![]() |
سورة الشرح بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الشرح مكية، وهي تتحدث عن مكانة الرسول الجليلة، ومقامه الرفيع عند الله تعالى، وقد تناولت الحديث عن نعم الله العديدة على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك بشرح صدره بالإِيمان، وتنوير قلبه بالحكمة والعرفان، وتطهيره من الذنوب والأوزار، وكل ذلك بقصد التسلية لرسول الله عليه السلام عما يلقاه من أذى الفجار، وتطييب خاطره الشريف بما منحه الله من الأنوار {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}. * ثم تحدثت عن إِعلاء منزلة الرسول، ورفع مقامه في الدنيا والآخرة، وقرن اسمه صلى الله عليه وسلم باسم الله تعالى {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}. * وتناولت السورة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يقاسي مع المؤمنين الشدائد والأهوال من الكفرة المكذبين، فآنسه بقرب الفرج وقرب النصر على الأعداء {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}. * وختمت بالتذكير للمصطفى صلى الله عليه وسلم بواجب التفرغ لعبادة الله، بعد انتهائه من تبليغ الرسالة، شكراً لله على ما أولاه من النعم الجليلة {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ *وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}. * * * نعم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم سبب النزول: نزول الآية (6): {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}: نزلت لما عيَّر المشركون المسلمين بالفقر. وأخرج ابن جرير عن الحسن البصري قال: لما نزلت هذه الآية: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشروا أتاكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين". {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} استفهامٌ بمعنى التقرير أي قد شرحنا لك صدرك يا محمد بالهدى والإِيمان، ونور القرآن كقوله تعالى {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} قال ابن كثير: أي نَوَّرناه وجعلناه فسيحاً، رحيباً، واسعاً، وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحاً، سمحاً، سهلاً، لا حرج فيه ولا إصرْ ولا ضيق وقال أبو حيان: شرحُ الصدر تنويره بالحكمة، وتوسيعه لتلقي ما يوحى إِليه وهو قول الجمهور، وقيل: هو شق جبريل لصدره في صغره وهو مرويٌ عن ابن عباس {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} أي حططنا عنك حملك الثقيل {الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أي الذي أثقل وأوهن ظهرك قال المفسرون: المراد بالوزر الأمور التي فعلها صلى الله عليه وسلم، وَوَضْعُها عنه هو غفرانها له كقوله تعالى {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وليس المراد بالذنوب المعاصي والآثام، فإِن الرسل معصومون من مفارقة الجرائم، ولكن ما فعله عليه السلام عن اجتهاد وعوقب عليه، كإِذنه صلى الله عليه وسل للمنافقين في التخلف عن الجهاد حين اعتذروا، وأخذه الفداء من أسرى بدر، وعبسه في وجه الأعمى ونحو ذلك، قال ابن جزي: وإِنما وصفت ذنوب الأنبياء بالثقل، وهي صغائر مغفورة لهم، لهمِّهم بها وتحسرهم عليها، فهي ثقيلة عندهم لشدة خوفهم من الله وهذا كما ورد في الأثر (إِنَّ المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كالذبابة تطير فوق أنفه) والنقيضُ هو الصوتُ الذي يسمع من المحمل فوق ظهر البعير من شدة الحمل {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} أي رفعنا شأنك، وأعلينا مقامك في الدنيا والآخرة، وجعلنا اسمك مقروناً باسمي قال مجاهد: لا أُذكر إِلا ذكرت معي وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إِلا ينادي: أشهد أن لا إِله إِلا الله وأن محمداً رسول الله، وفي الحديث (أتاني جبريل فقال لي يا محمد: إِن ربك يقول: أتدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت: الله تعالى أعلم، قال: إِذا ذكرتُ ذكرتَ معي) قال أبو حيّان: قرن الله ذكر الرسول بذكره جل وعلا في كلمة الشهادة، والأذان والإِقامة، والتشهد، والخطب، وفي غير موضع من القرآن، وأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به كما قال حسان بن ثابت: وضمَّ الإِله اسم النبي إِلى اسمه إِذا قـال في الخمس المؤذن أشهد وشـقَّ له مـن اسمه ليُجلـه فـذو العـرش محمودٌ وهذا محمد {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} أي بعد الضيق يأتي الفرج، وبعد الشدة يكون المخرج قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة في ضيق وشدة هو وأصحابه، بسبب أذى المشركين للرسول والمؤمنين، فوعده الله باليسر، كما عدَّد عليه النعم في أول السورة تسلية وتأنيساً له، لتطيب نفسه ويقوى رجاؤه، وكأن الله تعالى يقول: إِنَّ الذي أنعم عليك بهذه النعم الجليلة، سينصرك عليهم، ويظهر أمرك، ويبدل لك هذا العسر بيسرٍ قريب، ولذلك كرره مبالغة فقال: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} أي سيأتي الفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر فلا تحزن ولا تضجر وفي الحديث "لن يغلب عسرٌ يسرين" {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} أي فإِذا فرغت يا محمد من دعوة الخلق، فاجتهد في عبادة الخالق، وإِذا انتهيت من أمور الدنيا، فأتعب نفسك في طلب الآخرة {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أي اجعل همَّك ورغبتك فيما عند الله، لا في هذه الدنيا الفانية قال ابن كثير: المعنى إِذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها، فانصب إِلى العبادة، وقم إِليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة. |
سورة التِّين بَين يَدَيْ السُّورَة *سورة التِّين مكية، وهي تعالج موضوعين بارزين هما: الأول: تكريم الله جل وعلا للنوع البشري. الثاني: موضوع الإِيمان بالحساب والجزاء. * ابتدأت السورة بالقسم بالبقاع المقدسة والأماكن المشرفة، التي خصها الله تعالى بإِنزال الوحي فيها على أنبيائه ورسله وهي "بيت المقدس" و "جبل الطور" و "مكة المكرمة" على أن الله تعالى كرَّم الإِنسان، فخلقه في أجمل صورة، وأبدع شكل، وإِذا لم يشكر نعمة ربه فسيرد إِلى أسفل دركات الجحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ}. * ووبخت الكافر على إِنكاره للبعث والنشور، بعد تلك الدلائل الباهرة التي تدل على قدرة رب العالمين، في خلقه للإِنسان في أحسن شكل، وأجمل صورة {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. * وختمت ببيان عدل الله بإِثابة المؤمنين، وعقاب الكافرين {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ* أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ؟ وفيها تقرير للجزاء، وإِثبات للمعاد. تكريم بني البشر وتحذيرهم من التكذيب بالبعث والجزاء {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} هذا قسمٌ أي أُقسمُ بالتين والزيتون لبركتهما وعظيم منفعتهما قال ابن عباس: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت وقال عكرمة: أقسم تعالى بمنابت التين والزيتون، فإِن التين ينبتُ كثيراً بدمشق، والزيتون ببيت المقدس .. وهو الأظهر، ويدل عليه أن الله تعالى عطف عليه الأماكن "جبل الطور" و "البلد الأمين" فيكون بالجبل المبارك الذي كلَّم الله عليه موسى وهو "طُورِ سيناء" ذو الشجر الكثير، الحسن المبارك قال الخازن: سمي "سِينِينَ" و "سنياء" لحسنه ولكونه مباركاً، وكلُّ جبلٍ فيه أشجارٌ مثمرة يسمى سينين وسيناء {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} أي وأُقسم بالبلد الأمين "مكة المكرمة" التي يأمن فيها من دخلها على نفسه وماله كقوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} ! ! قال الألوسي: هذه أقسام ببقاع مباركة شريفة على ما ذهب إليه الكثيرون، فأما البلد الأمين فمكة المكرمة - حماها الله - بلا خلاف، وأما طور سينين فالجبل الذي كلم الله تعالى موسى عليه، ويقال له: طور سيناء، وأما التين والزيتون منبتيهما، وقيل: المراد بهما الشجران المعروفان وهو قول ابن عباس ومجاهد، والغرض من القسم بتلك الأشياء الإِبانة عن شرف البقاع المباركة، وما ظهر فيها من الخير والبركة ببعثة الأنبياء والمرسلين وقال ابن كثير: ذهب بعض الأئمة إلى أن هذه محالٌ ثلاث، بعث الله في كلٍ منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار فالأول: محلة التين والزيتون وهي "بيت المقدس" التي بعث الله فيها عيسى عليه السلام والثاني: طور سينين وهو "طور سيناء" الذي كلَّم الله عليه موسى بن عمران والثالث: البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل الله فيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر في آخر التوراة هذه الأماكن الثلاثة "جاء اللهُ من طور سيناء - الجبل الذي كلم الله عليه موسى - وأشرق من ساعير - يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى - واستعلن من جبال فاران - يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً صلى الله عليه وسلم" فذكرهم بحسب ترتيبهم بالزمان، وأقسم بالأشرف ثم الأشرف منه، ثم جنس الإِنسان في أحسن شكل، متصفاً بأجمل وأكمل الصفات، من حسن الصورة، وانتصاب القامة، وتناسب الأعضاء، مزيناً بالعلم والفهم، والعقل والتمييز، والنطق والأدب، قال مجاهد: {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أحسن صورة، وأبدع خلق {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي ثم أنزلنا درجته إِلى أسفل سافلين، لعدم قيامه بموجب ما خلقناه عليه، حيث لم يشكر نعمة خلقنا له في أحسن صورة، ولم يستعمل ما خصصناه به من المزايا في طاعتنا، فلذلك سنرده إِلى أسفل سافلين وهي جهنم قال مجاهد والحسن: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أسفل دركات النار وقال الضحاك: أي رددناه إِلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة قال الألوسي: والمتبادرُ من السياقِ الإِشارة إلى حالة الكفار يوم القيامة، وأنه يكون على أقبح صورة وأبشعها، بعد أن كان على أحسن صورة وأبدعها {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي إِلا المؤمنين المتقين الذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي فلهم ثواب دائم غير مقطوع عنهم، وهو الجنة دار المتقين {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} الخطاب للإِنسان على طريقة الالتفات فما سبب تكذيبك أيها الإنسان، بعد هذا البيان وبعد وضوح الدلائل والبراهين ؟ فإِن خلق الإِنسان من نطفة، وإِيجاده في أجمل شكل وأبدع صورة، من أوضح الدلائل على قدرة الله عز وجل على البعث والجزاء، فما الذي يدعوك إِلى التكذيب بيوم الدين بعد هذه البراهين ؟ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} أي أليس الله الذي خلق وأبدع، بأعدل العادلين حكماً وقضاءً وفضلاً بين العباد ؟ وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا قرأها قال: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. |
سورة العَلَق بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة العَلَق وتسمى {سورة اقْرَأْ} مكية وهي تعالج القضايا الآتية: أولاً: موضوع بدء نزول الوحي على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم. ثانياً: موضوع طغيان الإِنسان بالمال وتمرده على أوامر الله. ثالثاً: قصة الشقي "أبي جهل" ونهيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة. * ابتدأت السورة ببيان فضل الله على رسوله الكريم بإِنزاله هذا القرآن "المعجزة الخالدة" وتذكيره بأول النعماء وهو يتعبد ربه بغار حراء، حيث تنزَّل عليه الوحي بآيات الذكر الحكيم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.. إلى .. عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}. * ثم تحدثت عن طغيان الإِنسان في هذه الحياة بالقوة الثراء، وتمرده على أوامر الله بسبب نعمة الغنى، وكان الواجب عليه أن يشكر ربه على إِفضاله، لا أن يجحد النعماء، وذكَّرته بالعودة إِلى ربه لينال الجزاء {كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَّءآهُ اسْتَغْنَى* إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}. * ثم تناولت قصة "أبي جهل" فرعون هذه الأمة، الذي كان يتوعد الرسول ويتهدده، وينهاه عن الصلاة، انتصاراً للأوثان والأصنام {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْدًا إِذَا صَلَّى} الآيات. * وختمت السورة بوعيد ذلك الشقي الكافر، بأشد العقاب إِن استمر على ضلاله وطغيانه، كما أمرت الرسول الكريم بعدم الإِصغاء إلى وعيد ذلك المجرم الأثيم {كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ} إِلى ختام السورة {كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}. * وقد بدأت السورة بالدعوة إِلى القراءة والتعلم، وختمت بالصلاة والعبادة، ليقترن العلم بالعمل، ويتناسق البدء مع الختام. حث الإِنسان على العلم، والتحذير من اتباع الهوى سبب النزول: نزول (6): {كَلا إِنَّ الإِنسَانَ.. }: أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يُعفِّر محمدٌ وجْهَه بين أظهركم ؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل لأطأنّ على رقبته، ولأعفرنّ وجهه في التراب، فأنزل الله: {كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} الآيات. ثم إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فنكص على عقبيه، فقالوا له: مالك يا أبا الحكم ؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهولاً شديداً. {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} هذا خطاب إِلهي وجه إِلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دعوةٌ إِلى القراءة والكتابة والعلم، لأنه شعار دين الإِسلام أي إِقرأ يا محمد القرآن مبتدئاً ومستعيناً باسم ربك الجليل، الذي خلق جميع المخلوقات، وأوجد جميع العوالم، ثم فسَّر الخلق تفخيماً لشأن الإِنسان فقال {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} أي خلق هذا الإِنسان البديع الشكل، الذي هو أشرف المخلوقات من العلقة - وهي الدودة الصغيرة - وقد أثبت الطبُّ الحديث أن المنيّ الذي خلق منه الإِنسان محتوٍ على حيواناتٍ وديدان صغيرة لا تُرى بالعين، وإِنما ترى بالمجهر الدقيق - الميكروسكوب - وأن لها رأساً وذنباً، فتبارك الله أحسن الخالقين قال القرطبي: خصَّ الإِنسان بالذكر تشريفاً له، والعلقةُ قطعة من دمٍ رطب، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمرُّ عليه {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} أي اقرأ يا محمد وربك العظيم الكريم، الذي لا يساويه ولا يدانيه كريم، وقد دلَّ على كمال كرمه أنه علَّم العباد ما لم يعلموا {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} أي الذي علَّم الخطَّ والكتابة بالقلم، وعلَّم البشر ما لم يكونوا يعرفونه من العلوم والمعارف، فنقلهم من ظلمة الجهل إِلى نور العلم، فكما علَّم سبحانه بواسطة الكتابة بالقلم، فإِنه يعلمك بلا واسطة وإِن كنت أمياً لا تقرأ ولا تكتب قال القرطبي: نبَّه تعالى على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إِنسان، وما دُونت العلوم ولا قُيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتبُ الله المنزَّلة إِلا بالكتابة، ولولاها ما استقامت أمور الدنيا والدين .. وهذه الآيات الخمس هي أول ما تنزَّل من القرآن، كما ثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه الملك وهو يتعبَّد بغار حراء، فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ .. إلخ قال ابن كثير: أول شيء نزل من القرآن هذه الآيات المباركات، وهنَّ أوّل رحمةٍ رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإِنسان من علقة، وأن من كرمه تعالى أن علَّم الإِنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرَّمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به "آدم" على الملائكة .. ثم أخبر تعالى عن سبب بطر الإِنسان وطغيانه فقال {كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} أي حقاً إِن الإِنسان ليتجاوز الحد في الطغيان، واتباع هوى النفس، ويستكبر على ربه عز وجل {أَنْ رَّءآهُ اسْتَغْنَى} أي من أجل أن رأى نفسه غنياً، وأصبح ذا ثروة ومال أشر وبطر، ثم توعَّده وتهدده بقوله {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} أي إِنَّ إِلى ربك - أيها الإِنسانُ - المرجعُ والمصير فيجازيك على أعمالك، وفي الآية تهديدٌ وتحذير لهذا الإِنسان من عاقبة الطغيان، ثم هو عام لكل طاغٍ متكبر قال المفسرون: نزلت هذه الآيات إِلى آخر السورة في "أبي جهل" بعد نزول صدر السورة بمدة طويلة، وذلك أن أبا جهل كان يطغى بكثرة ماله، ويبالغ في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والعبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فرعون هذه الأمة وتهديد الطغاة ووعيدهم سبب النزول: نزول الآية (9): {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى}: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه، فأنزل الله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْدًا إِذَا صَلَّى} إلى قوله: {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}. سبب نزول الآية: (17): {فَلْيَدْعُ نَادِيَه}: أخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاءه أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا ؟ فزجره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثر مني، فأنزل الله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه* سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} وهو حسن صحيح كما قال الترمذي. {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْدًا إِذَا صَلَّى}تعجيبٌ من حال ذلك الشقي الفاجر أي أخبرني يا محمد عن حال ذلك المجرم الأثيم، الذي ينهى عبداً من عباد الله عن الصلاة، ما أسخف عقله، وما أشنع فعله !! قال أبو السعود: هذه الآية تقبيحٌ وتشنيعٌ لحال الطاغي وتعجيب منها، وإِيذان بأنها من الشناعة والغرابة بحيث يقضى منها العجب، وقد أجمع المفسرون على أن العبد المصلي هو محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الذي نهاه هو اللعين "أبو جهل" حيث قال: لئن رأيتُ محمداً يصلي لأطأن على عنقه {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} أي أخبرني إِن كان هذا العبد المصلي - وهو النبي صلى الله عليه وسلم - الذي تنهاه عن الصلاة صالحاً مهتدياً، على الطريقة المستقيمة في قوله وفعله!! {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} أي أو كان آمراً بالإِخلاص والتوحيد، داعياً إِلى الهدى والرشاد، كيف تزجره وتنهاه !! فما أبلهك أيها الغبي الذي تنهي من هذه أوصافه: عبدٌ لله مطيعٌ مهتدٍ منيب، داع إِلى الهدى والرشاد ؟! وما أعجب هذا ؟ ! ثم عاد لخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي أخبرني يا محمد إِن كذَّب بالقرآن، وأعرض عن الإِيمان {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} أي ألم يعلم ذلك الشقي أن الله مطَّلع على أحواله، مراقب لأفعاله، وسيجازيه عليها !! ويله ما أجهله وأغباه ؟! ثم ردعه وزجره فقال {كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} أي ليرتدع هذا الفاجر "أبو جهل" عن غيه وضلاله، فوالله لئن لم ينته عن أذى الرسول، ويكف عمَّا هو عليه من الكفر والضلال {لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ} أي لنأخذنه بناصيته - مقدم شعر الرأس - فلنجرنه إِلى النار بعنفٍ وشدة ونقذفه فيها {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} أي صاحب هذه الناصية كاذبٌ فاجرٌ، كثير الذنوب والإِجرام قال ابن جزي: ووصفها بالكذب والخطيئة مجازٌ، والكاذب الخاطئ في الحقيقة صاحبها، والخاطئ الذي يفعل الذنب معتمداً، والمخطئ الذي يفعله بدون قصد {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} أي فليدع أهل ناديه وليستنصر بهم {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} أي سندعوا خزنة جهنم، الملائكة الغلاظ الشداد، روي أن أبا جهل مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند المقام فقال: ألم أنهك عن هذا يا محمد ! فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم القول، فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني يا محمد ! والله إِني لأكثر أهل الوادي هذا نادياً فأنزل الله {فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته {كَلا لا تُطِعْهُ} أي ليرتدع هذا الفاجر، ولا تطعه يا محمد فيما دعاك إِليه من ترك الصلاة {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} أي وواظب على سجودك وصلاتك، وتقرَّب بذلك إِلى ربك وفي الحديث "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد". |
سورة الْقَدْر بَين يَدَيَّ السّورَة * سورة الْقَدْر مكية، وقد تحدثت عن بدء نزول القرآن العظيم، وعن فضل ليلة القدر على سائر الأيام والشهور، لما فيها من الأنوار والتجليات القدسية، والنفحات الربانية، التي يفيضها الباري جل وعلا على عباده المؤمنين، تكريماً لنزول القرآن المبين، كما تحدثت عن نزول الملائكة الأبرار حتى طلوع الفجر، فيا لها من ليلةٍ عظيمة القدر، هي خير عند الله من ألف شهر !! بدء نزول القرآن، وفضائل ليلة القدر سبب النزول: نزول الآية (1): أخرج ابن أبي حاتم والواحدي عن مجاهد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، فأنزل الله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ*} التي لبس ذلك الرجل السلاح فيها في سبيل الله. نزول الآية (3): أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي، فعمل ذلك ألف شهر، فأنزل الله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} عملها ذلك الرجل. {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي نحن أنزلنا هذا القرآن المعجز في ليلة القدر والشرف قال المفسرون: سميت ليلة القدر لعظمها وقدرها وشرفها، والمرادُ بإِنزال القرآن إِنزالهُ من اللوح المحفوظ إِلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل إِلى الأرض في مدة ثلاث وعشرين سنة كما قال ابن عباس: أنزل الله القرآن جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إِلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} تعظيمٌ وتفخيمٌ لأمرها أي وما أعلمك يا محمد ما ليلةُ القدر والشرف ؟ قال الخازن: وهذا على سبيل التعظيم لها والتشويق لخبرها كأنه قال: أي شيء يبلغ علمك بقدرها ومبلغ فضلها ؟! ثم ذكر فضلها من ثلاثة أوجه فقال تعالى {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي ليلة القدر في الشرف والفضل خيرٌ من ألف شهر، لما اختصت به من شرف إِنزال القرآن الكريم فيها قال المفسرون: العمل الصالح في ليلة القدر خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقد روي أن رجلاً لبس السلاح وجاهد في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله والمسلمون من ذلك، وتمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُمته فقال يا رب: جعلت أُمتي أقصر الأمم أعماراً، وأقلها أعمالاً !! فأعطاه الله ليلة القدر، وقال: ليلةُ القدر خيرٌ لك ولأمتك من ألف شهر، جاهد فيها ذلك الرجل قال مجاهد: علمها وصيامها وقيامها خيرٌ من ألف شهر، هذا هو الوجه الأول من فضلها ثم قال تعالى {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} أي تنزل الملائكةُ وجبريل إِلى الأرض في تلك الليلة بأمر ربهم من أجل كل أمرٍ قدَّره الله وقضاه لتلك السنة إِلى السنة القابلة، وهذا هو الوجه الثاني من فضلها، والوجه الثالث قوله تعالى {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي هي سلام من أول يومها إِلى طلوع الفجر، تسلّم فيها الملائكة على المؤمنين، ولا يُقدّر الله فيها إلا الخير والسلامة لبني الإِنسان. |
سورة الْبَيِّنَة بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الْبَيِّنَة وتسمى {سورة لَمْ يَكُنِ } مدنية، وهي تعالج القضايا الآتية: 1- موقف أهل الكتاب من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. 2- موضوع إِخلاص العبادة لله جلّ وعلا. 3- مصير كل من السعداء والأشقياء في الآخرة. * ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن "اليهود والنصارى" وموقفهم من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن بان لهم الحقُّ وسطعت أنواره، وبعد أن عرفوا أوصاف النبي المبعوث آخر الزمان، وكانوا ينتظرون بعثته ومجيئه، فلما بعث خاتم الرسل كذبوا برسالته، وكفروا وعاندوا. * ثم تحدثت السورة عن عنصر هام من عناصر الإِيمان، وهو "إِخلاص العبادة" لله العلي الكبير، الذي أمر به جميع أهل الأديان، وإِفراده جلَّ وعلا بالذكر، والقصد، والتوجه في جميع الأقوال والأفعال والأعمال، خالصة لوجهه الكريم. * كما تحدثت عن مصير أهل الإِجرام - شرِّ البرية - من كفرة أهل الكتاب والمشركين، وخلودهم في نار الجحيم، وعن مصير المؤمنين، أصحاب المنازل العالية - خير البرية - وخلودهم في جنات النعيم، مع النبيّين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، جزاء طاعتهم وإِخلاصهم لرب العالمين. تكذيب اليهود والنصارى ببعثته صلى الله عليه وسلم {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي لم يكن أهل الكفر والجحود، الذين كفروا بالله وبرسوله، ثم بيَّنهم بقوله {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} أي من اليهود والنصارى أهل الكتاب، ومن المشركين عبدة الأوثان والأصنام {مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ} أي منفصلين ومنتهين عما هم عليه من الكفر، حتى تأتيهم الحجة الواضحة، وهي بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا فسَّرها بقوله {رَسُولٌمِنَاللَّهِ} أي هذه البيّنة هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم المرسل من عند الله تعالى {يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً} أي يقرأ عليهم صحفاً منزَّهة عن الباطل عن ظهر قلب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أميٌ لا يقرأ ولا يكتب قال القرطبي: أي يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب، يتلوها عن ظهر قلبه لا عن كتاب، لأنه عليه السلام كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ قال ابن عباس: {مُطَهَّرَةً} من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة وقال قتادة: مطهَّرة عن الباطل {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي فيها أحكام قيمة لا عوج فيها، تبيّن الحق من الباطل قال الصاوي: المراد بالصحف القراطيس التي يكتب فيها القرآن، والمراد بالكتب الأحكام المكتوبة فيها، وإِنما قال {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} لأن القرآن جمع ثمرة كتب الله المتقدمة .. ثم ذكر تعالى من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُمْ الْبَيِّنَةُ} أي وما اختلف اليهود والنصارى في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، إِلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة، الدالة على صدق رسالته، وأنه الرسول الموعود به في كتبهم قال أبو السعود: والآية مسوقةٌ لغاية التشنيع على أهل الكتاب خاصة، وتغليظ جناياتهم، ببيان أن تفرقهم لم يكن إِلا بعد وضوح الحق، وتبيّن الحال، وانقطاع الأعذار بالكلية، كقوله تعالى {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ} وقال ابن جزي: أي ما اختلفوا في نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إِلا من بعد ما علموا أنه حق، وإِنما خصَّ أهل الكتاب هنا بالذكر، لأنهم كانوا يعلمون صحة نبوته، بما يجدون في كتبهم من ذكره {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي والحال أنهم ما أُمروا في التوراة والإِنجيل إِلا بأن يعبدوا الله وحده، مخلصين العبادة لله جلّ وعلا، ولكنهم حرَّفوا وبدَّلوا، فعبدوا أحبارهم ورهبانهم كما قال تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} {حُنَفَاءَ} أي مائلين عن الأديان كلها إِلى دين الإِسلام، مستقيمين على دين إِبراهيم، دين الحنيفية السمحة، الذي جاء به خاتم المرسلين {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} أي وأُمروا بأن يؤدوا الصلاة على الوجه الأكمل، في أوقاتها بشروطها وخشوعها وآدابها، ويعطوا الزكاة لمستحقيها عن طيب نفس قال الصاوي: وخصَّ الصلاة والزكاة لشرفهما {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي وذلك المذكور من العبادة والإِخلاص، وإِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة، هو دين الملة المستقيمة - دين الإِسلام - فلماذا لا يدخلون فيه ؟ مآل كل من الأشرار والأبرار في دار الجزاء ثم ذكر تعالى مآل كل من الأبرار والأشرار، في دار الجزاء والقرار فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي إِنَّ الذين كذبوا بالقرآن وبنبوة محمد عليه السلام، من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان، هؤلاء جميعهم يوم القيامة في نار جهنم، ماكثين فيها أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أي أولئك هم شر الخلق على الإِطلاق قال الإمام الفخر الرازي: فإِن قيل: لم ذكر {كَفَرُوا} بلفظ الفعل، {وَالْمُشْرِكِينَ} باسم الفاعل؟ فالجواب تنبيهاً على أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر، لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإِنجيل، ومقرين بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ثم إِنهم كفروا بذلك بعد مبعثه عليه السلام، بخلاف المشركين فإِنهم ولدوا على عبادة الأوثان، وإِنكار الحشر والقيامة، وقوله {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} لإِفادة الحصر أي شرٌ من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صلى الله عليه وسلم وشرٌّ من قطاع الطريق، لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق، ولما ذكر مقر الأشقياء، ذكر بعده مقر السعداء فقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي إِن المؤمنين الذين جمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} أي هم خير الخليقة التي خلقها الله وبرأها {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي ثوابهم في الآخرة على ما قدموا من الإِيمان والأعمال الصالحة {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي جنات إِقامة تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي ماكثين فيها أبداً، لا يموتون ولا يخرجون منها، وهم في نعيم دائم لا ينقطع {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} أي رضي الله عنهم بما قدموا في الدنيا من الطاعات وفعل الصالحات، ورضوا عنه بما أعطاهم من الخيرات والكرامات {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي ذلك الجزاء والثواب الحسن لمن خاف الله واتقاه، وانتهى عن معصية مولاه. |
سورة الزلزلة بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الزلزلة مدنية، وهي في أسلوبها تشبه السور المكية، لما فيها من أهوال وشدائد يوم القيامة، وهي هنا تتحدث عن الزلزال العنيف الذي يكون بين يدي الساعة، حيث يندك كل صرحٍ شامخ، وينهار كل جبل راسخ، ويحصل من الأمور العجيبة الغريبة ما يندهش له الإِنسان، كإِخراج الأرض ما فيها من موتى، وإِلقائها ما في بطنها من كنوز ثمينة من ذهبٍ وفضة، وشهادتها على كل إِنسان بما عمل على ظهرها تقول: عملت يوم كذا، كذا وكذا، وكل هذا من عجائب ذلك اليوم الرهيب، كما تتحدث عن انصراف الخلائق من أرض المحشر إِلى الجنة أو النار، وانقسامهم إِلى أصناف ما بين شقي وسعيد. علامات القيامة، ومجازاة المطيع والعاصي سبب النزول : نزول الآية (7،8): {فَمَنْ يَعْمَلْ..} : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} الآية، كان المسلمون يرون أنهم لا يُؤْجَرون على الشيء القليل، إذا أَعْطَوْه، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير: الكذبة، والنظرة، والغيبة، وأشباه ذلك، ويقولون: إنما وعد الله النار على الكبائر، فأنزل الله : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهوَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}. وقد سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ..} الجامعة الفاذّة، حين سئل عن زكاة الْحُمُر، فقال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة : "ما أنزل الله فيها شيئاً إلا هذه الآية الفاذَّة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهوَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}". {إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}أي إِذا حركت الأرض تحريكاً عنيفاً، واضطربت اضطراباً شديداً، واهتزت بمن عليها اهتزازاً يقطع القلوب ويُفزع الألباب كقوله تعالى {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} قال المفسرون: إِنما أضاف الزلزلة إِليها {زِلْزَالَهَا} تهويلاً كأنه يقول: الزلزلة التي تليق بها على عظم جرمها، وذلك عند قيام الساعة تتزلزل وتتحرك تحريكاً متتابعاً، وتضطرب بمن عليها، ولا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها من جبل وشجر وبناءٍ وقلاع {وأخرجتِ الأرضُ أثقالها} أي وأخرجت الأرض ما في بطنها من الكنوز والموتى قال ابن عباس: أخرجت موتاها وقال منذر ابن سعيد: أخرجت كنوزها وموتاها وفي الحديث (تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلتُ،ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعتُ رحمي، ويجيء السارقُ فيقول في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً) {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا} ؟ أي وقال الإِنسان: ما للأرض تزلزلت هذه الزلزلة العظيمة، ولفظت ما في بطنها ؟! يقول ذلك دهشة وتعجباً من تلك الحالة الفظيعة {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} أي في ذلك اليوم العصيب - يوم القيامة - تتحدث الأرض وتخبر بما عُمل عليها من خير أو شر، وتشهد على كل إِنسان بما صنع على ظهرها، عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فقال: (أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلم، قال: فإِن أخبارها أن تشهد على كل عبدٍ أو أمةٍ بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا، كذا وكذا، فهذه أخبارها) وفي الحديث (تحفَّظوا من الأرض فإِنها أمكم، وإِنه ليس من أحدٍ عاملٍ عليها خيراً أو شراً إِلا وهي مخبرة به) {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} أي ذلك الإِخبار بسبب أن الله جلت عظمته أمرها بذلك، وأذن لها أن تنطق بكل ما حدث وجرى عليها، فهي تشكو العاصي وتشهد عليه، وتشكر المطيع وتثني عليه، والله على كل شيء قدير {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} أي في ذلك اليوم يرجع الخلائق من موقف الحساب، وينصرفون متفرقين فرقاً فرقاً، فآخذٌ ذات اليمين إِلى الجنة، وآخذٌ ذات الشمال إِلى النار {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} أي لينالوا جزاء أعمالهم من خير أو شر {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} أي فمن يفعل من الخير زنة ذرةٍ من التراب، يجده في صحيفته يوم القيامة ويلق جزاءه عليه قال الكلبي: الذرةُ أصغرُ النمل وقال ابن عباس: إِذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها، فكلُّ واحد مما لصق به من التراب ذرة {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} أي ومن يفعل من الشر زنة ذرةٍ من التراب، يجده كذلك ويلق جزاءه عليه قال القرطبي: وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى في أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة، وهو مِثْلَ قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}. |
سورة الْعَادِيَات بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الْعَادِيَات مكية، وهي تتحدث عن خيل المجاهدين في سبيل الله، حين تغير على الأعداء، فيسمع لها عند عَدوها بسرعة صوتٌ شديد، وتقدح بحوافرها الحجارة فيتطاير منها النار، وتثير التراب والغبار، وقد بدأت السورة بالقسم بخيل الغُزاة - إِظهاراً لشرفها وفضلها عند الله - على أن الإِنسان كفور لنعمة الله تعالى عليه، جحودٌ لآلائه وفيوض نعمائه، وهو معلن لهذا الكفران والجحود بلسان حاله ومقاله، كما تحدثت عن طبيعة الإِنسان وحبه الشديد للمال، وختمت السورة الكريمة ببيان أن مرجع الخلائق إِلى الله للحساب والجزاء، ولا ينفع في الآخرة مال ولا جاه، وإِنما ينفع العمل الصالح. جحود الإنسان لنعم الله وإهماله الاستعداد للآخرة سبب النزول: نزول الآية (1): أخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً، ولبثت شهراً، لا يأتيه منها خبر، فنزلت : {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}. {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}أي أُقسمُ بخيل المجاهدين المسرعات في الكرّ على العدو، يُسمع لأنفاسها صوتٌ جهير هو الضبحُ قال ابن عباس: الخيل إِذا عدت قالت: أُحْ، أُحْ فذلك ضبحها قال أبو السعود: أقسم سبحانه بخيل الغزاة التي تعدو نحو العدو وتضبح وهو صوت أنفاسها عند عدوها {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} أي فالخيل شرر النار من الأرض بوقع حوافرها على الحجارة من شدة الجري {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} أي فالخيل التي تغير على العدو وقت الصباح قبل طلوع الشمس قال الألوسي: هذا هو المعتادُ في الغارات، كانوا يعدون ليلاً لئلا يشعر بهم العدو، ويهجمون صباحاً ليروا ما يأتون وما يذرون {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} أي فأثارت الخيل الغبار الكثيف لشدة العدو، في الموضع الذي أغرن به {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} أي فتوسطن به جموع الأعداء، وأصبحن وسط المعركة .. أقسم سبحانه وتعالى بأقسام ثلاثة على أمور ثلاثة، تعظيماً للمقسم به وهو خيل المجاهدين في سبيل الله، التي تسرع على أعداء الله، وتقدح النار بحوافرها، وتُغير على الأعداء وقت الصباح، فتثير الغبار، وتتوسط العدو فتصيبه بالرعب والفزع، أما الأمور التي أقسم عليها فهي قوله {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي إِن الإِنسان لجاحد لنعم ربه، شديد الكفران قال ابن عباس: جاحدٌ لنعم الله وقال الحسن: يذكر المصائب وينسى النعم {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} أي وإِن الإِنسان لشاهد على كنوده، لا يقدر أن يجحده لظهور أثره عليه {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي وإِنه لشديد الحب للمال حريصٌ على جمعه، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيفٌ متقاعس .. ثم بعد أن عدَّد عليه قبائح أفعاله خوَّفه فقال {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} أي أفلا يعلم هذا الجاهل إِذا أُثير ما في القبور وأُخرج ما فيها من الأموات {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} أي وجمع وأبرز ما في الصدور من الأسرار والخفايا التي كانوا يسرونها{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} أي إِنَّ ربهم لعالم بجميع ما كانوا يصنعون، ومجازيهم عليها أوفر الجزاء، وإِنما خص علمه بهم في ذلك اليوم - يوم القيامة - لأنه يوم الجزاء، بقصد الوعيد والتهديد، فهو تعالى عالم بهم في ذلك اليوم وغيره. |
سورة الْقَارِعَة بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الْقَارِعَةُ مكية، وهي تتحدث عن القيامة وأهوالها، والآخرة وشدائدها، وما يكون فيها من أحداث وأهوال عظام، كخروج الناس من القبور، وانتشارهم في ذلك اليوم الرهيب كالفراش المتطاير، المنتشر هنا وهناك، يجيئون ويذهبون على غير نظام من شدة حيرتهم وفزعهم. * كما تحدثت عن نسف الجبال وتطايرها حتى تصبح كالصوف المنبث المتطاير في الهواء، بعد أن كانت صلبةً راسخة فوق الأرض، وقد قرنت بين الناس والجبال تنبيهاً على تأثير تلك القارعة في الجبال حتى صارت كالصوف المندوف، فكيف يكون حال البشر في ذلك اليوم العصيب ؟ * وختمت السورة الكريمة بذكر الموازين التي توزن بها أعمال الناس، وانقسام الخلق إِلى سعداء وأشقياء حسب ثقل الموازين وخفتها، وسميت السورة الكريمة بالقارعة لأنها تقرع القلوب والأسماء بهولها. أهوال القيامة، وحال الناس مع الميزان {الْقَارِعَةُمَا الْقَارِعَةُ} أي القيامة وأيُّ شيء هي القيامة ؟ إِنها في الفظاعة والفخامة بحيث لا يدركها خيال، ولا يبلغها وهمُ إنسان فهي أعظم من أن توصف أو تصوَّر، ثم زاد في التفخيم والتهويل لشأنها فقال {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} ؟ أي أيُّ شيء أعلمك ما شأن القارعة في هولها على النفوس ؟ إِنها لا تُفزع القلوب فحسب، بل تؤثّر في الأجرام العظيمة، فتؤثر في السماوات بالانشقاق، وفي الأرض بالزلزلة، وفي الجبال بالدكّ والنسف، وفي الكواكب بالانتثار، وفي الشمس والقمر بالتكوير والانكدار إِلى غير ما هنالك قال أبو السعود: سميت القيامة قارعة لأنها تقرع القلوب والأسماع بفنون الأهوال والأفزاع، ووضع الظاهر موضع الضمير {مَا الْقَارِعَةُ} تأكيداً للتهويل، والمعنى أيُّ شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة، ثم أكد هولها وفظاعتها بقوله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} ؟ ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق، بحيث لا تكاد تنالها دراية أحد .. وبعد هذا التخويف والتشويق إِلى معرفة شيءٍ من أحوالها، جاء التوضيح والبيان بقوله تعالى {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} أي ذلك يحدث عندما يخرج الناسُ من قبورهم فزعين، كأنهم فراش متفرق منتشر هنا وهناك، يموج بعضهم في بعض من شدة الفزع والحيرة قال الرازي: شبه تعالى الخلق وقت البعث ههنا بالفراش المبثوث، وفي آية أُخرى بالجراد المنتشر، أما وجه التشبيه بالفراش، فلأن الفراش إِذا ثار لم يتجه إِلى جهةٍ واحدة، بل كل واحدة منها تذهب إِلى غير جهة الأُخرى، فدلَّ على أنهم إِذا بُعثوا فزعوا، وأما وجه التشبيه بالجراد فهو في الكثرة، يصبحون كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضاً، فكذلك الناس إِذا بُعثوا يموج بعضُهم في بعض كالجراد والفراش كقوله تعالى {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بعْضٍ} {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} هذا هو الوصف الثاني من صفات ذلك اليوم المهول أي وتصير الجبال كالصوف المنتثر المتطاير، تتفرق أجزاؤها وتتطاير في الجو، حتى تكون كالصوف المتطاير عند الندف قال الصاوي: وإِنما جمع بين حال الناس وحال الجبال، تنبيهاً على أن تلك القارعة أثَّرت في الجبال العظيمة الصلبة، حتى تصير كالصوف المندوف مع كونها غير مكلفة، فكيف حال الإِنسان الضعيف المقصود بالتكليف والحساب !! ثم ذكر تعالى حالة الناس في ذلك اليوم، وانقسامهم إِلى شقي وسعيد فقال {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي رجحت موازين حسناته، وزادت حسناتُه على سيئاته {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي فهو في عيش هنيءٍ رغيد سعيد، في جنان الخلد والنعيم {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي نقصت حسناته عن سيئاته، أولم يكن له حسناتٌ يُعتدُّ بها {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي فمسكنه ومصيره جهنم يهوي في قعرها، سَّماها أُماً لأن الأم مأوى الولد ومفزعه، فنار جهنم تؤوي هؤلاء المجرمين، كما يأوي الأولاد إِلى أمهم، وتضمهم إِليها كما تضم الأم الأولاد إِليها قال أبو السعود: {هَاوِيَةٌ} اسم من أسماء النار، سميت بها لغاية عمقها وبعد مهواها، روي أن أهل النار يهوون فيها سبعين خريفاً {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}؟ استفهام للتفخيم والتهويل أي وما أعلمك ما الهاوية؟ ثم فسَّرها بقوله {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي هي نار شديدة الحرارة، قد خرجت عن الحد المعهود، فإِن حرارة أي نارٍ إذا سُعرت وأُلقي فيها أعظم الوقود لا تعادل حرارة جهنم، أجارنا الله منها بفضله وكرمه. |
سورة التَّكَاثُر بَين يَدَيْ السُّورَة *سورة التَّكَاثُر مكية، وهي تتحدث عن انشغال الناس بمغريات الحياة، وتكالبهم على جمع حطام الدنيا، حتى يقطع الموت عليهم متعتهم، ويأتيهم فجأة وبغتة، فينقلهم من القصور إِلى القبور. الموتُ يأتي بغتةً والقبرُ صندوقُ العمل * وقد تكرر في هذه السورة الزجر والإِنذار تخويفاً للناس، وتنبيهاً لهم على خطئهم، باشتغالهم بالفانية عن الباقية {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ *ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}. * وختمت السورة الكريمة ببيان المخاطر والأهوال التي سيلقونها في الآخرة، والتي لا يجتازها ولا ينجو منها إِلا المؤمن الذي قدَّم صالح الأعمال. الالتهاء بالتفاخر بزينة الدنيا سبب النزول: تقدم سبب نزول السورة. أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عنعبد الله بن الشِّخِّير قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: "{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت". وقال مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأمضى، وما سوى ذلك فذاهب، وتاركه للناس". {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}أي شغلكم أيها الناسُ التفاخر بالأموال والأولاد والرجال عن طاعة الله، وعن الاستعداد للآخرة {حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ} أي حتى أدرككم الموت، ودفنتم في المقابر، والجملةُ خبرٌ يراد به الوعظ والتوبيخ قال القرطبي: المعنى شغلكم المباهاة بكثرة المال والأولاد عن طاعة الله، حتى مُتُّم ودفنتم في المقابر {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} زجرٌ وتهديدٌ أي ارتدعوا أيها الناس وانزجروا عن الاشتغال بما لا ينفع ولا يفيد، فسوف تعلمون عاقبة جهلكم وتفريطكم في جنب الله، وانشغالكم بالفاني عن الباقي {ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وعيدٌ إِثر وعيد، زيادة في الزجر والتهديد أي سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إِذا نزل بكم العذاب في القبر {ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي في الآخرة إِذا حلَّ بكم العذاب {كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أي ارتدعوا وانزجروا فلو علمتم العلم الحقيقي الذي لا شك فيه ولا امتراء، وجواب {لَوْ} محذوفٌ لقصد التهويل أي لو عرفتم ذلك لما ألهاكم التكاثر بالدنيا عن طاعة الله، ولما خُدعتم بنعيم الدنيا عن أهوال الآخرة وشدائدها كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) الحديث قال ابن جزي : وجوابُ {لَوْ} محذوفٌ تقديره: لو تعلمون لازدجرتم واستعددتم للآخرة، وإِنما حذف لقصد التهويل، فيقدر السامع أعظم ما يخطر بباله كقوله تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ} أي أُقسم وأؤكد بأنكم ستشاهدون الجحيم عياناً ويقيناً قال الألوسي: هذا جواب قسم مضمر، أكد به الوعيد، وشدَّ به التهديد، وأوضح به ما أنذروه بعد إِبهامه تفخيماً أي والله لترون الجحيم {ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} أي ثم لترونها رؤية حقيقة بالمشاهدة العينية قال أبو حيّان: زاد التوكيد بقوله {عَيْنَ الْيَقِينِ} نفياً لتوهم المجاز في الرؤية الأولى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} أي ثم لتسألنَّ في الآخرة عن نعيم الدنيا من الأمن والصحة، وسائر ما يُتلذذ به من مطعم، ومشرب، ومركب، ومفرش. |
سورة الْعَصْر بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الْعَصْر مكية، وقد جاءت في غاية الإِيجاز والبيان، لتوضيح سبب سعادة الإِنسان أو شقاوته، ونجاحه في هذه الحياة أو خسرانه ودماره. * أقسم تعالى بالعصر وهو الزمان الذي ينتهي فيه عمر الإِنسان، وما فيه من أصناف العجائب، والعِبَر الدالة على قدرة الله وحكمته، على أن جنس الإِنسان في خسارة ونقصان، إلا من اتصف بالأوصاف الأربعة وهي {الإِيمان} و {العمل الصالح} و {التواصي بالحق} و {الاعتصام بالصبر} وهي أسس الفضيلة، وأساس الدين، لهذا قال الإِمام الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل الله سوى هذه السورة لكفت الناس. منهج الاستقامة في الحياة {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أي أُقسمُ بالدهر والزمان لما فيه من أصناف الغرائب والعجائب، والعبر والعظات، على أن الإِنسان في خسران، لأنه يفضِّل العاجلة على الآجلة، وتغلب عليه الأهواء والشهوات قال ابن عباس: العصر هو الدهر أقسم تعالى به لاشتماله على أصناف العجائب وقال قتادة: العصرُ هو آخر ساعات النهار، أقسم به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة الباهرة، والعظة البالغة .. وإِنما أقسم تعالى بالزمان لأنه رأس عمر الإِنسان، فكل لحظةٍ تمضي فإِنها من عمرك ونقص من أجلك، كما قال القائل : إِنــا لنفـرحُ بالأيـام نقطعــها وكلُّ يومٍ مضى نقصٌ من الأجل قال القرطبي: أقسم الله عز وجل بالعصر - وهو الدهر - لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من الدلالة على الصانع، وقيل: هو قسمٌ بصلاة العصر لأنها أفضل الصلوات {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي جمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال، فهؤلاء هم الفائزون لأنهم باعوا الخسيس بالنفيس، واستبدلوا الباقيات الصالحات عوضاً عن الشهوات العاجلات {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} أي أوصى بعضهم بعضاً بالحق، وهو الخير كله، من الإِيمان، والتصديق، وعبادة الرحمن {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} أي وتواصوا بالصبر على الشدائد والمصائب، وعلى فعل الطاعات، وترك المحرمات .. حكم تعالى بالخسار على جميع الناس إِلا من أتى بهذه الأشياء الأربعة وهي: الإِيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فإِن نجاة الإِنسان لا تكون إِلا إِذا كمَّل الإِنسان نفسه بالإِيمان والعمل الصالح، وكمَّل غيره بالنصح والإِرشاد، فيكون قد جمع بين حق الله، وحق العباد، وهذا هو السرُّ في تخصيص هذه الأمور الأربعة. |
الساعة الآن 08:11 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |