![]() |
أَيُباعُ الرُّطَبُ، بالخُطَب؟
أخذتُ أُسْهبُ في مدح الأدب، وأفضِّل رَبَّه على ذي النَّشَب، وأبو زيد ينظر إليّ نَظَرَ المُسْتَجهِل، ويغْضي عني إغضاء المتمهِّل فلمّا أفرطتُ في العصبية، للعُصْبة الأدبية، قال لي: فأمــا الفقــير فخيـر لـه من الأدب القرص والكامخ ثم قال: سيتضح لك صدق لهجتي، واستنارة حُجّتي.. ودخلنا قرية للارتياد، وكلانا مُنْـفِضٌ من الزاد. فلـَقِينا غلامٌ حيّاه أبو زيد تحيّة المُسْلم، وسأله وَقـْفَةَ المُفْهِم. فقال: وعَمَّ تسأل وفـّقك الله ؟ قال أبو زيد: أيُباعُ ها هُنا الرُّطـَب، بالخُطـَب؟ قال الغلام: لا والله! قال: ولا البلح، بالمُلَح؟ قال: كلا والله! قال: ولا الثـَمَر، بالسَّمَر؟ قال: هيهاتَ والله! قال: ولا العصائد، بالقصائد؟ قال: اسكت عافاك الله. قال: ولا الثرائد، بالفرائد؟ قال: أين يُذْهَبُ بك، أرشدك الله؟ قال: ولا الدقيق، بالمعنى الدقيق؟ قال: عَدِّ عن هذا أصلحك الله! أمّا بهذا المكان فلا يُشتـَرى الشِّعر بشعيرة، ولا النثر بنثارة، ولا القصص بقُصاصة. ولا الرسالة بغسالة ولا حِكم لقمان بلـُقْمة، ولا أخبار الملاحم بلحمة. وأما جيلُ هذا الزمان فما منهم من يميح، إذا صيغ له المديح، ولا من يُجيز، إذا أُنشِدَ له الأراجيز، ولا مَنْ يُغيث، إذا أطربه الحديث. وعندهم أن مَثلَ الأديب، كالرَّبْع الجَديب إنْ لم تُجد الرَّبْعَ دِيمةٌ، لم تكن له قيمة. فقال أبو زيد: أعلمتَ الآن أن الأدب قد بار، وولـَّت أنصارُه الأدبار؟ وأن الأسجاع، لاتُشْبع مَنْ جاع؟ من مقامات الحريري. |
أيسر محفوظاته كتاب الأغاني
حدّث الوزير الأندلسي أبو بكر محمد ابن الوزير أبي مروان عبد الملك ابن زهر، قال: بينما أنا قاعد في دهليز دارنا وعندي رجل ناسخ أمرته أن يكتب لي "كتاب الأغاني" لأبي الفرج الإصفهاني، إذ جاء الناسخ بالكراريس التي كتبها، فقلت له: أين الأصل الذي كتبتَ منه لأُقابل معك به؟ قال: ما أتيت به معي. فبينا أنا معه في ذلك إذ دخل الدهليز علينا رجل بذُّ الهيئة، عليه ثياب غليظة أكثرُها صوف، وعلى رأسه عمامة قد لاثها من غير إتقان لها. فحسبته لما رأيته من بعض أهل البادية. فسلـَّم وقعد، وقال لي: يا بنيّ، استأذن لي على الوزير أبي مروان. فقلت له: هو نائم. هذا بعد أن تكلـّفتُ جوابه غاية التكلـّف؛ حملني على ذلك نزوةُ الصبا، وما رأيتُ من خشونة هيئة الرجل. ثم سكت عني ساعة وقال: ما هذا الكتاب الذي بأيديكما؟ فقلت له: ما سؤالك عنه؟ فقال: أحب أن أعرف اسمه، فإني كنت أعرف أسماء الكتب! فقلت: هو كتاب الأغاني. فقال: إلى أين بلغ الكاتب منه؟ قلت: بلغ موضع كذا. وجعلت أتحدث معه على طريق السخرية به. فقال: وما لكاتبك لا يكتب؟ قلت: طلبتُ منه الأصل الذي يكتب منه لأُعارض به هذه الأوراق، فقال: لم أجئ به معي. قال: يا بنيّ، خُذ كراريسك وعارض. قلت: بماذا؟ وأين الأصل؟ قال: كنت أحفظ هذا الكتاب في مدة صباي. فتبسـَّمتُ من قوله، فلما رأى تبسـُّمي قال: يا بنيّ، أمسك عليّ. فأمسكت عليه، وجعل يقرأ، فواللّه إن أخطأ واوًا ولا فاءً، قرأ هكذا نحواً من كراستين، ثم أخذت له في وسط السـِّفر وآخره، فرأيت حفظه في ذلك كله سواء. فاشتدَّ عجبي، وقمت مسرعاً حتى دخلت على أبي فأخبرته بالخبر، ووصفت له الرجل، فقام كما هو من فـَوْره، وكان ملتفـّا برداء ليس عليه قميص، وخرج حاسر الرأس، حافي القدمين، لا يرفـُقُ على نفسه، وأنا بين يديه، وهو يـُوسعني لومـاً، حتى ترامى على الرجل وعانقه، وجعل يقبـّل رأسه ويديه ويقول: يا مولاي اعذرني، فواللّه ما أعلمني هذا الجـِلـْفُ إلا الساعة. وجعل يسبـّني، والرجل يُخَفِّض عليه ويقول: ما عرفني. وأبي يقول: هـَبْه ما عرفك، فما عـُذره في حسن الأدب؟ ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه، وخلا به فتحدّثا طويلاً. ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافياً حتى بلغ الباب. وأمر بدابته التي يركبها فأُسـْرِجتْ، وحلف عليه لَيَرْكـَبَنَّها ثم لا ترجع إليه أبداً. فلما انفصل قلت لأبي: من هذا الرجل الذي عظَّمته هذا التعظيم؟ قال لي: اسكت ويحك! هذا أديب الأندلس وإمامها وسيّدها في علم الآداب. هذا ابن عبدون، أيسرُ محفوظاته كتاب الأغاني! من كتاب "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" لعبد الواحد المراكشي. |
أيـن التّيـن؟
استأذن مزبد على بعض البخلاء وقد أُهْدِي له تينٌ مع أول أوانه. فلما أحسّ البخيل بدخوله تناول الطبق فوضعه تحت السرير وبقيت يده معلّقة. ثم قال لمزبد: ما جاء بك هذا الوقت؟ قال: يا سيدي، مررت الساعة بدار فلان، فسمعت جاريته تقرأ لحناً ما سمعتُ قط أحسن منه. فَلِمَا علمتُ من شدة محبتك للقرآن وسماعك للألحان، حفظته وجئت لأقرأه عليك. قال: فهاته. فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، والزيتون، وطور سينين. فقال: ويلك! أين التين؟ قال: تحت السرير! من كتاب "نثر الدّرّ" لمنصور بن الحسين الآلي. |
أين عِلـْمُه من عِلْم الناس اليوم؟
سئل يونس بن حبيب عن ابن أبي إسحاق الحضرميّ: أين عـِلـْمه من عـِلـْم الناس اليوم؟ فقال: لو كان اليوم في الناس أحدٌ لا يعلم إلا عـِلـْمه لـَضـُحـِك منه، ولو كان فيهم من له ذهنه ونـَفاذُه ونظره كان أعـْلـَم الناس. من كتاب "إنباه الرواة على أنباه النحاة" للقفطي |
أيّهما أفْضَـل؟
تنازع اثنان في أيّ الخَلْق أفضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: عليّ بن أبي طالب، وقال الآخر: أبو بكر الصديق. ثم تراضيا أن يحتكما إلى أوّل مَن يطلع عليهما. فطلع عليهما الشاعر الشيعي المشهور السيد الحِمْيَري. فقال له القائل بفضل عليّ: قد تنَافَرتُ أنا وهذا إليك في أفضل الخلق بعد رسول الله، فقلت أنا: عليّ بن أبي طالب. فقال السيد الحميري: وما قال ابن الكلب هذا؟ فقال الثاني: لم أقل شيئاً! من كتاب "فوات الوفيات" لابن شاكر الكتبي. |
ابـن أبيــه
رُوي أن رجلاً بلغ من البخل غايته، حتى صار إماماً، وكان إذا وقع في يده درهم، خاطبه وناجاه فكان يقول: كم من أرض قطعت، وكم من كيس فارقت، وكم من خامل رفعت، وكم من رفيع أخملت، فالآن، استقر بك القرار، واطمأنت بك الدار، لك عندي ألا تـَعـْرى ولا تضحى، ثم يلقيه في كيسه ويقول له: اسكن اسكن على اسم الله، في مكان لا تهان ولا تـُذلُّ فيه، ولا تـُزعج منه. وألح أهله عليه مرة في إنفاق درهم، فدافعهم ما أمكن، ثم أخرج درهما، فبينما هو ذاهب، إذ رأى حوَّاء قد أرسل على نفسه أفعى لدرهم يأخذه، فقال في نفسه: أتـْلف شيئاً تـُبذل فيه النفس بأكلة أو شربة!! والله ما هذا إلا موعظة لي من الله، فرجع إلى بيته، ورد الدرهم إلى كيسه، فكان أهله منه في بلاء، وكانوا يتمنوْن له موتاً عاجلاً، فلما مات، وظنوا أنهم استراحوا منه، جاء ابنه، فاستولى على ماله وداره ثم سأل: ما كان أُدم أبي؟ فقال: كان يأتدِم بجبن عنده، قال: أرونيه، فإذا فيه حزُّ كالجدول، من أثر مسح اللقمة، فقال: ما هذه الحفرة؟ قالوا: كان لا يقطع الجبن، وإنما كان يمسح اللقمة على ظهره، فيـُحفر كما ترى، قال: بهذا أهلكني وأقعدني هذا المقعد، لو علمت ذلك ما صليت عليه يوم مات، قالوا: فكيف أنت تريد أن تصنع؟ قال: أضعها من بعيد، فأشير إليها باللقمة. |
ابن القاسم الأنبـاري
كان محمد بن القاسم الأنباري من أعلم الناس بالنحو والأدب وأكثرهم حفظا له. وكان يُمْلِي مصنفاته في ناحية من المسجد و أبوه يُمْلي في ناحية أخرى. وكان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت من الشعر. فإن أَمْلَى أملى من حفظه لا من كتاب، وكذا كانت عادته في كل ما يُكتب عنه من العلم. مرض مرّة فانزعج عليه أبوه انزعاجا شديدا. فلما قيل له في ذلك قال: وكيف لا أجزع لمرض من يحفظ جميع ما ترون ـ وأشار لهم إلى حجرة مملوءة كتبًا! ورأى يوما في النخاسين جارية تُعرض حسنة كاملة الوصف. فوقعتْ في قلبه. ومضى إلى دار أمير المؤمنين الراضي فقال له: أين كنتَ إلى الساعة؟ فعرّفه. فأمر الخليفة أحد غلمانه فمضى فاشتراها وحملها إلى منزل ابن الأنباري. واشتغل قلب ابن الأنباري بالجارية، فقال للخادم: خذها وامض بها إلى النخّاس، فليس لها أن تشغل قلبي عن علمي. فأخذها الغلام، فقالت له: دعني أكلمه بحرفين. ودخلت على ابن الأنباري فقالت: أنت رجل لك عقل، وإذا أخرجتني إلى النخّاس ولم تبيّن لي ذنبي لم آمن أن يظنّ الناسُ بي ظنًا قبيحا. فعرِّفني ذنبي قبل أن تخرجني. فقال لها: مالك عندي عيب غير أنك شغلتني عن علمي. فقالت: هذا أسهل عندي. وبلغ أمير المؤمنين الخبر، فقال: لا أظن العلم في قلب أحد أحلى منه في صدر هذا الرجل. وكان ابن القسم الأنباري رحمة الله عليه مع علمه وحفظه متواضعًا. حكى أبو الحسن الدارقطني أنه حضره في مجلسين يوم جمعة، وجعل يُملي، فصحَّفَ اسما أورده في إسناد حديث ( كان "حيان" فقال "حبان") قال الدارقطني: فأعظمتُ أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته وهْمٌ، وهبْتُه أن أنبِّهه إلى غلطة. فلما انقضى الإملاء تقدمت إلى صاحبه وذكرت له خطأ ابن الأنباري وعرّفته صواب القول فيه، وانصرفت. ثم حضرتُ الجمعة الثانية مجلسه، فقال ابن الأنباري لصاحبه: عرِّف جماعة الحاضرين أننا صحّفنا اسم "حبان" لمّا أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، ونبهنا ذلك الشّاب على الصواب وهو"حيان"، وعرِّف ذلك الشاب أننا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قال. من كتاب "إنباه الرواة على أنباه النحاة" للقفطي. |
ابـن الهيثــم
لما صنّف ابن الهيثم كتابه الذي بيّن فيه حيلَة إجراء نيل مصر عند نُقصانه في المزارع، قصد القاهرة حاملاً كتابه، فنزل في خان. فلما ألقى عصاه قيل له إن صاحب مصر الملقب بالحاكم بأمر اللّه على الباب يطلبك. فخرج ابن الهيثم ومعه كتابه، وكان ابن الهيثم قصير القامة، فصعد على دكـّة عند باب الخان ودفع الكتاب إلى الحاكم، والحاكم راكب حمارًا مصريـًا. فلما نظر في الكتاب قال له: أخطأت! إن مؤنة هذه الحيلة أكثر من منافع الزرع! ومضى! ورحل ابن الهيثم إلى الشام، وأقام عند أمير من أمرائها. وإذ أجرى ذلك الأمير عليه أموالاً كثيرة، قال له ابن الهيثم: يكفيني قوتُ يومي. فما زاد على قوت يومي إنْ أمسكتُه كنتُ خازنَك، وإن أنفقتُه كنت وكيلـَك، وإذا اشتغلت بهذين الأمرين فمن ذا الذي يشتغل بعلمي؟! وقد قصده أمير من أمراء سـِمنان يطلب عنده العلم. فقال له ابن الهيثم: أَطلبُ منك للتعليم أجرة، وهي مائة دينار في كل شهر. فقبـِل الأمير، وأقام عنده ثلاث سنين. فلما عزم الأمير على الانصراف قال ابن الهيثم: خـُذْ أموالك بأسرها فلا حاجة لي فيها. وإنما قد جـَرَّبْتـُك بهذه الأجرة، فلما رأيتك قابلاً لبذل الأموال الجمّة في طلب العلم، بذلتُ مجهودي في تعليمك وإرشادك. من كتاب "تاريخ حكماء الإسلام" لظهير الدين البيهقي. |
ابن بهيـّة
كان بالأهواز رجل يُعرف بابن واصل، تمّت عليه حيلةٌ في تزوير، فطالبه صاحب ديوان الأهواز بالمال، فأدّى بعضَه وعجز عن تأدية باقيه. وكان أبو عبيد الله صاحب الديوان له عادة في سجع الكلام دائمة، وله فيها أخبار وحكايات عجيبة. فكان إذا ذُكِر في مجلسه ابن واصل يقول: هاتوا ابن واصل، وطالبوه بما عليه من الحاصل. فيُحضَر ذلك المسكين ويُحبس، ويُطالب بما عليه بسبب السجع المشئوم، ثم يؤخذ منه بعض المال، ويستعطف البعضُ صاحبَ الديوان فيفرج عنه، ثم يعيد السجع فيعود القبض والحبس! ثم جيء به يوماً إلى صاحب الديوان، فقال له: يا سيدنا، أنا أُعرف بابن بهية (اسم والدته)، وأسألك أن تعفيني من الدعاء باسم أبي وتنقل ذكري إلى اسم أمي. فقال أبو عبيد الله: حُبًّا وكرامة. وصار بعد ذلك يقول في مجالسه: يُحضر ابن بهيّة، ويُطالَبُ بالبقية. فيُحضَر ويُحبَس. من كتاب "الهفوات النادرة" لابن هلال الصابي. |
ابن حـزم والجـارية
ألفْتُ في أيام صباي ألفة المحبة جاريةً نشأتْ في دارنا، وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عاما. وكانت غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها وخفرها ودماثتها، عديمة الهزل، منيعة البذل، قليلة الكلام، مغضوضة البصر، دائمة القطوب، حلوة الإعراض، مليحة الصدود، كثيرة الوقار، لا تُوَجَّه الأراجي نحوها، ولا تقف المطامع عليها. فوجهها جالبٌ كل القلوب، وحالها طاردٌ من أَمَّها. تزدان في المنع والبخل ما لا يزدان غيرها بالسماحة والبذل. وكانت تحسن العود إحسانًا جيدًا، فجنحت إليها وأحببتُها حبًا مفرطًا. وسعيتُ عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة وأسمع من فيها لفظة غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع، فما وصلتُ من ذلك إلى شيء البتة. وأذكر حفلا كان في دارنا تَجَمَّعَت فيه نساء كثيرات، ثم انتقلن إلى مكان في الدار يُشرف على بستاننا وعلى جميع قرطبة وبيوتها. وأذكر أني كنت أقصد نحو الباب الذي هي عنده، أنسًا بقُربها، متعرّضًا للدنو منها، فما هي إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره في لطف الحركة. فأتعمد أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه، فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الانتقال إلى غيره. وكانت قد علمت كلفي بها، ولم يشعر سائر النسوان بما كنا فيه، لأنهن كن عددًا كثيرًا. ثم نزلن إلى البستان. فرغب عجائزنا وكرائمنا إلى سيدتها في سماع غنائها. فَأمَرتْها، فأخذت العود وسوّته بخفر وخجل لا عهد لي بمثله، وإن الشيء يتضاعف حسنُه في عين مستحسنه. ثم اندفعت تغني بأبيات العباس بن الأحنف حيث يقول: ليست من الأنس إلا في مناسبة ولا من الجـن إلا في التصـاوير فالوجه جوهرة، والجسم عبهرة والريـح عنبره، والكل من نـور فلعمري لكأن المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلا يوم مفارقتي الدنيا. وهذا أكثر ما وصلتُ إليه من التمكن من رؤيتها وسماع كلامها. ثم انتقل أبي رحمه الله من دارنا بالجانب الشرقي من قرطبة، إلى دارنا القديمة في الجانب الغربي منها. وانتقلتُ أنا بانتقاله، ولم تنتقل هي بانتقالنا لأمور أوجبت ذلك. ثم شُغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتُحِنّا بالاعتقال والمراقبة والغرامات الفادحة و الاستتار. وتوفى أبي الوزير رحمه الله واتّصلت بنا تلك الحال بعده، إلى أن كانت عندنا جنازة لبعض أهلنا فرأيتها. رأيتها في المأتم وسط نساء في جملة البواكي والنوادب، فأثارت وجدا دفينًا وحرّكتْ ساكنًا، وذكّرتني عهدًا قديمًا وحبًا تليدًا ودهرًا ماضيًا، فجدّدت أحزاني. ثم ضرب الدهر ضرباته، وأُجلينا عن منازلنا، وتغلّب علينا جند البربر، فخرجت من قرطبة، وغابت عن بصري بعد تلك الرؤية الواحدة ستة أعوام. ثم دخلتُ قرطبة في شوال سنة تسع وأربعمائة، فنزلتُ على بعض نسائنا، فرأيتها هنالك، ولم أميّزها حتى قيل لي هذه فلانة. فإذا هي وقد تغيرت محاسنها، وذهبت نضارتها، وفنيت تلك البهجة، وخاض الماء الذي كان يُرى كالسيف الصقيل، ولم يبق إلا البعض المُميز من الكل، وذلك لقلة اعتنائها بنفسها، وافتقادها الصيانة التي كانت غذّيت بها أيام دولتنا وامتداد ظلنا، واضطرارها إلى الخروج فيما لا بدّ لها منه مما كانت تُصان عنه قبل ذلك. وإنما النساء رياحين متى لم تتعاهد نقصت، وبناءً متى لم يُصن تهدّم. ولو أني كنت قد نلتُ منها أقلّ وصل، أو كانت أنست لي بعض الأنس لطربتُ وفرحتُ لرؤيتها. غير أن ذلك الصد منها هو الذي صبّرني وأسلاني. وهذا الوجه من أسباب السلو صاحبه معذور وغير ملوم، إذا لم تنشأ علاقة توجب الوفاء، ولا وقع عهد يقتضي المحافظة ويُلام المرء على تضييعه ونسيانه. من كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم. |
الساعة الآن 05:59 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |