![]() |
سورة الانشقاق بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الانشقاق مكية، وقد تناولت الحديث عن أهوال القيامة، كشأن سائر السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية. * ابتدأت السورة الكريمة بذكر بعض مشاهد الآخرة، وصوَّرت الانقلاب الذي يحدث في الكون عند قيام الساعة {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ* وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ* وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ*}. * ثم تحدثت عن خلق الإِنسان الذي يكدّ ويتعب في تحصيل أسباب رزقه ومعاشه، ليقدِّم لآخرته ما يشتهي من صالحٍ أو طالحٍ، ومن خيرٍ أو شر، ثم هناك الجزاء العادل {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ* فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} الآيات. * ثم تناولت موقف المشركين من هذا القرآن العظيم، وأقسمت بأنهم سيلقون الأهوال والشدائد، ويركبون الأخطار في ذلك اليوم العصيب الذي لا ينفع فيه مال ولا ولد {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ* وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ* وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ* لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} الآيات. * وختمت السورة الكريمة بتوبيخ المشركين على عدم إِيمانهم بالله، مع وضوح آياته وسطوع براهينه، وبشرتهم بالعذاب الأليم في دار الجحيم {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ* بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ* وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ* فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}. أهوال يوم القيامة، وانقسام الناس فريقين {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} هذه الآيات بيان لأهوال القيامة، وتصويرٌ لما يحدث بين يدي الساعة من كوارث وأهوال يفزع لها الخيال والمعنى: إِذا تشققت السماء وتصدَّعت مؤذنة بخراب الكون قال الألوسي: تنشق لهول يوم القيامة {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي واستمعت لأمر ربها وانقادت لحكمه وحُقَّ لها أن تسمع وتطيع وأن تنشق من أهوال القيامة {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} أي وإِذا الأرض زادت سَعَةً بإِزالة جبالها وآكامها، وصارت مستوية لا بناء فيها ولا وهاد ولا جبال {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} أي رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز والمعادن وتخلت عنهم قال القرطبي: أخرجت أمواتها وتخلت عنهم، وألقت ما في بطنها من الكنوز والمعادن كما تلقي الحامل ما في بطنها من الحمل، وذلك يؤذن بعظم الهول {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي واستمعت لأمر ربها وأطاعت، وحُقَّ لها أن تسمع وتطيع .. وجواب {إِذَا} محذوف ليكون أبلغ في التهويل أي إِذا حدث كل ما تقدم، لقي الإِنسان من الشدائد والأهوال، ما لا يحيط به الخيال .. ثم أخبر تعالى عن كدِّ الإِنسان وتعبه في هذه الحياة، وأنه يلقى جزاءه عند الله فقال {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} الخطاب عام لكل إِنسان أي أنت يا ابن آدم جاهدٌ ومجدٌّ بأعمالك التي عاقبتها الموت، والزمانُ يطير وأنت في كل لحظة تقطع شوطاً من عمرك القصير، فكأنك سائر مسرعٌ إِلى الموت، ثم تلاقي ربك فيكافئك على عملك، إِن كان خيراً فخيرٌ، وإِن كان شراً فشرٌّ قال أبو حيّان: كادحٌ أي جاهد في عملك من خير وشر طول حياتك إِلى لقاء ربك، فملاقٍ جزاء كدحك من ثواب وعقاب .. ثم ذكر تعالى انقسام الناس إِلى سعداء، وأشقياء وإِلى من يأخذ كتابه بيمينه، ومن يأخذ كتابه بشماله فقال {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أي فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه، وهذه علامة السعادة {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} أي فسوف يكون حسابه سهلاً هيناً يُجازى على حسناته، ويُتجاوز عن سيئاته، وهذا هو العرضُ كما جاء في الحديث الصحيح {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} أي ويرجع إِلى أهله في الجنة مبتهجاً مسروراً بما أعطاه الله من الفضل والكرامة {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} أي وأمَّا من أعطي كتاب أعماله بشماله من وراء ظهره، وهذه علامة الشقاوة {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} أي يصيح بالويل والثبور، ويتمنى الهلاك والموت {وَيَصْلَى سَعِيرًا} أي ويدخل ناراً مستعرة، يقاسي عذابها وحرَّها {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} أي لأنه كان في الدنيا مسروراً مع أهله، غافلاً لاهياً، لا يفكر في العواقب، ولا تخطر بباله الآخرة قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء في الدنيا، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها، فأعقبهم به الحزن الطويل {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أي إِنه ظنَّ لن يرجع إِلى ربه، ولن يحييه الله بعد موته للحساب والجزاء، فلذلك كفر وفجر {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} أي بلى سيعيده الله بعد موته، ويجازيه على أعماله كلها خيرها وشرها، فإِنه تعالى مطلع على العباد، لا تخفى عليه خافية من شؤونهم. تأكيد وقوع يوم القيامة، وما يرافقه من أهوال {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} {لا} لتأكيد القسم أي فأقسم قسماً مؤكداً بحمرة الأفق بعد غروب الشمس {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي وبالليل وما جمع وضمَّ إِليه، وما لفَّ في ظلمته من الناس والدواب والهوام قال المفسرون: الليل يسكن فيه كل الخلق، ويجمع ما كان منتشراً في النهار من الخلق والدواب والأنعام، فكلٌ يأوي إِلى مكانه وسربه، ولهذا امتن تعالى على العباد بقوله {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} فإِذا جاء النهار انتشروا، وإِذا جاء الليل أوى كل شيء إِلى مأواه {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي وأقسمُ بالقمر إِذا تكامل ضوؤه ونوره، وصار بدراً ساطعاً مضيئاً {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} هذا جواب القسم أي لتلاقُنَّ يا معشر الناس أهوالاً وشدائد في الآخرة عصيبة قال الألوسي: يعني لتركبن أحوالاً بعد أحوال، هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض، وهي الموتُ وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها وقال الطبري: المراد أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} استفهام يقصد به التوبيخ أي فما لهؤلاء المشركين لا يؤمنون بالله، ولا يصدّقون بالبعث بعد الموت، بعد وضوح الدلائل وقيام البراهين على وقوعه؟ {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} أي وإِذا سمعوا آيات القرآن، لم يخضعوا ولم يسجدوا للرحمن؟ {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} أي بل طبيعة هؤلاء الكفار التكذيب والعناد والجحود، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} أي والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من الكفر والتكذيب قال ابن عباس: {يُوعُونَ} أي يضمرون من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فبشرهم على كفرهم وضلالهم بعذاب مؤلم موجع، واجعل ذلك بمنزلة البشارة لهم قال ابن جزي: ووضع البشارة في موضع الإِنذار تهكم بالكفار {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي لكنْ الذين صدَّقوا الله ورسوله، وجمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي لهم ثوابٌ في الآخرة غير منقوص ولا مقطوع، بل هو دائم مستمر. ختم تعالى السورة الكريمة ببيان نعيم الأبرار، بعد أن ذكر مآل الفجار، وهو توضيح لما أجمله في أول السورة من ملاقاة كل عامل لجزائه في قوله {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}. |
سورة الْبُرُوج بَين يَدَيْ السُّورَة * هذه السورة الكريمة من السور المكية، وهي تعرض لحقائق العقيدة الإِسلامية، والمحورُ الذي تدور عليه السورة الكريمة هي حادثة "أصحاب الأخدود" وهي قصة التضحية بالنفس في سبيل العقيدة والإِيمان. * ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات النجوم الهائلة، ومداراتها الضخمة، التي تدور فيها تلك الأفلك، وباليوم العظيم المشهود وهو يوم القيامة، وبالرسل والخلائق على هلاك ودمار المجرمين، الذين طرحوا المؤمنين في النار ليفتنوهم عن دينهم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ* وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ* قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ* النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} الآيات. * ثم تلاها الوعيد والإِنذار لأولئك الفجار على فعلتهم القبيحة الشنيعة {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}. * وبعد ذلك تحدثت عن قدرة الله على الانتقام من أعدائه الذين فتنوا عباده وأولياءه {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ* إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ* وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ* ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}. * وختمت السورة الكريمة بقصة الطاغية الجبار "فرعون" وما أصابه وقومه من الهلاك والدمار بسبب البغي والطغيان {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ* بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ* وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ* بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وهو ختم رائع يناسب موضوع السورة الكريمة. قصة أصحاب الأخدود {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} أي وأُقسم بالسماء البديعة ذات المنازل الرفيعة، التي تنزلها الكواكب أثناء سيرها قال المفسرون: سميت هذه المنازل بروجاً لظهورها، وشبهت بالقصور لعلوها وارتفاعها لأنها منازل للكواكب السيارة {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} أي وأُقسم باليوم الموعود وهو يوم القيامة، الذي وعد الله به الخلائق بقوله {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} أي وأُقسم بمحمد والأنبياء الذين يشهدون على أممهم يوم القيامة، وبجميع الأمم والخلائق الذين يجتمعون في أرض المحشر للحساب كقوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} وقيل: الشاهد هذه الأمة، والمشهود سائر الأمم ودليله {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} هذا هو جواب القسم، والجملة دعائية أي قاتل الله ولعن أصحاب الأخدود، الذين شقوا الأرض طولاً وجعلوها أخاديد، وأضرموا فيها النار ليحرقوا بها المؤمنين قال القرطبي: الأخدودُ الشقُّ العظيم المستطيل في الأرض كالخندق وجمعه أخاديد، ومعنى {قُتِلَ} أي لعن، قال ابن عباس: كل شيءٍ في القرآن {قُتِلَ} فهو لعن .. ثم فصَّل تعالى المراد من الأخدود فقال {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} أي النار العظيمة المتأججة، ذات الحطب واللهب، التي أضرمها الكفار في تلك الأخاديد لإِحراق المؤمنين قال أبو السعود: وهذا وصف لها بغاية العظم، وارتفاع اللهب، وكثرة ما فيها من الحطب، والقصدُ وصف النار بالشدة والهول .. ثم بالغ تعالى في وصف المجرمين فقال {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ*وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} أي حين هم جلوس حول النار، يتشفون بإِحراق المؤمنين فيها، ويشهدون ذلك الفعل الشنيع والغرض تخويف كفار قريش، فقد كانوا يعذبون من أسلم من قومهم، ليرجعوا عن الإِسلام، فذكر الله تعالى قصة "أصحاب الأخدود" وعيداً للكفار، وتسليةً للمؤمنين المعذبين، ثم قال تعالى {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي وما كان لهم ذنب ولا انتقموا منهم، إِلا لأنهم آمنوا بالله العزيز الحميد الغالب الذي لا يُضام من لاذَ بجنابه، الحميد في جميع أقواله وأفعاله، والغرضُ أن سبب البطش بهم، وتحريقهم بالنار، لم يكن إِلا إيمانهم بالله الواحد الأحد، وهذا ليس بذنب يستحقون به العقوبة، لكنّه الطغيان والإِجرام {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هذا الإِله الجليل المالك لجميع الكائنات، المستحق للمجد والثناء قال أبو حيّان: وإِنما ذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به، وهو كونه تعالى {عزيزاً} أي غالباً قادراً يُخشى عقابه {حميداً} أي مُنعماً يجب له الحمد على نعمه {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له، إِنما ذكر ذلك تقريراً لأن ما نقموه منهم هو الحقُّ الذي لا ينقمه إِلا مبطلٌ منهمك في الغي {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي هو تعالى مطَّلع على أعمال عباده، لا تخفى عليه خافية من شؤونهم، وفيه وعدٌ للمؤمنين، ووعيدٌ للمجرمين. عقاب الكفار وثواب المؤمنين ثم شدَّد تعالى النكير على المجرمين الذين عذبوا المؤمنين فقال {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي عذبوا وأحرقوا المؤمنين والمؤمنات بالنار ليفتنوهم عن دينهم {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} أي ثم لم يرجعوا عن كفرهم وطغيانهم {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} أي فلهم عذاب جهنم المخزي بكفرهم، ولهم العذاب المحرق بإِحراقهم المؤمنين .. ولما ذكر مصير المجرمين أعقبه بذكر مصير المؤمنين فقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي الذين جمعوا بين الإِيمان الصادق والعمل الصالح {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي لهم البساتين والحدائق الزاهرة، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة قال الطبري: هي أنهار الخمر واللبن والعسل {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} أي ذلك هو الظفر العظيم بغاية المطلوب، الذي لا سعادة ولا فوز بعده. انتقام الله الشديد من أعداء رسله وأوليائه ثم أخبر تعالى عن انتقامه الشديد من أعداء رسله وأوليائه فقال {إِنَّ بطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أي إِن انتقام الله وأخذه الجبابرة والظلمة، بالغ الغاية في الشدة قال أبو السعود: البطش الأخذ بعنف، وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم، وهو بطشه بالجبابرة والظلمة وأخذه إِياهم بالعذاب والانتقام {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}أي هو جل وعلا الخالق القادر، الذي يبدأ الخلق من العدم، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} أي وهو الساتر لذنوب عباده المؤمنين، اللطيف المحسن إِلى أوليائه، المحبُّ لهم قال ابن عباس: يودُّ أولياءه كما يودُّ أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة {ذُو الْعَرْشِ} أي صاحب العرش العظيم، وإِنما أضاف العرش إِلى الله وخصَّه بالذكر، لأن العرش أعظم المخلوقات، وأوسعُ من السماواتِ السبع، وخلقُه بهذا الوصف يدل على عظمة خالقه {الْمَجِيدُ} أي هو تعالى المجيدُ، العالي على جميع الخلائق، المتصف بجميع صفات الجلال والكمال {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه ولا رادَّ لقضائه قال القرطبي: أي لا يمتنع عليه شيء يريده. روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قيل له وهو في مرض الموت: هل نظر إِليك الطبيبُ ؟ قال : نعم : قالوا : فماذا قال لك ؟ قال قال لي :{إِني فعَّال لما أريد}. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} ؟ استفهامٌ للتشويق أي هل بلغك يا محمد خبر الجموع الكافرة، الذين تجنَّدوا لحرب الرسل والأنبياء ؟ هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس، وما أنزل عليهم من النقمة والعذاب ؟ قال القرطبي : يؤنسه بذلك ويسليه، ثم بيَّن تعالى مَنْ هم فقال {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} أي هم فرعون وثمود، أولي البأس والشدة، فقد كانوا أشد بأساً، وأقوى مراساً من قومك، ومع لك فقد أخذهم الله تعالى بذنوبهم {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} أي لم يعتبر كفار قريش بما حلَّ بأولئك الكفرة المكذبين، بل هم مستمرون في التكذيب فهم أشد منهم كفراً وطغياناً {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} أي والله تعالى قادرٌ عليهم، لا يفوتونه ولا يعجزونه، لأنهم في قبضته في كل حينٍ وزمان {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} أي بل هذا الذي كذبوا به، كتابٌ عظيم شريف، متناهٍ في الشرف والمكانة، قد سما على سائر الكتب السماوية، في إِعجازه ونظمه وصحة معانيه {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} أي هو في اللوح المحفوظ الذي في السماء، محفوظٍ من الزيادة والنقص، والتحريف والتبديل. |
سورة الطَّارِق بَين يَدَيْ السُّورَة * هذه السورة الكريمة من السور المكية، وهي تعالج بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة الإِسلامية، ومحور السورة يدور حول الإِيمان بالبعث والنشور، وقد أقامت البرهان الساطع والدليل القاطع على قدرة الله جل وعلا على إِمكان البعث، فإِن الذي خلق الإِنسان من العدم قادرٌ على إِعادته بعد موته. * ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات الكواكب الساطعة، التي تطلع ليلاً لتضيء للناس سُبلهم، ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، على أن كلَّ إِنسان قد وُكل به من يحرسه، ويتعهد أمره من الملائكة الأبرار {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ* النَّجْمُ الثَّاقِبُ* إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}. * ثم ساقت الأدلة والبراهين، على قدرة ربّ العالمين، على إِعادة الإِنسان بعد فنائه {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ* إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}. * ثم أخبرت عن كشف الأسرار، وهتك الأستار في الآخرة، حيث لا معين للإِنسان ولا نصير {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ* فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}. * وختمت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن العظيم، معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة، وحجته البالغة إِلى الناس أجمعين، وبيَّنت صدق هذا القرآن، وأوعدت الكفرة المجرمين بالعذاب الأليم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ* وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ* إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ* إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا* فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}. توكيل الملائكة بحفظ النفوس {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} أي أقسم بالسماء وبالكواكب النيرة، التي تظهر ليلاً وتختفي نهاراً قال المفسرون: سُمي النجم طارقاً لأنه إِنما يظهر بالليل ويختفي بالنهار، وكلُّ ما يجيء ليلاً فهو طارق {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} استفهام للتفخيم والتعظيم أي وما الذي أعلمك يا محمد ما حقيقة هذا النجم ؟ ثم فسره بقوله {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} أي النجم المضيء الذي يثقب الظلام بضيائه قال الصاوي: قد كثر منه تعالى في كتابه المجيد ذكرُ الشمس والقمر والنجوم، لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها، ومغاربها عجيبة دالة على انفراد خالقها بالكمالات، لأن الصّنعة تدل على الصانع {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} هذا جواب القسم أي كلُّ نفسٍ إِلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خيرٍ وشر كقوله {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ} قال ابن كثير: أي كلُّ نفسٍ عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات .. ثم أمر تعالى بالنظر والتفكر في خلق الإِنسان، تنبيهاً على إمكان البعث والحشر فقال {فَلْينظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} ؟ أي فلينظر الإِنسان في أول نشأته نظرة تفكر واعتبار، من أي شيءٍ خلقه الله ؟ {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي خلق من المنيّ المتدفق، الذي ينصب بقوة وشدة، يتدفق من الرجل والمرأة فيتكون منه الولد بإذن الله {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} أي يخرج هذا الماء من بين الصلب وعظم الصدر، من الرجل والمرأة {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} أي إن الله تعالى الذي خلق الإِنسان ابتداءً، قادر على إِعادته بعد موته قال ابن كثير: نبه تعالى الإِنسان على ضعف أصله الذي خلق منه، وأرشده إِلى الاعتراف بالمعاد، لأن من قدر على البداءة، فهو قارد على الإِعادة بطريق الأولى {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أي يوم تمتحن القلوب وتختبر، ويُعرف ما بها من العقائد والنيات، ويميز بين ما طاب منها وما خبث {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} أي فليس للإِنسان في ذلك الوقت قوة تدفع عنه العذاب، ولا ناصر ينصره ويجيره، قال ابن جزي : لما كان دفع المكاره في الدنيا إِما بقوة الإِنسان، أو بنصرة غيره له، أخبره الله تعالى أنه يعدمها يوم القيامة، فلا قوة له في نفسه، ولا أحد ينصره من الله. قسمه تعالى على صدق الكتاب المعجز ولما ذكر تعالى أمر المبدأ والمعاد، عاد فأقسم على صدق هذا الكتاب المعجز فقال {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} أي أُقسم بالسماء ذات المطر، الذي يرجع على العباد حيناً بعد حين قال ابن عباس: الرَّجع المطرُ ولولاه لهلك الناس وهلكت مواشيهم {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أي وأُقسم بالأرض التي تتصدع وتنشق، فيخرج منها النبات والأشجار والأزهار قال ابن عباس: هو انصداعها عن النبات والثمار .. أقسم سبحانه وتعالى بالسماء التي تفيض علينا الماء، وبالأرض التي تخرج لنا الثمار والنبات، والسماء للخلق كالأب، والأرض لهم كالأم، ومن بينهما تتولد النعم العظيمة، والخيرات العميمة، التي بها بقاء الإِنسان والحيوان {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي إِن هذا القرآن لقولٌ فاصل بين الحق والباطل، قد بلغ الغاية في بيانه وتشريعه وإِعجازه {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أي ليس فيه شيءٌ من اللهو والباطل والعبث، بل هو جدٌّ كله، لأنه كلام أحكم الحاكمين، فجديرٌ بقارئه أن يتعظ بآياته، ويستنير بتوجيهاته وإِرشاداته {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} أي إِن هؤلاء المشركين - كفار مكة - يعملون المكايد لإِطفاء نور الله، وإِبطال شريعة محمد صلى الله عليه وسلم {وَأَكِيدُ كَيْدًا} أي وأجازيهم على كيدهم بالإِمهال ثم النكال، حيث آخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر كقوله تعالى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} قال أبو السعود: أي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث أستدرجهم من حيث لا يعلمون {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} أي لا تستعجل في هلاكهم والانتقام منهم، وأمهلهم قليلاً فسوف ترى ما أصنع بهم، وهذا منتهى الوعيد والتهديد. |
سورة الأَعْلَى بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الأَعْلَى من السور المكية، وهي تعالج باختصار المواضيع الآتية : 1- الذاتِ العلية وبعض صفات الله جل وعلا، والدلائل على القدرة والوحدانية. 2- الوحي والقرآن المنزَّل على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وتيسير حفظه عليه صلى الله عليه وسلم. 3- الموعظة الحسنة التي ينتفع بها أهل القلوب الحيَّة، ويستفيد منها أهل السعادة والإِيمان. * ابتدأت السورة الكريمة بتنزيه الله جل وعلا، الذي خلق فأبدع، وصوَّر فأحسن، وأخرج العشب، والنبات، رحمة بالعباد {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى..} الآيات. * ثم تحدثت عن الوحي والقرآن، وآنست الرسول صلى الله عليه وسلم بالبشارة بتحفيظه هذا الكتاب المجيد، وتيسير حفظه عليه، بحيث لا ينْساه أبداً {سَنُقْرِئُكَ فلا تَنسَى* إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}. * ثم أمرت بالتذكير بهذا القرآن، الذي يستفيدُ من نوره المؤمنون، ويتعظ بهديه المتقون، {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى* سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى* وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى..} الآيات. * وختمت السورة ببيان فوز من طهَّر نفسه من الذنوب والآثام، وزكاها بصالح الأعمال {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} إِلى نهاية السورة الكريمة. تنزيه الله عز وجل وتمجيده {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أي نزِّه يا محمد ربك العلي الكبير عن صفات النقص، وعما يقوله الظالمون، مما لا يليق به سبحانه وتعالى من النقائص والقبائح، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إِذا قرأ هذه الآية قال: "سبحان ربي الأعلى" .. ثم ذكر من أوصافه الجليلة، ومظاهر قدرته الباهرة، ودلائل وحدانيته وكماله فقال {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} أي خلق المخلوقات جميعها، فأتقن خلقها، وأبدع صنعها، في أجمل الأشكال، وأحسن الهيئات قال أبو حيّان: أي خلق كل شيء فسواه، بحيث لم يأت متفاوتاً، بل متناسباً على إحكام وإتقان، للدلالة على أنه صادر من عالم حكيم {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي قدَّر في كل شيء خواصه ومزاياه بما تجلُّ عنه العقول والأفهام، وهدى الإِنسان لوجه الانتفاع بما أودعه فيها، وهدى الإِنعام إلى مراعيها، ولو تأملت ما في النباتات من الخواص، وما في المعادن من المزايا والمنافع، واهتداء الإِنسان لاستخراج الأدوية والعقاقير النافعة من النباتات، واستخدام المعادن في صنع المدافع والطائرات، لعلمتَ حكمةَ العلي القدير، الذي لولا تقديره وهدايته لكنا نهيم في دياجير الظلام كسائر الأنعام قال المفسرون: إِنما حذف المفعول لإفادة العموم أي قدَّر لكل مخلوق وحيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعَرَّفه وجه الانتفاع به {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أي أنبت ما ترعاه الدواب، من الحشائش والأعشاب {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} أي فصيَّره بعد الخضرة أسود بالياً، بعد أن كان ناضراً زاهياً، ولا يخفى ما في المرعى من المنفعة بعد صيرورته هشيماً يابساً، فإنه يكون طعاماً جيداً لكثير من الحيوانات، فسبحان من أحكم كل شيء {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} !! وبعد أن ذكر دلائل قدرته ووحدانيته، ذكر فضله وإنعامه على رسوله فقال {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} أي سنقرئك يا محمد هذا القرآن العظيم فتحفظه في صدرك ولا تنساه {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} أي لكن ما أراد الله نسخه فإنك تنساه .. وفي هذه الآية معجزة له عليه الصلاة والسلام، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان مع ذلك لا ينسى ما أقرأه جبريل عليه السلام، وكونه يحفظ هذا الكتاب العظيم من غير دراسة ولا تكرار ولا ينساه أبداً، من أعظم البراهين على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم قال ابن كثير: هذا إخبار من الله تعالى ووعدٌ لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} أي هو تعالى عالم بما يجهر به العباد وما يخفونه من الأقوال والأفعال، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أي ونوفقك للشريعة السمحة البالغة اليسر، التي هي أيسر وأسهل الشرائع السماوية، وهي شريعة الإِسلام. التذكير، وتطهير النفس من الشرك، وتفضيل الآخرة على الدنيا {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أي فذكر يا محمد بهذا القرآن حيث تنفع الموعظة والتذكرة كقوله {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} قال ابن كثير: ومن ههنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال علي رضي الله عنه "ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم" وقال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله" ؟ {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} أي سينتفع بهذه الذكرى والموعظة من يخاف الله تعالى {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} أي ويرفضها ويبتعد عن قبول الموعظة الكافر المبالغ في الشقاوة {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} أي الذي يدخل نار جهنم المستعرة، العظيمة الفظيعة قال الحسن: النار الكبرى نارُ الآخرة، والصغرى نارُ الدنيا {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} أي لا يموت فيستريح، ولا يحيا الحياة الطيبة الكريمة، بل هو دائم في العذاب والشقاء {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} أي قد فاز من طهَّر نفسه بالإِيمان، وأخلص عمله للرحمن {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أي وذكر عظمة ربه وجلاله، فصلى خشوعاً وامتثالاً لأمره {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي بل تفضلون أيها الناس هذه الحياة الفانية على الآخرة الباقية، فتشتغلون لها وتنسون الآخرة {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي والحال أن الآخرة خيرٌ من الدنيا وأبقى، لأن الدنيا فانية، والآخرة باقية،والباقي خيرٌ من الفاني، فكيف يؤثر عاقلٌ ما يفنى على ما يبقى ؟ وكيف يهتم بدار الغرور. ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلود ؟ قرأ ابن مسعود هذه الآية فقال لأصحابه: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة ؟ قالوا: لا، قال: لأن الدنيا أحضرت وعجلت لنا بطعامها، وشرابها، ونسائها، ولذاتها، وبهجتها، وإن الآخرة غُيبتْ وزُويت عنا، فأحببنا العاجل، وتركنا الآجل {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} أي إنَّ هذه المواعظ المذكورة في هذه السورة، مثبتة في الصحف القديمة المنزلة على إبراهيم وموسى عليهما السلام، فهي مما توافقت فيه الشرائع، وسطرته الكتب السماوية، كما سطره هذا الكتاب المشهود. |
سورة الْغَاشِيَة بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الْغَاشِيَة مكية، وقد تناولت موضوعين أساسيين وهما : 1- القيامة وأحوالها وأهوالها، وما يلقاه الكافر من العناء والبلاء، وما يلقاه المؤمن فيها من السعادة والهناء. 2- الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين، وقدرته الباهرة، في خلق الإِبل العجيبة، والسماء البديعة، والجبال المرتفعة، والأرض الممتدة الواسعة، وكلها شواهد على وحدانية الله وجلال سلطانه. وختمت السورة الكريمة بالتذكير برجوع الناس جميعاً إلى الله سبحانه للحساب والجزاء. أهوال القيامة وأحوال الكفار في النار {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} الاستفهام للتشويق إلى استماع الخبر، وللتنبيه والتفخيم لشأنها أي هل جاءك يا محمد خبرُ الداهية العظيمة التي تغشى الناس وتعمُّهم بشدائدها وأهوالها، وهي القيامة ؟ قال المفسرون: سميت غاشية لأنها تغشى الخلائق بأهوالها وشدائدها، وتعمُّهم بما فيها من المكاره والكوارث العظيمة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي وجوهٌ في ذلك اليوم ذليلة خاضعةٌ مهينة {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي دائبة العمل فيما يُتعبها ويشقيها في النار قال المفسرون: هذه الآية في الكفار، يتعبون ويشقون بسبب جر السلاسل والأغلال، وخوضهم في النار خوض الإِبل في الوحل، والصعود والهبوط في تلالها ودركاتها كما قال تعالى {إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} وهذا جزاء تكبرهم في الدنيا عن عبادة الله، وانهماكهم في اللذات والشهوات {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} أي تدخل ناراً مسعَّرة شديدة الحر قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي تسقى من عين متناهية الحرارة، وصل حرها وغليانها درجة النهاية {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} أي ليس لأهل النار طعام إلا الضريع وهو نبتٌ ذو شوك تسميه قريش "الشبرق" وهو أخبث طعامِ وأبشعه وهو سم قاتل قال قتادة: هو شر الطعام وأبشعه وأخبثه .. ذكر تعالى هنا أن طعامهم الضريع {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} وقال في الحاقَّة {وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ} ولا تنافي بينهما، لأن العقاب ألوان، والمعذبون أنواع، فمنهم من يكون طعامه الزقوم، ومنهم من يكون طعامه الضريع، ومنهم من يكون طعامه الغسلين، وهكذا يتنوع العذاب {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} أي لا يفيد القوة والسمن في البدن، ولا يدفع الجوع عن آكله قال أبو السعود: أي ليس من شأنه الإِسمانُ والإِشباع، كما هو شأن طعام الدنيا، وقد روي أنه يُسلَّط عليهم الجوع بحيث يضطرهم إلى أكل الضريع، فإذا أكلوه يُسلط عليهم العطش فيضطرهم إلى شرب الحميم، فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ}. حال السعداء أهل الجنة ولما ذكر حال الأشقياء أهل النار، أتبعه بذكر حال السعداء أهل الجنة فقال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} أي وجوه المؤمنين يوم القيامة ناعمة ذات بهجةٍ وحسن، وإشراق ونضارة كقوله تعالى {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي لعملها الذي عملته في الدنيا وطاعتها لله راضية مطمئنة، لأن هذا العمل أورثها الفردوس دار المتقين {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أي في حدائق وبساتين مرتفعة مكاناً وقدراً، وهم في الغرفات آمنون {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} أي لا تسمع في الجنة شتماً، أو سباً، أو فحشاً قال ابن عباس: لا تسمع أذى ولا باطلاً {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أي فيها عيونٌ تجري بالماء السلسبيل لا تنقطع أبداً قال الزمخشري: التنوين في {عينٌ} للتكثير أي عيونٌ كثيرة تجري مياهها {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} أي في الجنة أسرة مرتفعة، مكلله بالزبرجد والياقوت، عليها الحور العين، فإِذا أراد وليُّ الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} أي واقداح موضوعة على حافات العيون، معدة لشرابهم لا تحتاج إلى من يملأَها {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} أي ووسائد - مخدَّات - قد صُفَّ بعضها إلى جانب بعض ليستندوا عليها {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} أي وفيها طنافس فاخرة لها حمل رقيق مبسوطة في أنحاء الجنة. التفكر في الخلق سبب النزول : نزول الآية (17) : {أَفَلا يَنْظُرُونَ..}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن قتادة قال: لما نعت الله ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل الله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}. ثم ذكر تعالى الدلائل والبراهين الدالة على قدرته ووحدانيته فقال {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} أي أفلا ينظر هؤلاء الناس نظر تفكر واعتبار، إلى الإِبل - الجمال - كيف خلقها الله خلقاً عجيباً بديعاً يدل على قدرة خالقها ؟! قال ابن جزي: في الآية حضٌ على النظر في خلقتها، لما فيها من العجائب في قوتها، وانقيادها مع ذلك لكل ضعيف، وصبرها على العطش، وكثرة المنافع التي فيها، من الركوب والحمل عليها، وأكل لحومها، وشرب ألبانها وغير ذلك {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} أي وإلى السماء البديعة المحكمة، كيف رفع الله بناءها، وأعلى سمكها بلا عمد ولا دعائم ؟ {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} أي إلى الجبال الشاهقة كيف نصبت على الأرض نصباً ثابتاً راسخاً لا يتزلزل ؟ ! {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} أي وإلى الأرض التي يعيشون عليها، كيف بسطت ومُهدت حتى صارت شاسعة واسعة يستقرون عليها، ويزرعون فيها أنواع المزروعات؟! قال الألوسي: ولا ينافي هذا، القول بأنها كرة أو قريبة من الكرة لمكان عظمها. والحكمةُ في تخصيص هذه الأشياء بالذكر، أن القرآن نزل على العرب وكانوا يسافرون كثيراً في الأودية والبراري منفردين عن الناس، والإِنسان إذا ابتعد عن المدينة أقبل على التفكر، فأول ما يقع بصره على البعير الذي يركبه فيرى منظراً عجيباً، وإن نظر فوقه لم ير غير السماء، وإن نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإن نظر إلى أسفل من بعيره الذي هو راكبٌ عليه لم يرَ غير الأرض وهذه كلها مخلوقات تدلّ على قدرة خالق ذلك وصانعه، وأنه الرب العظيم، الخالق المالك المتصرف، الذي لا يستحق العبادة سواه .. ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد ولم يعتبر بذلك الكفار، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بوعظهم وتذكيرهم فقال {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} أي فعظهم يا محمد وخوّفهم، ولا يهمنَّك أنهم لا ينظرون ولا يتفكرون، فإنما أنت واعظ ومرشد {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} أي لست بمتسلط عليهم ولا قاهر لهم حتى تجبرهم على الإِيمان {إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} أي لكن من أعرض عن الوعظ والتذكير، وكفر بالله العلي القدير {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} أي فيعذبه الله بنار جهنم الدائم عذابها قال القرطبي: وإنما قال {الأَكْبَرَ} لأنهم عُذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} أي إلينا رجوعهم بعد الموت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} أي ثم إن علينا وحدنا حسابهم وجزاءهم. |
سورة الْفَجْر بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الْفَجْر مكية، وهي تتحدث عن أمور ثلاثة رئيسية وهي : 1- ذكر قصص بعض الأمم المكذبين لرسل الله، كقوم عاد، وثمود، وقوم فرعون، وبيان ما حلَّ بهم من العذاب والدمار بسبب طغيانهم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ..} الآيات. 2- بيان سنة الله تعالى في ابتلاء العباد في هذه الحياة بالخير والشر، والغنى والفقر، وطبيعة الإِنسان في حبه الشديد للمال {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ..} الآيات. 3- الآخرة وأهوالها وشدائدها، وانقسام الناس يوم القيامة إِلى سعداء وأشقياء، وبيان مآل النفس الشريرة، والنفس الكريمة الخيِّرة {كَلا إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} إِلى نهاية السورة الكريمة. التذكير بقوم عاد وثمود وفرعون وما حل بهم من العذاب {وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ} هذا قسمٌ أي أُقسم بضوء الصبح عند مطاردته ظلمة الليل، وبالليالي العشر المباركات من أول ذي الحجة، لأنها أيام الاشتغال بأعمال الحج قال المفسرون : أقسم تعالى بالفجر لما فيه من خشوع القلب في حضرة الرب، وبالليالي الفاضلة المباركة وهي عشر ذي الحجة، لأنها أفضل أيام السنة، كما ثبت في صحيح البخاري (ما من أيام العمل الصالح أحبُّ إِلى الله فيهن من هذه الأيام - يعني عشر ذي الحجة - قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: ولا الجهادُ في سبيل الله، إِلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) {وَالشَّفعِ وَالْوَتْرِ} أي وأُقسم بالزوج والفرد من كل شيء فكأنه تعالى أقسم بكل شيء، لأن الأشياء إِما زوجٌ وإِما فردٌ، أو هو قسمٌ بالخلق والخالق، فإِن الله تعالى واحد "وتر" والمخلوقات ذكرٌ وأنثى "شفع" {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} أي وأُقسم بالليل إِذا يمضي بحركة الكون العجيبة، والتقييد بسريانه لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة، ووفور النعمة {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} أي هل فيما ذكر من الأشياء قسمٌ مقنع لذي لب وعقل ؟! والاستفهام تقريريٌ لفخامة شأن الأمور المقسم بها، كأنه يقول : إِن هذا لقسمٌ عظيمٌ عند ذوي العقول والألباب، فمن كان ذا لُب وعقل علم أن ما أقسم الله عز وجل به من هذه الأشياء فيها عجائب، ودلائل تدل على توحيده وربوبيته، فهو حقيق بأن يُقسم به لدلالته على الإِله الخالق العظيم قال القرطبي: قد يُقسم الله بأسمائه وصفاته لعلمه، ويُقسم بأفعاله لقدرته كما قال تعالى {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} ويُقسم بمفعولاته لعجائب صنعه كما قال {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} {وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ} وجواب القسم محذوف تقديره: ورب هذه الأشياء ليعذبنَّ الكفار، ويدل عليه قوله {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} ؟ أي ألم يبلغك يا محمد ويصل إِلى علمك، ماذا فعل الله بعاد قوم هود ؟ {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} أي عاداً الأولى أهل إرم ذات البناء الرفيع، الذين كانوا يسكنون بالأحقاف بين عُمان وحضرموت {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} أي تلك القبيلة التي لم يخلق الله مثلهم في قوتهم، وشدتهم، وضخامة أجسامهم ! والمقصود من ذلك تخويف أهل مكة بما صنع تعالى بعاد، وكيف أهلكهم وكانوا أطول أعماراً، وأشدَّ قوة من كفار مكة؟! قال ابن كثير: وهؤلاء "عاد الأولى" وهم الذين بعث الله فيهم رسوله "هوداً" عليه السلام فكذبوه وخالفوه وكانوا عتاة متمردين جبارين، خارجين عن طاعة الله مكذبين لرسله، فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمَّرهم، وجعلهم أحاديث وعِبراً {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي وكذلك ثمود الذين قطعوا صخر الجبال، ونحتوا بيوتاً بوادي القُرى {وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين} وكانت مساكنهم في الحجر بين الحجاز وتبوك قال المفسرون: أول من نحت الجبال والصخور والرخام قبيلة ثمود وكانوا لقوتهم يخرجون الصخور، وينقبون الجبال فيجعلونها بيوتاً لأنفسهم، وقد بنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة بوادي القرى{وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} أي وكذلك فرعون الطاغية الجبار، ذي الجنود والجموع والجيوش التي تشد ملكه قال أبو السعود: وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربونها في منازلهم أو لتعذيبه بالأوتاد {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ} أي أولئك المتجبرين "عاداً، وثمود، وفرعون" الذين تمردوا وعتوا عن أمر الله، وجاوزوا الحدَّ في الظلم والطغيان {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} أي فأكثروا في البلاد الظلم والجور والقتل، وسائر المعاصي والآثام {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} أي فأنزل عليهم ربك ألواناً شديدة من العذاب بسب إِجرامهم وطغيانهم قال المفسرون: استعمل لفظ الصبّ لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب، كما قال القائل "صببنا على الظالمين سياطنا" والمراد أنه تعالى أنزل على كل طائفة نوعاً من العذاب، فأُهلكت عادٌ بالريح، وثمود بالصيحة، وفرعون وجنوده بالغرق كما قال تعالى{فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} أي إِن ربك يا محمد ليرقب عمل الناس، ويحصيه عليهم، ويجازيهم به قال ابن جزي: المرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد، والمراد أنه تعالى رقيب على كل إِنسان، وأنه لا يفوته أحد من الجبابرة والكفار، وفي ذلك تهديدٌ لكفار قريش. حال الطغاة المتجبرين، وجحود الإنسان ولما ذكر تعالى ما حلَّ بالطغاة المتجبرين، ذكر هنا طبيعة الإِنسان الكافر، الذي يبطر عند الرخاء، ويقنط عند الضراء فقال {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ} أي إِذا اختبره وامتحنه ربه بالنعمة {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} أي فأكرمه بالغنى واليسار، وجعله منعماً في الدنيا بالبنين والجاه والسلطان {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} أي فيقول ربي أحسن إليَّ بما أعطاني من النعم التي أستحقها، ولم يعلم أن هذا ابتلاء له أيشكر أم يكفر ؟ {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي وأما إِذا اختبره وامتحنه ربه بالفقر وتضييق الرزق {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} أي فيقول غافلاً عن الحكمة: إِن ربي أهانني بتضييقه الرزق عليَّ قال القرطبي: وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، وإِنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظّ في الدنيا وقلّته، وأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته وتوفيقه المؤدي إلى حظ الآخرة، وإِن وسَّع عليه في الدنيا حمده وشكره، وإِنما أنكر تعالى على الإِنسان قوله {رَبِّي أَكْرَمَنِ} وقوله {رَبِّي أَهَانَنِ} لأنه إِنما قال ذلك على وجه الفخر والكبر، لا على وجه الشكر، وقال: أهانن على وجه التشكي من الله وقلة الصبر، وكان الواجب عليه أن يشكر على الخير، ويصبر على الشر، ولهذا ردعه وزجره بقوله {كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} أي ليس الإِكرام بالغنى، والإِهانة بالفقر كما تظنون، بل الإِكرام والإِهانة بطاعة الله ومعصيته ولكنكم لا تعلمون، ثم قال { بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} أي بل أنتم تفعلون ما هو شرٌ من ذلك، وهو أنكم لا تكرمون اليتيم مع إِكرام الله لكم بكثرة المال !! {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي ولا يحض بعضكم بعضاً ولا يحثه على إِطعام المحتاج وعون المسكين {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا} أي وتأكلون الميراث أكلاً شديداً، لا تسألون أمن حلالٍ هو أم من حرام ؟ قال ابن جزي: هو أن يأخذ في الميراث نصيبه ونصيب غيره، لأن العرب كانوا لا يُعطون من الميراث أنثى ولا صغيرا، بل ينفرد به الرجال {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} أي وتحبون المال حباً كثيراً مع الحرص والشره، وهذا ذمٌ لهم لتكالبهم على المال، وبخلهم بإِنفاقه. ندم المقصرين عند رؤية العذاب سبب النزول : نزول الآية (27) : {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ..} : أخرج ابن أبي حاتم عن بريدة في قوله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} قال : نزلت في حمزة. وأخرج أيضاً عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يشتري بئر رُومة، يستعذب بها، غفر الله له، فاشتراها عثمان، فقال : هل لك أن تجعلها سقاية للناس ؟ قال: نعم، فأنزل الله في عثمان: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ..}. {كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} {كَلا} للردع أي ارتدعوا أيها الغافلون وانزجروا عن ذلك، فأمامكم أهوال عظيمة في ذلك اليوم العصيب، وذلك حين تزلزل الأرض وتحرك تحريكاً متتابعاً، قال الجلال: أي زلزلت حتى ينهدم كل بناءٍ عليها وينعدم {وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} أي وجاء ربك يا محمد لفصل القضاء بين العباد، وجاءت الملائكة صفوفاً متتابعة صفاً بعد صف قال ابن جزي: قال المنذر بن سعيد: معناه ظهوره للخلق هنالك، وهذه الآية وأمثالها مما يجب الإِيمان به من غير تكييفٍ ولا تمثيل وقال ابن كثير: قام الخلائق من قبورهم لربهم، وجاء ربك لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعدما يستشفعون إِليه بسيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم، فيجيء الربُ تبارك وتعالى لفصل القضاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً {وَجِاْىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} أي وأحضرت جهنم ليراها المجرمون كقوله {وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} وفي الحديث (يُؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرّونها) {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ} أي في ذلك اليوم الرهيب، والموقف العصيب، يتذكر الإِنسان عمله، ويندم على تفريطه وعصيانه، ويريد أن يقلع ويتوب {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} أي ومن أين يكون له الانتفاع بالذكرى وقد فات أوانها ؟! {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} أي يقول نادماً متحسراً: يا ليتني قدمت عملاً صالحاً ينفعني في آخرتي، لحياتي الباقية قال تعالى {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} أي ففي ذلك اليوم ليس أحد أشد عذاباً من تعذيب الله من عصاه {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} أي ولا يقيد أحدٌ بالسلاسل والأغلال مثل تقييد الله للكافر الفاجر، وهذا في حق المجرمين من الخلائق، فأما النفس الزكية المطمئنة فيقال لها {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} أي يا أيتها النفس الطاهرة الزكية المطمئنة بوعد الله التي لا يلحقها اليوم خوفٌ ولا فزع {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} أي ارجعي إِلى رضوان ربك وجنته، راضيةً بما أعطاك الله من النعم، مرضيةً عنده بما قدمت من عمل قال المفسرون: هذا الخطاب والنداء يكون عند الموت، فيقال للمؤمن عند احتضاره تلك المقالة {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أي فادخلي في زمرة عبادي الصالحين {وَادْخُلِي جَنَّتِي} أي وادخلي جنتي دار الأبرار الصالحين. |
سورة البلد بَين يَدَيْ السُّورَة * هذه السورة الكريمة مكية، وأهدافها نفس أهداف السور المكية، من تثبيت العقيدة والإِيمان، والتركيز على الإِيمان بالحساب والجزاء، والتمييز بين الأبرار والفجار. * ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالبلد الحرام، الذي هو سكنُ النبي عليه الصلاة والسلام، تعظيماً لشأنه، وتكريماً لمقامه الرفيع عند ربه، ولفتاً لأنظار الكفار إلى أن إيذاء الرسول في البلد الأمين من أكبر الكبائر عند الله تعالى. * ثم تحدثت عن بعض كفار مكة، الذين اغتروا بقوتهم، فعاندوا الحقَّ، وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنفقوا أموالهم في المباهاة والمفاخرة، ظناً منهم أن إنفاق الأموال يدفع عنهم عذاب الله، وقد ردت عليهم الآيات بالحجة القاطعة والبرهان الساطع. * ثم تناولت أهوال القيامة وشدائدها، وما يكون بين يدي الإِنسان في الآخرة من مصاعب ومتاعب وعقباتٍ لا يستطيع أن يقطعها ويجتازها إلا بالإِيمان والعمل الصالح. * وختمت السورة الكريمة بالتفريق بين المؤمنين والكفار في ذلك اليوم العصيب، وبينت مآل السعداء، ومآل الأشقياء، في دار الجزاء. اغترار الإنسان بقوته سبب النزول: نزول الآية (5) : {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقدِرَ}: روي أن هذه الآية: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟} نزلت في أبي الأشدّ بن كَلَدة الْجُمَحي، الذي كان مغتراً بقوته البدنية. قال ابن عباس: كان أبو الأشدّين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالاً كثيراً، وهو في ذلك كاذب. نزول الآية (6) : {يَقُولُ أَهْلَكْتُ..} قال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب، فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يُكَفِّر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغياناً منه، أو أسفاً عليه، فيكون ندماً منه. {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}هذا قسمٌ، أقسم سبحانه بالبلد الحرام "مكة" التي شرَّفها الله تعالى بالبيت العتيق - قبلة أهل الشرق والغرب - وجعلها مهبط الرحمات، وإليها تجبى ثمرات كل شيء، وجعلها حرماً آمناً، وجعل حرمتها منذ خلق السماوات والأرض، فلما استجمعت تلك المزايا والفضائل أقسم الله تعالى بها قال ابن جزي: أراد بالبلد "مكة" باتفاق، وأقسم بها تشريفاً لها {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} أي وأنت يا محمد ساكنٌ ومقيم بمكة بلد الله الأمين قال البيضاوي أقسم بالبلد الحرام وقيَّده بحلوله عليه السلام فيه - أي إقامته فيه - إظهاراً لمزيد فضله، وإشعاراً بأن شرف المكان بشرف أهله {وَوَالِدٍ} أي وأُقسم بآدم وذريته الصالحين قال مجاهد: الوالد آدم عليه السلام {وَمَا وَلَدَ} جميع ذريته قال ابن كثير: وما ذهب إليه مجاهد وأصحابه حسنٌ قوي، لأنه تعالى لما أقسم بأُم القرى وهي المساكن، أقسم بعده بالساكن وهو "آدم" أبو البشر وولده وقال الخازن: أقسم الله تعالى بمكة لشرفها وحرمتها، وبآدم بالأنبياء والصالحين من ذريته، لأن الكافر - وإن كان من ذريته - لا حرمة له حتى يقسم به {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} هذا هو المقسم عليه أي لقد خلقنا الإِنسان في تعب ومشقة، فإنه لا يزال يقاسي أنواع الشدائد، من وقت نفخ الروح فيه إلى حين نزعها منه قال ابن عباس: {فِي كَبَدٍ} أي في مشقة وشدة، من حمله، وولادته، ورضاعه، وفطامه، ومعاشه، وحياته، وموته، وأصل الكبد: الشدة، وقيل: لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق قال أبو السعود: والآية تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من كفار مكة .. ثم أخبر تعالى عن طبيعة الإِنسان الجاحد بقدرة الله، والمكذب للبعث والنشور فقال {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} أي أيظن هذا الشقي الفاجر، المغتر بقوته، أنَّ الله تعالى لا يقدر عليه لشدته وقوته ؟ قال المفسرون: نزلت في "أبي الأشد بن كلدة" كان شديداً مغتراً بقوته، وكان يبسط له الأديم – الجلد – فيوضع تحت قدميه، ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ولا تزلّ قدماه، ومعنى الآية: أيظن هذا القوي المارد، المستضعف للمؤمنين، أنه لن يقدر على الانتقام منه أحد ؟ {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا} أي يقول هذا الكافر: أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم قال الألوسي: أي يقول فخراً ومباهاة على المؤمنين: أنفقت مالاً كثيراً، وأراد بذلك ما أنفقه "رياءً وسمعةً" وعبر عن الإِنفاق بالإِهلاك، إظهاراً لعدم الاكتراث، وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع، فكأنه جعل المال الكثير ضائعاً، وقيل يقول ذلك إظهاراً لشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}؟ أي أيظن أنَّ الله تعالى لم يره حين كان ينفق، ويظن أن أعماله تخفى على رب العباد ؟ ليس الأمر كما يظن، بل إن الله رقيب مطلعٌ عليه، سيسأله يوم القيامة ويجازيه عليه. تذكير الله بنعمه للعظة والتوجيه ثم ذكَّره تعالى بنعمه عليه ليعتبر ويتعظ فقال {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} أي ألم نجعل له عينين يبصر بهما ؟ {وَلِسَانًا} أي ولساناً ينطق به فيعبر عما في ضميره ؟ {وَشَفَتَيْنِ} أي وشفتين يطبقهما على فمه، ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلك ؟ قال الخازن: يريد أن نعم الله على عبده متظاهرة، يقرره بها كي يشكره {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي وبينا له طريقي الخير والشر، والهدى والضلال، ليسلك طريق السعادة، ويتجنب طريق الشقاوة قال ابن مسعود: {النَّجْدَيْنِ} الخير والشر كقوله تعالى {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي فهلا أنفق ماله في اجتياز العقبة الكؤود، بدل أن ينفقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ؟! قال أبو حيّان: والعقبةُ استعارةٌ للعمل الشاق على النفس، من حيث بذل المال، تشبيهاً لها بعقبة الجبل وهو ما صعب منه وقت الصعود، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها، ومعنى اقتحمها دخلها بسرعة وشدة، وهو مثلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس، والهوى، والشيطان، حتى ينال رضى الرحمن {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} أي وما أعلمك ما اقتحام العقبة ؟ وفيه تعظيم لشأنها وتهويل .. ثم فسرها تعالى بقوله {فَكُّ رَقَبَةٍ} أي هي عتق الرقبة في سبيل الله، وتخليص صاحبها من الأسر والرقِّ، فمن أعتق رقبة كانت له فداء من النار {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} أي أو أن يطعم الفقير في يوم عصيب ذي مجاعة، قال الصاوي وقيَّد الإِطعام بيوم المجاعة، لأن إخراج المال فيه أشد على النفس {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} أي أطعم اليتيم الذي بينه وبينه قرابة {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أو المسكين الفقير البائس الذي قد لصق بالتراب من فقره وضره، وهو كناية عن شدة الفقر والبؤس قال ابن عباس: هو المطروح على ظهر الطريق لا يقيه من التراب شيء {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} أي عمل هذه القربات لوجه الله تعالى، وكان مع ذلك مؤمناً صادق الإِيمان قال المفسرون: وفي الآية إشارة إلى أن هذه القُرَب والطاعات لا تنفع إلا مع الإِيمان {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} أي وأوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإِيمان وطاعة الرحمن، وبالرحمة والشفقة على الضعفاء المساكين {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات الجليلة، هم أصحاب الجنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، ويسعدون بدخول جنات النعيم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} قرن بين الأبرار والفجار على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب، لبيان المفارقة الهائلة بين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشرار أي والذين جحدوا نبوة محمد وكذبوا بالقرآن هم أهل الشمال - أهل النار - لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، وعبر عنهم بضمير الغائب إشارة إلى أنهم غائبون عن حضرة قدسه، وكرامة أُنسه {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ} أي عليهم نارٌ مطبقة مغلقة، لا يدخل فيها روحٌ ولا ريحان، ولا يخرجون منها أبد الزمان .. اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، ونجنا من ذلك يا رب. |
سورة الشَّمْس بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الشَّمْس مكية، وقد تناولت موضوعين اثنين وهما: 1- موضوع النفس الإِنسانية، وما جبَلها الله عليه من الخير والشر، والهدى والضلال. 2- وموضوع الطغيان ممثلاً في {ثَمُودُ} الذين عقروا الناقة فأهلكهم الله ودمرهم. * ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بسبعة أشياء من مخلوقات الله جل وعلا، فأقسم تعالى بالشمس وضوئها الساطع، وبالقمر إِذا أعقبها وهو طالع، ثم بالنهار إِذا جلا ظلمة الليل بضيائه، وبالليل إِذا غطَّى الكائنات بظلامه، ثم بالقادر الذي أحكم بناء السماء بلا عمد، وبالأرض الذي بسطها على ما جمد، وبالنفس البشرية التي كملها الله وزينها بالفضائل والكمالات، أقسم بهذه الأمور على فلاح الإِنسان ونجاحه إِذا اتقى الله، وعلى شقاوته وخسرانه إِذا طغى وتمرد. * ثم ذكر تعالى قصة {ثَمُودُ} قوم صالح حين كذبوا رسولهم، وطغوا وبغوا في الأرض، وعقروا الناقة التي خلقها الله تعالى من صخر أصم معجزةً لرسوله صالح عليه السلام، وما كان من أمر هلاكهم الفظيع الذي بقي عبرةً لمن يعتبر، وهو نموذج لكل كافرٍ فاجرٍ مكذب لرسل الله. * وقد ختمت السورة الكريمة بأنه تعالى لا يخاف عاقبة إِهلاكهم وتدميرهم، لأنه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}. قسمه تعالى بنفسه ومخلوقاته على فلاح التقيّ وخسران الشقيّ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}أي أُقسم بالشمس وضوئها الساطع إِذا أنار الكون وبدَّد الظلام {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} أي وأُقسم بالقمر إِذا سطع مضيئاً، وتبع الشمس طالعاً بعد غروبها قال المفسرون: وذلك في النصف الأول من الشهر، إِذا غربت الشمس تلاها القمر في الإِضاءة وخلقها في النور، وحكمةُ القسم بالشمس أن العالم في وقت غيبة الشمس عنهم كالأموات، فإِذا ظهر الصبح وبزغت الشمس دبت فيهم الحياة، وصار الأموات أحياء فانتشروا لأعمالهم وقت الضحوة، وهذه الحالة تشبه أحوال القيامة، ووقتُ الضحى يشبه استقرار أهل الجنة فيها، والشمسُ والقمر مخلوقان لمصالح البشر، والقسم بهما للتنبيه على ما فيهما من المنافع العظيمة {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا} أي وأقسم بالنهار إِذا جلا ظلمة الله بضيائه، وكشفها بنوره وقال ابن كثير: إِذا جلا البسيطة وأضاء الكون بنوره {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} أي وأقسمُ بالليل إِذا غطَّى الكون بظلامه، ولفَّه بشبحه، فالنهار يجلي المعمورة ويظهرها، والليل يغطيها ويسترها، قال الصاوي: وأتى بالفعل مضارعاً { يَغْشَاهَا} ولم يقل {غشيها} مراعاةً للفواصل {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} أي وأقسم بالقادر العظيم الذي بنى السماء، وأحكم بناءها بلا عمد قال المفسرون: {وَمَا} اسم موصول بمعنى "منْ" أي والسماء ومن بناها والمراد به الله رب العالمين، بدليل قوله بعده {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} كأنه قال: والقادر العظيم الشأن الذي بناها، فدلَّ بناؤها وإِحكامها على وجوده، وكمال قدرته {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} أي وأقسمُ بالأرض ومن بسطها من كل جانب، وجعلها ممتدة ممهَّدة، صالحة لسكنى الإِنسان والحيوان، وهذا لا ينافي كرويتها كما قال المفسرون، لأن الغرض من الآية الامتنان بجعل الأرض ممتدة واسعة، ميسّرة للزراعة والفلاحة وسكنى الإِنسان {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أي وأقسمُ بالنفس البشرية وبالذي أنشأها وأبدعها، وجعلها مستعدة لكمالها، وذلك بتعديل أعضائها، وقواها الظاهرة والباطنة، ومن تمام تسويتها أن وهبها العقل الذي تميز به بين الخير والشر، والتقوى والفجور، ولهذا قال {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أي وعرَّفها الفجور والتقوى، وما تميز به بين رشدها وضلالها قال ابن عباس: بيَّن لها الخير والشر، والطاعة والمعصية، وعرَّفها ما تأتي وما تتقي قال المفسرون: أقسم سبحانه بسبعة أشياء "الشمس، والقمر، والليل، والنهار، والسماء، والأرض، والنفس البشرية" إِظهاراً لعظمة قدرته، وانفراده بالألوهية، واشارةً إِلى كثرة مصالح تلك الأشياء وعظم نفعها وأنها لا بد لها من صانع ومدبر لحركاتها وسكناتها وقال الإِمام الفخر الرازي: لما كانت الشمس أعظم المحسوسات، ذكرها تعالى مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمها، ثم ذكر سبحانه ذاته المقدسة، ووصفها - جلَّ وعلا - بصفاتٍ ثلاث ليحظى العقل بإِدراك جلال الله تعالى وعظمته، كما يليق به جلَّ جلاله، فكان ذلك طريقاً إِلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات، إِلى بيداء أوج كبريائه جلَّ شأنه {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} هذا هو جواب القسم أي لقد فاز وأفلح من زكَّى نفسه بطاعة الله، وطهَّرها من دنس المعاصي والآثام {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أي وقد خسر وخاب من حقَّر نفسه بالكفر والمعاصي، وأوردها موارد الهلكة، فإِنَّ من طاوع هواه، وعصى أمر مولاه، فقد نقص من عداد العقلاء، والتحق بالجهلة الأغبياء. العبرة بقصة ثمود، وحال من طغى ثم ضرب تعالى مثلاً لمن طغى وبغى، ولم يطهر نفسه من دنس الكفر والعصيان، فذكر {ثَمُودَ} قوم صالح عليه السلام فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} أي كذبت ثمود نبيها بسبب طغيانها {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} أي حين انطلق أشقى القوم بسرعةٍ ونشاط يعقر الناقة قال ابن كثير: وهو "قدار بن سالف" الذي قال الله فيه {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} وكان عزيزاً شريفاً في قومه، ورئيساً مطاعاً فيهم، وهو أشقى القبيلة {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} أي فقال لهم صالح عليه السلام {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} أي احذروا ناقة الله أن تمسوها بسوء، واحذروا أيضاً أن تمنعوها من سُقياها أي شربها ونصيبها من الماء كما قال تعالى {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} أي فكذبوا نبيهم صالحاً وقتلوا الناقة، ولم يلتفتوا إلى تحذيره {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} أي فأهلكهم اللهُ ودمَّرهم عن آخرهم بسبب إِجرامهم وطغيانهم قال الخازن: والدمدمة: هلاكٌ باستئصال والمعنى أطبق عليهم العذاب طبقاً فلم ينفلت منهم أحد {فَسَوَّاهَا} أي فسوَّى بين القبيلة في العقوبة فلم يفلت منهم أحد، لا صغير ولا كبير، ولا غنيٌ ولا فقير {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} أي ولا يخاف تعالى عاقبة إِهلاكهم وتدميرهم، كما يخاف الرؤساء والملوك عاقبة ما يفعلون، لأنه تعالى لا يُسأل عما يفعل. |
سورة اللَّيْل بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة اللَّيْل مكية، وهي تتحدث عن سعي الإِنسان وعمله، وعن كفاحه ونضاله في هذه الحياة، ثم نهايته إلى النعيم أو إِلى الجحيم. * ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالليل إِذا غشي الخليقة بظلامه، وبالنهار إِذا أنار الوجود بإِشراقه وضيائه، وبالخالق العظيم الذي أوجد النوعين الذكر والأنثى، أقسم على أن عمل الخلائق مختلف، وطريقهم متباين {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى *وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى *إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}. * ثم وضحت سبيل السعادة، وسبيل الشقاء، ورسمت الخطَّ البياني لطالب النجاة، وبينت أوصاف الأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}. * ثم نبهت إِلى اغترار بعض الناس بأموالهم التي جمعوها، وثرواتهم التي كدسوها، وهي لا تنفعهم في القيامة شيئاً، وذكَّرتهم بحكمة الله في توضيحه لعباده طريق الهداية وطريق الضلالة {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى *إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى *وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}. * ثم حذَّرت أهل مكة من عذاب الله وانتقامه، ممن كذَّب بآياته ورسوله، وأنذرهم من نار حامية تتوهج من شدة حرها، لا يدخلها ولا يذوق سعيرها إِلا الكافر الشقي، المعرض عن هداية الله {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى* لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}. * وختمت السورة بذكر نموذج للمؤمن الصالح، الذي ينفق ماله في وجوه الخير، ليزكي نفسه ويصونها من عذاب الله، وضربت المثل بأبي بكر الصديق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً وأعتقه في سبيل الله {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى* إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى* وَلَسَوْفَ يَرْضَى}. * * * اختلاف عمل الخلائق وتباين طرقهم سبب النزول: نزول الآية (5): {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى..}: أخرج ابن جرير والحاكم عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه (أبو قحافة): أي بني ! أراك تعتق أناساً ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالاً جلداء، يقومون معك، ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبتِ، إنما أريد ما عند الله، فنزلت هذه الآيات فيه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى..} إلى آخر السورة. نزول الآية (8): {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ }: قال ابن عباس: نزلت في أُمية بن خَلَف. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}أي أُقسمُ بالليل إِذا غطَّى بظلمته الكون، وستر بشبحه الوجود {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أي وأُقسمُ بالنهار إِذا تجلَّى وانكشف، وأنار العالم وأضاء الكون قال المفسرون: أقسم تعالى بالليل لأنه سكنٌ لكافة الخلق، يأوي فيه الإِنسان والحيوان إِلى مأواه، ويسكن عن الاضطراب والحركة، ثم أقسم بالنهار لأن فيه حركة الخلق وسعيهم إِلى اكتساب الرزق، والحكمة في هذا القسم ما في تعاقب الليل والنهار من مصالح لا تُحصى فإِنه لو كان العمر كله ليلاً لتعذر المعاش، ولو كان كله نهاراً لما سكن الإِنسان إِلى الراحة، ولاختلت مصالح البشر {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} أي وأُقسمُ بالقادر العظيم الذي خلق صنفي الذكر والأنثى، من نطفةٍ إِذا تمنى .. أقسم تعالى بذاته على خلق النوعين {الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} للتنبيه على أنه الخالق المبدع الحكيم، إِذْ لا يُعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى يحصل بمحض الصدفة من طبيعة بلهاء لا شعور لها فإِن الأجزاء الأصلية في المنيّ متساوية، فتكوينُ الولد من عناصر واحدة تارةً ذكراً، وتارة أنثى، دليلٌ على أن واضع هذا النظام عالم، بما يفعل، محكم لما يصنع {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} هذا هو جواب القسم أي إِن عملكم لمختلف، فمنكم تقيٌ ومنكم شقي، ومنكم صالحٌ ومنكم طالح، ثم فسَّره بقوله {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} أي فأما من أعطى ماله وأنفق ابتغاء وجه الله، واتقى ربه فكف عن محارم الله قال ابن كثير: أعطى ما أُمر بإخراجه، واتقى الله في أموره {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي وصدَّق بالجنة التي أعدَّها الله للأبرار {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} أي فسنهيئه لعمل الخير، ونسهّل عليه الخصلة المؤدية لليسر، وهي فعل الطاعات وترك المحرمات {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاستَغْنَى} أي وأمَّا من بخل بإِنفاق المال، واستغنى عن عبادة ذي الجلال قال ابن عباس: بخل بماله، واستغنى عن ربه عزَّ وجل {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي وكذَّب بالجنة ونعيمها {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي فسنهيئه للخصلة المؤدية للعسر، وهي الحياة السيئة في الدنيا والآخرة وهي طريق الشر قال المفسرون: سمَّى طريقة الخير يسرى لأن عاقبتها اليسر وهي دخول الجنة دار النعيم، وسمَّى طريقة الشرِّ عسرى لأن عاقبتها العسر وهو دخول الجحيم {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} استفهام إِنكاري أيْ أيُّ شيء ينفعه ماله إِذا هلك وهوى في نار جهنم ؟ هل ينفعه المال، ويدفع عنه الوبال ؟ قد أعذر من أنذر سبب النزول: نزول الآية (17): { وَسَيُجَنَّبُهَا..}: أخرج ابن أبي حاتم عن عروة: أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة، كلهم يعذب في الله، وفيه نزلت: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} إلى آخر السورة. نزول الآية (19)}: {وَمَا لأَحَدٍ.. }: روى عطاء عن ابن عباس قال: إن بلالاً لما أسلم، ذهب إلى الأصنام فسلم عليها، وكان عبداً لعبد الله بن جُدْعان، فشكا إليه المشركين ما فعل، فوهبه لهم، ومئة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء، وهو يقول: أحَدٌ أحَدٌ فمرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ينجيك أحدٌ أحدٌ. ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر: أن بلالاً يعذّب في الله، فحمل أبو بكر رطلاً من ذهب، فابتاعه به. فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك إلا لِيَدٍ كانت لبلال عنده، فأنزل الله تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}. {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}أي إِنَّ علينا أن نبيِّن للناس طريق الهدى من طريق الضلالة، ونوضّح سبيل الرشد من سبيل الغي كقوله {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} أي لنا ما في الدنيا والآخرة، فمن طلبهما من غير الله فقد أخطأ الطريق {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} أي فحذرتكم يا أهل مكة ناراً تتوقَّد وتتوهج من شدة حرارتها {لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى} أي لا يدخلها للخلود فيها ولا يذوق سعيرها، إِلاّ الكافر الشقي .. ثم فسَّره تعالى بقوله {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي كذَّب الرسل وأعرض عن الإِيمان {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} أي وسيبعد عن النار التقيُ النقيُّ، المبالغ في اجتناب الشرك والمعاصي .. ثم فسَّره تعالى بقوله {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} أي الذي ينفق ماله في وجوه الخير ليزكي نفسه {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} أي وليس لأحدٍ عنده نعمة حتى يكافئه عليها، وإِنما ينفق لوجه الله قال المفسرون: نزلت الآيات في حقِّ "أبي بكر الصديق" حين اشترى بلالاً وأعتقه في سبيل الله فقال المشركون: إِنما فعل ذلك لِيَدٍ كانت له عنده فنزلت {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} أي ليس له غاية إِلا مرضاة الله {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أي ولسوف يعطيه الله في الآخرة ما يرضيه وعْدٌ كريم من رب رحيم. |
سورة الضُّحَى بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الضُّحَى مكية، وهي تتناول شخصية النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وما حباه الله به من الفضل والإِنعام في الدنيا والآخرة، ليشكر الله على تلك النعم الجليلة. * ابتدأت السورة الكريمة بالقسم على جلالة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم وأن ربه لم يهجره ولم يبغضه كما زعم المشركون، بل هو عند الله رفيع القدر، عظيم الشأن والمكانة {وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى* وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَمِنَالأُولَى*}. * ثم بشرته بالعطاء الجزيل في الآخرة، وما أعدَّه الله تعالى لرسوله من أنواع الكرامات، ومنها الشفاعة العظمى {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}. * ثم ذكَّرته بما كان عليه في الصغر، من اليتم، والفقر، والفاقة، والضياع، فآواه ربه وأغناه، وأحاطه بكلأه وعنايته {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}. * وختمت السورة بتوصيته صلى الله عليه وسلم بوصايا ثلاث، مقابل تلك النعم الثلاث، ليعطف على اليتيم، ويرحم المحتاج، ويمسح دمعة البائس المسكين {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وهو ختمٌ يتناسق فيه جمال اللفظ مع روعة البيان. إنعام الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم سبب النزول: نزول الآية (1) : وما بعدها: أخرج الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله: {وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى*}. نزول الآية (4): {لَلآخِرَةُ خَيْرٌ..}: أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُرض عليّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي، فسرّني" فأنزل الله: {لَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَمِنَالأُولَى} وإسناده حسن. نزول الآية (5): أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: عُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته كَفْراً كَفْراً - أي قرية قرية - فسُرّ به، فأنزل الله : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}. {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} أقسم تعالى بوقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمسُ، وأقسم بالليل إِذا اشتد ظلامه، وغطَّى كل شيء في الوجود قال ابن عباس: {سَجَى} أقبل بظلامه قال ابن كثير: هذا قسمٌ منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء، وبالليل إِذا سكن فأظلم وادلهمَّ، وذلك دليلٌ ظاهر على قدرته تعالى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} أي ما تركك ربك يا محمد منذ اختارك، ولا أبغضك منذ أحبك، وهذا ردٌّ على المشركين حين قالوا: هجره ربه، وهو جواب القسم {وَللآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَمِنَالأُولَى} أي وللدارُ الأخرة خيرٌ لك يا محمد من هذه الحياة الدنيا، لأن الآخرة باقية، والدنيا فانية، ولهذا كان عليه السلام يقول : اللهم لا عيش إِلا عيشُ الآخرة {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} أي سوف يعطيك ربك في الآخرة من الثواب، والكرامة، والشفاعة، وغير ذلك إِلى أن ترضى قال ابن عباس: هي الشفاعة في أُمته حتى يرضى، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أمته فقال: اللهم أُمتي أُمتي وبكى، فقال الله يا جبريل اذهب إِلى محمد واسأله ما يبكيك ؟ - وهو أعلم – فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله فأخبره رسول الله بما قال ، قال الله: يا جبريل اذهب إِلى محمد وقل له: إِنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك، وفي الحديث (لكل نبي دعوةٌ مستجابة، فتعجَّل كل نبي دعوته، وإِني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة) الحديث قال الخازن: والأولى حملُ الآية على ظاهرها ليشمل خيري الدنيا والآخرة معاً، فقد أعطاه الله تعالى في الدنيا النصر والظفر على الأعداء، وكثرة الأتباع والفتوح، وأعلى دينه، وجعل أمته خير الأمم، وأعطاه في الآخرة الشفاعة العامة، والمقام المحمود، وغير لك من خيري الدنيا والآخرة .. ثم لما وعده بهذا الوعد الجليل، ذكَّره بنعمه عليه في حال صغره ليشكر ربه فقال {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} أي ألم تكنْ يا محمد يتيماً في صغرك، فآواك الله إِلى عمك أبي طالب وضمَّك إِليه ؟ قال ابن كثير: وذلك أن أباه توفي وهو حملٌ في بطن أمه، ثم توفيت أُمه وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده "عبد المطلب" إِلى أن تُوفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه "أبو طالب" ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره حتى ابتعثه الله على رأس الأربعين وأبو طالب على عبادة الأوثان مثل قومه ومع ذلك كان يدفع الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلُّ هذا من حفظ الله له، وكلاءته وعنايته به {وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى} أي ووجدك تائهاً عن معرفة الشريعة والدين فهداك إِليها كقوله تعالى {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} قال الإِمام الجلال: أي وجدك ضالاً عما أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها، وقيل: ضلَّ في بعض شعاب مكة وهو صغير فردَّه الله إلى جده قال أبو حيان: لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى، لأن الأنبياء معصومون من ذلك قال ابن عباس: هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة، وقيل: ضلَّ وهو مع عمه في طريق الشام {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} أي ووجدك فقيراً محتاجاً فأغناك عن الخلق، بما يسَّر لك من أسباب التجارة .. ولمَّا عدَّد عليه هذه النعم الثلاث، وصَّاه بثلاث وصايا مقابلها فقال {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} أي فأما اليتيم فلا تحتقره ولا تغلبه على ماله قال مجاهد: أي لا تحتقره وقال سفيان: لا تظلمه بتضييع ماله، والمراد كن لليتيم كالأب الرحيم، فقد كنت يتيماً فآواك الله {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} أي وأمَّا السائل المستجدي الذي يسأل عن حاجة وفقر، فلا تزجره إِذا سألك ولا تُغلظ له القول بل أعطه أو ردَّه رداً جميلاً قال قتادة: ردَّ المسكين برفقٍ ولين {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي حدِّثْ الناس بفضل الله وإِنعامه عليك، فإِن التحدث بالنعمة شكر لها قال الألوسي: كنت يتيماً وضالاً وعائلاً، فآواك الله وهداك وأغناك، فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث، فتعطَّف على اليتيم، وترحَّم على السائل، فقد ذقت اليُتْمَ والفقر، وأرشد العباد إِلى طريق الرشاد، كما هداك ربك. |
الساعة الآن 06:16 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |