها الخراب في دولة بني مرين سني ستين وسبعماية وأفرط الخلاف بين هذا الجيل الزناتي في التشييع له والحمل عليه‏:‏ فمنهم من يزعم أنه ولي أو نبي وآخرون يقولون كاهن‏.‏ولم تقفنا الأخبار على الجلي من أمره‏.‏والله أعلم‏.‏


الخبر عن بني واركلا من بطون زناتة
والمصر المنسوب إليهم بصحراء افريقية و تصاريف أحوالهم بنو واركلا هؤلاء إحدى بطون زناتة - كما تقدم - من ولد فريني بن جانا وقد مرذكرهم وإ ن إخوانهم يزمرتن ومنجصة ونمالتة المعروفون لهذا العهد‏:‏ منهي بنو واركلا وكانت فئتهم قليلة وكانت مواطنهم قبلة الزاب واختطوا المصر المعروف بهم لهذا العهد على ثماني مراحل من بسكرة في القبلة عنها ميامنة إلى المغرب‏.‏بنوها قصورا متقاربة الخطة‏.‏ثم استبحر عمرانها فائتلفت وصارت مصرًا‏.‏وكان معهم هنالك جماعة من بني زنداك من مغراوة وإليهم كان هرب ابن أبي يزيد النكاري عند فراره من الاعتقال لسنة خمس وعشرين وثلاثماية وكان مقامه بينهم سنة يختلف إلى بني برزال بسالات وإلى قبائل البربر بجبل أوراس يدعوهم جميعاً إلى مذهب النكارية إلى أن ارتحل إلى أوراس واستبحر عمران هذا المصر واعتصم به بنو واركلا هؤلاء والكثير من ظواعن زناتة عند غلب الهلاليين إياهم على المواطن واختصاص الأثبج بضواحي القلعة والزاب وما إليها‏.‏ولما استبد الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بملك إفريقية وجال في نواحيها في أتباع ابن غانية مر بهذا المصر فأعجبه وكلف بالزيادة في تمصيره فاختط مسجده العتيق ومأذنته المرتفعة وكتب عليها اسمه وتاريخ وضعه نقشًا في الحجارة‏.‏وهذا البلد لهذا العهد باب لولوج السفر من الزاب إلى المفازة الصحراوية المفضية إلى بلاد السودان يسلكها التجار الداخلون إليها بالبضائع‏.‏وسكانها لهذا العهد من أعقاب بني واركلا وأعقاب إخوانهم من بني يفرن ومغراوة ويعرف رئيسه باسم السلطان شهرة غير نكيرة بينهم ‏"‏ ورياسته لهذه الأعصار مخصوصة ببني أبي غبول ويزعمون أنهم من بني واكير إحدى بيوت بني واركلا وهو بذا العهد أبو بكر بن موسى بن سليمان من بني أبي غبول ورياستهم متصلة في عمود هذا النسب‏.‏وعلى عشرين مرحلة من هذا المصر في القبلة منحرفا إلى الغرب بيسير بلد تكدة قاعدة وطن الملثمين وركاب الحاج من السودان اختطه الملثمون من صنهاجة وهم ساكنوه لهذا العهد وصاحبه أمير من بيوتاتهم يعرفونه باسم السلطان وبينه وبين أمير الزاب مراسلة ومهاداة‏.‏ولقد قدمت على بسكرة سنة أربع وخمسين أيام السلطان أبي عنان في بعض الأغراض الملوكية ولقت رسول صاحب تكدة عند يوسف بن مزني أمير بسكرة وأخبرني عن استبحار هذا المصر في العمارة ومرور السابلة وقال لي‏:‏ اجتاز بنا في هذا العام سفر من تجار المشرق إلى بلد مالي كانت زكاتهم اثنتي عشرألف راحلة‏.‏وذكر لي غيره أن ذلك هو الشأن في كل سنة‏.‏وهذا البلد في طاعة سلطان مالي من السودان كما في سائر تلك البلاد الصحراوية المعروفة بأطلستين لهذا العهد‏.‏والله غالب على أمره سبحانه‏.‏


الخبر عن دمر من بطون زناتة ومن ولي منهم بالأندلس وأولية
ذلك ومصادره بنو دمر هؤلاء من زناتة وقد تقدم أنهم من ولد ورسيك بن أديدت بن جانا وشهوبهم كثيرة وكانت مواطنهم بإفريقية في نواحي طرابلس وجبالها وكان منهم آخرون ظواعن بالضواحي من عرب إفريقية‏.‏ومن بطون إيدمر هؤلاء بنو رغمة وهم لهذا العهد مع قومهم بجبال طرابلس‏.‏ومن بطونهم أيضاً بطن متسع كثير الشعوب وهم بنو ور نيد بن وانتن بن وارديرن بن دمر وأن من شعوبهم بني ورتاتين وبني غرزول وبني تفورت وربما يقال إن هؤلاء الشعوب لا ينتسبون إلى دمر من ورنيد كما تقدم وبقايا بني و رنيد لهذا العهد بالجبل المطل على تلمسان بعد أن كانوا في البسيط قبلته فزحمهم بنو راشد حين دخولهم من بلادهم بالصحراء إلى التل وغلبوهم على تلك البسائط فانزاحوا إلى الجبل المعروف بهم لهذا العهد وهو المطل على تلمسانوكان قد أجاز إلى الأند لسمن ايدمر هؤلاء أعيان ورجالات حرب فيمن أجازإليها من زناتةوسائر البربر أيامأخذهم بدعوة الحكم المستنصر فضمهم السلطان إلى عسكره واستظهر بهم المنصور بن أبي عامر من بعد ذلك على شأنه وفرى بهم المستعين أديم دولته ولما اعصوصب البربر على المستعين وبني حمود من بعده وغالبوا جنود من العرب وكانت الفتنة الطويلة بينهم التي نثرت سلك الخلافة وفرقت شمل الجماعة واقتسموا خطط الملك وولايات الأعمال وكان من رجالاتهم نوح الدمري وكان من أصحاب المنصور وولاه المستعين أعمال مودور واركش فاستبد بها سنة أربع في غمار الفتنة وأقام بها سلطانا لنفسه إلى أن هلك سنة ثلاث وثلاثين فولي ابنه أبومناد محمد بن نوح وتلقب بالحاجب عز الدولة لقبين في قرن شأن ملوك الطوائف وكانت بينه وبين ابن عباد صاحب غرب الأندلس خطوب‏.‏ومر المعتضد في بعض أسفاره بحصن اركش وتطوف مختفيا فتقبض عليه بعض أصحاب ابن نوح فخلى سبيله وأولاه كرامه احتسبها عنده يدًا‏.‏وذلك سنة ثلاث وأربعين فانطلق إلى دار ملكه ورجع بعدها إلى ولاية الملوك الذين حوله من البربر‏.‏وأسجل لإبن نوح هذا على عملي أركش ومورور فيمن أسجل له منهم فصاروا إلى مخالصته إلى أن استدعاهم سنة خمس وأربعين بعدها إلى صنيع دعا إليه الجفلى من أهل أعماله واختصهم بدخول حمام أعد لهم استبلاغا في تكريمهم‏.‏وتخلص ابن نوح عنده من بينهم فلما حصلوا داخل الحمام طبقه عليهم وسد المنافس للهواء دونهم إلى أن هلكوا‏.‏ونجا منهم ابن نوح لسالفة يده وطير في الحين من تسلم معاقلهم وحصونهم فانتظمهم في أعماله‏.‏وكان منهم وفدة وشريش وسائر أعمالها‏.‏وهلك من بعد ذلك الحاجب أبو مناد بن نوح وولي ابنه أبو عبد الله‏.‏ولم يزل المعتضد يضايقه إلى أن انخلع له سنة ثمان وخمسين فانتظمها في أعماله‏.‏وصار إليه محمد بن أبي مناد إلى أن هلك سنة ثمان وستين وانقرض ملك بني نوح‏.‏والبقاء لله وحده سبحانه‏.‏


الخبر عن بني برزال إحدى بطون دمر
وما كان لهم من الملك بقرمونة وأعمالها بالأندلس أيام الطوائف وأولية ذلك ومصائره قد تقدم لنا أن بني برزال هؤلاء من ولد ورنيد بن وانتن بن وارديرن بن دمر كما ذكره ابن حزم وإن إخوتهم بنو يصدرين وبنو صغمار وبنو يطوفت‏.‏وكان بنو برزال هؤلاء بإفريقية وكانت مواطنهم منها جبل سالات وما إليه من أعمال المسيلة وكان لهم ظهور ووفور عدد وكانوا نكارية من فرق الخوارج‏.‏ولما فر أبو يزيد أمام إسماعيل المنصور وبلغه أن محمد بن خزر يترصد له أجمع الاعتصام بسالات وصعد إليهم‏.‏ثم أرهقته عساكر المنصور فانتقل عنهم إلى كتامة‏.‏وكان من أمره ما قدمناه‏.‏ثم استقام بنو برزال على طاعة الشيعة وموالاة جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة والزاب حتى صاروا له شيعًا‏.‏ولما انتقض جعفرعلى معد سنة ستين وثلاثماية كان بنو برزال هؤلاء في جملته ومن أهل خصوصيته فأجازوا به البحر إلى الأندلس أيام الحكم المستنصر فاستخدمهم ونظمهم في طبقات جنده إلى من كان لحق به من قبائل زناتة وسائر البربرأيام أخذهم بالدعوة الأموية ومحاربتهم عليها للأدارسة فاستقروا جميعاً بالأندلس‏.‏وكان لبني برزال من بينهم ظهور وغناء مشهور‏.‏ولما أراد المنصور بن أبي عامر الاستبداد على خليفته هشام وتوقع النكير من رجالات الدولة وموالي الحكم استكثر ببني برزال وغيرهم من البربر وأفاض فيهم الإحسان فاعتز أمره واشتد أزره حتى أسقط رجال الدولة ومحا رسومها وأثبت أركان سلطانه‏.‏ثم قتل صاحبهم جعفر بن يحيى كما ذكرنا ه خشية عصبيته بهم‏.‏واستمالهم من بعده فأصبحوا له عصبة وكان يستعملهم في الولا يات النبيهة والأعمال الرفيعة‏.‏وكان من أعيان بني برزال هؤلاء إسحاق بن‏.‏فولاه قرمونة وأعمالها فلم يزال واليًا عليها أيام بني أبي عامر‏.‏وجدد له العقد عليها المستعين في فتنة البرابرة ووليها من بعده ابنه عبد الله‏.‏ولما انقرض ملك بني حمود من قرطبة ودفع أهلها القاسم المأمون عنهم سنة أربع عشرة أراد اللحاق بإشبيلية وبها نائبه محمد بن أبي زيري من وجوه البربر وبقرمونة عبد الله بن إسحاق البرزالي فداخلهما القاضي ابن عباد في خلع طاعة القاسم وصده عن العملين فأجابا إلى ذلك‏.‏ثم دس للقاسم بالتحذير من عبد اللة بن إسحاق فعدل القاسم عنهم جميعاً إلى شريش واستمد كل منهم بعمله‏.‏ثم هلك عبد الله من بعد ذلك وولي ابنه محمد سنة‏.‏وكانت بينه وبين المعتضد بن عباد حرب وظاهر عليه يحيى بن علي بن حمود في منازلة إشبيلية سنة ثمان عشرة‏.‏ثم اتفق معه ابن عباد بعدها وظاهره على عبد الله بن الأفطس وكانت بينهما حرب وكانت الدبرة فيها على ابن الأفطس‏.‏وتحصل ابنه المظفر قائد العسكر في قبضة محمد بن عبد الله بن إسحاق إلى أن من عليه بعد ذلك وأطلقه‏.‏ثم كانت الفتنة بين محمد بن إسحاق وبين المعتضد وأغار إسماعيل بن المعتضد على قرمونة في بعض الأيام بعد أن كمن الكمائن من الخيالة والرجل وركب إليه محمد في قومه فاستطرد لهم إسماعيل إلى أن بلغوا الكمائن فثاروا بهم وقتل محمد البرزالي وذلك سنة أربع وثلاثين‏.‏وولي ابنه العزيز بن محمد وتلقب بالمستظهر مناغيًا في ذلك لملوك الطوائف في عهده‏.‏ولم يزل المعتضد يستولي غرب الأندلس شيئًا فشيئًا إلى أن ضايقه في عمل قرمونة واقتطع منها أسيجة والمدور‏.‏ثم انخلع له العزيزعن قرمونة سنة تسع وخمسين ونظمها المعتضد في ممالكه وانقرض ملك بني برزال من الأندلس‏.‏تم انقرض بعد ذلك حيهم من جبل سالات وأصبحوا في الغابرين‏.‏والبقاء لله وحده سبحانه‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:36 PM

الخبر عن بني ومانوا وبني يلومي
من الطبقة الأولى من زناتة وما كان لهم من الملك والدولة بأعمال المغرب الأوسط ومبد أ ذلك وتصاريفه هاتان القبيلتان من بطون زناتة ومن توابع الطبقة الأولى ولم نقف على نسبها إلى جانا إلا أن نسابتهم متفقون على أن يلومي وورتاجن الذي هو أبو مرين أخوان وإن مديون أخوهما للأم ذكر لي ذلك غير واحد من نسابتهم‏.‏وبنو مرين لهذا العهد يعرفون لهم هذا النسب ويوجبون لهم العصبية به‏.‏وكانت هاتان القبيلتان من أوفر بطون زناتة وأشدهم شوكة ومواطنهم جميعاً بالمغرب الأوسط‏.‏وبنو ومانوا منهم إلى جهة الشرق عن وادي ميناس في منداس ومرات وما إليها من أسافل شلف وبنو يلومي بالعدوة الغربية منه بالجعبات والبطحاء وسيك وسيرات وجبل هوارة وبني راشد‏.‏وكان لمغراوة وبني يفرن التقدم عليهم في الكثرة والقوة‏.‏ولما غلب بلكين بن زيري مغراوة وبني يفرن على المغرب الأوسط وأزاحهم إلى المغرب الأقصى بقيت هاتان القبيلتان بمواطنهما واستعملتهم صنهاجة في حروبهم حتى إذا تقلص ملك صنهاجة عن المغرب الأوسط اعتزوا عليهم‏.‏واختص الناصر بن علناس صاحب القلعة ومختط بجاية بني ومانوا هؤلاء بالولاية فكانوا سيفاً لقومه دون بني يلومي‏.‏وكانت رياسة بني ومانو في أبيت منهم يعرفون ببني ماخوخ‏.‏وأصهر المنصور بن الناصر إلى ماخوخ منهم في أخته فزوجها إياه فكان لهم بذلك مزيد ولاية في الدولة‏.‏ولما ملك المرابطون تلمسان أعوام سبعين وأربعماية وأنزل يوسف بن تاشفين بها عامله محمد بن تينعمر المسوفي ودوخ أعمال المنصور وملك أمصارها إلى أن نازل الجزائر وهلك فولي أخوه تاشفين على عمله فغزا أشير وافتتحها وخربها‏.‏وكان لهذين الحيين من زناتة أثر في مظاهرته وإمداده أحقد عليهم المنصور بعدها وغزا بني ومانوا في عساكر صنهاجة وجمع له ماخوخ فهزمه واتبعه منهزماً إلى بجاية فقتل لمدخله إلى قصره وقتل زوجه أخت ماخوم تشفياً وضغناً‏.‏ثم نهض إلى تلمسان في العساكر واحتشد العرب من الأثبج ورياح وزغبة ومن لحق به من زناتة وكانت الغزاة المشهورة سنة ست وثمانين أبقى فيها على ابن تينعمر المسوفي بعد استمكانه من البلد كما ذكرناه في أخبار صنهاجة‏.‏ثم هلك المنصور وولي ابنه العزيز وراجع ماخوخ ولايتهم وأصهر إليه العزيز أيضاً في ابنته فزوجها إياه‏.‏واعتز البدو في نواحي المغرب الأوسط واشتعلت نار الفتنة بين هذين الحيين من بني ومانوا وبني يلومي فكانت بينهم حروب ومشاهد‏.‏وهلك ماخوخ وقام بأمره في قومه بنوه تاشفين وعلي وأبو بكر وكان أحياء زناتة الثانية من عبد الواد وتوجين وبني راشد وبني ورسيفان من مغراوة مدداً للفريقين وربما ماد بنو مرين إخوانهم بني يلومي لقرب مواطنهم منهم إلا أن زناتة الثانية لذلك العهد مغلبون لهذين الحيين وأمرهم تبع لهم إلى أن ظهر أمر الموحدين‏.‏وزحف عبد المؤمن إلى المغرب الأوسط في أتباع تاشفين بن علي وتقدم أبو بكر بن ماخوخ ويوسف بن يدر من بني ومانوا إلى طاعته ولحقوه بمكانه من أرض الريف فسرح معهم عساكر الموحدين لنظر يوسف بن وانودين وابن يغمور فأثخنوا في بلاد بني يلومي وبني عبد الواد ولحق صريخهم بتاشفين بن علي بن يوسف فأمدهم بالعساكر ونزلوا منداس‏.‏واجتمع لبني يلومي بنو ورسيفان من مغراوة وبنو توجين من بني بادين وبنو عبد الواد منهم أيضاً وشيخهم حمامة بن مظهر وبنو يكاسن من بني مرين وأوقعوا ببني ومانوا وقتلوا أبا بكر بن ماخوخ في ستماية منهم واستنقذوا غنائمهم‏.‏وتحصن الموحدون وفل بني ومانوا بجبال سيرات ولحق تاشفين بن ماخوخ صريخاً بعبد المؤمن وجاء في جملته حتى نازل تاشفين بن علي بتلمسان‏.‏ولما ارتحل في أثره إلى وهران كما قدمناه سرح الشيخ أبا حفص في عساكر الموحدين إلى بلاد زناتة فنزلوا منداس وسط بلادهم وأثخنوا فيهم حتى أذعنوا للطاعة ودخلوا في الدعوة‏.‏ووفد على عبد المؤمن بمكانه من حصار وهران بمشيختهم يقدمهم سيد الناس بن أمير الناس شيخ بني يلومي وحمامة بن مظهر شيخ بني عبد الواد وعطية الخير شيخ بني توجين وغيرهم فتلقاهم بالقبول‏.‏ثم انتقضت زناتة بعدها وامتنع بنو يلومي بحصنهم الجعبات ومعهم شيوخهم سيد الناس وبدرح ابنا أمير الناس فحاصرهم عساكر الموحدين وغلبوهم عليها وأشخصوهم إلى المغرب‏.‏ونزل سيد الناس بمراكش وبها كان مهلكه أيام عبد المؤمن‏.‏وهلك بعد ذلك بنو ماخوخ‏.‏ولما أخذ أمر هذين الحئين في الأنتقاض جاذب بني يلومي في تلك الأعمال بنو توجين وشاجروهم في أحواله ثم واقعوهم الحرب في جوانبه‏.‏وتولى ذلك فيهم عطية الخير كبير بني توجين وصلى بنارها منهم معه بنو منكوش من قومه حتى غلبوهم على مواطنهم وأذلوهم وأصاروهم جيراناً لهم في قياطنهم واستعلى بنو عبد الواد وتوجين على هذين الحيين وغيرهم بولايتهم للموحدين ومخالطتهم إياهم فذهب شأنهم وافترق قيطونهم أوزاعاً في زمانه الوارثين أوطانهم من بني عبد الواد وتوجين والبقاء لله وحده‏.‏ومن بطون بني ومانوا هؤلاء قبائل بني يالدس وقد يزعم زاعمون أنهم من مغراوة ومواطنهم متصلة قبلة المغرب الأقصى والأوسط وراء العرق المحيط بعمرانهم المذكور قبل‏.‏اختطوا في تلك المواطن القصور والأطم واتخذوا بها الجنات من النخيل والأعناب وسائر الفواكه‏:‏ فمنها على ثلاث مراحل قبلة سجلماسة وتسمى وطن توات وفيه قصور متعددة تناهز المئين آخذة من الغرب إلى الشرق وآخرها من جانب الشرق يسمى تمنطيت رهو بلد مستبحر في العمران وهو ركاب التجار المترددين من المغرب إلى بلد مالي من السودان لهذا العهد ومن بلد مالى إليه بينه وبين ثغر بلد مالي المسمى غار المفازة المجهلة لا يهتدى فيها للسبل ولا يمر الوارد إلا بالدليل الخريت من الملثمين الظواعن بذلك القفر يستأجره التجار على البذرقة بهم بأوفى الشروط‏.‏ولقد كانت بلد بودي وهي أعلى تلك القصور بناحية المغرب من ناحية السوس هي الركاب إلى والاتن الثغر الأخير من أعمال مالي‏.‏ثم أهملت لما صارت الأعراب من بادية السوس يغيرون على سابلتها ويعترضون رفاقها فتركوا تلك ونهجوا الطريق إلى بلد السودان من أعلى تمنطيت‏.‏ومن هذه القصور قبلة تلمسان وعلى عشر مراحل منها قصور تيكورارين وهي كثيرة تقارب الماية في بسيط واد منحدر من الغرب إلى الشرق واستبحرت في العمران وغصت بالساكن‏.‏وأكثر سكان هذه القصور الغربية في الصحراء بنو يالدس هؤلاء ومعهم من سائر قبائل زناتة والبربر مثل ورتطغير ومصاب وبني عبد الواد وبني مرين هم أهل عديد وعدة وبعد عن هضيمة الأحكام وذل المغارم وفيهم الرجالة والخيالة وأكثرهم معاشهم من فلح النخل وفيهم التجر إلى بلد السودان وضواحيها كلها مشتاة للعرب ومختصة بعبيد الله من المعقل عينتها لهم قسمة الرحلة‏.‏وربما شاركهم بنو عامر من زغبة في تيكورارين فتصل إليها ناجعتهم بعض السنين‏.‏وأما عبيد الله فلا بد لهم في كل سنة من رحلة الشتاء إلى قصور توات وبلد تمنطيت ومع ناجعتهم تخرج قفول التجار من الأمصار والتلول حتى يخطوا بتمنطيت ثم يبذرقون منها إلى بلد السودان‏.‏وفي هذه البلاد الصحراوية إلى وراء العرق غريبة في استنباط المياه الجارية لا توجد في تلول المغرب وذلك أن البئر تحفر عميقة بعيدة الهوى‏.‏وتطوى جوانبها إلى أن يوصل بالحفر إلى حجارة صلدة فتحت بالمعاول والفؤس إلى أن يرق جرمها ثم تصعد الفعلة ويقذفون عليها زبرة من الحديد تكسر طبقها عن الماء فينبعث صاعداً فيفعم البئر ثم يجري على وجه الأرض وادياً‏.‏ويزعمون أن الماء ربما أعجل بسرعته عن كل شيء‏.‏وهذه الغريبة موجودة في قصور توات وتيكورارين وواركلا وريغ‏.‏والعالم أبو العجائب‏.‏ والله الخلاق العليم‏.‏وهذا آخر الكلام في الطبقة الأولى من زناتة ولنرجع إلى أخبار الطبقة الثانية منهم وهم الذين اتصلت دولتهم إلى هذا العهد‏.‏الطبقة الثانية من زناتة أخبار الطبقة الثانية من زناتة وذكر أنسابهم وشعوبهم وأوليتهم قد تقدم لنا في تضاعيف الكلام قبل انقراض الملك من الطبقة الأولى من زناتة ما كان على يد صنهاجة والمرابطين من بعدهم وأن عصبة أجيالهم افترقت بانقراض ملكهم ودولهم وبقيت منهم بطون لم يمارسوا الملك ولا أخلقهم ترفه فأقاموا في قياطنهم بأطراف المغربين ينتجعون جانبي القفر والتل ويعطون الدول حق الطاعة‏.‏وغلبوا على بقايا الأجيال الأولى من زناتة بعد أن كانوا مغلبين لهم فأصبحت لهم السورة والعزة وصارت الحاجة من الدول إلى مظاهرتهم ومسالمتهم حتى انقرضت دولة الموحدين فتطاولوا إلى الملك وضربوا فيه مع أهله بسهم‏.‏وكانت لهم دول نذكرها إن شاء الله‏.‏وكان أكثر هذه الطبقة من بني واسين بن يصلتين إخوة مغراوة وبني يفرن‏.‏ويقال إنهم من بني وانتن بن ورسيك بن جانا إخوة مسارت وتاجرت وقد تقدم ذكر هذه الأنساب‏.‏وكان من بني واسين هؤلاء ببلاد قسطيلية‏.‏وذكر ابن الرقيق أن أبا يزيد النكاري لما ظهر بجبل أوراس كتب إليهم بمكانهم حول توزر يأمرهم بحصارها فحاصروها سنة ثلاث وثلاثين وثلاثماية‏.‏وربما أن منهم ببلد الحامة لهذا العهد ويعرفون ببني ورتاجن إحدى بطونهم‏.‏وأما جمهورهم فلم يزالوا بالمغرب الأقصى ما بين ملوية إلى جبل راشد‏.‏وذكر موسى بن أبي العافية في كتابه إلى الناصر الأموي يعرفه بحربه مع ميسور مولى أبي القاسم الشيعي وبمن صار إليه من قبائل البربر وزناتة فذكر فيهم من كان على ملوية وصا من قبائل بني واسين وبني يفرن وبني ورتاسن وبني وريمت ومطماطة فذكر منهم بني واسين لأن تلك المواطن هي مواطنهم قبل الملك‏.‏وفي هذه الطبقة منهم بطون‏:‏ فمنهم بنو مرين وهم أكثرهم عدداً وأقواهم سلطاناً وملكاً وأعظمهم دولة ومنهم أبو عبد الواد تلوهم في الكثرة والقوة وبنو توجين من بعدهم كذلك‏.‏هؤلاء أهل الملك من هذه الطبقة‏.‏وفيها من غير أهل الملك‏:‏ بنو راشد إخوة بني بادين كما نذكره وفيها أهل الملك أيضاً من غير نسبهم بقية من مغراوة بمواطنهم الأولى من وادي شلف نبضت فيهم عروق الملك بعد انقراض جيلهم الأول فتجاذبوا حبله مع أهل هذا الجيل‏.‏وكانت لهم في مواطنهم دولة كما نذكره‏.‏ومن أهل هذه الطبقة كثير من بطونها ليس لهم ملك‏:‏ نذكرهم الآن حين تفصيل شعوبهم‏.‏وذلك أن أحياءهم جميعاً تشعبت من زحيك بن واسين فكان منهم بنو سادين بن محمد وبنو مرين بن ورتاجن‏:‏ فأما بنو ورتاجن فهم من ولد ورتاجن بن ماخوخ بن وجديج بن فاتن بن يدر بن يخفت بن عبد الله بن ورتنيد بن المغر بن إبراهيم بن زحيك‏.‏وأما بنو مرين بن ورتاجن فتعددت أفخاذهم وبطونهم كما نذكره بعد حتى كثروا سائر شعوب بني ورتاجن وصار بنو ورتاجن معدودين في جملة أفخاذهم وشعوبهم‏.‏وأما بنو بادين بن محمد فمن ولد زحيك ولا أذكر الآن كيف يتصل نسبهم به‏.‏وتشعبوا إلى شعوب كثيرة‏:‏ فكان منهم بنو عبد الواد وبنو توجين وبنو مصاب وبنو أزردال يجمعهم كلهم نسب بادين بن محمد‏.‏وفي محمد هذا يجتمع بادين وبنو راشد ثم اجتمع محمد مع ورتاجن في زحيك بن واسين وكانوا كلهم معروفين بين زناتة الأولى ببني واسين قبل أن تعظم هذه البطون والأفخاذ وتشعبت مع الأيام‏.‏وبأرض إفريقية وصحراء برقة وبلاد الزاب منهم طوائف من بقايا زناتة الأولى قبل انسياحهم إلى المغرب‏:‏ فمنهم بقصور غدامس على عشرة مراحل قبل سرت وكانت مختطة منذ عهد الإسلام وهي خطة مشتملة على قصور وآطام عديدة وبعضها لبني واطاس من أحياء بني مرين يزعمون أن أوائلهم اختطوها وهي لهذا العهد قد استبحرت في العمارة واتسعت في التمدن بما صارت محطاً لركاب الحاج من السودان وقفل التجار إلى مصر والإسكندرية عند إراحتهم من قطع المفازة ذات الرمال المعترضة أمام طريقهم دون الأرياف والتلول وبابا لولوج تلك المفازة والحاج والتجر في مرجعهم‏.‏ومنهم ببلاد الحمة على مرحلة من غربي قابس أمة عظيمة من بني ورتاجن‏.‏وفرت منهم حاميتها واشتدت شوكتها وارتحل إليها التجر بالبضائع لنفاق أسواقها وتبحر عمارتها وامتنعت لهذا العهد على من يرومها ممن يجاورها فهم لا يودون خراجاً ولا يسمامون بمغرم حتى كأنهم لا يعرفونه عزة جناب وفضل بأس ومنعة‏.‏يزعمون أن سلفهم من بني ورتاجن اختطوها ورياستهم في بيت منهم يعرفون ببني وشاح وربما طال على رؤسائهم عهد الخلافة ووطأة الدول فيتطاولون إلى التي تنكر على السوقة من اتخاذ الآلات ويبرزون في زي السلطان أيام الزينة تهاوناً بشعار الملك ونسياناً لمألوف الانقياد شأن جرانهم رؤساء توزر ونفطة‏.‏وسابق الغاية في هذه المضحكة هو يملول مقدم توزر‏.‏ومن بني واسين هؤلاء بقصور مصاب على خمس مراحل من جبل تيطري في القبلة بما دون الرمال وعلى ثلاث مراحل من قصور بني ريغة في المغرب وهذا الاسم اسم للقوم الذين اختطوها ونزلوها من شعوب بني بادين حسبما ذكرناهم الآن‏.‏ووضعها في أرض حرة على آكام وضراب ممتنعة في قننها‏.‏وبينها وبين الأرض الحجرة المعروفة بالحمادة في سمت العرق متوسطة فيه قبالة تلك البلاد فراسخ في ناحية القبلة وسكانها لهذا العهد شعوب بني بادين من بني عبد الواد وبني توجين ومصاب وبني زردال فيمن يضاف إليهم من شعوب زناتة وإن كانت شهرتها مختصة بمصاب وحالها في المباني والأغراس وتفرق الجماعة بتفرق الرياسة شبيهة بحال بلاد بني ريغة والزاب‏.‏ومنهم بجبل أوراس بإفريقية طائفة من بني عبد الواد موطنوه منذ العهد الأقدم لأول الفتح معروفون بين ساكنيه‏.‏وقد ذكر بعض الإخباريين أن بني عبد الواد حضروا مع عقبة بن نافع في فتح المغرب عند إيغاله في ديار المغرب وانتهائه إلى البحر المحيط بالسوس في ولايته الثانية وهي الغزاة التي هلك في منصرفه منها وأنهم أبلوا البلاء الحسن فدعا لهم وأذن في رجوعهم قبل استتمام الغزاة‏.‏ولما تحيزت زناتة إلى المغرب الأقصى أمام كتامة وصنهاجة اجتمع شعوب بني واسين هؤلاء كلهم ما بين ملوية وصا كما ذكرناه‏.‏وتشعبت أفخاذهم وبطونهم وانبسطوا في صحراء المغرب الأقصى والأوسط إلى بلاد الزاب وما إليها من صحارى إفريقية إذ لم يكن للعرب في تلك المجالات كلها مذهب ولا مسلك إلى الماية الخامسة كما سبق ذكره‏.‏ولم يزالوا بتلك البلاد مشتملين لبوس العز مستمرين للأنفة وكان جل مكاسبهم الأنعام والماشية وابتغاؤهم الرزق من تحيف السابلة وفي ظل الرماح المشرعة وكانت لهم في محاربة الأحياء والقبائل ومنافسة الأمم والدول ومغالبة الملوك أيام ووقائع تلم بها ولم تعظم العناية باستيعابها فتأتي به‏.‏والسبب في ذلك أن اللسان العربي كان غالباً بغلب دولة العرب وظهور الملة العربية بالكتاب والخط بلغة الدولة ولسان الملك واللسان العجمي مستتر بجناحه مندرج في غماره ولم يكن لهذا الجيل من زناتة في الأحقاب القديمة ملك يحمل أهل الكتاب على العناية بتقييد أيامهم وتدوين أخبارهم ولم تكن مغالطة بينهم وبين أهل الأرياف والحضر حتى يشهدوا آثارهم لإبعادهم في القفار كما رأيت في مواطنهم وتوحشهم عن الانقياد فبقيت غفلاً إلى أن درس منها الكثير ولم يصل إليها منها بعد مهلكهم إلا الشارد القليل يتبعه المؤرخ المضطلع في مسالكه ويتقراه في شعابه ويستثيره من مكامنه وأقاموا بتلك القفار إلى أن تسنموا منها هضبات الملك على ما نصفه‏.‏ على المماليك والدول وذلك أن أهل هذه الطبقة من بني واسين وشعوبهم التي سميناها كانوا تبعا لزناتة الأولى ولما انزاحت زناتة إلى المغرب الأقصى أمام كتامة وصنهاجة خرج بنو واسين هؤلاء القفر ما بين ملوية وصا فكانوا يرجعون إلى ملوك المغرب لذلك العهد‏.‏مكناسة أولا ثم مغراوة من بعدهم‏.‏ثم حسر تيار صنهاجة عن المغرب وتقلص ملكهم الشيء وصاروا إلى الاستجاشة على القاصية بقبائل زناتة فأومضت بروقهم ورفت في ممالك زناتة منابتهم كما قدمناه‏.‏واقتسم أعمالها بنو ومانو وبنو يلومي ناحيتين وكانت ملوك صنهاجة أهل القلعة إذا عسكروا للمغرب يستنفرونهم لغزوه ويجمعون حشدهم للتوغل فيه‏.‏وكان بنو واسين هؤلاء ومن تشعب منهم من القبائل الشهيرة الذكر‏:‏ مثل بني مرين وبني توجين ومصاب قد ملكوا القفر ما بين ملوية وأرض الزاب وامتنعت عليهم الأرياف من المغربين بمن ملكها من زناتة الذين ذكرناهم وكان أهل الرياسة بتلك الأرياف والضواحي من زناتة مثل بني ومانوا وبني يلومي بالمغرب الأوسط وبني يفرن ومغراوة بتلمسان يستجيشون ببني واسين هؤلاء ويستظهرون بجموعهم على من زاحمهم أو قارعهم من ملوك صنهاجة وزناتة وغيرهم يجأجئون بهم من مواطنهم لذلك ويقرضونهم القرض الحسن من المال والسلاح والحبوب المعوزة لديهم بالقفار فيتأثلون منهم ويرتاشون‏.‏وعظمت حاجة بني حماد إليهم في ذلك عندما عصفت بهم ريح العرب الطوالع من بني هلال بن عامر وأصرعوا دولة المعز وصنهاجة بالقيروان والمهدية وألانوا من حدهم وزحفوا إلى المغرب الأوسط فدافع بنو حماد عن حوزته وأوعزوا إلى زناتة بمدافعتهم أيضاً فاجتمع لذلك بنو يعلى ملوك تلمسان من مغراوة وجمعوا من كان إليهم من بني واسين هؤلاء من بني مرين وعبد الواد وتوجين وبني راشد‏.‏وعقدوا على حرب الهلاليين لوزيرهم بو سعدى خليفة اليفرني فكان له مقامات في حروبهم ودفاعهم عن ضواحي الزاب والمغرب الأوسط إلى أن هلك في بعض أيامه معهم‏.‏وغلب الهلاليون قبائل زناتة على جميع الضواحي وأزاحوهم عن الزاب وما إليه من بلاد إفريقية وانشمر بنو واسين هؤلاء من بني مرين وعبد الواد وتوجين عن الزاب إلى موطنهم بصحراء المغرب الأوسط من مصاب وجبل راشد إلى ملوية وفيكيك ثم إلى سجلماسة ولاذوا ببني ومانوا وبني يلومي ملوك الضواحي بالمغرب الأوسط وتفيأوا ظلهم واقتسموا ذلك القفر بالمواطن فكان لبني مرين الناحية الغربية منها قبلة المغرب الأقصى بتيكورارين ودبدوا إلى ملوية وسجلماسة وبعدوا عن بني ومانوا وبني يلومي إلا في الأحايين وعند الصريخ‏.‏وكان لبني بادين منها الناحية الشرقية قبلة المغرب الأوسط ما بين فيكيك ومديونة إلى جبل راشد ومصاب وكانت بينهم وبين بني مرين فتن متصلة باتصال أيامهم في تلك المواطن سبيل القبائل الجيران في مواطنهم وكان الغلب في حروبهم أكثر ما يكون لبني بادين لما كانت شعوبهم أكثر وعددهم أوفر فإنهم كانوا أربعة شعوب‏:‏ بني عبد الواد وبني توجين وبني زردال وبني مصاب وكان معهم شعب آخر وهم إخوانهم بنو راشد لأنا قدمنا أن راشد أخو بادين‏.‏وكان موطن بني راشد الجبل المشهور بهم بالصحراء ولم يزالوا على هذه الحال إلى أن ظهر أمر الموحدين فكان لعبد الواد وتوجين ومغراوة من المظاهرة لبني يلومي على الموحدين ما هو مذكور في أخبارهم‏.‏ثم غلب الموحدون على المغرب الأوسط وقبائله من زناتة فأطاعوا وانقادوا وتحيز بنو عبد الواد وبنو توجين إلى الموحدين وازدلفوا إليهم بأمحاض النصيحة ومشايعة الدعوة وكان التقدم لبني عبد الواد عون الشعوب الأخرى وأمحضوا النصيحة للموحدين فاصطنعوهم عون بني مرين كما نذكر في أخبارهم‏.‏وأقطعهم الموحدون ضواحي المغرب الأوسط كما كانت لبني يلومي وبني ومانوا فملكوها‏.‏وتفرد بنو مرين بعد دخول بني بادين إلى المغرب الأوسط بتلك الصحراء لما اختار الله لهم من وفور قسمهم في الملك واستيلائهم على سلطان المغرب الذي غلبوا به الدول واشتملوا الأقطار ونظموا المشارق إلى المغارب واقتعدوا كراسي الدول المسامتة لهم بأجمعها ما بين السوس الأقصى إلى إفريقية‏.‏والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده‏.‏فيه لزناتة عولة وسلطاناً في الأرض واقتادوا الأمم برسن الغلب وناغاهم في ذلك الملك البدوي إخوانهم بنو توجين‏.‏وكانت في هذه الطبقة الثانية بقية أخرى مما ترك آل خزر من قبائل مغراوة الأولى كانوا موطنين بقرار عزهم ومنشأ جيلهم بوادي شلف فجاذبوا هؤلاء جبل الملك وناغوهم في أطوار الرياسة واستطالوا بمن وصل جناحهم من هذه فتطاولوا إلى مقاسمتهم في الملك ومساهمتهم في الأمر‏.‏وما زال بنو عبد الواد في الغض من عنانهم وجدع أنوف عصيانهم حتى أوهنوا من بأسهم وخصت الدولة العبد الوادية ثم المرينية بسمة الملك المخلفة من جناح تطاولهم وتمحض ذلك كله عن استبداد بني مرين واستتباعهم بجميع هؤلاء العصائب كما نذكر لك الان دولتهم واحدة بعد أخرى ومصاير أمور هؤلاء الأربعة التي هي رؤوس هذه الطبقة الثانية من الملك لله يؤتيه من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏.‏ولنبدأ منها بذكر مغراوة بقية الطبقة الأ ولى وما كان لرؤسائهم أولاد منديل من الملك في هذه الطبقة الثانية‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:37 PM

الخبر عن أولاد مند يل
من الطبقة الثانية وما أعادوا لقومهم من مغراوة من الملك بموطنهم الأول من شلف وما إليه من نواحي المغرب الأوسط لما ذهب الملك عن مغراوة بانقراض ملوكهم آل خزر واضمحلت دولتهم بتلمسا ن وسجلماسة وفاس وطرابلس وبقية قبائل مغراوة متفرقة في مواطنهم الأولى بنواحي المغربين وإفريقية والصحراء والتلول والكثير منهم بعنصرهم ومركزهم الأول بموطن شلف وما إليه فكان به بنو ورسيفان وبنو ورتزمان وبنو أيليت ويقال إنهم من ورتزمان وبنو سعيد وبنو زجاك وبنو سنجاس وربما يقال إنهم من زناتة وليسوا من مغراوة وكان بنوخزرون الملوك بطرابلس فأقام بجبل أوراس مدة ثم انتقل إلى زواوة فأقام بينهم أعواما‏.‏ثم ارتحل عنهم فنزل على بقايا قومه مغراوة بشلف من بني ورسيفان وبني ورتزمين وبني بو سعيد وغيرهم فتلقوه بالمبرة والكرامة وأوجبوا له حق البيت الفي ينتسب إليه‏.‏وأصهر إليهم فأنكحوه وكثر ولده وعرفوا بينهم ببني محمد ثم بالخزرية نسبة إلى سلفه الأول‏.‏وكان من ولده الملقب أبو ‏"‏ بن عبد الصمد بن وارجيع بن عبد الصمد وكان منتحلا للعبادة والخيرية وأصهر سإليه بعض ولد ماخوخ ملوك بني ومانوا بابنته فأنكحه إياها فعظم أمره عندهم بقومه ونسبه وصهره‏.‏وجاءت دولة الموحدين على إثرذلك فرمقوه بعين التجلة لما كان عليه من طرق الخير فأقطعوه بوادي شلف وأقام على ذلك‏.‏وكان له من الولد وارجيع وهو كبيرهم وعزيز ويغريان وماكور ومن بنت ابن ماخوخ عبد الرحمن وكان أجلهم شأنا عنده وعند قومه عبد الرحمن هذا لما يوجبون له بولادة ماخوخ ويزعمون أنه لما ولد خرجت به أمه إلى الصحراء فألقته إلى شجرة وذهبت في بعض حاجتها فأطاف به يعسوب من النحل متواقعين عليه‏.‏وبصرت به على البعد فجاءت تعدو لما أدركها من الشفقة وقال لها بعض العرافين احتفظي عليه فوالله ليكونن له شأن‏.‏ونشأ عبد الرحمن هذا في حق هذه التجلة مدلاً بنسبه وبأسه‏.‏وكثر عشيره من بني أبيه واعصوصب عليه قبائل مغراوة فكان له بذلك شوكة وفي دولة الموحدين تقدمة لما كان يوجب لهم على نفسه من الانحياش والمخالطة والتقدم في مذاهب الطاعة‏.‏وكان السادة منهم يمرون به في غزواتهم إلى إفريقية ذاهبين وراجعين فينزلون منه خير نزل وهم ينقلبون بحمده والشكر لمذهبه فيزيد خلفاؤهم اغتباطًا به‏.‏وأدرك بعض السادة وهو بأرض قومه


الخبر بمهلك الخليفة بمراكش
فخلف الذخيرة والظهر أسلمها إلى عبد الرحمن هذا فنجا بدمائه بعد أن صحبه إلى تخم وطنه فكانت له فيها ثروة أكسبته قوة وكثرة فاستركب من قومه واستكثر من عصابته وعشيره‏.‏وهلك خلال ذلك وقد فشل ريح بني عبد المؤمن وضعف أمر الخلافة بمراكش‏.‏وكان له من الولد منديل وتهيم وكان أكبرهما منديل فقام بأمر قومه على حين عصفت رياح الفتنة وأجلب ابن غانية على أعمال المغرب الأوسط‏.‏وسما لمنديل أمل في التغلب على ما يليه فاستأسد في عرينه وحمى عن أشباله‏.‏ثم فسح خطوته إلى ما جاوره من البلاد فملك جبل وكان بسيط متيجة لهذا العهد مستبحرًا بالعمران آهلاً بالقرى والأمصار‏.‏ونقل الإخباريون أن أهل متيجة لذلك العهد كانوا يجمعون في ثلاثين مصرًا فجاس خلالها وأوطأ الغارات ساحتها وخرب عمرانها حتى تركها خاوية على عروشها‏.‏وهو في ذلك يوهم التمسك بطاعة الموحدين وأنه سلم لمن سالمهم وحرب على من عاداهم‏.‏وكان ابن غانية منذ غلبه الموحدون على إفريقية قد أزاحوه إلى قابس وما إليها ونزل الشيخ أبو محمد بن أبي حفص بتونس فدفعه عن إفريقية إلى أن هلك سنة ثمان عشرة فطمع يحيى بن غانية في استرجاع أمره وأسف إلى الثغور والأمصار يعيث فيها ويخربها ثم تجاوز إفريقية إلى بلاد زناتة وشن عليها الغارات واكتسح البسائط وتكررت الوقائع بينه وبينهم‏.‏وجمع له منديل بن عبد الرحمن ولقيه بمتيجة وكانت الدبرة عليه وانفضت عنه مغراوة فقتله ابن غانية صبراً سنة اثنتين أو ثلاث وعشرين‏.‏وتغلب على الجزائر إثر نكبته فصلب بها شلوه وصيره مثلاً للآخرين‏.‏وقام بأمره في قومه بنوه وكانوا نجباء فكان لهم العدة والشرف وكانوا يرجعون في أمرهم إلى كبيرهم العباس فتقبل مذاهب أبيه وأقصر عن بلاد متيجة‏.‏ثم غلبهم بنو توجين على جبل وانشريش وضواحي المرية وما إلى ذلك‏.‏وانقبضوا إلى مراكزهم الأولى بشلف وأقاموا بها ملكًا بدويًا لم يفارقوا فيه الظعن والخيام والضواحي والبسائط‏.‏واستولوا على مدينة مليانة وتنس وبرشك وشرشال مقيمين فيها الدعوة الحفصية واختطوا قرية مازونة‏.‏ولما استوسق الملك بتلمسان ليغمراسن بن زيان واستفحل سلطانه بها وعقد له عليها ولأخيه من قبله بنو عبد المؤمن سما إلى التغلب على أمصار المغرب الأوسط وزاحم بني توجين وبني منديل هؤلاء بمناكبه فلفتوا وجوههم جميعاً إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حفص مديل الدولة بإفريقية من آل عبد المؤمن وبعثوا إليه الصريخ على يغمراسن فاحتشد لها جموع الموحدين والعرب وغزا تلمسان وافتتحها كما ذكر ناه‏.‏ولما قفل إلى الحضرة عقد مرجعه لأمراء زناتة كل على قومه ووطنه‏:‏ فعقد للعباس بن منديل على مغراوة ولعبد القوي على توجين ولأولاد حبورة على ملكيش وسوغ لهم اتخاذ الآلة فاتخذوها بمشهد منه‏.‏وعقد العباس السلم مع يغمراسن ووفد عليه بتلمسان فلقاه مبرة وتكريمًا وذهب عنه بعدها مغاضبًا‏.‏يقال إنه تحدث بمجلسه يومًا فزعم أنه رأى فارسًا واحدًا يقاتل مايتين من الفرسان فنكر ذلك من سمعه من بني عبد الواد وعرضوا تكذيبه فخرج العباس لها مغاضبًا حتى أتى قومه وأتى يغمراسن مصداق قوله فإنه كان يعني بذلك الفارس نفسه‏.‏ وهلك العباس لخمس وعشرين سنة من بعد أبيه سنة سبع وأربعين وقام بالأمر بعده أخوه محمد بن منديل وصلحت الحال بينه وبين يغمراسن وصاروا إلى الاتفاق والمهادنة‏.‏ونفر معه بقومه مغراوة إلى غزو المغرب سنة كلدمان وهي سنة سبع وأربعين وستماية وهزمهم فيها يعقوب بن عبد الحق فرجعوا إلى أوطانهم وعاودوا شأنهم في العداوة‏.‏وانتقض عليهم أهل مليانة وخلعوا الطاعة الحفصية‏.‏وكان من خبر هذا الانتقاض أن أبا العباس أحمد الملياني كان كبير وقته علماً وديناً ورواية وكان عالي السند في الحديث فرحل إليه بالأعلام وأخذ عنه الأئمة وأوفت به الشهرة على ثنايا السيادة فانتهت إليه رياسة بلده على عهد يعقوب المنصور وبنيه‏.‏ونشأ ابنه أبو علي في جو هذه العناية وكان جموحاً للرياسة طامحاً إلى الاستبداد وهو مع ذلك خلو من المغارم‏.‏فلما هلك أبوه جرى في شاو رئاسته طلقاً ثم رأى ما بين مغراوة وبني عبد الواد من الفتنة فحدثته نفسه بالاستبداد ببلده فجمع لها جراميزه وقطع الدعاء للخليفة المستنصر سنة تسع وخمسين‏.‏وبلغ الخبرإلى تونس فسرح الخليفة أخاه أبا حفص في عسكر من الموحدين في جملته ‏"‏ دون الريك بن هراندة ‏"‏ من آل أذفونش ملوك الجلالقة وكان نازعاً إليه عن أبيه في طائفة من قومه فنازلوا مليانة أياماً‏.‏وداخل السلطان طائفة من مشيخة البلد المنحرفين عن أبي علي الملياني فسرب إليهم جندا بالليل واقتحموها من بعض المداخل وفر أبو علي الملياني تحت الليل‏.‏وخرج من بعض قنوات البلد فلحق بأحياء العرب ونزل على يعقوب بن موسى أمير العطاف من بطون زغبة فأجاره إلى أن لحق بعدها بيعقوب بن عبد الحق فكان من أمره ما ذكرناه في أخبارهم‏.‏وانصرف عسكر الموحدين والأمير أبو حفص إلى الحضرة وعقدوا لمحمد بن منديل على مليانة فأقام فيها الدعوة الحفصية على سنن قومه‏.‏ثم هلك محمد بن منديل سنة اثنتين وستين لخمس عشرة من ولايته قتله أخواه ثابت وعياد بمنزل ظواعنهم بالخميس من بسيط بلادهم وقتل معه عطية ابن أخيه منيف‏.‏وشاركه ثابت في الأمر واجتمع إليه قومه وتقطع بين أولاد منديل وخشنت صدورهم‏.‏واستغلظ يغمراسن بن زيان عليهم وداخله عمر بن منديل أخوهم في أن يمكنه من مليانة ويشد عضده على رياسة قومه فشارطه على ذلك وأمكنه من أزمة البلد سنة ثمان وستين ونادى بعزل ثابت ومؤازرة عمر على الأمر فتم لهما ما أحكماه من أمرهما في مغراوة‏.‏واستمكن بها يغمراسن من قياد قومه‏.‏ثم تناغى أولاد منديل في الازدلاف إلى يغمراسن بمثلها نكاية لعمر فاتفق ثابت وعايد أولاد منديل على أن يحكماه في تنس فأمكناه منها سنة اثنتين وسبعين على اثني عشر ألفاً من الذهب‏.‏واستمرت ولاية عمر إلى أن هلك سنة ست وسبعين فاستقل ثابت بن منديل برياسة مغراوة وأجاز عايد أخوه إلى الأندلس للرباط والجهاد مع صاحبه زيان بن محمد بن عبد القوي وعبد الملك بن يغمراسن فحول زناتة واسترجع ثابت بلاد تنس ومليانة من يد يغمراسن ونبذ إليه العهد‏.‏ثم استغلظ يغمراسن عليهم واسترد تنس سنة إحدى وثمانين بين يدي مهلكه‏.‏ولما هلك يغمراسن وقام بالأمر ابنه عثمان انتقضت عليه تنس ثم ردد الغزو إلى بلاد توجين ومغراوة حتى غلبهم آخراً على ما بأيديهم وملك المرية بمداخلة بني لمدية أهلها سنة سبع وثمانين‏.‏وغلب ثابت بن منديل على مازونة فاستولى عليها ثم نزل له عن تنس أيضاً فملكها‏.‏ولم يزل عثمان مراغماً لهم إلى أن زحف إليهم سنة ثلاث وتسعين فاستولى على أمصارهم وضواحيهم وأخرجهم عنها وألجأهم إلى الجبال‏.‏ودخل ثابت بن منديل إلى برشك ممانعاً دونها فزحف إليه عثمان وحاصره بها حتى إذا استيقن أنه أحيط به ركب البحر إلى المغرب ونزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين صريخاً سنة أربع وتسعين فأكرمه ووعده بالنصرة من عدوه وأقام بفاس‏.‏وكانت بينه وبين ابن الأشهب من رجالات بني عسكر صحابة ومداخلة فجاء بعض الأيام إلى منزله ودخل عليه من غير استئذان وكان ابن الأشهب تملا فسطا به وقتله‏.‏وثار السلطان به منه وانفجع لموته‏.‏وكان ثابت بن منديل قد أقام ابنه محمداً للأمر في قومه وولاه عليهم لعهده واستبد بملك مغراوة دونه ولما انصرف أبوه ثابت إلى المغرب أقام هو بأمارته على مغراوة‏.‏وهلك قريباً من مهلك أبيه فقام بأمرهم من بعده شقيقه علي ونازعه الأمر أخواه رحمون ومنيف فقتله منيف ونكر ذلك هو منهم وأبوا من أمارتهما عليهم فلحقا بعثمان بن يغمراسن فأجازهما إلى الأندلس‏.‏وكان أخوهما معمر بن ثابت قائداً على الغزاة بالبغيرة فنزل لمنيف عنها فكانت أول ولاية وليها بالأندلس‏.‏ولحق بهم أخوهم عبد المؤمن فكانوا جميعاً هنالك‏.‏ومن أعقاب عبد المؤمن يعقوب بن زيان بن عبد المؤمن ومن أعقاب منيف بن عمر بن منيف وجماعة منهم هم لهذا العهد بوطن الأندلس‏.‏ولما هلك ثابت بن منديل سنة أربع وتسعين كما قلناه كفل السلطان ولده وأهله وكان فيهم حافده راشد بن محمد فأصهر إليه في أخته فأنكحه إياها‏.‏ونهض إلى تلمسان سنة ثمان وتسعين فأناخ عليها واختط مدينة لحصارها وسرح عساكر في نواحيها‏.‏وعقد على مغراوة وشلف لعمر بن ويغرن بن منديل وبعث معه جيشاً فافتتح مليانة وتنس ومازونة سنة تسع وتسعين ووجد راشد في نفسه إذ لم يوليه على قومه وكان يرى أنه الأحق بنسبه وصهره فنزع عن السلطان ولحق بجبال متيجة ودس إلى أوليائه في مغراوة حتى وجد فيهم الدخلة فأغذ السير ولحق بهم فافترق أمر مغراوة‏.‏وداخل أهل مازونة فانتقضوا على السلطان وبيت عمر بن ويغرن بأزمور من ضواحي بلادهم فقتله‏.‏واجتمع عليه قومه وسرح السلطان إليه الكتائب من بني عسكر لنظر الحسن بن علي بن أبي الطلاق ومن بني ورتاجن لنظر علي بن محمد الخيري من بني توجين لنظر أبي بكر بن إبراهيم بن عبد القوي ومن الجند لنظر علي بن حسان صبحي من صنائعه‏.‏وعقد على مغراوة لمحمد بن عمر بن منديل وزحفوا إلى مازونة وقد ضبطها راشد وخلف عليها علياً وحمو ابني عمه يحيى بن ثابت‏.‏ولحق هو ببني بو سعيد مطلاً عليهم وأناخت العساكر بمازونة ووالوا عليها الحصار سنتين حتى شهدوهم‏.‏وبعث علي بن يحيى أخاه حمو إلى السلطان من غير عهد فتقبض عليه‏.‏اضطره الجهد إلى مركب الغرور فخرج إليهم ملقياً بيده سنة ثلاث‏.‏وأشخصه إلى سلطان فعفا عنه واستبقاه واحتسبهما تأنيساً واستمالة لراشد‏.‏ثم سرح العساكر إلى قاصية الشرق لنظر أخيه أبي يحيى بن يعقوب فنازل راشد بن محمد في معقل بني بو سعيد وطال حصاره إياه وأمكنته الغرة بعض الأيام في العساكر وقد تعلقوا بأوعار الجبل زاحفين إليه فهزمهم‏.‏وهلك في تلك الواقعة خلق من بني مرين وعساكر السلطان وذلك سنة أربع وسبعماية‏.‏وبلغ الخبرإلى السلطان فأحفظه ذلك عليهم وأمر بابن عمه علي بن يحيى وأخيه حمو ومن معهم من قومهم فقتلوا رشقاً بالسهام واستلحمهم‏.‏ثم سرح أخاه أبا يحيى بن يعقوب ثانية سنة أربع فاستولى على بلاد مغراوة ولحق راشد بجبال صنهاجة من متيجة ومعه عمه منيف بن ثابت ومن اجتمع إليهم من الثعالبة فنازلهم أبو يحيى بن يعقوب‏.‏وراسل راشد يوسف بن يعقوب فانعقدت بينهما السلم ورجعت العساكر عنهم‏.‏وأجاز منيف بن ثابت مع بنيه وعشيرته إلى الأندلس فاستقروا هنالك آخر الأيام‏.‏ولما هلك يوسف بن يعقوب بمناخه على تلمسان آخر سنة ست وانعقدت السلم بين حافده أبي ثابت وبين أبي زيان بن عثمان سلطان بني عبد الواد على أن يخلي له بنو مرين عن جميع ما ملكوه من أمصارهم وأعمالهم وثغورهم وبعثوا في حاميتهم وعمالهم وأسلموها لعمال أبي زيان‏.‏وكان راشد قد طمع في استرجاع بلاده وزحف إلى مليانة فأحاط بها‏.‏فلما نزل عنها بنو مرين لأبي زيان وصارت مليانة وتنس له أخفق سعي راشد وأفرج عن البلد‏.‏ثم كان مهلك أبي زيان قريباً وولى أخوه أبو حمو موسى بن ضمان‏.‏واستولى على المغرب الأوسط فملك تافر كينت سنة سبع وملك لعدها مليانة والمرية ثم ملك تنس وعقد عليها لمسامح مولاه وقارن ذلك حركة صاحب بجاية السلطان أبي البقاء خالد ابن مولانا الأمير أبي زكريا ابن السلطان أبي إسحاق إلى متيجة لاسترجاع الجزائر من يد ابن علان الثائر عليهم فلقيه هنالك راشد بن محمد وصار في حملته وظاهره على شأنه‏.‏ولقاه السلطان تكرمة وبراً وعقد له ولقومه حلفاً مع صنهاحة أولياء الدولة والمتغلبين على ضاحية بجاية وجبال زواوة فاتصلت يد راشد بيد زعيمهم يعقوب بن خلوف أحد وزراء الدول‏.‏ولما نهض السلطان خالد للاستئثار بملك الحضرة تونس استعمل يعقوب بن خلوف على بجاية وعسكر راشد معه بقومه وأبلى في الحروب بين يديه وأغنى في مظاهرة أوليائه حتى إذا ملك حضرتهم واستولى على تراث سلفهم أسف حاجب الدولة راشد هذا وقومه بإمضاء الحكم في بعض حشمه لعرض للخرابة في السابلة فتقبض عليه ورفع إلى سدة السلطان فأمضى فيه حكم الله‏.‏وذهب راشد مغاضباً ولحق بوليه ابن خلوف ومضطربه من زواوة‏.‏وكان يعقوب بن خلوف قد هلك وولى السلطان مكانه ابنه عبد الرحمن فلم يرع حق أبيه في إكرام صديقه راشد‏.‏وتشاجر معه في بعض الأيام مشاجرة نكر عبد الرحمن فيها ملاحاة راشد له وأنف منها وأدل فيها راشد بمكانه من الدولة وببأس قومه فلذعه بالقول وتناوله عبد الرحمن وحشمه وخزاً بالرماح إلى أن أقعصوه‏.‏وانذعر جميع مغراوة ولحقوا بالثغور القاصية فأقفر منهم شلف وما إليه كأن لم يكونوا به‏.‏وأجاز منهم بنو منيف وبنو ويغرن إلى الأندلس للمرابطة بثغور المسلمين فكانت منهم حامية موطنة هنالك أعقابهم لهذا العهد‏.‏وأقام في جوار الموحدين فل آخر من أوساط قومهم كانوا شوكة في عساكر الدولة إلى أن انقرضوا‏.‏ولحق علي بن راشد طفلا بعمته في قصر بني يعقوب بن عبد الحق فكفلته وصار أولاد منديل عصباً إلى وطن بني مرين فتولوهم وأحسنوا جوارهم وأصهروا إليهم سائر الدولة إلى أن تغلب السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط ومحا دولة آل زيان وجمع كلمة زناتة وانتظم مع بلادهم بلاد إفريقية وانتقضت العمالات والأطراف وانتزى أعياص الملك بمواطنهم الأولى فتوثب علي بن راشد بن محمد بن ثابت بن منديل على بلاد شلف وتملكها وتغلب على أمصارها‏:‏ مليانة وتنس وبرشك وشرشال وأعاد ما كان لسلفه فيها من الملك على طريقتهم البدوية وأرهفوا حدهم لمن طالبهم من القبائل‏.‏وخلص السلطان أبو الحسن من ورطته بإفريقية ثم من ورطة البحر بمرسى بجاية إلى الجزائر يحاول استرجاع ملكه المفترق فبعث إلى علي بن راشد وذكره ذمته فتذكر وحن وأشترط لنفسه التجافي عن ملك قومه بشلف على أن يظاهره على بني عبد الواد فأبى السلطان أبو الحسن من اشتراط ذلك له فتحيز عنه إلى فيئة بني عبد الواد الناجمين بتلمسان كما ذكرناه قبل وظاهرهم عليه‏.‏وبرز إليهم السلطان أبو الحسن من الجزائر والتقى الجمعان بشربوبة سنة إحدى وخمسين فاختل مصاف السلطان أبي الحصن وانهزم جمعه وهلك ابنه الناصر طاح عمه في مغراوة هؤلاء‏.‏وخرج إلى الصحراء ولحق منها بالمغرب الأقصى كما نذكره بعد‏.‏وتطاول الناجمون بتلمسان من آل يغمراسن إلى انتظام بلاد مغراوة في ملكهم كما كان لسلفهم فنهض إليهم بعساكر بني عبد الواد رديف سلطانهم وأخوه أبو ثابت الزعيم بن عبد الرحمن بن يغمراسن فأوطأ قومه بلاد مغراوة سنة اثنتين وخمسين وفل جموعهم وغلبهم على الضاحية والأمصار‏.‏وأحجر علي بن راشد بتنس في شرذمة من قومه وأناخ بعساكره عليه وطال الحصار ووقع الغلب‏.‏ولما رأى علي بن راشد أن قد أحيط به دخل إلى زاوية من زوايا قصره وانتبذ فيها عن الناس وذبح نفسه بحد حسامه وصار مثلاً وحديثاً للآخرين‏.‏واقتحم البلد لحينه واستلحم من عثر عليه من مغراوة لآخرون إلى أطراف الأرض ولحقوا بأهل الدول فاستركبوا واستلحقوا وصاروا جنداً للدول وحشماً وأتباعا وانقرض أمرهم من بلاد شلف‏.‏ثم كانت لبني مرين الكرة الثانية إلى تلمسان وغلبوا آل زيان ومحوا آثارهم‏.‏ثم فاء ظلهم بملك السلطان أبي عنان وحسر تيارهم‏.‏وجدد الناجمون من آل يغمراسن دولة ثالثة بمكان عملهم على يد أبي حمو الأخير ابن موسى بن يوسف كما نذكره في أخبارهم‏.‏ثم كانت لبني مرين الكرة الثالثة إلى بلد تلمسان ونهض السلطان لعزيز ابن السلطان أبي الحسن إليها فاتح سنة اثنتين وسبعين وسرح عساكره في أتباع أبي حمو الناجم بها من آل يغمراسن حين فر أمامه في قومه وأشياعه من العرب كما لك كله‏.‏ولما انتهت العساكر إلى البطحاء تلوموا هنالك أياما لإزاحة عللهم‏.‏وكان في جملتهم صبي من ولد علي بن راشد الذبيح اسمه حمزة ربي يتيماً في حجر دولتهم لذمام الصهر الذي لقومه فيهم فكفلته نعمتهم وكنفه جوهم حتى شب واستوى وسخط رزقه ديوانهم وحاله بين ولدانهم‏.‏واعترض بعض الأيام قائد الجيوش الوزير أبا بكر بن غازي شاكياً فجبهه وأساء رده فركب الليل ولحق بمعقل بني بوسعيد من بلد شلف فأجاروه ومنعوه ونادى بدعوة قومه فأجابوه‏.‏وسرح إليهم السلطان عبد العزيز وزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة كبير تيربيغين في جيش كثيف من بني مرين والجند فنزل بساحة ذلك الجبل فحاصرهم حولاً كريتاً ينال منهم وينالون منه وامتنعوا عليه واتهم السلطان وزيره بالمداهنة وسعى به منافسوه فتقبض عليه وسرح وزيره الآخر أبا بكر بن غازي فنهض يجر العساكر الضخمة والجيوش الكثيفة إلى أن نزل بهم وصبحهم القتال فقذف الله في قلوبهم الرعب وأنزلهم من معقلهم‏.‏وفر حمزة بن علي في فل من قومه فلحق ببلاد حصين المنتقضين كانوا على الدولة أبي زيان بن أبي سعيد الناجم من آل يغمراسن حسبما نذكر‏.‏وأتى بنو أبي سعيد طاعتهم وأخلصوا الضمائر في مغيبهم وحسن موقعها‏.‏وبدا لحمزة في الرجوع إليهم فأغذ السير في لمة من قومه حتى إذا ألم بهم نكروه لمكان ما اعتقلوا به من حبل الطاعة فتسهل إلى البسائط وقصد تيمزوغت يظن بها غرة ينتهزها‏.‏وبرزت إليه حاميتها ففلوا حده وردوه على عقبه وتسابقوا في أتباعه إلى أن تقبضوا عليه وقادوه إلى الوزير ابن غازي بن الكاس‏.‏وأوعز إليه السلطان بقتله في جملة أصحابه فضرب أعناقهم وبعث بها إلى سدة السلطان‏.‏وصلب أشلاءهم على خشب مسندة نصبها لهم ظاهر مليانة وامحى أثر مغراوة وانقرض أمرهم وأصبحوا خولا للأمراء وجندا في الدول وأوزاعاً في الأقطار كما كانوا قبل هذه الدولة الأخيرة لهم‏.‏والبقاء لله وحده وكل شيء هالك إلا وجهه‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:38 PM

الخبر عن دولة بني عبد الواد
من هذه الطبقة الثانية وما كان لهم بتلمسان وبلاد المغرب الأوسط من الملك والسلطان وكيف كان مبدأ أمرهم ومصائر أحوالهم قد تقدم لنا في أول هذه الطبقة الثانية من زناتة ذكر بني عبد الواد هؤلاء وأنهم من ولد بادين بن محمد إخوة توجين ومصاب وزردال وبني راشد وأن نسبهم يرتفع إلى زحيك بن واسين بن ورشيك بن جانا وذكرنا كيف كانت حالهم قبل الملك في مواطنهم تلك‏.‏وكان إخوانهم بمصاب وجبل راشد وفيكيك وملوية ووصفنا من حال فتنتهم مع بني مرين إخوانهم المجتمعين معهم بالنسب في زحيك بن واسين‏.‏ولم يزل بنو عبد الواد هؤلاء بمواطنهم تلك وكان إخوانهم بنو راشد وبنو زردال وبنو مصاب منجدين إليهم بالنسب والحلف وبنو توجين منابذين لهم أكثر أزمانهم ولم يزالوا جميعاً متغلبين على ضاحية المغرب الأوسط عامة الأزمان وكانوا تبعاً فيه لبني ومانوا وبني يلومي حين كان لهم التغلب فيه‏.‏وربما يقال إن شيخهم لذلك العهد كان يعرف بيوسف بن تكفا حتى إذا نزل عبد المؤمن والموحدون نواحي تلمسان وسارت عساكرهم إلى بلاد زناتة تحت راية الشيخ أبي حفص فأوقعوا بهم كما ذكرناه حسنت بعد ذلك طاعة بني عبد الواد وانحياشهم إلى الموحدين وكانت بطونهم وشعوبهم فية أظهرها فيما يذكرون ستة‏:‏ بنو ياتكين وبنو وللو وبنو ورصطف ومصموحة وبنو تومرت وبنو القاسم‏.‏ويقولون بلسانهم ايت القاسم وايت حرف الإضافة النسبية عندهم‏.‏ويزعم بنو القاسم هؤلاء أنهم من ولد القاسم بن إدريس‏.‏وربما قالوا في هذا القاسم أنه ابن محمد بن إدريس أو ابن محمد بن عبد الله أو ابن محمد بن القاسم وكلهم من أعقاب إدريس مزعماً لا مستند له إلا اتفاق بني القاسم هؤلاء عليه مع أن البادية بعداء عن معرفة مثل هذه الأنساب‏.‏والله أعلم بصحة ذلك‏.‏وقد قال يغمراسن بن زيان أبو ملوكهم لهذا العهد لما رفع نسبهم إلى إدريس كما يذكرونه فقال برطانتهم ما معناه‏:‏ إن كان هذا صحيحاً فينفعنا عند الله‏.‏وأما الدنيا فإنما نلناها بسيوفنا‏.‏ولم تزل رياسة بني عبد الواد في بني القاسم لشدة شوكتهم واعتزاز عصبتهم وكانوا بطونا كثيرة‏:‏ فمنهم بنو يكنيمن بن القاسم‏.‏وكان منهم ويغرن بن مسعود بن يكنيمن وأخواه يكنيمن وعمر وكان أيضاً أعدوي بن يكنيمن الأكبر ويقال الأصغر‏.‏ومنهم أيضاً عبد الحق بن منغفاد من ولد ويغرن‏.‏وكانت الرياسة عليهم لعهد عبد المؤمن لعبد الحق بن منغفاد واعدوى بن يكنيمن‏.‏وعبد الحق بن منغفاد هو الذي استنفد الغنائم من يد بني مرين وقتل المخضب بمسوف حين بعثه عبد المؤمن مع الموحدين لذلك‏.‏والمؤرخون يقولون عبد الحق بن معاد بميم وعين مهملة مفتوحتين وألف بعدها دال وهو غلط وليس هذا اللفظ بهذا الضبط من لغة زناتة وإنما هو تصحيف منغفاد بميم ونون بعدها مفتوحتين وغين بعدهما معجمة ساكنة وفاء مفتوحة والله أعلم‏.‏ومن بطون بني القاسم بنو مطهر بن يمل بن يزكن بن القاسم‏.‏وكان حمامة بن مطهر من شيوخهم لعهد عبد المؤمن وأبلى في حروب زناتة مع الموحدين ثم حست طاعته وانحياشه ومن بطون بني القاسم أيضاً بنو علي وإليهم انتهت رياستهم وهم أشدهم عصبية وأكثرهم جمعاً وهم أربعة أفخاذ‏:‏ بنو طاع الله وبنو دلول وبنو كمي وبنو معطي بن جوهر والأربعة بنو علي‏.‏ونصاب الرياسة في بني طاع الله لبني محمد بن زكدان بن تيدوكسن بن طاع الله‏.‏هذا ملخص الكلام في نسبهم‏.‏ولما ملك الموحدون بلاد المغرب الأوسط وبلوا من طاعتهم وأنحياشهم ما كان سبباً لاستخلاصهم فأقطعوهم عامة بلاد بني يلومي وبني ومانوا وأقاموا بتلك المواطن وحدثت الفتنة بين بني طاع الله وبني كمي إلى أن قتل كندوز من بني كمي زيان بن ثابت كبير بني محمد بن زكدان وشيخهم‏.‏وقام بأمرهم بعده جابر ابن عمه يوسف بن محمد فثار من كندوز بزيان ابن عمه وقتله به في بعض أيامهم وحروبهم‏.‏ويقال قتله غيلة وبعث برأسه ورؤوس أصحابه إلى يغمراسن بن زيان بن ثابت فنصبت عليها القدور أثافي شفاية لنفوسهم من شأن أبيه زيان‏.‏وافترق بنو كمي وفر بهم عبد الله كندوز كبيرهم فلحقوا بتونس‏.‏ونزل على الأمير أبي زكرياء كما سنذكره بعد‏.‏واستبد جابر بن يوسف بن محمد برياسة بني عبد الواد‏.‏وأقام هذا الحي من بني عبد الواد بضواحي المغرب الأوسط حتى إذا فشل بني عبد المؤمن وانتزى يحيى بن غانية على جهات قابس وطرابلس وردد الغزو والغارات على بسائط إفريقية والمغرب الأوسط فاكتسحها وعاث فيها وكبس الأمصار فاقتحمها وانتهب بلاد زناتة وقتل أمراءهم ودخل تلمسان ووهران واستباحهما وغيرهما من بلاد المغرب الأوسط وألح على تاهرت بالغارة وإفساد السابلة وانتهاب الزرع وحطم النعم إلى أن خربت وعفى رسمها لسني الثلاثين من الماية السابعة‏.‏وكانت تلمسان لذلك العهد نزلاً للحامية ومناخاً للسيد من القرابة الذي يضم نثرها ويذب عن أنحائها‏.‏وكان المأمون استعمل على تلمسان أخاه السيد أبا سعيد وكان غفلا ضعيف التدبير‏.‏وغلب الحسن بن حبون من مشيخة قومه كومية وكان عاملاً على الوطن وكانت في نفسه من بني عبد الواد ضغائن جرها ما كان حدث لهم من التغلب على الضاحية وكان في حامية تلمسان لمة من بقايا لمتونة تجافت الدولة عنهم وأثبتهم عبد المؤمن في الديوان وجعلهم مع الحامية‏.‏وكان زعيمهم في ذلك العهد إبراهيم بن إسماعيل بن علان وشفع عندهم في المشيخة المعتقلين من بني عبد الواد فردوه فغضب وحمى أنفه وأجمع الانتقاض والقيام بدعوة ابن غانية فجدد ملك المرابطين من قومه بقاصية الشرق فاغتار الحسن بن حبون لحينه وتقبض على السيد أبي سعيد وأطلق المشيخة من بني عبد الواد ونقض طاعة المأمون وذلك سنة أربع وعشرين‏.‏فطير إلى ابن غانية فأغذ إليه السير‏.‏ثم بدا له في أمر بني عبد الواد ورأى أن ملاك أمره في حضد شوكتهم وخفض جناحهم فحدث نفسه بالفتك بمشيختهم ومكر بهم في دعوة واعدهم لها‏.‏وفطن لتدبير ذلك جابر بن يوسف شيخ بني عبد الواد فواعده اللقاء والمؤازرة وطوى له على النث وخرج إبراهيم بن علان إلى لقائه ففتك به جابر‏.‏وبادر إلى البلد فنادى بدعوة المأمون وطاعته وكشف لأهلها القناع عن مكر ابن علان بهم وما أوقعهم فيه من ورطة ابن غانية فحمدوا رأيه وشكروا جابراً على صنيعه وجددوا البيعة للمأمون‏.‏واجتمع إلى جابر في أمره هذا كافة بني عبد الواد وأحلافهم من بني راشد وبعث إلى المأمون بطاعته واعتماله في القيام بدعوته فخاطبه بالشكر وكتب له العهد على تلمسان وسائر بلاد زناتة على رسم السادة الذين كانوا يلون ذلك من القرابة فاضطلع بأمر المغرب الأوسط وكانت هذه الولاية ركابا إلى صهوة الملك الذي اقتعدوه‏.‏ثم انتقض عليه أهل ندرومة بعد ذلك فنازلهم وهلك في حصارها بسهم غرب أثبته سنة تسع وعشرين‏.‏وقام بالأمر من بعده ابنه الحسن وجدد له المأمون عهده بالولاية ثم ضعف عن الأمر وتخلى عنه لستة أشهر من ولايته‏.‏ودفع إليه عمه عثمان بن يوسف وكان سيء الملكة كثير العسف والجور فثارت به الرعايا بتلمسان وأخرجوه سنة إحدى وثلاثين وارتضوا لمكانه ابن عمه زكران بن زيان بن ثابت الملقب بأبي عزة فاستدعوه لها وولوه على أنفسهم وبلدهم وسلموا له أمرهم‏.‏وكان مضطلعاً بأمر زناتة مستبداً برياستهم ومستولياً على سائر الضواحي فنفس أبو مطهر عليه وعلى قومه بني علي إخوانهم ما آتاهم الله من الملك وأكرمهم به من السلطان‏.‏وجسدوا زكران وسلفه فيما صار لهم من الملك فشاقوه ودعوا إلى الخروج عليه‏.‏واتبعهم بنو راشد بن محمد أحلافهم منذ عهد الصحراء وجمع لهم أبو عزة سائر قبائل بني عبد الواد فكانت بينه وبينهم حرب سجال هلك في بعض أيامها سنة ثلاث وثلاثين‏.‏وقام بالأمر من بعده أخوه يغمراسن بن زيان فوقع التسليم والرضى به من سائر القبائل ودان له بالطاعة جميع الأمصار‏.‏وكتب له الخليفة الرشيد بالعهد على عمله وكان له ذلك سلماً إلى الملك الذي أورثه تلمسان




ميارى 12 - 8 - 2010 03:38 PM

الخبر عن تلمسان
وما تأدى إلينا من أحوالها من لدن الفتح إلي أن تأثل بها سلطان بني عبد الواد ودولتهم هذه المدينة قاعدة المغرب الأوسط وأم بلاد زناتة اختطها بنو يفرن بما كانت في مواطنهم ولم نقف على أخبارها فيما قبل ذلك‏.‏وما يزعم بعض العوام من ساكنها أنها أزلية البناء وإن الجدار الذي ذكر في القرآن في قصة الخفر وموسى عليهما السلام هو بناحية أكادير منها فأمر بعيد عن التحصيل لأن موسى عليه السلام لم يفارق المشرق إلى المغرب وبنو إسرائيل لم يتسع ملكهم لإفريقية فضلا عما وراءها وإنما هي من مقالات التشيع المجبول عليه أهل العالم في تفضيل ما ينسب إليهم أو ينسبون إليه من بلد أو أرض أو علم أو صناعة‏.‏ولم نقف لها على خبر أقدم من خبر ابن الرقيق بأن أبا المهاجر الذي ولي إفريقية بين ولايتي عقبة بن نافع الأولى والثانية توغل في ديار المغرب ووصل إلى تلمسان وبه سميت عيون المهاجر قريباً منها‏.‏وذكرها الطبري عند ذكر أبي قرة اليفرني وأجلابه مع أبي حاتم والخوارج مع عمر بن حفص بطبنة‏.‏ثم قال فأفرجوا عنه وانصرف أبو قرة إلى مواطنه بنواحي تلمسان‏.‏وذكرها ابن الرقيق أيضاً في أخبار إبراهيم بن الأغلب قبل إستبداده بإفريقية وأنه توغل في غزوه إلى المغرب ونزلها واسمها في لغة زناتة مركب من كلمتين تلم سين ومعناهما تجمع من اثنين يعنون إلى البر والبحر‏.‏ولما خلص إدريس الأكبر بن عبد الله بن المحسن إلى المغرب الأقصى واستولى عليه نهض إلى المغرب الأوسط سنة أربع وسبعين فتلقاه محمد بن خزر بن صولات أمير زناتة وتلمسان فدخل في طاعته وحمل عليها مغراوة وبني يفرن وأمكنه من تلمسان فملكها واختط مسجدها وصنع منبره وأقام بها أشهراً وانكفأ راجعاً إلى المغرب‏.‏وجاء على أثره من المشرق أخوه سليمان بن عبد الله فنزلها وولاه أمرها‏.‏ثم هلك إدريس وضعف أمرهم‏.‏ولما بويع لابنه إدريس من بعده واجتمع إليه برابرة المغرب نهض إلى تلمسان سنة تسع وتسعين وماية فجدد مسجدها وأصلح منبرها وأقام بها ثلاث سنين ودوخ فيها بلاد زناتة واستوسقت له طاعتهم‏.‏وعقد عليها لبني محمد ابن عمه سليمان‏.‏ولما هلك إدريس الأصغر واقتسم بنوه أعمال المغربين بإشارة أمه كنزة كانت تلمسان في سهمان عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان وأعمالهما لبني أبيه محمد بن سليمان‏.‏فلما انقرضت دولة الأدارسة من المغرب وولي أمره موسى بن أبي العافية بدعوة الشيعة نهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة وغلب عليها أميرها لذلك العهد الحسن بن أبي العيش بن عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان ففر عنها إلى مليلة وبنى ولما تغلب الشيعة على المغرب الأوسط أخرجوا أعقاب محمد بن سليمان من سائر تلمسان فأخذا بدعوة بني أمية من وراء البحر وأجازوا إليهم‏.‏وتغلب يعلى اليفرني على بلاد زناتة والمغرب الأوسط فعقد له الناصر الأموي عليها وعلى تلمسان أعوام أربعين وثلاثماية‏.‏ولما هلك يعلى وقام بأمر زناتة بعده محمد بن الخير بن محمد بن خزر داعية الحكم المستنصر فملك تلمسان أعوام ستين‏.‏وهلك في حروب وغلبوهم على بلادهم وانجلى إلى المغرب الأقصى‏.‏ودخلت تلمسان في عمالة صنهاجة إذ انقسمت دولتهم وافترق أمرهم‏.‏واستقل بإمارة زناتة وولاية زيري بن عطية وطرده المنصور بن أبي عامر عن المغرب فصار إلى بلاد صنهاجة وأجلب عليها ونازل معاقلها وأمصارها‏:‏ مثل تلمسان ووهران وتنس وأشير والمسيلة‏.‏ثم عقد المظفر بعد حين لابنه المعز بن زيري على عمل المغرب سنة ست وسبعين واستعمل على تلمسان ابنه يعلى بن زيري واستقرت ولايتها في عقبه إلى أن انقرض أمرهم على يد لمتونة‏.‏وعقد يوسف بن تاشفين عليها لمحمد بن تينعمر المسوفي مهإخيه تاشفين من بعده واستحكمت الفتنة بينه وبين المنصور بن الناصر صاحب القلعة من ملوك بني حماد ونهض إلى تلمسان وأخذ بمخنقهاوكان يغلب عليهاكما ذكرنا ذلك في مواضعه ولما غلب عبد المؤمن لمتونة وقتل تاشفين بن علي بوهران خربها وخرب تلمسان بعد أن قتل الموحد ون عامة أهلها وذلك أعوام أربعين من الماية السادسة‏.‏ثم راجع رأيه فيها وندب الناس إلى عمرانها وجمع الأيدي على رم ما تثلم من أسوارها وعقد عليها لسليمان بن وانودين من مشايخ هنتاتة وآخى بين الموحدين وبين هذا الحي من بني عبد الواد بما بلى من طاعتهم وانحياشهم ثم عقد عليها لابنه السيد أبي حفص ولم يزل آل عبد المؤمن من بعد ذلك يستعملون عليها من قرابتهم وأهل بيتهم ويرجعون إليه أمر المغرب كله وزناتة أجمع اهتمامًا بأمرها واستعظامًا لعملها‏.‏وكان هؤلاء الأحياء من زناتة بنو عبد الواد وبنو توجين وبنو راشد قد غلبوا على ضواحي تلمسان والمغرب الأوسط وملكوها وتقلبوا في بسائطها واحتازوا بأقطاع الدولة الكثير من أرضها والطيب من بلادها والوافر للجباية من قبائلها فإذا خرجوا إلى مشايخهم بالصحراء خلفوا أتباعهم بالتلول لاعتمار أرضهم وازدراع فدنهم وجباية الخراج من رعاياهم‏.‏وكان بنو عبد الواد من ذلك فيما بين البطحاء وملوية ساحله وريفه وصحراءه‏.‏وصرف ولاة الموحدين بتلمسان من الساعة نظرهم واهتمامهم إلى تحصينها وتشييد أسوارها وحشد الناس إلى عمرانها والتناغي في تمصيرها واتخاذ الصروح والقصور بها والاحتفال في مقاصر الملك واتساع خطة الدور‏.‏وكان من أعظمهم اهتماماً بذلك وأوسعهم فيه نظراً السيد أبو عمران موسى ابن أمير المؤمنين يوسف العشري ووليها سنة ست وخمسين على عهد أبيه يوسف بن عبد المؤمن‏.‏واتصلت أيام ولايته فيها فشيد بناءها وأوسع خطتها وأدار سياج الأسوار عليها‏.‏ووليها من بعد السيد أبو الحسن بن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن وتقبل فيها مذهبه‏.‏ولما كان من أمر بني غانية وخروجهم من ميورقة سنة إحدى وثمانين ما قدمناه وكبسوا بجاية فملكوها وتخطوا إلى الجزائر ومليانة فغلبوا عليهما تلافى السيد أبو الحسن أمره بإمعان النظر في تشييد أسوارها والاستبلاع في تحصينها وسد فروجها وأعماق الحفائر نطاقاً عليها حتى صيرها أمنع معاقل المغرب وأحسن أمصاره‏.‏وتقبل ولاتها بهذا المذهب من بعده في المعتصم بها‏.‏واتفق من الغريب أن أخاه السيد أبا زيد هو الذي دفع لحرب بني غانية فكان لهما في رقع الخرق والمدافعة عن الدولة آثار‏.‏وكان ابن غانية قد اجتمع إليه ذؤبان العرب من الهلاليين بإفريقية وخالفهم زغبة إحدى بطونهم إلى الموحدين وتحيزوا إلى زناتة المغرب الأوسط وكان مفزعهم جميعاً ومرجع نقضهم وإبرامهم إلى العامل بتلمسان من السادة في مثواهم وحامي حقيقتهم‏.‏وكان ابن غانية كثيراً ما يجلب على ضواحي تلمسان وبلاد زناتة ويطرقها بمن معه من ناعق الفتنة إلى أن خرب الكثير من أمصارها مثل تاهرت وغيرها فأصبحت تلمسان قاعدة المغرب الأوسط وأم هؤلاء الأحياء من زناتة المغرب والكافلة لهم المهيئة في حجرها مهاد نومتهم بما خربت المدينتان اللتان كانتا من قبل قواعد الدول السالفة والعصور الماضية وهما‏:‏ أرشكول بسيف البحر وتاهرت فيما بين الريف والصحراء قبلة البطحاء‏.‏وكان خراب هاتين المدينتين فيما خرب من أمصار المغرب الأوسط فى فتنة ابن غانية وبأجلاب هؤلاء الأحياء من زناتة وطلوعهم على أهلها بسوم الخسف والعيث والنهب وتخطف الناس من السابلة وتخريب العمران ومغالبتهم حاميتها من عساكر الموحدين‏:‏ مثل قصر عجيسة وزرقة والخضراء وشلف ومتيجة وحمزة ومرسى الدجاج والجعبات والقلعة فلم تبصر بها نار ولا لفحت بها لنافح ضرمة ولا صرخت لها آخر الدهر ديكة‏.‏ولم يزل عمران تلمسان يتزايد وخطتها تتسع والصروح بها بالآجر والقرميد تعالى وتشاد إلى أن نزلها آل زيان واتخذوها داراً لملكهم وكرسياً لسلطانهم فاختطوا بها القصور المونقة والمنازل الحافلة واغترسوا الرياض والبساتين وأجروا خلالها المياه فأصبحت أعظم أمصار المغرب‏.‏ورحل إليها الناس من القاصية ونفقت بها أسواق العلوم والصنائع فنشأ بها العلماء واشتهر فيها الأعلام‏.‏وضاهت أمصار الدول الإسلامية والقواعد الخلافية‏.‏والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏


الخبر عن استقلال يغمراسن بن زيان بالملك والدولة بتلمسان وما إليها
وكيف مهد الأمر لقومه و أصاره تراثاً لبنيه كان يغفراسن بن زيان بن ثابت بن محمد من أشد هذا الحي بأساً وأعظمهم في النفوس مهابة وجلالة وأعرفهم بمصالح قبيله وأقواهم كاهلا على حمل الملك واضطلاعاً بالتدبير والرياسة مهدت له بذلك آثار قبل الملك وبعده‏.‏وكان مرموقاً بعين التجلة مؤملاً للأمر عند المشيخه‏.‏وتعظمة من أمره عند الخاصة ويفزع إليه في نوائبه العامة‏.‏فلما ولي هذا الأمر بعد مهلك أخيه أبي عزة زكدان بن زيان سنة ثلاث وثلاثين فقام به أحسن قيام واضطلع بأعبائه وظهر على بني مطهر وبني راشد الخارجين على أخيه وأصارهم فى جملته وتحت سلطانه‏.‏وأحسن السيرة في الرعية واستمال عشيره وقبيله وأحلافهم من زغبة بحسن السياسة والاصطناع وكرم الجوار واتخذ الآلة ورتب الجنود والمسالح واستلحق العساكر من الروم والغز رامحة وناشبة‏.‏وفرض العطاء واتخذ الوزراء والكتاب وبعث في الجهات العمال ولبس شارة الملك والسلطان واقتعد الكرسي ومحا من آثار الدولة المؤمنية وعطل من الأمر والنهي دستها ولم يترك رسوم دولتهم وألقاب ملكهم إلا الدعاء على منابره للخليفة بمراكش وتناول التقليد والعهد من يده تأنيساً للكافة ومرضاة للأكفاء من قومه‏.‏ووفد عليه لأول دولته ابن وضاح إثر دولة الموحدين أجاز البحر مع جالية المسلمين من شرق الأندلس فآثره وقرب مجلسه وأكرم نزله وأحله من الخلة والشورى بمكان اصطفاه له‏.‏ووفد في جملته أبو بكر بن الخطاب المبايع لأخيه بمرسيه وكان مرسلاً بليغاً وكاتباً مجيداً وشاعراً محسناً فاستكتبه وصدر عنه من الرسائل في خطاب خلفاء الموحدين بمراكش وتونر في عهود بيعاتهم ما تنوقل وحفظ‏.‏ولم يزل يغمراسن محامياً عن غيله محارباً لعدوه‏.‏وكانت له مع ملوك الموحدين من آل عبد المؤمن ومديلهم من آل أبي حفص مواطن في التمرس به ومنازلة بلده نحن ذاكرون كذلك‏.‏وبينه وبين أقتاله بني مرين قبل ملكهم المغرب وبعد ملكه وقائع متعددة‏.‏وله على زناتة الشرق من توجين ومغراوة في فل جموعهم وانتساف بلادهم وتخريب أوطانهم أيام مذكورة وآثار معروفة نشير الى جميعها إن شاء الله تعالى‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:39 PM

الخبر عن استيلاء الأمير أبي زكرياء علي تلمسان ودخول يغمراسن في دعوته
ولما استقل يغمراسن بن زيان بأمر تلمسان والمغرب الأوسط وظفر بالسلطان وعلا كعبه على سائر أحياء زناته نفسوا عليه ما آتاه اللة من العز وكرمه به من الملك فنابذوه العهد وشاقوه الطاعة وركبوا له ظهر الخلاف والعداوة فشمر لحربهم ونازلهم في ديارهم وأحجرهم في حصونهم ومعتصماتهم من شواهق الجبال وممتنع الأمصار‏.‏وكانت له عليهم أيام مشهورة ووقائع مذكورة معروفة وكان متولي كبر هذه المشاقة عبد القوي بن العباس شيخ بن توجين أقتالهم من بني بادين والعباس بن منديل بن عبد الرحمن وإخوته أمراء مغراوة‏.‏وكان المولى الأمير أبو زكرياء بن أبي حفص منذ استقل بأمر إفريقية واقتطعها عن الإيالة المؤمنية سنة خمس وعشرين كما ذكرناه متطاولاً إلى احتياز المغرب والاستيلاء على كرسي الدعوة بمراكش وكان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتم ما يسمو إليه من ذلك فكان يداخل أمراء زناتة فيرغبهم ويراسلهم بذلك على الأحياء من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة‏.‏وكان يغمراسن منذ تقلد طاعة آل عبد المؤمن أقام دوعوتهم بعمله متحيزاً إليهم سلماً لوليهم وحرباً على عدوهم‏.‏وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البر والخلوص وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة وعاوده الإتحاف بأنواع الألطاف والهدايا عام سبعة وثلاثين تقمناً لمسراته وميلاً إليه عن جانب أقتاله بني مرين المجلبين على المغرب والدولة‏.‏واحفظ الأمير أبا زكرياء يحيى بن عبد الوأحد صاحب إفريقية ما كان من اتصال يغمراسن بالرشيد وهو من جواره بالمحل القريب واستكره ذلك‏.‏وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي بن العباس وولد منديل بن محمد صريخاً على يغمراسن فسهلوا له أمره وسولوا له الاستيلاء على تلمسان وجمع كلمة زناتة واعتداد ذلك ركاباً لما يرومه من امتطاء ملك الموحدين وانتظامه في أمره وسلماً لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه وباباً للولوج على أهله فحركه أملاؤهم وهزه إلى النعرة صريخهم وأهاب بالموحدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في عمله من بني سليم ورياح بظعنهم فأهطعوا لداعيه ونهض سنة تسع وثلاثين في عساكر ضخمة وجيوش وافرة وسرح إمام حركته عبد القوي بن العباس وأولاد منديل بن محمد لحشد من بأوطانهم من أحياء زناتة وأتباعهم وذؤبان قبائلهم وأحياء زغبة أحلافهم من العرب وضرب لهم موعداً لموافاتهم في تخوم بلادهم‏.‏ولما نزل زاغر قبلة تيطرى منتهى مجالات رياح وبني سليم في المغرب وافته هنالك أحياء زغبة من بني عامر وسويد وارتحلوا معه حتى نازل تلمسان فجمع عساكر الموحدين وحشد زناتة وظعن المغرب بعد أن قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة والأعذار والبراءة والدعاء إلى الطاعة فرجعهم بالخيبة‏.‏ولما حلت العساكر الموحدين بساحة البلد وبرز يغمراسن وجموعه للقاء نضحتهم ناشبة السلطان بالنبل فانكشفوا ولاذوا بالجدران وأعجزوا من حماية الأسوار فاستمكنت المقاتلة من الصعود‏.‏ورأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفاً على ذويه وخاصته واعترضته عساكر الموحدين فصمم نحوهم وجندل بعض أبطالهم فأفرجوا له ولحق بالصحراء‏.‏وانسلت الجيوش إلى البلد من كل حدب فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان واكتساح الأموال‏.‏ولما تجلى غشي تلك الهيعة وحسر تيار الصدمة وخمدت نار الحرب راجع الموحدون وأنعم الأمير أبو زكرياء نظره فيمن يقلده أمر تلمسان والمغرب الأوسط وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة عبد المؤمن والمدافعة عنها‏.‏واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبرأ أمراء زناتة منه ضعفاً عن مقاومة يغمراسن وعلماً بأنه الفحل الذي لا يقرع أنفه ولا يطرق غيله ولا يصد عن فريسته‏.‏وسرح يغمراسن الغارات في نواحي المعسكر فاختطفوا الناس من حوله وأطلوا من المراقب عليه‏.‏وخاطب يغمراسن خلال ذلك الأمير أبا زكرياء رغباً في القيام بدعوته بتلمسان فراجعه بالإسعاف واتصال اليد على صاحب مراكش وسوغه على ذلك جباية اقتطعها له وأطلق أيدي العمال ليغمراسن لجبايتها‏.‏ووفدت أمه سوط النساء لاشتراط القبول فأكرم موصلها وأسنى جائزتها وأحسن وفادتها ومنقلبها وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله‏.‏وفي أثناء طريقه وسوس إليه بعض الحاشية باستبداد يغمراسن عليه وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة وأمراء المغرب الأوسط شجا في صدره ومعترضاً عن مرامه وإلباسهم ما لبس من شارة السلطان وزيه فأجابهم‏.‏وقلد عبد القوي بن عطية التوجيني والعباس بن منديل المغراوي وعلي بن منصور المليكشي من قومهم ووطنهم وعهد إليهم بذلك وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم فاتخذوها بحضرته وبمشهد من ملوك الموحدين وأقاموا مراسمها ببابه وأغذ السير إلى تونس قرير العين بامتداد ملكه وبلوغ وطره والإشراف على إذعان المغرب لطاعته وانقياده لحكمه وإدالة دعوة بني عبد المؤمن فيه بدعوته‏.‏ودخل يغمراسن بن زيان ووفى للأمير أبي زكرياء بعهده وأقام له الدعوة على سائر منابره وصرف إلى مشانيه من زناتة وجوه عزائمه فأذاق عبد القوي بن العباس وأولاد منديل نكال الحرب وسامهم سوء العذاب والفتنة وجاس خلال ديارهم وتوغل في بلادهم وغلبهم على الكثير من ممالكهم وشرد من الأمصار والقواعد ولاتهم وأشياعهم ودعاتهم ورفع عن الرعية ما نالهم من عدوانهم وسوء ملكتهم وثقل عسفهم وجورهم‏.‏ولم يزل على تلك الحال إلى أن كان من حركة صاحب مراكش بسبب أخذ يغمراسن بالدعوة الحفصية ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:40 PM

الخبر عن نهوض السعيد صاحب مراكش ومنازلته يغمراسن بجبل تامز زدكت ومهلكه هنالك
لما انقضت دولة بني عبد المؤمن وانتزى الثوار والدعاة بقاصية أعمالهم وقطعوها عن ممالكهم فاقتطع ابن هود ما وراء البحر من جزيرة الأندلس واسبتد بها وورى بالدعاء للمستنصر بن الظاهر خليفة بغداد من العباسيين لعهده ودعا الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بإفريقية لنفسه وسما إلى جمع كلمة زناتة والتغلب على كرسي الدعوة بمراكش فنازل تلمسان وغلب عليها سنة أربعين‏.‏وقارن ذلك ولاية السعيد علي بن المأمون إدريس بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وكان شهماً حازماً يقظاً بعيد الهمة فنظر في أعطاف دولته وفاوض الملأ في تثقيف أطرافها وتقويم مائلها‏.‏وأثار حفائظهم ما وقع من بني مرين في ضواحي المغرب ثم في أمصاوه واستيلائهم على مكناسة وإقامتهم الدعوة الحفصية فيها كما نذكره‏.‏فجهز العساكر وأزاح عللهم واستنفر عرب المغرب وقبائله واحتشد كافة المصامدة‏.‏ونهض من مراكش آخر سنة خمس وأربعين يريد القاصية ويشرد بني مرين عن الأمصار الدانية‏.‏واعترض العساكر والحشود بوادي بهت وأغذ السير إلى تازي فوصلته هنالك طاعة بني مرين كما نذكره‏.‏ونفر معه عسكر منهم ونهض إلى تلمسان وما وراءها‏.‏ونجا يغمراسن بن زيان وبنو عبد الواد بأهليهم وأولادهم إلى قلعة تامز زدكت قبلة وجدة فاعتصموا بها‏.‏ووفد على السعيد الفقيه عبدون وزير يغمراسن مؤدياً للطاعة ثابتاً في مذاهب الخدمة ومتولياً من حاجات الخليفة بتلمسان لما يدعوه إليه ويصرفه في سبيله ومعذراً و يغمراسن عن وصول يغمراسن فلج الخليفة في شأنه ولم يعذره‏.‏وأبى إلا مباشرة طاعته بنفسه وساعده ذلك كانون بن جرمون السفياني صاحب الشورى بمجلسه ومن حضر من الجلة رجعوا عبدونا لاستقدامه فتثاقل خشية على نفسه‏.‏واعتمد السعيد الجبل في عساكره وأناخ بها في ساحه وأخذ بمخنقهم ثلاثاً ولرابعتها ركب مهجراً على حين غفلة من قايلتهم ليتطوف على المعتصم ويتقرى مكانه‏.‏وبصر به فارس من القوم يعرف بيوسف بن عبد المؤمن الشيطان كان أسفل الجبل للاحتراس وقريباً منه يغمراسن بن زيان وابن عمه يعقوب بن جابر فانقضوا عليه من بعض الشعاب وطعنه يوسف فأكبه عن فرسه‏.‏وقتل يعقوب بن جابر وزيره يحيى بن عطوش‏.‏ثم استلحموا لوقتهم مولييه ناصحاً من المعلوجي وعنبراً من الخصيان وقائد جند النصارى أخو القمط ووليداً يافعاً من ولد السعيد‏.‏ويقال إنما كان يوم عبأ العساكر وصعد الجبل للقتال وتقدم أمام الناس فاقتطعه بعض الشعاب المتوعرة في طريقه فتواثب به هؤلاء الفرسان وكان ما ذكرناه وذلك لصفر من سنة ست وأربعين‏.‏


الخبر فأجفلوا وبادر يغمراسن إلى السعيد
وهو صريع بالأرض فنزل إليه وحياه وفداه وأقسم له على البراءة من هلكته والخليفة واجم بمصرعه يجود بنفسه إلى أن فاض وانتهب المعسكر بجملته وأخذ بنو عبد الواد ما كان به من الأخبية والفازات‏.‏واختص يغمراسن بفسطاط السلطان فكان له خالصة دون قومه واستولى على الذخيرة التي كانت فيه‏:‏ منها مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه يزعمون أنه أحد المصاحف التي انتسخت لعهد خلافته وأنه كان في خزائن قرطبة عند ولد عبد الرحمن الداخل حتى صار في ذخائر لمتونة فيما صار إليهم من ذخائر ملوك الطوائف بالأندلس ثم إلى ذخائر الموحدين من خزائن لمتونة وهو لهذا العهد في خزائن بني مرين بفاس فيما استولوا عليه من ذخيرة آل زيان حين غلبهم إياهم على تلمسان واقتحامها عنوة على ملكها منهم عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمراسن فريسة السلطان أبي الحسن مقتحمها غلاباً سنة سبع وثلاثين كما نذكره‏.‏ومنها العقد المنتظم من خرزات الياقوت الفاخرة والدرر المشتمل على مئين متعددة من حصبائه يسمى بالثعبان وصار في خزائن بني مرين منذ ذلك الغلاب فيما اشتملوا عليه من ذخيرتهم إلى أن تلف في البحر عند غرق الأسطول بالسلطان أبي الحسن بمراسي بجاية مرجعه من تونس حسبما نذكره بعد إلى ذخائر من أمثاله وطرف من أشباهه بما يستخلصه الملوك لخزائنهم ويعنون به من ذخائرهم‏.‏ولما سكنت النغرة وركد عاصف تلك الهيمة نظر يغمراسن في شأن مواراة الخليفة فجهز ورفع علي الأعواد إلى مدفنه بالعباد بمقبرة الشيخ أبي مدين عفا الله عنه‏.‏ثم نظر في شأن حرمه وأخته تاعزونت الشهيرة الذكر بعد أن جاءها واعتذر إليها مما وقع وأصحبهن جملة من مشيخة بني عبد الواد إلى مأمنهم ألحقوهن بدرعة عند تخوم طاعتهم فكان له بذلك حديث جميل في الإبقاء على الحرم ورعى مراتب الملك‏.‏ورجع إلى تلمسان وقد خضدت شوكة بني عبد المؤمن وأمنهم على سلطانه‏.‏والبقاء لله وحده قد ذكرنا ما كان من هذين الحيين من المناغاة والمنافسة منذ الآماد المتطاولة بما كانت مجالات الفريقين بالصحراء متجاورة وكان التخم بين الفريقين من وادي صا إلى فيكيك‏.‏وكان بنو عبد المؤمن عند فشل الدولة وتغلب بني مرين على ضاحية المغرب يستجيشون ببني عبد الواد مع عساكر الموحدين على بني مرين فيجوسون خلال المغرب ما بين تازى إلى فاس إلى القصر في سبيل المظاهرة للموحدين والطاعة لهم‏.‏وسنذكر في أخبار بني مرين كثيراً من ذلك‏.‏فلما هلك السعيد وأسف بنو مرين إلى ملك المغرب سما ليغمراسن أمل في مزاحمتهم‏.‏وكان أهل فاس بعد تغلب أبي يحيى بن عبد الحق عليهم قد نقموا على قومه سوء السيرة وتمشت رجالاتهم في اللياذ بطاعة الخليفة المرتضى ففعلوا فعلتهم في الفتك بعامل أبي يحيى بن عبد الحق والرجوع إلى طاعة الخليفة‏.‏وأغذ أبو يحيى السير إلى منازلهم فحاصرهم شهورا‏.‏وفي أثناء هذا الحصار اتصلت المخاطبة بين الخليفة المرتضى ويغمراسن بن زيان في الأخذ بحجرة أبي يحيى بن عبد الحق عن فاس فأجاب يغمراسن داعيه واستنفر لها إخوانه من زناتة فنفر معه عبد القوي بن عطية بقومه من بني توجين وكافة القبائل من زناتة والمغرب ونهضوا جميعاً إلى المغرب‏.‏وبلغ خبرهم إلى أبي يحيى بن عبد الحق بمكانه من حصار فاس فجمر كتائبه عليها ونهض للقائهم في بقية العساكر والتقى الجمعان بايسلى من ناحية وجدة‏.‏وكانت هنالك الواقعة المشهورة بذلك المكان انكشفت فيها جموع يغمراسن وهلك منهم يغمراسن بن تاشفين وغيره ورجعوا في فلهم إلى تلمسان‏.‏واتصلت بعد ذلك بينهم الحروب والفتنات سائر أيامه وربما تخللتها المهادنات قليلا‏.‏وكان بينه وبين يعقوب بن عبد الحق ذمة مواصلة أوجب له رعيها وكثيراً ما كان عنه أخاه أبا يحيى من أجلها‏.‏ونهض أبو يحيى بن عبد الحق سنة خمس وخمسين إلى قتاله وبرز إليه يغمراسن وتزاحفت جموعهم بأبي سليط فانهزم يغمراسن واعتزم أبو يحيى على أتباعه فثناه عن ذلك أخوه يعقوب بن عبد الحق‏.‏ولما قفلوا إلى المغرب صمد يغمراسن إلى سجلماسة لمداخلة كانت بينه وبين المنبات من عرب المعقل أهل مجالاتها وذئاب فلاتها حدثته نفسه اهتبال الغرة في سجلماسة من أجلها وكانت قد صارت إلى إيالة أبي يحيى بن عبد الحق منذ ثلاث كما ذكرناه في أخبارهم ونذر بذلك أبو يحيى فسابق إليها يغمراسن بمن حضره من قومه فثقفها وسد فرجها‏.‏ووصل يغمراسن عقب ذلك بعساكره وأناخ بها وامتنعت عليه فأفرج عنها قافلاً إلى تلمسان‏.‏وهلك أبو يحيى بن عبد الحق إثر ذلك منقلبه إلى فاس فاستنفر يغمراسن أولياءه من زناتة وأحياء زغبة‏.‏ونهض إلى المغرب سنة سبع وخمسين وانتهى إلى كلدمان‏.‏ولقيه يعقوب بن عبد الحق في قومه فأوقع به وولى يغمراسن منهزماً‏.‏ومر بطريقه بتافرسيت فانتسفها وعاث في نواحيها‏.‏ثم تداعوا للسلم ووضع أوزار الحرب وبعث يعقوب بن عبد الحق ابنه أبا مالك لذلك فتولى عقده وإبرامه‏.‏ثم كان التقاؤهما سنة تسع وخمسين براجر قبالة بني يزناسن واستحكم عقد الوفاق بينهما بعد ذلك واتصلت المهادنة إلى أن كان بينهما ما نذكره إن شاء اللة تعالى‏.‏


الخبر عن كائنة النصاري وإيقاع يغمراسن بهم
كان يغمراسن من بعد مهلك السعيد وانفضاض عساكر الموحدين قد استخدم طائفة من جند النصارى الذين كانوا في جملته مستكثراً بهم معتداً بمكانهم ومباهياً بهم في المواقف والمشاهد‏.‏وناولهم طرفاً من حبل عنايته واعتزوا به واستفحل أمرهم بتلمسان حتى إذا كانت سنة اثنتين وخمسين بعد مرجعه من بلاد توجين في إحدى حركاته إليها كانت قصة غدرهم الشنعاء التي أحسن الله في دفاعها عن المسلمين‏.‏وذلك أنه ركب في بعض أيامه لاعتراض الجنود بباب المغرمادين من أبواب تلمسان‏.‏وبينما هو واقف في موكبه عند قايلة الضحى عدا عليه قائدهم وبادر النصارى إلى محمد بن زيان أخي يغمراسن فقتلوه وأشار له بالنجوى فبرز من الصف لإسراره وأمكنه من أذنه فتنكبه النصراني وقد خالطه روعة أحس منها يغمراسن بمكره فانحاص منه‏.‏وركض النصراني أمامه يطلب النجاة‏.‏وتبين الغدر وثارت بهم الدهماء من الحامية والرعايا فأحيط بهم من كل جانب وتناولتهم أيدي الهلاك في كل مهلك قعصاً بالرماح وهبراً بالسيوف وشدخاً بالعصي والحجارة حتى استلحموا وكان يوماً مشهوداً‏.‏ولم يستخدم من بعدها جند النصارى بتلمسان حذراً من غائلتهم‏.‏ويقال إن محمد بن زيان هو الذي داخل القائد في الفتك بأخيه يغمراسن وأنه إنما قتله عندما لم يتم لهم الأمر تبرياً من مداخلته فلم يمهله غاشي الهيعة للتثئت في شأنها‏.‏والله أعلم‏.‏


الخبر عن تغلب يغمراسن على سجلماسة ثم مصيرها بعد إلي أيالة بني مرين
كان عرب المعقل منذ دخول عرب الهلاليين إلى الصحراء المغرب الأقصى أحلافاً وشيعاً لزناتة وأكثر انحياشهم إلى بني مرين إلا ذوي عبيد الله منهم بما كانت مجالاتهم لصق مجالات بني عبد الواد أو مشاركة لها‏.‏ولما استفحل شأن بني عبد الواد بين أيدي ملكهم زاحموهم عنها بالمناكب ونبذوا إليهم العهد واستخلصوا دونهم المنبات من ذوي منصور أقتالهم فكانوا حلفاء وشيعة ليغمراسن ولقومه‏.‏وكان سجلماسة في مجالاتهم ومنقلب رحلتهم وكانت قد صارت إلى ملك بني مرين ثم استبد بها القطراني ثم ثاروا به ورجعوا إلى طاعة المرتضى‏.‏وتولى كبر ذلك علي بن عمر كما ذكرناه في أخبار بني مرين‏.‏ثم تغلب المنبات على سجلماسة وقتلوا عاملها علي بن عمر سنة اثنتين وستين وآثروا يغمراسن بملكها وداخلوا أهل البلد في القيام بدعوته وحملوهم عليها‏.‏وجأجأوا بيغمراسن فنهض إليها في قومه وأمكنوه من قيادها فضبطها وعقد عليها لولده يحيى‏.‏وأنزل معه ابن أخته حنينة واسمه عبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم درع من ولد محمد وأنزل معهما يغمراسن بن حمامة فيمن معهم من عشائرهم وحشمهم‏.‏فأقام ابنه يحيى أميراً عليها إلى أن هلك فأدال منه بعبد الملك ابن أخته فلم يزل والياً عليها إلى أن غلب يعقوب بن عبد الحق الموحدين على دار خلافتهم‏.‏وأطاعته طنجة وعامة بلاد المغرب فوجه عزمه إلى انتزاع سجلماسة من طاعة يغمراسن‏.‏وحف إليها في العساكر والحشود من زناتة والعرب والبربر ونصبوا عليها آلات الحصار إلى أن سقط جانب من سورها فاقتحموها منه عنوة في صفر سنة ثلاث وسبعين واستباحوها وقتل القائدان عبد الملك بن حنينة ويغمراسن بن حمامة ومن معهم من بني عبد الواد وأمراء المنبات وصارت إلى طاعة بني مرين آخر الأيام‏.‏والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده‏.‏


الخبر عن حروب يغمراسن مع يعقوب بن عبد الحق
قد ذكرنا ما كان من شأن بني عبد المؤمن عند فشل دولتهم واستطالة بني مرين عليهم في الاستظهار ببني عبد الواد واتصال اليد بهم في الأخذ بحجرة عدوهم من بني مرين عنهم ولما هلك المرتضى وولي أبو دبوس سنة خمس وستين وحمي وطيس فتنته مع يعقوب بن عبد الحق فراسل يغمراسن في مدافعته وأكد العهد وأسنى الهدية فأجابه إليها يغمراسن وشن الغارات على ثغور المغرب وأضرمها ناراً‏.‏وكان يعقوب بن عبد الحق محاصراً لمراكش فأفرج عنها ورجع إلى المغرب واحتشد جموعه ونهض إلى لقائه‏.‏وتزاحف الفريقان بوادي تلاغ وقد استكمل كل تعبيته وكانت الوقيعة على يغمراسن استبيحت فيها حرمه واستلحم قومه وهلك ابنه عمر أبو حفص أعز ولده عليه في أتراب له من عشيره‏:‏ مثل ابن عبد الملك بن حنينة وابن يحيى بن مكن وعمر بن إبراهيم بن هشام فرجع عنه يعقوب بن عبد الحق إلى مراكش حتى انقضى شأنه في التغلب عليها ومحا أثر بني عبد المؤمن منها وفرغ لمحاربة بني عبد الواد‏.‏وحشد كافة أهل المغرب من المصامدة والجموع والقبائل‏.‏ونهض إلى بني عبد الواد سنة سبعين فبرز إليه يغمراسن في قومه وأوليائهم من مغراوة والعرب وتزاحفوا بايسلي من نواحي وجدة فكانت الدبرة على يغمراسن‏.‏وانكشفت جموعه وقتل ابنه فارس ونجا بأهله بعد أن أضرم معسكره ناراً تفادياً من معرة اكتساحه‏.‏ونجا إلى تلمسان فانحجر بها وهدم يعقوب بن عبد الحق وجدة ثم نازله بتلمسان واجتمع إليه هنالك بنو توجين مع أميرهم محمد بن عبد القوي وصل يده بيد السلطان على يغمراسن وقومه وحاصروا تلمسان أياماً فامتنعت عليهم وأفرجوا عنها‏.‏وولى كل إلى عمله ومكان ملكه حسبما نذكره في أخبارهم‏.‏وانعقدت بينهما المهادنة من بعد ذلك وفرغ يعقوب بن عبد الحق للجهاد ويغمراسن لمغالبة توجين ومغراوة على بلادهم إلى أن كان من شأنهم ما نذكره‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:41 PM

الخبرعن شأن يغمراسن مع مغراوة وبني توجين وما كان بينهم من الأحداث
كانت أحياء من مغراوة في مواطنهم الأولى من نواحي شلف قد سالمتهم الدول عند تلاشي ملكهم وساموهم الجباية فرضوا بها‏:‏ مثل بني ورسيفين وبني يليت وبني ورتزمير‏.‏وكان فيهم سلطان لبني منديل بن عبد الرحمن من أعقاب آل خزر ملوكهم الأولى ومنذ عهد الفتح وما بعده على ما ذكرناه في خبرهم‏.‏فلما انتثر عقد الخلافة بمراكش وتشظت عصاها وكثر الثوار والخوارج بالجهات واستقل منديل بن عبد الرحمن وبنوه من بعده بتلك الناحية وملكوا مليانة وتنس وبرشك وشرشال وما إليها وتطاولوا إلى متيجة فتغلبوا عليها‏.‏ثم مدوا أيديهم إلى جبل وانشريش وما إليه فتناولوا الكثير من بلاده ثم أزاحهم عنها بنو عطية وقومهم من بني توجين المجاورون لها في مواطنهم بأعلى شلف شرقي أرض السرسو وكان ذلك لأول دخول أحياء زناتة الناجعة بأرض القبلة إلى التلول فتغلب بنو عبد الواد على نواحي تلمسان إلى وادي صا‏.‏وتغلب بنو توجين على ما بين الصحراء والتل من بلد المدية إلى جبل وانشريش إلى مرات إلى الجعبات‏.‏وصار التخم لملك بني عبد الواد سيك والبطحاء‏:‏ فمن قبليها لمواطن بني توجين ومن شرقها مواطن مغراوة‏.‏وكانت الفتنة بين بني عبد الواد وبين هذين الحيين منذ أول دخولهم إلى التلول وكان المولى الأمير أبو زكرياء بن أبي يستظهر بهذين الحيين على بني عبد الواد ويراغمهم بهم حتى كان من فتح تلمسان ما قدمناه وألبس جميعهم شارة الملك على ما ذكرناه ونذكره في أخبارهم فزاحموا يغمراسن بعدها بالمناكب وصرف هو إليهم وجه النقمات والحروب‏.‏ولم يزل الشأن ذلك حتى انقرض ملك الحيين لعهد ابنه عثمان بن يغمراسن وعلى يده ثم على يد بني مرين كما يأتي ذكره‏.‏ولما رجع يغمراسن بن زيان من لقاة بني مرين بايسلي من نواحي وجدة التي كانت سنة سبع وأربعين وكان معه فيها عبد القوي بن عطية بقومه من بني توجين وهلك مرجعه منها فنبذ يغمراسن العهد إلى ابنه محمد الأمير بعده وزحف إلى بلاده فجاس خلالها ونازل حصونها فامتنعت عليه‏.‏وأحسن محمد بن عبد القوي في دفاعه ثم زحف ثانية سنة خمسين إليهم فنازل حصن تافركينت من حصونهم‏.‏وكان به على بني زيان حافد محمد بن عبد القوي فامتنع به في طائفة من قومه‏.‏ورحل عنه يغمراسن كظيماً ولم يزل يغمراسن بعدها يشن الغارة على بلادهم ويجمر الكتائب على حصونهم‏.‏وكان بتافركنيت صنيعه من صنائع بني عبد القوي ونسبه في صنهاجة أهل ضاحية بجاية اختص بهذا الحصن ورسخت قدمه فيه واعتز بكثرة ماله وولده فأحسن الدفاع عنه وكان له مع يغمراسن في الامتناع عليه أخبارمذكورة حتى سطا به بنو محمد بن عبد القوي حين شرهوا إلى نعمته وأنفوا من استبداده فأتلفوا نفسه وتخطفوا نعمته فكان حتف ذلك الحصن في حتفه كما يأتي ذكره‏.‏وعندما شبت نار الفتنة بين يغمراسن وبين محمد بن عبد القوي وصل محمد يده يعقوب بن عبد الحق‏.‏فلما نازل يعقوب تلمسان سنة سبعة بعد أن هدم وجدة وهزم يغمراسن بايسلي جاءه محمد بن عبد القوي بقومه من بني توجين وأقام معه على حصارها‏.‏ورحلوا بعد الامتناع عليهم فرجع محمد إلى مكانه ثم عاود يعقوب بن عبد الحق منازلة تلمسان سنة ثمانين وستماية بعد إيقاعه بيغمراسن في خرزوزة فلقيه محمد بن عبد القوي بالقصبات‏.‏واتصلت أيديهم على تخريب بلاد يغمراسن ملياً فنازلوا تلمسان أياماً ثم افترقوا ورجع كل إلى بلده‏.‏ولما خلص يغمراسن بن زيان من حصاره زحف إلى بلادهم وأوطأ عساكره أرضهم وغلب على الضاحية وخرب عمرانها إلى أن تملكها بعده ابنه عثمان كما نذكر‏.‏وأما خبره مع مغراوة فكان عماد رأيه فيهم التضريب بين بني منحيل بن عبد الرحمن للمنافسة التي كانت بينهم في رياسة قومهم‏.‏ولما رجع من واقعة تلاغ سنة ست وستين وهي الواقعة التي هلك فيها ولده عمر زحف بعدها إلى بلاد مغراوة فتوغل فيها وتجاوزها إلى من وراءهم من مليكش والثعالبة وأمكنه عمر من مليانة سنة ثمان وستين على شرط المؤازرة والمظاهرة على إخوته فمالكها يغمراسن يومئذ وصار الكثير من مغراوة إلى ولايته وزحفوا إلى المغرب سنة سبعين‏.‏ثم زحف بعدها إلى بلادهم سنة اثنتين وسبعين فتجافى له ثابت بن منديل عن تنس بعد أن أثخن في بلادهم ورجع عنها فاسترجعها ثابت‏.‏ثم نزل له عنها ثانياً سنة إحدى وثمانين بين يدي مهلكه عندما تم له الغلب عليهم والإثخان في بلادهم إلى أن كان الاستيلاء عليها لابنه عثمان على ما نذكره‏.‏


الخبر عن انتزاء الزعيم ابن مكن ببلد مستغانم
كان بنو مكن هؤلاء من عالية القرابة من بني زيان يشاركونهم في نسب محمد بن زكدان بن تيدوكسن بن طاع الله وكان لمحمد هذا أربعة من الولد كبيرهم يوسف‏:‏ ومن ولده جابر بن يوسف أول ملوكهم وثابت بن محمد‏.‏ومن ولده زيان بن ثابت أبو الملوك من بني عبد الواد ودرع بن محمد‏.‏ومن ولده عبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم بن درع المشتهر بأمه حنينة أخت يغمراسن بن زيان ومكن بن محمد‏.‏وكان له من الولد يحيى وعمرش وكان من ولد يحيى الزعيم وعلي وكان يغمراسن بن زيان كثيراً ما يستعمل قرابته في الممالك ويوليهم على العمالات وكان قد استوحش من يحيى بن مكن وابنه الزعيم وغربهما إلى الأندلس فأجازا من هنالك إلى يعقوب بن عبد الحق سنة ثمانين ولقياه بطنجة في إحدى حركات جهاده‏.‏وزحف يعقوب بن عبد الحق إلى تلمسان عامئذ وهما في جملته فأدركتهما النعرة عنى قومهما وآثرا مفارقة السلطان إليهم فأذن لهما في الانطلاق ولحقا بيغمراسن بن زيان‏.‏حتى إذا كانت الواقعة عليه بخرزوزة سنة ثمانين كما قدمناه وزحف بعدها إلى بلاد مغراوة وتجافى له ثابت بن منديل عن مليانة وانكفأ راجعاً إلى تلمسان استعمل على ثغر مستغانم الزعيم بن يحيى بن مكن‏.‏فلما وصل إلى تلمسان انتقض عليه ودعا إلى الخلاف ومالأ عدوه من مغراوة على المظاهرة عليه فصمد إليه يغمراسن وأحجره بها حتى لاذ منه بالسلم على الإجازة فعقد له وأجازه‏.‏ثم أجاز له على أثره أباه يحيى واستقر بالأندلس إلى أن هلك يحيى سنة اثنتين وتسعين‏.‏ووفد الزعيم بعد ذلك على يوسف بن يعقوب وسخطه لبعض النزعات فاعتقله وفر من محبسه‏.‏ولم يزل الاغتراب مطوحاً به إلى أن هلك‏.‏والبقاء لله‏.‏ونشأ ابنه الناصر بالأندلس فكانت مثواه وموقف جهاده إلى أن هلك‏.‏وأما أخوه علي بن يحيى فأقام بتلمسان وكان من ولده داود بن علي كبير مشيخة بني عبد الواد وصاحب شوراهم‏.‏وكان منهم أيضاً إبراهيم بن علي عقد له أبو حمو الأوسط على ابنته فكان منها ولد ذكر وكان لداود ابنه يحيى بن داود استعمله أبو سعيد بن الرحمن في دولتهم الثانية على وزارته فكان من شأنه ما نذكره في أخبارهم‏.‏والأمر لله‏.‏


الخبر عن شأن يغمراسن في معاقدته مع ابن الأحمر والطاغية على فتنة يعقوب بن عبد الحق والأخذ بحجرته
كان يعقوب بن عبد الحق لما أجاز إلى الجهاد وأووقع بالعدو وخرب حصونهم نازل إشبيلية وقرطبة وزلزل قواعد كفرهم‏.‏ثم أجاز ثانية وتوغل في دار الحرب وأثخن‏.‏فيها وتخلى له ابن أشقيلولة عن مالقة فملكها‏.‏وكان سلطان الأندلس يومئذ الأمير محمد المدعو بالفقيه ثاني ملوك بني الأحمر هو الذي استدعى يعقوب بن عبد الحق للجهاد بما عهد له أبوه الشيخ بذلك‏.‏فلما استفحل أمر يعقوب بالأندلس وتعاقب الثوار إلى اللياذ به خشيه ابن الأحمر على نفسه وتوقع منه مثل فعلة يوسف بن تاشفين بابن عباد فاعتمل فى أسباب الخلاص مما توهم‏.‏وداخل الطاغية في اتصال اليد والمظاهرة في وكانت مالقة لعمر يحيى بن محلى استعمله عليها يعقوب بن عبد الحق حين ملكها من يد ابن أشقيلولة فاستماله ابن الأحمر وخاطبه مقارنة ووعداً وأداله بشلوبانية من مالقة طعمة خالصة له فتخلى عن مالقة إليها‏.‏وأرسل الطاغية أساطيله في البحر لمنع الزقاق من إجازة السلطان وعساكره وراسلوا يغمراسن من وراء البحر في الأخذ بحجرة يعقوب وشن الغارات على ثغوره ليكون ذلك شاغلاً له عنهم‏.‏فبادر يغمراسن بإجابتهم وترددت الرسل منه إلى الطاغية ومن الطاغية إليه كما نذكره‏.‏وبث السرايا والبعوث في نواحي المغرب فشغل يعقوب عن شأن الجهاد حتى لقد سأله المهادنة وأن يفرغ لجهاد العدو فأبى عليه وكان ذلك مما دعى يعقوب إلى الصمود إليه ومواقعته بخرزوزة كما ذكرناه‏.‏ولم يزل شأنهم ذلك مع يعقوب بن عبد الحق وأيديهم متصلة عليه من كل جهة وهو ينتهز الفرصة في كل واحد متى أمكنه منهم حتى هلك وهلكوا‏.‏والله وارث الأرض‏.‏


الخبر عن شأن يغمراسن مع الخلفاء من بني حفص الذين
كان يقيم بتلمسان دعوتهم ويأخذ قومه بطاعتهم كان زناتة يدينون بطاعة خلفاء الموحدين من بني عبد المؤمن أيام كونهم بالقفار وبعد دخولهم إلى التلول‏.‏فلما فشل أمر بني عبد المؤمن ودعا الأمير أبو زكرياء بن أبي حفص بإفريقية لنفسه ونصب كرسي الخلافة للموحدين بتونس انصرفت إليه الوجوه من سائر الآفاق بالعدوتين وأملوه للكرة وأوفد زناتة عليه رسلهم من كل حي بالطاعة‏.‏ولاذ مغراوة وبنو توجين بظل دعوته ودخلوا في طاعته واستنهضوه لتلمسان فنهض إليها وافتتحها سنة أربعين‏.‏ورجع إليها يغمراسن واستعمله عليها وعلى سائر ممالكها فلم يزل مقيماً لدعوته‏.‏واتبع أثره بنو مرين في إقامة الدعوة له فيما غلبوا عليه من بلاد المغرب وبعثوا إليه ببيعة مكناسة وتازى والقصر كما نذكره في أخبارهم إلى ما دانوا به ولابنه المستنصر من بعده من خطاب التمويل والإشادة بالطاعة والانقياد حتى غلبوا على مراكش وخطبوا باسم المستنصر على منابرها حيناً من الدهر‏.‏ثم تبين لهم بعد متناول تلك القاصية عليه فعطلوا منابرهم من أسماء أولئك وأقطعوهم جانب الوداد والموالاة‏.‏ثم سموا إلى اللقب والتفنن في الشارة الملوكية كما تقتضيه طبيعة الدول وأما يغمراسن وبنوه فلم يزالوا آخذين بدعوتهم واحداً بعد واحد متجافين عن اللقب أدباً معهم مجددي البيعة لكل من يتجدد قيامه بالخلافة منهم يوفدون بها كبار أبنائهم وأولي الرأي من قومهم‏.‏ولم يزل الشأن ذلك‏.‏ولما هلك الأمير أبو زكرياء وقام ابنه محمد المستنصر بالأمر من بعده وخرج عليه أخوه الأمير أبو إسحاق في إحياء الدواودة من رياح ثم غلبهم المستنصر جميعاً ولحق الأمير أبو إسحاق بتلمسان في أهله فأكرم يغمراسن نزلهم وأجاز إلى الأندلس للمرابطة بها والجهاد حتى إذا هلك المستنصر سنة خمس واتصل به خبر مهلكه ورأى أنه أحق بالأمر فأجاز البحر من حينه ونزل بمرسى هنين سنة سبع وسبعين‏.‏ولقاه يغمراسن مبرة وتوقيراً واحتفل بقدومه وأركب لتلقيه وأتاه بيعته على عادته مع سلفه ووعده النصرة من عدوه والمؤازرة على أمره وأصهر إليه يغمراسن في إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة بابنه عثمان ولي عهده فأسعفه وأجمل في ذلك وعده‏.‏وانتقض محمد بن أبي هلال عامل بجاية على الواثق وخلع طاعته ودعا للأمير أبي إسحق واستحثه للقدوم فأغذ السير من تلمسان وكان من شأنه أن ما قدمناه في أخباره‏.‏فلما كانت سنة إحدى وثمانين وزحف يغمراسن إلى بلاد مغراوة وغلبهم على الضواحي والأمصار بعث من هنالك ابنه إبراهيم وتسميه زناتة برهوم ويكنى أبا عامر‏.‏أوفده في رجال من قومه على الخليفة أبي إسحاق لأحكام الصهر بينهما فنزلوا منه على خير نزل من أسناء الجرالة ومضاعفة الكرامة والمبرة وظهر من آثاره في حروب أبن أبي عامر ما مد الأعناق إليه وقصر الشيم الزناتية على بيته‏.‏ثم انقلب آخراً بظعينته محبواً محبوراً وابتنى بها عثمان لحين وصولها وأصبحت عقيلة قصره فكان ذلك مفخراً لدولته وذكراً له ولقومه‏.‏ولحق الأمير أبو زكرياء ابن الأمير أبي إسحاق بتلمسان بعد خلوصه من مهلكة قومه في واقعة الداعي ابن أبي عمارة عليهم بمرماجنة سنة اثنتين وثمانين فنزل من عثمان بن يغمراسن صهره خير نزل براً واحتفاء وتكريماً وملاطفة‏.‏وسربت إليه أخته من القصر أنواع التحف والأنس ولحق به أولياؤه من صنائع دولتهم وكبيرهم أبو الحسن محمد ابن الفقيه المحدث أبي بكر بن سيد الناس اليعمري فتفيأوا من كرأمة الدولة بهم ظلاً وافراً واستنهضوه إلى تراث ملكه‏.‏وفاوض أبا مثواه عثمان بن يغمراسن في ذلك فنكره لما كان قد أخذه بدعوة صاحب الحضرة‏.‏وأوفد عليه رجال دولته بالبيعة على العادة في ذلك فحدث الأمير أبو زكرياء نفسه بالفرار عنه‏.‏ولحق بداود بن هلال بن عطاف أميراً‏.‏و من بني عامر إحدى بطون زغبة فأجاره وأبلغه مأمنه بحي الدواودة أمراء البدو بعمل الموحدين‏.‏نزل منهم على عطية بن سليمان بن سباع كما قدمناه واستولى على بجاية سنة أربع وثمانين بعد خطوب ذكرناها واقتطعها وسائر عملها عن ملك عمه صاحب الدعوة بتونس أبي حفص ووفى لداود بن عطاف وأقطعه بوطن بجاية عملا كبيراً أفرده لجبايته كان فيه أيقدارن بالخميس من وادي بجاية‏.‏واستقل الأمير أبو زكرياء بمملكة بونة وقسنطينة وبجاية والجزائر والزاب وما وراءها‏.‏وكان هذا الصهر وصلة له مع عثمان بن يغمراسن وبنيه‏.‏ولما نزل يوسف بن يعقوب تلمسان سنة ثمان وتسعين بعث الأمير أبو زكرياء المدد من جيوشه إلى عثمان بن يغمراسن وبلغ الخبربذلك إلى يوسف بن يعقوب فبعث أخاه أبا يحيى في العساكر لاعتراضهم والتقوا بجبل الزاب فكانت الدبرة على عسكر الموحدين واستلحموا هنالك‏.‏وتسمى المعركة لهذا العهد بمرسى الرؤوس‏.‏واستحكمت من أجل ذلك صاغية الخليفة بتونس إلى بني مرين وأوفد عليهم مشيخة من الموحدين يدعوهم إلى حصار بجاية وبعث معهم الهدية الفاخرة‏.‏وبلغ خبرهم إلى عثمان بن يغمراسن عن وراء جدرانه فتنكر لها وأسقط ذكر الخليفة من منابره ومحاه من عمله

ميارى 12 - 8 - 2010 03:43 PM

الخبر عن مهلك يغمراسن بن زيان وولاية ابنه عثمان
وما كان فى دولته من الأحداث كان السلطان يغمراسن قد خرج من تلمسان سنة إحدى وثمانين واستعمل عليها ابنه عثمان وتوغل في بلاد مغراوة وملك ضواحيهم‏.‏ونزل له ثابت بن منديل عن مدينة تنس فتناولها من يده‏.‏ثم بلغه الخبر بإقبال أخيه أبي عامر برهوم من تونس بابنة السلطان أبي إسحاق عرس ابنه فتلوم فنالك إلى أن لحقه بظاهو مليانة فارتحل إلى تلمسان وأصابه الوجع في طريقه‏.‏وعندما احتل شربويه اشتد به وجعه فهلك هنالك آخر ذي القعدة من سنته‏.‏والبقاء له وحده‏.‏فحمله ابنه أبو عامر على أعواده وواراه في خدر مورياً بمرضه إلى أن تجاوز بلاد مغراوة إلى سيك‏.‏ثم أغذ السير إلى تلمسان فلقيه أخوه عثمان بن يغمراسن ولي عهد أبيه في قومه فبايعه الناس وأعطوه صفقة أيمانهم‏.‏ثم دخل إلى تلمسان فبايعه العامة والخاصة‏.‏وخاطب لحينه الخليفه بتونس أبا إسحاق وبعت إليه ببيعته فراجعه بالقبول وعقد له على عمله على الرسم‏.‏ثم خاطب يعقوب ين عبد الحق يطلب منه السلم لما كان أبوه يغمراسن أوصاه به‏.‏حدثنا شيخنا العلامة أبو عبد الله محمد بن إبواهيم الآبلي قال‏:‏ سمعت من السلطان أبو حمو موسى بن عثمان وكان قهرماناً بداره قال‏:‏ أوصى دادا يغمراسن لدادا عثمان - ودادا حرف كناية عن غاية التعظيم بلغتهم - فقال له يا بني إن بني مرين بعد استفحال ملكهم واستيلائهم على الأعمال الغربية وعلى حضرة الخلافة بمراكش لا طاقة لنا بلقائهم إذا جمعوا لوفود مددهم ولا يمكنني أنا القعود عن لقائهم لمعرة النكوص عن القرن التي أنت بعيد عنها‏.‏فإياك واعتماد لقائهم وعليك باللياذ بالجدران متى دلفوا إليك وحاول ما استطعت في الاستيلاء على ما جاورك من عمالات الموحدين وممالكهم يستفحل به ملكك وتكافىء حشد العدو بحشدك‏.‏ولعلك تصير بعض الثغور الشرقية معقلاً لذخيرتك‏.‏فعلقت وصية الشيخ بقلبه واعتقد عليها ضمائره وجنح إلى السلم مع بني مرين ليفرغ عزمه لذلك‏.‏وأوفد أخاه محمد بن يغمراسن على يعقوب بن عبد الحق بمكانه من العدوة الأندلسية في إجازته الرابعة إليها فخاض إليه البحر ووصله باركش فلقاه براً وكرامة وعقد له من السلم ما أحب‏.‏وانكفأ راجعا إلى أخيه فطابت نفسه وفرغ لافتتاح البلاد الشرقية كما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن شأن عثمان بن يغمراسن مع مغراوة وبني توجين وغلبه على معاقلهم والكثير من أعمالهم
لما عقد عثمان بن يغمراسن السلم مع يعقوب بن عبد الحق صرف وجهه إلى الأعمال الشرقية من بلاد توجين ومغراوة وما وراءها من عمل الموحدين فتغلب أولاً ضواحي بني توجين ودوخ قاصيتها وصار إلى بلاد مغراوة كذلك ثم إلى متيجة فانتسق نعمها وخطم زروعها‏.‏ثم تجاوز إلى بجاية فحاصرها كما نذكره بعد‏.‏وامتنعت فليه وانكفأ راجعاً في طريقه بمازونة فحاصرها وأطاعته وذلك سنة ست وثمانين‏.‏و له ثابت بن منديل أمير مغراوة عن تنس فاستولى عليها وانتظم سائر بلاد مغراوة أيالته‏.‏ثم عطف في سنته على بلاد توجين فاكتسح حبوبها واحتكرها بمازونة استعداداً لما يتوقع من حصار مغراوة إياها‏.‏ثم دلف إلى تافر كنيت فحاصرها وأخذ بمخنقها‏.‏وداخل قائدها غالباً الخصي من موالي محمد بن عبد القوي كان مولى سيد الناس منهم فنزل له غالب عنها واستولى عليها واكفأ إلى تلمسان‏.‏ثم نهض إلى بلاد توجين سنة سبع وثمانين فغلبهم على وانشريش مثوى ملكهم ومنبت عزهم وفر أميرهم مولى بني‏.‏زرارة من ولد محمد بن عبد القوي‏.‏وأخذ الحلف منهم فدمواحي المدية في الأعشار وأولاد عزيز من قومه‏.‏واتبع عثمان بن يغمراسن آثار وشزدهم عن تلك الضاحية‏.‏وهلك مولى زرارة في مفره‏.‏وكان عثمان قبل ذلك قد دوخ بلاد بني يدللتين من بني توجين ونازل رؤساءهم أولاد سلامة بالقلعة المنسوبة إليهم مرات فامتنعوا عليه ثم أعطوه أيديهم على الطاعة ومفارقة قومهم بني توجين إلى سلطان بني يغمراسن فنبذوا العهد إلى بني محمد بن عبد القوي أمرائهم منذ العهد الأول‏.‏ووصلوا أيديهم بعثمان وألزموا رعاياهم وأعمالهم المغارم له إلى أن وصارت بلاد بني توجين كلها من عمله واستعمل الحشم بجبل وانشريش‏.‏ثم نهض بعدها إلى المدية وبها أولاد عزيز من توجين فنازلها وقام بدعوته فيها قبائل من صنهاجة يعرفون بلمدية وإليهم تنسب فأمكنوه منها سنة ثمان وثمانين وبقيت في إيالته سبعة أشهرة ثم انتقضت عليه‏.‏وزحف إلى إيالة أولاد عزيز وصالحوه عليها وأعطوه من الطاعة ما كانوا يعطونه لمحمد بن عبد القوي وبنيه فاستقام أمره في بني توجين ودانت له سائر أعمالهم‏.‏ثم خرج سنة تسع وثمانين إلى بلاد مغراوة لما كانوا ألبًا عليه لبني مرين في إحدى حركاتهم على تلمسان فدوخها وأنزل ابنه أبا حمو بشلف مركز عملهم فأقام به وقفل هو إلى الحضرة‏.‏وتحيز فل مغراوة إلى نواحي متيجة وعليهم ثابت بن منديل أميرهم فلم يزالوا بها‏.‏ونهض عثمان إليهم سنة ثلاث وتسعين من بعدها فانحجزوا بمدينة برشك وحاصرهم بها أربعين يوما ثم افتتحها‏.‏وخاض ثابت بن منديل البحر إلى المغرب فنزل على يوسف بن يعقوب كما ذكرناه ونذكره‏.‏واستولى عثمان على سائر عمل مغراوة كما استولى على عمل توجين فانتظم بلاد المغرب الأوسط كلها وبلاد زناتة الأولى ثم شغل بفتنة بني مرين كما نذكره بعد‏.‏والملك لله وحده‏.‏


الخبر عن منازلة بجاية وما دعا إليها
قد ذكرنا أن المولى أبا زكريا الأوسط ابن السلطان أبي إسحاق من بني أبي حفص لحق بتلمسان عند فراره من بجاية أمام شيعة الدعي ابن أبي عمارة ونزل على عثمان بن يغمراسن خير نزل‏.‏ثم هلك الدعي ابن أبي عمارة واستقل عمه الأمير أبو حفص بالخلافة وبعث إليه عثمان بن يغمراسن بطاعته على العادة وأوفد عليه وجوه قومه ودس الكثير من أهل بجاية إلى المولى أبي زكريا يستحثونه للقدوم ويعدونه إسلام البلد إليه‏.‏وفاوض عثمان بن يغمراسن في ذلك فأبى عليه فألحق البيعة بعمه الخليفة بالحضرة فطوى عنه الخبر وتردد في القبض أيامًا‏.‏ثم لحق بأحياء زغبة في مجالاتهم بالقفر ونزل على داود بن هلال بن عطاف‏.‏وطلب عثمان بن يغمراسن من داود إسلامه فأبى عليه وارتحل معه إلى أعمال بجاية ونزلوا إلى أحياء الدواودة كما قدمناه‏.‏ثم استولى المولى أبو زكريا بعد ذلك على بجاية في خبر طويل قد ذكرناه في أخباره‏.‏واستحكمت القطيعة بينه وبين عثمان وكانت سببًا لاستحكام الموالاة بين عثمان وبين الخليفة بتونس‏.‏فلما زحف إلى عمل مغراوة سنة ست وثمانين وتوغل في قاصية المشرق أعمل الرحلة إلى عمل بجاية ودوخ سائر أقطارها‏.‏ثم نازلها من بعد ذلك يروم كيدها بالاعتمال في مرضاة الخليفة بتونس ويسر بذلك حسوًا في ارتغاء فأناخ عليها بعساكره سبعًا ثم أفرج عنها منقلبًا إلى المغرب الأوسط فكان من فتح مازونة وتافركنيت ما قدمناه‏.‏


الخبر عن معاودة الفتنة مع بني مرين وشأن تلمسان في الحصار الطويل
لما هلك يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين على السلم المنعقدة بينه وبين بني عبد الواد لشغله بالجهاد وقام بالأمر من بعده في قومه ابنه يوسف كبير ولده على حين أتبعهم أنفسهم شأن الجهاد‏.‏وأسفهم يغمراسن وابنه بممالاة الطاغية وابن الأحمر يوسف السلم مع الطاغية لحينه ونزل لابن الأحمر عن ثغور الأندلس التي كانت لهم وفرغ لحرب بني عبد الواد واستتب له ذلك لأربع من مهلك أبيه دلف إلى تلمسان سنة تسع وثمانين ولاذ منه عثمان بالأسوار فنازلها أربعين صباحًا وقطع شجراءها ونصب عليها المجانيق والآلات‏.‏ثم أحس بامتناعها فأفرج عنها وانكفأ راجعًا‏.‏وتقبل عثمان بن يغمراسن مذهب أبيه في مداخلة ابن الأحمر والطاغية وأوفد رسله فلم يغن ذلك عنه شيئًا وكان مغراوة قد لحقوا بيوسف بن يعقوب على تلمسان فنالوا منها أعظم النيل‏.‏فلما أفرجوا عن تلمسان نهض عثمان إلى بلادهم فدوخها وغلبهم عليها وأنزل بها ابنه أبا حمو كما قدمناه‏.‏فلما كانت سنة خمس وتسعين نهض لميف بن يعقوب حركته الثانية فنازل ندرومة ثم ارتحل عنها إلى ناحية وهران‏.‏وأطاعه جبل كيذرة وتاسكدلت رباط عبد الحميد أن الفقيه أبي زيد اليزناسني ثم كر راجعاً إلى المغرب‏.‏وخرج عثمان بن يغمراسن فأثخن في تلك الجبال لطاعتهم عدوه واعتراضهم جنده واستباح رباط تاسكدلت‏.‏ثم غزاه يوسف بن يعقوب ثالثاً سنة ست وتسعين ورجع إلى المغرب‏.‏ثم أغزاه رابع سنة سبع وتسعين فنازل تلمسان وأحاط بها معسكره وشرعوا في البناء‏.‏ثم أفرج عنها لثلاثة أشهر ومر في طريقه بوجدة فأمر بتجديد بنائها وجمع الفعلة عليها‏.‏واستعمل أخاه أبا يحيى بن يعقوب على ذلك فأقام لشأنه ولحق يوسف بالمغرب‏.‏وكان بنو توجين قد نازلوا تلمسان مع يوسف بن يعقوب وتولى كبر ذلك منهم أولاد سلامة أمراء بني يدللتن منهم وأصحاب القلعة المنسوبة إليهم‏.‏فلما أفرج عنها خرج إليهم عثمان بن يغمراسن فدوخ بلادهم وحاصرها بالقلعة ونال منهم أضعاف ما نالوا منه‏.‏وطال مغيبه في بلادهم فخالفه أبو يحيى بن يعقوب إلى ندرومة فاقتحمها بعسكره بمداخلة من قائدها زكرياء بن يخلف بن المطغرى صاحب تاونت‏.‏فاستولى بنو مرين على ندرومة وتاونت‏.‏وجاء يوسف بن يعقوب على أثرها فوافاهم ودلفوا جميعاً إلى تلمسان‏.‏وبلغ الخبرإلى عثمان بمكانه من حصار القلعة فطوى المراحل إلى تلمسان فسبق إليها يوسف بن يعقوب ببعض يوم‏.‏ثم أشرفت طلائع بني مرين عشي ذلك اليوم فأناخوا بها في شعبان سنة ثمان وتسعين وأحاط العسكر من جميع جهاتها‏.‏وضرب يوسف بن يعقوب عليها سياجاً من الأسوار محيطاً بها وفتح فيه أبواباً مداخل لحربها واختط لنزله إلى جانب الأسوار مدينة سماها المنصورة‏.‏وأقام على ذلك سنين يغاديها بالقتال ويرواحها‏.‏وسرح عساكر لافتتاح أمصار المغرب الأوسط وثغوره فملك بلاد مغراوة وبلاد بني توجين كما ذكرناه في أخباره‏.‏وجثم هو بمكانه من حصار تلمسان لا يعدوها كالأسد الضاري على فريسته إلى أن هلك عثمان وهلك هو من بعده كما نذكره‏.‏وإلى الله المصير‏.‏


الخبر عن مهلك عثمان بن يغمراسن وولاية ابنه أبي زيان وانتهاء الحصار من بعده إلى غايته
لما أناخ يوسف بن يعقوب بعسكره على تلمسان انحجر بها عثمان وقومه واستسلموا والحصار آخذ بمخنقهم‏.‏وهلك عثمان لخامسة السنين من حصارهم سط ثلاث وسبعماية وقام بالأمر من بعده ابنه أبو زيان محمد‏.‏أخبرني شيخنا العلامة محمد بن إبراهيم الأبلي وكان في صباه قهرمان دارهم قال‏:‏ هلك عثمان بن يغمراسن بالديماس وكان قد أعد لشربه لبناً‏.‏فلما أخد منه الديماس وعطش دعا بالقدح وشرب اللبن ونام فلم يكن بأوشك إن فاضت نفسه‏.‏وكنا نرى معشر الصنائع أنه داف فيه السم تفادياً من معرة غلب عدوهم إياهم قال‏:‏ وجاء الخادم إلى قعيدة بيته زوجه بنت السلطان أبي إسحاق ابن الأمير أبي زكرياء بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب تونس وأخبرها الخبر فجاءت ووقفت عليه واسترجعت وخيمت على الأبواب بسدادها‏.‏ثم بعثت عن ابنيه محمد أبي زيان وموسى أبي حموا فعزتهما عن أبيهما‏.‏وأحضر مشيخة بني عبد الواد وعرضوا لهم بمرض السلطان فقال أحدهم مستفهماً عن الشأن ومترجماً عن القوم‏:‏ السلطان معنا آنفاً ولم يمتد الزمن لوقوع المرض فإن يكن هلك فخبرونا فقال له أبو حمو‏:‏ وإذا هلك فما أنت صانع فقال‏:‏ إنما نخشى من مخالفتك وإلا فسلطاننا أخوك الأكبر أبو زيان‏.‏فقام أبو حمو من مكانه وأكب على يد أخيه يقبلها وأعطاه صفقة يمينه‏.‏واقتدى به المشيخة فانعقدت بيعته لوقته‏.‏واشتمل بنو عبد الواد على سلطانهم واجتمعوا إليه وبرزوا لقتال عدوهم على العادة فكأن عثمان لم يمت‏.‏وبلغ الخبرإلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارهم فتفجع له وعجب من صرامة قومه من بعده‏.‏واستمر حصارله إياهم إلى تمام ثماني سنين وثلاثة أشهر من يوم نزوله نالهم فيها من الجهد والجوع ما لم ينل أمة من الأمم واضطروا إلى أكل الجيف والقطط والفيران حتى لزعموا أنهم أكلوا فيها أشلاء الموتى من الأناسي وخربوا السقف للوقود وغلت أسعار الأقوات والحبوب وسائر المرافق بما تجاوز حدود العرائد‏.‏وعجز وجدهم عنه فكان ثمن مكيال القمح الذي يسمونه البرشالة ويتبايعون به مقداره اثنتي عشر رطلاً ونصف مثقالين ونصف من الذهب العين وثمن الرأس الواحد من البقر ستين مثقالا ومن الضأن سبعة مثاقيل ونصف‏.‏وأثمان اللحمان من الجيف‏:‏ الرطل من لحم البغال والحمير بثمن المثقال ومن الخيل بعشرة دراهم صغار من سكتهم والرطل من الجلد البقري ميتة أو مذكى بثلاثين درهماً والهر الواحد بمثقال ونصف والكلب بمثله والفأر بعشرة دراهم والحية بمثله والدجاجة بستة عشر درهماً والبيض واحدة بستة عراهم والعصافير كذلك‏.‏والأوقية من الزيت باثنتي عشر درهماً ومن السمن بمثلها ومن الشحم بعشرين‏.‏ومن الفول بمثلها‏.‏ومن الملح بعشرة ومن الحطب كذلك‏.‏والأصل الواحد من الكرنب بثلاثة أثمان المثقال‏.‏ومن الخس بعشرين درهماً ومن اللفت بخمسة عشر درهماً‏.‏والواحدة من القثاء والفقوس بأربعين درهماً والخيار بثلاثة أثمان الدينار والبطيخ بثلاثين درهماً والحبة من التين ومن الإجاص بدرهمين واستهلك الناس أموالهم وموجودهم وضاقت أحوالهم‏.‏ واستفحل ملك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارها واتسعت خطة مدينة المنصورة المشيدة عليها‏.‏ورحل إليها التجار بالبضائع من الآفاق واستبحرت في العمران بما لم تبلغه مدينة وخطب الملوك سلمه ووده ووفدت عليه رسل الموحدين وهداياهم من تونس وبجاية وكذلك رسل صاحب مصر والشام وهديتهم واعتز اعتزازاً لا كفاء له كما يأتي في أخباره‏.‏وأنهك الجهد حامية بني يغمراسن وقبيلتهم وأشرفوا على الهلاك فاعتزموا على الإلقاء باليد والخروج بهم للاستماتة فكيف الله لهم الصنع الغريب‏.‏ونفس عن مخنقهم بمهلك السلطان يوسف بن يعقوب على يد خصي من العبدي أسخطته بعض النزعات الملوكية فاعتمده في كسر بيته ومخدع نومه وطعنه بخنجر قطع أمعاءه وأدرك فسيق إلى وزرائه ومزقوا أشلاءه فلم يبوء وأذهب الله العناءة عن آل زيان وقومهم وساكني مدينتهم فكأنما نشروا من الأجداث‏.‏وكتبوا لها في سكتهم ما أقرب فرج الله استغراباً لحادثتها‏.‏حدثني شيخنا محمد بن إبراهيم الأبلي قال‏:‏ جلس السلطان أبو زيان صبيحة يوم ذلك الفرج وهو يوم الأربعاء في خلوة من زوايا قصره واستدعى ابن حجاف خازن الزرع فسأله كم بقي من الأهراء والمطامير المختومة فقال له‏:‏ إنما بقي عولة اليوم وغد‏!‏ فاستوصاه بكتمانها‏.‏وبينما هم في ذلك دخل عليه أخوه أبو حمو فأخبره فوجم لها وجلسوا سكوتاً لا ينطقون وإذا بالخادم دعد قهرمانة القصر من وصايف بنت السلطان أبي إسحاق حظية أبيهم خرجت من القصر إليهم فوقفت وحيتهم تحيتها وقالت‏:‏ تقول لكم حظايا قصركم وبنات زيان حرمكم ما لنا وللبقاء وقد أحيط بكم وأسف لالتهامكم عدوكم ولم يبق إلا فواق بكيئة لمصارعكم فأريحونا من معرة السبي وأريحوا فينا أنفسكم وقربونا إلى مهالكنا‏.‏فالحياة في الذل عذاب والوجود بعدكم عدم‏.‏فالتفت أبو حمو إلى أخيه وكان من الشفقة بمكان وقال‏:‏ لقد صدقتك الخبر فما تنتظر فيهم‏.‏فقال‏:‏ يا موسى‏!‏ أرجئني ثلاثاً لعل الله يجعل بعد عسر يسراً ولا تشاورني بعدها فيهن بل سرح اليهود والنصارى إلى قتلهن وتعال إلي نخرج مع قومنا إلى عدونا فنستميت ويقضي الله ما شاء‏.‏فغضب له أبو حمو ونكر الإرجاء في ذلك وقال‏:‏ إنا نحن والله نتربص المعرة بهن وبأنفسنا وقام عنه مغضباً وجهش السلطان أبو زيان بالبكاء‏.‏قال ابن حجاف‏:‏ وأنا بمكاني‏.‏بين يديه واجم لا أملك متأخراً ولا متقدماً إلى أن غلب عليه النوم فما راعني إلا حرسي الباب يشير إلي أن إذن السلطان بمكان رسول من معسكر بني مرين بسدة القصر فلم أطق أرجع جوابه إلا بالإشارة‏.‏وانتبه السلطان من خفيف إشارتنا فزعاً فأذنته واستدعاه‏.‏فلما وقف بين يديه قال له‏:‏ إن يوسف بن يعقوب هلك الساعة وأنا رسول حافده أي ثابت إليكم‏.‏فاستبشر السلطان واستدعى أخاه وقومه حتى أبلغ الرسول رسالته بمسمع منهم وكانت إحدى المقربات في الأنام‏.‏وكان من خبر هذه الرسالة أن يوسف بن يعقوب لما هلك تطاول للأمر الأعياص من إخوته وولده وحفدته وتحيز أبو ثابت حافده إلى بني ورتاجن لخؤلة كانت له فيهم فاستجاش بهم واعصوصبوا عليه‏.‏وبعث إلى أولاد عثمان بن يغمراسن أن يعطوه الآلة ويكونوا مفزعاً له ومأمنا إن أخفق مسعاه‏.‏على أنه إن تم أمر وقوض عنهم معسكر بني مرين فعاقدوه عليها‏.‏ووفى لهم لما تم أمره ونزل لهم عن جميع الأعمال التي كان يوسف بن يعقوب استولى عليها من بلادهم‏.‏وجأجأ بجميع الكتائب التي أنزلها في ثغورهم وقفلوا إلى أعمالهم بالمغرب الأقصى‏.‏واستمكن السلطان أبو زيان من ثغور المغرب الأوسط كلها إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏كان من أول ما افتتح به السلطان أبو زيان أمره بعد الخروج من هوة الحصار وتناوله الأعمال من أيدي بني مرين أن نهض من تلمسان ومعه أخوه أبو حمو آخر ذي من سنة ست وسبعماية‏.‏فقصد بلاد مغراوة وشرد من كان هنالك منهم في طاعة بني مرين واحتاز الثغور من أيدي عمالهم ودوخ قاصيتها‏.‏ثم عقد عليها لمسامح مولاه ورجع عنها‏.‏ونهض إلى السرسو وكان العرب قد تملكوه أيام الحصار وغلبوا زناتة عليه من سويد والديالم ومن إليهم من بني يعقوب بن عامر فأجفلوا أمامه‏.‏واتبع آثارهم إلى أن أوقع بهم وانكفأ راجعاً‏.‏ومر ببلاد بني توجين فاقتضى طاعة من كان بقي بالجبل من بني عبد القوي والحشم فأطاعوه ورياستهم يومئذ لمحمد بن عطية الأصم من بني عبد القوي‏.‏وقفل إلى تلمسان لتسعه أشهر من خروجه وقد ثقف أطراف ملكه ومسخ أعطاف دولته‏.‏فنظر في إصلاح قصوره ورياضه ورم ما تثلم من بلده‏.‏وأصابه المرض خلال ذلك فاشتد وجعه سبعاً ثم هلك أخريات شوال من سنة سبع‏.‏والبقا لله وحده‏.‏


الخبر عن محو الدعوة الحفصية من منابر تلمسان
كانت الدعوة الحفصية بإفريقية قد انقسمت بين أعياصهم في تونس وبجاية وأعمالها وكان التخم بينها بلد عجيسة ووشتاتة وكان الخليفة بتونس الأمير أبوحفص ابن الأمير أبي زكرياء الأول منهم وله الشفوف على صاحب بجاية والثغور الغربية بالحضرة‏.‏فكانت بيعة بني زيان له ودعاؤهم على منابرهم باسمه وكانت لهم مع المولى الأمير أبي زكرياء الأوسط صاحب بجاية وصلة لمكان الصهر بينهم وبينه وكانت الوحشة قد اعترضت ذلك عندما نازل عثمان بجاية كما قدمناه‏.‏ثم تراجعوا إلى وصلتهم واستمروا عليها إلى أن نازل يوسف بن يعقوب تلمسان والبيعة يومئذ للخليفة بتولس السلطان أبي عصيدة بن الواثق والدعوة على منابر تلمسان باسمه وهو حاقد عليهم ولايتهم للأمير أبي زكرياء الأوسط صاحب الثغر‏.‏فلما نزل يوسف بن يعقوب على تلمسان وبعث عساكره في قاصية المشرق واستجاش عثمان بن يغمراسن بضاحية بجاية فسرح عسكراً من الموحدين لمدافعتهم عن تلك القاصية‏.‏والتقوا معهم بجبل الزان فانكشف الموحدون بعد معترك صعب واستلحمهم بنو مرين‏.‏ويسمى المعترك لهذا العهد بمرسى الرؤوس لكثرة ما تساقط في ذلك المجال من الرؤوس واستحكمت المنافرة لذلك بين يوسف بن يعقوب وصاحب بجاية فأوفد الخليفة بتونس على يوسف بن يعقوب مشيخة الموحدين تجديداً لوصلة سلفهم مع سلفه وإغراء بصاحب بجاية وعمله‏.‏فساء موقع ذلك من عثمان بن يغمراسن وأحفظه موالاة الخليفة لعدوه فعطل منابره من ذكره وأخرج قومه وإيالته عن دعوته‏.‏وكان ذلك دولة أبي حمو الأوسط


الخبر عن دولة أبي حمو الأوسط موسي بن عثمان وما كان فيها الأحداث
لما هلك الأمير أبو زيان قام بالأمر من بعده أخوه السلطان أبو حمو في أخريات سنة سبع كما قدمناه وكان صارماً يقظاً حازماً داهية قوى الشكيمة صعب العريكة شرس الأخلاق مفرط الذكاء والحدة وهو أول ملوك زناتة‏.‏رتب مراسم الملك وهذب قواعده وأرهف لذلك لأهل ملكه حده وقلب لهم مجن بأسة حتى دلوا لعز الملك وتأدبوا بآداب السلطان‏.‏سمعت عريف بن يحيى أمير سويد من زغبة وشيغ المجالس الملوكية زناتة يقول ويعنيه‏:‏ موسى بن عثمان هو معلم السياسة الملوكية لزناتة وإنما كانوا رؤساء بادية حتى قام فيهم موسى بن عثمان فحد حدودها وهذب مراسمها‏.‏ولقن عنه ذلك أقتاله وأنظاره منهم فتقبلوا مذهبه واقتدوا بتعليمه‏.‏انتهى كلامه‏.‏ولما استقل بالأمر افتتح شأنه بعقد السلم مع سلطان بني مرين لأول دولته فأوفد كبراء دولته على السلطان أبي ثابت وعقد له السلم كما رضي‏.‏ثم صرف وجهه إلى بني توجين مغراوة فردد إليهم العساكر حتى دوخ بلادهم وذلل صعابهم‏.‏وشرد محمد بن عطيه الأصم عن نواحي وانشريش وراشد بن محمد عن نواحي شلف وكان قد لحق بها بعد مهلك يوسف بن يعقوب فأزاحه عنها‏.‏واستولى على العملين واستعمل عليها وقفل إلى ثلمسان‏.‏ثم خرج سنة عشر في عساكره إلى بلاد بني توجين ونزل تافركنيت وسط بلادهم‏.‏فشرد الفل من أعقاب محمد بن عبد القوي عن وانشريش واحتاز رياستهم في بني توجين دونهم‏.‏وأدال منهم بالحشم وبني تيغرين‏.‏وعقد لكبيرهم يحيى بن عطية على رياسة قومه في جبل وانشريش وعقد ليوسف بن حسن من أولاد عزيز على المدية وأعمالها وعقد لسعد من بني سلامة بن علي على قومه بني يدللتن إحدى بطون بني توجين وأهل الناحية الغربية من عملهم‏.‏وأخذ من سائر بطون بني توجين الرهن على الطاعة والجباية واستعمل عليهم جميعاً من صنائعه قائده يوسف بن حبون الهواري وأذن له في اتخاذ الآلة‏.‏وعقد لمولاه مسامح على بلاد مغراوة‏.‏وأذن له أيضاً في اتخاذ الآلة‏.‏وعقد لمحمد ابن عمه يوسف على مليانة وأنزله بها وقفل إلى تلمسان‏.‏والله أعلم‏.‏


الخبر عن استنزال زيرم بن حماد بن ثغر برشك
وما كان من قتله كان هذا الغمر من مشيخة هذا المصر لوفور عشيره من مكلاته داخله وخارجه واسمه زيري بالياء فتصرفت فيه العامة وصار زيرم بالميم‏.‏ولما غلب يغمراسن على بلاد مغراوة دخل أهل هذا المصر في طاعته‏.‏حتى إذا هلك حدثت هذا الغمر نفسه بالانتزاء والاستبداد بملك برشك ما بين مغراوة وبني عبد الواد ومدافعة بعضهم ببعض‏.‏فاعتزم على ذلك وأمضاه وضبط برشك لنفسه سنة ثلاث وثمانين‏.‏ونهض إليه عثمان بن يغمراسن سنة أربع بعدها ونازله فامتنع‏.‏ثم زحف سنة ثلاث وتسعين إلى مغراوة فلجأ ثابت بن منديل إلى برشك وحاصره عثمان بها أربعين يوماً‏.‏ثم ركب البحر إلى المغرب كما قلناه وأخذ زيرم بعده بطاعة عثمان بن يغمراسن دافعه بها وانتقض عليه مرجعه إلى تلمسان‏.‏وشغل بنو زيان بعدها بما دهمهم من شأن الحصار فاسبتد زيرم هذا ببرشك واستفحل شأنه بها‏.‏واتقى بني مرين عند غلبهم على أعمال مغراوة وتردد عساكرهم فيها بإخلاص الطاعة والانقياد‏.‏فلما انقشع إيالة بني مرين بمهلك يوسف بن يعقوب وخرج بنو عثمان بن يغمراسن من الحصار رجع إلى ديدنه من التمريض في الطاعة ومقاولة طرفها على البعد‏.‏حتى إذا غلب أبو حمو على بلاد مغراوة وتجاوزت طاعته هذا المصر إلى ما وراءه خشيه زيري على نفسه وخطب منه الأمان على أن ينزل له عن المصر‏.‏فبعث إليه صاحب الفتيا بدولته أبا زيد عبد الرحمن بن محمد الإمام كان أبوه من أهل برش وكان زيري قد قتله لأول ثورته غيلة‏.‏وفر ابنه عبد الرحمن هذا وأخوه عيسى ولحقا بتونس فقرآ بها ورجعا إلى الجزائر فأوطناها‏.‏ثم انتقلا إلى مليانة واسنعملهما بنو مرين في خطة القضاء بمليانة‏.‏ثم وفدا بعد مهلك يوسف بن يعقوب على أبي زيان وأبي حمو مع عمال بني مرين وقوادهم بمليانة‏.‏وكان فيهم منديل بن محمد الكناني صاحب أشغالهم المذكور في أخبارهم‏.‏وكانا يقرئان ولده محمد فأشاد على أبي زيان وأبي حمو بمكانهم من العلم ووقع ذلك من أبي حمو أبلغ المواقع حتى إذا استقل بالأمر ابتنى المدرسة بناحية المطمر من تلمسان لطلب العلم‏.‏وابتنى لهما دارين عن جانبيها وجعل لهما التدريس فيها في إيوانين معدين لذلك‏.‏واختصهما بالفتيا والشورى فكانت لهما في دولته قدم عالية‏.‏فلما طلب زيري هذا الأمان من أبي حمو وأن يبعث إليه من يأمن معه في الوصول في بابه بعث إليه أبا زيد عبد الرحمن الأكبر منهما فنهض لذلك بعد أن استأذنه أن يثأر منه بأبيه إن قدر عليه فأذن له‏.‏فلما احتل ببرشك أقام بها أياماً يناديه فيها زيري ويراوحه بمكان نزله وهو يعمل الحيلة في اغتياله حتى أمكنته‏.‏فقتله في بعض تلك لأيام سنة ثمان وسبعماية وصار أمر برشك إلى السلطان أبي حمو وانمحى منها أثر المشيخة والاستبداد‏.‏والأمور بيد الله سبحانه‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:44 PM

الخبر عن طاعة الجزائر واستنزال ابن علان منها
وذكر أوليته كانت مدينة الجزائر هذه من أعمال صنهاجة وحطها بلكين بن زيري ونزلها بنوه من بعده‏.‏ثم صارت إلى الموحدين وانتظمها بنو عبد الرحمن في أمصار المغربين وإفريقية‏.‏ولما استبد بنو أبو حفص بأمر الموحدين وبلغت دعوتهم بلاد زناتة‏.‏وكانت تلمسان ثغراً لهم واستعملوا عليها يغمراسن وبنيه من بعده وعلى ضواحي مغراوة بني منديل بن عبد الرحمن وعلى وانشريش وما إليه من عمل بني توجين محمد بن عبد القوي وبنيه‏.‏وبقي ما وراء هذه الأعمال إلى الحضرة لولاية الموحدين من أهل دولته فكان العامل على الجزائر من الموحدين أهل الحضرة‏.‏وفي سنة أربع وستين انتقضوا على المستنصر ومكثوا في ذلك الانتقاض سبعاً‏.‏ثم أوعز إلى أبي هلال صاحب بجاية بالنهوض إليها في سنة إحدى وسبعين فحاصرها أشهراً وأفرج عنها‏.‏ثم عاودها بالحصار سنة أربع وسبعين أبو الحسن بن ياسين بعساكر الموحدين فاقتحمها عليهم عنوة واستباحها‏.‏وتقبض على مشيختها فلم يزالوا معتقلين كلا إلى أن هلك المستنصر‏.‏ولما انقسم أمر بني أبي حفص واستقل الأمير أبو زكرياء الأوسط بالثغور الغربية وأبوه وبعثوا إليه بالبيعة وولى عليهم ابن أكمازير‏.‏وكانت ولايتها لبطة من قبل فلم يزل هو والياً عليها إلى أن أسن وهرم‏.‏وكان ابن علان من مشيخة الجزائر مختصاً به ومتصرفاً في أوامره ونواهيه ومصدراً لأمارته‏.‏وحصل له بذلك الرياسة على أهل الجزائر سائر أيامه‏.‏فلما هلك ابن أكمازير حدثته نفسه بالاستبداد والانتزاء بمدينته فبعث عن أهل الشوكة من نظرائه ليلة هلاك أميره‏.‏وضرب أعناقهم وأصبح منادياً بالاستبداد واتخذ الآلة واستركب واستلحق من الغرباء والثعالبة عرب متيجة واستكثر من الرجال والرماة‏.‏ونازلته عساكر بجاية مراراً فامتنع عليهم‏.‏وغلب مليكش على جباية الكثير من بلاد متيجة ونازله أبو يحيى بن يعقوب بعساكر بني مرين عند استيلائهم على البلاد الشرقية وتوغلهم في القاصية فأخذ بمخنقها وضيق عليها‏.‏ومر بابن علان القاضي أبو العباس الغماري رسول الأمير خالد إلى يوسف بن يعقوب فأودعه الطاعة للسلطان‏.‏والضراعة إليه في الإبقاء فأبلغ ذلك عنه وشفع له فأوعز إلى أخيه أبي يحيى بمصالحته‏.‏ثم نازله الأمير خالد من بعد ذلك فامتنع عليه‏.‏وأقام على ذلك أربع عشرة سنة وعيون الخطوب تحرزه والأيام تستجمع لحربه‏.‏فلما غلب السلطان أبو حمو على بلاد بني توجين واستعمل يوسف بن حيون الهواري على وانشريش ومولاه مسامحاً على بلاد مغراوة ورجع إلى تلمسان‏.‏ثم نهض سنة اثنتي عشرة إلى بلاد شلف فنزل بها وقدم مولاه مسامحاً في العساكر فدوخ متيجة من سائر نواحيها وترس الجزائر وضيق حصارها حتى مسهم الجهد‏.‏وسأل ابن علان النزول على أن يستشرط لنفسه فتقبل السلطان اشتراطه‏.‏وملك السلطان أبو حمو الجزائر وانتظمها في أعماله‏.‏وارتحل ابن علان في جملة مسامح ولحقوا بالسلطان بمكانه من شلف فانكفأ إلى تلمسلن وابن علان في ركابه فأسكنه هنالك ووفى له بشرطه إلى أن هلك‏.‏والبقاء لله وحده‏.‏


الخبر عن حركة صاحب المغرب إلى تلمسان وأولية ذلك
لما خرج عبد الحق بن عثمان من أعياص الملك على السلطان أبي الربيع بفاس وبايع له الحسن بن علي بن أبي الطلاق شيخ بني مرين بمداخلة الوزير رحو بن يعقوب كما قدمناه في أخبارهم‏.‏وملكوا تازى وزحف إليهم السلطان أبو الربيع فبعثوا وفدهم إلى السلطان أبو حمو صريخاً‏.‏ثم أعجلهم أبو الربيع وأجهضهم على تازى فلحقوا بالسلطان أبي حمو ودعوه إلى المظاهرة على المغرب ليكونوا رداء له دون قومهم‏.‏وهلك السلطان أبو الربيع خلال ذلك‏.‏واستقل بملك المغرب أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق فطالب السلطان أبا حمو بإسلام أولئك النازعين إليه فأبى من إسلامهم وإخفار ذمته فيهم‏.‏وأجازهم البحر إلى العدوة فأغضى له السلطان أبو سعيد عنها وعقد له السلم‏.‏ثم استراب يعيش بن يعقوب بن عبد الحق بمكانه عند أخيه السلطان أبي سعيد لما سعى به عنده فنزع إلى تلمسان‏.‏وأجاره السلطان أبو حمو على أخيه فأحفظه ذلك ونهض إلى تلمسان سنة أربع عشرة‏.‏وعقد لابنه الأمير أبي علي وبعثه في مقدمته وصار هو في الساقة‏.‏ودخل أعمال تلمسان على هذه التعبية فاكتسح بسائطها‏.‏ونازل وجدة فقاتلها وضيق عليها‏.‏ثم تخطاها إلى تلمسان فنزل بساحتها‏.‏وانحجز موسى بن عثمان من وراء أسوارها وغلب على ضواحيها ورعاياها وسار السلطان أبو سعيد في عساكره يتقرى شعارها وبلادها بالحطم والانتساف والعبث‏.‏فلما أحيط به وثقلت وطأة السلطان عليه وحذر المغبة منهم ألطف الحيلة في خطاب الوزراء الذين كان يسرب أمواله فيهم ويخادعهم عن نصائح سلطانهم حتى اقتضى مراجعتهم في شأن جاره يعيش بن يعقوب وإدالته من أخته ثم بعث خطوطهم بذلك إلى السلطان أبي سعيد فامتلأ قلبه منها خشية واستراب بالخاصة والأولياء ونهض إلى المغرب على تعبيته ثم كان خروج ابنه عمر عليه بعد مرجعه وشغلوا عن تلمسان وأهلها برهة من الدهر حتى تم أمر الله في ذلك عند وقته‏.‏والله تعالى أعلم‏.‏


الخبر عن مبدأ حصار بجاية وسرح الداعية إليه
لما خرج السلطان أبو سعيد إلى المغرب وشغل عن تلمسان فرغ أبو حمو لأهل القاصية من عمله‏.‏وكان راشد بن محمد بن ثابت بن منديل قد جاء من بلاد زواوة أثناء هذه الغمرة فاحتل بوطن شلف واجتمع إليه أوشاب قومه‏.‏وحين تجلت الغمرة عن السلطان أبي حمو نهض إليه بعد أن استعمل ابنه أبا تاشفين على تلمسان وجمع له الجموع ففر أمامه ناجياً إلى مثوى اغترابه ببجايه‏.‏وأقام بنو أبي سعيد بمعقلهم من جبال شلف على دعوته فاحتل السلطان أبو حمو بوادي نهل فخيم به‏.‏وجمع أهل أعماله لحصار بني أبي سعيد شيعة راشد بن محمد واتخذ هنالك قصره المعروف باسمه‏.‏وسرح العساكر لتدويخ القاصية ولحق به هنالك الحاجب ابن أبي حي مرجعه من الحج سنة إحدى عشرة وسبعماية فأغراه بملك بجايه ورغبه فيه‏.‏وكان له فيها طمع منذ رسالة السلطان أبي يحيى إليه‏.‏وذلك أنه لما انتقض على أخيه خالد دعى لنفسه بقسنطينة‏.‏ونهض إلى بجاية فانهزم عنها كما قدمناه في أخباره‏.‏وأوفد على السلطان أبي حمو بعض رجال دولته مغرياً له بابن خلوف وبجاية‏.‏ثم بعث إليه ابن خلوف أيضاً يسأله المظاهرة والمدد فأطمعه ذلك في ملك بجايه‏.‏ولما هلك ابن خلوف كما قدمناه لحق به كاتبه عبد الله بن هلال فأغراه واستحثه وعداه عن ذلك شأن الجزائر‏.‏فلما استولى على الجزائر بعث مسامحاً مولاه في عسكر مع ابن أبي حي فبلغوا إلى جبل الزان‏.‏وهلك ابن أبي حي ورجع مسامح‏.‏ثم شغله عن شأنها زحف‏.‏وفرغ من أمر عدوه ونزل بلد شلف كما ذكرنا آنفاً‏.‏ولحق به عثمان بن سباع بن يحيى وعثمان بن سباع بن شبل أمير الدواودة يستحثونه لملك الثغور الغربية من عمل الموحدين فاهتز لذلك وجمع له الجموع‏:‏ فعقد لمسعود ابن عمه أبي عامر برهوم على عسكر وأمره بحصار بجاية وعقد لمحمد ابن عمه يوسف قائد مليانة على عسكر ولمولاه مسامح على عسكر آخر‏.‏وسرحهم إلى بجاية وما وراءها لتدويخ البلاد‏.‏وعقد لموسى بن علي الكردي على عسكر ضخم وسرحه مع العرب من الدواودة وزغبة على طريق الصحراء‏.‏وانطلقوا إلى وجههم ذلك وفعلوا الأفاعيل كل فيما يليه‏.‏وتوغلوا في البلاد الضرقية حتى انتهوا إلى بلاد بونة‏.‏ثم انقلبوا من هنالك ومروا في طريقهم بقسنطينة ونازلوها أياما‏.‏وصعدوا جبل ابن ثابت المطل عليها فاستباحوه‏.‏ثم مروا ببني باورار فاستباحوها وأضرموها واكتسحوا سائر ما مروا عليه‏.‏وحدثت بينهم المنافرة حسداً ومنافسة فافترقوا ولحقوا بالسلطان‏.‏وأقام مسعود بن برهوم محاصراً لبجاية وبنى حصناً بأصفوان لمقامته‏.‏وكان يسرح الجيوش لقتالها فتجول في ساحتها ثم رجع إلى الحصن‏.‏ولم يزل كذلك حتى بلغه خروج محمد بن يوسف فأجفل عنها على ما نذكره الآن فلم يرجعوا لحصارها إلا بعد مدة‏.‏والله تعالى أعلم‏.‏


الخبر عن خروج محمد بن يوسف ببلاد بني توجين وحروب السلطان معه
لما رجع محمد بن يوسف من قاصية المشرق كما قدمناه وسابقه إلى السلطان موسى بن علي الكردي وجوانحه تلتهب غيظاً وحقداً عليه‏.‏وسعى به عند السلطان فعزله عن مليانة فوجم لها‏.‏وسأله زيارة ابنه الأمير أبي تاشفين بتلمسان وهو ابن أخته فأذن له‏.‏وأوعز إلى ابنه بالقبض عليه فأبى عن ذلك‏.‏وأراد هو الرجوع إلى معسكر السلطان فخلى سبيله‏.‏ولما وصل إليه تنكر له وحجبه فاستراب وملأ قلبه الرعب‏.‏وفر من المعسكر ولحق بالمدية‏.‏ونزل على يوسف بن حسن بن عزيز عاملها للسلطان من بني توجين‏.‏فيقال إنه أوثقه اعتقالا حتى غلبه قومه على بغيته من الخروج معه لما كان السلطان أبو حمو يوسقهم به من نزعاته‏.‏فأخذ له البيعة على قومه ومن إليهم من العرب‏.‏وزحفوا إلى السلطان بمعسكره من نهل فلقيهم في عساكره فكانت الدبرة على السلطان ولحق بتلمسان وغلب محمد بن يوسف على بلاد بني توجين ومغراوة ونزل مليانة وخرج السلطان من تلمسان لأيام من دخولها وقد جمع الجموع وأزال العلل‏.‏وأوعز إلى مسعود ابن عمه برهوم بمكانه من حصار بجاية بالوصول إليه بالعساكر ليأخذ بحجرتهم من ورائهم‏.‏وخرج محمد بن يوسف من مليانة لاعتراضه واستعمل على مليانة يوسف بن حسن بن عزيز فلقيه ببلاد مليكش وانهزم محمد من يوسف‏.‏ولجأ إلى جبل موصاية وحاصره بها مسعود بن برهوم أياماً ثم أفرج عنه‏.‏ولحق بالسلطان فنازلوا جميعاً مليانة‏.‏وافتتحها السلطان عنوة وجيء بيوسف بن حسن أسيراً من مكمنه ببعض المسارب فعفا عنه وأطلقه‏.‏ثم زحف إلى المدية فملكها وأخذ الرهن من أهل تلك النواحي وقفل إلى تلمسان‏.‏واستطال محمد بن يوسف على النواحي ففشت دعوته في تلك القاصية‏.‏وخاطب مولانا السلطان أبا يحيى بالطاعة فبعث إليه بالهدية والآلة وسوغه سهام يغمراسن بن زيان من إفريقية‏.‏ووعده بالمظاهرة وغلب سائر بلاد بني توجين‏.‏وبايع له بنو تيغرين أهل جبل وانشريش فاستولى عليه‏.‏ثم نهض السلطان إلى الشرق سنة سبع عشرة وملك المدية واستعمل عليها يوسف بن حسن لمدافعة محمد بن يوسف واستبلغ في أخذ الرهن منه ومن أهل العمالات وقبائل زناتة والعرب حتى من قومه بني عبد الواد‏.‏ورجع إلى تلمسان ونزلهم بالقصبة وهي الغور الفسيحة الخطة تماثل بعض الأمصار العظيمة اتخذها للرهن‏.‏وكان يبالغ في ذلك حتى كان يأخذ الرهن المتعددة من البطن الواحد والفخذ الواحد والرهط‏.‏وتجاوز ذلك إلى أهل الآمصار والثغور من المشيخة والسوقة فملأ تلك القصبة بأبنائهم وأخوانهم‏.‏وشحنها بالأمم تلو الأمم وأذن لهم في ابتناء المنازل واتخاذ النساء‏.‏واختط لهم المساجد فجمعوا بها لصلاة الجمعة‏.‏ونفقت بها الأسواق والصنائع‏.‏وكان حال هذه البنية من أغرب ما حكي في العصورعن سجن‏.‏ولم يزل محمد بن يوسف بمكان خرو‏.‏من بلاد بني توجين إلى أن هلك السلطان‏.‏والبقاء لله وحده‏.‏


الخبر عن مقتل السلطان أبي حمو وولاية ابنه أبي تاشفين من بعده
كان السلطان أبو حمو قد اصطفى مسعود ابن عمه برهوم وتبناه من بين عشيرته وأولي قرباه لمكان صرامته ودهائه واختصاص أبيه برهوم المكنى أبا عامر بعثمان بن يغمراسن شقيقه من بين سائر الإخوة فكان يؤثره على بنيه ويفاوضه في شؤونه ويصله إلى خلواته وكان قد دفع إلى ابنه عبد الرحمن أبا تاشفين أتراباً له من المعلوجي يقومون بخدمته في مرباه ومنشأه كان منهم هلال المعروف بالقطلاني ومسامح المسمى‏.‏بالصغير وفرج بن عبد الله وظافر ومهدي وعلي بن تكرارت وفرج الملقب شقورة وكان ألصقهم وأعقهم بنفسه تلاد له منهم يسمى هلالاً وكان أبو حمو كثيراً ما يقرعه ويوبخه إرهافاً في اكتساب الخلال وربما يقذع في تقريعه لما كان عفا الله عنه فحاشا فتحفظه لذلك‏.‏وكان مع ذلك شديد السطوة متجاوزاً بالعقاب حدوده في الزجر والأدب فكان أولئك المعلوجي تحت رهب عنه وكانوا يغرون لذلك مولاهم أبا تاشفين بأبيه ويبعثون غيرته بما يذكرون له من اصطفائه ابن أبي عامر دونه‏.‏وقارن ذلك أن مسعود بن أبي عامر أبلى في لقاء محمد بن يوسف الخارج على أبي حمو البلاء الحسن عندما رجع من حصار بجاية فاستحمد له السلطان ذلك وعير ولده عبد الرحمن بمكان ابن عمه هذا من النجابة والصرامة يستجد له بذلك خلالاً ويغريه بالكمال وكان عمه أبو عامر إيراهيم بن يغمراسن مثرياً بما نال من جوائز الملوك في وفاداته وما أقطع له أبوه وأخوه سائر أيامهما‏.‏ولما هلك سنة ست وتسعين استوصى أخاه عثمان بولده فضمهم ووضع تراثهم بمودع ماله حتى يؤنس منهم الرشد في أحوالهم‏.‏حتى إذا كانت غزاة ابنه أبي سرحان مسعود هذه وعلا فيها ذكره وبعد صيته رأى السلطان أبو حمو أن يدفع إليه تراث أبيه لاستجماع خلاله فاحتمل إليه من المودع‏.‏ونمي الخبر إلى ولده أبي تاشفين وبطانته السوء من المعلوجي فحسبوه مال الدولة قد احتمل إليه لبعد عهدهم عما وقع في تراث أبي عامر أبيه واتهموا السلطان بإيثاره بولاية العهد دون ابنه فأغروا أبا لاشفين بالتوثب على الأمر وحملوه على الفتك بمشتويه مسعود بن أبي عامر واعتقال السلطان أبي حمو ليتم له الاستبداد‏.‏وتحينوا لذلك قايلة الهاجرة عند منصرف السلطان من مجلسه وقد اجتمع إليه ببعض حجر القصر خاصة من البطانة وفيهم مسعود بن أبي عامر والوزراء من بني الملاح‏.‏وكان بنو الملاح هؤلاء قد استخلصهم السلطان لحجابته سائر أيامه وكان مسمى الحجابة عندهم قهرمانة الدار والنظر في الدخل والخرج وهم أهل بيت من قرطبة كانوا يحترفون فيها بسكة الدنانير والدراهم وربما دفعوا إلى النظر في ذلك ثقة بأمانتهم ونزل أولهم بتلمسان مع جالية قرطبة فاحترفوا بحرفتهم الأولى وزادوا إليها الفلاحة‏.‏واتصلوا بخدمة عثمان بن يغمراسن وابنه وكان لهم في دولة أبي حمو مزيد حظوة وعناية فولى على حجابته منهم لأول دولته محمد بن ميمون بن الملاح ثم ابنه محمد الأشقر من بعده ثم ابنه إبراهيم بن محمد من بعدهما‏.‏واشترك معه من قرابته علي بن عبد الله بن الملاح فكانا يتوليان مهمة بداره ويحضران خلوته مع خاصته فحضروا يومئذ مع السلطان بعد انقضاء مجلسه كما قلناه ومعه من القرابة مسعود القتيل وحماموش بن عبد الملك بن حنينة ومن الموالي معروف الكبير ابن أبي الفتوح بن عنتر من ولد نصر بن علي أمير بني يزناتن من توجين وكان السلطان قد استوزره فلما علم أبو تاشفين باجتماعهم هجم ببطانته عليهم وغلبوا الحاجب على بابه حتى ولجوه متسايلين بعد أن استمسكوا من إغلاقه حتى إذا توسطوا الدار اعتوروا السلطان بأسيافهم فقتلوه‏.‏وخام أبو تاشفين عنها فلم يعرجوا عليه‏.‏ولاذ أبو سرحان منهم ببعض زوايا الدار واستمكن من غلقها دونهم فكسروا الباب وقتلوه واستلحموا من كان هنالك من البطانة فلم يفلت إلا الأقل‏.‏وهلك الوزراء بنو الملاح واستبيحت منازلهم‏.‏وطاف الهاتف بسكك المدينة بأن أبا سرحان غدر بالسلطان وأن ابنه أبا تاشفين ثار منه فلم يخف على الناس الشأن‏.‏وكان موسى بن علي الكردي قائد العساكر قد سمع الصيحة وركب إلى القصر فوجده مغلقاً دونه فظن الظنون وخشي استيلاء مسعود على الأمر فبعث عن العباس بن يغمراسن كبير القرابة فأحضره عند باب القصر حتى إذا مر بهم الهاتف واستيقن مهلك أبي سرحان رد العباس على عقبه إلى منزله‏.‏ودخل إلى السلطان أبي ثاشفين وقد أدركه الدهش من الواقعة فثبته ونشطه لحقه وأجلسه بمجلس أبيه وتولى له عقد البيعة على قومه خاصة وعلى الناس عامة وذلك آخر جمادى الأولى من تلك السنة‏.‏وجهز السلطان إلى مدفنه بمقبرة سلفه من القصر القديم وأصبح مثلاً في الآخرين والبقاء لله‏.‏وأشخص السلطان لأول بيعته سائر القرابة الذين كانوا بتلمسان من ولد يغمراسن وأجازهم إلى العدوة حذراً من مغبة ترشيحهم وما يتوقع من الفتن على الدولة من قبلهم وقلد حجابته مولاه هلالاً فاضطلع بأعبائها واستبد بالعقد والحل والإبرام والنقض صدراً من دولته إلى أن نكبه حسبما نذكره‏.‏وعقد ليحيى بن موسى السنوسي من صنائع دولهم على شلف وسائر أعمال مغراوة وعقد لمحمد بن سلامة بن علي على عمله من بلاد بني يدللتن من توجين وعزل أخاه سعداً فلحق بالمغرب‏.‏وعقد لموسى بن علي الكردي على قاصية الشرق وجعل له حصار بجاية وأغرى دولته بتشييد القصور واتخاذ الرياض والبساتين فاستكمل ما شرع فيه أبوه من ذلك وأربى عليه فاحتفلت القصور والمصانع في الحسن ما شاءت واتسعت أخباره على ما نذكره‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:45 PM

الخبر عن نهوض السلطان أبي تاشفين إلى محمد بن يوسف بجبل وانشريش واستيلائه عليه
كان محمد بن يوسف بعد مرجع السلطان أبي حمو عنه كما ذكرناه قد تغلب على جبل وانشريش ونواحيه واجتمع إليه الفل من مغراوة فاستفحل أمره واشتدت في تلك النواحي شوكته‏.‏وأهم السلطان أبا تاشفين أمره فاعتزم على النهوض إليه وجمع لذلك وأزاح العلل‏.‏وخرج من تلمسان سنة تسع عشرة واحتشد سائر القبائل من زناتة والعرب وأناخ على وانشريش وقد اجتمع به توجين ومغراوة مع محمد بن يوسف‏.‏وكان بنو تيغرين من بني توجين بطانة ابن عبد القوي يرجعون في رئاستهم إلى عمر بن عثمان بن عطية حسبما نذكره وكان قد استخلص سواه من بني توجين دونه فأسفه بذلك وداخل أبا تاشفين ووعده أن ينحرف عنه فاقتحم السلطان عليهم الجبل وانحجروا جميعاً بحصن توكال فخالفهم عمر بن عثمان في قومه إلى السلطان بعد أن حاصرهم ثمانياً فتخرم الجمع واختل الأمر وانفض الناس فاقتحم الحصن‏.‏وتقبض على محمد بن بوسف وجيء به أسيراً إلى السلطان وهو في موكبه فعدد عليه ثم وخزه برمحه‏.‏وتناوله الموالي برماحهم فأقعصوه وحمل رأسه على القناة إلى تلمسان فنصب بشرفات البلد‏.‏وعقد لعمر بن عثمان على جبل وانشريش وعمال بني عبد القوي ولسعيد العربي من مواليه على عمل المدية‏.‏فزحف إلى الشرق فأغار على أحياء رياح وهم بوادي الجنان حيث الثنية المفضية من بلاد حمزة إلى القبلة وصبح أحياءهم فاكتسح أموالهم ومضى في وجهه إلى بجاية فعرس بساحتها ثلاثاً وبها يومئذ الحاجب يعقوب بن عمر فامتنعت عليه فظهر له وجه المعذرة لأوليائهم في استحصانها لهم‏.‏وقفل إلى تلمسان إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن حصار بجاية والفتنة الطويلة مع الموحدين التي كان فيها حتفه وذهاب سلطانه
لما رجع السلطان أبو تاشفين من حصار بجاية سنة تسع عشرة اعتمل في ترديد البعوث إلى قاصية الشرق والإلحاح بالغزو على بلاد الموحدين فأغزاها جيوشه سنة عشرين فدوخوا ضواحي بجاية وقفلوا‏.‏ثم أغزاهم ثانية سنة إحدى وعشرين وعليهم موسى بن علي الكردي فانتهى إلى قسنطينة وحاصرها فامتنعت عليه فأفرج عنها وابتنى حصن بكر لأول مضيق الوادي وادي بجاية‏.‏وأنزل به العسكر لنظر يحيى بن موسى قائد شلف وقفل إلى تلمسان‏.‏ثم نهض موسى بن علي ثالثة سنة اثنتين وعشرين فدوخ نواحي بجاية ونازلها أياماً‏.‏وامتنعت عليه فأفرج عنها‏.‏ووفد سنة ثلاث وعشرين على السلطان حمزة بن عمر بن أبي الليل كبير البدو بإفريقية صريخاً على صاحب إفريقية مولانا السلطان أبي يحيى فبعث معه العساكر من زناتة وعامتهم من بني توجين وبني راشد وأمر عليهم القواد وجعلهم لنظر قائده موسى بن علي الكربي ففصلوا إلى إفريقية فخرج السلطان للقائهم فانهزموا بنواحي مرمجنة‏.‏وتخطفتهم الأيدي فاستلحموا وقتل مسامح مولاه ورجع موسى بن علي بالفل فاتهمه السلطان بالادهان وكان من نكبته ما نذكر في أخباره‏.‏وسير العساكر سنة أربع وعشرين فدوخت نواحي بجاية ولقيه ابن سيد الناس فهزموه ونجا إلى البلد‏.‏ووفد على السلطان سنة خمس وعشرين مشيخة سليم‏:‏ حمزة بن عمر بن أبي الليل وطالب بن مهلهل الفحلان المتزاحمان في رياسة الكعوب‏.‏ومحمد بن مسكين من بني القوس كبراء حكيم فاستحثوه للحركة واستصرخوه على إفريقية وبعث معهم العساكر لنظر قائده موسى بن علي‏.‏ونصب لهم إبراهيم بن أبي بكر الشهيد من أعياص الحفصيين‏.‏وخرج مولانا السلطان أبو يحيى من تونس للقائهم وخشيهم على قسنطينة فسابقهم إليها فأقام موسى بن علي بعساكره على قسنطينة‏.‏وتقدم إبراهيم بن أبي بكر الشهيد في أحياء سليم إلى تونس فملكها كما ذكرناه في أخبارهم‏.‏وامتنعت قسنطينة على موسى بن علي فأفرج عنها لخمس عشرة ليلة من حصارها وعاد إلى تلمسان‏.‏ثم أغزاه السلطان سنة ست وعشرين في الجيوش وعهد إليه بتدويخ الضاحية ومحاصرة الثغور فنازل قسنطينة وأفسد نواحيها‏.‏ثم رجع إلى بجاية فحاصرها حتى إذا اعتزم على الإقلاع ورأى أن حصن بكر غير صالح لتجمير الكتائب عليها لبعده ارتاد للبناء عليها فيما هو أقرب منه فاختط بمكان سوق الخميس على وادي بجاية مدينة لتجهيز الكتائب بها على بجاية وجمع الأيدي على بنائها من الفعلة والعساكر فتمت لأربعين يوماً وسموها تامز يزدكت باسم الحصن القديم الذي كان لبني عبد الواد قبل الملك بالجبل قبلة وجدة وأنزل بها عسكراً يناهز ثلاثة آلاف‏.‏وأوعز السلطان إلى جميع عماله ببلاد المغرب الأوسط بنقل الحبوب إلى حيث كانت والأدم وسائر المرافق حتى الملح وأخذوا الرهن من سائر القبائل على الطاعة واستوفوا جبايتهم‏.‏فثقلت وطأتهم على بجاية واشتد حصارها وغلت أسعارها‏.‏وبعث مولانا السلطان أبو يحيى جيوشه وقواده سنة سبع وعشرين فسلكوا إلى بجاية على جبل بني عبد الجبار وخرج بهم قائدها أبو عبد الله بن سيد الناس إلى ذلك الحصن‏.‏وقد كان موسى بن علي عند بلوغ خبرهم إليه استنفر الجنود من ورائه وبعث إلى القواد قبله بالبراز فالتقى الجمعان بناحية تامز يزدكت فانكشف ابن سيد الناس ومات ظافر الكبير مقدم الموالي من المعلوجي بباب السلطان واستبيح معسكرهم‏.‏ولما سخط السلطان قائده موسى بن علي ونكبه كما نذكره في أخباره أغرى يحيى بن موسى السنوسي في العساكر إلى إفريقية ومعه القواد فعاثوا في نواحي قسنطينة وانتهوا إلى بلد بونة ورجعوا‏.‏وفي سنة تسع وعشرين بعدها وفد حمزة بن عمر على السلطان أبي تاشفين صريخاً ووفد معه أو بعده عبد الحق بن عثمان فحل الشول من بني مرين‏.‏وكان قد نزل على مولانا السلطان أبي يحيى منذ سنين فسخط بعض أحواله ولحق بتلمسان فبعث السلطان معهم جميع قواده بجيوشه لنظر يحيى بن موسى‏.‏ونصب لهم محمد بن أبي بكر بن أبي عمران من أعياص الحفصيين ولقيهم مولانا السلطان أبو يحيى بالرياس من نواحي بلاد هوارة وانخذل عنه أحياء العرب من أولاد مهلهل الذين كانوا معه وانكشفت جموعه واستولوا على ظعائنه بما فيها من الحريم‏.‏وعلى ولديه أحمد وعمر فبعثوا بهم إلى تلمسان ولحق مولانا السلطان أبو يحيى بقسنطينة وقد أصابه بعض الجراحة في حومة الحرب‏.‏وسار يحيى بن موسى وابن أبي عمران إلى تونس استولوا عليها‏.‏ورجع يحيى بن موسى عنهم بجموع زناتة لأربعين يوماً من دخولها قفل إلى تلمسان وبلغ الخبرإلى مولانا السلطان أبي يحيى بقفول زناتة عنهم فنهض إلى تونس وأجهض عنها ابن أبي عمر بعد أن كان أوفد من بجاية على ملك الغرب ابنه أبا زكرياء يحيى ومعه أبو محمد بن تافراكين من مشيخة الموحدين صريخاً على أبي تاشفين فكان ذلك داعية إلى انتقاض ملكه كما نذكره بعد‏.‏وداخل السلطان أبو تاشفين بعض أهل بجاية ودلوه على عورتها واستقدموه فنهض إليها ودخلها ونذر بذلك الحاحب ابن سيد الناس فسابقه إليها ودخلها يوم نزوله عليها وقتل من اتهمه بالمداخلة وانحسم الداء‏.‏وأقلع السلطان أبو تاشفين عنها وولى عيسى بن مزروع من مشيخة بني عبد الواد على المجيش الذي بتامز يزدكت وأوعز إليه ببناء حصن أقرب إلى بجاية عن تامز يزدكت فبناه بالياقوتة من أعلى الوادي قبالة بجاية‏.‏فأخذ بمخنقها واشتد الحصار إلى أن أخذ السلطان أبو الحسن بحجرتهم فانجفلوا جميعاً إلى تلمسان وتنفس مخنق الحصار عن بجاية‏.‏ونهض مولانا السلطان أبو يحيى جيوشه من تونس إلى تامز يزدكت سنة اثنتين وثلاثين فخربها في الخبر عن معاودة الفتنة مع بني مرين وحصارهم تلمسان ومقتل السلطان أبي تاشفين بن أبي حمو كان السلطان أبو تاشفين قد عقد السلم لأول دولته مع السلطان أبي سعيد ملك المغرب فلما انتقص عليه ابنه عمر سنة اثنتين وعشرين من بعد المهادنة الطويلة من لدن استبداده بسجلماسة بعث ابنه القعقاع إلى أبي تاشفين في الأخذ بحجرة أبيه عنه ونهض إلى مراكش فدخلها‏.‏وزحف إليه السلطان أبو سعيد فبعث أبو تاشفين قائده موسى بن علي في العساكر إلى نواحي تازى فاستباح عمل كارت واكتسح زروعه وقفل‏.‏واعتدها عليه السلطان أبو سعيد وبعث أبو تاشفين وزيره داود بن علي بن مكن رسولاً إلى السلطان أبي علي بسجلماسة فرجع عنه مغاضباً‏.‏وجنح أبو تاشفين بعدها إلى التمسك بسلم السلطان أبي سعيد فعقد لهم ذلك وأقاموا عليها مدة‏.‏فلما وفد ابن مولانا السلطان أبي يحيى على السلطان أبي سعيد ملك المغرب وانعقد الصهر بينهم كما ذكرناه في أخبارهم وهلك السلطان أبو سعيد نهض السلطان أبو الحسن إلى تلمسان بعد أن قدم رسله إلى السلطان أبي تاشفين في أن يقلع جيوشه عن حصار بجاية ويتجافى للموحدين عن عمل تدلس فأبى وأساء الرد وأسمع الرسل بمجلسه هجر القول‏.‏وأقذع لهم الموالي في الشتم لمرسلهم بمسمع من أبي تاشفين فأحفظ ذلك السلطان أبا الحسن ونهض في جيوشه سنة اثنتين وثلاثين إلى تلمسان فتخطاها إلى تاسالة وضرب معسكره وأطال المقامة‏.‏وبعث الممد إلى بجاية مع الحسن البطوي من صنائعه وركبوا في أساطيله من سواحل وهران‏.‏ووافاهم مولانا السلطان أبو يحيى ببجاية وقد جمع لحرب بني عبد الواد وهدم تامزيزدكت وجاء لموعد السلطان أبي الحسن معه أن يجتمعا بعساكرهما لحصار تلمسان فنهض من بجاية إلى تامزيزدكت وأجفل منها عسكر بني عبد الواد وتركوها قواء‏.‏ولحقت بها عساكر الموحدين فعاثوا فيها تخريبًا ونهبًا‏.‏وانطلقت الأيدي على الاكتساح بما كان فيها من الأقوات والأدم فنسفت والصقت جحرانها بالأرض‏.‏وتنفس مخنق بجاية من الحصار وانكمش بنو عبد الواد إلى وراء تخومهم‏.‏وفي خلال ذلك انتقض أبوعلي ابن السلطان أبي سعيد على أخيه وصمد من مقره بسجلماسة إلى درعة وفتك بالعامل وأقام فيها دعوته كما نذكر ذلك بعد‏.‏وطار الخبر إلى السلطان أبي الحسن بمحله من تاسالة فنكص راجعًا إلى المغرب لحسم دائه وراجع السلطان أبو تاشفين عزه وانبسطت عساكره في ضواحي عمله وكتب الكتائب وبعث بها مددًا للسلطان أبي علي‏.‏ثم استنفر قبائل زناتة وزحف إلى تخوم المغرب سنة ثلاث وثلاثين ليأخذ بحجرة السلطان أبي الحسن على أخيه وانتهى إلى ثغر تاوريرت‏.‏ولقيه هنالك تاشفين ابن السلطان أبي الحسن في كتيبة جمرها أبوه معه هنالك لسد الثغور ومعه منديل بن حمامة شيخ تيم بيغين من بني مرين في قومه‏.‏فلما برزوا إليه انكشف ورجع إلى تلمسان‏.‏ولما تغلب السلطان أبو الحسن على أخيه وقتله سنة أربع وثلاثين جمع لغزو تلمسان وحصارها ونهض إليها سنة خمس وقد استنفد وسعه في الاحتفال بذلك‏.‏وأحاطت بها عساكره وضرب عليها سياج الأسوار وسراد قات الحفائرأطبقت عليهم حتى لا يكاد الطيف يخلص منهم ولا إليهم‏.‏وسرح كتائبه إلى القاصية من كل جهة فتغلب على الضواحي وافتتح الأمصار جميعًا وخرب وجدة كما يأتي ذكر ذلك كله‏.‏وألح عليها بالقتال يغاديها ويراوحها ونصب المجانيق وانحجر بهما مع السلطان أبي تاشفين زعماء زناتة من بني توجين وبني عبد الواد وكان عليهم في بعض أيامها اليوم المشهور الذي استلحمت فيه أبطالهم وهلك أمراؤهم‏.‏وذلك أن السلطان أبا الحسن كان يباكرهم في الأسحار فيطوف من وراء أسواره التي ضرب عليهم شرطا يرتب فيه المقاتلة ويثقف الأطراف ويسد الفروج ويصلح الخلل وأبو تاشفين يبث العيون في ارتصاد فرصة فيه‏.‏وأطاف في بعض الأيام منتبذًا عن الجملة فكمنوا له حتى إذا سلك ما بين البلد والجبل انقضوا عليه يحسبونها فرصة قد وجدوها وضايقوه حتى كاد سرعان الناس أن يصلوا إليه‏.‏وأحس أهل المعسكر بذلك فركبوا زرافات ووحدانًا وركب ابناه الأميران أبو عبد الرحمن وأبو مالك جناحا عسكره وعقابا جحافله وتهاوت إليهم صقور بني مرين من كل جو فانكشف عسكر البلد ورجعوا القهقرى ثم ولوا الأدبار عنه منهزمين لا يلوي أحد منهم على أحد‏.‏واعترضهم مهوى الخندق فتطارحوا فيه وتهافتوا على ردمه فكان الهالك يومئذ بالروم أكثرمن الهالك بالقتل‏.‏وهلك من بني توجين يومئذ عمر بن عثمان كبير الحشم وعامل جبل وانشريش ومحمد بن سلامة بن علي كبير بنى يدللتن وصاحب القلعة تاوعزدوت وما إليها من عملهم وهما ما هما في زناتة إلى أشباه لهما وأمثال استحلموا في هذه الوقائع فقص هذا اليوم جناح الدولة وحطم منها واستمرت منازلة السلطان أبي الحسن إياها إلى آخر شهر رمضان من سنة سبع وثلاثين فاقتحمها يوم السابع والعشرين منه غلابًا‏.‏ولجأ السلطان أبوتاشفين إلى باب قصره في لمة من أصحابه ومعه ولدان عثمان ومسعود ووزيره موسى بن علي وعبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من أعياص بني مرين وهو الذي لحق بهم من تونس كما ذكرناه‏.‏وسيأتي ذكره وخبره‏.‏ومعه يومئذ ابنا أخيه أبو رزين وأبو ثابت فمانعوا دون القصر مستميتين إلى أن استلحموا ورفعت رؤوسهم على عصي رماح فطيف بها‏.‏وغضت سكك البلد من خارجها وداخلها بالعساكر وكظت أبوابها بالزحام حتى لقد كب الناس على أذقانهم وتواقعوا فوطئوا بالحوافر وتراكمت أشلاؤهم ما بين البابين حتى ضاق المذهب بين السقف ومسلك الباب فانطلقت الأيدي على المنازل نهبًا واكتساحًا‏.‏وخلص السلطان إلى المسجد الجامع واستدعى رؤوس الفتيا والشورى‏:‏ أبا زيد عبد الرحمن وأبا موسى عيسى ابني الإمام قدمهما من أعماله لمكان معتقلى في أهل العلم فحضرا ورفعا إليه أمر الناس وما نالهم من معرة ووعظاه فأناب‏.‏ونادى مناديه برفع الأيدي عن ذلك فسكن الاضطراب وأقصر العيث‏.‏وانتظم السلطان أبو الحسن أمصار المغرب الأوسط وعمله إلى سائر أعماله وتاخم الموحدين بثغوره وطمس رؤوس الملك لآل زيان ومعالمه واستتبع زناتة عصبًا تحت لوائه من بني عبد الواد وتوجين ومغراوة وأقطعهم ببلاد المغرب أسهامًا أدالهم بها من تراثهم بأعمال تلمسان فانقرض ملك آل يغمراسن برهة من الدهر إلى أن أعاده منهم أعياص سموا إليه بعد حين عند نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان كما ننكره فأومض بارقة وهبت ريحه‏.‏والله يؤتي ملكه من يشاء‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:45 PM

الخبر عن رجال دولته وهم موسي بن علي ويحيي بن موسى ومولاه هلال وأوليتهم ومصائر أمورهم واختصاصهم بالذكر
لما طار من شهرتهم وارتفع من صيتهم‏:‏ فأما موسى بن علي الحاجب الهالك مع السلطان فأصله من قبيلة الكرد من أعاجم المشرق وقد أشرنا إلى الخلاف في نسبهم بين الأمم‏.‏وذكر المسعودي منهم أصنافًا سماهم في كتابه من الشاهجان والبرسان والكيكان إلى آخرين منهم وإن مواطنهم ببلاد أذربيحان والشام والموصل وإن منهم نصارى على رأي اليعقوبية وخوارج على رأي البراءة من عثمان وعلي‏.‏انتهى كلامه‏.‏وكان منهم طوائف بجبل شهرزور من عراق العربس وعامتهم يتقلبون في الرحلة وينتجعون لسائمتهم مواقع الغيث ويتخذون الخيام لسكناهم من اللبود وجل مكاسبهم الشاء والبقر من الأنعام وكانت لهم عزة وامتناع بالكثرة ورياسات ببغداد أيام تغلب الأعاجم على الدولة واستبدادهم بالرياسة‏.‏ولما طمس ملك بني العباس وغلب الططر على بغداد سنة ست وخمسين وستماية وقتل ملكهم هلاون آخر خلفاء العباسيين وهو المستعصم‏.‏ثم ساروا في ممالك العراق وأعماله فاستولوا عليها وعبر الكثير من الكرد نهر الفرات فرارًا أمام الططر لما كانوا يدينون به من المجوسية‏.‏وصاروا في إيالة الترك فاستنكف أشرافهم وبيوتاتهم من المقام تحت سلطانهم‏.‏وأجاز منهم إلى المغرب عشيرتان يعرفان فان ببني لوين وبين تابير فيمن إليهم من الأتباع ودخلوا المغرب لآخر دولة الموحدين‏.‏ونزلوا على المرتضى بمراكش فأحسن تلقيهم وأكرم مثواهم وأسنى لهم الجراية والأقطاع وأحلهم بالمحل الرفيع من الدولة‏.‏ولما انتقض أمر الموحدين بحدثان وصولهم صاروا إلى ملكة بني مرين ولحق بعضهم بيغمراسن بن زيان ونزع إلى صاحب إفريقية يومئذ المستنصر بيت من بني تابير لا أعرفهم كان منهم محمد بن عبد العزيز المعروف بالمزوار صاحب مولانا السلطان أبي يحيى وآخرون غيره‏:‏ منهم وكان من أشهر من بقي في إيالة بني مر ين منهم‏.‏ثم من بني تابيرعلي بن حسن بن صاف وأخوه سلمان ومن بني لوين خضربن فحمد ثم بنو محمود ثم بنو بوصة‏.‏وكانت رياسة بني تابير لسلمان وعلي ورياسة لوين الخضر بن محمد‏.‏وكادت تكون الفتنة بينهم كما كانت في مواطنهم الأولى فإذا تعدوا للحرب توافت إليهم أشياعهم من تلمسان وكان نصالهم بالسهام لما كانت القسي سلاحهم‏.‏وكانت من أشهر الوقائع بينهم وقيعة بفاس سنة أربع وسبعين وستماية جمع‏!‏ ا خضررئيس بني لوين وسليصان وعلي رئيسا بنى تابير واقتتلوا خارج باب الفتوح‏.‏وتركهم يعقوب بن عبد الحق لشأنهم من الفتنة حياء منهم فلم يعرض لهم‏.‏وكان مهلك سلمان منهم بعد ذلك مرابطًا لثغرطريف عام تسعين وستماية وكان لعلي بن حسن ابنه موسى اصطفاه السلطان يوسف بن يعقوب‏.‏وكشف له الحجاب عن داره وربي بين حرمه فتمكنت له دالة سخط بسببها بعض الأحوال مما لم يرضه فذهب مغاضبًا ودخل إلى تلمسان أيام كان يوسف بن عبد الحق محاصرًا لها فتلقاه عثمان بن يغمراسن من التكرمة والترحيب بما يناسب محله وقومه ومنزلته من اصطناع السلطان‏.‏وأشار يوسف بن يعقوب على أبيه باستمالته فلقياه في حومة القتال وحادثه واعتنر له بكرامة القوم إياه فحضه على الوفاء لهم ورجع إلى السلطان فخبره الخبر فلم ينكر عليه‏.‏وأقام هو بتلمسان وهلك أبوه علي بالمغرب سنة سبع وسبعماية‏.‏ ولما هلك عثمان بن يغمراسن زاور بنوه اصطناعًا ومداخلة وخلطوه بأنفسهم وعقدوا له على العساكر لمحاربة أعدائهم وولوه الأعمال الجليلة والرتب الرفيعة من الوزارة والحجابة‏.‏ولما هلك السلطان أبو حمو وقام بأمره ابنه أبو تاشفين وكان هو الذي تولى له أخذ البيعة على الناس غص بمكانه مولاه هلال‏.‏فلما استبد عليه وكان كثيرًا ما ينافي موسى بن علي وينافسه فخشي على نفسه وأجمع على إجازة البحر للمرابطة بالأندلس فبادره هلال وتقبض عليه وغربه إلى العدوة ونزل بغرناطة وانتظم في الغزاة المجاهدين وأمسك عن جراية السلطان فلم يمد إليها يدًا أيام مقامه وكانت فى أنزه ما جاء به وتحدث بها الناس فأغربوا وأنفذت جوانح هلال لها حسدًا وعداوة فأغرى سلطانه بخطاب ابن الأحمر في استقدامه فأسلمه إليه‏.‏واستعمله السلطان في حروبه وعلى قاصيته حتى كان من نهوضه بالعساكر إلى إفريقية للقاء مولانا السلطان أبي يحيى سنة سبع وعشرين‏.‏وكانت الدبرة عليه‏.‏واستلحمت زناتة ورجع في الفل فأغرى هلال السلطان وألقى في نفسه التهمة به‏.‏ونمي ذلك إليه فلحق بالعرب الدواودة وعقد مكانه على محاصرة بجاية ليحيى بن موسى صاحب شلف ونزل هو على سليمان ويحيى ابني علي بن سباع بن يحيى من أمراء الدواودة المذكورين في أخبارهم فلقوه مبرة وتعظيمًا وأقام بين أحيائهم مدة‏.‏ثم استقدمه السلطان ورجعه إلى محله من مجلسه ثم تقبض عليه لأشهر وأشخصه إلى الجزائر فاعتقله بها وضيق عليه محبسه ذهابًا مع أغراض منافسة هلال حتى إذا أسخط هلالاً استدعاه من محبسه أضيق ما كان فانطلق إليه‏.‏فلما تقبض على هلال قلد موسى بن علي حجابته فلم يزل مقيمًا لرسمها إلى يوم اقتحم السلطان أبو الحسن تلمسان فهلك مع أبي تاشفين وبنيه في ساحة قصرهم كما قلناه‏.‏وانقضى أمره‏.‏والبقاء لله‏.‏وانتظم بنوه بعد مهلكه في جملة السلطان أبي الحسن وكان كبيرهم سعيد قد خلص من بين القتلى في تلك الملحمة بباب القصر بعد هدء من الليل مثخنًا بالجراح وكانت حياته بعدها تعد من الغرائب ودخل في عفو السلطان إلى أن عادت دولة بني عبد الواد فكان له في سوقها نفاق كما نذكره والله غالب على أمره‏.‏وأما يحيى بن موسى فأصله من بني سنوس إحدى بطون كومية ولهم ولاء في بني كمي بالاصطناع والتربية‏.‏ولما فصل بنو كمي إلى المغرب قعدوا عنهم واتصلوا ببني يغمراسن فاصطنعوهم ونشأ يحيى بن موسى في خدمة عثمان وبنيه واصطناعهم‏.‏ولما كان الحصار ولاه أبو حمو مهمة من الطواف بالليل على الحرس بمقاعدهم من الأسوار وقسم القوت على المقاتلة بالمقدار وضبط الأبواب والتقدم في حومة القتال وكان له أعوان على ذلك من خدامه قد لزموا الكون معه في البكر والآصال والليل والنهار وكان يحيى هذا منهم فعرفوا له خدمته وذهبوا إلى اصطناعه‏.‏وكان أول - ترشيحه ترديده أبي يوسف يعقوب بمكانه من حصارهم فيما يدور بينهم من المضاربة فكان يجفي في ذلك ويؤتي من غرض مرسله‏.‏ولما خرجوا من الحصارأوفوا به على رتب الاصطناع والتنويه‏.‏ولما ملك أبوتاشفين استعمله بشلف مستبدًا بها وأذن له في اتخاذ الآلة‏.‏ثم لما عزل موسى بن علي عن حرب الموحدين وقاصية الشرق عزله به وكانت المدية وتنس من عمله‏.‏فلما نازل السلطان أبو الحسن تلمسان راسله في الطاعة والكون معه فتقبله وجأجأ به من مكان عمله فقدم عليه بمخيمه علىتلمسان فاختصه بإقباله ورفع مجلسه من بساطه ولم يزل عنده بتلك الحال إلى أن هلك بعد افتتاح تلمسان‏.‏والله مصرف الأقد ار‏.‏وأما هلال فأصله من سبي النصارى القطلونيين أهداه السلطان ابن الأحمر إلى عثمان بن يغمراسن وصار إلى السلطان أبي حمو فأعطاه ولده أبا تاشفين فيما أعطاه من موالي المعلوجي ونشأ معه تربيًا وكالت مختصًا عنده بالمداخلة والدالة وتولى كبر تلك الفعلة التي فعلوا بالسلطان أبي حمو‏.‏ولما ولي بعده ابنه أبوتاشفين ولاه على حجابته وكان مهيبًا فظًا غليظًا فقعد مقعد الفصل ببابه وأرهب الناس سطوته وزحزح المرشحين عن رتب المماثلة إلى التعلق بأهدابه فاستولى على أمر السلطان‏.‏ثم حذر مغبة الملك وسوء العواقب واستأذن السلطان في الحج وركب إليه من هنين بعض السفن اشتراها بماله وشحنها بالعديد والعدة والأقوات والمقاتلة وأقام كاتبه الحاج محمد بن حونته بباب السلطان على رسم النيابة عنه‏.‏وأقلع سنة أربع وعشرين فنزل يالإسكندرية وصحب الحاج من مصر في جملة الأمير عليهم ولقي في طريقه سلطان السودان من مالي منسى موسى واستحكمت بينهما المودة‏.‏ثم رجع بعد قضاء فرضه إلى تلمسان فلم يجد مكانه من السلطان‏.‏ولم يزل بعد ذلك يتنكر له وهو يسايسه بالمداراة والاستجداء إلى أن سخطه فتقبض عليه سنة تسع وعشرين وأودعه سجنه فلم يزل معتقلاً إلى أن هلك من وجع أصابه قبيل فتح تلمسان ومهلك السلطان بأيام فكان آية عجباء في تقارب مهلكهما واقتران سعادتهما ونحوسهما‏.‏وقد كان السلطان أبو الحسن يتبع الموالي الذين شهدوا مقتل السلطان أبي حمو وأفلت هلال هذا من عقابة بموته‏.‏والله بالغ حكمه‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:46 PM

الخبر عن انتزاء عثمان بن جرار على ملك تلمسان بعد نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان
وعود الملك بذلك لبني زيان كان بنو جرار هؤلاء من فصائل تيدوكسن بن طاع الله وهم بنوجراربن يعلى بن تيدوكسن وكان بنو محمد بن زكدان يغصون بهم مذ أول الأمر حتى صار الملك إليهم واستندوا به فجروا على جميع الفصائل من عشائرهم ذيل الاحتقار‏.‏ونشأ عثمان بن يحيى بن محمد بن جرار من بينهم مرموقًا بعين التجلة والرياسة وسعى عند السلطان أبي تاشفين بأن في نفسه تطاولاً للرئاسة فاعتقله مدة وفرمن محبسه فلحق بملك المغرب السلطان أبي سعيد فآثر محله وأكرم نزله واستقر بمثواه فنسك وزهد‏.‏واستأذن السلطان عند تغلبه على تلمسان في الحج بالناس فأذن له وكان قائد الركب من المغرب إلى مكة سائر أيامه حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن على أعمال الموحدين وحشد أهل المغرب من زناتة والعرب لدخول إفريقية اندرج عثمان هذا في جملته واستأذنه قبيل القيروان في الرجوع إلى المغرب فأذن له‏.‏ولحق بتلمسان فنزل على أميرها من ولده الأمير أبي عنان كان قد عقد له على عملها ورشحه لولاية العهد بولايتها فازدلف إليه بما بثه من الخبر عن أحوال أبيه فتلطف فيما أودع سمعه من تورط أبيه في مهالك إفريقية وإياسه من خلاصه ووعده بمصير الأمر إليه على ألسنة الحزى والكهان‏.‏وكان يتظنن فيه أن لديه من ذلك علمًا وعلى تفيئة ذلك كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان‏.‏وظهر مصداق ظنه وإصابة قياسه فأغراه بالتوثب على ملك أبيه بتلمسان والبدار إلى فاس لغلب منصور ابن أخيه أبي مالك عليها وكان استعمله جده أبو الحسن هنالك وأراه آية سلطانه وشواهد ملكه‏.‏وتحيل في إشاعة مهلك السلطان أبي الحسن وإلقائه على الألسنة حتى أوهم صدقه‏.‏وتصدى الأمير أبو عنان للأمر وتسايل إليه الفل من عساكر بني مرين فاستلحق وبث العطاء وأعلن بالدعاء لنفسه في ربيع سنة تسع وأربعين وعسكر خارج تلمسان للنهوض إلى المغرب‏.‏ثم استعمل عثمان بن جرار على تلمسان وعملها وارتحل إلى المغرب كما نذكره في أخبارهم‏.‏ولما فصل فى عثمان لنفسه وانتزى على كرسيه واتخذ الآلة وأعاد من ملك بني عبد الواد رسمًا لم يكن لآل جرار واستبد أشهرًا قلائل إلى أن خلص إليه من آل زيان من ولد عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن من طمس معالمه وخسف به وبداره وأعاد أمر بني عبد الواد في نصابه حسبما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن دولة أبي سعيد وأبي ثابت من آل يغمراسن وما كان فيها من الأحداث
كان الأميريحيى جدهما من أكبر ولد يغمراسن بن زيان وكان ولي عهده بعد مهلك أخيه عمر الأكبر‏.‏ولما تغلب يغمراسن على سجلماسة سنة إحدى وستين وستماية استعمله عليها فأقام بها أحوالاً وولد له هنالك ابنه عبد الرحمن‏.‏ثم رجع إلى تلمسان فهلك بها ونشأ عبد الرحمن بسجلماسة ولحق بتلمسان بعد أبيه فأقام مع بني أبيه إلى أن غص السلطان بمكانه وغربه إلى الأندلس فمكث فيها حينًا وهلك في مرابطته بثغر قرمونة في بعض أيام الجهاد‏.‏وكان له بنون أربعة‏:‏ يوسف وعثمان والزعيم وإبراهيم فرجعوا إلى تلمسان وأوطنوها أعوامًا حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن على ملكهم وأضاف إلى دولته دولتهم نقلهم من تلمسان إلى المغرب في جملة أعياصهم‏.‏ثم سألوا إذنه في المرابطة بثغور الأندلس التي في عمله فاذن لهم وفرض له العطاء وأنزلهم بالجزيرة فكانت لهم في الجهاد مواقف مذكورة ومواطن معروفة‏.‏ولما استنفر السلطان أبو الحسن زناتة لغزو إفريقية سنة ثمان وأربعين كانوا في جملته مع قومهم بني عبد الواد وفي رايتهم ومكانهم معلوم بينهم‏.‏فلما اضطرب أمر السلطان أبي الحسن وتألب عليه الكعوب من بني سليم أعراب إفريقية وواضعوه الحرب بالقيروان ن بنو عبد الواد أول النازعين عنه إليهم‏.‏فلما كانت النكبة والحجز بالقيروان وانطلقت أيدي الأعراب على الضواحي وانتقض المغرب من سائر أعماله أذنوا لبني عبد الواد اللحاق بقطرهم ومكان عملهم فمروا بتونس وأقاموا بها أيامًا‏.‏وخلص الملأ منهم في شأن أمرهم ومن يقدمون عليهم فأصفقوا بعد الشورى على عثمان بن عبد الرحمن واجتمعوا عليه لعهده بهم يومئذ وقد خرجوا به إلى الصحراء وأجلسوه بباب مصلى العيد من تونس على درقة‏.‏ثم ازدحموا عليه بحيث توارى شخصه عن يسلمون عليه بالإمارة ويعطونه الصفقة على الطاعة والبيعة حتى استكملوا جميعًا ثم انطلقوا به إلى رجالهم‏.‏واجتمع مغراوة أيضاً إلى أميرهم علي بن راشد بن محمد بن ثابت بن منديل الذي ذكرناه من قبل وتعاهدوا على الصحابة إلى أعمالهم والمهادنة آخر الأيام واستئثار كل بسلطانه وتراث سلفه وارتحلوا على تفيئة ذلك جميعاً‏.‏وشنت البوادي عليهم الغارات في كل وجه فلم يظفروا منهم بقلامة الظفر‏:‏ مثل ونيفن وبرية وأهل جبل بني ثابت‏.‏ولما مروا ببجاية وكان فيها فل من مغراوة وتوجين نزلوا بها منذ غلبوا على أعمالهم وصاروا في جند السلطان فارتحلوا معهم‏.‏واعترضهم بجبل الزاب برابرة زواوة فأوقعوا بهم‏.‏وظهر من نجدتهم وبلائهم في الحرب ما هو معروف لأوليهم‏.‏ثم لحقوا بشلف فتلقتهم قبائل مغراوة وبايعوا سلطانهم علي بن راشد فاستوسق ملكه‏.‏وانصرف بنو عبد الواد والأميران أبو سعيد وأبو ثابت بعد أن أحكموا العهد وأبرموا الوثاق مع علي بن راشد وقومه‏.‏وكان في طريقهم بالبطحاء أحياء سويد ومن معهم من أحلافهم قد نزلوا هنالك مع شيخهم ونزمار بن عريف منهزمهم من تاسالة أمام جيوش السلطان أبي عنان فأجفلوا من هنالك ونزل بنو عبد الواد مكانهم وكان في جملتهم جماعة من بني جرار بن تيدوكسن كبيرهم عمران بن موسى ففر إلى ابن عمه عثمان بن يحيى بن جرار بتلمسان فعقد له على حرب أبي سعيد وأصحابه فنزع الجند الذين خرجوا معه إلى السلطان أبي سعيد‏.‏وانقلب هو إلى تلمسان والقوم في أثره فأعرك بطريقة وقتل‏.‏ومر السلطان إلى البلد فثارت العامة بعثمان بن جرار فاستأمن لنفسه من السلطان فأمنه ودخل إلى قصره آخر جمادى الآخرة من سنة تسع وأربعين فاقتعد أريكته وأصدر أوامره واستوزر واستكتب وعقد لأخيه أبي ثابت الزعيم على ما وراء بابه من شؤون ملكهما وعلى القبيل والحروب واقتصر هو على ألقاب الملك وأسمائه ولزم الدعة‏.‏وتقبض لأول دخوله على عثمان بن يحيى بن جرار فأودعه المطبق إلى أن مات في رمضان من سنته ويقال قتيلاً‏.‏وكان من أول غزوات السلطان غزاته إلى كومية وذلك أن كبيرهم إبراهيم بن عبد الملك كان شيخًا عليهم منذ حين من الدهر وكان ينتسب في بني عابد وهم قوم عبد المؤمن بن علي من بطون كومية‏.‏فلما وقع هذا الهرج بتلمسان حسب أنه لا تتجلى غيابته وحدثته نفسه بالانتزاء فدعا لنفسه وأضرم بلاد كومية وما إليها من السواحل نارًا وفتنة‏.‏وجمع له السلطان أبو ثابت ونهض إلى كومية فاستباحهم قتلاً وسبيًا واقتحم هنين ثم ندرومة بعدها‏.‏وتقبض على إبراهبم بن عبد الملك الخارج فجاء به معتقلاً إلى تلمسان وأودعه السجن فلم يزل به إلى أن قتل بعد أشهر‏.‏وكانت أمصار المغرب الأوسط وثغوره لم تزل على طاعة السلطان أبي الحسن والقيام بدعوته وبها عماله وحاميته‏.‏وأقربها إلى تلمسان مدينة وهران كان بها القائد عبوبن سعيد بن أجانا من صنائع بني مرين وقد ضبطها وثقفها وملأها أقواتًا ورجلاً وسلاحًا وملأ مرساها أساطيل فكان أول ما قدموه من أعمال النهوض إليه فنهض السلطان أبو ثابت بعد أن جمع قبائل زناتة والعرب ونزل على وهران وحاصرها أيامًا‏.‏وكان في قلوب بني راشد أحلافهم مرض فداخلوا قائد البلد في الانتقاض على السلطان أبي ثابت ووعدوه الوفاء بذلك عند المناجزة فبرز وناجزهم الحرب فانهزم بنو راشد وجروا الهزيمة على من معهم‏.‏وقتل محمد بن يوسف بن عنان بن فارس أخي يغمراسن بن زيان من أكابر القرابة وانتهب المعسكر‏.‏ونجا السلطان أبو ثابت إلى تلمسان إلى أن كان ما نذكره‏.‏


الخبرفى لقاء أبي ثابت مع الناصرابن السلطان أبي الحسن وفتح وهران بعدها
كان السلطان أبو الحسن بعد راقعة القيروان قد لحق بتونس فأقام بها والعرب محاصرون له ينصبون الأعياص من الموحدين لطلب تونس واحدًا بعد آخر كما ذكرناه في أخبارهم‏.‏وبينما هو يؤمل الكرة ووصل المدد من المغرب الأقصى إذ بلغه الخبر بانتثار السلك أجمع وبانتقاض ابنه وحافده ثم استيلاء أبي عنان على المغرب كله ورجوع بني عبد الواد ومغراوة وتوجين إلى ملكهم بالمغرب الأوسط‏.‏ووفد عليه يعقوب بن علي أمير الدواودة فاتفق مع عريف بن يحيى أمير سويد وكبير مجلس السلطان على أن يغرياه ببعث ابنه الناصر إلى المغرب الأوسط للدعوة التي كانت قائمة له بأمصاره في الجزائرووهران وجبل وانشريش وكان به نصر بن عمر بن عثمان بن عطية قائمًا بدعوته إن يكون عريف بن نصر في جملة الناصر لمكانه من السلطان ومكان قومه من الولاية‏.‏وكان ذلك من عريف تفاديًا من المقام بتونس فأجاب إليه السلطان وبعثهم جميعًا ولحق الناصر ببلاد حصين فأعطوه الطاعة وارتحلوا معه‏.‏ولقيه العطاف والديالم وسويد اجتمعوا إليه وتألبوا معه وارتحلوا يريدون منداس‏.‏وبينما الأمير أبو ثابت يروم معارضة الغزو إلى وهران إذ فجأه الخبر بذلك فطير به إلى السلطان أبي عنان‏.‏وجاء العسكر من بني مرين مدداً صحبة أبي زيالط ابن أخيه أبي سعيد كان مستنفرًا بالمغرب منذ نهوضهم إلى القيروان‏.‏وبعث عنه أبوه فجاء مع المدد من العساكر والمال‏.‏ونهض أبو ثابت من تلمسان أول المحرم سنة خمسين وبعث إلى مغراوة بالخبر فقعدوا عن مناصرته‏.‏ولحق ببلاد العطاف فلقيه الناصر هنالك في جموعه بوادي ورك آخر شهر ربيع الأول فانكشفت جموع العرب وانهزموا‏.‏ولحق الناصر بالزاب فنزل على ابن مزني ببسكرة إلى أن أصحبه من رجالات سليم من أوصله إلى أبيه بتونس‏.‏ولحق عريف بن يحيى بالمغرب الأقصى واحتل عند السلطان أبي عنان بمكانه من مجلسهم فحصل على البغية‏.‏ورجع العرب كلهم إلى طاعة أبي ثابت وخدمته واستراب بصغير بن عامر بن إبراهيم فتقبض عليه وأشخصه معتقلاً مع البريد إلى تلمسان فاعتقل بها إلى أن أطلق بعد حين‏.‏وقفل أبو ثابت إلى تلمسان فتلوم بها أياما‏.‏ثم نهضر إلى وهران في جمادى من سنته فحاصرها أيامًا ثم افتتحها عنوة وعفا عن علي بن أجانا القائم بها بعد مهلك أخيه عبو وعلى من معه‏.‏وأطلق سبيلهم واستولى على ضواحي وهران وما إليها ورجع إلى تلمسان وقد استحكمت العداوة بينه وبين مغراوة وقد كان استجرها ما قدمناه من قعودهم عن نصره فنهض إليهم في شوال من سنته والتقوا في عدوة وادي رهيو فاقتتلوا ملياً‏.‏ثم انكشفت مغراوة ولحقوا بمعاقلهم واستولى أبو ثابت على معسكرهم وملك مازونة وبعث ببيعتها إلى أخيه السلطان أبي سعيد‏.‏وكان على إثر ذلك وصول السلطان أبي الحسن من تونس كما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:47 PM

الخبر عن وصول السلطان أبي الحسن من تونس ونزوله بالجزائر
وما د ار بينه وبين أبي ثابت من الحروب ولحاقه بعد الهزيمة بالمغرب كان السلطان أبو الحسن بعد واقعة القيروان وحصار العرب إياه قد طال مقامه بتونس‏.‏واستدعاه أهل المغرب الأقصى وانتقض عليه أهل بلاد الجريد وبايعوا للفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى فاجمع الرحلة إلى المغرب وركب السفن من تونس أيام الفطر من سنة خمسين فعصفت به الريح وأعركه الغرق فغرق أسطوله على سواحل بجاية ونجا بدمائه إلى بعض الجزر هنالك حتى لحقه أسطول من أساطيله فنجا فيه إلى الجزائر وبها حمو بن يحيى بن العسري قائده وصنيعة أبيه فنزل عليه‏.‏وبادر إليه أهل ضاحيتها من مليكش والثعالبة فاستخدمهم وبث فيهم العطاء‏.‏واتصل خبره بونزمار بن عريف وهوفي أحياء سويد فوفد عليه في مشيخة من قومه‏.‏ووفد معه نصربن عمر بن عثمان صاحب جبل وانشريش من بني تيغرين وعدي بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي الثائر بنواحي المدية من ولد عبد القوي فأعطاه الطاعة‏.‏واستحثوه للخروج معهم فردهم للحشد فجمعوا من إليهم من قبائل العرب وزناتة‏.‏وبينما الأمير أبو ثابت ببلاد مغراوة محاصرًا لهم في معاقلهم إذ بلغه الخبر بذلك في ربيع سنة إحدى وخمسين فعقد السلم معهم ورجع إلى قتال هؤلاء فأخذ علي منداس وخرج إلى السرسو قبلة وانشريش‏.‏وأجفل أمامه ونزمار وجموع العرب الذين معه‏.‏ولحق به هنالك مدد السلطان أبي عنان قائدهم يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي فاتبع أبو ثابت آثار العرب وشردهم‏.‏ولحق أحياء حصين بمعقلهم من جبل تيطرى‏.‏ثم عطف على المدية ففتحها وعقد عليها لعمران بن موسى الجلولي من صنائعهم‏.‏ثم نهض إلى خصين فافتتح عليهم الجبل فلاذوا بالطاعة وأعطوا أبناءهم رهنًا عليها فتجاوزها إلى وطن حمزة فدوخها واستخدم قبائلها من العرب والبربر والسلطان أبو الحسن أثناء ذلك مقيم بالجزائر‏.‏ثم قفل أبو ثابت إلى تلمسان وقد كان استراب يحيى بن رحو وعسكره من بني مرين وأنهم داخلوا السلطان أبا الحسن وبعث فيه إلى السلطان أبي عنان فأداله بعيسى بن سليمان بن منصوربن عبد الواحد بن يعقوب فبعثه قائدأ على الحصة المرينية فتقبض على يحيى بن رحو ولحقوا مع أبي ثابت بتلمسان‏.‏ثم أجازوا إلى المغرب واعتز السلطان أبو الحسن بعد منصرفهم بابنه الناصر مع أوليائه من زناتة والعرب فاستولى على المدية وقتل عثمان بن عيسى الجلولي‏.‏ثم تقدم إلى مليانة فملكها وإلى تيمزوغت كذلك‏.‏وجاء على أثره السلطان أبو الحسن أبوه وقد اجتمعت إليه الجموع من زغبة وزناتة ومن عرب إفريقية سليم ورياح‏:‏ مثل محمد بن طالب بن مهلهل ورجال من عشيره وعمر بن علي بن أحمد الدواودي وأخيه أبي دينار ورجالات من قومهما‏.‏وزحف على هذه التعبية وابنه الناصر أمامه‏.‏فأجفل علي بن راشد وقومه مغراوة عن بلادهم إلى البطحاء‏.‏وطير الخبر إلى أبي ثابت فوافاه في قومه وحشوده وزحفا جميعاً إلى السلطان أبي الحسن‏.‏والتقى الجمعان بتنغمرين من شلف وصابروا ملياً‏.‏وانكشف السلطان أبو الحسن وقومه وطعن الناصر بعض فرسان مغراوة فأثبته وهلك آخر يومه وطعن الناصر بعض فرسان مغراوة فأثبته وهلك آخر يومه‏.‏وقتل محمد بن علي العزفي قائد أساطيله وابن البواق والقبائلي كاتبه‏.‏واستبيح معسكره وما فيه من متاع وحرم وخلص بناته إلى وانشريش وبعث بهن أبو ثابت إلى السلطان أبي عنان بعد استيلائه على الجبل‏.‏وخلص السلطان أبو الحسن إلى أحياء سويد بالصحراء لتجا به ونزمار بن عريف إلى سجلماسة كما نذكره في أخباره‏.‏ودوخ أبو ثابت بلاد بني توجين وقفل إلى الخبر عن حروبهم مع مغراوة واستيلاء أبي ثابت علي بلادهم‏.‏ثم على الجزائر ومقتل علي بن راشد بتنس على إثرذلك كان بين هذين الحيين من عبد الواد ومغراوة فتن قديمة سائر أيامهم قد ذكرنا الكثير منها في أخبارهم‏.‏وكان بنو عبد الواد قد غلبوهم على أوطانهم حين قتل راشد بن محمد في جلائه أمامهم بين زواوة‏.‏ولما اجتمعوا بعد نكبة القيروان على أميرهم علي بن راشد وجاءوا من إفريقية إلى أوطانهم من بني عبد الواد لم يطيقوهم حينئذ أن يغلبوهم‏.‏فرجعوا إلى توثيق العقد وتأكيد العهد فأبرموه وأقاموا على الموادعة والتظاهرعلى عدوهم وعروق الفتنة تنبض في كل منهم‏.‏ولما جاء الناصر من إفريقية وزحف‏.‏إليه أبو ثابت قعد عنه علي بن راشد وقومه فأعتدهم عليها وأسرها في نفسه‏.‏ثم اجتمعوا بعد ذلك للقاء السلطان أبي الحسن حتى انهزم ومضى إلى المغرب‏.‏فلما رأى أبو ثابت أن قد كفى عدوه الأكبر وفرغ لعدوه الأصغر نظر في الانتقاض عليهم‏.‏فبينما هو يروم أسباب ذلك إذ بلغه الخبر بأن بعض رجالات بني كمي من مغراوة جاؤوا إلى تلمسان ليغتالوه فحمي لها أنفه‏.‏وأجمع لحربهم‏.‏وخرج من تلمسان فاتحة اثنتين وخمسين‏.‏وبعث في أحياء زغبة وبني عامر وسويد فجاءوه بفارسهم وراجلهم وظعائنهم‏.‏وزحف إلى مغراوة فخاموا عن لقائه وتحصنوا بالجبل المطل على تنس فحاصرهم فيه أيامًا اتصلت فيها الحروب وتعددت الوقائع‏.‏ثم ارتحل عنهم فجال في نواحي البلد ودوخ أقطارها وأطاعته مليانة والمدية وبرشك وشرشال‏.‏ثم تقدم بجموعه إلى الجزائر فأحاط بها وفيها فل بني مرين وعبد الله ابن السلطان أبي الحسن تركه هنالك صغيرأ في كفاله علي بن سعيد بن أجانا فغلبهم على البلاد وأشخصهم في البحر إلى المغرب‏.‏وأطاعته الثعالبة ومليكش وقبائل حصين‏.‏وعقد على الجزائر لسعيد بن موسى بن علي الكردي ورجع إلى مغراوة فحاصرهم بمعقلهم الأول بعد أن انصرفت العرب إلى مشاتيها فاشتد الحصار على مغراوة وأصاب مواشيهم العطش فانحطت دفعة واحدة من على أعلى الجبل تطلب الموردة فأصابهم الدهش‏.‏ونجا ساعتئذ علي بن راشد إلى تنس فأحاص به أبوثابت أيامًا‏.‏ثم اقتحمها عليه غلاباً منتصف شعبان من سنته فاستعجل المنية وتحامل على نفسه فذبح نفسه وافترقت مغراوة من بعده وصارت أوزاعاً في القبائل‏.‏وقفل أبو ثابت إلى أن كان من حركة السلطان ما نذكره في الخبر عن استيلاء السلطان أبي عنان علي تلمسان وانقراض أمر بني عبد الواد ثانية لما لحق السلطان أبوالحسن بالمغرب وكان من شأنه مع ابنه أبي عنان إلى أن هلك بجبل هنتاتة ما نذكره في أخبارهم‏.‏فاستوسق ملك المغرب للسلطا ن أبي عنان وفرغ لعدوه‏.‏وسما لاسترجاع الممالك التي انتزعها أبوه ممن توثب عليها وكان قد بعث إليه علي بن راشد من مكان امتناعه بجبل تنس يسأل منه الشفاعة فرد أبوثابت شفاعته وأحفظه ذلك‏.‏وبلغه مقتل علي بن راشد فأجمع غزوتلمسان ونذر بذلك أبوسعيد وأخوه فخرج أبوثابت لحشد القبائل من زناتة والعرب منتصف ذي القعدة ونزل بوادي شلف‏.‏واجتمع الناس عليه ووصلته هنالك بيعة تدلس في ربيع سنة ثلاث وخمسين‏.‏غلب عليها الموحدين جابر الخراساني من صنائعهم وبلغه بمكانه ذلك زحف السلطان أبي عنان فرجع إلى تلمسان ثم خرج إلى المغرب‏.‏وجاء على أثره أخوه السلطان أبوسعيد في العساكرمن زناتة ومعه بنو عامر من زغبة والفل من سويد إذ كان جمهورهم قد لحقوا بالمغرب لمكان عريف بن يحيى وابنه من ولاية بني مرين فزحفوا على هذه التعبئة‏.‏وزحف السلطان أبو عنان في امم المغرب من زناتة والعرب المعقل والمصامدة وسائر طبقات الجنود والحشد وانتهوا جميعاً إلى أنكاد من بسيط وجدة فكان اللقاء هنالك آخر ربيع الثاني من سنة ثلاث وخمسين‏.‏وأجمع بنو عبد الواد على صدمة المعسكر وقت القائلة وبعد ضرب الأبنية وسقاء الركاب وافتراق أهل المعسكر في حاجاتهم فأعجلوهم عن ترتيب المصاف‏.‏وركب السلطان أبو عنان لتلافي الأمر فاجتمع إليه أوشاب من الناس وانتقض سائر المعسكر ثم زحف إليهم فيمن حضره وصدقوهم القتال فاختل مصافهم ومنحوا أكتافهم وخاضوا بحر الظلماء‏.‏واتبع بنو مرين آثارهم وتقبض على أبي سعيد ليلتئذ فقيد أسيراً إلى السلطان فأحضره بمشهد الملأ ووبخه‏.‏ثم تل على محبسه وقتل لتاسعة من ليالي اعتقاله‏.‏وارتحل أبو عنان إلى تلمسان ونجا الزعيم أبو ثابت بمن معه من فل عبد الواد ومن خلص إليه منهم ذاهباً إلى بجاية ليجد في إيالة الموحدين وليجة من عدوه فبيتته زواوة في طريقه وأبعد عن صحبه وأرجل عن فرسه‏.‏وذهب راجلاً عارياً ومعه رفقاء من قومه‏:‏ منهم أبو زيان محمد ابن أخيه السلطان أبي سعيد وأبو حمو موسى ابن أخيهم يوسف ووزيرهم يحيى بن داود بن مكن‏.‏وكان السلطان أبو عنان أوعز إلى صاحب بجاية يومئذ المولى أبي عبد الله حفيد مولانا السلطان أبي بكر بأن يأخذ عليهم الطرق ويذكي في طلبهم العيون فعثر عليهم بساحة البلد‏.‏وتقبض على الأمير أبي ثابت الزعيم وابن أخيه محمد بن أبي سعيد ووزيرهم يحيى بن داود وأدخلوا إلى بجاية ثم خرج صاحبها الأمير أبو عبد الله إلى لقاء السلطان أبي عنان واقتادهم في قبضة أسره فلقيه بمعسكره بظاهر المدية فأكرم وفادته وشكر صنيعه وانكفأ راجعاً إلى تلمسان فدخلها في يوم مشهود‏.‏وحمل يومئذ أبوثابت وزيره يحيى على جملين يتهاديان بهما بين سماطي ذلك المحفل فكان شأنهما عجباً‏.‏ثم سيقا ثاني يومهما إلى مصرعهما بصحراء البلد فقتلا قعصاً بالرماح وانقضى ملك آل زيان وذهب ما أعادوه لهم بنو عبد الرحمن هؤلاء من الدولة بتلمسان إلى أن كانت لهم الكرة الثالثة على يد أبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن المتمليها إلى هذا العهد على ما نذكره ونستوفي من أخباره إن شاء الله تعالى‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:48 PM

الخبر عن دولة السلطان أبي حمو الأخير مديل الدولة بتلمسان
في الكرة الثالثة لقومه وشرح ما كان فيها من الأحداث لهذا العهد كان يوسف بن عبد الرحمن هذا في إيالة أخين السلطان أبي سعيد بتلمسان هو و ولده أبو حمو موسى وكان متكاسلاً عن مراتب الظهور متجافيًا عن التهالك في طلب العز جانحاً إلى السكون ومذاهب أهل الخير‏.‏حتى إذا عصفت بدولتهم رياح بني مرين وتغلب السلطان أبو عنان عليهم وابتزهم ما كان بأيديهم من الملك وخلص ابنه أبوحمو موسى مع عمه أبي ثابت إلى الشرق وقذفت النوى بيوسف مع أشراف قومه إلى المغرب فاستقر به‏.‏ولما تقبض على أبي ثابت بوطن بجاية أغفل أمر أبي حمومن بينهم ونبت عنه العيون فنجا إلى تونس ونزل بها على الحاجب أبي محمد بن تافراكين فأكرم نزله وأحله بمكان أعياص الملوك من مجلس سلطانه ووفر جرايته ونظم معه آخرين من فل قومه‏.‏وأوعز السلطان أبو عنان إليه بانزعاجهم عن قرارهم في دولته فحمي لها أنفه وأبى عن الهضيمة لسلطانه فأغرى ذلك السلطان أبا عنان بمطالبته‏.‏وكانت حركته إلى إفريقية ومنابذة العرب من رياح وسليم لعهده ونقضهم لطاعته كما نستوفي في ولما كانت سنة تسع وخمسين قبل مهلكه اجتمع أمراء الدواودة من رياح إلى الحاجب أبا محمد بن تافراكين ورغبوه في لحاق أبي حمو موسى بن يوسف بالمغرب من غربته وأنهم ركابه لذلك ليجلب على نواحي تلمسان ويحصل للسلطان أبي عنان شغلاً عنهم‏.‏وسألوه أن يجهز عليه ببعض آلة السلطان‏.‏ووافق ذلك رغبة صغير بن عامر أمير زغبة في هذا الشأن وكان يومئذ في أحياء يعقوب بن علي وجواره فأصلح الموحدون شأنه بما قدروا عليه ودفعوه إلى مصاحبة صغير وقومه من بني عامر‏.‏وارتحل معهم من الدواودة عثمان بن سباع ومن أحلافهم بني سعيد دعار بن عيسى بن رحاب وقومه ونهضوا بجموعهم يريدون تلمسان وأخذوا على القفر‏.‏ولقيهم أثناء طريقهم الخبر عن مهلك السلطان أبي عنان فقويت عزائمهم على ارتجاع ملكهم ورجع عنهم صولة بن يعقوب‏.‏وأغذ السير إلى تلمسان وبها الكتائب المجفرة من بني مرين‏.‏واتصل خبر أبي حمو بالوزير الحسن من عمر القائم بالدولة من بعد مهلك السلطان أبي عنان والمتغلب على ولده السعيد الخليفة من بعده فجهز المدد إلى تلمسان من الحامية والأموال‏.‏ونهض أولياء الدولة من أولاد عريف بن يحيى أمراء البدو من العرب في قومهم من سويد ومن إليهم من العرب لمدافعة السلطان أبي حمو وأشياعه فانفض جمعهم وغلبوا على تلك الموطن‏.‏واحتل السلطان أبو حمو وجموعه بساحة تلمسان وأناخوا ركائبهم عليها ونازلوها ثلاثاً ثم اقتحموها في صبيحة الرابعة‏.‏وخرج ابن السلطان أبي عنان الذي كان أميراً عليها في لمة من قومه فنزل على صغير بن عامرأمير القوم فأحسن تجلته وأصحبه من عشيرته إلى حضرة أبيه‏.‏ودخل السلطان - أبو حمو إلى تلمسان يوم الأربعاء لثمان خلون من ربيع الأول سنة ستين واحتل منها بقصر ملكه واقتعد أريكته وبويع بيعة الخلافة‏.‏ورجع إلى النظر في تمهيد جوانب ملكه وأخرج بني مرين عن أمصار مملكته‏.‏


الخبر عن إجفال أبي حمو عن تلمسان أمام عساكر المغرب ثم عوده إليها
كان القائم بأمر المغرب من بعد السلطان أبي عنان وزيره الحسن بن عمر كافل ابنه السعيد أخذ له البيعة على الناس فاستبد عليه وملك أمره وجرى على سياسة السلطان الهالك واقتفى أثره في الممالك الدانية والقاصية في الحماية والنظر لهم و عليهم ولما اتصل به خبر تلمسان وتغلب أبي حمو عليها قام في ركائبه وشاور الملأ في النهوض إليه فأشاروا عليه بالقعود وتسريح الجنود والعساكر‏.‏فسرح لها ابن عمه مسعود بن رخو بن علي بن عيسى بن ماساي من بني فردود وحكمه في اختيار الرجال واستجادة السلاح وبذل الأموال واتخاذ الآلة فزحف إلى تلمسان‏.‏واتصل الخبر عن أبي حمو وأشياعه من بني عامر فأفرج عنها ولحق بالصحراء‏.‏ودخل الوزير مسعود بن رحو تلمسان وخالفه السلطان أبو حمو إلى المغرب فنزل ببسيط أنكاد‏.‏وسرح إليهم الوزير مسعود بن رحو ابن عمه عامر بن عبو بن ماساي في عسكر من كتائبه ووجوه قومه فأوقع بهم العرب وأبو حمو ومن معهم واستباحوهم‏.‏وطار الخبر إلى تلمسان واختلفت أهواء من كان بها من بني مرين‏.‏وبدا ما كان في قلوبهم من المرض لتغلب بن عمر على سلطانهم ودولتهم فتحيزوا زرافات لمبايعة بعض الأعياص من آل عبد الحق‏.‏وفطن الوزير مسعود بن رحو لما دبروه وكان في قلبه مرض من ذلك فاغتنمها وبايع لمنصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق كبير الأعياص المنفرد بالتجلة‏.‏وارتحل به وبقومه من بني مرين إلى المغرب وتجافى عن تلمسان وشأنها واعترضهم عرب المعقل في طريقهم إلى المغرب فأوقع بهم بنو مرين وصمموا لطيتهم‏.‏ورجع السلطان أبو حمو إلى تلمسان واستقر بحضرته ودار ملكه‏.‏ولحق به عبد الله بن مسلم فاستوزره واستنام إليه فاشتد به أزره وغلب على دولته كما نذكره إلى أن هلك‏.‏والبقاء لله وحده‏.‏


الخبرعن مقدم عبد الله بن مسلم من مكان عمله بدرعة ونزوعه من إيالة بني مرين إلى أبي حمو
وتقليده إياه الوزارة وذكر أوليته ومصائر أموره كان عبد الله بن مسلم هذا من وجوه بني زردال من بني بادين إخوة بني عبد الواد وتوجين ومصاب إلا أن بني زردال اندرجوا في بني عبد الواد لقلتهم واختلطوا بنسبهم‏.‏ونشأ عبد الله بن مسلم في كفالة موسى بن علي لعهد السلطان أبي تاشفين مشهوراً بالبسالة والإقدام طار له ذكر وحسن بلاؤه في حصار تلمسان‏.‏ولما اتففب السلطان أبو الحسن على بني عبد الواد وابتزهم ملكهم واستخدمهم وكان ينتقي اولي الشجاعة والإقدام منهم فيرمي بهم ثغور المغرب‏.‏ولما اعترض بني عبد الواد ومر به عبد الله هذا ذكر له شأنه ونعت ببأسه فبعثه إلى درعة واستوصى عاملها به فكان له عنه غناء وفي مواقعه مع خوارج الحرب بلاء حسن جذب ذلك بضبعية ورقي عند السلطان منزلته وعرفه على قومه‏.‏ولما كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان ومرج أمر المغرب وتوثب أبو عنان على الأمر وبويع له بتلمسان واستجمع حافده منصور بن أبي مللك عبد الواحد لمدافعته وحشد حامية الثغور للقائه وانفضت جموعه بتازى وخلص إلى البلد الجديد ونازله وكان عبد الله بن مسلم في جملته‏.‏لما نازله السلطان أبو عنان واتصلت الحرب بينهم أياماً كان له فيها ذكر‏.‏ولما رأى أنهم احيط بهم سبق الناس إلى السلطان أبي عنان فرعى سابقته وقلده عمل درعة فاضطلع بها مدة خلافته وتأكدت له أيام ولايته مع عرب المعقل وصلة وعهد ضرب بها في مؤاخاتهم بسهم‏.‏وكان السلطان أبو عنان عند خروج أخيه أبي الفضل عليه ولحقه بجبل ابن حميدي من معاقل درعة أوعز إليه بأن يعمل الحيلة في القبض عليه فداخل ابن حميدي ووعده وبذل له فأجاب وأسلمه‏.‏وقاده عبد الله بن مسلم أسيراً إلى أخيه السلطان أبي عنان فقتله‏.‏ولما استولى السلطان أبو سالم رفيق أبي الفضل في مثوى اغترابهما بالأندلس على بلاد المغرب من بعد مهلك السلطان أبي عنان وما كان أثره من الخطوب وذلك آخر سنة ستين خشية ابن مسلم على نفسه ففارق ولايته ومكان عمله‏.‏وداخل أولاد حسين أمراء المعقل في النجاة به إلى تلمسان فأجابوه ولحق بالسلطان أبي حمو في ثروة من المال وعصبة من العشير وأولياء من العرب فسر بمقدمه وقلده لحينه وزارته وشد به أواخي سلطانه وفوض إليه تدبير ملكه فاستقام أمره وجمع القلوب على طاعته‏.‏وجأجأ بالمعقل من مواطنهم القربية فأقبلوا إليه وعكفوا على خدمته‏.‏وأقطعهم بمواطن تلمسان وآخى بينهم وبين زغبة فعلا كعبه واستفحل أمره واستقامت رياسته إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:48 PM

الخبر عن استيلاء السلطان أبي سالم علي تلمسان ورجوعه إلى المغرب
بعد أن ولي عليها أبا زيان حافد السلطان أبي تاشفين ومال أمره لما استوسق للسلطان أبي سالم ملك المغرب ومحا أثره الخوارج على الدولة سما إلى امتداد ظله إلى أقصى تخوم زناتة كما كان لأبيه وأخيه وحركه إلى ذلك ما كان من فرارعبد الله بن مسلم إلى تلمسان بجباية عمله فأجمع أمره على النهوض إلى تلمسان وعسكر بظاهر فاس منتصف إحدى وستين‏.‏وبعث في الحشود فتوافت ببابه واكتملت ثم ارتحل إليها‏.‏وبلغ الخبرإلى السلطان أبي حمو ووزيره عبد الله بن مسلم فنادوا في العرب من زغبة والمعقل كافة فأجابوهم إلا شرذمة قليلة من الأحلاف وخرجوا بهم إلى الصحراء ونازل حللهم بعسكره‏.‏ولما دخل السلطان أبو سالم وبنو مرين تلمسان خالفوهم إلى المغرب فنازلوا وطاط وبلاد ملوية وكرسيف وحطموا زروعها وانتسفوا أقواتها وخربوا عمرانها‏.‏وبلغ السلطان أبا سالم ما كان من صنيعهم فأهمه أمر المغرب وأجلاب المفسدين عليه‏.‏وكان في جملته من آل يغمراسن محمد بن عثمان ابن السلطان أبي تاشفين ويكنى بأبي زيان ويعرف بالقبى ومعناه العظيم الرأس فدفعه للأمر وأعطاه الآلة وكتب له كتيبة من توجين ومغراوة كانوا في جملته ودفع إليه اعطياتهم وأنزله أبيه بتلمسان وانكفأ راجعاً إلى حضرته فأجفلت العرب والسلطان أبو حمو أمامه وخالفوه إلى تلمسان فأجفل عنها أبو زيان وتحيز إلى بني مرين بأمصار الشرق من البطحاء ومليانة ووهران وأوليائهم من بني توجين وسويد من قبائل زغبة‏.‏ودخل السلطان أبوحمو و وزيره عبد الله بن مسلم إلى تلمسان وكان صغير بن عامر هلك في مذهبهم ذلك‏.‏ثم خرجوا فيمن إليهم من كافة العرب المعقل وزغبة في أتباع أبي زيان ونازلوا بجبل وانشريش فيمن معه إلى أن غلبوه عليه وانفض جمعه ولحق بمكانه من إيالة بني برين بفاس‏.‏ورجع السلطان أبو حمو إلى معاقل وطنه يستنقذها من ملكة بني مرين فافتتح كثيرها وغلب على مليانة والبطحاء‏.‏ثم نهض إلى وهران ونازلها أياماً واقتحمها غلاباً واستلحم بها من بني مرين عمداً‏.‏ثم تغلب على المدية والجزائر وانزعج عنها بني مرين فلحقوا بأوطانهم‏.‏وبعث رسله إلى السلطان أبي سالم فعقد معه السلم ووضعوا أوزار الحرب‏.‏ثم كان مهلك السلطان أبي سالم سنة اثنتين وستين‏.‏وقام بالأمر من بعده عمر بن عبد الله بن علي من أبناء وزرائهم مبايعاً لولد السلطان أبي الحسن واحداً بعد آخر كما نذكره عند ذكر أخبارهم‏.‏


الخبر عن قدوم أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد من المغرب لطلب ملكه
وما كان من أحواله كان أبو زيان هذا وهو محمد ابن السلطان أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن لما تقبض عليه مع عمه أبي ثابت ووزيرهم يحيى بن داود بجباية من أعمال الموحدين وسيقوا إلى السلطان أبي عنان فقتل أبا ثابت وزيره واستبقى محمداً هذا وأودعه السجن سائر أيامه حتى إذا هلك واستوسق أمر المغرب لأخيه أبي سالم من بعد خطوب وأحوال يأتي ذكرها امتن عليه السلطان أبو سالم وأطلقه من الاعتقال ونظمه بمجلسه في مراتب الأعياص وأعده لمزاحمة ابن عمه‏.‏وحدث بينه وبين السلطان أبي حمو سنة اثنتين وستين بين يدي مهلكة نكراء بعد مرجعه من تلمسان ومرجع أبي زيان حافد السلطان أبي تاشفين من بعده فحقق السعي فيما نصبه له‏.‏وسما له في أبي زيان هذا أمل أن يستأثر بملك أبيه ورأى أن يحسن الصنيع فيه فيكون فيئة له فأعطاه الآلة ونصبه للملك وبعثه إلى وطن تلمسان وانتهى إلى تازى‏.‏ولحقه الخبر هنالك بمهلك السلطان أبي سالم‏.‏ثم كانت فتن وأحداث نذكرها في محلها‏.‏وأجلب عبد الحليم ابن السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد بن يعقوب بن عبد الحق على فاس واجتمع إليه بنو مرين ونازلوا البلد الجديد‏.‏ثم انفض جمعهم ولحق عبد الحليم بتازى كما نذكره في موضعه‏.‏ورجا من السلطان أبي حمو المظاهرة على أمره فراسله في ذلك واشترط عليه كبح ابن عمه أبي زيان فاعتقله مرضاة له ثم ارتحل إلى سجلماسة كما نذكر بعد‏.‏ونازله في طريقه أولاد حسين من المعقل بحللهم وأحيائهم فاستغفل أبو زيان ذات يوم المتوكلين به ووثب على فرس قائم حذاه وركضه من معسكر عبد الحليم إلى حلة أولاد حسين مستجيرا بهم فأجاروه‏.‏ولحق ببني عامر على حين جفوة كانت بين السلطان أبي حمو وبين خالد بن عامر أميرهم ذهب لهما مغاضباً فأجلب به على تلمسان‏.‏وسرح إليهم السلطان أبو حمو عسكراً فشردهم عن تلمسان‏.‏ثم بذل المال لخالد بن عامر على أن يقصيه إلى بلاد رياح ففعل وأوصله إلى بلاد الدواودة فأقام فيهم‏.‏ثم دعاه أبو الليل بن موسى شيخ بني يزيد وصاحب وطن حمزة وبني حسن وما إليه ونصبه للأمر مشافهة وعناداً للسلطان أبي حمو‏.‏ونهض إليه الوزيرعبد الله بن مسلم في عساكر بني عبد الواد وحشود العرب وزناتة فأيقن ابو الليل بالغلب وبذل له الوزير المال وشرط له التجافي عن وطنه على أن يرجع عن طاعة أبي زيان ففعل‏.‏وانصرف إلى بجاية ونزل على المولى أبي إسحاق ابن مولانا السلطان أبي يحيى أكرم نزل‏.‏ثم وقعت المراسلة بينه وبين السلطان أبي حمو وتمت المهادنة وانعقد السلم على إقصاء أبي زيان عن بجاية المتاخمة لوطنه فارتحل إلى حضرة تونس‏.‏وتلقاه الحاجب أبو محمد بن تافراكين قيوم دولة الحفصيين لذلك لعهد من المبرة والترحيب وإسناء الجراية به وترفيع المنزلة بما لم يعهد بمثله من الأعياص‏.‏ولم يزل حاله على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن قدوم أبي زيان حافد السلطان أبي تاشفين ثانية من المغرب إلى تلمسان لطلب ملكها وما كان من أحواله
كان العرب من سويد إحدى بطون زغبة فيئة لبني مرين وشيعة من عهد أميرهم عريف بن يحيى مع السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنان فكانوا عند بني عبد الواد في عداد عدوهم من بني مرين مع صاغية الدولة لبني عامرأقتالهم فكانوا منابذين لبني عبد الواد آخر الأيام‏.‏وكان كبيرهم ونزمار بن عريف أوطن كرسيف في جوار بني مرين مذ مهلك السلطان أبي عنان وكان مرموقاً لديهم بعين التجلة يرجعون إلى رأيه ويستنيمون إلى قوله‏.‏وأهمه شأن إخوانه في موطنهم ومع أقتالهم ببني عامر فاعتزم على نقض الدولة من قواعدها وحمل صاحب المغرب عمر بن عبد الله على أن يسرح محمد بن عثمان حافد أبي تاشفين لمعاودة الطلب بملكه‏.‏ووافق ذلك نفرة استحكمت بين السلطان أبي حمو وأحمد بن رحو بن غانم كبير أولاد حسين من المعقل بعد أن كانوا فيئة له ولوزيره عبد الله بن مسلم فاغتنمها عمر بن عبد الله‏.‏وخرج أبو زيان محمد بن عثمان سنة خمس وستين فنزل في حلل المعقل بملوية‏.‏ثم نهضوا إلى وطن تلمسان وارتاب السلطان أبو حمو بخالد بن عامر أمير بني عامر فتقبض عليه وأودعه المطبق ثم سرح وزيره عبد الله بن مسلم في عساكر بني عبد الواد والعرب فأحسن دفاعهم وانفضت جموعهم ورحلهم إلى ناحية الشرق وهو في أتباعهم إلى أن نزلوا بالمسيلة من وطن رياح وصاروا في جوار الدواودة‏.‏ثم نزل بالوزير عبد الله بن مسلم داء الطاعون الذي عاود أهل العمران عامئذ من بعد ما أهلكهم سنة سبع وأربعين قبلها فانكفأ به ولده وعشيره راجعين وهلك في طريقه وأوصلوا شلوه إلى تلمسان فدفن بها‏.‏وخرج السلطان أبو حمو لمدافعة عدوه وقد فت مهلك عبد الله في عضده‏.‏ولما انتهى إلى البطحاء وعسكر بها ناجزته جموع السلطان أبي زيان الحرب وأطلت راياته على المعسكر فداخلهم العرب وانفضوا وأعجلهم الأمر عن أفنيتهم وأزودتهم فتركوها وانفضوا‏.‏وتسلل أبو حمو يبغي النجاة إلى تلمسان‏.‏وأضرب أبو زيان فسطاطه بمكان معسكره وسابقه أحمد بن رحو أمير المعقل إلى منجاته فلحقه بسيك‏.‏وكر إليه السلطان أبو حمو فيمن معه من خاصته وصدقوه الدفاع فكبا به فرسه وقطع رأسه‏.‏ولحق السلطان أبو حمو بحضرته وارتحل أبو زيان والعرب في أتباعه إلى أن نازلوا بتلمسان أياماً‏.‏وحدثت المنافسة بين المعقل وزغبة وأسف زغبة استبداد المعقل عليهم وانفراد أولاد حسين برأي السلطان دونهم فاغتنمها أبو حمو وأطلق أميرهم خالد بن عامر من محبسه وأخذ عليه الموثق من الله ليخذلن الناس عنه ما استطاع وليرجعن بقومه عن طاعة أبي زيان وليفرقن جموعه‏.‏فوفى له بذلك ونفس عنه المخنق وتفرقت أحزابهم‏.‏ورجع أبو زيان إلى مكانه من إيالة بني مرين واستقام أمر السلطان أبي حمو وصلحت دولته بعد الالتياث إلى أن كان من أمره ما نذكره‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:49 PM

الخبرعن حركة أبي حمو على ثغور المغرب
كان ونزمار من عريف متولي كبر هذه الفتن على أبي حمو وبعث الأعياص عليه واحداً بعد واحد بما كان بينهم من العداوة المتصلة كما قدمناه‏.‏وكان منزله كرسيف من ثغور المغرب‏.‏وكان جاره حمد بن زكدان كبير بني علي من بني ونكاسن الموطنين بجبل دبدو كانت أيديهما عليه واحمة‏.‏فلما سكن غرب الثوار عنه وأزاحهم عن وطنه إلى المغرب وانعقد سلمه معهم رأى أن يغزو هذين الأميرين في ثغورهما فاعتمل الحركة إلى المغرب فاتح سنة ست وستين‏.‏وانتهى إلى دبدو وكرسيف‏.‏وأجفل ونزمار فامتنع بمعاقل الجبال فانتهب أبو حمو الزروع وشمل بالتخريب والعيث سائر النواحي‏.‏وقصد محمد من زكدان أيضاً في معقل دبدو فامتنع بحصنه الذي اتخذه هنالك‏.‏وعاد عليه أبو حمو بركابه وجاس خلال وطنه وشمل بالتخريب والعيث نواحي بلده وانكفأ إلى حضرته وقد عظمت في تخوم بني مرين وثغورهم نكايته وثقلت عليهم وطأته وانعقدت بينهما تعديل المهادنة والسلم‏.‏وانصرفت عزائمه إلى بلاد إفريقية فكانت حركته إلى بجاية من العام المقبل ونكبته عليها كما نذكر إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبرعن حركة السلطان أبي حمو إلى بجاية ونكبته عليها
كان صاحب بجاية المولى الأميرأبوعبد الله لما استولى عليها وعادت اليه في العودة الثانية سنة خمس وستين كما ذكرناه في أخباره زحف بعدها إلى تدلس فغلب عليها بني عبد الواد وأنزل بها عامله وحاميته‏.‏ثم أظلم الجو بينه وبين صاحب قسنطينة السلطان أبي العباس ابن عمه الأمير أبي عبد الله لما جرت بينهم المتاخمة في العمالات فنشأت بينهما فتن وحروب شغل بها عن حماية تدلس وألحت عليها عساكر بني عبد الواد بالحصار‏.‏واحيط بها فأوفد رسله على السلطان أبى حمو صاحب تلمسان في المهادنة على النزول له عن تدلس فتسلمها أبو حمو وأنزل بها حاميته‏.‏وعقد معه وأصهر إليه في ابنته فأجابه وزفها إليه فتلقاها قبيله و وزراءه بآخر عملهم من حدود بجاية‏.‏وفرغ صاحب بجاية لشأنه وكان أثناء الفتنة معه قد بعث إلى تونس عن أبي زيان ابن عمه السلطان أبي سعيد لينزله بتدلس ويشغل به السلطان أبا حمو عن فتنته‏.‏وكان من خبر أبي زيان هذا أنه أقام بتونس بعد مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه إلى أن دس إليه مرضى القلوب من مشيخة بني عبد الواد بتلمسان بالأجلاب على السلطان أبي حمو ووعدوه من أنفسهم الجنوح معه فصغى إليها واعتدها وارتحل يريد تخوم تلمسان وعمل بجاية‏.‏ومر بقسطنطينة فتجافى عن الدخول إليها وتنكر لصاحبها‏.‏وبلغ خبره السلطان أبا العباس صاحبها يومئذ فأجمع أمره في صده عن وجهه وحبسه بقسنطينة واتصلت الفتنة بينه وبين ابن عمه صاحب بجاية‏.‏وكان شديد الوطأة على أهل بلده مرهف الحد لهم بالعقاب الشديد حتى لقد ضرب أعناق خمسين منهم قبل أن يستكمل سنتين في ملكه‏.‏فاستحكمت النفرة وساءت الملكة وأعضل الداء وفزع أهل البلد إلى مداخلة السلطان أبي العباس في إستنقاذهم من ملكة والهلاك بما كان أتيح له من الظهور على أميرهم فنهض إليها آخر سنة سبع وستين‏.‏وبرز الأمير أبو عبد الله للقائه بلبرو الجبل المطل على تاكررت‏.‏وصبحه السلطان أبو العباس بمعسكره هنالك فاستولى عليه وركض وهو فرسه ناجياً بنفسه‏.‏ومرت الجنود تعادي في أثره حتى أعركوه فأحاطوا به وقتلوه قعصاً بالرماح عفا الله عنه‏.‏وأجاز السلطان أبو العباس إلى البلد فدخلها منتصف يومه لعشرين من شعبان‏.‏ولاذ الناس به من دهش الواقعة وتمسكوا بدعوته وأتوه طاعتهم‏.‏فانجلت الغيابة واستقام الأمر وبلغ الخبرإلى السلطان أبي حمو فأظهر الامتعاض لمهلكه والقيام بثأره يسر من ذلك حسواً في ارتغاء‏.‏ونهض يجر الأمم إلى بجاية من العرب وزناتة والحشد حتى أناخ بها وملأ بخيامه الجهات بساحتها وجنح السلطان إلى مبارزته فتمسك به أهل البلد ولاذوا بمقامه فأسعفهم وطير البريد إلى قسنطينة فأطلق أبا زيان من الاعتقال وسوغه الملابس والمراكب والآلة‏.‏وزحف به مولاه بشير في عسكره إلى أن نزل حذاء معسكر أبي حمو‏.‏واضطربوا محلتهم بسفح بني عبد الجبار وشنوا الغارات على معسكر أبي حمو صباح مساء لما كان نمي إليهم من مرض قلوب جنده والعرب الذين معه‏.‏وبدا للسلطان أبي حمو ما لم يحتسب من امتناعها‏.‏وكان قد تقدم إليه بعض سماسرة الفتن بوعد على لسان المشيخة من أهل البلد أطمعه فيها ووثق بأن ذلك يغنيه عن الاعتداء فاستبق إليها وأغفل الحزم فيما دونها‏.‏فلما امتنعت عليه أطبق الجو على معسكره وفسدت السابلة على العير للميرة واستحكم الزبون في أحياء معسكره بظهور العدو المساهم في الملك‏.‏وتبادرت رجالات العرب سوء المغبة وسطوة السلطان فتمشوا بينهم في الانفضاض وتحينوا لذلك وقت المناوشة وكان السلطان لما كذبه وعد المشيخة أجمع قتالهم وأمر بضرب الفساطيط مضايقة للأسوار متسنمة وعراً من جبل لم يرضه أهل الرأي‏.‏وخرج رجال البلد على حين غفلة فتجاولوا من كان بتلك الأخبية من المقاتلة فانهزموا أمامهم وتركوها بأيديهم فمزقوها بالسيوف‏.‏وعاين العرب على البعد انتهاب الفساطيط فأجفلوا وانفض المعسكر بأجمعه‏.‏وحمل السلطان أبو حمو أثقاله للرحلة ثم أجهدوه عنها فتركها وانتهب مخلفه أجمع‏.‏وتصايح الناس بهم من كل حدب وضاقت المسالك من ورائهم وأمامهم وكظت بزحامهم وتواقعوا لجنوبهم فهلك الكثير منهم وكانت من غرائب الواقعات تحدث الناس بها زماناً‏.‏وسيقت حظاياه إلى بجاية واستأثر منهن الأمير أبو زيان بحظيته الشهيرة ابنة يحيى الزابي ينسب إلى عبد المؤمن بن علي‏.‏وكان أصهرفيها إلى أبيها أيام تقلبه في الاغتراب ببلاد الموحدين كما سبق وكانت أعلق بقلبه من سواها فخرجت في مغانم الأمير أبي زيان‏.‏وتحرج عن مواقعتها حتى أوجده أهل الفتيا السبيل إلى ذلك بحيث زعموا وقع من السلطان أبي حمو في نسائه‏.‏وخلص السلطان أبو حمو من هوة ذلك العطب بعد غصة الريق ونجا الى الجزائر لا يكاد يرد النفس من شناعة ذلك الهول‏.‏ثم خرج منها ولحق بتلمسان واقتعد سرير ملكه‏.‏واشتدت شوكة أبي زيان ابن عمه وتغلب على القاصية واجتمعت إليه العرب وكثر تابعه‏.‏وزاحم السلطان أبا حمو بتلك الناحية الشرقية سنين تباعاً نذكر الآن أخبارها‏.‏


الخبر عن خروج أبي زيان بالقاصية الشرقية من بلاد حسين وتغلبه علي المدية
والجزائر ومليانة وما كان من الحروب معه لما انهزم السلطان أبوحمو بساحة بجاية عشي يومه من أوائل ذي الحجة خاتم سبع وستين قرع الأمير أبو زيان طبوله واتبع أثره وانتهى إلى بلاد حصين من زغبة‏.‏وكانوا سئمين من الهضيمة والعسف إذ كانت الحول تجريهم مجرى الرعايا المعتدة في المغرم وتعدل بهم عن سبيل إخوانهم من زغبة أمامهم ووراءهم فارتكبوا صعب الشقاق لمغبة العز وبايعوه على الموت الأحمر ووثقوا بمعتصمهم من جبل تيطرى إن دهمهم عسكر السلطان‏.‏ثم أجلبوا على المدية كان بها عسكر ضخم للسلطان أبي حمو لنظر وزرائه‏:‏ عمران بن موسى بن يوسف وموسى بن برغوث ووادفل بن عبو بن حماد ونازلوهم أياماً ثم غلبوهم على البلد‏.‏وملكها الأمير أبو زيان ومن على الوزراء ومشيخة بني عبد الواد وترك سبيلهم إلى سلطانهم‏.‏وسلك الثعالبة في سبيل حصين في التجافي عن ذل المغرم فأعطوه يد الطاعة والانقياد للأمير أبي زيان‏.‏وكانت في نفوس أهل الجزائر نفرة من جور العمال عليهم فاستمالهم بها سالم بن إبراهيم بن نصر أمير الثعالبة إلى طاعة الأمير أبي زيان‏.‏ثم دعا أبو زيان أهل مليانة إلى مثلها فأجابوه‏.‏واستمل السلطان أبو حمو نظره في الفكرة الحاسمة لرأيهم فبعث في العرب وبذل المال وأقطع البلاد على اشتطاط منهم في الطلب‏.‏وتحرك إلى بلاد توجين ونزل قلعة ابن سلامة سنة ثمان وستين يحاول طاعة أبي بكر بن عريف أمير سويد‏.‏فلم يلبث أن انحرف عنه أيضاً خالد بن عامر ولحق بأبي بكر بن عريف واجتمعا على الخلاف عليه ونفض طاعته‏.‏وشنوا الغارة على معسكره فاضطرب وأجفلوا وانتهبت محلاته وأثقاله ورجع إلى تلمسان‏.‏ثم نهض إلى مليانة فافتتحها وبعث إلى رياح على حين طاعتهم إليه من يعقوب بن علي بن أحمد وعثمان بن يوسف بن سليمان بن علي أميري الدواودة لما كان وقع بينهما وبين السلطان مولانا أبي العباس من النفرة فاستنهضوه للحركة على الأميرأبي زيان وبعدها إلى بجاية‏.‏وضمنوا له طاعة البدو من رياح وبعثوا إليه ذمتهم على ذلك فردها وثوقاً بهم ونهض من تلمسان وقد اجتمع إليه الكثير من عرب زغبة‏.‏ولم يزل أولاد عريف بن يحيى وخالد بن عامر في أحيائهم منحرفين عنه بالصحراء‏.‏وصمم إليهم فأجفلوا أمامه وقصد المخالفين من حصين والأمير أبي زيان إلى معتصمهم بجبل تيطرى‏.‏واغذ إليه السيريعقوب بن علي وعثمان بن يوسف بمن معهم من جموع رياح حتى نزلوا بالقطعة حذاهم‏.‏وبادر أولاد عريف وخالد بن عمر إلى الدواودة ليشردوهم عن البلاد قبل أن تتصل يد السلطان بيدهم فصبحوهم يوم الخميس اخريات ذي القعدة من سنة تسع وستين ودارت بينهم حرب شديدة وأجفل الدواودة أولاً ثم كان الظهور لهم آخراً‏.‏وقتل في المعركة من زغبة عدد ويئسوا من صدهم عما جاءوا إليه فانعطفوا إلى حصين والأمير أبي زيان وصعدوا إليهم بناجعتهم وصاروا لهم مدداً على السلطان أبي حمو وشنوا الغارة على معسكره فصمدوا نحوه وصدقوه القتال فاختل مصافه وانهزمت عساكره ونجا بنفسه إلى تلمسان على طريق الصحراء‏.‏وأجفل الدواودة إلى وطنهم وتحيز كافة العرب من زغبة إلى الأمير أبي زيان واتبع آثار المنهزمين ونزل بسيرات‏.‏وخرج السلطان أبو حمو في قومه ومن بقي معه من بني عامر‏.‏وتقدم خالد إلى مصادمته ففله السلطان وأجفل القوم من ورائه‏.‏ثم تلطف في مراسلته وبذل له المال وأوسع له في الاشتراط فنزع إليه والتبس بخدمته‏.‏ورجع الأمير أبو زيان إلى أوليائه من حصين متمسكاً بولاية أولاد عريف‏.‏ثم نزع محمد بن عريف إلى طاعة السلطان‏.‏وضمن له العدول بأخيه عن مذاهب الخلاف عليه وطال سعيه في ذلك فاتهمه السلطان‏.‏وحمله خالد بن عامر عدوه على نكبته فتقبض عليه وأودعه السجن‏.‏واستحكمت نفرة أخيه أبي بكر ونهض السلطان بقومه وكافة بني عامر إليه سنة سبعين‏.‏واستغلظ أمر أبي بكر لجموع الحارث من بني مالك ومن وراءهم من حصين واعتصموا بالجبال من دراك وتيطرى‏.‏ونزل السلطان بجموعه لعود‏:‏ بلاد الديالم من الحرث فانتسفها والتهمها وحطم زروعها ونهب مداشيرها‏.‏وامتنع عليه أبو بكر ومن معه من الحارث وحصين والأمير أبو زيان بينهم فارتحل عنهم وعطف على‏:‏ أولاد عريف وقومهم من سويد فملأها عيثا‏.‏وخرب قلعة ابن سلامة بما كانت أحسن أوطانهم‏.‏ورجع إلى تلمسان وهو يرى إن كان قد شفا نفسه في أولاد عريف وغلبهم على أوطانهم ورفع عليهم منزلة عدوهم فكان من لحاق أبي بكر بالمغرب وحركة بني مرين مانذكره‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:50 PM

الخبر عن حركة السلطان عبد العزيز على تلمسان واستيلائه عليها
ونكبة أبي حمو وبني عامر بالدوسن من بلاد الزاب وخروج أبي زيان من تيطرى إلي أحياء رياح ولما تقبض أبوحمو على محمد بن عريف وفرق شمل قومه سويد وعاث في بلادهم أجمع رأى أخوه الأكبر أبو بكر على الصريخ بملك المغرب فارتحل إليه بناجعته من بني مالك أجمع من أحياء سويد والديالم والعطاف حتى احتل بسائط ملوية من تخوم المغرب‏.‏وسار إلى أخيه الأكبر ونزمار بمقره من قصر مراده الذي اختطه بإرجاع وادي ملوية في ظل دولة بني مرين وتحت جوارهم لما كان ملاك أمرهم بيده ومصادرهم عن آرائه خطة ورثها عن أليه عريف بن يحيى مع السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن وابنه أبي عنان‏.‏فتقبل ملوك المغرب مذاهب سلفهم فيه وتمنوا برأيه واستناموا إلى نصيحته‏.‏فلما قدم عليه أخوه أبو بكر مستجيشاً بملك المغرب وأخبره باعتقال أخيه الآخر محمد قدح عزائمه وأوفد أخاه أبا بكر ومشيخة قومهم من بني مالك على السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن منصرفه من افتتاح جبل هتاتة وظفره بعامر بن محمد بن علي النازع إلى الشقاق في معتصمه فلقوه في طريقه ولقاهم مبرة وتكرمة‏.‏واستصرخوه لاستنقاذ أخيهم فأجاب صريخهم ورغبوه في ملك تلمسان وما وراءها فوافق صاغيته إلى ذلك بما كان في نفسه من الموجدة على السلطان أبي حمو بقبوله على من ينزع إليه من عربان المعقل أشياع الدولة وبدوها وما كان بعث إليه في ذلك وصرف عن استماعه فاعتزم على الحركة إلى تلمسان وألقى زمامه بيد ونزمار وعسكر بساحة فاس‏.‏وبعث الحاشرين في الثغور والنواحي من المغرب فتوافت الحشود ببابه وارتحل بعد قضاء النسك من الأضحى سنة إحدى وسبعين‏.‏واتصل الخبر بالسلطان أبي حمو وكان معسكراً بالبطحاء فانكفأ راجعاً إلى تلمسان فبعث في أوليائه من عبيد الله والأحلاف من عرب المعقل فصموا عن إجابته ونزعوا إلى ملك المغرب فأجمع رأيه على التحيز إلى بني عامرة وأجفل غرة المحرم سنة اثنتين وسبعين‏.‏واحتل السلطان عبد العزيز تلمسان في يوم عاشوراء بعدها‏.‏وأشار ونزمار بن عريف بتسريح العساكر في اتباعه فسرح السلطان وزيره أبا بكر بن غازي بن الكاس حتى انتهى إلى البطحاء‏.‏ثم لحق به هناك ونزمار وقد حشد العرب كافة وأغذ السير في اتباع السلطان أبي حمو وبني عامر‏.‏وكانوا قد أبعدوا المذهب ونزلوا على الدواودة وسرحني إليهم يومئذ السلطان عبد العزيز يحملهم على طاعته والعدول بهم عن صحابة بني عامروسلطانهم‏.‏وسرح فرج بن عيسى بن عريف إلى حصين لاقتضاء طاعتهم واستدعاء أبي زيان إلى حضرته أو نبذهم عهده وانتهينا جميعاً إلى بني زيان ففارقه أولياؤه ولحق بأولاد يحيى بن علي بن سباع من الدواودة‏.‏وانتهيت أنا إليهم فحفظت عليهم الشأن في جواره كما كانت مرضاة السلطان وحذرتهم شأن أبي حمو وبني عامر وأوفدت مشيختهم على ونزمار والوزير أبي بكر بن غازي فدلوهما على طريقه وأغذوا السير بيتوهم بمنزلهم على الدوسن آخرعمل الزاب من جانب المغرب ففضوا جموعهم وانتهبوا جميع معسكر السلطان أبي حمو بأمواله وأمتعته وظهره‏.‏ولحق فلهم بمصاب ورجعت العساكرمن هنالك فسلكت على قصور بني عامر بالصحراء قبلة جبل راشد التي منها ربا ولون سمعون وما إليهما فانتهبوها وخربوها وعاثوا فيها وانكفوا راجعين إلى تلمسان‏.‏وفرق السلطان عماله في بلاد المغرب الأوسط من وهران ومليانة والجزائر والمدية وجبل وانشريش‏.‏واستوسق به ملكه وانزاح عنه عدوه‏.‏ولم يبق به يومئذ إلا ضرمة من نار الفتنة ببلاد مغراوة بوعد من ولد علي بن راشد سخط خالد في الديوان ولحق بجبل بني سعيد‏.‏واعتصم به فجمر السلطان الكتائب لحماره وسرح وزيره عمر بن مسعود لذلك كما ذكرناه في أخبار مغراوة واحتقر شأنه‏.‏وأوفدت أنا عليه يومئذ مشيخة الدواودة فأوسعهم حباً وكرامة وصدروا مملوءة حقائبهم خالصة قلوبهم‏.‏منطلقة بالشكر ألسنتهم‏.‏واستمر الحال إلى أن كان ما نذكره‏.‏


الخبر عن اضطراب المغرب الأوسط ورجوع أبي زيان إلى تيطرى
وأجلاب أبي حمو على تلمسان ثم انهزامهما وتشريدهما علي سائر النواحي كان بنو عامر بن زغبة شيعة خالصة لبني عبد الواد مذ أول أمرهم وخلص سويد لبني مرين كما قدمناه فكان من شأن عريف وبنيه عند السلطان أبي الحسن وبنيه ما هو معروف‏.‏فلما استبيحت أحياؤهم بالدوسن مع أبي حمو ذهبوا في القفر إشفاقاً ويأساً‏.‏من قبول بني مرين عليهم لكان ونزمار بن عريف وإخوانه من الدولة فحدثوا على سطانهم أبي حمويتقلبون معه في القفار‏.‏ثم نزع إليهم رحو بن منصور فيمن طاعه من رمه عبيد الله من المعقل‏.‏وأجلبوا على وجدة فاضطرم للنفاق على الدولة ناراً وخشي حصين مغبة أمرهم مع السلطان بما اتسموا به من الشقاق والعناد فمدوا أيديهم إلى سلطانهم أبي زيان وأوفدوا مشيختهم لاستدعائه من حلة أولاد يحيى بن علي فاحتل بينهم وأجلبوا له على المدية فملكوا نواحيها وامتننع عليهم مصرها واستمر الحال على ذلك‏.‏واضطرب المغرب الأوسط على السلطان وانتقضت به طاعته‏.‏وسرح الجيوش والعساكر إلى قتال مغراوة وحصين واجتمع مع أبو حمو وبنو عامر على قصده بتلمسان حتى إذا احتلوا قايباً منها دس السلطان عبد العزيز بعض شيعته إلى خالد بن عامر ورغبه في المال والحظ منه وكان أبو حمو قد أسفه بمخالطة بعض عشيره وتعقب رأيه برأي من لم يسم إلى خطته‏.‏ولم يرتض كفاءته فجنح إلى ملك المغرب ونزع يده من عهد أبي حمو‏.‏وسرح السلطان عبد العزيز عسكره إلى خالد فأوقع بأبي حمو ومن كان معه من العرب عبيد الله وبني عامر وانتهب معسكره وأمواله واحتقبت حرمه وحظاياه إلى قصر السلطان‏.‏وتقبض على مولاه عطية فمن عليه السلظان وأصاره في حاشيته ونجا بنفسه إلى تيكورارين آخر بلاد الصحراء فنزل بها منفرداً عن أهله وحاشيته ووزرائه‏.‏وأصفقت زناتة على خدمة ملك المغرب‏.‏ووافق هذا الفتح عند السلطان فتح بلاد مغراوة وتغلب وزيره أبي بكر بن غازي على جبل بني بوسعيد وتقبض على حمزة بن علي بن راشد في لمة من أصحابه فضرب أعناقهم وبعث بها إلى سدة السلطان وصلب أشلاءهم بساحة مليانة فتظاهر الفتح واكتمل الظهور‏.‏وأوعز السلطان إلى وزيره أبي بكر بن غازي بالنهوض إلى حصين فنهض إليهم وخاطبني وأنا مقيم ببسكرة في دعايته بأن احتشد أولياءه من الدواودة ورياح والتقى الوزير والعساكر على حصين تيطرى فنازلاه أشهراً‏.‏ثم انفض جموعهم وفروا من حصنهم وتمزقوا كل ممزق وذهب أبو زيان على وجهه ولحق ببلاد واركلي قبلة الزاب لبعدها عن منال الجيوش والعساكر فأجاروه وأكرموا نزله‏.‏وضرب الوزير على حصين والثعالبة المغارم الثقيلة فأعطوها عن يد وبهظهم باقتضائها ودوخ قاصية الثغور ورجع إلى تلمسان عالي الكعب عزيز السلطان ظاهر اليد‏.‏وقعد له السلطان بمجلسه يوم وصوله قعوداً فخماً وصل فيه إليه وأوصل من صحبه من وفود العرب والقبائل فقسم فيهم بره وعنايته وقبوله كل على شاكلته‏.‏واقتضى من أمراء العرب زغبة أبناءهم الأعزة رهناً على الطاعة‏.‏وسرحهم لغزو أبي حمو بمنتبذه من تيكورارين فانطلقوا لذلك‏.‏وهلك السلطان عبد العزيز لليال قلائل من مقدم وزيره وعساكره أواخر شهر ربيع الآخر من سنة أربع وسبعين لمرض مزمن كان يتفادى بالكتمان والصبر من ظهوره‏.‏وانكفأ بنو مرين راجعين إلى ممالكهم بالمغرب بعد أن بايعوا لولده دارجاً خماسياً ولقبوه بالسعيد وجعلوا أمره إلى أبي بكر بن غازي فملك أمرهم عليهم‏.‏واستمر حاله كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبرعن عودة السلطان أبي حمو الأخير إلى تلمسان الكرة الثالثة لبني عبد الواد في الملك
لما هلك السلطان عبد العزيز ورجع بنو مرين إلى المغرب نصبوا من أعياص بني يغمراسن لمدافعة أبي حمو من بعدهم عن تلمسان إبراهيم ابن السلطان أبي تاشفين كان ناشئاً بدولتهم منذ مهلك أبيه‏.‏وتسلل من جملتهم عطية بن موسى مولى السلطان أبي حمو وخالفهم إلى البلد غداة رحيلهم فقام بدعوة مولاه‏.‏ودافع إبراهيم بن تاشفين عن مرامه وبلغ الخبرإلى أولياء السلطان أبي حمو من عرب المعقل أولاد يغمور بن عبيد الله فطيروا إليه النحيب على حين غلب عليه اليأس‏.‏وأجمع الرحلة إلى بلاد السودان لما بلغه من اجتماع العرب للحركة عليه كما قلناه فأغذ السير من مطرح اغترابه‏.‏وسابقه ابنه ولي عهده في قومه عبد الرحمن أبو تاشفين مع ظهيرهم عبد الله بن صغير فدخلوا إلى البلد‏.‏وتلاهم السلطان لرابعة من دخولهم وعاود سلطانه واقتعد أريكته وكانت إحدى الغرائب‏.‏وتقبض ساعتئذ على وزرائه اتهمهم بمداخلة خالد بن عامر فيما نقض من عهده وظاهر عليه عدوه فأودعهم السجن وذبحهم ليومهم حنقاً عليهم‏.‏واستحكمت لها نفرة خالد وعشيره وخلصت ولاية أولاد عريف بن يحيى لمنافرة بني عامر إياه وإقبال السلطان عبد العزيز عليه‏.‏ووثق بمكان ونزمار كبيرهم في تسكين عادية ملوك العرب عنه ورجع إلى تمهيد وطنه‏.‏وكان بنو مرين عند انفضاضهم إلى مغربهم قد نصبوا من أقيال مغراوة ثم من بني منديل علي ين هارون بن ثابت بن منديل وبعثوه إلى شلف مزاحمة للسلطان أبي حمو ونقضاً لأطراف ملكه‏.‏وأجلب أبو زيان ابن عمه على بلاد حصين فكان


الخبر عن رجوع أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد إلى بلاد حصين ثم خروجه عنها
كان الأمير أبو زيان ابن السلطان أبي سعيد لما هلك السلطان عبد العزيز وبلغه الخبر بمنجاته من واركلي نهض منها إلى التلول وأسف إلى الناجعة‏.‏التي كان منتزياً بها ومساهماً لأبي حمو فيها فاقتطعها لدعوته كما كانت‏.‏ورجع أهلها إلى ما عرفوا من طاعته فنهض السلطان أبو حمو إلى تمهيد نواحيه وتثقيف أطراف ملكه ودفع الخوارج عن ممالكه وظاهره على ذلك أمير البدو من زغبة أبو بكر ومحمد ابنا عريف بن يحيى‏.‏دس إليهما بذلك كبيرهما ونزمار وأخذهما بمناصحة السلطان ومخالصته فركبا من ذلك أوضح طريق وأسهر مركب‏.‏ونبذ السلطان العهد إلى خالد وعشيره فضاقت عليهم الأرض ولحقوا بالمغرب لسابقة نزوعهم إلى السلطان عبد العزيز‏.‏وابتدأ السلطان بما يليه فأزعج بمظاهرتهما علي بن هارون عن أرض شلف سنة خمس وسبعين بعد حروب هلك في بعضها أخوه رحمون بن هارون‏.‏وخلص إلى بجاية فركب منها السفين إلى المغرب ثم تخطى السلطان أبو حمو إلى ما وراء شلف‏.‏وسفر محمد بن عريف بينه وبين ابن عمه بعد أن نزع إليه الكثير من أوليائه حصين والثعالبة بما بذل لهم من المال وبما سيموا من طول الفنة فشارطه على الخروج من وطنه إلى جيرانهم من رياح على أتاوة تحمل إليه فقبل ووضع أوزار الحرب وفارق مكان ثورته‏.‏وكان لمحمد بن عريف فيها أثر محمود واستألف سالم بن إبراهيم كبير الثعالبة المتغلب على بسيط متيجة وبلد الجزائر بعد أن كان أخب في الفتنة وأوضع فاقتضى له من السلطان عهده من الأمان والولاية على قومه وعمله‏.‏وقلد السلطان ابنيه ثغور أعماله فأنزل ابنه بالجزائر لنظر سالم بن إبراهيم من تحت استبداده وابنه أبا زيان بالمدية‏.‏وانقلب السلطان إلى حضرته بتلمسان بعد أن دوخ قاصيته وثقف أطراف عمله وأصلح قلوب أوليائه وأستألف شيعة عدوه فكان فتحاً لا كفاء له من بعد ما خلع من ربقة الملك ونزع من لبوس السلطان‏.‏فانتبذ عن قومه وممالكه إلى قاصية الأرض ونزل في جوار من لا ينفذ أمره ولا يقوم بطاعته‏.‏والله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء ويذل عن يشاء‏.‏


الخبر عن أجلاب عبد الله بن صغير
وانتقاض أبي بكر بن عريف وبيعتهما للأمير أبي زيان ورجوع أبي بكر إلي الطاعة كان خالد بن عامر وعبد الله ابن أخيه صغير وسائر إخوانهم من ولد عامر بن إبراهيم لحقوا بالمغرب صريخاً ببني مرين لما وقع بينهم وبين أبي حمو من الفعلة التي فعل خالد معه‏.‏ويئس عبد الله بن صغير من صريخهم بما عقد ونزمار بن عريف من السلم بين صاحب المغرب وصاحب تلمسان فخاض القفر بمن معه من قومه ولحق بوطن زغبة وأجلب على جبل راشد وبه العمور أحلاف سويد من بني هلال‏.‏فاعترضتهم سويد ودارت بينهم حرب شديدة كان الظهور فيها لسويد عليهم‏.‏وفي خلال ذلك فسد بين السلطان وبين أبي بكر بن عريف بسبب صاحب وانشريش يوسف بن عامر بن عثمان أراده السلطان على النزول عن عمله فغضب له أبو بكر لقديم الصداقة بين سلفهما ووصل يده بعبد الله بن صغير بعد الواقعة‏.‏ودعاه إلى بيعة أبي زيان فأجابه وأوفدوا رجالاتهم عليه بمكانه من مجالات رياح فوصل معهم ونصبوه للأمر وتحيز محمد بن عريف إلى السلطان في جموع سويد‏.‏ونهض السلطان من تلمسان فاتح سنة سبع وسبعين فيمن معه من قبائل بني عبد الواد وعرب المعقل وزغبة ودس إلى أولياء أبي زيان يرغبهم في المواعد‏.‏وحكم أبا بكر في الاشتراط عليه ففاء الطاعة والمخالصة‏.‏ورجع أبو زيان إلى مكانه من حلل الدواودة وأغذ السلطان السير إلى حضرته فتملى أريكته وحدث بعد ذلك ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:51 PM

الخبر عن وصول خالد بن عامر من المغرب والحرب التي دارت بينه وبين سويد وأبي تاشفين
هلك فيها عبد الله بن صغير وإخوانه لما بلغ خالد بن عامر بمكانه من المغرب خبر عبد الله ابن أخيه صغير قفل من المغرب يئساً من مظاهرة بني مرين فخفق السعي في صريخه بهم لما كانوا عليه من افتراق الأمر كما ذكرناه قبل‏.‏ووصل معه ساسي بن سليم في قومه بني يعقوب ولظاهر حيان على العيث في بلاد السلطان أبي حمو‏.‏واجتمع إليهم أبناء الفتنة من كل أوب وأجلبوا على الأطراف وشنوا الغارة في البلاد‏.‏وجمع أولاد عريف لحربهم قومهم من ويد وأحلافهم من العطاف وبعثوا بالصريخ إلى السلطان فسرح لحرب عدوه وعدوهم ابنه أبا تاشفين ولي عهده في قومه وبرز لذلك في العساكر والجنود‏.‏ولما انتهى إلى بلاد هوارة واضطرب معسكره بها أعجله صريخ أوليائه من مناخ الركاب فاستعجل الرحلة ولحق بأوليائه أولاد عريف ومن معهم من أشياع الدولة من زغبة‏.‏وأغذ السير إلى وادي مينا بشرقي القلعة فتراءى الجمعان وتواقفوا للقاء سائر يومهم‏.‏واستضاءوا بإضرام النيران مخافة البيات وأصبحوا على تعبية‏.‏وتمشت الرجالات في مواضعة الحرب فأعجلهم مناشبة القوم وتزاحفت الصفوف وأعلم الكماة وكشفت الحرب عن ساقها وحمي الوطيس وهبت الريح المبشرة فخفقت لها رايات الأمير وهدرت طبوله‏.‏ودارت رحى الحرب وصمدت إليها كتائب العرب فتردى فيها الأبطال منهم وانكشفوا وأجلت المعركة عن عبد الله بن صغير صريعاً فأمر أبو تاشفين فاجتز رأسه وطير به البريد إلى أبيه‏.‏ثم عثرت المراكب بأخيه ملوك من صغير مع العباس ابن عمه موسى بن عامر ومحمد بن زيان من وجوه عشيرهم متواقعين لجنوبهم متضاجعين في مراقدهم كأنما اتعدوا للردى فوطئتهم سنابك الخيل وغشيهم قتام المواكب‏.‏وأطلقت العساكر أعنتها في أتباع القوم فاستاقوا نعمهم وأموالهم‏.‏وكثرت يومئذ الأنفال وغشيهم الليل فتستروا بجناحه‏.‏ولحق فلهم بجبل راشد واضطرب أبو تاشفين ابنتيه بمنتهى ظهوره وملأه السرور بما صنع الله على يده وما كان له ولقومه من الأثر في مظاهرة أوليائه‏.‏وطار له بها ذكر على الأيام ورجع إلى أبيه بالحضرة مملوء الحقائب بالأنفال والجوانح بالسرور والأيام بالذكر عنه وعن قومه ومضى خالد لوجهه في فل من قومه‏.‏ولحق بجبل راشد إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله‏.‏والله أعلم‏.‏


الخبر عن انتقاض سالم بن إبراهيم ومظاهرته خالد في عامر على الخلاف وبيعتهما للأمير أبي زيان
ثم ملك خالد ومراجعة سالم الطاعة وخروج أبي زيان إلى بلاد الجريد كان سالم بن إبراهيم هذا كبير الثعالبة المتغلبين على فحص متيجة منذ انقراض مليكش وكانت الرياسة فيهم لأهل بيته حسبما ذكرناه في أخبارهم عند ذكر المعقل‏.‏ولما كانت فتنة أبي زيان بعد نكبة أبي حمو على بجاية وهبت ريح العرب واستغلظ أمرهم كان سالم هذا أول من غمس يده في تلك الفتنة ومكر بعلي بن غالب من بيوتات الجزائر كان مغرباً عنها من لدن تغلب بني مرين على المغرب الأوسط أيابم أبي عنان‏.‏ولحق بها عندما أظلم الجو بالفتنة واستحكمت نفرة أهل الجزائر عن أبي حمو فأظهر بها الاستبداد واجتمع إليه الأوشاب والطغام‏.‏ونكره سالم أمير الضاحية لطمعه في الاستيلاء على الجزائر فداخل في شأنه الملأ من أهل المدينة وحذرهم منه أنه يروم لدعوة للسلطان أبي حموة فاستشاطوا نفرة وثاروا به حتى إذا رأى سالم أنه قد أحيط به وتخلصه من أيديهم وأخرجه إلى حيه وأتلفه هنالك‏.‏وحول دعوة الجزائر إلى الأمير أبي زيان تحت استبداده حتى إذا كان من أمر بني مرين وحلول السلطان عبد العزيز بتلمسان ما قدمناه أقام دعوتهم في الجزائر إلى حين مهلكه ورجوع أبي حمو إلى تلمسان‏.‏وأقبل حينئذ جيش أبي زيان إلى تيطرى فأقام سألم هذا دعوته في أحيائه وفي بلد الجزائر خشية على نفسه من السلطان أبي حمو لما كان يعتمد عليه في الإدالة من مره بالجزائر بأمر ابن عمه‏.‏ولما كان من خروج أبي زيان إلى أحياء رياح على يد محمد بن عريف ما قدمناه واقتضى سالم عهده من السلطان وولي ابنه على الجزائر أقام سالم على أمره من الاستبداد بتلك الأعمال واستضافة جبايتها لنفسه‏.‏وأوعز السلطان إلى عماله باستيفاء جبايتها فاستراب وبقي في أمره على المداهنة‏.‏وحدثت إثر ذلك فتنة خالد بن عامرة فتربص دوائرها رجاء أن يكون الغلب له فيشتغل السلطان عنه‏.‏ثم بدا له ما لم يحتسب وكان الغلب للسلطان ولأوليائه‏.‏وكان قد حدثت بينه وبين محمد بن عريف عداوة فخشي أن يحمل السلطان على النهوض إليه بادر بالانتفاض على أبي حمو‏.‏واستقدم الأمير أبا زيان فقدم عليه وجأجأ بخالد بن عامر والمخالفين معه من العرب فوصلوا إليه أول سنة ثمان وسبعين وعقد بينهم حلفاً مؤكدا وأقام الدعوة للأمير أبي زيان بالجزائر‏.‏ثم زحفوا إلى حصار مليانة وبها حامية السلطان فامتنعت عليهم ورجعوا إلى الجزائر فهلك خالد بن عامر على فراشه ودفن بها‏.‏وولي أمر قومه من بعده المسعود ابن أخيه صغير ونهض إليهم السلطان أبو حمو من تلمسان في قومه وأوليائه من العرب فامتنعوا بجبال حصين‏.‏وناوشتهم جيوش السلطان القتال بأسافل الجبل فغلبوهم عليها وانفضت الناجعة عنهم من الديالم‏.‏العطاف وبني عامر فلحقوا بالقفر‏.‏ورأى سالم وأصحابه أن قد أحيط بهم فلاذ الطاعة وحمل عليها أصحابه‏.‏وعقد لهم السلطان من ذلك ما أرادوه على أن يفارقوا الأمير أبا زيان ففعلوا‏.‏وارتحل عنهم فلحق ببلاد ريغ ثم أجازها إلى نفطة من بلاد الجريد ثم إلى توزر فنزل على مقدمها يحيى بن يملول فأكرم نزله وأوسع قراه إلى أن كان من أمره ما نذكر‏.‏ورجع السلطان أبو حمو إلى تلمسان وفي نفسه من سالم حزازة لكثرة اضطرابه ومسارعته إلى الفتن حتى توسط فصل الشتاء وأبعدت العرب في مشاتيها فنهض من تلمسان في جيوش زناتة وأغذ السير فصبح فحص متيجة بالغارة الشعواء‏.‏وأجفلت الثعالبة فلحقوا برؤوس الجبال وامتنع سالم بجبل بني خليل‏.‏وبعث ابنه وأولياءه إلى الجزائر فامتنعوا بها وحاصروها أياماً‏.‏ثم غلبوه على مكامنه فانتقل إلى بني ميسرة من نجبال صنهاجة‏.‏وخلف أهله ومتاعه وصار الكثير من الثعالبة إلى الطاعة وأسهلوا بأمان السلطان وعهده إلى فحص متيجة‏.‏وبعث هو أخاه ثابتاً إلى السلطان فاقتضى له العهدة ونزل من رأس ذلك الشاهق إلى ابنه أبي تاشفين فأوصله إلى السلطان إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان فأخفر عهده وذمة ابنه وتقبض عليه صبيحة ليلته‏.‏وبعث قائده إلى الجزائر فاستولى عليها وأقام دعوته بها وأوفد عليه شيختها فتقبض عليهم وعقد على الجزائر لوزيره موسى بن برغوث ورجع إلى تلمسان فقضى بها عيد النحر‏.‏ثم أخرج سالم بن إبراهيم من محبسه إلى خارج البلاد وقتل قعصاً بالرماح ونصب كل‏!‏ لوه وأصبح مثلا في الآخرين‏.‏والبقاء لله‏.‏وعقد السلطان لابنه المنتصر على مليانة وأعمالها ولابنه أبي زيان على وهران‏.‏وراسله ابن يملول صاحب توزر وصهره ابن مزني صاحب بسكرة وأولياؤهما من الكعوب والدواودة لما أهمهم أمر السلطان أبي العباس‏.‏وخافوه على أمصارهم فراسلوا أبا حمو يضمنون له مسالمة أبي زيان على أن يوفي له بما اشترط له من المال وعلى أن يشب نار الفتنة من قبله على بلاد الموحدين ليشغل السلطان أبا العباس عنهم على حين عجز أبو حمو عن ذلك وضعف الدولة عنه‏.‏فأوهمهم من نفسه القدرة وأطمعهم في ذلك‏.‏وما زال يراجعهم ويراجعونه بالمقاربة والوعد إلى أن احيط بابن يملول واستولى السلطان على بلده فلحق ببسكرة وهلك بها لسنة من خروجه آخر سنة إحدى وثمانين‏.‏وبقي ابن مزني من بعده متعللاً بتلك الأماني الكاذبة إلى أن ظهر أمره وتبين عجزه‏:‏ فراجع طاعة السلطان أبي العباس واستقام على الموادعة‏.‏ولحق الأمير أبو زيان بحضرة السلطان بتونس فنزل بها أكرم نزل مؤملاً منه المظاهرة على عدوه‏.‏والحال بالمغرب الأوسط لهذا العهد على ما شرحناه مراراً من تغلب العرب على الضواحي والكثير من الأمصار‏.‏وتقلص ظل الدولة عن القاصية وارتدادها على عقبها إلى مراكزها بسيف البحر وتضاؤل قدرتها عن قدرتهم وإعطاء اليد في مغالبتهم ببذل رغائب الأموال وإقطاع البلاد والنزول عن الكثير من الأمصار والقنوع بالتضريب بينهم والإغراء بعضهم ببعض‏.‏والله ولي الأمور‏.‏


قسمة السلطان الأعمال بين ولده وما حدث بينهم من التنافس
كان لهذا السلطان أبي حمو جماعة من الولد كبيرهم أبو تاشفين عبد الرحمن‏.‏ثم بعده أربعة لأم واحدة كان تزوجها بميلة من أعمال قسنطينة أيام جولته في بلاد الموحدين كبيرهم المنتصر‏.‏ثم أبو زيان محمد‏.‏ثم عمر ويلقب عمير‏.‏ثم بعدهم ولد كثيرون أبناء علات‏.‏وكان أبو تاشفين ولي عهده وقد رفعه على الباقين وأشركه في أمره وأوجب له الحق على وزراء دولته فكان لذلك رديفه في ملكه ومظهر سلطانه‏.‏وكان مع ذلك يتعاهد أولئك الإخوة الأشقاء بحنوه ويقسم لهم من ترشيحه والنجي في خلوته فيغص أبو تاشفين منهم‏.‏فلما استفحل أمر السلطان وانمحت من دولته آثار الخلاف أعمل نظره في قسمة الأعمال بين ولده وترشيحهم للأمارة والبعد بهم عن أخيهم أبي تاشفين أن يصيبهم مكروهه عند إيناس الغيرة منهم‏:‏ فولي المنتصر كبيرهم على مليانة وأعمالها أنفذه إليها ومعه أخوه عمر الأصغر في كفالته‏.‏وولى أخاهما الأوسط أبا زيان على المدية وما إليها من بلاد حصين‏.‏وولى ابنه يوسف بن الزابية على تدلس ما إليها من آخر أعماله‏.‏واستقر أبوهما على ذلك‏.‏ثم كان من انتقاض سالم الثعالبي بالجزائر ما قدمناه فنمي إلى السلطان أن ابنه أبا زيان داخله في الخلاف فلما فرغ من أمر سالم كما مر وطرد أبا زيان ابن عمه عن أعماله إلى الجريد أعمل نظره في نقل ابنه أبي زيان من المدية إلى ولاية وهران وأعمالها بعداً به عن العرب المجلبين في الفتن وأنزل معه بعض وزرائه عيناً عليه وأقام والياً عليها‏.‏والله أعلم‏.‏


وثبة أبي تاشفين بيحيى بن خلدون كاتب أبيه
كان أول شيء حدث من منافسة أبي تاشفين لإخوته أن السلطان لما ولى ابنه أبا زيان على وهران وأعمالها طلبه أبو تاشفين في ولايتها لنفسه فأسعفه ظاهراً وعهد إلى كاتبه يحيى بن خلدون بمماطلته في كتابها حتى يرى المخلص من ذلك فأقام الكاتب يطاوله‏.‏وكان في الدولة لئيم من سفلة الشرط يدعى بموسى بن يخلف صحبهم أيام الاغتراب بتيكورارين أيام ملك تلمسان عليهم عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن كما مر‏.‏وخلا له هنالك وجه السلطان أبي حمو وابنه فتقرب إليه بخدمته ورعاها له‏.‏فلما رجع السلطان إلى تلمسان بعد مهلك عبد العزيز قدمه وأثره واستخلصه فكان من أخص بطانته‏.‏وكان أبو تاشفين أيضاً استخلصه وجعله عينا على أبيه‏.‏وكان هو أيضاً يغص بابن خلدون كاتب السلطان ويغار من تقدمه عنده ويغري به أبا تاشفين جهده فدس إليه أثناء هذه المطاولة أن الكاتب ابن خلدون إنما مطله بالكتاب خدمة لأبي زيان أخيه وإيثاراً له عليه فاستشاط لها أبو تاشفين وترصده منصرفه من القصر إلى بيته بعد التراويح في إحدى ليالي رمضان سنة ثمانين في رهط من الأوغاد كان يطوف بهم في سكك المدينة ويطرق بهم بيوت أهل السرو والحشمة في سبيل الفساد فعرضوا له وطعنوه بالخناجر حتى سقط عن دابته ميتاً‏.‏وغدا الخبر على السلطان صبيحة تلك الليلة فقام في ركائبه وبث الطلب عن أولئك الرهط في جوانب المدينة‏.‏ثم بلغه أن ابنه أبا تاشفين صاحب الفعلة فأغضى وطوى عليها جوانحه وأقطع أبا تاشفين مدينة وهران كما وعده‏.‏وبعث ابنه أبا زيان على بلاد حصين والمدية كما كان‏.‏ثم طلب أبو تاشفين بن أبيه أن تكون الجزائر خالصة له فأقطعه إياها‏.‏وأنزل بها من إخوته يوسف بن الزابية بما كان شيعة له من بينهم وفيئة في صحبته ومخالصته فأقام والياً عليها‏.‏والله أعلم‏.‏


حركة السلطان أبي حمو على ثغور المغرب الأقصى ودخول ابنه أبي تاشفين إلى جهات مكناسة
كان السلطان أبو العباس ابن السلطان أبي سالم ملك بني مرين بالمغرب الأقصى قد نهض في عساكره سنة إحدى وثمانين إلى مراكش وبها الأمير عبد الرحمن بن يويفلوسن ابن السلطان أبي علي مقاسمه في نسبه وملكه‏.‏وكان قد سوغ له مراكش وأعمالها عندما أجلب معه على البلد الجديد سنة خمس وسبعين كما في أخبارهم‏.‏واستقر الأمير عبد الرحمن بمراكش‏.‏ثم حدثت الفتنة بينه وبين السلطان أحمد ونهض إليه من فاس فحاصره أولى وثانية يفرج فيهما عنه‏.‏ثم نهض إليه سنة أربع وثمانين فحاصره وأخذ بمخنقه وأطال الحصار‏.‏وكان يوسف بن علي بن غانم أمير المعقل من العرب منتقضاً على السلطان‏.‏وقد بعث السلطان العساكر إلى أحيائه فهزموه وخربوا بيوته وبساتينه بسجلماسة ورجعوا‏.‏وأقام هو بصحرائه منتقضاً‏.‏فلما جهد الحصار الأمير عبد الرحمن بمراكش بعث أبا العشائر ابن عمه منصور ابن السلطان أبي علي إلى يوسف بن علي بن غانم ليجلب به على فاس وبلاد المغرب فيأخذ بحجرة السلطان وينفس من مخنقه فسار يوسف بن علي مع أبي العشائر إلى السلطان أبي حمو بتلمسان يستنجده على هذا الغرض لقدرته عليه دون العرب بما له من العساكر والأبهة فأنجده على ذلك‏.‏وقدم ابنه أبا تاشفين معهم وخرج هو في أثرهم فساروا إلى المغرب‏.‏ونزل يوسف بن علي بقومه قريباً من مكناسة ومعه الأميران أبو العشائر وأبو تاشفين‏.‏وجاء أبو حمو من خلفهم فحاصر تازى سبعاً وخرب قصر تازروت المعد هنالك لنزل السلطان‏.‏وكان السلطان قد استخلف على فاس في مغيبه علي بن مهدي العسكري من عمال دولته ووجوه قبيله وكان هنالك عرب المنبات من المعقل قد دخلوا للميرة فأهاب بهم ونزمار بن عريف ولي الدولة من عرب سويد وهو نازل بقصر مرادة من أحواز تازى فاستألفهم لمدافعة أبي حمو وابنه‏.‏وخرج بهم علي بن مهدي‏.‏ثم وصل الخبر باستيلاء السلطان على مراكش منتصف خمس وثمانين فأجفل أبو تاشفين وأبو العشائر ومن معهما من العرب‏.‏واتبعهم علي بن مهدي بمن معه من المنبات‏.‏وأجفل أبو حمو عن تازى ومر بمرادة قصر ونزمار فهدمه وعاث فيه وانكفأ راجعاً إلى تلمسان‏.‏وفارق ابنه أبو تاشفين أصحابه أبا العشائر والعرب ولحق بأبيه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏


نهوض السلطان أبي العباس صاحب المغرب إلى تلمسان واستيلاؤه عليها
واعتصام أبي حمو ولما استولى السلطان أبو العباس على مراكش كما قلناه رجع إلى دار ملكه بفاس وقد أسفه السلطان أبو حمو بأجلابه على وطنه هو وابنه أبو تاشفين مع العرب أيام مغيبه بمراكش فأجمع الرحلة إلى تلمسان وخرج في عساكره‏.‏وراجع يوسف بن علي الطاعة ورحل معه في جموعه‏.‏وبلغ الخبرإلى السلطان أبي حمو فتردد بين الحصار بتلمسان ومفارقتها‏.‏وكان بينه وبين ابن الأحمر صاحب الأندلس مواصلة ولابن الأحمر دالة على السلطان أبي العباس كما مر‏.‏فكان يخفض له الشأن في قصد تلمسان ويلبثه عنها فيعطيه المقادة في ذلك فيعلل هو السلطان أبا حمو بأن السلطان أبا العباس لا يصل إليه‏.‏ثم أجمع السلطان أبو العباس أمره ونهض على حين غفلة مغذاً إلى تلمسان‏.‏وتقدم الخبر إلى أبي حمو فأجمع مفارقة تلمسان بعد أن أظهر لأوليائه وأهل دولته أنه على الحصار‏.‏ثم خرج حين غشيه الليل إلى معسكره بالصفيف وافتقده أهل بلده من صبيحتهم فتبادر أكثرهم إليه متعلقين بأذياله خوفاً من معرة العدو ثم ارتحل يطوي المراحل إلى البطحاء ودخل السلطان أبو العباس تلمسان واستولى عليها وجهز العساكر لأتباع أبي حمو وقومه فأجفل من البطحاء ولحق بتاجحمومت فاعتصم بمعقلها‏.‏ولحق به ابنه المنتصر من مليانة بما كان معه من الذخيرة فاستمد بها وأقام هنالك عازماً على الامتناع والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:53 PM

رجوع السلطان أبي العباس إلى المغرب واختلال دولته
ورجوع السلطان أبي حمو إلى ملكه كان السلطان أبو العباس لما استولى على مملكة تلمسان طير كتبه ورسله بفتحها إلى ابن الأحمر صاحب الأندلس ويعتذر له عن مخالفة رأيه في الحركة إليها‏.‏وقد كان ابن الأحمر أسفه ذلك إلى ما انضم إليه من النزعات الملوكية التي يؤسف بها بعضهم بعضاً وهو يطوي جوانحه عليها واطلع على فساد طاعة السلطان أبي العباس في أهل دولته ونغل ضمائرهم له فأزعج لوقته موسى ابن السلطان أبي عنان من أعياص ملكهم كان عنده بالأندلس وجهزه بما يحتاج إليه ويبعث في خدمته مسعود بن رحو بن ماساي وزيرهم المشهور وأركبه السفن إلى سبتة فنزلوا بساحتها أول ربيع سنة ست وثمانين واستولوا عليها‏.‏ثم تقدموا إلى فاس فنازلوا دار الملك أياماً وبها محمد بن عثمان القائم بدولة السلطان أبي العباس والمستبد عليه واشتدوا في حصارها وتوافت إليهم الأمداد والحشود فداخله الخور وألقي بيده‏.‏ودخل السلطان موسى إلى دار الملك تاسع عشر ربيع الأول من السنة وجلس على أريكته وأتاه الناس طاعتهم‏.‏وطار الخبر إلى السلطان أبي العباس بتلمسان وقد تجهز الأتباع لأبي حمو‏.‏ونزل على مرحلة من تلمسان بعد أن أغراه ونزمار بن عريف أمير سويد بتخريب قصور الملك بتلمسان وكانت لا يعبر عن حسنها اختطها السلطان أبو حمو الأول وابنه أبو تاشفين واستدعى لها الصناع والفعلة من الأندلس لحضارتها وبداوة دولتهم يومئذ بتلمسان‏.‏فبعث إليهما السلطان أبو الوليد صاحب الأندلس بالمهرة والحذاق من أهل صناعة البناء بالأندلس فاستجاثوا لهم القصور والمنازل والبساتين بما أعيا على الناس بعدهم أن يأتوا بمثله فأشار ونزمار على السلطان أبي العباس بتخريب هذه القصور وأسوار تلمسان انتقاماً بزعمه من أبي حمو وأخذا بالثأر منه فيما اعتمده من تخريب دار الملك بتازى وتخريب قصره هو بمرادة فأتى عليها الخراب أسرع من لمح البصر‏.‏وبينما هو في ذلك وهو يروم السفر لأتباع أبي حمو إذ جاءه الخبر بأن السلطان موسى ابن عمه السلطان أبي عنان قد استولى على دار ملكهم بفاس واقتعد أريكتهم فكر راجعاً إلى المغرب لا يلوي على شيء وترك تلمسان لشأنها وكان من أمره ما يأتي ذكره في أخباره‏.‏وطار الخبر إلى السلطان أبي حمو بمكانه من تاجحمومت فأغذ السير إلى تلمسان ودخلها وعاد إلى ملكه بها‏.‏وتفجع لتلك القصور بما ذهب من رونق حسنها ورجع دولة بني عبد الواد وسلطانهم بتلمسان‏.‏والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏


تجدد المنافسة بين ولد السلطان أبي حمو ومجاهرة أبي تاشفين بذلك لهم وولايته
كان التنافس بين هؤلاء الولد خفياً على الناس بما كان السلطان أبوهم يدامل بينهم ويداري بعضهم عن بعض‏.‏فلما خرجوا أمام بني مرين وعادوا إلى تلمسان صار تنافسهم إلى العداوة‏.‏واتهم أبو تاشفين أباه بممالأة إخوته عليه فشمر لعقوقه وعداوته‏.‏وشعر السلطان بذلك فعمل الحركة إلى ناحية البطحاء مورياً بإصلاح العرب ومعتزماً على لقاء ابنه المنتصر بمليانة ليصل به جناحه ويتخطى إلى الجزائر فيجعلها دار ملكه بعد أن استخلف بتلمسان ابنه أبا تاشفين وحالفه على المناصحة‏.‏واطلع موسى بن يخلف على خبية السلطان في ذلك فدس بها إلى أبي تاشفين على عادته فطار به الأسف كل مطار وأغذ السير من تلمسان فيمن معه من العسكر وصبح أباه بأسافل البطحاء قبل أن يتصل بالمنتصر‏.‏وكشف له القناع عن النكير والتسخط على ما بلغه فحلف له السلطان على ذلك وأرضاه بالرجوع معه إلى تلمسان فرجعا جميعاً‏.‏


خلع السلطان أبي حمو واستبداد ابنه أبي تاشفين بالمحلك واعتقاله إياه
لما رجع السلطان من البطحاء وبطل ما كان يؤمله من الاتصال بالمنتصر دس إليه مع خالصة من أهل دولته يعرف بعلي بن عبد الرحمن بن الكليب بأحمال من المال يودعها عنده‏.‏إلى أن يجد السبيل لحاجة نفسه‏.‏وكتب له بولاية الجزائر ليقيم بها حتى يخلص إليه‏.‏واطلع موسى بن يخلف على ذلك فأطلع أبا تاشفين على الخبر‏:‏ فبعث في أثره من حاشيته من اغتال ابن كليب في طريقه‏.‏وجاء إليه بالمال والكتب فاطلع منها على حقيقة أمرهم وأنهم متربصون به فاستشاط وجاهر أباه وغدا عليه بالقصر فوقفه على الكتاب وبالغ في عذله‏.‏وتحيز موسى بن يخلف إلى أبي تاشفين وهجر باب السلطان وأغرى به ابنه فغدا على أبيه بالقصر بعد أيام وخلعه وأسكنه بعض حجر القصر‏.‏ووكل به واستخلص ما كان معه من الأموال والذخيرة‏.‏ثم بعث به إلى قصبة وهران فاعتقله بها‏.‏واعتقل من حضر بتلمسان من إخوته وذلك آخر ثمان وثمانين‏.‏وبلغ الخبرإلى المنتصر بمليانة وأبي زيان وعمير فلحقوا بقبائل حصين واستذموا بهم فأذموهم وأنزلوهم عندهم بجبل تيطرى‏.‏وجمع أبو تاشفين العساكر واستألف العرب من سويد وبني عامر وخرج في طلب المنتصر وإخوته ومر بمليانة فملكها‏.‏ثم تقدم إلى جبل تيطرى وأقام في حصارهم به وهم ممتنعون عليه‏.‏والله تعالى أعلم‏.‏


خروج السلطان أبي حمو من الاعتقال ثم القبض عليه
وتغريبه في السفين إلى المشرق لما طال مقام أبي تاشفين على تيطرى لحصار إخوته ارتاب بأمر أبيه وطول مغيبه عنه‏.‏ وشاور أصحابه في شأنه فأشاروا بقتله وأصفقوا على ذلك فبعث أبو تاشفين ابنه أبا زيان في لمة من حاشيته‏:‏ فيهم ابن الوزير عمران بن موسى وعبد الله بن الخراساني فقتلوا من كان معتقلاً بتلمسان من أبناء السلطان وتقدموا إلى وهران‏.‏وسمع أبو حمو بقدومهم فأوجس الخيفة منهم واطلع من جحران القصبة ينادي بالصريخ في أهل البلد فتبادروا إليه من كل جهة وتدلى لهم بحبل وصله من عمامته التي كان متعمماً بها فتناولوه حتى استقر بالأرض واجتمعوا عليه‏.‏وكان الرهط الذين جاءوا لقتله بباب القصر وقد أغلقه دونهم‏.‏فلما سمعوا الهيعة واستيقنوا الأمر طلبوا النجاة بدمائهم‏.‏واجتمع على السلطان أهل البلد‏.‏وتولى كبر ذلك خطيبهم وجددوا له البيعة‏.‏وارتحل من حينه إلى تلمسان فدخلها أوائل سنة تسع وثمانين وهي يومئذ عورة بما كان بنو مرين هدموا أسوارها وأزالوا حصنها‏.‏وبعث فيمن كان مخلفاً بأحياء بني عامر من أكابرهم ووجوههم فقدموا عليه‏.‏وطار الخبر إلى أبي تاشفين بمكانه من حصار تيطرى فانكفأ راجعا إلى تلمسان فيمن معه من العساكر والعرب وبادره قبل أن يستكمل أمره فأحيط به‏.‏ونجا إلى مأذنة المسجد الجامع فاعتصم بها‏.‏ودخل أبو تاشفين القصر وبعث في طلبه‏.‏وأخبر بمكانه فجاء إليه بنفسه واستنزله من المأذنة‏.‏وأدركته الرقة فجهش بالبكاء وقبل يده وغدا به إلى القصر‏.‏واعتقله ببعض الحجر هنالك ورغب إليه أبوه في تسريحه إلى المشرق لقضاء فرضه فشارط بعض تجار النصارى المترددين إلى تلمسان من القيطلان على حمله إلى الإسكندرية وأركبه السفين معهم بأهله من فرضة وهران ذاهباً لطيبة موكلا به‏.‏وأقبل أبو تاشفين على القيام بدولته‏.‏والله تعالى أعلم‏.‏


نزول السلطان أبو حمو ببجاية من السفين واستيالؤه على تلعسان ولحاق أبي تاشفين بالمغرب
لما ركب السلطان أبو حمو السفين ذاهبا إلى الإسكندرية وفارق أعمال تلمسان وحاذى بجاية داخل صاحب السفين في أن ينزله بجاية فأسعفه لذلك‏.‏فخرج من الطارمة التي كان بها معتقلا وصار الموكلون به في طاعته‏.‏وبعث إلى محمد بن أبي مهدي قائم الأسطول ببجاية المستبد على أميرها من ولد السلطان أبي العباس بن أبي حفص‏.‏وكان محمد بن وارث خالصة المنتصر بن أبي حمو من ناشئة دولتهم قد خلص إلى بجاية من تيطرى بعد ما تنفس الحصار عنهم فبعثه ابن أبي مهدي إلى السلطان أبي حمو بالإجابة إلى ما سأل‏.‏وأنزله بجاية آخر سنة تسع وثمانين وأسكنه بستان الملك المسمى بالرفيع‏.‏وطير بالخبر إلى السلطان بتونس فشكر له ما أتاه من ذلك وأمره بالاستبلاغ في تكرمته وأن يخرج عساكر بجاية في خدمة أبي حمو إلى حدود عمله متى احتاج إليها‏.‏ثم خرج السلطان أبو حمو من بجاية ونزل متيجة واستنفر طوائف العرب من كل ناحية فاجتمعوا إليه‏.‏ونهض يريد تلمسان‏.‏واعصوصب قومه بنوعبد الواد على أبي تاشفين بما بذل فيهم من العطاء وقسم من الأموال فنابذوا السلطان أبا حمو واستصعب عليه أمرهم‏.‏وخرج إلى الصحراء وخلف ابنه أبا زيان في جبال شلف مقيماً لدعوته‏.‏وبلغ إلى تامة من ناحية المغرب‏.‏وبلغ الخبرإلى أبي تاشفين فبعث عسكراً إلى شلف مع ابنه أبي زيان ووزيره محمد بن عبد الله بن مسلم فتواقعوا مع أبي زيان ابن السلطان أبي حمو فهزمهم‏.‏وقتل أبا زيان ابن أبي تاشفين ووزيره ابن مسلم وجماعة من بني عبد الواد‏.‏وكان أبو تاشفين لما بلغه وصول أبيه إلى تامة سار إليه من تلمسان في جموعه‏.‏فأجفل أبو حمو إلى وادي صا واستجاس بالأحلاف من عرب المعقل هنالك فجاءوا لنصره‏.‏وعاود تامة فنزلها وأقام أبو تاشفين قبالته‏.‏وبلغه هنالك هزيمة ابنه ومقتله فولى منهزماً إلى تلمسان وأبو حمو في أتباعه‏.‏ثم سرح أبو تاشفين مولاه سعادة في طائفة من العسكر لمحاولة العرب في التخلي عن أبي حمو فانتهز أبو حمو به الفرصة وهزمه وقبض عليه‏.‏وبلغ الخبرإلى أبي تاشفين بتلسمان وكان يؤمل الحج عند سعادة فيما توجه فيه فأخفق سعيه‏.‏وانفض عنه بنو عبد الواد والعرب الذين معه وخرج هارباً من تلمسان مع أوليائه من سويد إلى مشاتيهم بالصحراء‏.‏ودخل السلطان أبو حمو تلمسان في رجب سنة تسعين‏.‏وقدم عليه أبناؤه فأقاموا معه بتلمسان فطرق المنتصر ابنه المرض فهلك بها لأيام من دخوله تلمسان واستقر الأمر على ذلك‏.‏والله أعلم‏.‏


نهوض أبي تاشفين بعساكر بني مرين ومقتل السلطان أبي حمو
لما خرج أبو تاشفين من تلمسان أمام أبيه واتصل بأحياء سويد أجمعوا رأيهم على الاستنجاد بصاحب المغرب فوفد أبو تاشفين ومعه محمد بن عريف شيخ سويد على السلطان أبي العباس صاحب فاس وسلطان بني مرين صريخين على شأنهما فقبل وفادتهما ووعدهما بالنصر من عدوهما‏.‏وأقام أبو تاشفين عنده ينتظر إنجاز وعده وكان بين أبي حمو وابن الأحمر صاحب الأندلس وشيجة ود وعقيدة وصلة ولابن الأحمر دالة وتحكم في دولة أبي العباس صاحب المغرب بما سلف من مظاهرته على أمره منذ أول دولته فبعث إليه أبو حمو في الدفاع عنه بإجازة أبي تاشفين من المغرب إليه فلم يجبه صاحب المغرب لذلك وفاء بذمته وعلله بالقعود عن نصره‏.‏وألح عليه ابن الأحمر في ذلك فتعلل بالمعاذير‏.‏وكان أبو تاشفين قد عقد الأول قدومه مع وزير الدولة محمد بن يوسف بن علال حلفاً اعتقد الوفاء به فكان هواه في إنجاده ونصره من عدوه فلم يزل يفتل للسلطان في الذروة والغارب ويلوي عن ابن الأحمر المواعيد حتى أجابه السلطان إلى غرضه‏.‏وسرح ابنه الأمير أبا فارس والوزير محمد بن علال في العساكر لمصارخة أبي تاشفين‏.‏وفصلوا من فاس أواخر إحدى وتسعين وانتهوا إلى تازى‏.‏وبلغ خبرهم إلى السلطان أبي حمو فخرج من تلمسان وجمع أشياعه من بني عامر والجراح بن عبيد الله وقطع جبل بني ورنيد المطل على تلمسان وأقام بالغيران من جهاته‏.‏وبلغ الخبرإلى أبي تاشفين فقدم إلى تلمسان وجدد المكر والخديعة شيطان الشر والفتنة موسى بن يخلف فاستولى عليها وأقام دعوة أبي تاشفين فيها فطير أبو حمو ابنه عمير إليه فصبحه بها لليلة من مسيره فأسلمه أهل البلد‏.‏وتقبض عليه وجاء به أسيراً إلى أبيه بمكانه من الغيران فوبخه أبو حمو على فعاله‏.‏ثم أذاقه أليم عقابه ونكاله وأمر به فقتل أشنع قتلة‏.‏وجاءت العيون إلى أبي فارس ابن صاحب المغرب ووزيره ابن علال بمكان أبي حمو وأعرابه بالغيران فنهض الوزير ابن علال في عساكر بني مرين لغزوه‏.‏وسار أمامهم سليمان بن ناجي من الأحلاف إحدى بطون المعقل يدل بهم طريق القفر حتى صبحوه ومن معه من أحياء الخراج في مكان مقامتهم بالغيران‏.‏وناوشوهم القتال فلم يطيقوهم لكثرتهم وولوا منهزمين‏.‏وكبا بالسلطان أبي حمو فرسه فسقط وأدركه بعض فرسانهم وعرفه فقتلوه قعصاً بالرماح‏.‏وجاءوا برأسه إلى الوزير ابن علال وأبي تاشفين وجاءوا بابنه عمير أسيراً‏.‏وهم أبو تاشفين أخوه بقتله فمنعوه أياماً ثم أمكنوه منه فقتله ودخل أبو تاشفين إلى تلمسان آخر سنة إحدى وتسعين‏.‏وخيم الوزير وعساكر بني مرين بظاهر البلد حتى دفع إليهم ما شارطهم عليه من المال‏.‏ثم قفلوا إلى المغرب وأقام هو بتلمسان يقيم بدعوة السلطان أبي العباس صاحب المغرب ويخطب له على منابره ويبعث إليه بالضريبة كل سنة كما اشترط على نفسه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏


مسير أبي زيان بن أبي حمو لحصار تلمسان ثم إجفاله عنها
ولحاقه بصاحب المغرب كان السلطان أبو حمو قد ولى على الجزائر ابنه أبا زيان لما عاد إلى ملكه بتلمسان وأخرج منها أبا تاشفين‏.‏فلما قتل أبو حمو بالغيران كما قلناه خرج أبو زيان من الجزائر ناجياً إلى أحياء حصين يؤمل الكرة بهم والأخذ بثأر أبيه وأخيه فاشتملوا عليه وأجابوا صريخه‏.‏ثم وفد عليه أمراء بني عامر من زغبة يدعونه لملكه فسار إليهم‏.‏وقام بدعوته وطاعته شيخهم المسعود بن صغير ونهضوا جميعاً إلى تلمسان في رجب سنة اثنتين وتسعين فحاصروها أياماً‏.‏ثم سرب أبو تاشفين المال في العرب فافترقوا عن أبي زيان‏.‏وخرج إليه أبو تاشفين فهزمه في شعبان من السنة‏.‏ولحق بالصحراء واستألف أحياء المعقل وعاود حصار تلمسان في شوال‏.‏وبعث أبو تاشفين ابنه صريخاً إلى المغرب فجاءه بمدد من العسكر‏.‏ولما انتهى إلى تاوريرت أفرج أبو زيان عن تلمسان وأجفل إلى الصحراء‏.‏ثم أجمع رأيه على الوفادة إلى صاحب المغرب فوفد عليه صريخاً فتلقاه وبر مقدمه‏.‏ووعده النصر من عدوه وأقام عنده إلى حين مهلك أبي تاشفين‏.‏والله تعالى أعلم‏.‏


وفاة أبي تاشفين واستيلاء صاحب المغرب على تلمسان
لم يزل هذا الأمير أبو تاشفين مملكاً على تلمسان ومقيماً فيها لدعوة صاحب المغرب أبي سالم ومؤدياً الضريبة التي فرضها عليه منذ ملك وأخوه الأمير أبو زيان مقيم عند صاحب المغرب ينتظر وعده في النصر عليه‏.‏حتى تغير السلطان أبو العباس على أبي تاشفين في بعض النزعات الملوكية فأجاب داعي أبي زيان وجهزه بالعساكر لملك تلمسان فسار لذلك منتصف سنة خمس وتسعين‏.‏وانتهى إلى تازى وكان أبو تاشفين قد طرقه مرض أزمن به ثم هلك منه في رمضان من السنة‏.‏وكان القائم بدولته أحمد بن العز من صنائعهم وكان يمت إليه بخؤولة فولى بعده مكانه صبياً من أبنائه وقام بكفالته‏.‏وكان يوسف بن أبي حمو وهو ابن الزابية والياً على الجزائر من قبل أبي تاشفين فلما بلغه الخبر أغذ السير مع العرب ودخل تلمسان فقتل أحمد بن العز والصبي المكفول ابن أخيه أبي تاشفين‏.‏فلما بلغ الخبرإلى السلطان أبي العباس صاحب المغرب خرج إلى تازى وبعث من هنالك ابنه أبا فارس في العساكر ورد أبا زيان بن أبي حمو إلى فاس ووكل به‏.‏وسار ابنه أبو فارس إلى تلمسان فملكها وأقام فيها دعوة أبيه‏.‏وتقدم وزير أبيه صالح بن حمو إلى مليانة فملكها وما بعدها من الجزائر وتدلس إلى حدود بجاية‏.‏واعتصم يوسف بن الزابية بحصن تاجحمومت‏.‏وأقام الوزير صالح يحاصره وانقرضت دعوة بني عبد الواد من المغرب الأوسط‏.‏والله غالب على أمره‏.‏


وفاة أبي العباس صاحب
المغرب واستيلاء أبي زيان بن أبي حمو على تلمسان والمغرب الأوسط كان السلطان أبو العباس بن أبي سالم لما وصل إلى تازى وبعث ابنه أبا فارس إلى تلمسان فملكها أقام هو بتازى يشارف أحوال ابنه ووزيره صالح الذي تقدم ليفتح البلاد الشرقية‏.‏وكان يوسف بن علي بن غانم أمير أولاد حسين بن المعقل قد حج سنة ثلاث وتسعين واتصل بملك مصر من الترك الملك الظاهر برقوق‏.‏وتقدمت إلى السلطان فيه وأخبرته بمحله من قومه فأكرم تلقيه وحمله بعد قضاء حجه هدية إلى صاحب المغرب يطرفه فيها بتحف من بضائع بلده على عامة الملوك‏.‏فلما قدم يوسف بن علي بها على السلطان أبي العباس أعظم موقعها وجلس في مجلس حفل لعرضها والمباهاة بها‏.‏وشرع في المكافأة عنها بتخير الجياد والبضائع والثياب حتى استكمل من ذلك ما رضيه واعتزم على إنفاذها مع يوسف بن علي على حاملها الأول‏.‏وأنه يرسله من تازى أيام مقامته تلك فطرقه هنالك مرض كان فيه حتفه في محرم سنة ست وتسعين‏.‏واستدعوا ابنه أبا فارس من تلمسان فبايعوه بتازى وولوه مكانه‏.‏ورجعوه إلى فاس وأطلقوا أبا زيان بن أبي حمو من الاعتقال‏.‏وبعثوا به إلى تلمسان أميراً عليها وقائماً بدعوة السلطان أبي فارس فيها فسار إليها وملكها‏.‏وكان أخوه يوسف بن الزابية قد اتصل بأحياء بني عامر ويروم ملك تلمسان والأجلاب عليها فبعث إليهم أبو زيان عندما بلغه ذلك‏.‏وبذل لهم عطاء جزيلاً على أن يبعثوا به إليه فأجابوا إلى ذلك وأسلموه إلى ثقات أبي زيان‏.‏وساروا به فاعترضهم بعض أحياء العرب ليستنقذوه منهم فبادروا بقتله وحملوا رأسه إلى أخيه أبي زيان فسكنت أحواله وذهبت الفتنة بذهابه واستقامت أمور دولته وهم على ذلك لهذا العهد‏.‏وقد انتهى بنا القول في دولة بني عبد الواد من زناتة الثانية وبقي عليها خبر الرهط الذين تحيزوا‏.‏منهم‏:‏ إلى بني مرين منذ أول الدولة‏:‏ وهم بنو كمي من فصائل علي بن القاسم إخوة طاع الله بن علي وخبر بني كندوز أمرائهم بمراكش‏.‏فلنرجع إلى ذكر أخبارهم وبها نستوفي الكلانم في أخبار بني عبد الواد‏.‏والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 03:54 PM

الخبر عن بني كمي
إحدى بطون بني القاسم بن عبد الواد وكيف نزعوا إلي بني مرين وما صار لهم بنواحي مراكش وأرض السوس من الرياسة تقدم لنا أول الكلام في بني عبد الواد أن بني كمي هؤلاء من شعوب القاسم وأنهم بنوعلي بن يمل يركن بن القاسم إخوة بني طاع الله وبني دلوك وبني معطي بن جوهر بن علي‏.‏وذكرنا ما كان بين بني طاع الله وبين إخوانهم وبين بني كمي من الفتنة وكيف قتل كندوز بن عبد الله كبير بني كمي زيان بن ثابت بن محمد كبير بني طاع الله وأن جابر بن يوسف بن محمد القائم بالأمر من بعده ثار منهم بزيان وقتل به كندوزاً غيلة أو حرباً وبعث برأسه إلى يغمراسن بن زيان فنصب عليه أهل بيته القدور شفاية لنفوسهم‏.‏واستمر الغلب بعدها على بني كمي فلحقوا بحضرة تونس وكبيرهم إذ ذاك عبد الله بن كندوز‏.‏ونزلوا على الأمير أبي زكرياء حتى كان من استيلائه على تلمسان ما قدمنا ذكره‏.‏وطمع عبد الله في الاستبداد بتلمسان فلم يتفق ذلك‏.‏ولما هلك مولانا الأمير أبو زكرياء ولي ابنه المستنصر أقام عبد الله صدراً من عولته‏.‏ثم ارتحل هو وقومه إلى المغرب ونزل على يعقوب بن عبد الحق قبيل فتح مراكش فاهتز يعقوب لقدومه وأحله بالمكان الرفيع من دولته‏.‏وأنزله وقومه بجهات مراكش وأقطعهم البلاد التي كفئهم مهماتهم‏.‏وجعل السلطان انتجاع إبله وراحلته في أحيائهم‏.‏وقدم على رعايتها ضمان بن أبي سعيد الصبيحي وأخاه موسى وصلا في لفيفة من بلاد الشرق وكانا عارفين برعاية الإبل والقيام عليها‏.‏وأقاموا يتقلبون في تلك البلاد ويبعدون في نجعتها إلى أرض السوس‏.‏وأوفد يعقوب بن عبد الحق عبد الله بن كندوز هذا على المستنصر صاحب إفريقية سنة خمس وستين مع عامر ابن أخيه إدريس كما قدمناه‏.‏والتحم بنو كمي ببني مرين وأصبحوا إحدى بطونهم‏.‏وهلك عبد الله بن كندوز وصارت رئاستهم من بعده لابنه عمر بن عبد الله‏.‏فلما نهض يوسف بن يعقوب بن عبد الحق إلى المغرب الأوسط وشغل بحصار تلمسان وتحدث الناس بما نزل بعبد الواد من بني مرين أخذت بني كمي الحمية وامتعضوا لقومهم وأجمعوا الخلاف والخروج على السلطان‏.‏ولحقوا بالحاحة سنة ثلاث وسبعماية واستولوا على بلاد السوس فخرج إليهم أخو السلطان الأمير بمراكش يعيش بن يعقوب فناجزوه الحرب بتادرت وغلبوه واستمروا على خلافهم‏.‏ثم عاود محاربتهم بتامطريت سنة أربع بعدها فهزمهم الهزيمة الكبرى التي قصت جناحهم‏.‏وقتل عمر بن عبد الله وجماعة من كبرائهم وفروا أمامه إلى الصحراء ولحقوا بتلمسان‏.‏وهدم يعيش بن يعقوب تارودنت قاعدة أرض السوس‏.‏وقام بنوكندوز بعدها بتلمسان نحواً من ستة أشهر‏.‏ثم توجسوا للغدر من ولد عثمان بن يغمراسن فرجعوا إلى مراكش‏.‏واتبعتهم عساكر السلطان وأبلى منهم في القتال عنهم محمد بن أبي بكر بن حمامة بن كندوز وخلصوا إلى منجاتهم مشردين بصحراء السوس إلى أن هلك السلطان يوسف بن يعقوب‏.‏وراجعوا طاعة الملوك بالمغرب فعفوا لهم عما سلف من هذه الجريرة‏.‏وعاودوهم إلى مكانهم من الولاية فأمحضوا النصيحة والمخالصة‏.‏وكان أميرهم من بعد عمر ابنه محمد أقام في أمارتهم سنتين‏.‏ثم ابنه موسى بن محمد من بعده كذلك‏.‏واستخلصه السلطان أبو الحسن أيام الفتنة بينه وبين أخيه أبي علي لعهد أبيهما السلطان أبى سعيد ومن بعده فكانت له في المدافعة عن نواحي مراكش آثار وأيام‏.‏ثم هلك موسى بن محمد فولى السلطان أبو الحسن مكانه ابنه يعقوب بن موسى‏.‏ولما غلب على تلمسان وأصار بني عبد الواد في خوله وجنوده تمشت رجالاتهم وتباثوا أشجانهم‏.‏حتى إذا كانت واقعة القيروان المشهورة وتواقف السلطان مع بني سليم داخلهم يعقوب بن موسى في أن ينخذل عن السلطان إليهم ببنى عبد الواد ومن إليهم من مغراوة وتوجين وواعدهم لذلك ثم مشى في قومه وكافة بني عبد الواد فأجابوه إلى ذلك‏.‏ولحقوا جميعاً ببني سليم فجروا بذلك الهزيمه على السلطان وكانت نكبة القيروان المشهورة‏.‏ولحق بعدها بنو عبد الواد بتلمسان وولوه أمرهم في بني يغمراسن‏.‏وهلك يعقوب بن موسى بإفريقية ولحق أخوه رحو بالمغرب‏.‏وكان السلطان أبو عنان قد استعمل على جماعتهم وعملهم عبو بن يوسف بن محمد وهو ابن عمهم دنيا فأقام فيهم كذلك حتى هلك فولي من بعده ابنه محمد بن عبو‏.‏وهم على ذلك لهذا العهد يعسكرون للأمير بمراكش ويتولون من خدمة السلطان‏:‏ هنالك ما لهم فيه الغناء والكفاية‏.‏وكأنهم بمعزل عن بني عبد الواد لاستحكام العداوة بينهم بمقتل زيان بن ثابت‏.‏والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏


الخبر عن بني راشد بن محمد بن بادين وذكر أوليتهم وتصاريف أحوالهم
وإنما قدمنا ذكرهم قبل استتمام بطون بني بادين لأنهم لم يزالوا أحلافا لبني عبد الواد ومن جملتهم فكانت أخبارهم من أخبارهم‏.‏وأما راشد أبوهم فهو أخو بادين‏.‏واختص بنوه كما قلنا ببني عبد الواد وكانت مواطنهم بالصحراء بالجبل المعروف براشد اسم أبيهم‏.‏وكانت مواطن مديونة من قبائل البربر قبلة تاسالة وبنو ورنيد من بطون دمر قبلة تلمسان إلى قصر سعيد‏.‏وكان جبل هوارة موطناً لبني يلوان الذين كان لهم الملك كما قدمناه‏.‏ولما اضمحل أمر بني يلومان وذهبت دولتهم زحف بنو راشد هؤلاء من موطنهم بجبل راشد إلى بسائط مديونة وبني ورنيد فشنوا عليهم الغارات وطالت بينهم الحرب إلى أن غلبوهم على مواطنهم وألجؤوهم إلى الأوعار‏:‏ فاستوطن بنو ورنيد الجبل المطل على تلمسان واستوطن مديونة جبل تاسالة‏.‏وملك بنو راشد بسائطهم القبلية ئم استوطنوا جبلهم المعروف بهم لهذا العهد وهو بلد بني يفرن الذين كانوا ملوك تلمسان لأول الإسلام وكان منهم أبو قرة الصفري كما قدمناه‏.‏وكان منهم بعد ذلك يعلى بن محمد الأمير الذي قتله جوهر الصقلي قائد الشيعة كما ذكرناه في أخبارهم‏.‏ويعلى هذا هو الذي اختط بهذا الجبل مدينة إيفكان التي هدمها جوهر يوم قتله‏.‏فلما ملك بنو راشد هذا الجبل استوطنوه وصار حصناً لهم ومجالاتهم في ساحته القبلية إلى أن غلبهم العرب عليها لهذا العهد وألجؤهم إلى الجبل‏.‏وكان غلب بني راشد على هذه الأوطان بين يدي دخول بني عبد الواد إلى المغرب الأوسط وكانوا شيعة لهم وأحلافاً في فتنتهم مع بني توجين وبني مرين‏.‏وكانت رياستهم في بيت منهم يعرفون ببني عمران وكان القائم بها لأول دخولهم إبراهيم بن عمران‏.‏واستبد عليه أخوه ونزمار وقام بأمرهم إلى أن هلك فولي ابنه مقاتل بن ونزمار وقتل عمه إبراهيم‏.‏وتفرقت رياسة بني عمران من يومئذ بين بني إبراهيم وبني ونزمار الأ أن رياسة بني إبراهيم أظهر فولي بعد إبراهيم ابنه ونزمار‏.‏وكان معاصراً ليغمراسن بن زيان وطال عمره فلما هلك لتسعين من الماية السابعة ولي أمرهم غانم ابن أخيه محمد بن إبراهيم‏.‏ثم كان فيهم من بعده موسى بن يحيى بن ونزمار لا أدري معاقباً لغانم أو توسطهما أحد‏.‏ولما زحف بنو مرين إلى تلمسان آخر زحفهم صار بنو راشد هؤلاء إلى طاعة السلطان أبي الحسن وشيخهم لذلك العهد أبو يحيى بن موسى بن عبد الرحمن بن ونزمار بن إبراهيم‏.‏وانحصر بتلمسان بنو عمه كرجون بن ونزمار وانقرض أمر بني عبد الواد وأشياعهم‏.‏ونقل بنو مرين رؤوس زناتة أجمع إلى المغرب الأقصى فكان بنو ونزمار هؤلاء ممن صار إلى المغرب وأوطنوه إلى أن صار الأمر لبني عبد الواد في الكرة الثالثة على يد أبي حمو الأخير موسى بن يوسف‏.‏وكان شيخ بني راشد لعهده زيان بن أبي يحيى بن موسى المذكور أقبل إليهم من المغرب من إيالة بني مرين فاتهمه أبو حمو بمداخلتهم فتقبض عليه واعتقله مدة بوهران‏.‏وفر من معتقله فلحق بالمغرب وارتحل بين أحيائهم مدة‏.‏ثم راجع الطاعة واقتضى العهد من السلطان أبي حمو وولاه على قومه‏.‏ثم تقبض عليه واعتقله إلى أن قتله بمحبسه سنة ثمان وستين وسبعماية وانقرض أمر بني وتزمار بن إبراهيم‏.‏وأما بنو ونزمار بن عمران فقام بأمرهم بعد مقاتل بن ونزمار أخوه تورزكن بن ونزمار ثم ابنه يوسف تورزكن ثم آخرون من بعدهم لم تحضرني أسماؤهم إلى أن غلب عليهم بنو ونزمار بن إبراهيم‏.‏وقد ذهبت لهذا العهد رياسة أولاد عمران جميعاً وصار بنو راشد خولا للسلطان وجباية وبقيتهم على الحال التي ذكرنا‏.‏والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏


الساعة الآن 03:33 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى