![]() |
ولاية ابن السيد على الموصل
وفي سنة أربع وعشرين ولى المعتصم على الموصل عبد الله بن السيد بن أنس الأزدي وكان سبب ولايته أن رجلاً من مقدمي الأكراد يعرف بجعفر بن فهرجس كان قد عصى بأعمال الموصـل وتبعه خلق كثير من الأكراد وغيرهم وأفسدوا البلاد فبعث المعتصم لحربه عبد الله بن السيـد بـن أنـس فقاتله وغلبه على ماتعيس وأخرجه منها بعد أن كان استولى عليها ولحق بجبل دانس وامتنع بأعاليه وقاتله عبد الله وتوغل في مضايق ذلك الجبل فهزمه الأكراد وأثخنوا في أصحابـه بالقتـل وقتـل إسحـاق بـن أنـس عـم عبـد اللـه. فبعـث المعتصـم مولاه إيتاخ في العساكر إلى الموصل سنة خمس وعشرين وقصد جبل داس فقاتـل جعفـراً وقتلـه وافتـرق أصحابـه وأوقـع بالأكراد واستباحهم وفروا أمامه إلى تكريت. نكبة الأفشين ومقتله كان الأفشين من أهل أشروسنة تبوأها ونشأ ببغداد عند المعتصم وعظم محلـه عنـده ولمـا حاصـر بابـك كـان يبعـث إلـى أشروسنـة بجميـع أموالـه فيكتب ابن طاهر بذلك إلى المعتصم فيأمره المعتصـم بـأن يجعـل عيونـه عليـه فـي ذلـك. وعثـر مـرةً ابـن طاهـر علـى تلـك الأموال فأخذها وصرفها فـي العطـاء وقـال لـه حاملوهـا: هـذا مـال الأفشيـن فقـال كذبتـم لـو كـان ذلـك لأعلمنـي أخي أفشين به وإنمـا أنتـم لصـوص وكتـب إلـى الأفشيـن بذلـك بأنـه دفـع المـال إلـى الجنـد ليوجههـم إلـى التـرك فكتـب إليـه أفشين مالي ومال أمير المؤمنين واحد وسأله في إطلاق القوم فأطلقهم واستحكمت الوحشة بينهمـا وتتابعـت السعاية فيه من طاهر وربما فهم الأفشين أن المعتصم يعزله عن خراسان فطمع في ولايتها وكان مازيار يحسن له الخلافة ليدعو المعتصم ذلك إلى عزله وولاية الأفشين لحرب مازيار. فكـان مـن أمر مازيار ما ذكرناه وسيق إلى بغداد مقيداً وولى المعتصم الأفشين على أذربيجان فولى عليها من قبله منكجور من بعض قرابته فاستولى على مال عظيم لبابك وكتـب بـه صاحـب البريـد إلـى المعتصـم فكذبـه منكجـور وهم بقتله فمنعه أهل أردبيل فقاتلهم. وسمع ذلك المعتصـم فأمـر الأفشيـن بعـزل منكجـور وبعث قائداً في عسكره مكانه فخلع منكجور وخرج من أردبيل فهزمه القائد ولحق ببعض حصور أذربيجان كان بابك خربه فأصلحـه وتحصـن فيـه شهراً ثم وثب فيه أصحابه وأسلموه إلى القائد فقدم به إلى سامرا فحبسه المعتصم واتهم الأفشين في أمره وذلك سنة خمس وعشرين ومائتين بأن القائد كان بغا الكبير وأنه خرج إليه بالأمان اه. ولما أحس الأفشين بتغير المعتصم أجمع أمره على الفرار واللحاق بأرمينية وكانت في ولايته ويخرج منها إلى بلاد الخزر ويرجع إلى بلاد أشروسنة وصعب عليه ذلك بمباشرة المعتصم أمره وعرض له في أثناء ذلك غضب على بعض مواليه وكان سيء الملكة فأيقن مولـاه بالهلكـة وجاء إلى إتياخ فأحضره إلى المعتصم وخبره الخبر فأمره بإحضاره وحبسه بالجوثق وكان ابنه الحسن عاملاً على بعض ما وراء النهر. فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال عليـه وكـان يشكـو مـن نـوح بـن أسـد صاحب بخارى. فكتب ابن طاهر إلى الحسن بولاية بخارى وكتـب إلـى نـوح بذلـك وأن يستوثـق منـه إذا وصـل إليـه ويبعـث بـه ثـم يبعـث بـه إلـى ابـن طاهـر ثم إلى المعتصم. ثم أمر المعتصم بإحضار الأفشين ومناظرته فيما قيل عنه فأحضر عند الوزير محمد بن عبد الملـك بـن الزيـات وعنـده القاضـي أحمد بن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم وجماعة القواد والأعيان وأحضر المازيار من محبسه والمؤيد والمرزبان بن تركش أحد ملوك الصغد ورجلان من أهل الصغد يدعيان أن الأفشين ضربهما وهما إمام ومؤذن بمسجد. فكشفا عن ظهورهما وهما عاريان من اللحم فقال ابن الزيات للأفشين: ما بال هذين قال عهدا إلى معاهدين فوثبا على بيت أصنامهم فكسراها واتخذا البيت مسجداً فعاقبتهما على ذلك. وقال ابن الزيات: ما بال الكتـاب المحلـى بالذهـب والجوهـر عندك وفيه الكفر قال كتاب ورثته من آبائي وأوصوني بما فيه من آدابهم فكنت آخذها منه وأترك كفرهم ولم أحتج إلى نزع حليته وما ظننت أن مثل هذا ثم قال المؤيد إنه يأكل لحم المنخنقة ويحملني على أكلها ويقول هو أرطب من لحم المذبوحة. ولقـد قـال لـي يومـاً حملـت علـى كـل مكـروه لـي حتى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل إلى هذه الغاية لم أختتـن ولـم تسقـط عنـي شعـرة العانـة. فقـال الأفشيـن: أثقـة هـذا عندكـم فـي دينـه وكـان مجوسياً قالوا: لا قال فكيف تقبلونه علي. ثم قال للمؤيد أنت ذكرت أني أسررت إليك ذلك فلست بثقة فـي دينـك ولا بكريـم فـي عهـدك ثـم قـال لـه المرزبـان: كيـف يكاتبـك أهـل أشروسنـة قـال: مـا أدري قـال: أليـس يكاتبونـك بمـا تفسـره بالعربـي: إلـى إلـه الآلهـة مـن عبـده فلان قال: بلى فقال ابن الزيات: فما أبقيت لفرعون قال: هذه عادة منهم لأبي وجدي ولي قبل الإسلام ولو منعتهم فسدت علي طاعتهم. ثـم قـال لـه أنـت كاتبـت هـذا وأشـار إلـى المازيـار. كتب أخوه إلى أخي قوهيار أنه لن ينصر هذا الدين غيري وغيرك وغير بابك فأما بابك قد قتل نفسه بجمعه ولقد عهدت أن أمنعه فأبى إلا خنقه وأنت إن خالفت لم يرمك القوم بغيري ومعي أهل النجدة وإن توجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا العرب والمغاربة والترك والعربـي كلـب تناولـه لقمـة وتضـرب رأسـه والمغاربـة أكلـة رأس والأتـراك لهم صدمة ثم تجول الخيل جولة فتأتي عليهم ويعود هذا الدين إلى ما كان عليه أيام العجم. فقـال الأفشيـن هـذا يدعـي أن أخـي كتـب إلـى أخيـه فمـا يجـب علـي ولـو كتـب فأنا أستميله مكراً به لأحظى عند الخليفة كما حظي به ابن طاهر فزجره ابن أبي دؤاد فقال له الأفشين: ترفع طيلسانك فلا تضعه حتى تقتل جماعة فقال: أمتطهر أنت قال لا قال فما يمنعك وهو شعار الإسلام قال خشيت على نفسي من قطعة قال فكيف وأنت تلقى الرماح والسيوف قال تلك ضرورة أصبر عليها وهذا أستجلبه. فقال ابن أبي دؤاد لبغا الكبير: قد بان لكم أمره يا بغا عليك به فدفعه بيديه ورده إلى محبسه وضرب مازيار أربعمائة سوط فمات منهـا وطلـب أفشيـن مـن المعتصـم أن ينفـذ إليـه مـن يثق به فبعث حمدون بن إسماعيل فاعتذر له عن جميع ما قيـل فيـه وحمـل إلـى دار إيتـاخ فقتـل بهـا وصلـب علـى بـاب العامـة ثـم أحرق. وذلك في شعبان من سنة ست وعشرين وقيل قطع عنه الطعام والشراب حتى مات. ظهور المبرقع كان هذا المبرقع يعرف بأبي حرب اليماني وكان بفلسطين وأراد بعض الجند النزول في داره فمنعه بعض النساء فضربها الجندي وجاءت فشكت إليه بفعل الجندي فسار إليه وقتله ثم هرب إلى جبال الأردن فأقام بها واختفى يبرقع على وجهه. وصار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعيب الخليفة ويزعم أنه أموي واجتمع له قوم من تلك الناحية وقالوا هو السفياني. ثم أجابه جماعة من رؤساء اليمانية منهم ابن بهيس وكان مطاعاً في قومه وغيره فاجتمع له مائة ألـف وسـرح المعتصـم رجـاء بن أيوب في ألف من الجند فخام عن لقائه لكثرة من معه وعسكر قبالته ينتظر أوان الزراعـة وانصـراف النـاس عنـه لأعمالهـم. وبينمـا هـم فـي الانصـراف توفـي المعتصـم وثارت الفتنة بدمشق فأمره الواثق بقتل من أثار الفتنة والعود إلى المبرقع ففعل وقاتله فأخذه أسيراً وابن بهيس معه وقتل من أصحابه عشرين ألفاً وحمله وذلك سنة سبع وعشرن ومائتين. وفاة المعتصم وبيعة الواثق وتوفـي المعتصـم أبـو إسحـاق محمـد بـن المأمـون بـن الرشيـد منتصف ربيع الأول سنة سبع وعشرين لثمـان سنيـن وثمانيـة أشهـر مـن خلافتـه وبويـع ابنـه هارون الواثق صبيحته وتكنى أبا جعفر. فثار أهل دمشق بأميرهم وحاصروه وعسكروا بمرج واسط وكان رجاء بن أيوب بالرملة في قتال المبرقع فرجع إليهم بأمر الواثق فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم وقتل منهم نحو من ألف وخمسمائة ومـن أصحابـه نحـو ثلاثمائة وصلح أمر دمشق ورجع رجاء إلى قتال المبرقع حتى جاء به أسيراً بيعـة الواثـق توجه أشناس ووشحه وكان للواثق سمر يجلسون عنده ويفيضون في الأخبار حتى أخبروه عن شأن البرامكة واستبدادهم على الرشيد واحتجابهم الأموال فأغراه ذلك بمصادرة الكتاب فحبسهم وألزمهم الأموال. فأخـذ مـن أحمـد بـن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن ضربه ومن سليمان بن وهب كاتب إيتاخ أربعمائة ألف ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألفاً ومن إبراهيم بن رباح وكاتبه مائة ألف ومن أبي الوزر مائة وأربعين ألفاً وكان على اليمن إيتاخ وولاه عليها المعتصم بعدما عزل جعفر وسخطه وحبسه ثم رضي عنه وأطلقه فلما ولي الواثق ولى إيتاخ على اليمن من قبله سار بأميـان فسـار إليهـا وكـان الحـرس إسحـاق بـن يحيـى بـن معـاذ ولـاه المعتصـم بعـد عـزل الأفشين. وولى الواثق على المدينة سنة إحدى وعشرين محمد بن صالح بن العباس وبقي محمد بن داود على مكـة وتوفـي عبـد اللـه بـن طاهـر سنـة ثلاثين وكان على خراسان وكرمان وطبرستان والري وكان له الحرب والشرطة والسواد فولى الواثق على أعماله كلها ابنه طاهراً. |
وقعة بغا في الأعراب
كان بنو سليم يفسدون بنواحي المدينة ويتسلطون على الناس في أموالهم وأوقعوا بناس من كنانة وباهلة وبعث محمد بن صالح إليهم مسلحة المدينة ومعهم متطوعة من قريش والأنصار فهزمهم بنو سليم وقتلوا عامتهم وأحرقوا لباسهم وسلاحهم وكراعهم ونهبوا القرى ما بين مكة والمدينة وانقطع الطريق فبعث الواثق بغا الكبير وقدم المدينة في شعبان فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم خمسين رجلاً وأسر مثلها واستأمنوا له على حكم الواثق فقبض على ألف منهم ممن يعـرف بالفسـاد فحبسهـم بالمدينـة وذلـك سنـة ثلاثيـن. ثم حج وسار إلى ذات عرق وعرض على بني هلال مثل بني سليم فأخذ من المفسدين منهم نحو ثلثمائة رجل وحبسهم بالمدينة وأطلق الباقين. ثـم خـرج بغـا إلـى بنـي مـرة فنقـب أولئـك الأسـرى الحبس وقتلوا الموكلين فاجتمع عليهم أهل المدينة ليـلاً ومنعوهـم مـن الخـروج فقاتلوهـم إلـى الصبـح ثـم قتلوهـم وشـق ذلـك علـى بغـا وكان سبب غيبته أن فـزارة وبنـي مـرة تغلبـوا علـى فـدك فخـرج إليهـم وقـدم رجـلاً مـن قـواده يعـرض عليهم الأمان فهربوا مـن سطوتـه إلـى الشـام واتبعهـم إلـى تخوم الحجاز من الشام وأقام أربعين ليلة ثم رجع إلى المدينة بمن ظفر منهم. وجـاءه قـوم مـن بطون غفار وفزارة وأشجع وثعلبة فاستخلفهم على الطاعة. ثم سار إلى بني كلاب فأتوه في ثلاثة آلاف رجل فحبس أهل الفساد منهم ألفاً بالمدينة وأطلق الباقين وأمره الواثـق سنـة اثنتيـن وثلاثيـن بالمسيـر إلـى بنـي نميـر باليمامـة ومـا قـرب منهـا لقطـع فسادهـم فسار إليهم ولقـي جماعـة الشريـف منهـم فحاربهـم وقتـل منهـم خمسين وأسر أربعين. ثم سار إلى مرة وبعث إليهـم فـي الطاعـة فامتنعـوا وسـاروا إلـى جبـال السنـد وطـف اليمامـة وبعـث سراياهـم فأوقع بهم في كل ناحية. ثم سار إليهم في ألف رجل فلقيهم قريباً من أضاخ فكشفوا مقدمته وميسرته وأثخنوا في عسكره بالقتل والنهب. ثم ساروا تحت الليل وهو في أتباعهم يدعوهم إلى الطاعة وبعث طائفة من جنده يدعون بعضهم وأصبح وهو في قلة فحملوا عليه وهزموه إلى معسكره وإذا بالطائفة الذين بعثهم قد جـاؤوا من وجهتهم فلما رآهم بنو نمير من خلفهم ولوا منهزمين وأسلموا رجالهم وأموالهم ونجوا على خيلهم ولم يفلت من رجالتهم أحد وقتل منهم نحو ألف وخمسمائة وأقام بمكان الوقعة واستأمن له أمراؤهم فقيدهم وحبسهم بالبصرة. وقدم عليهم واجن الأشروسني في سبعمائة مقاتـل مـدداً فبعثـه إلـى أتباعهـم إلـى أن بلغ تبالة من أعمال اليمن ورجع وسار بغا إلى بغداد بمن معـه منهـم وكانـوا نحـو ألفـي رجـل ومائتي رجل وكتب إلى صالح أمير المدينة أن يوافيه ببغداد من عنده منهم فجاء بهم وسلموا جميعاً. مقتل أحمد بن نصر وهو أحمد بن مالك وهو أحد النقباء كما تقدم وكان أحمد هذا نسيبة لأهل الحديث ويغشاه جماعـة منهـم مثـل ابـن حصيـن وابـن الدورقـي وأبـي زهير ولقن منهم النكير على الواثق بقوله بخلق القـرآن. ثـم تعـدى ذلـك إلـى الشتـم وكـان ينعته بالخنزير والكافر وفشا ذلك عنه. وانتدب رجلان ممن كان يغشاه: هما أبو هارون السراج وطالب وغيرهما فدعوا الناس له وبايعه خلق على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفرقوا الأموال في الناس ديناراً لكل رجل وأنفذوا لثلاث تمضي من شعبان من سنة إحدى وثلاثين يظهرون فيها دعوتهم. واتفق أن رجالاً ممن بايعهم من بني الأشرس جاؤوا قبل الموعد بليلة وقد نال منهم السكر فضربوا الطبل وصاحب الشرطة إسحاق بن إبراهيم غائب فارتاع خليفته محمد أخوه فأرسل من يسأل عن ذلك فلم يوجد أحد وأتوه برجل أعور اسمه عيسى وجدوه في الحمام فدلهم علـى بنـي الأشـرس وعلـى أحمـد بـن نصـر وعلـى أبـي هـارون وطالـب ثـم سيـق خـادم أحمد بن نصر فذكر القصة فقبض عليه وبعث بهم جميعاً إلى الواثق بسامرا مقيدين وجلس لهم مجلساً عاماً وحضر فيه أحمد بن أبي دؤاد ولم يسأله الواثق عن خروجه وإنما سأله عن خلق القرآن فقال: هو كلام الله. ثم سأله عن الرؤية فقال: جاءت بها الأخبار الصحيحة ونصيحتي أن لا يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأل الواثق العلماء حوله عن أمره فقال عبد الرحمـن بـن إسحـاق قاضـي الجانـب الغربي: هو حلال الدم وقال ابن أبي دؤاد: هو كافر يستتاب فدعـا الواثـق بالصمصامـة فانتضاهـا ومشـى إليـه فضربـه على حبل عاتقه ثم على رأسه ثم وخزه في بطنه ثم أجهز سيما الدمشقي عليه وحزوا رأسه ونصب ببغداد وصلب شلوه عند بابها. الفداء والصائفة وفي سنة إحـدى وثلاثيـن عقـد الواثـق لأحمـد بـن سعيـد بـن مسلـم بـن قتيبة على الثغور والعواصم وأمره بحضور الفداء هو وجانمان الخادم وأمرهما أن تمتحن الأسرى باعتقاد القـرآن والرؤيـة. وجاء الروم بأسراهم والمسلمون كذلك والتقوا على نهر اللامس على مرحلة من طرطوس وكان عدة أسرى المسلمين أربعة آلاف وأربعة وستين والنساء والصبيان ثمانمائة وأهل الذمة مائة. فلمـا فرغـوا مـن الفـداء غـزا أحمـد بـن سعيـد بـن مسلـم شاتيـاً وأصـاب النـاس ثلج ومطر وهلك منهم مائة نفس وأسر منهم نحوها وخرق بالنبل قرون خلق ولقيه بطريق من الروم فخام عن لقائه ثم غنم ورجع فعزله الواثق وولى مكانه نصر بن حمزة الخزاعي. وفاة الواثق وبيعة المتوكل وتوفـي الواثـق أبـو جعفـر هـارون بـن المعتصـم محمـد لسـت بقيـن مـن سنـة اثنتيـن وثلاثين وكانت علته الاستسقـاء وأدخـل فـي تنـور مسجـر فلقـي خفـة ثـم عـاوده فـي اليـوم الثانـي أكثـر مـن الـأول فأخـرج فـي محفـة فمـات فيهـا ولـم يشعـروا بـه. وقيـل إن ابـن أبـي دؤاد غمضـه ومات لخمس سنين وتسعة أشهر من خلافته. وحضر في الدار أحمد بن أبي دؤاد وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرح وابن الزيات وأراد البيعـة لمحمد بن واثق وهو غلام إمر فألبسوه فإذا هو قصير فقال وصيف: أما تتقون الله تولون الخلافة مثل هذا ثم تناظروا فيمن يولونه وأحضروا المتوكل فألبسه ابن أبي دؤاد الطويلة وعممه وسلم عليه بإمارة المؤمنين ولقبه المتوكل وصلى على الواثق ودفنه. ثم وضع العطاء للجنـد لثمانيـة أشهـر وولـى علـى بلـاد فـارس إبراهيـم بـن محمـد بن مصعب وكان على الموصل غانم بـن محمـد الطويـس فأقـره وعـزل ابن العباس محمد بن صول عن ديوان النفقات وعقد لابنه المنتصر على الحرمين واليمن والطائف. نكبة الوزير ابن الزيات ومهلكه كـان محمـد بـن عبد الملك بن الزيات قد استوزره الواثق فاستمكن من دولته وغلب على هؤلاء وكان لا يحفل بالمتوكل ولا يوجب حقه وغضب الواثق عليه مرة فجاء إلى ابن الزيات ليستنزله فأساء معاملته في التحية والملاقاة فقال: اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك. وقام عنه حزيناً فجاء إلى القاضي أحمد بن دؤاد فلم يدع شيئاً من البر إلا فعله وحياه وفداه وخطب حاجتـه فقـال: أحب أن ترضي عني أمير المؤمنين فقال: أفعل ونعمة عين ولم يزل بالواثق حتى رضي عنه. وكان ابن الزيات كتب إلى الواثق عندما خرج عنه المتوكل أن جعفر أتاني فسأل الرضا عنه وله وفرة شبه زي المخنثين فأمره الواثق أن يحضره من شعر قفاه فاستحضره فجاء يظن الرضا عنه وأمر حجاماً أخذ من شعره وضرب به وجهه فحقد له ذلك وأساء له. ولمـا ولـي الخلافة بقي شهراً ثم أمر إيتاخ أن يقبض عليه ويقيده بداره ويصادره وذلك في صفر سنة ثلاث وثلاثين فصادره واستصفى أمواله وأملاكه وسلط عليه أنواع العذاب ثم جعله في تنور خشب في داخله مسامير تمنع من الحركة وتزعج من فيه لضيقه ثم مات منتصف ربيع الأول وقيل: إنه مات من الضرب وكان لا يزيد على التشهد وذكر الله. وكان عمر بن الفرج الرخجي يعامل المتوكل بمثل ذلك فحقد له ولما استخلف قبض عليه في رمضان واستصفى أمواله ثم صودر على أحد عشر ألف ألف. نكبة إيتاخ ومقتله كان إيتاخ مولى السلام الأبرص وكان عنده ناخورياً طباخاً وكان شجاعاً فاشتراه المعتصم منه سنة تسع وتسعين وارتفع في دولته ودولة الواثق ابنه وكان له المؤنة بسامرا مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وكانت نكبة العظماء في الدولة علـى يديـه وحبسهـم بـداره مثـل أولـاد المأمون وابن الزيات وصالح وعجيف وعمر بن الفـرج وابـن الجنيـد وأمثالهـم وكـان لـه البريـد والحجابة والجيش والمغاربة والأتراك. وشرب ذات ليلة مع المتوكل فعربد على إيتاخ وهم إيتاخ بقتلـه ثـم غـدا عليـه فاعتـذر لـه ودس عليه من زين له الحج فاستأذن المتوكل فأذن له وخلع عليه وجعله أمير كل بلد يمر به. وسـار لذلـك فـي ذي القعـدة سنـة أربـع وثلاثين أو ثلاث وثلاثين وسار العسكر بين يديه وجعلت الحجابة إلى وصيف الخادم ولما عاد إيتاخ من الحج بعث إليه المتوكل بالهدايا والألطاف وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره بحبسه. فلما قارب بغداد كتب إليه إسحاق بأن المتوكل أمر أن يدخل بغداد وأن تلقاه بنو هاشم ووجوه الناس وأن يقعد بدار خزيمة بن خازم فيأمر للناس بالجوائز على قدر طبقاتهم ففعل ذلك ووقف إسحاق على بـاب الـدار فمنـع أصحابـه مـن الدخـول إليه ووكل بالأبواب ثم قبض على ولديه منصور مظفر وكاتبيه سليمان بن وهـب وقدامـة بن زياد وبعث إيتاخ إليه يسأله الرفق بالولدين ففعل ولم يزل إيتاخ مقيداً بالسجن إلى أن مات فقيل: إنهم منعوه الماء وبقي ابناه محبوسين إلى أن أطلقهما المنتصر بعد المتوكل. كان محمد بن البغيث بن الحليس ممتنعاً في حصونه بأذربيجان وأعظمها مرند واستنزل من حصنـه أيـام المتوكـل وحبـس بسامـرا فهـرب مـن حبسـه ولحـق بمرنـد وقيـل: إنـه في حبس إسحاق بن إبراهيـم بـن مصعـب وشفـع فيـه بغـا الشرابـي فأطلقـه إسحـاق فـي كفالة محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني وكان يتردد إلى سامرا حتى مرض المتوكل ففر ولحق بمرند وشحنها بالأقوات وجـاءه أهـل الفتنـة مـن ربيعـة وغيرهـم فاجتمـع لـه نحو ألفين ومائتي رجل والوالي بأذربيجان يومئذ محمد بن حاتم بن هرثمة فلم يقامعه فعزله المتوكل وولى حمدويه بن علي بن الفضل السعدي فسار إليه وحاصره بمرند مدة وبعث إليه المتوكل بالمدد وطال الحصار فلم يقن فيه فبعث بغا الشرابي في ألفي فارس فجاء لحصاره. وبعث إليه عيسى بن الشيخ بن السلسل بالأمان له ولوجوه أصحابه أن ينزلوا على حكم المتوكل فنزل الكثير منهم وانفض جمعه ولحق ببغا وخرج هو هارباً ونهبت منازله وأسرت نساؤه وبناته. ثم أدرك بطريقه وأتي به أسيراً وبأخويه صقر وخالـد وأبنائـه حليـس وصقـر والبغيث وجاء بهم بغا إلى بغداد وحملهم على الحجال يوم قدومه حتـى رآهـم النـاس وحبسـوا. ومـات البغيـث لشهـر مـن وصولـه سنة خمس وثلاثين وجعل بنوه في الشاكرية مع عبد الله بن يحيى خاقان. وفي سنة خمـس وثلاثيـن ومائتيـن عقـد المتوكل البيعة والعهد وكانوا ثلاثة محمداً وطلحة وإبراهيم ويقـال فـي طلحـة ابـن الزبيـر وجعـل محمداً أولهم ولقبه المستنصر وأقطعه أفريقية والمغرب وقنسرين والثغور الشامية والخزرية وديـار مضـر وديـار ربيعـة وهيـت والموصـل وغانـة والخابـور وكـور دجلة والسواد والخرمين وحضرموت والحرمين والسند ومكران وقندابيل وكور الأهواز والمستغلات بسامرا وماء الكوفة وماء البصرة. وجعـل طلحة ثانيهم ولقبه المعتز وأقطعه أعمال خراسان وطبرستان والري وأرمينية وأذربيجان وأعمـال فـارس. ثـم أضـاف إليـه سنـة أربعيـن خـزن الأمـوال ودور الضـرب في جميع الآفاق وأمر أن يرسم اسمه في السكة. وجعـل الثالـث إبراهيـم وأقطعـه حمـص ودمشـق وفلسطيـن وسائـر الأعمـال الشاميـة. وفي هذه السنة أمـر الجنـد بتغييـر الـزي فلبسـوا الطيالسـة العسليـة وشدوا الزنانير في أوساطهم وجعلوا الطراز في لباس المماليك ومنع من لباس المناطق وأمر بهدم البيع المحدثة لأهل الذمة ونهـى أن يستغـاث بهـم فـي الأعمـال وأن يظهروا في شعابهم الصلبان وأمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب. |
ذكر محمد بن إبراهيم
كـان محمـد بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب على بلاد فارس وهو ابن أخي طاهر وكان أخوه إسحاق بن إبراهيم صاحب الشرطة ببغداد منذ أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل وكان ابنه محمد بباب الخليفة بسامرا نائباً عنه. فلما مات إسحاق سنة خمس وثلاثين ولاه المتوكل وضـم إليـه أعمال أبيه واستخلفه المعتز على اليمامة والبحرين ومكة وحمل إلى المتوكل وبنيه من الجواهـر والذخائـر كثيـراً وبلغ ذلك محمد بن إبراهيم فتنكر للخليفة ولمحمد ابن أخيه وشكا ذلك محمد إلى المتوكل فسرحه إلى فارس وولاه مكان عمه محمد فسار وعزل عمه محمداً وولى مكانه ابن عمه الحسين بن إسماعيل بن مصعب وأمره بقتل عمه محمد فأطعمه ومنعه الشراب فمات. انتقاض أهل أرمينية كان على أرمينية يوسف بن محمد فجاءه البطريق بقراط بن أسواط وهو بطريق البطارقة يستأمن فقبض عليه وعلى ابنه وبعث بهما إلى المتوكل فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخيه وصهره موسى بن زرارة وتحالفوا على قتله وحاصروه بمدينة طرون في رمضان سنة سبع وثلاثيـن وخـرج لقتالهـم فقتلـوه ومـن كـان معـه. فسـرح المتوكل بغا الكبير فسار إلى الموصل والجزيرة وأناخ على أردن حتى أخذها وحمل موسى وأخوته إلى المتوكل وقتل منهم ثلاثين ألفاً وسبى خلقاً وسار إلى مدينة دبيل فأقام بها شهراً ثم سار إلى تفليس فحاصرها وبعث في مقدمته بزرك التركي وكان بتفليس إسحاق بـن إسماعيل بن إسحاق مولى بني أمية فخرج وقاتلهم وكانت المدينة كلها مشيدة مـن خشـب الصنوبـر فأمـر بغـا أن يرمـي عليهـا بالنفـط فاضطرمـت النـار فـي الخشـب واحترقـت قصور إسحاق وجواريه وخمسون ألف إنسـان وأسـر الباقـون وأحاطـت الأتـراك والمغاربـة بإسحـاق فأسروه وقتله بغا لوقته ونجا أهل إسحاق بأمواله إلى صعدنيل مدينة حذاء تفليس على نهر الكرمن من شرقيه بناها أنوشروان وحصنها إسحاق وجعل أمواله فيهـا فاستباحهـا بغـا ثـم بعث الجند إلى قلعـة أخـرى بيـن بردعـة وتفليـس ففتحوهـا وأسـروا بطريقهـا. ثـم سـار إلـى عيسـى بـن يوسف في قلعة كيس من كور البيلقان ففتحها وأسره وحمل معه جماعة من البطارقة وذلك سنة ثمان وثلاثين ومائتين. عزل ابن أبي دؤاد وولاية ابن أكثم وفي سنة سبع وثلاثين غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد وقبض ضياعه وحبس أولاده فحمـل أبـو الوليـد منهـم مائـة وعشريـن ألف دينار وجواهر تساوي عشرين ألفاً ثم صولح عن ستة عشر ألف آلف درهم وأشهد عليهم ببيع أملاكهم وفلح أحمد فأحضر المتوكل يحيى بن أكثم وولـاه قضـاء القضـاة وولـى أبـا الوليـد بـن أبـي دؤاد المظالـم ثـم عزلـه. وولـى أبـا الربيـع محمد بن يعقوب ثـم عزلـه وولى يحيى بن أكثم على المظالم ثم عزله سنة أربعين وصادره على خمسة وسبعين ألف دينار وأربعة آلاف حربو وولى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علـي. وتوفـي فـي هـذه السنـة أحمـد بن أبي دؤاد بعد ابنه أبي الوليد بعشرين يوماً وكان معتزلياً أخذ مذهبهم عن بشر المريسي وأخذه بشر عن جهم بن صفوان وأخذه جهم عن الجعد بن دهم معلم مروان. انتقاض أهل حمص وفي سنة سبـع وثلاثيـن وثـب أهـل حمـص بعاملهـم أبـي المغيـث موسـى بـن إبراهيـم الرافقـي بسبـب أنـه قتـل بعـض رؤسائهم فأخرجوه وقتلوا من أصحابه فولى مكانه محمد بن عبدويه الأنباري فأساء إليهـم وعسـف فيهـم فوثبـوا بـه وأمره المتوكل بجند من دمشق والرملة فظفر بهم وقتل منهم جماعة وأخرج النصارى منها وهدم كنائسهم وأدخل منها بيعة في الجامع كانت تجاوره. كانـت الهدنـة بين أهل مصر والبجاة من لدن الفتح وكان في بلادهم معادن الذهب يؤدون منها الخمس إلى أهل مصر فامتنعوا أيام المتوكل وقتلوا من وجدوه مـن المسلميـن بالمعـادن وكتـب صاحـب البريـد بذلـك إلـى المتوكـل فشـاور النـاس فـي غزوهـم فأخبروه أنهم أهل إبل وشاء وأن بين بلادهـم وبلـاد المسلميـن مسيـرة شهـر ولا بـد فيهـا مـن الـزاد وإن فنيـت الأزواد هلك العسكر فأمسك عنهـم. وخـاف أهـل الصغـد مـن شرهـم فولـى المتوكـل محمـد بـن عبد الله القمي على أسوان وقفط والأقصر وأسنا وأرمنت وأمره بحرب البجاة. وكتـب إلـى عنبسـة بـن إسحـاق الضبـي عامـل مصـر بتجهيـز العساكـر معه وأزاحه عليهم فسار في عشرين ألفاً من الجند والمتطوعة وحملت المراكب من القلزم بالدقيق والتمر والأدم إلى سواحل بلاد البجاة وانتهى إلى حصونهم وقلاعهم. وزحف إليه ملكهم اسمه علي بابا في إضعاف عساكرهم على المهارى وطاولهم علي بابا رجاء أن تفنى أزوادهم فجاءت المراكب وفرقها القمـي فـي أصحابـه فناجزهـم البجـاة الحرب وكانت إبلهم نفورة فأمر القمي جنده باتخاذ الأجراس بخيلهم. ثم حملوا عليهم فانهزموا أثخن فيهم قتلاً وأسراً حتى استأمنوا على أداء الخراج لما سلف ولما يأتي وأن يرد إلى مملكته وسار مع القمي إلى المتوكل واستخلف ابنه فخلع القمي عليـه وعلـى أصحابـه وكسـا أرجلهـم الجلـال المديحـة وولاهم طريق ما بين مصر ومكة وولى عليهم الصوائف وفي سنة ثمـان وثلاثيـن ورد علـى دميـاط أسطـول الـروم فـي مائـة مركـب فكبسوها وكانت المسلحة الذين بها قد ذهبوا إلى مصر باستدعاء صاحب المعونة عنبسة بن إسحاق الضبي فانتهزوا الفرصـة فـي مغيبهـم وانتهبـوا دمياط وأحرقوا الجامع بها وأوقروا سفنهم سبياً ومتاعاً وذهبوا إلى تنيس ففعلوا فيها مثل ذلك وأقطعوا. وغزا بالصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرميني صاحب الصوائف وفي سنة إحدى وأربعين كان الفداء بين الروم وبين المسلمين وكان ندورة ملكـة الـروم قـد حملـت أسـرى المسلميـن علـى التنصر فتنصر الكبير منهم. ثم طلبت المفاداة فيمن بقي فبعث المتوكل سيفًا الخادم بالفداء ومعه قاضي بغداد جعفر بن عبد الواحد واستخلف علـى القضـاء ابـن أبـي الشوارب وكان الفداء على نهر اللامس. ثم أغارت الروم بعد ذلك على روبة فأسروا من كان هنالك من الزط وسبوا نساءهم وأولادهم. ولما رجع علي بن يحيى الأرمينـي مـن الصائفـة خرجـت الـروم فـي ناحيـة سمسيـاط فانتهـوا إلى آمد واكتسحوا نواحي الثغور والخزريـة نهبـاً وأسـروا نحـواً مـن عشـرة آلاف ورجعوا وأتبعهم فرشاش وعمر بن عبد الأقطع وقوم من المتطوعة فلم يدركوهم وأمر المتوكل علي بن يحيى أن يدخل بالثانية في تلك السنة ففعل. وفي سنة أربـع وأربعيـن جـاء المتوكـل مـن بغـداد إلـى دمشـق وقد اجتمع نزولها ونقل الكرسي إليها فأقام بها شهرين ثم استوبأها ورجع بعد أن بعث بغا الكبير في العساكر للصائفة فدخل بلاد الـروم فدوخهـا واكتسحهـا من سائر النواحي ورجع وفي سنة خمس وأربعين أغارت الروم على سميساط فغنموا وغزا علي بن يحيى الأرميني بالصائفة كركرة وانتقض أهلها على بطريقهـم فقبضـوا عليـه وسلمـوه إلـى بعـض موالـي المتوكـل فأطلـق ملـك الروم في فداء البطريق ألف أسير من المسلميـن. وفي سنة سـت وأربعيـن غـزا عمـر بن عبد الله الأقطع بالصائفة فجاؤوا بأربعة آلاف رأس وغزا قرقاش فجاء بخمسة آلاف رأس وغزا الفضل بن قاران في الأسطول بعشرين مركباً فافتتـح حصن أنطاكية وغزا ملكها دورهم وسبا وغزا علي بن يحيى فجاء بخمسة آلاف رأس ومن الظهر بعشرة آلاف وكان على يده في تلك السنة الفداء في ألفين وثلثمائة من الأسرى. الولايات في النواحي ولـى المتوكـل سنـة اثنتيـن على بلاد فارس محمد بن إبراهيم بن مصعب وكان على الموصل غانم بـن حميـد الطوسـي واستـوزر لـأول خلافتـه محمـد بـن عبـد اللـه بـن الزيـات. وولى على ديوان الخراج يحيى بن خاقان الخراساني مولى الأزدي وعزل الفضل بن مروان. وولى على ديوان النفقات إبراهيم بـن محمـد بـن حتـول. وولـى سنـة ثلـاث وثلاثيـن علـى الحرميـن واليمـن والطائـف ابنـه المستنصـر وعـزل محمـد بـن عيسـى. وولى على حجابة بابه وصيفاً الخادم عندما سار إيتاخ للحج. وفي سنة خمس وثلاثين عهـد لأولـاده كمـا مـر وولـى علـى الشرطـة ببغـداد إسحـاق بـن إبراهيـم بـن الحسيـن بـن مصعـب مكـان ابنـه إبراهيـم عندمـا توفـي وكانـت وفاتـه ووفـاة الحسـن بـن سهـل فـي سنـة واحـدة. وفي سنة سـت وثلاثيـن استكتـب عبيـد اللـه بـن يحيـى بـن خاقـان ثـم استـوزره بعـد ذلـك وولـى علـى أرمينية وأذربيجان حرباً وخراجاً يوسف بن أبي سعيد محمد بن يوسف المروروذي عندما توفي أبوه فجاءه فسار إليها وضبطها وأساء إلى البطارقة بالناحية فوثبوا به كما مر وقتلوه. وبعـث المتوكـل بغـا الكبيـر فـي العساكـر فأخـذ ثـأره منهـم وولى معادن السواد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيـم. وفي سنة تسـع وثلاثيـن عـزل ابـن أبـي دؤاد عـن القضـاء وصـادره وولـى مكانـه يحيـى بـن أكثم. وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان فولاه الشرطة والجزية وأعمال السواد وكان على مكة علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور فحج بالناس ثم ولى مكانه في السنة القابلة عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى. وولى على الأحداث بطريق مكة والمواسـم جعفـر بـن دينـار وكـان على حمص أبو المغيب موسى بن إبراهيم الرافقي وثبوا به سنة تسع وثلاثين فولى مكانه محمد بن عبدويه. وفي سنة تسع وثلاثين عزل يحيى بن أكثم عن القضـاء وولـى مكانـه جعفـر بـن عبـد الواحـد بـن جعفـر بـن سليمـان. وفي سنة اثنتين وأربعين ولى علـى مكـة عبـد الصمـد بـن موسـى بـن محمـد بـن إبراهيـم الإمـام وولـى علـى ديوان النفقات الحسن بن مخلد بن الجراح عندما توفي إبراهيم بن العباس الصولي وكان خليفته فيها من قبل. وفي سنة خمس وأربعين اختط المتوكل مدينته وأنزلها القواد والأولياء وأنفق عليها ألف ألف دينـار وبنـى فيهـا قصـر اللؤلـؤة لـم يـر مثلـه فـي علـوه وأجرى له الماء في نهر احتفره وسماها المتوكلية وتسمـى الجعفـري والماخـورة. وفيهـا ولى على طريق مكة أبا الساج مكان جعفر بن دينار لوفاته تلـك السنـة. وولـى علـى ديـوان الضيـاع والتوقيـع نجـاح بـن سلمة وكانت له صولة على العمال فكان ينـام المتوكـل فسعـى عنـده فـي الحسـن بـن مخلـد وكـان معه على ديوان الضياع ولى موسى بن عقبة عبد الملك وكان على ديوان الخراج وضمن للمتوكل في مصادرتهما أربعين ألفاً. وأذن المتوكل وكانـا منقطعين إلى عبيد الله بن خاقان فتلطف عند نجاح وخادعه حتى كتب على الرقعتين وأشار إليه بأخذ ما فيهما معاً وبدأ بنجاح فكتبه وقبض منه مائة وأربعين ألف دينار سوى الغلات والفرش والضياع ثم ضرب فمات وصودر أولاده في جميع البلاد على أموال جمة. مقتل المتوكل وبيعة المنتصر ابنه كان المتوكل قد عهد إلى ابنه المنتصر ثم ندم وأبغضه لما كان يتوهم فيه من استعجاله الأمر لنفسـه وكـان يسميـه المنتصـر والمستعجـل لذلك. وكان المنتصر تنكر عليه انحرافه عن سنن سلفه فيمـا ذهبـوا إليـه مـن مذهـب الاعتـزال والتشيع لعلي وربما كان الندمان في مجلس المتوكل يفيضون فـي ثلـب علـي فينكـر المنتصـر ذلك ويتهددهم ويقول للمتوكل: إن علياً هو كبير بيننا وشيخ بني هاشم فإن كنت لا بد ثالبه فتول ذلك بنفسك ولا تجعل لهؤلاء الصفاغين سبيلاً إلى ذلك فيستخف به ويشتمه ويأمر وزيره عبيـد اللـه بصفعـه ويتهـدده بالقتـل ويصـرح بخلعـه. وربمـا استخلـف ابنـه الحبـر فـي الصلـاة والخطبـة مـراراً وتركـه فطوى من ذلك على النكث. وكان المتوكل قـد استفسد إلى بغا ووصيف الكبير ووصيف الصغير ودواجن فأفسدوا عليه الموالي. وكان المتوكل قد أخرج بغا الكبير من الدار وأمره بالمقام بسميساط لتعهد الصوائف فسار لذلك واستخلف مكانه ابنه موسى في الدار وان ابن خالـة المتوكـل واستخلـف علـى الستـر بغـا الشرابي الصغير. ثم تغير المتوكل لوصيف وقبض ضياعـه بأصبهـان والجبـل وأقطعهـا الفتـح بـن خاقـان فتغيـر وصيف لذلك وداخل المنتصر في قتل المتوكل وأعد لذلك جماعة من الموالي بعثهم مع ولده صالـح وأحمـد وعبـد اللـه ونصـر وجاؤوا في الليلة التي اتعدوا فيها. وحضر المنتصر ثم انصرف على عادته وأخذ زرافة الخادم معه وأمر بغا الشرابي الندمان بالانصراف حتى لم يبق إلا الفتح وأربعة من الخاصة وأغلق الأبواب إلا بـاب دجلـة فأدخـل منـه الرجـال وأحـس المتوكـل وأصحابه بهم فخافوا على أنفسهم واستماتوا وابتدروا إليه فقتلوه. وألقى الفتح نفسه عليهم ليقيه فقتلوه. وبعـث إلـى المنتصـر وهـو ببيـت زرافـة فأخبـره وأوصى بقتل زرافة فمنعه المنتصر وبايع له زرافة وركب إلى الدار فبايعه من حضر وبعث إلى وصيف أن الفتح قتل أبي فقتلته فحضر وبايع وبعـث عـن أخويـه المعتـز والمؤيـد فحضـرا وبايعـا لـه. وانتهـى الخبـر إلـى عبيـد اللـه بـن يحيى فركب من ليله وقصد منزل المعتز فلم يجده واجتمع عليه عشرة آلاف من الأزد والأرمن والزواقيل وأغروه بالحملة على المنتصر وأصحابه فأبى وخام عن ذلك وأصبح المنتصر فأمر بدفن المتوكل والفتح وذلـك لأربـع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين. وشاع الخبر بقتل المتوكل فثار الجند وتبعهم وركـب بعضهـم بعضـاً وقصـدوا بـاب السلطـان فخـرج إليهـم بعـض الأوليـاء فاسمعـوه ورجـع فخـرج المنتصـر بنفسـه وبيـن يديـه المغاربـة فشردوهم عن الأبواب فتفرقوا بعد أن قتل منهم ستة أنفس. الخبر عن الخلفاء من بني العباس أيام الفتنة وتغلب الأولياء وتضايق نطاق الدولة باستبداد الولاة في النواحي من لدن المنتصر إلي أيام المستكفي كـان بنـو العبـاس حين ولوا الخلافة قد امتدت إيالتهم على جميع ممالك الإسلام كما كان بنو أمية من قبلهـم. ثـم لحـق بالأندلـس مـن فـل بنـي أميـة مـن ولـد هشـام بـن عبـد الملـك حافـده عبـد الرحمـن بـن معاوية بن هشام ونجا من تلك الهلكـة فأجـاز البحـر ودخـل الأندلـس فملكهـا مـن يـد عبـد الرحمـن بـن يوسـف الفهـري وخطـب للسفـاح فيهـا حـولاً ثـم لحق به أهل بيته من المشرق فعذلوه في ذلـك فقطـع الدعـوة عنهـم. وبقيـت بلـاد الأندلـس مقتطعـة مـن الدولـة الإسلاميـة عـن بنـي العباس. ثم لمـا كانـت وقعـة فتـح أيـام الهـادي علي بن الحسن بن علي سنة تسع وتسعين ومائة وقتل داعيتهم يومئـذ حسيـن بـن علـي بن حسن المثنى وجماعة من أهل بيته ونجا آخرون وخلص منهم إدريس بـن عبـد اللـه بـن حسـن إلى المغرب الأقصى وقام بدعوته البرابرة هنالك فاقتطع المغرب عن بني العباس فاستحدثوا هنالك دولة لأنفسهم. ثـم ضعفـت الدولـة العباسية بعد الاستفحال وتغلب على الخليفة فيها الأولياء والقرابة والمصطنعـون وصـار تحـت حجرهـم من حين قتل المتوكل وحدثت الفتن ببغداد صار العلوية إلى النواحـي مظهريـن لدعوتهـم فدعـا أبـو عبـد اللـه الشيعـي سنـة سـت وثمانيـن ومائتيـن بإفريقيـة فـي طامـة لعبيد الله المهدي بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وبايع له وانتزع إفريقيـة مـن يـد بنـي الأغلب واستولى عليها وعلى المغرب الأقصى ومصر والشام واقتطعوا سائر هذه الأعمال عن بني العباس واستحدثوا له دولة أقامت مائتين وسبعين سنة كما يذكر في أخبارهـم. ثـم ظهـر بطبرستـان مـن العلويـة الحسـن بـن زيـد بـن محمـد بـن إسماعيـل بـن الحسن بن زيد بـن الحسـن السبـط ويعـرف بالداعـي خـرج سنـة خمسيـن ومائتيـن أيـام المستعيـن ولحق بالديلم فأسلموا على يديه وملك طبرستان ونواحيها وصار هنالك دولة أخذها من يـد أخيـه سنـة إحـدى وثلثمائة الأطروش من بني الحسين ثم من بني علي عمر داعي الطالقان أيام المعتصم وقد مر خبره. واسم هذا الأطروش الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر وكانت لهم دولة وانقرضت أيام الحسين واستولى عليها الديلم وصارت لهم دولة أخرى. وظهر باليمن الرئيس وهو ابن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن المثنى فأظهر هنالك دعوة الزيدية وملك صعدة وصنعاء وبلاد اليمن وكانت لهم هنالك دولة ولم تزل حتى الـآن. وأول مـن ظهـر منهـم يحيـى بـن الحسيـن بـن القاسـم سنـة تسعيـن ومائتيـن ثم ظهر أيام الفتنة من دعاة العلوية صاحب الزنج ادعى أنه أحمد بن عيسى بن زيد الشهيـد وذلـك سنـة خمـس وخمسين ومائتين أيام المهتدي وطعن الناس في نسبه فادعى أنه من ولد يحيى بن زيد قتيل الجوزجـان وقيـل: إنـه انتسـب إلـى طاهـر بـن الحسيـن بـن علـي والـذي ثبـت عنـد المحققيـن أنه علي بن عبـد الحليـم بـن عبـد القيـس فكانـت لـه ولبنيـه دولـة بنواحي البصرة أيام الفتنة قام بها الزنج إلى أن انقرضت على يد المعتضد أيام السبعين ومائتين. ثـم ظهر القرظ بنواحي البحرين وعمان فسار إليها من الكوفة سنة تسع وسبعين أيام المعتضد وانتسب إلى بني إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق دعوى كاذبة وكان من أصحابه الحسن الجمالي وزكرونة القاشاني فقاموا من بعده بالدعوة ودعوا لعبد الله المهدي وغلبوا على البصرة والكوفة ثم انقطعوا عنها إلى البحرين وعمان وكانت لهـم هنالـك دولـة انقرضـت آخـر المائـة الرابعـة وتغلـب عليهـم العـرب مـن بنـي سليم وبني عقيل. وفي خلال ذلك استبد بنو سامان بما وراء النهر آخر الستين ومائتين وأقاموا على الدعوة إلا أنهم لا ينفذون أوامـر الخلفـاء وأقامـت دولتهم إلى آخر المئة الرابعة. ثم اتصلت دولة أخرى في مواليهم بغزنة إلى منتصف المائة السادسة وكانت للأغالبة بالقيروان وإفريقيـة دولـة أخـرى بمصـر والشـام بالاستبـداد من لدن الخمسين والمائتين أيام الفتنة إلى آخر المائة الثالثة ثم أعقبتها دولة أخرى لمواليهم بني طفج إلى الستين والثلثمائة. وفي خلال هذا كله. تضايق نطاق الدولة العباسية إلى نواحي السواد والجزيرة فقط إلا أنهـم قائمـون ببغـداد علـى أمرهـم. ثم كانت للديلم دولة أخرى استولوا فيها على النواحي وملكوا الأعمال ثم ساروا إلى بغداد وملكوها وصيروا الخليفة في ملكتهم من لدن المستكفي أعوام الثلاثين والثلثمائة وكانت مـن أعظـم الـدول. ثـم أخذهـا مـن أياديهـم السلجوقيـة مـن الغز إحدى شعوب الترك فلم تزل دولتهم مـن لـدن القائـم سنـة أربعيـن وأربعمائـة إلـى آخـر المائـة السادسة وكانت دولتهم من أعظم الدول في العالم. وتشعبـت عنها دول هي متصلة إلى عهدنا حسبما يذكر ذلك كله في مكانه ثم استبد الخلفاء مـن بنـي العبـاس آخـراً فـي هـذا النطـاق الضيـق ما بين دجلة والفرات وأعمال السواد وبعض أعمال فارس إلى أن خرج التتار من مفازة الصين وزحفوا إلى الدولـة السلجوقيـة وهـم علـى ديـن المجوسية وزحفوا إلى بغداد فقتلوا الخليفة المعتصم وانقـرض أمـر الخلافـة وذلـك سنـة سـت وخمسين وستمائة. ثم أسلموا بعد ذلك وكانت لهم دولة عظيمة وتشعبـت عنهـا دول لهـم ولأشياعهم في النواحي وهي باقية لهذا العهد آخذة في الثلاثين كما نذكر ذلك كله في أماكنه. دولة المنتصر ولمـا بويـع المنتصـر كمـا ذكرنـاه ولـى علـى المظالـم أبـا عمـرو أحمد بن سعيد وعلى دمشق عيسى بن محمد النوشزي وكان على وزارته أحمد بن الخصيب واستقامت أموره وتفاوض وصيف وبغا وأحمـد بن الخصيب في شأن المعتز والمؤيد لما توقعوا من سطوتهما بسبب قتل المتوكل فحملوا المنتصر على خلعهما لأربعين يوماً من خلافته وبعث إليهما بذلك فأجاب المؤيد وامتنع المعتز فأغلظوا عليه وأوهموه القتل فخلا به المؤيد وتلطف به حتى أجاب وخلع نفسه وكتبا ذلك بخطهمـا. ثـم دخـلا علـى المنتصـر فأجلسهمـا واعتـذر لهمـا بسمـع مـن الأمراء بأنهم الذين حملوه على خلعهمـا فأجبتهـم إلى ذلك خشية عليكما منهم فقبلا يده وشكرا له وشهد عليهما القضاة وبنو هاشـم والقـواد ووجـوه النـاس وكتـب بذلـك المنتصـر إلـى الآفـاق وإلـى محمـد بـن طاهـر ببغداد. ثم إن أحمد بن الخصيب أخا المنتصر أمر بإخراج وصيف للصائفة وإبعاده عن الدولة لما بينهما من الشحنـاء فأحضـره المنتصـر وقـال لـه: قـد أتانـا مـن طاغية الروم أنه أفسد الثغر فلا بد من مسيرك أو مسيري فقال بل أنا أشخص يا أمير المؤمنين فأمر أحمد بن الخصيب أن يجهزه وبزيح علل العسكر معه وأمره أن يوافي ثغر ملطية فسار وعلى مقدمته مزاحـم بـن خاقـان أخـو الفتـح وعلى نفقات العساكر والمغانم والمقاسم أبو الوليد القروالي أن يأتيه رأيه. ثـم أصابـت المنتصـر علـة الذبحة فهلك لخمس بقين من ربيع الأول من سنة ثمان وأربعين ومائتين لستة أشهر من ولايته وقيل بل أكثر من ذلك فجعل السم في مشرطة الطبيب فاجتمع الموالي في القصر وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير وأتامش وغيرهم فاستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة والأشروسيـة على الرضا بمن يرضونه لهم ثم خلصوا للمشورة ومعهم أحمد بن الخصيب فعدلوا عن ولد المتوكل خوفاً منهم ونظروا في ولد المعتصم فبايعوه واستكتب أحمد بن الخصيب واستوزر أتامش وغدا على دار العامة في زي الخلافة وإبراهيم بن إسحق يحمل بين يديه الحربـة وصفـت المماليـك والأشروسيـة صفيـن بترتيـب دواجـن وحضـر أصحـاب المراتـب من العباسييـن والطالبيين وثار جماعة من الجند وقصدوا الدار يذكرون أنهم من أصحاب محمد بن عبـد اللـه بن طاهر والغوغاء فشهروا السلاح وهتفوا باسم المعتز وشدوا على أصحاب دواجن فتضعضعوا ثم جاءت المبيضة والشاكرية وحمل عليهم المغاربة والأشروسية فنشبـت الحـرب وانتهبت الدروع والسلاح من الخزائن بدار العامة وجاء بغا الصغير فدفعهم عنها وقتل منهم عـدة وفتقـت السجـون وتمـت بيعـة الأتـرال للمستعيـن ووضـع العطـاء علـى البيعـة وبعث إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فبايع له هو والناس ببغداد. ثم جاء الخبر بوفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان وهلك عمه الحسين بن طاهر بمرو فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر مكانه وعقد لمحمد بن عبد الله بن طاهر على خراسان سنة ثمان وأربعين ومائتين وولى عمه طلحة على نيسابور وابنه منصور بن طلحة على مرو وسرخـس وخـوارزم وعمـه الحسين بن عبد الله على هراة وأعمالها وعمه سليمان بن عبد الله على طبرستان والعباس ابن عمه على الجوزجان والطالقان. ومات بغا الكبير فولى ابنه موسى على أعماله كلها وبعث أناجور من قواد الترك إلى العمرط الثعلبـي فقتلـه واستأذنـه عبـد اللـه بـن يحيـى بـن خـان في الحج فأذن له ثم بعث خلفه من نفاه إلى برقـة وحبـس المعتـز والمؤيـد فـي حجـره بالجوسـق بعد أن أراد قواد الأتراك قتلهما فمنعهم أحمد بن الخصيب من ذلك. ثم قبض على أحمد بن الخصيب فاستصفى ماله ومال ولده ونفاه إلى قرطيـش واستـوزر أتامـش وعقـد لـه علـى مصـر والمغـرب وعقـد بغـا الصغيـر علـى حلـوان وماسبـذان ومهرجـا تعـرف وجعـل شاهـك الخـادم علـى داره وكراعـه وحرمـه وخاصـة أمـوره وخدمـه وأشنـاس علـى جميـع النـاس. وعزل علي بن يحيى الأرمني عن التغور الشامية وعقد له على أرمينية وأذربيجان. وكان على حمص كندر فوثب به أهلها فأخرجوه فبعث المستعين الفضل بن قارن وهو أخو مازيار فاستباحهم وحمل أعيانهم إلى سامرا وبعث المستعين إلى وصيـف وهـو بالثغـر الشامـي بـأن يغزو بالصائفة فدخل بلاد الروم وافتتح حصن قرورية. ثم غزا بالصائفـة سنـة تسـع وأربعيـن جعفـر بـن دينـار وافتتـح مطاميـر واستأذنـه عمـر بـن عبـد اللـه الأقطـع في تدويـخ بلـاد الـروم فـأذن لـه فدخـل فـي جماعـة مـن أهل ملطية ولقي ملك الروم فخرج الأسقف في خمسيـن ألفـاً أحاطـوا بـه وقتـل عمـر فـي ألفيـن مـن المسلميـن. وكـان علـى الثغور الجزرية فأغار عليها الـروم وبلـغ ذلـك علـي بن يحيى وهو قابل من أرمينية إلى ميافارقين ومعه جماعة من أهلها فنفر إليهم وهو في نحو أربعمائة فقتلوا وقتل. |
فتنة بغداد وسامرا
ولمـا اتصـل الخبـر ببغـداد وسامـرا بقتـل عمـر بـن عبـد اللـه وعلي بن يحيى شق ذلك على الناس لما كانوا عليه من عظيم الغناء في الجهاد واشتد نكيرهم على الترك في غفلتهم عن المصالح وتذكروا قتل المتوكل واستيلاءهم على الأمور فاجتمعت العامة وتنادوا بالنفير إلى الجهـاد. وانضم إليهم الشاكرية يطلبون أرزاقهم ثم فتقوا السجون وقطعوا الجسور وانتهبوا دور كتاب محمد بن عبد الله بن طاهر. ثم أخرج أهل اليسار من بغداد الأموال ففرقوها في المجاهدين وجـاءت العامـة مـن الجبال وفارس والأهواز فنفروا للغزو ولم يظهر للمستعين ولا لأهل الدولة في ذلـك أثـر. ثـم وثـب العامـة بسامـرا وفتقـوا السجـون وخـرج مـن كـان فيهـا وجـاء جماعـة مـن الموالي في طلبهـم فوثـب العامـة بهـم وهزموهـم وركـب بغـا ووصيف وأتامش في الترك فقتلوا من العامة خلقاً وانتهبوا منازلهم وسكنت الفتنة. مقتل أتامش كـان المستعيـن لمـا ولـي أطلـق يـد أمـه وأتامش وشاهك الخادم في الأموال وما فضل عنهم فلنفقات العبـاس بـن المستعيـن وكـان في حجر أتامش فبعث ذلك عليه بغا ووصيف وضاق حال الأتراك والفراغنـة ودسهـم عليهـم بغـا ووصيـف فخرج منهم أهل الكرخ والدور وقصدوه في الجوسق مع المستعين وأراد الهرب فلم يطق واستجار بالمستعين فلم يجره وحاصروه يومين. ثم افتتحوا عليـه الجوسـق وقتلـوه وقتلـوا كاتبـه شجاع بن القاسم ونهبت أموالهم واستوزر المستعين مكانه أبا عبد اللـه بـن محمـد بـن علـي علـى الأهـواز وبغـا الصغيـر علـى فلسطيـن. ثـم غضـب بغـا الصغيـر علـى أبي صالح فهرب إلى بغداد واستوزر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجاني وولى على ديوان الرسائل سعيد بن حميد. ظهور يحيى بن عمر ومقتله كـان علـى الطالبييـن بالكوفـة يحيـى بـن عمر بن يحيى بن زيد الشهيد ويكنى أبا الحسين وأمه من ولـد عبـد الله بن جعفر وكان من سراتهم ووجوههم وكان عمر بن فرج يتولى أمر الطالبيين أيام المتوكل فعرض له أبو الحسين عند مقدمه من خراسان يسأله صلة لدين لزمه فأغلظ له عمر القـول وحبسـه حتـى أخـذ عليـه الكفـلاء وانطلـق إلـى بغـداد. ثـم جـاء إلـى سامـرا وقد أملق فتعرض لوصيـف فـي رزق يجـرى لـه فأسـاءه عليـه وإليهـا فرجـع إلـى الكوفة وعاملها يومئذ أيوب بن الحسين بن موسى بن جعفر بن سليمان بن علي من قبل محمد بن عبد الله بن طاهر فاعتزم على الخروج والتف عليه جمع من الأعراب وأهل الكوفة ودعا للرضى من آل محمد ففتق السجون ونهبها وطرد العمال وأخذ من بيت المال ألفي دينار وسبعين ألف درهم. وكـان صاحـب البريـد قـد طيـر بخبره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فكتب إلى عامله بالسواد عبد الله بن محمود السرخسي أن يصير مدداً إلى الكوفة فلقيه وقاتله فهزمهم يحيى وانتهب ما معهـم وخـرج إلـى سـواد الكوفة وتبعه خلق من الزيدية وانتهى إلى ناحية واسط وكثرت جموعه. وسـرح محمـد بـن عبـد الله بن طاهر إلى محاربة الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب في العساكر فسار إليه وقد كان يحيى قصد الكوفة فلقيه عبد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس فهزمه يحيى إلى ناحية ساهي ودخل الكوفة واجتمعت عليـه الزيديـة واشتمـل عليـه عامـة أهـل الكوفـة وإمداد الزيدية من بغداد وجاء الحسين بن إسماعيل وانضم إليه عبـد الرحمـن بـن الخطـاب. وخـرج يحيـى مـن الكوفة ليعاجلهم الحرب فأسرى ليلته وصبح العساكر فساروا إليه فهزموه ووضعوا السيف في أصحابه وأسروا الكثير من أتباعه كان منهم الهيصم العجلـي وغيـره وانجلـت الحـرب عـن يحيـى بن عمر قتيلاً فبعثوا برأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فبعث به إلـى المستعيـن وجعـل فـي صنـدوق فـي بيـت السلـاح وجـيء بالأسـرى فحبسـوا وكـان ذلك منتصف رجب سنة خمس ومائتين. الدولة العلوية ابتداء الدولة العلوية بطبرستان لمـا ظهـر محمد بن عبد الله بن طاهر بيحيى بن عمرو وكان له من الغناء في حربه ما قدمناه أقطعـه المستعيـن قطائـع مـن صوافـي السلطـان بطبرستان كانت منها قطعة بقرب ثغر الديلم تسمى روسالوس وفيها أرض موات ذات غياض وأشجار وكلأ مباحة لمصالح الناس من الاحتطاب والرعـي وكـان عامـل طبرستـان يومئـذ مـن قبـل محمد بن طاهر صاحب خراسان عمه سليمان بن عبد الله بن طاهر وهو أخو محمد صاحب القطائع وكان سليمان مكفولاً لأمه وقد حظي عندها وتقدم وفرق أولاده في أعمال طبرستان. وأساؤوا السيرة في الرعايا ودخل محمد بن أوس بلاد الديلم وهم مسالمون فسبى منهم وانحرفوا لذلك. وجاء نائب محمد بن عبد الله لقبـض القطائـع فحـاز فيها تلك الأرض الموات المرصدة المرافق الناس فنكر ذلك الناظر على تلك الأرض وهما محمد وجعفر ابنا رستم واستنهضا من أطاعهما من أهل تلك الناحية لمنعه من ذلـك فخافهمـا النائـب ولحـق بسليمـان صاحـب طبرستـان. وبعـث ابنا رستم إلى الديلم يستنجدانهـم علـى حـرب سليمـان وبعثـا إلى محمد بن إبراهيم من العلويين بطبرستان يدعوانه إلى القيام بأمره فامتنع ودلهما على كبير العلوية بالري الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط فشخص إليهما وقد اجتمع أهل كلار وسالوس ومقدمهم ابنا رستم وأهل الريان ومعهم الديلم بأسرهم فبايعوه جميعاً وطردوا عمال سليمان وابن أوس. ثم انضم إليهم جبال طبرستان وزحف الحسن بمن معه إلى مدينة آمد وخرج ابن أوس من سارية لمدافعته فانهزم ولحق بسليمان من سارية فخرج سليمان لحرب الحسـن. ولمـا التقـى الجمعان بعث الحسن بعض قواده خالد سليمان إلى سارية وسمع بذلك سليمان فانهزم وملك الحسن سارية وبعث بعيال سليمان وأولاده في البحر إلى جرجان. وقيل: إن سليمان انهزم اختيـاراً لمـا كـان بنـو طاهـر يتهمـون بـه مـن التشييـع. ثـم بعـث الحسـن إلـى الـري ابـن عمـه وهو القاسم بن علي بن إسماعيل ويقال محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي بن الحسين بن علي بن زين العابدين فملكها. وبعث المستعين جنداً إلى همذان ليمنعها. ولما ملك محمد بن جعفر قائد الحسـن بـن زيـد الـري أساء السيرة وبعث محمد بن طاهر قائد محمد بن ميكال أخو الشاه فغلبه على الري وانتزعها منه وأسره فبعث إليه الحسن بن زيد قائده دواجن فهزم ابن ميكال وقتله واسترجع الري. ثم رجع سليمان بن طاهر من جرجان إلى طبرستان فملكها ولحق الحسين بالديلم وسار سليمان إلى سارية وآمد ومعهم أبناء قارن بن شهرزاد فصفح عنهـم ونهـى أصحابه عن الفتك والأذى. ثم جاء موسى بن بغا بالعساكر فملك الري من يدي أبي دلف وبعث مصلحاً إلى طبرستان فحارب الحسن بن زيد وهزمه واستولى على طبرستان ولحق الحسن بالديلم ودخل مفلح آمد وخرب منازل الحسن ورجع إلى موسى بالري. مقتل باغر وكـان باغـر هـذا من قواد الترك ومن جملة بغا الصغير ولما قتل المتوكل زيد في أرزاقه وأقطعوه قرى بسواد الكوفة وضمنها له بعض أهل باروسما بألفي دينار فطلبه ابن مارمة وكيل باغر وحبسه ثم تخلص وسار إلى سامرا وكانت له ذمة من نصرانـي عنـد بغـا الصغيـر فأجـاره النصرانـي مـن كيـد بغـا وأغـراه بـه فغضب لذلك باغر وشكى إلى بغا فأغلظ له القول وقال: إني مستبـدل مـن النصرانـي وافعـل فيـه بعـد ذلـك مـا تريـد. ودس إلى النصراني بالحذر من باغر وأظهر عزلـه وبقـي باغـر يتدده وقد انقطع عن المستعين وقد منعه بغا في يوم نوبته عن الحضور بدار السلطـان فسـأل المستعين وصيفاً من أعمال إيتاخ وقلدها لباغر فعذل وصيفاً في الشأن فحلف له أنه ما علم قصد الخليفة. وتنكر بغا لباغر فجمع أصحابه الذين بايعوه على المتوكل وجدد عليهـم العهـد فـي قتـل المستعيـن وبغـا ووصيف وأن ينصبوا ابن المعتصم أو ابن الواثق ويكون الأمر لهـم. ونمـا الخبـر علـى التـرك إلـى المستعيـن فأحضـر بغـا ووصيفـاً وأعلمهـا بالخبـر فحلفا له على العلم وأمروا بحبس باغر ورجلين معه من الأتراك فسخطوا ذلك وثاروا فانتهبوا الإصطبل وحضروا الجوثـق. وأمـر بغـا ووصيـف وشاهـك الخـادم وكاتبـه أحمـد بن صالح بن شيرزاده ونزل على محمد بـن طاهـر فـي بيتـه فـي المحـرم سنـة إحدى وخمسين ولحق به القواد والكتاب والعمال وبنو هاشم وتخلف جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ فندم الأتراك وركب جماعة من قوادهم إلى المستعين وأصحابه ليردوهم فأبوا ورجعوا آيسين منه وتفاوضوا في بيعة المعتز. بيعة المعتز وحصار المستعين كـان قـواد الأتـراك لمـا جـاؤوا إلـى المستعيـن ببغـداد يعتـذرون مـن فعلهم ويتطارحون في الرضا عنهم والرجـوع إلـى دار مكـة وهـو يوبخهـم ويعمـد عليهم إحسانه وإساءتهم ولم يزالوا به حتى صرخ لهم بالرضا فقال بعضهم: فإن كنت رضيت فقم واركب معنا إلى سامرا فكلمه ابن طاهر لسوء خطابهم وضحك المستعين لعجمتهم وجهلهم بآداب الخطاب وأمر باستمرار أرزاقهم ووعدهم بالرجوع فانصرفوا حاقدين ما كان من ابن طاهر وأخرجوا المعتز من محبسه وبايعوا له بالخلافة وأعطـى للنـاس شهريـن. وحضـر للبيعـة أبـو أحمـد بن الرشيد فامتنع منها وقال: قد خلعت نفسك فقال أكرهت فقال ما علمنا ذلك ولا مخلص لنا في إيماننا فتركه. وولـوا على الشرطة إبراهيم البربرح وأضيفت له الكتابة والدواوين وبيت المال وهرب عتاب بن عتاب من القواد إلى بغداد وقام محمد بن عبد الله بن طاهر بالاحتشاد واستقدم مالك بن طـوق فـي أهـل بيتـه وجنده وأمر حوبة بن قيس - وهو على الأنبار - بالاحتشاد. وكتب إلى سليمـان بـن عمران صاحب الموصل بمنع الميرة عن سامرا وشرع في تحصين بغداد وأدار عليها الأسـوار والخنـادق مـن الجانبيـن وجعـل علـى كـل بـاب قائـداً ونصـب علـى الأبواب المجانيق والعرادات وشحن الأسوار بالرماة والمقاتلة وبلغت النفقة في ذلك ثلثمائة وثلاثين ألف دينار وفـوّض للعياريـن الـرزق وأغـدق عليهـم وأنفـذَ كتب المستعين إلى العمّال بالنواحي تحمل الخراج إلى بغداد. يدعوه إلى بيعته وطالت المراجعات في ذلك وكان موسى بن بغا قد خرج لقتال أهل حمص فاختلفـت إليـه وهـو بالشـام كتـب المستعيـن والمعتز يدعوه كل واحد منهما إلى نفسه فاختار المعتز ورجع إليه وهرب إليه عبد اللَّه بن بغا الصغير من بغداد بعد أن هرب عنه فقتله. وهرب الحسن بن الأفشين إلى بغداد فخلـع عليـه المستعيـن وضـمّ إليـه الأشروسِنـة. ثـم عقـد المعتـز لأخيـه إلـى أحمـد الواثـق عـن حـرب بغـداد وضـمّ إليـه الجنـود مـع باكليـال من قوّادهم فسار في خمسين ألفاً من الأتراك والفراغنة والمغَاربة وانتهبوا ما بين عكبرا وبغداد من القرى والضياع وخرَّبوها وهرب إليهم جماعة من أصحاب بغا الصغير ووصلوا إلى باب الشماسية. وولّى المستعين على باب الشماسية الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن مُصْعَب وجعل القوّاد هنالك تحت يده ووافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية فوقفوا بالقرب منه وأمده ابن طاهر بالشاه بن ميكال وبيدار الطبري. ثم ركب محمد بن عبد اللَه بن طاهر من الغد ومعه بغا ووصيف والفقهاء والقضاة وذلك عاشر صفر وبعث إليهم يدعوهم إلى مراجعة الطاعـة علـى المعتـز ولـيّ عهـده فلم يجيبوا. فانصرفوا وبعث إليه القواد من الغد بأنهم زحفوا إلى باب الشماسية فنهاهم عن مناداتهم بالقتال. وقَدِمَ ذلك اليوم عبد اللَه بن سليمان خليفة بغا من مكة في ثلثمائة رجل. ثم جاء الأتـراك مـن الغد فاقتتلوا مع القواد وانهزم القوّاد وبلغ ابن طاهر أن جماعة من الأتراك ساروا نحو النهروان فبعث قائداً من أصحابه إليهم فرجع منهزماً واستولى الأتراك على طريق خراسان وقطعوها عن بغداد. ثم بعث المعتزّ عسكراً آخر نحو أربعة آلاف فنزلوا في الجاذب الغربي وبعـث ابـن طاهـر إليهـم الشـاه بـن ميكال فهزمهم وأثخن فيهم ورجع إلى بغداد فخلع عليه وسائر القـوّاد أربـع خلـع وطوقـاً وسـواراً مـن ذهـب لكل واحد. ثم أمر ابن طاهر بهدم الدور والحوانيت إلى باب الشماسية ليتسع المجال للحـرب وقَدِمَـت عليـه أمـوال فـارس والأهـواز مـع مكحـول الأشروسي وخرج الأتراك لاعتراضه. وبعث ابن طاهر لحفظه فقَدِموا به بغداد ولم يظفر به الأتراك ومضوا نحو النهروان فأحرقوا سفن الجسر. وكان المستعين قد بعث محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد والياً على الثغور الجزريّة وأقـام ينتظـر الجنـد والمـال فلمـا بلغـه خبر هذه الفتنة جاء على طريق الرَقّةِ إلى بغداد فخلع عليه ابن طاهر وبعثه في جيش كثيف لمحاربتهم وصار إلى ضُبَيْعَةَ بالسواد فأقام بها. فقال ابن طاهر: لن يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبيّ ينصره الله به ثم ذهب الأتراك وقاتلوا. واتصل الحصار واشتدت الحرب وانتهبت الأسواق وورد الخبر من الثغور بأن بلكاجور حمل النـاس علـى بيعـة المعتـز. فقـال ابـن طاهـر: لعلّـه ظنّ موت المستعين فكان كذلك ووصل كتابه بأنه جمّـد البيعـة. وكـان موسـى بـن بغا مع الأتراك كما قد قدّمنا فأراد الرجوع على المستعين فامتنع أصحابـه وقاتلـوه فلم يتم له أمره وفر القطَّاعون من البصرة ورموا على الأتراك فأحرقوهم فبعث ابـن طاهـر إلـى المدائـن ليحفظهـا وأمـدّه بثلاثـة آلـاف فارس وبعث إلى الأنبار حوبة بن قيس فشقّ المـاء إلـى خندقهـا مـن الفـرات وجـاء إلـى الإسحاقـي مـن قبل المعتز فسبق المدد الذي جاء من قبل ابن طاهر وملك الأنبار. ورجع حَوْبَةُ إلى بغداد فأنفذ ابن طاهر الحسَيْن بن إسماعيل في جماعة من القوَاد والجند فاعترضه الأتراك وحاربوه وعاد إلى الأنبار وتقدّم هو لينزل عليهما وبينما هو يَحط الأثقال إذا بالأتـراك فقاتلهـم وهزمهـم وأثخـن فيهـم وكانـوا قـد كمنـوا لـه فخـرج الكمين وانهزم الحسين وغرق كثير مـن أصحابـه فـي الفـرات. وأخـذ الأتـراك عسكـره ووصـل إلـى الياسِرِيَّـةِ آخـر جمادى الآخرة ومنع ابن طاهر المنهزمين من دخول بغداد وتوعدهم على الرجوع إليه. وأمده بجند آخر فدخل من الياسرية وبعث علـى المخـاض الحسيـن بـن علـيّ بـن يحيـى الأرمينـي فـي مائتـي مقاتـل ليمنـع الأتـراك مـن العبور إليه من عدوة الفرات فوافوه وقاتلوه عليها فهزموه وركب الحسين في زوْرق منحدراً وترك عسكره وأثقاله فاستولى عليها الأتراك ووصل المنهزمون إلى بغداد من ليلتهم. ولحق من عسكره جماعة من القوّاد والكتّاب بالمعتز وفيهم عليّ ومحمد ابنا الواثق وذلك أول رجب. ثم كانت بينهم عدّة وقعات وقتل من الفريقين خلق ودخل الأتراك في كثير من الأيام بغداد وأخرجوا عنها. ثم ساروا إلى المدائن وغلبوا عليها ابن أبي السَفَّاح وملكوها. وجاء الأتراك الذيـن بالأنبـار إلـى الجانـب الغربي وانتهوا إلى صَرصَر وقصر ابن هبَيْرَة واتصل الحصار إلى شهر ذي القعـدة وخـرج ابـن طاهـر فـي بعـض أيامـه في جميع القوّاد والعساكر فقاتلهم وانهزموا وقتل منهم خلق وارتقم الذين كانوا مع بغا ووصيف لذلك فلحقوا بالأتراك. ثم تراجع الأتراك وانهزم أهل بغداد. ثم خرج في ذي الحجـة رشيـد بـن كـاووس أخـو الأفشيـن ساعيـاً فـي الصلـح بيـن الفريقيـن واتّهـم النـاس ابن طاهر بالسعي في خلع المستعين فلما جاء رشيد وأبلغهم سلام المعتز وأخيه أبي أحمد شتموه وشتموا ابن طاهر وعمدوا إلى دار رشيد ليهدموها وسأل ابن طاهر من المستعين أن يسكنهم فخرج إليهم ونهاهم وبرأ ابن طاهر مما اتّهموه بـه فانصرفـوا وتـرددت الرّسـل بين ابن طاهر وبين أبي أحمد فتجحّد للعامّة والجند سوء الظنً. وطلـب الجنـد أرزاقهـم فوعدهـم بشهريـن وأمرهـم بالنزول فأبوا إلاّ أن يعلّمهم الصحيح من رأيه في المستعين. وخاف أن يدخلوا الأتراك كما عمل أهل المدائـن والأنبـار فأصعـد المستعيـن علـى سطح دار العامّة حتى رآه الناس وبيده البُرْدةُ والقضيب وأقسم عليهم فانصرفوا. واعتزم ابن طاهر على التحوّل إلى المدائن فجاءه وجوه الناس واعتذروا له بالغَوْغَاء فأقصروا بنقـل المستعيـن عـن دار ابـن طاهـر إلـى دار رزق الخـادم بالرصافـة. وأمـر القـوّاد وبنـي هاشم بالكون مـع ابـن طاهـر فركـب فـي تعبيـة وحلـف لهـم علـى المستعيـن وعلى قصد الإصلاح فدعوا له وسار إلـى المستعيـن وأغـراه بـه وأمـر بغـا ووصيفـاً بقتلـه فلم يفعلا. وجاءه أحمد بن إسرائيل والحسَيْنُ بن مخلد بمثل ذلك في المستعين فتغيّر له ابن طاهر. فلما كان يوم الأضحى وقد حضر الفقهاء والقضاةَ طالبه ابن طاهر بإمضاء الصلح فأجاب وخرج إلى باب الشماسية فجلس هناك أبن طاهر إلى المستعين وأخبره بأنه عقد الأمر إلى أن يخلع نفسه ويبذلوا له خمسين ألف دينار ويعطـوه غلـة ثلاثيـن ألف دينار ويقيم بالحجاز متردداً بين الحرمين ويكون بغا واليَاً على الحجاز ووصيف على الجبل ويكون ثلث الجباية لابن طاهر وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك. فامتنع المستعين أوّلاً من الخلع ظنّاً منه أن وصيفاً وبغا معه. ثم تبيّن موافقتهما عليه فأجاب وكتب بما أراد من الشروط وأدخل الفقهاء والقضاة وأشهدهـم بأنـه قـد صيّـر أمـره إلـى ابـن طاهر. ثم أحضر القوّاد وأخبرهم بأنه ما قصد بهذا الإصلاح إلا حقن الدماء وأخرجهم إلىِ المعتز ليوافقهم بخطه على كتاب الشرط ويشهدوا على إقراره فجاؤوا بذلك لستّ خَلَوْن من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين. ولمـا تـمّ مـا عقـده ابـن طاهـر ووافـى القـوّاد بخـط المعتـزّ علـى كتاب الشروط أخذ البيعة للمعتز على أهل بغداد وخطب له بها وبايع له المستعين وأشهد على نفسه بذلك فنقله من الرصافة إلى قصر الحَسَنِ بن سَهْل ومعه عياله وأهله وأخذ البُردةَ والقضيب والخاتم ومنع من الخروج إلى مكة فطلب البصرة فمنع منها وبعث إلى واسط. فاستوزر المعتزِّ أحمد بـن أبـي إسرائيـل ورجـع أخوه أبو أحمد إلى سامرّا. وفي آخر المحرّم انصرف أبو الساج دِبْوَازُ بن درموسب إلى بغداد فقلّده ابـن طاهـر معـاون السـواد فبعـث معـه مؤنـة إليهـا لطـرد الأتـراك والمغاربـة عنهـا وسار هو إلى الكوفة. ثم كتب المُعْتَزًّ إلى ابن طاهر بإسقاط بغا ووصيف ومَن معهما من الدواوين وكان محمـد أبـو عون من قوّاد ابن طاهر قد تكفّل لأبي إسحاق بقَتلهما وعقد له المعتز على اليمامة والبحريـن والبصـرة. ونمـي الخبـر إليهمـا بذلـك فركبـا إلـى ابـن طاهـر وأخبـراه الخبـر وأن القـوم قـد نقضوا العهد. ثم بعث وصيف أخته سعاد إلى المؤيد وكان في حُجْرِها فاستوهبت له الرضا من المعتز وكذا فعل أبو أحمد مع بغا وكتب لهم المعتز جميعاً بالرضا. ثم رغب الأتراك فـي إحضارهمـا بسامـرّا فكتـب بذلـك ودسّ إلـى ابن طاهر بمنعهما فخرجا فيَمن معهما ولم يقدر ابن طاهـر علـى منعهمـا. وحضـرا بسامـرّا فعقد إليهما المعتز على أعمالهما وردّ البريد إلى موسى بن ثـم كانت فتنة بين جند بغداد وابن طاهر في شهر رمضان جاووا إليه يطلبون أرزاقهم قال: كتبـت إلـى أميـر المؤمنيـن فـي ذلـك فكتـب إلـيّ إن كنـت تريـد لجنـد لنفسـك فأعطهـم وإن كان لنا فلا حاجة لنا فيهم. فشغبوا ففرّق فيهم ألفيّ دينار فسكنوا. ثم اجتمعوا ثانية ومعهم الأعلام والطبول وضربوا الخيام بباب الشماسِيَّةِ وبنوا البيوت من الأعواد والقصب. وجمع محمد بن إبراهيم أصحابه وشحن داره بالرجال وأرادوا يوم الجمعة أن يمنعوا الخطيب من الدعاء للمعتز فقعـد واعتـذر بالمـرض فخرجوا إلى الجسر ليقطعوه فقاتلهم أصحاب ابن طاهر ودفعوهم عنه. ثـم دفعـوا أصحـاب ابـن طاهـو بإعانة أهل الجانب الشرقي وجاء العامِّة فجلس الشرطة فأمر ابن طاهـر بإحـراق الحوانيـت إلـى باب الجسر ومات أصحاب تعبية الحرب وجاء من دله على عورة الجند فسرح الشاه ابن ميكال وعرض القوّاد فسار إلى ناحيتهم وافترقوا وقتل بينهم ابن الخليل. وحمل رئيسهم الآخر ابن القاسم عَبْدون بن المُوَفَّقِ إلى ابن طاهر ومات في خلال ذلك. وأخرج المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد وذلك أنّ العلاء بن أحمد عامل أرمينية بعث إلى المؤيّد بخمسة آلاف دينار فأخذها عيسى بـن فرخانشـاه فأغـرى المؤيـد بعيسـى الأتـراك والمغَاربـة فبعـث المعتـز إلـى المؤيد وأبي أحمد فحبسهما وقيًد المؤيد فأخذ خطّه بخلع نفسه. ثم نمي إليه أن الأتراك يرودون إخراجه من الحبس فسأل عن ذلك موسى بن بغَا فأنكر علم ذلك وأخـرج المؤيـد مـن الغـد ميتـاً ودفنتـه أمـه فيقـال غطَّى على أنفه فمات وقيل أقعد في الثلج ووضع على رأسه. ثم نقل أخوه ابن أحمد إلى مجلسه. ثـم اعتـزم المعتـز علـى قتـل المستعيـن فكتـب إلـى محمد بن عبد اللَّه بن طاهر أن يسلِّمه إلى سيما الخـادم وكتـب محمـد فـي ذلـك إلـى الموكليـن بـه بواسـط يقـال بـل أرسل بذلك أحمد بن طولون فسار بـه فـي القاطـون وسلّمـه إلـى سعيـد بـن صالـح فضربـه سعيـد حتـى مـات وقيـل ألقـاه في دجلة بحجر فـي رجلـه وكانـت معـه دابّتـه فقتلـت معـه وحمـل رأسـه إلى المعتز فأمر بدفنه وأمر لسعيد بخمسين ألـف درهـم وولّـاه معونـة البصرة. ثم وقعت فتنة بين الأتراك والمغاربة مستهكّ رجب بسبب أن الأتـراك وثبـوا بعيسى بن فرخانشاه فضربوه وأخذوا دابّته لما أمرهم المؤيد فامتعضت المغاربة له ونكروا على الأتراك وغلبوهم على الجوسق وأخذوا دوابّهم وركبوها وملكوا بيت المال. واستجاش الأتراك بمَن كان منهم في الكرخ والدور وانضـمّ الغوغـاء والشاكريـة إلـى المغاربـة فضعفت الأتراك عن لقائهم وسعى بينهم جعفر بن عبد الواحد في الصلح فتوادعوا أياماً. ثم اجتمـع الأتـراك علـى حيـن افتـراق المغاربـة فقصـد محمـد بن راشد ونصر بن سعيد منزل محمد بن عون يختفيان عنده حتى تسكن الهيعة فدسّ للأتراك بخبرهما وجاؤوا فقتلوهما في منزله وبلغ ذلك المعتز فهمّ بقتل ابن عون ثم نفاه. كـان الوالـي علـى الموصـل عُقْبَـةُ بـن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث بن هانئ الخزاعِي وكان صاحبُ الشرطة بالحديثة من أعمالها حسين بن بكير وكان مساور بن عبد اللَّه بن مساور البَجَلِيّ من الخوارج يسكن بالبوازيج. وحبس صاحب الشرطة حسين بن بكير بالحديثة ابناً للمساور هذا يسمى جوثرة وكان جميلاً فكتب إلى أبيه مساور بأنّ حسين بن بكير نال منه الفاحشـة فغضب لذلك وخرج فقصد الحديثة فاختفى حسين وأخرج ابنه من الحبس. ثم كثر جمعه من الأكراد والأعراب وقصد الموصل فقاتلها أيّاماً ثم رجع فكان تحت طريق خراسان وكانـت لنظـر بنـدار ومظفـر بـن مشبـك فسـار إليـه بنـدار فـي ثلثمائـة مقاتـل والخوارج مع مساور في سبعمائة فهزموه وقتلوه ولم يَنْجُ منهم إلا نحوخمسين رجلًا وفرّمظفر إلى بغداد. وجـاء الخـوارج إلى جلولاء وكانت فيهم حرب هلك فيها من الجانبين خلق. ثم سار خطرمش فـي العساكـر فلقيهـم بجلـولاء وهزمـه مسـاور. ثـم استولـى مسـاور على أكثر أعمال الموصل ثم وليَ الموصل أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب التغلبي سنة أربع وخمسين فاستخلف عليها ابنه الحسـن فجمـع عسكـراً كـان فيهـم حمـدون بـن الحـارث بن لقمان جدّ الأمراء من بني حمدان وحمد بن عبد اللَّه بن السيد بن أنس وسار إلى مساور وعبر إليه نهر الزاب فتأخر عن موضعه. وسـار الحسـن فـي طلبـه فالتقـوا واقتتلـوا وانهـزم عسكر الموصل وقتل محمد بن السيد الأزدي ونجا ثـم كانـت الفتنة سنة خمس وخمسين خلع المعتز وبويع للمهتدي ووليَ على الموصل عبد اللَه بن سليمان. فزحف إليه مساور وخام عبد الله عن لقائه فملك مساور البلد وأقام بها جمعة وصلّى وخطب ثم خرج منها إلى الحُدَيْثَةِ وكانت دار هجرته. ثم انتقض عليه سنة ست وخمسيـن رجـل مـن الخـوارج اسمـه عبيـدة بـن زُهَـيْرٍ العُمَـرِيّ بسبـب الخلـاف فـي توبة الخاطئ. وقال عبيـدة لا تقبـل واجتمـع معـه جماعـة وخرج إليهم مساور من الحديثة واقتتلوا قتالاً شديداً ثم قتل عبيدة وانهزم أصحابه. وخـرج إليـه آخـر مـن بنـي زَهْرٍ اسمـه طـوق فجمـع لـه الحسن بن أيوب بن أحمد العَدْوِيّ جمعاً كثيراً وحاربه فقاتله سنة خمس أو سبع واستولى مساور على أكثر العراق ومنع الأموال فسار إليه موسى بن بغا بابكيال في العساكر فانتهوا إلى.وبلغهمِ خبر الأتراك مع المهتدي فأقاموا ثم زحفوا بخلع المهدي فلما وليَ المعتمد سير مفلحاً إلى قتال مساور في عسكر كبير وخرج مساور عن الحديثة إلى جبلين حذاءها وقاتله مفلح في اتباعه ولحق الجبل فاعتصم به وأقام مفلـح فـي حصـاره فكانـت بينهمـا وقعـات وكثرت الجراحة في أصحاب مساور من لدن حربه مع عبيـدة إلـى هـذه الحـروب فسـار عـن الجبـل وتركـه وأصبـح مفلـح وقد فقدهم فسار إلى الموصل ثم إلـى ديـار ربيعـة وسنـب ونصيبيـن والخابـور فأصلـح أمورهـا وخـرج من الموصل إلى الحديثة ففارقها عنه فربر مساور في اتباعهم يتخطّف من أعقابهم ويقاتلهم حتى وصل الحديثة فأقام بها أياماً ثـم سـار إلـى بغـداد فـي رمضان سنة خمسَ وخمسين فرجع مساور إلى الحديثة واستولى على البلاد واشتدّت شوكته ثم أوقع به مسرور البلخي سنة ثمانٍ وخمسين وجهّز العسكر بالحديثة مـع جعلـان مـن قوّاد الترك. ثم قتل سنة إحدى وستين يحيى بن جعفر من وُلا خراسان وسار مسرور في طلبه وتبعه الموفّق فلم يدركاه. |
مقتل وصيف ثم بغا
وفي سنة ثلاث وخمسين أيام المعتزّ اجتمع الجند من الأتراك والفراغنة والأشروسنـة فطلبـوا أرزاقهم منهم لأربعة أشهر وشغبوا فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما الطويل وكلّمهم وصيف واعتذر بعدم المال وقال: خذوا الزاب في أرزاقكم. ونزلوا بدار أشناس يتناظرون في ذلك ومضـى بغـا وسيمـا إلـى المُعْتَـزّ ِيسألانـه في أمرهم وبقي وصيف في أيديهم فوثب عليه بعضهم فقتله وقطعوا رأسه ونصبوه. ثم انقادوا وأهدر لهم ذلك وجعل المعتزّ لبغا الشرابي ما كان لوصيـف وألبسـه التـاج والوضاحين ثم تغيّر له المعتز لما عليه من الاستبداد على الدولة وخشي غائلته ومال باطناً إلى بابكيال وداخله في أمره واعتده لذلك. ثـم زوّج بغـا ابنتـه آمنـة من صالح بن وصيف وشغل بجهازها فركب المعتزّ في تلك الغفلة ومعه حمـدان بـن إسرائيـل إلـى بابكيـال فـي كـرخ سامـرا وكانـت بينـه وبيـن بغـا وحشـة شديـدة وبلـغ ذلـك بغـا فركب في خمسمائة من غلمانه وولده وقوّاده وكان أكثرهم منحرفين عنه ولحق بالسنّ وأقام المعتزّ على وجل لا ينام إلِّا بسلاحه. ثمِ تعلل أصحاب بغا عليه فأعرض عنهم وركب البحر راجعاً إلى بغداد وجاء الجسر ليلاً لئلا يفطن به الموكلون هنالك وبعثوا إلى المعتزّ بخبره فأمر بقتله وحمل إليه رأسه ونصـب بسامـرا وأحرقـت المغاربـة شلـوه وكـان قصـد دار صالـح بـن وصيف ليثبوا على المعتزّ. ابتداء دولة الصفار كان يعقوب بن الليث بن عمرو الصفار بسجستان وكان صالح بن النضر الكناني من أهل البيت قد ظهر بتلك الناحية وقام يقاتل الخوارج وسمّى أصحابه المتطوّعة حتى قيل له صالح المطوّعي وصحبه جماعة منهم درهم بن الحسن ويعقوب بن الليث هذا وغلبوا على سجستـان ثـم أخرجهـم عنهـا طاهـر بـن عبـد الله أمير خراسان. وهلك صالحِ إثْرَ ذلك وقام بأمر المتطوعة درهم بن الحسن فكثر أتباعه. وكان يعقوب بن الليث شهماً وكان درهم مضعفاً واحتال صاحب خراسان حتى ظفر به وحبس ببغداد فاجتمعت المتطوّعة على يعقوب بن الليث وقام بقتال السراة وأتيح له الظفر عليهم وأثخن فيهم وخرّب قراهم وكانت له شرية في أصحابه لم تكن لأحد قبله فحسنت طاعتهم له وعظم أمره وملك سجستان مظهراً طاعة الخليفة وكاتبه وقلّمه حرب السراة فأحسن الغناء فيه وتجاوزه إلى سائر أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم سار من سجستان إلى نواحي خراسان وعليها يومئذ محمد بن عبد الله بن طاهر وعلى هراة من قبله محمد بن أوس الأنباري فجمع لمحاربة يعقوب وسار إليهم في التعبية فاقتتلوا وانهزم ابن أوس وملك يعقوب هراة وبوشنج وعظم أمره وهابه صاحب خراسان وغيرها من الأطـراف. وكـان المعتـز قـد كتـب بولاية سجستان فكتب له الآن بولاية كرمان وكان على فارس عليّ بن الحسين بن شبل وأبطأ عامل الخراج - واعتذر فكتب له المعتزّ بولاية كرمان يريد إعـداء كـل منهمـا بصاحبـه لـأن طاعتهمـا مهوضة فأرسل عليّ بن الحسين بفارس طوق بن الغلس خليفة على كرمان وسار يعقوب الصفار من سجستان فسبقه طوق واستولى عليهـا وأقـام يعقوب بمكانه قريباً منها يترقّب خروج طوق إليه. وبعد شهرين ارتحل إلى سجستان فوضِع طوق أوزار الحرب وأقبل على اللهو واتَصل ذلك بيعقـوب فـي طريقـه فكـرّ راجعـاً وأغـذّ السيـر فصادفـه بعـد يوميـن وركب أصحابه وقد أحيط بهم ففروا ناجين بأنفسهم وملك يعقوب كرمان وحبس طوق. وبلغ الخبر إلى علي ين الحسين وهو على شيراز فجمع جيشه ونزل على مضيـق شيـراز وأقبـل عليـه يعقـوب حتـى نـزل قبالتـه والمضيـق متوعّـر بيـن جبل ونهر ضيق المسلك بينهما فاقتحم يعقوب النهر بينهما وأجاز علي بن الحسين وأصحابه فانهزموا وأخذ علي أسيـراً واستولـى علـى جميـع عسكـره ودخـل شيـراز وملكها وجبى الخراج ورجع إلى سجستان وذلك سنة خمس وخمسين. ويقال بل وقع بينهما بعد عبور النهر حرب شديدة انهزم آخرها علي وكان عسكره نحواً من خمسة عشر ألفاً من الموالي والأكراد ورجعوا منهزمين إلى شيراز آخر يومهم وازدحموا على الأبواب وافترقوا في نواحي فارس وانتهوا إلى الأهواز وبلغ القتلى منهم خمسة آلاف ولما دخل يعقوب وملك فارس امتحن علياً وأخذ منه ألف بردة ومن الفرش والسلاح والآلة ما لا يحد وكتب إلـى الخليفـة بطاعتـه وأهـدى هديـة جليلـة يقـال منهـا عشـر بـازات بيـض وبـاز أبلـق صينـي ومائـة نافجـة مـن المسـك وغيـر ذلـك مـن الطـرف ورجـع إلـى سجستان ثم استعاد الخليفة بعد ذلك فاس وبعث عماله إليها. كان بابكيال من أكابر قوّاد الأتراك مع بغا ووصيف وسيما الطويل ولما حدثت هـذه الفتـن وتغلبوا على الخلفاء أخذوا الأعمال والنواحي في إقطاعهم فأقطع المعتزّ بابكيال هذا أعمال مصـر وبها يومئذ ابن مدبر وكان بابكيال مقيماً بالحفيدة فنظر فيمن يستخلفه عليها وكان أحمد بـن طولـون مـن أبنـاء الأتـراك وأبـوه مـن سُبِـيّ فرغانـة وربّـي فـي دار الخلفـاء ونشـأ ابنه أحمد بها على طريقة مستقيمة لبابكيال خاله وأشير عليه بتوليته فبعثه على مصر فاستولى عليها أوّلاًَ دون أعمالهـا والإسكندريـة. ثـم قتـل المعتـز بابكيـال وصـارت مصـر في إقطاع بارجوع الترك وكان بينه وبين أحمد بن طولون مودة متأكدة فكتب إليه واستخلفه على مصر جميعها ورسخت قدمه فيها وأصارها تراثاً لبنيه فكانت لهم فيها الدولة المعروفة. استقدام سليمان بن طاهر لولاية بغداد قد تقمّ لنا أن محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين كان على العراق والسواد وكانت لهم الشرطة وغيرها وكان مقيماً ببغداد وكان في المدافعة عن المستعين لما لجأ إليه. ثم صلح ما بينه وبين المعتزّ واستقل المعتز بالخلافة والآثار المذكورة. ثم هلك آخر سنة ثلاث وثمانين أيام المعتـزّ وفـوّض مـا كـان بيـده مـن الولايـة إلـى أخيـه عبـد اللِّـه نازعـه ابنـه طاهر في الصلاة عليه ومالت العامـة مـع أصحـاب طاهـر والقـوّاد مـع عبيد اللَّه لوصية أخيه. ثم أمضى المعتز عهد أخيه وخلع عليه وبذل لصاحب الخلع خمسين ألف درهم. ثم بعث المعتز عن سليمان بن عبد الله بن طاهر من خراسان وولّاه على العراق والشرطة وغيرهـا مكـان أخيـه محمـد وعـزل أخاهما عبيد اللَّه. فلما علم عبيد اللِّه تقدّم سليمان أخذ ما في بيت المال وانتقل إلى غربيّ دجلة وجاء سليمان وقائده محمد بن أوس ومعه جند من خراسـان فأسـاؤوا السيـرة فـي أهـل بغـداد فحنق الناس عليهم وأعطى أرزاقهم مما بقي في بيت المال وقدمهم على جند بغداد وشاكريّها فاتفق الجند على الثورة وفتقوا السجون وعبر ابن أوس إلى الجزيرة واتبعه الجند والعامّة فحاربهم وانهزم وأخرجوه من باب الشماسية ونهب من منزله قيمة ألفي ألف درهم ومن الأمتعة ما لا يحصر ونهب منازل جنده. ورأى سليمـان أن يسكـن الثائـرة فأمـره بالخروج إلى خراسان ثم كانت الفتنة في خلع المعتزّ وولاية المهـدي كمـا يذكـر وبعـث المهتـدي سلـخ رجـب من سنة خمس وخمسين إلى سليمان ليأخذ البيعة لـه ببغداد وكان أبو أحمد بن المتوكل ببغداد قد بعثه إليها المعتز فنقله سليمان إلى داره ووثب الجند والعامّة لذلك واجتمعوا بباب سليمان وقاتلهم أصحابه مليّاً ثم انصرفوا وخطـب مـن الغـد للمعتـز فسكنـوا ثـم سـاروا ودعـوا إلـى بيعـة أبـي أحمـد وطلبـوا رؤيتـه فأظهره لهم ووعدهم بما خبر كرخ أصبهان وأبي دلف قد تقدّم لنا شأن أبي دُلَفٍ أيام المأمون وأنه كان مقيماً بكرخه وأن المأمون عفا له عمـا وقـع منه في القعود عن نصره وأقام بتلك الناحية وهلك فقام ابنه عبد العزيز مكانه. ولما كانت أيام الفتنة تمسك بطاعة المستعين وولّي وصيف على الجبل وأصبهان فكتب إلى عبد العزيـز باستخلافـه عليهـا وبعـث عليـه بالخلـع وعقـد المعتـز لموسـى بـن بغـا الكبيـر فـي شهـر رجب من سنة ثلاث وخمسين على الجبل وأصبهان فسار لذلك وقي مقدمته مفلح فلقيه عبد العزيز بن أبـي دلـف فـي عشريـن ألفـا خـارج همـذان فتحاربـا وانهـزم عبـد العزيز وقتل أصحابه. وسار مفلح إلى الكرخ فخرج إليه عبد العزيز وقاتله ثانية فانهزم واستولى مفلح على الكرخ. ومضى عبد العزيز إلى قلعة نهاوند فتحصّن بها وأخذ مفلح أهله وأمّه. ثـم عقـد لـه وصيـف سنة اثنين وخمسين على أعمال الجبل ثم عقد لموسى بن بغا فسار وفي مقدّمته مفلح فقاتله عبد العزيز فانهزم وملك مفلح الكرخ وأخذ ماله وعياله. ثم ملك عبد العزيز وقام مكانه ابنه دلف وقاتله القاسم بن صبهاه من أهالي أصبهـان. ثـم قتـل القاسـم أصحـاب أبـي دلـف وولّـوا أخـاه أحمـد بن عبد العزيز سنة خمس وستين. وولّاه عمر الصفار من قبلـه علـى أصبهـان عندمـا ولّـاه عليها المعتمد سنة ست وستين وحاربه كغليغ التركي سنة تسع وستّيـن فغلبـه أحمـد وأخرجـه إلـى الصميـرة وبعـث إليـه عمـر سنـة ثمـانٍ وستيـن فـي المـال فبعـث إليه. ثم سار الموفّق سنة ست وسبعين يريد أحمد بأصبهان فشاغله أحمد عن البلد وترك داره بفرشهـا لنـزول الموفـق. ثـم مـات أحمـد سنـة ثمانيـن وولّـى أخوه عمر وأخوه بكير يرادفه وقاتلا رافع بـن الليث بأمر المعتضد فهزمهما كما يأتي ذكره. ثم قلّد المعتضد أصْبَهَانَ ونَهَاوَنْدَ والكرخ عمر بن عبد العزيز سنة إحدى وثمانين ثم راجعا الطاعة. خلع المعتز وموته وبيعة المهتدي كان صالح بن وصيف بن بغا متغلباً على المعتز وكان كاتبه أحمد بن إسرائيل وكانت أمه قبيحة ووزيرها الحسن بن مخلد. وكان أبو نوح عيسى بن إبراهيم من كبار الكتاب وجُباة الأمـوال. وطلـب الأتـراك أرزاقهـم وشغبوا فقال صالح للمعتز: هذه الأموال قد ذهب بها الكتّاب والـوزراء وليـس فـي بيـت المـال شـيء فـردّ عليه أحمد بن إسرائيل وأفحش في رده وتفاوضا في الكلام فسقط صالح مغشيّاً عليه وتبادر أصحابه بالباب فدخلوا منتضين سيوفهم فدخل إلى قصره فأمـر صالـح بالـوزراء الثلاثـة فقيّمـوا وشفـع المعتـز فـي أمـر وزيـره فلـم تقبـل شفاعتـه وصادرهـم علـى مـال جليـل حملـوه فلم يسدّ شيئاً فلما فعلوا بالكتاب ما فعلوا من المصادرة اتّهم الجنـد أنهـم حملـوا علـى مـال ولـم يكـن ذلـك فشفعـوا فـي طلـب أرزاقهـم وضمنـوا للمعتـز قتـل صالـح بن وصيف على خمسين ألفاً يبذلها لهم. وسألها عن أمّه فاعتذرت فاتفقت كلمتهم على خلعه. ودخل إليه صالح بن وصيف ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر وبابكيال وطلبوه في الخروج إليهم فاعتذر لهم وأذِنَ لبعضهم في الدخول فدخلوا وجرّوه إلى الباب وضربوه وأقامـوه فـي الشمـس فـي صحـن الـدار وكلمـا مـرِّ بـه أحـد منهـم لطمـه. ثـم أحضـروا القاضـي ابن أبي الشوارب في جماعة فأشهدهم على خلعه وعلى صالح بن وصيف بأمانه وأمان أمه وأخته وولـده. وفَـرّت أمه قبيحة من سَرَب كانت اتخذته بالدار ثم عذّبوا المُعْتَزّ ثم جعلوه في سَرَبٍ وطمُّوا عليه وأشهـدوا علـى موتـه بنـي هاشـم والقـوّاد وذلـك آخـر رجـب مـن سنـة خمـس وخمسين وبايعوا لمحمد ابن عمّه الواثق ولقبوه المهتدي باللّه عندما خلع المعتز نفسه وأقرّ بالعجز والرغبـة فـي تسليمهـا إلـى المهتدي بايعه الخاصّة والعامّة. وكانت قبيحة أم المعتز ّلما فعل صالح بالكتاب ما فعل قد. نفراً منهم على الفتك بصالح ونمي ذلك إليه فجمع الأتراك على الثوران وأيقنت قبيحة بالهلاك فأودعت ما في الخزائن من الأموال والجواهر وحمْرت سَرَباً في حجرتها هربت منه لما أحيطَ بالمعتَزَ ولما قتل خشيت على نفسها فبعثت إلى صالح تستأمنه فأحضرها في رمضان وظفر منها بخمسمائة ألف دينار وعذّبها على خزائن تحت الأرض فيها ألف ألف دينار وثلثمائة ألف دينار ومقدار مكوك من الزبرجد لم يُرَ مثله ومقدار مكوك آخر من اللؤلؤ العظيم وجراب من الياقوت الأحمر القليل النظير وذمّها الناس بأنها عرضت ابنها للقتل فـي خمسيـن ألـف دينـار ومعهـا هـذا المال ثم سارت إلى مكة فأقامت هنالك وقبض صالح على أحمـد بـن إسرائيـل وزيـد بـن المعتـزِّ وعذّبـه وصـادره. ثـم قبـض على أبي نوح وفعل به مثله وقبض علىِ الحسن بن مخلد كذلك ولم يمت. وبلغ المهتدي ذلك فنكره وقال: كان الحبس كافياً في العقوبـة. ولـأوّل ولايـة المهتـدي أخـرج القِيَـانَ والمغنِّيـن من سامرا ونفاهم عنها وأمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان وطرد الكلاب ورد المظالم وجلس للعامّة وكانت الفِتَنُ قائمـة والدولـة مضطربة فشمَّر لإصلاحها لو أمهِل واستوزر سليمان بن وَهْبِ وغلب على أمره صالح بـن وصيف وقام بالدولة. مسير موسى بن بغا إلى سامرّا ومقتل صالح بن وصيف كان موسى بن بغا غائباً بنواحي الريّ وأصبهان منذ ولاية المعتزّ عليها سنة ثلاث وخمسين ومعه مفلح غلام أبي الساج وكانت قبيحة أم المعتز لمّا رأت اضطراب أموره كتبت إلى موسى قبل أن يفوت في المعتز أمره فجاءه كتابها وقد بعث مفلحاً لحرب الحسن بن زيد العلوي فحربه بطبرستان فغلبه وأحرق قصوره بآمد وخرج في اتّباعه إلى الديلم فكتب إلى موسى بالرجوع لمداهمة مَن شاء وبينما هو في استقدامه وانتظاره قتل المعتزّ وبويع المهتدي وبلـغ أصحابـه ما حواه صالح من أموال المعتزّ وكتابه وأمه فشرهوا إلى مثل ذلك وأغروا موسى بالمَسير إلى سامرّا. ورجع مفلح من بلاد الديلم إليه وهو بالريّ فسار نحو سامرّا وسمع المهتدي بذلك فكتب إليه بالمقام يحذّره على ما وراءه من العلويين فلم يُصْغ لذلك وأفحش أصحابه في إساءة الرّسل الواصلين بالكتب. فكتب بالاعتذار واحتجّ بما عاينه الرّسل وأنه يخشى أن يقتله أصحابه إن عـادوا إلـى الـريّ وصالـح بـن وصيـف فـي خلـال ذلـك يغـري بـه المهتـدي وينسبـه إلى المعصية والخلاف إلـى أن قَـدِمَ فـي المحـرّم سنـة سـت وخمسيـن ودخـل فـي التبعية فاختفى صالح بن وصيف ومضى موسى إلى الجَوْسَقِ والمهتدي جالس للمظالم. فأعرض له عن الإذن ساعة ارتاب فيها هو وأصحابه وظنوا أنه ينتظر قدوم صالح بالعساكر. ثم أذِنَ لهم فدخلوا وقبضوا على المهتدي وأودعوه دار باجورة وانتهبوا ما كان في الجوسق. واستغاث المهتدي بموسى فعطف عليه ثم أخذ عليه العهود والأيْمَان أن لا يوالي صالحاً وأنّ باطنه وظاهره في موالاتهم سواء فجددوا له البيعة واستبدّ موسى بالأمر وبعث إلى صالح للمطالبـة بمـا احتجبـه مـن الأمـوال فلـم يوقـف لـه علـى أثـر وأخـذوا فـي البحـث عنه. وفي آخر المحرّم أحضـر المهتـدي كتابـاً رفعـه إليـه سيمـا الشرابـي زعـم أنّ امرأة دفعته إليه وغابت فلم يرها وحضر القوّاد وقرأه سليمان بن وهب عليهم وهو بخط صالح يذكر ما صار إليه من الأموال وأنه إنما استتـر خشيـة علـى نفسـه وحسمـاً للفتنـة وإبقاء عل الموالي. ولما قرأ الكتاب حثّهم المهتدي على الصلح والاتفاق فاتّهمه الأتراك بالميل إلى صالـح وأنـه مطّلـع علـى مكانـه وطـال الكلـام بينهـم بذلك. ثم اجتمعوا من الغد بدار موسى بن بغا داخل الجوسق واتفقوا على خلع المهتدي إلا أخا بابكيـال فإنـه أبـى مـن ذلـك وتهددهم بأنه مفارقهم إلى خراسان واتصل الخبر بالمهتدي فاستدعاه إليـه وقـد نظَّـفَ ثيابه وتطيَّب وتقلّد سيفه فأرعد وأبرق وتهدّدهم بالاستماتة ثم حلف لا يعلم مكان صالح وقال لمحمد بن بغا وبابكيال قد حضرتما مع صالح في أمر المعتز وأموال الكتاب وأنتـم شركـاؤه فـي ذلـك كلـه. وانتشـر الخبـر فـي العامّة بأنهم أرهقوه وأرادوا خلعه فطفقوا يحاذرون علـى الدعـاء فـي المساجد والطرقات ويبغون على القوّاد بغيهم على الخليفة ويرمون الرقاع بذلك فـي الطرقـات. ثـم إن الموالـي بالكـرخ والـدور دسّـوا إلـى المهتـدي أن يبعثـوا إليـه أخـاه أبا القاسم عبد اللَّـه بعـد أن ركبـوا وتحركوا فقالوا لأبي القاسم: بلغنا ما عليه موسى وبابكيال وأصحابهما ونحن شيعة للخليفة فيما يريده وشكوا مع ذلك تأخّر أرزاقهم وما صاروا من الإقطاع والزيادات إلى قوّادهم وما أخذه النساء والدخلاء حتى أصحب ذلك كله بالخراج والضياع وكتبوا بذلك إلى المهتدي. فأجابهم بالثناء على التشيع له والطاعة والوعد الجميل في الرزق والنظر الجميل في شأن الإقطاعـات للقوّاد والنساء فأفاضوا في الدعاء وأجمعوا على منع الخليفة من الحجر والاستبداد عليه وأن ترجع الرسوم على عادتها أيام المستعين على كل عشرة عريف وعلى كل خمسين خليفة وعلى كل مائة قائد وأن تسقط النساء والزيـادة فـي الإقطـاع ويوضـع العطـاء فـي كـل شهرين وكتبوا بذلك إلى المهتدي وأنهم صائرون إلى بابه ليقضي حوائجهم وإن أحد اعترض عليـه أخـذوا رأسـه وإن تعـرّض لـه أحـد قتلـوا موسـى بـن بغا وبابكيال وماجور. فجاء أبو القاسم بالكتاب وقد قعد المهتدي للمظالم وعنده الفقهاء. والقضاة والقوّاد قائمون في مراتبهم فقرأ كتابهم على القوّاد فاضطربوا وكتب جوابهم بما سألوا وطلب أبو القاسم من القوّاد أن يبعثوا معـه رسـولاً بالعـذر عنهـم ففعلـوا ومضـى أبـو القاسـم إليهـم بكتـاب الكتـاب وبرسـل القـوّاد وأعذارهم. فكتبوا إلى المهتدي يطلبون التوقيعات بحطّ الزيادات وردّ الإقطاعات وإخراج الموالي البرّانيين من الخاصـة وردّ الرسـوم إلـى عاداتهـا أيام المستعين ومحاسبة موسى بن بغا وصالح بن وصيف على مـا عندهـم مـن الأمـوال ووضـع العطـاء علـى كـل شهريـن وصـرف النظر في الجيش إلى بعض أخوته أو قرابته وإخراجه من الموالي وكتبوا بذلك إلى المهتدي والقوّاد فأجابهم إلى جميع ما سألوه. ووعـدوا بالجـواب فركب إليهم أبو القاسم واتّبعه موسى في ألف وخمسمائة فوقف في طريقهم وجاءهـم أبـو القاسـم فاضطربـوا فـي الجـواب ولـم يتّفقـوا فرجح وردّ موسى بن بغا فأمرهم المهتدي بالرجوع وأن يتقدّم إليهم محمد بن بغا مع أبي القاسم ويدفعوا إليهم كتاب الأمان لصالح بن وصيـف وقـد كـان مـن طلبتهـم أن يكـون موسـى فـي مرتبـة أبـي وصالح كذلك والجيش في يده وأن يظهر على الأمان فأجيبوا إلى ذلك. وافترق الناس إلى الكرخ والدور وسامرّا فلما كان من الغد ركب بنو وصيف في جماعة ولبسوا السلاح فنهبوا دوابّ العامّة وعسكروا بسامرّا وتعلقوا بأبي القاسم يطلبوا صالحاً فأنكر المهتـدي أن يكـون علـم بمكانه وقال إن كان عندهم فليُظهِروه. ثم ركب ابن بغا في القوٌاد ومعه أربعـة آلـاف فـارس وعسكـر وافتـرق الأتـراك ولـم يظهـر للكرخيين ولا لأهل الدور وسامرّا في هذا اليـوم حركـة. وجـدّ موسـى فـي طلـب صالح ونادى عليه وعثر عليه بعض الغوغاء فجاء به إلى الجوسق والعامة في أتباعه فضربه بعض أصحاب مفلح فقتله وطيف برأسه على قناة وخرج موسى بن بغا لقتال السراة بناحية السن. |
الصّوائِف منذ ولاية المنتصر إلي آخر أيام المهتدي
فـي سنـة ثمـانٍ وأربعيـن أيـام المستعين خرج بناحية الموصل محمد بن عمر الشرابي وحكم فسرّح المنتصـر إسحـاق بـن ثابـت الفرغانـي فأسـره فـي عـدَّةٍ مـن أصحابـه وقتل وصلبوا. وفي هذه السنة غـزا بالصائفـة وصيـف وأمـره المُنتصـر بالمقـام بمنَطْيَة أربع سنين يغزو في أوقات الغزو إلى أن يأتيه رأيه وكان مقيماً بالثغر الشامي فدخل بلاد الروم وافتتح حصن قدوريـة. وفي سنة تسـع وأربعين غزا بالصائفة جعفر بن دينار فافتتح مطامير واستأذنه عمر بن عبد اللَّه الأقطع في الدخـول إلـى بلـاد الـروم فـأذن لـه فدخـل فـي جمـوع مـن أهـل ملطيـة ولقـي ملـك الـروم بمـرج الأسقـف فـي خمسيـن ألفـاً فأحاطـوا بـه وقيـل فـي ألفيـن مـن المسلمين وخرج الروم إلى الثغور الخزرية فاستباحوها وبلغ ذلك عليّ بن يحيى الأرمني وقد كان صرف عن الثغور الشامية وعقد له على أرمينية وأذربيجان. فله سمع بخبرهم نفر إليهم وقاتلهم فانهزم وقتل في أربعمائة مـن الولاة لمـا وَلـيَ المنتصـرُ استـوزر أحمـد بـن الخصيـب وولّـى علـى المظالـم أبـا عمـر أحمـد بـن سعيـد مولـى بنـي هاشـم. ثمِ وَليَ المستعين ومات طاهر بن عبد اللَّه بخراسان فولّى المستعين مكانه ابنه محمداً وولِّى محمد بن عبد اللَّه على العراق وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعادن السواد واستخلف أخاه سليمان بن عبد الله على طبرستان. وتوفي بغا الكبير فولى ابنه موسى على أعماله وضاف إليه ديوان البريد وشغب أهل حمص على عاملهم وأخرجوه فبعث عليهم المستعيـن الفضل بن قارن أخا مازيار فقتل منهم خلقاً وحمل مائة من أعيانهم إلى سامرّا. واستـوزر المستعيـن أتامش بعد أن عزل أحمد بن الخصيب واستصفي بقى إلى أقريطش وعقد لأتامش على مصر والمغرب ولبغا الشرابي على حلوان وماسبدان ومهرجـا بعـده. ثـم قتـل أتامش فاستوزر المستعين مكانه أبا صالح عبد الله بن محمد بن داود وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج وولّاه عيسى بن فرخانشاه وولّى وصيفاً على الأهواز وبغا الصغيـر علـى فلسطين ثم غضب بغا على أبي صالح ففرّ إلى بغداد واستوزر المستعين مكانه محمد بن الفضـل الجرجانـي وولّـي ديوان الرسائل سعيد بن حميد وعزل جعفر بن عبد الواحد عن القضاء وفي خمسين عقد لجعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى المعروف يساسان على مكة ووثب أهل حمص على عاملهم الفضل بن قارن فقتلوه فسرّح إليهم المستعين موسى بن بغا وحاربوه فهزمهم وافتتحت حمص وأثخن فيهم وأحرقها. وفيها وثب الشاكِرِيَّةُ والجند بفارس بعبد اللَّه بن إسحاق فانتهبوا منزله وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن وهرب عبد اللَّه بن إسحاق وفيها كـان ظهـور العَلَوِيـةِ بنواحـي طبرستـان. وفي سنة إحـدى وخمسيـن عقـد المعتز لبغا ووصيف على أعمالهـا وردّ البريـد إلـى موسى بن بغا الكبير وعقد محمد بن طاهر لأبي الساج وقدَّم بين يديه عبـد الرحمـن كمـا قلنـا وأظهـر أنـه إنمـا جـاء لحـرب الأعراب وتلطَّف لأبي أحمد حتى خالطه وقيَّده وبعـث إلـى بغـداد فـي سنـة اثنتيـن وخمسيـن. وولّـى المعتز الحُسَين بن أبي الشوارب على القضاء وبعث محمد بن عبد الله بن طاهر أبا الساج عن طريق مكة وعقد المعتز لعيسى الشيخ بن السليل الشيباني من ولد جسَّاس بن مرّة على الرملة فاستولى على فِلَسْطين وعلى دمشق وأعمالهـا وقطـع مـا كـان يحمـل مـن الشـام. وكـان إبراهيـم بـن المدبر على مصر فبعث إلى بغداد من المال بسبعمائة ألف دينار فاعترضها عيسى وأخذها وطولب بالمال فقال: الفتنة على الجند! فولاه المعتمد على أرمينية يقيم بها دعواه. وبعث المعتمد إلى الشام ماجور على دمشق وأعمالها وبلغ الخبـر إلـى عيسـى فبعـث ابنـه منصوراً في عشرين ألف مقاتل فانهزم وقتل وسار عيسى إلى أرمينية على طريق الساحل. وفيها عقد وصيـف لعبـد العزيـز بـن أبـي دُلَـف العِجْلِـيّ علـى أعمـال الجبـل. وفي سنة ثلـاث وخمسيـن عقـد لموسـى بـن بغـا علـى الجبـل فسـار وفـي مقدّمته مُفْلِح مولى بني الساج وقاتله عبد العزيز بن أبي دلف فانهزم ولجأ إلى قلعة لهادر وملك مفلح الكرخ وأخذ أهله وعياله وفيها مات ابن عبد الله بن طاهر ببغداد وولّى أخوه عبيد الله بعهده. ثم بعث المعتز عن أخيه سليمان بطبرستان فولاّه مكانه وكان على الموصل سليمان بن عِمْران الأزدِي وكانت بينه وبين الأزْدِ حـروب بنواحي الموصل. وفيها مات مُزاحم بن خاقان بمصر. وفيها يعقوب الصفار سجستان وفارس وهراة وكان ابتداء دولته وولى بابكيال أحمد بن طولون على برّ مصر من قبله فكان إبتـداء لدولتـه. ثـم أقطعهـا بعـد سنـة سبـع وخمسيـن ليارجـوج فولّـى عليهـا أحمـد بـن طولـون من قبله وفي سنة خمـس وخمسيـن أيـام المهتـدي استولـى مُسـاوِرُ الخارجـي علـى الموصـل وفيهـا ظهـر صاحـب الزنْج وكان ابتداء فتنته. أخبار صاحب الزنج وابتداء فتنته كان أكثر دعاة العَلًوّية الخارجين بالعراق أيام المُعْتَصِم وما بعده أكثرهمِ من الزيْدِيَّةِ وكان من أئمتهم علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الشهير وكان نازلاً بالبصرة لما وقع البحث عليه من الخلفاء ظفروا بابن عمّه عليّ بن محمد بن الحسين فقتل بفدك ولأيام من قتله خرج رجـل بالـريّ يدّعي أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى المطلوب وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهتدي. ولما ملك البصرة لقي عليّاً هذا حياً معروف النسب فرجع عن ذلك وانتسب إلى يحيى قتيل الجوزجان أخي عيسى المذكور. ونسبـه المسعـوديُّ إلـى طاهـر بـن الحسيـن وأظنـه الحسيـن بـن طاهر بن يحيى المحدِّث بن الحسين بن جعفـر بـن عبـد اللـه بـن الحسيـن بـن علـيّ لـأن ابـن حـزم قـال فـي الحسيـن السبـط إنـه لا عقـب لـه إلّا من علـيّ بـن الحسيـن وقـال فيـه علـيّ بـن محمـد بـن جعفـر بـن الحسيـن بـن طاهـر. وقـال الطبـري وابن حزم وغيرهم من المحقّقين إنه من عبد القيس واسمه عليّ بن عبد الرحيم من قرية من قرى الريّ ورأى كثـرة خـروج الزيديّـةِ فحدّثتـه نفسه بالتوثّب فانتحل هذا النسب ويشهد لذلك أنه كان على رأي الأزارقة من الخوارج ولا يكون ذلك من أهل البيت. وسياقة خبره أنه كان اتصل بجماعة من حاشية المنتصر ومدحهم. ثم شخص من سامرّا إلى البحرين سنة تسع وأربعين ادّعى أنه من ولد العباس بن أبـي طالـب ثـم مـن ولـد الحسين بن عبد اللَّه بن العباس ودعا الناس إلى طاعته فاتبعه كثير من أهـل حجـر وغيرها وقاتلوا أصحاب السلطان بسببه وعظمت فتنته فتحوّل عنهم إلى الإحساء ونزل على بني الشَمّاس من سعد بن تميم وصحبه جماعة من البحرين منهم يحيى بن محمد الأزرق وسليمان بن جامع فكانا قائدين له وقاتل أهل البحرين فانهزم وافترقت العـرب عنـه واتبعه علـيُ بـن أبـان وسـار إلـى البصـرة ونـزل فـي بنـي ضُبَيْعـةَ وعاملهـا يومئـذ محمـد بـن رجـاء والفتنـة فيها بين البلالِيَّةِ والسعدِيةِ وطلبه ابن رجاء فهرب وحبس ابنه وزوجته وجماعة من أصحابه فسـار إلـى بغـداد وأقـام بهـا حـولاً وانتسـب إلـى محمد بن أبي أحمد بن عيسى كما قلناه واستمال بها جماعة منهم جعفر بن محمد الصوحانيّ من ولد زبد بن صوحان ومسروق ورفيق غلامان ليحيى بن عبد الرحمن وسمّي مسروقاً حمزة وكناه أبا أحمد وسمّي رفيقاً جعفراً وكنّاه أبا الفضل. ثم وثب رؤساء البِلالِيَّةِ والسعدِيّةِ بالبصرة وأخرجوا العامل محمد بن رجاء فبلغه ذلـك وهـو ببغـداد وأن أهلـه خلعـوه فرجـع إلـى البصـرة في رمضان سنة خمس وخمسين ويحيى بن محمد وسليمان بن جامع ومسروق ورفيق فنزل بقصر القَرْش ودعا الغلمان من الزنوج ووعدهم بالعتـق فاجتمـع لـه منهـم خلـق وخطبهـم ووعدهـم بالملك ورغَبَهُم في الإحسان وحلف لهم وكتب لهـم فـي خِرْقَـةٍ: " إنّ اللّـه اشْتَـرَى مِـنَ المُؤمِنيـنَ أنفسهـم وأمْوَالَهُم " الآية. واتخذها راية وجاءه موالي الزنـوج فـي عبيدهـم فأمـر كـل عبـد أن يضـرب مولـاه وحبسهم ثم أطلقهم ولم يزل هذا رأيه والزنوج فـي متابعتـه والدخـول فـي أمـره وهـو يخطبهـم فـي كـل وقـت ويرغِّبًهُـم. ثـم عبـر دُجَيـلاً إلـى نهـر ميمون فأخرج عند الحميري وملكـه وسـار إلـى الأبلَّـةِ وبهـا ابـن أبـي عـون فخـرج إليـه فـي أربعـة آلـاف فهزمهـم ونال منهم. ثم سار إلى القادِسِيَّةِ فنهبها وكثر سلاحهم وخرج جماعة من أهل البصرة لقتاله فبعث إليهم يحيى بن محمد في خمسمائة رجل فهزمهم وأخذ سلاحهم. ثم طائفة أخرى كذلك وأخرى وخرج قائدان من البصرة فهزمهما وقتل منهما وكانت معهما سفن ألقتها الريح إلى الشطِّ فغنموا مـا فيهـا وقتلـوا وكثـر عيثـه وفسـاده. وجاء أبو هلال مع الأتراك في أربعة آلاف مقاتل فلقيه على نهـر الريّـان فهزمـه الزنـج واستلحمـوا أكثـر أصحابـه. ثم خرج أبو منصور أحد موالي الهاشميين في عسكـر عظيـم مـن اللـه والبلاليَّةِ والسعديَّةِ فسرح للقائهم علي بن أبان فلقي طائفة منهم فهزمهم. ثم طائفة أخرى إلى مرفأ السفن وفيه نحو من ألفي سفينة فهرب عنها أهلها ونهبوها ثم جاءه عساكر أبي منصور وقعد الزنوج لهم بين النخل وعليهم علي بن أبي أبان ومحمد بن مسلم فهزموا العسكر وقتلوا منهم وأخذوا سلاحهم. ثم سار فنهـب القـرى حتـى امتلـأت أيديهـم بالنهب. ثم سار يريد البصرة ولقيته عساكرها فهزمهم الزنج وأثخنوا فيهم. فلقيهـم بالسُـد وانهزمـوا هزيمـة شنعـاء كثـر فيهـا القتـل. ووهن أهل البصرة وكتبوا إلى الخليفة فبعث إليهم جعلان التركي مدداً وولّى على الأبلّةِ أبا الأحْوص الباهلي وأمّه بجند الأتراك. وقد بثّ صاحب الزنج أصحابه يميناً وشمالاً للغارة والنهب. ولما وصل - إلى البصرة نزل على فرسخ منهـم وخنـدق عليـه وأقـام ستـة أشهـر يسرّح لحربهم الزيني مع بني هاشم ومرجف ثم بيّته الزنج فقتلوا جماعة من أصحابه وتحوّل عن مكانه ثم انصرف عن حربهم وظفر صاحب الزنج بعدد مـن المراكـب غنـم فيهـا أمـوالاً عظيمـة وقتـل أهلهـا وألـحّ بالغـارات علـى الأبلة إلى أن دخلها عَنْوَةً آخر رجب سنة ست وخمسين عاملها أبا الأحْوص عبيد اللَّه بن حميد الطوسي وخلقاً من أهلها واستباحها وأحرقها وبلغ ذلك أهل عبادان فاستأمنوا له وملكها واستولى على ما فيها من الأمـوال والسلـاح إلـى الأهـواز وبها إبراهيم بن المدبر على الخراج فهرب أهلها ودخلها الزنج ونهبوا وأسـروا ابـن المدبـر فخـاف أهـل البصـرة وافترق كثير منهم إلى البلدان. وبعث المعتمد سعيد بن صالـح الحاجـب لحربهـم سنة سبع وخمسين فهزمهم وأخذ ما معهم وأثخن فيهم وكان ابن المدبر أسيـراً عندهـم فـي بيـت يحيـى بـن محمـد البَحْرَانِـيّ وقـد ضمن لهم مالاً كثيراً ووكّل به رجلين قد أخلفهم حتى حفر سَرَباً من البيت وخرج منه ولحق بأهله. وفـي أوّل رجـب مـن سنـة ست وخمسين شغب الأتراك من الترك والدور بطلب أرزاقهم وبعث المهتدي أخاه أبا القاسم ومعه كفقا وغيره فشكوهم وعادوا وبلغ محمد بن بغا أنّ المهتدي قال للأتـراك إن الأمـوال عنـد محمـد وموسى ابني بغا فهرب إلى أخيه بالسِنْدِ وهو في مقاتلة موسى الشرابي فأمنه المهتدي ورجع ومعه أخوه حنون وكيغلغ فكتب له المهتدي بالأمان ورجع إلى أصحابه وحبسه وصادره على خمسة عشر ألف دينار ثم قتله وبعث بابكيال بكتابه إلى موسى بن بغا بأن يتسلم العسكر وأوصاه بمحاربة الشرابي وقتل موسى بن بغا ومفلح فقرأ الكتاب على موسى وتواطؤوا على أن يرجع بابكيال فيتدبر على قتل المهتدي فرجع ومعه يارجوج وأساتكين وسيما الطويل ودخلوا دار الخلافة منتصـف رجـب فحبـس بابكيـال مـن بينهم واجتمع أصحابه ومعه الأتراك وشغبوا. وكان عند المهتدي صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور فأشار بقتله ومناجزتهم فركب في المغاربـة والأتـراك والفراغِنَـةِ علـى التعبيـة. ومشـى والبلخـي فـي الميمنـة ويارجـوج في الميسرة ووقف هو في القلب ومعه أساتكين وغيره من القوّاد وبعث برأس بابكيال إليهم مع عتاب بن عتاب ولحق الأتراك من ميمنة المهتدي وميسرته بإخوانهم الأتراك فانهزم الباقـون عـن المهتـدي وولّـى منهزماً ينادي بالناس ولا يجيبه أحد وسار إلى السجن فأطلق المحبوسين ودخل دار أحمد بن جميل صاحب الشرطة وافتتحوا عليه وحملوه على بغل إلى الجوسق وحبس عند أحمد بن خاقان وأرادوه علـى الخلـع فأبـى واستمـات فأخرجـوا رقعـة بخطـه لموسـى بـن بغـا وبابكيـال وجماعة القوّاد أنه لا يغدر بهم ولا يقاتلهم ولا يهمّ بذلك ومتى فعل شيئاً من ذلك فقد جعل أمر الخلافة بأيديهم يولّون مَن شاؤوا فاستحلّوا بذلك أمره وقتلوه. وقيل في سبب خلعه غير هذا وهو إن أهل الكرخ والدور من الأتراك طلبوا الدخول على المهتدي ليكلّموه فأذِنَ لهم وخرج محمد بن بغا إلى المحمدية ودخلوا في أربعة آلاف فطلبوا أن يعزل عنهم قوّاده ويصادرهم وكتابهم على الأهواز ويصير الأمر إلى أخوته فوعدهم بالإجابة وأصبحـوا مـن الغـد يطلبـون الوفـاء بمـا وعدهـم بـه فاعتـذر لهم بالعجز عن ذلك إلاّ بسياسة ورفق فأبـوا إلا المعاجلـة فاستخلفهـم علـى القيـام معـه فـي ذلـك بإيمـان البيعـة فحلفـوا ثم كتبوا إلى محمد بن بغا عن المهتدي وعنهم يعذلونه في غيبته عن مجلسهم مع المهتدي وأنهم إنما جاؤوا بشكوى حالهـم ووجـدوا الـدار خاليـة فأقامـوا ورجع محمد بن بغا فحبسوه في الأموال وكتبوا إلى موسى بن بغا ومفلح بالقدوم وتسليم العسكر إلى مَن ذكروه لهم وبعثوا مَن يقيّدهما إن لم يأتمرا ذلك. ولما قرئت الكتب على موسى وأصحابه امتنعوا لذلك وساروا نحو سامرّا وخـرج المهتـدي لقتالهم على التعبية وترددت الرُّسل بينهم بطلب موسى أن يولّي على ناحيـة ينصـرف إليهـا ويطلـب أصحـاب المهتـدي أن يحضر عندهم فيناظرهم على الأموال إلى أن انفض عنهم أصحابه وسار هو ومفلح على طريق خراسان ورجع بابكيال وجماعة من القواد إلى المهتدي فقتـل بابكيال ثم أنِفَ الأتراك من مساواة الفراغنة والمغاربة لهم وأرادوا طردهم فأبى المهتدي ذلك فخـرج الأتـراك عـن الـدار بأجمعهـم طالبيـن ثـأر بابكيـال فركب المهتدي على التعبية في ستة آلاف مـن الفراغنة والمغَاربة ونحو ألف من الأتراك أصحاب صالح بن وصيف واجتمع الأتراك للحرب فـي عشـرة آلـاف فانهـزمٍ المهتمـي وكـان مـا ذكرناه من شأنه. ثم أحضر أبو العبّاس أحمد بن المتوكل وكان محبوساً بالجوسق فبايعه الناس وكتب الأتراك إلى موسى بن بغا وهو غائـب فحضـر وكملت البيعة لأحمد بن المتوكل ولقّب المعتمد على اللّه واستوزر عبيد الله بـن يحيـى بـن خاقـان فأصبـح المهتـدي ثانـي يوم البيعة ميتاً منتصف رجب من سنة ست وخمسين على رأس سنة من ولايته. ولم يـزل ابـن خاقـان فـي وزارتـه إلـى أن هلـك سنـة ثلـاث وستيـن مـن سقطـة بالميـدان سـالَ فيهـا دماغـه من مِنخَريه فاستوزر محمد بن مخلد. ثم سخط كليه موسى بن بغا واختلفا فاستوزر مكانه سليمان بن وَهْب ثم عزله وحبسه وولّى الحسن بن مخلـد وغضـب الموفَّـق لحبسـه ابـن وهـب وعسكـر بالجانـب الغربِيّ وترددت الرًّسل بينهما فاتفقا وأطلقه وذلك سنة أربع وستّين. |
وفي سنة سـت وخمسيـن
ظهـر بمصـر إبراهيـم بـن محمـد بـن يحيـى بـن عبـد اللَّـه بن محمد بن الحَنَفيةِ ويُعرف بالصومي يدعو إلى الرضا من آل محمد وملك أشياء من بلاد الصعيد. وجاءه عسكر أحمد بن طولون من مصر فهزمهم وقتل قائدهم فجاء جيش آخر فانهزم أمامهم إلى الواحات وجمع هنالك جموعاً وسار إلى الأشمومين فلقيه هنالك أبو عبد الرحمن العُمَرِيّ وهو عبـد الحميـد بـن عبـد العزيـز بـن عبـد اللـه بـن عمـر كـان قـد أخـذ نفسـه بحـرب البجـاة وغـزو بلادهـم لمـا كـان منهـم فـي غزو بلاد المسلمين فاشتدّ أمره في تلك الناحية وكَثُرَ أتباعه. وبعث إليه ابن طولون عسكراً فقال لقائده: أنا ألبث هناك لدفع الأذى عن بلاد المسلمين فشاوِر أحمد بن طولون! فأبى القائد إلّا مَن أجَزْته فهزمه العمري. ولما سمع ابن طولون خبره أنكر عليهم أن لا يكونوا بذكره فيقي على حاله من الغارة على البجاة حتى أدوا الجزية. فلما جاء الصولي من الأشمونين لقيه العمري فهزمه وعاد العمـري إلـى أسـوان واشتـدّ عَيْثُـهُ فبعـث إليـه ابـن طولون العساكر فهرب إلى عيذاب وأجاز البحر إلـى مكـة وافتـرق أصحابـه وقبـض عليـه والـي مكـة وبعـث بـه إلـى ابـن طولـون فحبسـه مدّة ثم أطلقه فرجـع إلـى المدينـة ومـات بها وفي هذه السنة ظهر علي بن زيد وجاءه الشاه بن ميكال من قبل المعتمـد في جيش كثيف فهزمه وأثخن في أصحابه. فسرح المعتمد إلى حربه كيجور التركي فخرج عليّ عن الكوفة إلى القادِسِيَّةِ وملك كيجور الكوفة أوّل شوّال وأقام عليّ بن زيد ببلاد بنـي أسـد. ثـم غـزا كيجـور آخـر ذي الحجـة فأوقـع بـه وقتل وأسر من أصحابه ورجع إلى الكوفة ثم إلى سرٌ مَن رأى وبقي علي هنالك إلى أن بعث المعتمد سنة تسع. عسكراً فقتلوه بعبكـرا وانقطـع أمـره وقيـل سـار إلـى صاحـب الزنـج فقتلـه سنـة ستيـن وفـي هـذه السنـة غلـب الحسيـن بن زيد الطالبي على الريّ وسار موسى بن بغا إليه. بقية أخبار الزنج قـد تقَـدّم لنـا أن المعتمـد بعـث سعيـد بـن صالح الحاجب لحربهم فأوقع بهم ثم عاودوه فأوقعوا به وقتلوا من أصحابه وأحرقوأ عسكره ورجع إلى سامرّا فعقد المعتمد على حربهم لجعفر بن منصـور الخيـاط فقطـع عنهـم ميرة السفن. ثم سار إليهم في البحر فهزموه إلى البحرين ثم بعث الخبيث عليّ بن أبان من قوّاده إلى إربل لقطع قنطرتها فلقي إبراهيم بن سيما منصرفاً من فـارس فأوقـع بهـم إبراهيـم وخـرج علـيّ بـن أبـان وسـار إبراهيـم إلـى نهر جيّ وأمر كاتبه شاهين بن بسطـام باتّباعـه. وجـاء الخبـر إلـى علـيّ بـن أبـان بإقبـال شاهين فسار ولقيه وهزمه أشدّ من الأوّل وانصرف إلى جيّ. وكـان منصـور بـن جعفـر الخيـاط منـذ انهـزم فـي البحـر لـم يعـد لقتـال الزنـج واقتصـر علـى حفر الخنادق وإصلاح السفن فزحف عليّ بن أبان لحصاره بالبصرة وضيّق علي أهل البلد وأشرف على دخولها وبعث لاحتشاد العرب فوافاه منهم خلف فدفعهم لقتـال أهـل البصـرة وفرقهـم علـى نواحيها فقاتلهم كذلك يومين ثم افتتحها عليِّ بـن أبـان منتصـف شـوٌال وأفحـش فـي القتـل والتخريب ورجع تم عاودهم ثانية وثالثة حتى طلبوا الأمان فأمنهم وأحضرهم في بعض دور الإمـارة فقتلهـم أجمعيـن وحـرق علـيّ بـن أبـان الجامـعِ ومواضـع مـن البصـرة واتسع الحريِق من الجبل إلى الجبل وعمّ النهب وأقام كذلك أياماً. ثم ناس بالأمان فلم يظهر أحد وانتهى الخبر إلى الخبيث فصرف عليّ بن أبان وولّى عِليها يحيى بن محمد البحراني. مسير المولد لحربهم لما دخل الزنج البصرة وخرّبوها أمر المعتمد محمداً المعروف بالمولد بالمسير إلى البصرة وسار إلـى الأبلُةِ ثم نزل البصرة وأجتمع إليه أهلها وأخرج الزنج عنها إلى نهر معقل. ثم بعث الخبيث قائـده يحيـى بن محمد لحرب المولد فقاتله عشرة أيام ووطن المولد نفسه المقّام وبعت الخبيث إلى يحيـى بـن محمد أبا الليث الأصْبَهَاني مدداً وأمرهم بتبييت المولد فبيّتوه وقاتلوه تلك الليلة والغد إلـى المسـاء. ثـم هزمـوه وغنـم الزنـج عسكره واتّبعه البحراني إلى الجامدة وأوقع بأهلها ونهب تلك القرى أجمع وعاث فيها ورجع إلى نهر معقل. مقتل منصور الخياط كان الزنج لما فرغوا من البصرة سار عليّ بن أبان إلى جيّ وعلى الأهواز يومئذ منصـور بن جعفر الخياط قد ولّاه عليها المعتمد بعد مواقعته الزنج بالبحرين فسار إلى الأهواز ونـزل جـيّ وسـار علـيّ بـن أبـان قائـد الزنج لحربه. وجاء أبو الليث الأصبهاني في البحر مدداً له وتقمّ إلى منصور من غير أمر عليّ فظفر منصور وقتل الكثير ممّن معه وأفلت منهزماً إلى الخبيـث. ثـم تواقـع علـيّ بـن أبـان مـع منصـور فهزمـه واتّبعـه الزنـج فحمـل عليهـم وألقـى نفسـه في النهر ليعبـر إليهـم فغـرق وقيل تقدّم إليه بعض الزنج لما رآه فقتله في الماء. ثم قتل أخوه خلف وغيره من العسكر وولّى يارجوج. على عمل منصور اصْطَيْخُورَ من قوّاد الأتراك. مسير الموفّق لحرب الزنج كان أبو أحمد المُوَفَّقُ وهو أخو المعتمد بمكة وكان المعتمد قد استقدمه عندما اشتدّ أمـر الزنج وعقد له على الكوفة والحرمين وطريق مكة واليمن ثم عقد له علـى بغـداد والسـواد وواسـط وكـور دجلـة والبصـرة والأهـواز وأمـره أن يعقـد ليارجـوج علـى البصـرة وكور دجلة واليمامـة والبحرين مكان سعيد بن صالح. ولما انهزم سعيد بن سعيد بن صالح عقد يارجوج لمنصور بن جعفر مكانه على البصرة وكور دجلة والأهواز ثم قتله كما قلنا. فعقد المعتمد لأخيـه أبـي أحمـد الموفّـق علـى مصـر وقنسريـن والعواصـم وخلـع علـى مفلـح وذلـك فـي ربيـع سنة ثمانَ وخمسين وسيّرهما لحرب الزنج فساروا في عدّة كاملة. وخرج المعتمد يشيّع أخاه وكان عليّ بن أبّان بجيّ ويحيى بن محمد البحرانـي بنهـر العبّـاس والخبيث في قلة من الناس وأصحابه مترددون إلى البصرد لنقل ما نهبوه. فلما نزل الموفّق نهر معقـل أجفـل الزنـج إلـى صاحبهـم مرتاعيـن فأمر عليّ بن أبان بالمسير إليهم ولقي مفلحاً في مقدمة الموفّـق فاقتتلـوا وبينمـا هـم يقتتلـون إذ أصـاب مفلحـاً سهـم غَرِبٌ فقتل وانهزم أصحابه وأسر اِلكثير منهم ثم رحل الموفّق نحو الأبُلِّةِ ليجمع العساكر ونزل نهر أبي الأسَدِ ووقع الموتانُ في عسكره فرجـع إلـى بـادَرود وأقـام لتجهيـز الآلة وإزاحة العِلَل وإصلاح السفن. ثمِ عاد إلى عسكر الخبيث فالتفوا واشتدّ الحرب بينهم على نهر أبي الخصيب وقَتل جماعةَ من الزِنْج واستنقذ كثيراً من النساء المَسبيات ورجع إلى عسكره ببادرود فوقع الحريق في عسكـره ورحـل إلـى واسـط وافترق أصحابه فرجع إلى سامرّا واستخلف على واسط. كـان اصطَيْخـورُ لمـا وَلـيَ الـأهْوَازَ بعـد مَنْصُورٍ الخَياطِ بلغه مسير يحيى بن محمد قلائد الزنج إلى نهر العباس عند مسير الموفق إليهم فخرج إليه أصطيخُور فقاتله وعبر يحيى النهر وغنم سفن الميرة التي كانت عند أصطيخور وبعث طلائعهِ إلى دجلة فلقوا جيشَ المُوَفَقِ فرجعوا هاربين وطلائع الموفّق في أتباعهم وعبروا النهر منهزمين. وبقي يحيى فقاتل وانهزم ودخل في بعض السفن جريحاً وغنم طلائع الموفّق غنائمهم والسفن وأحرقوا بعضها وعبروا الماخورَةَ على يحيى فأنزلـوه مـن سفنهم خشيةً على أنفسهم فسعى به طبيب كان يداوي جراحه وقبض عليه وحمل إلـى سامـرّا وقطـع ثـم قتـل ثم أنفذ الخبيث عَلِي بن أبان وسُلَيْمَانَ بن موسى الشعْراني من قوّاده إلـى الأهـواز وضـم إليهما الجيش الذي كان مع يحيى ومحمد البَحْرانيّ وذلك سنة تسع وخمسين اصطيخور بدَسْتِميانَ وانهزم أمامهما وغرق وهلك من أصحابه خلق وأسِرَ الحسنُ بن هزيمة والحسَنُ بن جعفر وغيرهما وحبسوا ودخل الزنْجُ الأهواز فأقاموا يفسدون في نواحيها ويغنمون إلى أن قَدِمَ موسى بن بَغا. مسير ابن بغا لحرب الزنج ولما ملك الزنْجُ الأهْوَازَ سنة تسعٍ وخمسين سرح المُعْتَمَدُ لحربهم موسى بن بغا على الأعمال فبعـث إلـى الـأهْوَازِ عبـد الرحمـن بـن مُفْلِح وإلى البَصْرَةِ إسحاق بن كِنْدَاجَق وإلى باذرود إبراهيمِ بـن سيمـا وأمرهـم بمحاربـة الزنـجِ. فسـار عبـد الرحمـن إلـى عليٍّ بن أبان فهزمه أوّلاً ثم كانت لعبد الرحمـن الكـرّة ثانيـاً فأثخـن فيهـم ورجعـوا إلـى الخبيـث وجاء عبد الرحمن إلى حِصنِ نَهْدي فعكسر بـه وزحـف إليـه علـي بـن أبـان فامتنـع عليـه فسار إلى إبراهيم بن سيما ببارود فواقعه فانهزم أوّلاً إبراهيـم ثـم كانـت لـه الكـرّة ثانيـاً. وسـار ابـن أبـان فـي الغِيـاض فأضرموهـا عليهم ناراً ففرّوا هاربين وأسر منهم جماعة. وسار عبد الرحمن إلى عليّ بن أبان وجاءه المَدد من الخبيث في البحر فبينمـا عبـد الرحمـن فـي حربـه إذ بعـث علـي جماعـةً مـن خلفـه وشعر بهم فرجع القهقري ولم يصب منهم شيء إلا بعض السفنِ البَحْرِية. ثم راجع عبد الرحمن حرب علي بن أبان وفى مقدّمَته طاشتمر فأوقعوا بعلي بن أبان ولحق بالخبيث صاحب الزنج وأقام عبد الرحمن بن مفلح. وإبراهيـم يتناوبـان حـرب الخبيـث ويوقعـان به وإسحاق بن كنداجق بالبصرة يقطعِ عنه المدد وهو يبعـث لكـل منهما طائفة يقاتلونهم وأقاموا على ذنك سبعة عشر شهراً إلى أن صرفَ موسى بن بَغا عن حربهم وَوَليَهَا مَسْرورٌ البلخيّ كما نذكر. استيلاء الصفار علي فارس وطبرستان قد تقدّم استيلاء يَعْقوب بن الليث الصَفَّارِعلى فارس أيَّامَ المُعْتَزِّمن يد عليّ بن الحسين بن مقبل. ثم عادت فارِسُ إلى الخلفاء ووليَهَا الحارث بن سيما وكان بها من رجال العراق محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي فاتفق مع أحمد بن الليث من الأكـراد الذيـن بنواحيهـا ووثبـوا بالحارث بن سيما فقتلوه واستولى ابن واصل على فارس سنة ست وخمسين وقام بدعوة المُعْتَمـدِ وبعـث عليهـا المعتمـد الحسن بن الفياض فسار إليه يعقوب بن الليث سنة سبع وخمسين وبلـغ ذلـك المعتمـد فكتـب إليـه بالنكير وبعث إليه المُوَفَق بولاية بَلْخٍ وطَخارَسْتَان فملكهما وقبض على رَتْبيل وبعث إلى المعتمد بِرُسُلِهِ وهداياه. ثم رجع إلى بَسْت واعتزم على العَوْدِ إلى سِجِسْتَان فعجَّل بعض قُوّاده الرحيل قبله فغضب وأقام سنةً ثم رجع إلى سجستان. استيلاء الصفار علي خراسان وانقراض أمر بني طاهر منها ثم استيلاؤه علي طبرستان ثم جاء إلى هَـرَاةَ وحاصـر مدينـة نيسابـور حتـى ملكهـا ثـم سـار إلـى بوشنـج وقبـض علـى الحسيـن بـن علـيّ بـن طاهـر بـن الحسيـن وبعـث إليـه محمـد بن طاهر بن عبد الله شافعاً فيه فأبى من إطلاقه ثـم ولّـي علـى هـراة وبوشنـج وباذغيـس ورجـع إلـى سجستـانَ وكـان بهـا عبـد اللَّـه السحري ينازعه. فلما قوي عليه يعقوب فرَّ منه إلى خراسان وحاصر محمد بن طاهر في نيسابور ورجع إليه الفقهاء فأصلحوا بينه وبين محمد وولّاه الطَبَسَيْن وقهَسْتَان وأرسل يعقوب في طلبه فأجاره محمد فسار يعقوب إليه بنيسابور فلم يطق لقاءه ونزل يعقوب بظاهرها فبعث محمد بعمومته وأهل بيتـه فتلقـوه. ثـم خـرج إليـه فوبّخـه علـى التفريـط فـي عملـه وقبـض عليـه وعلـى أهـل بيتـه ودخـل نيسابور واستعمل كليها وأرسل إلى الخليفة بأن أهل خراسان استدعوه لتفريط ابن طاهر في أمره وغلبه العلويَ على طبرستان فبعث إليه المعتمد بالنكير والاقتصار علـى مـا بيـده وإلاّ سلك به سبيل المخالفين وذلك سنة تسع وخمسين. وقيـل فـي ملكـه نيسابـور غيـر ذلـك وهو إن محمد بن طاهر أصاب دولته العجز والإدبار فكاتب بعـض قرابتـه يعقـوب بـن الصفّـار واستدعوه فكتب يعقوب إلى محمد بن طاهر بمجيئه إلى ناحية موزيا بقصد الحسن بن زيد في طبرستان وإن المعتمد أمره بذلك وإنه لا يعرض شيئـاً مـن أعمـال خراسـان. وبعـث بعـدد قـوّاده عينـاً عليه يمنعه من البراح عن نيسابور وجاء بعده. وقَدِمَ أخـاه عمـراً إلـى محمـد بـن طاهر فقبض عليه وعنَفه على الأعمال والعجز وقبض على جميع أهل بيته نحو من مائة وستّين رجَلاً وحملهم جميعاً إلى سجستان واستولى على خراسان ووثب نوّابه في سائر أعمالها وذلك لإحدى عشرة سنة وشهرين من ولاية محمد. ولمـا قبـض يعقـوب علـى ابـن طاهر واستولى على خراسان هرب منازعه عبد اللَّه السَجَزي إلى الحسن بن زيد صاحب طبرستان فبعث إليه فيه فأجاره. وسار إلى يعقوب سنة ستين وحاربه فانهزم الحسن إلى أرض الديلم وملك يعقوب سارية وآمل ومضى في أثر الحسين من عسكـره نحـو مـن أربعيـن ألفاً من الرجل والظهر ونجا بعد مشقّة شديدة وكتب إلى المعتمد بذلك وكان عبد اللَّه السجزيّ قد هرب بعد هزيمة الحسن العلوي إلى الريّ فسار يعقوب في طلبه وكتب إلى عامل الرقيّ يؤذنه بالحرب إن لم يدفعه إليه فبعث به إليه وقتله ورجع إلى سجستان. |
استيلاء الحسن بن زيد علي جرجان
ولما هرب الحسن بن زيد إمام مفلح من طبرستان ورجع مفلح اعتزم الحسن على الرجوع إلى جرجان فبعث محمد بن طاهر إليِها العساكر لحفظها فلم يغنـوا عنهـا وجـاء الحسـن فملكهـا وضعـف أمـر ابـن طاهر في خراسان وانتقض عليه كثير من أعمالها وظهر المتغلِّبون في نواحيها وعـاث السلـاة مـن الخـوارج فـي أعمالهـا ولـم يقـدر علـى دفعهـم وآل ذلك إلى تغلب الصفار على ابن طاهر وانتزاع خراسان من يده كما ذكرنا. فتنة الموصل كان المُعْتَمَدُ قد ولّي على الموصل أشاتَكين من قُوَّاد الأتراك فبعث عليها هو ابنه أذْكَرْتَكين وسـار إليهـا فـي جمـاس سنـة تسـع وخمسيـن فأسـاء السيـرة وأظهـر المنكـر وعسـف بالناس في طلب الخوارج وتعرّض بعض الأيام رجل من حاشيته إلى امرأة في الطريق وتخلصها من يده بعض الصالحين فأحضره أذكرتكين وضربه ضرباً شديداً فاجتمع وجوه البلد وتآمروا في رفع أمرهم إلى المعتمد فركب إليهم ليُوقِعَ بهم فقاتلوه وأخرجوه واجتمعوا على يحيى بن سليمان وولّوه أمرهـم. ولمـا كانـت سنـة إحـدى وستّيـن ولـي أستاكيـن عليهـا الهيثمُ بن عبد اللَّه بن العَمْدِ الثعلبيّ العدويّ وأمره أن يزحف لحربهم ففعل وقاتلوه أياماً وكثرت القتلى بينهـم ورجـع عنهـم الهيثـم وولّى أستاكين مكانه إسحاق بن أيوب الثعلبيّ جدّ بني حمدان وغيره وحاصرها مدة ومرض يحيـى بـن سليمـان الأميـر فـي أثنائهـا فطمـع إسحـاق فـي البلـد وجـدّ فـي الحصـار واقتحمهـا من بعض الجهات فأخرجوه وحملوا يحيى بن سليمان في قُبَّةٍ وألقوه أمام الصَّفِّ واشتدّ القتال ولم يزل إسحاق يراسلهم ويعدهم حسن السيرة إلى أن أجابوه على أن يقيم بالرَبْض فأقام أسبوعاً ثم حدّثت ممّن بايعه بعض الفعلات فوثبوا به وأخرجوه واستقر يحيى بن سليمان بالموصل. حروب ابن واصل بفارس فارس وتَغَلُّبه عليها سنة ست وخمسين فلما بلغ ذلك إلى المعتمد أضاف فارس إلى عبد الرحمن بن مُفلح وبعثه إلى الأهواز وأمدّه بطاشتمر وزحفوا من الأهواز إلى ابن واصل سنة إحدى وستين فسار معهم من فارس ومعه أبو داود العَلُّوس ولقيهم برام هرمز فهزمهم وقتل طاشتمـر وأسـر ابـن مفلـح وغنـم عسكرهم. وبعث إليه المعتمد في إطلاق ابن مفلح فقتله خِفْيَةَ وسـار لحـرب موسـى بـن بغـا بواسـط وانتهـى إلـى الأهـواز وبهمـا إبراهيـم بـن سيمـا فـي جموع كثيرة. ولما رأى موسى بن بغا اضطراب هذه الناحية استعفى المعتمد من ولايتهم فأعفاه وكان عند انصراف ابن مفلح عن الأهواز إلى فارس قد وليَ مكانه بالساج وأمره بمحاربة الزنج فبعث صهره عبد الرحمن لذلك فلقيه عليّ بن أبان قائد الزنج فهزمه عليّ وقتله وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم وملك الزِنْجُ الأهواز فعاثوا فيها. ثـم عـزل أبـو السـاج عـن ذلـك وولّـى مكانـه إبراهيم بن سيما فلم يزل بها حتى انصرف موسى بن بغـا عـن الأعمـال كلهـا ولما هزم إبراهيم بن سيما بن واصل بن عبد الرحمن بن مفلح وقتله طمع يَعْقُوبُ الصًفّارُ في ملك فارس فسار من سِجِسْتان مجِداً ورجع ابن واصل من الأهواز وترك محاربة ابن سيما وأرسل خاله أبا بلال مِرْدَاس إلى الصفار وراجعه بالكتب والرّسل بحبس ابن واصل رسله ورحل بعد السير ليفجأه على بغتة وشعر به الصفّار فقال لخاله مرداس: إن صاحبك قد غدر بنا وسار إليهم وقد أعيوا وتعبوا من شدة السير ومات أكثرهم عطشاً. فلمـا تـراءى الجمعـان انهـزم ابن واصل دون قتال وغنم الصفّار ما في عسكره وما كان لابن مفلح واستولى على بلاد فارس ورتّب بها العُمَالَ وأوْقَع بأهل زَمّ لإعانتهم ابن واصل وطمع في الاستيلاء على الأهواز وغيرها. مبدأ دولة بني سامان وراء النهر كـان جدّهـم أسَدُ بن سامان من أهل خراسان وبيوتها وينتسبون في الفرس تارةً إلى سامَةَ بن لُـؤَيّ وإلـى ابن غالِبِ أخرى. وكان لأسَدٍ أربعة من الوُلْدِ: نوح وأحمد ويحيى وإلياس. وتقدموا عنـد المأموَن أيام ولايته خُراسان واستعملهم ولما انصرف المأمون إلى العراق ولّي على خُراسان غسَّان بن عَبَّاد من قرابة الفَضل بن سَهْلٍ فولّى نوحاً منهم على سَمَرْقَنْد وأحمد على فَرْغَانَةَ ويحيـى علـى الشـاش وأشروسنـة وإليـاس علـى هَـراة. فلمـا وَلـيَ طاهـر بـن الحُسَـيْن بعده أقرّهم على أعمالهـم. ثـم مـات نـوح بـن أسـد فأقرّ أخويه يحيى وأحمد على عمله وكان حسن السيرة. ومات إلياس بهراة فولّى عبد اللَّه بن طاهر مكانه ابنه أبا إسحاق محمد بن إلياس وكان لأحمد بن أسد من البنين سبعة نصر ويعقوب ويحيى وإسماعيل وإسحاق وأسد وكنيته أبو الأشعث وحميـد وكنيتـه أبـو غانـم. فلمـا توفـي أحمـد استخلف ابنه نصراً على أعماله بسمرقند وما إليهما وأقـام إلـى أمـراض أيـام بنـي طاهـر وبعدهـم وكـان يلـي أعمالـه مـن قبـل ولـاة خراسـان إلـى حين إِقراض أيـام بنـي طاهـر. واستولـى الصَفَّـارُ على خراسان فعقد المعتمد لنصر هذا على أعماله من قبله سنة إحدى وستّين ولما ملك يعقوب الصَفار خُراسان كما قلنا بعث نصر جيوشه إلى شط جَيْحون مَسْلَحَةً من الصفّار فقتلوا مقدّمهم ورجعوا إلى بُخارى وخشيهم واليها على نفسه ففرّ عنها فولّوا عليهم ثم عزلوا ثم ولّوا ثم عزلوا فبعث نصر أخاه إسماعيل لضبط بُخارى. ثم وَليَ خُراسان بعد ذلك رافع بن هَرْثَمَةَ بدعوة بني طاهر وغلب الصفّار عليها وحصلت بينه وبين إسماعيـل صاحـب بخـارى موالـاة اتفقـا فيهـا علـى التعـاون والتعاضـد وطلـب منـه إسماعيل أعمال خوارَزْم فولّاه إيّاها وفسد ما بين إسماعيل وأخيه مضر وزحف نصر إليه سنة اثنتين وسبعين واستجاش إسماعيل برافع بن هرثمة فسار إليه بنفسه مدداً وصل إلى بخارى ثم أوقع الصلح بينه وبين أخيه خوفاً على نفسه وانصرف رافع ثم انتقض ما بينهما وتحاربا سنة خمس وسبعين وظفر إسماعيل بنصر. ولما حضر عنده ترجّل له إسماعيلِ وقبل يده ورده إلى كرسيّ إمارته بسمرقند وأقام نائباً عنه ببخارى وكان إسماعيل خَيِّـراً مُكرمـاً مسير الموفق إلى البصرة لحرب الزنج وولاية العهد ولمـا استعفى موسى بن بغا من ولاية الناحية الشرقيةِ عزم المعتمد على تجهيز أخيه أبي أحمد المُوَفَّق فجلس في دار العامة وأحضر الناس على طبقاتهم وذلك في شوّال من سنة إحدى وستّيـن وعقـد لابنه جعفر العهد من بعده ولقِّبَه المُفوَّض إلى اللّه وضمّ إليه موسى بن بغا وولّاه إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خُراسان ونهر تصفق وعقد لأخيه أبي أحمد العهد بعده ولقَّبه الناصر لدين اللّه الموفّق وولاّه المشرق وبغداد وسواد الكوفة وطريق مكًة واليمن وكَسْكَر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والريّ وزَنْجَان والسنـد. وعقـد لكـل واحـد منهمـا لواءَين أبيض وأسود وشرط أنه إن مات وجعفر لم يبلغ يتقدّم الموفّق عليه ويكون هو بعده وأخذت البيعة بذلك على الناس وعقد جعفر لموسى بن بغا على أعمال العرب واستوزر صاعـد بـن مُخْلِـد ثـم نكبـه سنـة اثنتيـن وسبعيـن واستصفـاه واستكتـب مكانـه الصُفَّـر إسماعيـل بـن بابـل وأمـر المعتمـد أخـاه الموفّـق بالمسيـر لحرب الزنج فبعثه في مقدمته واعتزم على المسير بعده. وقعة الصفّار والموفّق لما كان يعقوب الصفار ملك فارس من يد واصل وخراسان من يد ابن طاهر وقبض عليه صـرَّح المعتمـد بأنـه لم يُولَه ولا فعل ما فعل بإذنه وبعث ذلك مع حاجِّ خراسان وطَبَرْسَتان. ثم سـار إلـى الأهـواز يريـد لقـاء المُعْتَمَـد وذلـك سنـة اثنتيـن وسبعيـن. فأرسـل إليـه المعتمد إسماعيل بن إسحـاق وفهـواج مـن قـوّاد الأتـراك ليردّوه على ذلك وبعث معهما مَن كان في حبسه من أصحابه الذين حبسوا عندما قبض على محمد بن طاهر وعاد إسماعيل من عند الصَفَّارِ بعزمه على الموصل فتأخر الموفِّق لذلك عن المسير لحرب الـزِنْج ووصـل مـع إسماعيـل مـن عنـد الصَفَـار حاجبه ذرهم يطلب ولاية طبرْسَتَان وخُراسان وجَرْجَان والريّ وفارس والشرطة ببغداد فولاّه المعتمـد ذلـك كلـه مضافـاً إلى ما بيده من سِجِسْتَان وكَرْمان وأعاد حاجبه إليه بذلك ومعه عُمَرُ بن سيما كتب يقول: لا بدّ من الحضور بباب المعتمد. وارتحل من عسكر مكرم حاما وسار إليه أبو الساج من الأهواز لدخوله تحت ولايته فأكرمه ووصله وسار إلى بغداد. ونهض من بغداد فعسكر بالزعْفَرَانِيةِ وأخوه مسرور البَلْخِيّ فقاتله منتصف رجب وانهزمت ميسرة الموفق وقتل فيها إبراهيم بن سيما وغيره من القوّاد. ثم تراجعوا واشتدّت الحرب وجاء إلـى الموفّـق محمـد بـن أوش والدارانـي مَـدَداً مـن المعتمـد وفشل أصحاب الصفار لما رأوا مدد الخليفة فانهزموا وخرج الصفَار واتّبعهم أصحاب الموفّق وغنموا من عسكره نحواً من عشرة آلاف من الظهر ومن الأموال ما يؤد حمله وكان محمد بن طاهر معتقلاً معه في العسكر منذ قبض عليه بخراسان فتخلّص ذلك اليوم وجاء إلى الموفّقة وخلع عليه وولاّه الشرطة ببغداد وسار الصفار إلى خوزستان فنزل جند يسابور وأرسله صاحـب الزنـج يحثّـه على الرجوع ويعده المساعدة فكتب إليه: " قل يا أيّها الكافرون لا أعبد ما تعبـدون " السورة. وكان ابن واصل قد خالفت الصَفار إلى فارس وملكها فكتب إليه المعتمد بولايتها وبعث الصفّار إليه جيشاً مع عمر بن السريّ من قـوّاده فأخرجـه عنهـا وولّـى علـى الأهواز محمد بن عبد اللًه بن طاهر. ثم رجع المعتمد إلى سامرّا والموفّق إلى واسط واعتزم الموفّق على أتباع الصفّار فقعد به المـرض عـن ذلـك وعـاد إلـى بغـداد ومعـه مسـرور البَلْخِـيّ سار بعد موسى وأقطعه ما لأبي الساج من الضياع والمنازل وقَدِمَ معه محمد بن طاهر فقام بولاية الشرطة ببغداد. سياقة أخبار الزنج قد ذكر أنّ مسروراً البَلْخِيّ سار بعد موسى بن بغا لحرب الزنـج ثـم سـار مسـرور للقـاء المعتمد وحضر الموفّق حرب الصَفَار وبلغ صاحب الزنج جاؤوا النواحي من العساكر فبعث سرايـاه فيهـا للنهـب والحـرق والتخريـب فـي بعـث سليمـان بـن جامـع إلـى البطيحـةِ وسليمـان بـن موسـى إلى القادِسيةِ. وجاء أبو التركي في السفن يريد عسكر الزنج فأخذ عليه سليمان بن موسى وقاتله شهراً حتى تخلص وانحاز إلى سليمان بن جامـع وبعـث إليهمـا الخبيـث بالمـدد وكـان مسـرور قد بعث قبل مسيره من واسط جنداً في البحر إلى سليمان فهزمهم وأوقع بهم وقتل أسراهـم ونـزل بِقَرةِ مروان قريبَاً من يعقوب متحصِّناً بالغياض والأغوار. وزحف إليه قائدان من بغـداد وهمـا أغَرْتَمِـش وحشيـش فـي العساكـر بـرّاً وبحراً وأمر سليمان أصحابه بالاختفاء في تلك الغِياض حتى يسمعوا أصوات الطبول. وأقبل أغرتمش ونهض شرذمة من الزنج فواقعوا أصحابه وشاغلوهم وسار سليمان من خلفهم وضرب طبوله وعبروا إليهم في الماء فانهزم أصحاب أغرتمش وظهـر مـا كـان مختفيـاً وقتـل حشيـش وأتبعوهـم إلى العسكر وغنموا منه وأخذوا من القِطَع البحرية ثم استردّها أغرتمش من أيديهم وعاد سليمان ظافراً وبعث برأس حشيش إلى الخبيث صاحبه فبعث به إلى عليّ بن أبـان فـي نواحـي الأهواز وكان مسرور البلخيّ قد بعث إلى كور الأهواز أحمد بن كيتونة فنزل السوس وكان صاحب الأهـواز مـن قِبَـل الصفَّـار يكاتـب صاحـب الزنـج ويداريـه ويطلـب لـه الولاية عنه فشرط عليه أن يكون خليفة لابن أبان واجتمعا بتستر. ولما رأى أحمد تظاهرهما رجع إلى السوس وكان عليّ بن أبان يروم خطبة محمد له بعمله فلما اجتمعا بتستر خطب للمعتضد والصفّار ولم يذكـر الخبيـث فغضـب علـيّ وسـار إلـى الأهـواز. وجـاء أحمـد بـن كيتونـة إلـى تستـر فأوقـع بمحمـد بـن عبد اللَّه وتحصَّن منه بتستر. وأقبل عليّ بن أبان إليه فاقتتلا واشتدّ القتال بينهما وانهزم عليّ بن أبان وقتل جماعة من أصحابه ونجا بنفسه جريحاً في الساريات بالنهر وعاد إلى الأهواز. وسار منها إلى عسكر الخبيث واستخلـف علـى عسكـره بالأهـواز حتـى داوى جراحَـهُ ورجـع. ثـم بعـث أخـاه الخليـل إلى أحمد بن كيتونة بعسكر مكرم فقاتله وقد أكمن لهم فانهزموا وقتل من الزنج خلق ورجع المنهزمون إلى علـي بـن أبـان وبعـث مسلحـةً إلـى السرقـان فاعترضهم جيش من أعيان فارس أصحاب أحمد بن كيتونة وقتلهم الزنج جميعاً فحظي عنده بذلك وبعث في أثر إبراهيم مَن قتله في سرخس. ولمـا أراد الصَفَـارُ العـود إلـى سجستـان ولّـي علـى نيسابـور عزيـز بـن السرفـي وعلى هراة أخاه عمرو بـن الليـث فاستخلـف عمـرو عليهـا طاهـر بـن حفـص الباذغيسـي وسـار إلى سجستان سنة إحدى وستّيـن فجـاء الخبيـث إلـى أخيـه علـيّ وزيَّـن له أن يقيم نائباً عنه في أموره بخراسان وطلب ذلك مـن أخيـه يعقـوب فـأذنَ لـه. ولمـا ارتحلـوا جمـع جمعاً وحارب علياً فأخرجه من بلده ثم غلب عزيز بن السريّ على نيسابور وملكهـا أوّل اثنتيـن وستّيـن وقـام بدعـوة بنـي طاهـر. واستقـم رافـع بـن هرثمـة مـن رجالاتهـم فجعلـه صاحـب جيشـه وكتب إلى يَعْمُر بن سَرْكَب وهو يحاصر بلْخ يستقدمه فلم يثـق إليـه وسـار إلـى هـراة فملكهـا من يد طاهر بن حفص وقتله وزحف إليه أحمد وكانت بينهما مواساة. ثم داخل بعض قوّاد أحمد الخجستاني في الغدر بعمر على أن يمكِّنَهُ من أخيه أبي طلحـة فكلـف ذلـك القائـد بـه فتـمّ ذلـك وكبسهـم أحمـد وقبض على يعمر وبعثه إلى نائبه بنيسابور فقتلـه وقتـل أبـا طلحـة القائـد الذي غدر بأخيه وسار إلى نيسابور في جماعة فلقي بها الحسين بـن طاهـر مرعـوداً مـن أصبهـان طمعـاً أن يدعو له أحمد الخجستاني كما كان يزعم حين أورد فلم يخطب فخطب له أبو طلحة وأقام معه بنيسابور فسار إليهما الخجستاني من هراة في اثني عشر ألفاً. وقـدم أخـاه العبّـاس فخـرج إليـه أبـو طلحـة وهزمه فرجع أحمد إلى هراة ولم يقف على خبر أخيه وانتدب رافع وهرثمة إلى استعلـام خبـره واستأمـن إلـى أبـي طلحـة فأمنـه ووثـق إليـه. وبعـث رافـع إلـى أحمد بخبر أخيه العباس ثم أنفذه طاهر إلى بَيْهَق لجباية مالها وضمَ معه قائدين لذلك فجبى المال وقبض على القائدين وانتقض. وسار إلى الخجستاني ونزل في طريقه بقرية وبها عليٌ بن يحيى الخارجي فنزل ناحية عنه وركب ابـن طاهـر فـي أتباعـه فأدركـه بتلـك القريـة فأوقـع بالخارجي يظنه رافعاً ونجا رافع إلى الخجستاني. وبعث ابن طاهر إسحاق الشرابي إلى جَرْجـان لمحاربـة الحسـن بن زيد والديْلَم منتصف ثلاث وستين فأثخن في الديلم ثم انتقض على ابـن طاهـر فسـار إليه وكبسه إسحاق في طريقه فانهزم إلى نيسابور واستضعفه أهلها فأخرجوه فأقـام إلـى فرسـخ منها وجمع جمعاً وحاربهم ثم كتب إلى أهل نيسابور إلى إسحاق باستدعائه ومساعدتـه علـيّ بـن طاهـر وأبي طلحة وكتب إلى أهل نيسابور عن إسحاق بالمواعدة. وسار إسحاق أبو محمد في قِلَهٍّ من الجند فاعترضه أبو طلحة وقتله وحاضر نيسابور فاستقدموا الخجستاني من هَراة وأدخلوه. وسـار أبـو طلحـة إلـى الحسـن بـن زيـد مستنجداً فأنجده ولم يظفر وعاد إلى بَلْخ وحاصرها سنة خمـس وستيـن وخـرج للخجستانـي مـن نيسابور به وحاربه الحسن بن زيد لمساعدته أبا طلحة. وجاء أهل جرجان مدداً للحسن فهزمهم الخجستاني وأغرمهم أربعة آلاف ألف درهم. ثم جـاء عمـرو بـن الليـث إلـى هـراة بعد وفاة أخيه يعقوب الصفَّار وعاد الخُجِسْتَانِيّ من جرجان إلى نيسابور وسار إليه عمرو من هراة فاقتتلا وانهزم عمرو ورجع إلى هراة وأقام أحمد بنيسابور. وكانت الفقهاء بنيسابور يميلون إلى عمرو لتولية السلطان إيّاه فأوقع السجستاني بينهم الفتنة ليشغلهـم بهـا ثـم سـار إلـى هـراة سنـة سبع وستّين وحاصر عمرو بن الليث فلم يظفر منه بشيء فسار نحو سجستان وترك نائبه بنيسابور فأساء السيرة وقوى أهل الفساد فوثب بـه أهـل نيسابـور واستعانوا بعمرو بن الليث وبعث إليهم جنداً يقبض على نائب الخجستاني وأقاموا بها ورجـع مـن سجستـان فأخرجهـم وملكهـا وأقـام إلـى تمام سبع وستين وكاتب عمرو أبا طلحة وهو يحاصر بلخ فقَدِمَ عليه وأعطاه أموالاً واستخلفه بخراسان وسار إلى سجستان وسار أحمد إلـى سرخـس ولَقِيَـهُ أبـو طلحة فهزمه أحمد ولحق بسجستان وأقام أحمد بطَخَارِسْتَان. ثم جاء أبو طلحة إلى نيسابور فقبض على أهل الخُجِسْتَانِيّ وعياله وجاء أحمد من طَخارِسْتَان إلى نيسابـور وأقـام بهـا. ثـم تبيّـن لابـن طاهـر أنّ الخجستانـي إنما يروم لنفسه وليس على ما يدّعيه من القيام بأمرهم. وكـان على خَوارِزْمَ أحمد بن محمد بن طاهر فبعث قائده أبا العباس النوْفَلِيّ إلى نيسابور في خمسة آلاف مقاتل وخرج أحمد أمامهم وأقام قريباً منهم وأفحش النوفي في القتل والضرب والتشويه وبعـث إليـه الخُجِسْتَانِـيّ فنهـاه عـن مثـل ذلـك فضـرب الرّسـل فلحـق أهـل نيسابـور بالخجستانـي واستدعـوه وجـاؤوا بـه وقبـض على النوفلي وقتله. ثم بلغه أنّ إبراهيم بن محمد بن طَلْحَـةَ بـن عبـد اللَّـه بـن طاهـر بمرو فسار إليه من أسورد في يوم وليلة وقبض عليه وولّى عليها موسـى البَلْخـيّ ثـم وافاهـا الحسين بن طاهر فأحسن فيهم السيرة ووصل إليهم نحو عشرين ألف درهـم وكان الخجستاني لما بلغه أخذ والدته من نيسابور وهو بطخارستان وسار مُجِدّاً فلما بلغ هراة أداه غلام لأبي طلحة مستأمنَاً فأمنه وقربه فغصّ به وغلامه الخالصة عنده والجنود وطلـب الفرصـة فـي قتـل الخجستانـي وكـان قـد غـور ساقيـة قطلـغ فاتفقـا علـى قتلـه فقتلاه في شوّال سنة ثمانٍ وستّيـن. وأنفـذ دامجـور خاتمـه إلـى الإسطبـل مـع جماعـة فركبـوا الـدواب وسـاروا بالخبـر إلـى أبي طلحة ليستقدموه وأبطأ ظهوره علـى القـوّاد فدخلـوا فوجـدوه قتيـلاً وأخبرهـم صاحـب الإسطبل بخبر الخاتم والدواب وطلبوا دامجـور فلـم يجـدوه ثـم عثـروا عليـه بعـد أيـام فقتلـوه واجتمعوا على رافع بن هرثمة وكان من خبره ما نذكره. استيلاء الصفار على الأهواز ثم سار يعقوب الصَفَّار من فارس إلى الأهواز وأحمد بن كيتونة قائد مسرور البلخي على الأهـواز مقيـم علـى تستـر فرحـل عنهـا ونـزل يعقوب جنديسابور ففرّ كلّ مَن كان في تلك النواحي مـن عساكـر السلطـان وبعـث إلى الأهواز من أصحابه الخضرَ بن المعير فأفرج عنها عليّ بن أبان والزنج ونزلوا السمرة ودخل خضر الأهواز وأقام أصحاب الخضر وابن أبان يُغير بعضهم على بعـض. ثـم فـرّ ابـن أبـان وسـار إلـى الأهـواز فأوقـع بالخضـر وفتك في أصحابه وغنم ولحق الخضر بعسكر مكرم واستخرج ابن أبان ما كان بالأهواز ورجع إلى نهر السدرة. وبعث يعقوب إلى الخضر مدداً وأمره بالكفّ عن قتال الزنج والمقام بالأهواز فأبى ابن أبان من ذلك إلاّ أن ينقل طعاماً ما كان هناك فنقله وتوادعوا. استيلاء الزنج على واسط قد تقدّم لنا واقعة أغرتمش مع سليمان بن جامع وظفر سليمان به فلما انقضى أمره سار سليمـان إلـى صاحـب الخبيـث ومـرّ فـي طريقـه بعسكـر تكيـن البخـاريّ وهـو يبـردود فلمـا حاذاه قريباً أشار عليه الجنانيّ أن يغير على العسكر في البحر ويستطرد لهم لينتهزوا منهم الفرصة ففعل وجاء مستطرداً وقد أكمنوا لهم الكمناء حتى أجازوا موضع الكمائن. وركب سليمان إليهم وعطف الجناني على مَن في النهر وخرجت الكمائن من خلفهم فأثخنوا فيهم إلى معسكرهم ثم بيّتوهمِ ليلاً فنالوا منهم وانكشف سليمان قليلاً ثم عبر أصحابه وأتاهـم مـن وجـوه عديـدة بـرّاً وبحـراً فانهـزم تكّيـن وغنم الزنج عسكره. ثم استخلف سليمان على عسكـره الجنانـي وسـار إلـى صاحـب الخبيـث سنـة ثلـاث وستّين. ومضى الجنانيُ بالعسكر لطلب الميرة فاعترضه جُعلان من قوّاد السلطان وهزمه وأخذ سيفه. ثم زحف منكجور ومحمد بن عليّ بن حبيب من القوّاد وبلغ الحجاجية فرجع سليمان مغذً إلـى طهتـا يريد جعلان وفي مقدمته الجَنانِيّ. ثم كرّ إلى ابن خبيث فهزمه وقتل أخاه وغنم ما معه. ثم سار في شعبان إلى قرية حسّان فأوقع بالقائد هناك جيش ابن خمار تكين وهزمه ونهب القرية وأحرقها. ثم بعث العساكر في الجهات للنهب برّاً وبحراً واعترض جعلان بعضهم فأوقـع بهـم ثـم سـار سليمان إلى الرصافة فأوقع بالقائد بها واستباحها وغنم ما فيها ورجع إلى منزلـه بمدينـة الخبيـث وجاء مطر إلى الحجاجية فعاثَ فيها وأسر جماعة منها كان منهم القاضي سليمان فحمله إلى واسـط. ثـم سـار إلـى طهتـا وكتـب الجنانـي بذلـك إلـى سليمـان فوافـاه لاثنتيـن مـن ذي الحجة وجاء أحمد بن كيتونة بعد أن كـان سـار إلـى الكوفـة وجبيـل فعـاد إلـى البريديّـة وصرف جعلان وضبط تلك الأعمال وأوقع تكين بسليمان وقتل جماعة من قوّاده. ثم ولّي الموفَّـقُ علـى مدينة واسط محمد بن الوليد وجاءه في العساكر واستمدّ سليمان صاحبه بالخليل بن أبّان في ألف وخمسمائة مقاتل فزحف إلى ابن المولد وهزمه واقتحم واسط بها منكجور البخـاري فقاتله عامّة يومه ثم قتل ونهب البلد وأحرقها وانصرف سليمان إلى جبيل واستدعوه في نواحيها تسعين ليلة. استيلاء ابن طولون على الشام كان على دمشق أيام المعتمد ماجور من قوّاد الأتراك فتوفي سنة أربع وستّين وقام ابنه عليّ مكانه. وتجهّز أحمد بن طولون من مصر إلى دمشق وكتب إلى ابن ماجور بأن المعتمد أقطعه الشام والثغور فأجاب بالطاعة وسار أحمد واستخلـف علـى مصـر ابنـه العبّـاس ولقيـه ابـن ماجور بالرملةِ فولّاه عليها وسار إلى دمشق فملكها وأقرّ القوّاد على أقطاعهم. ثم سار إلى حمص فملكها ثم حماة ثم حلب وكان على أنطاكية وطرسوس سيما الطويل من قوّاد الأتراك فبعـث إليـه ابـن طولـون بالطاعـة وأن يقـرّه علـى ولايتـه فامتنـع فسار إليه ودلُّوه على عَورة في سور البلد نصب عليها المجانيق وقاتله فملك عَنْوَة وقتل سيما في الحرب فسار ثم قصد طرسوس فدخلها واعتزم على المقام بها ويريد الغزو. وشكا أهلها غلاء السعر وسألوه الرحيل فرحل عنهم إلى الشام ومضى إلى حرِّان وبها محمد بن أتامش فحاربه وهزمه واستولى عليها. ثم جاءه الخبر بانتقاض ابنه العباس بمصر وأنه أخذ الأموال وسار إلى بَرْقَةَ فلم يكترث لذلك وأصلح أحوال الشام وأنزل بِحَرّان عسكراً وولّى مولاه لؤلؤاً على الرقَّة وأنزل معه عسكراً وبلغ موسـى بـن أتامـش خبـر أخيـه محمد فجمع العساكر وسار نحو جَرْجان وبها أحمد بن جيفونة من قـوِّاد ابـن طولـون فأهمـل مسيـره وقال له بعض الأعراب واسمه أبو الأعزّ لا يهمّك أمره فإنه طًيّاش قَلِق وأنا آتيك به! فقال افعل! وزاده عشرين رجلاً وسار إلى عسكر موسى بـن أتامـش فأكمَن بعض أصحابه ودخل العسكر بالباقي على زيّ الأعراب وقصد الخيل المرتبطة عند خيـام ابـن موسى فأطلقها وصاحوا فيها فنفرت واهتاج العسكر وركبوا واستطرد لهم أبو الأعزّ حتـى جـاوز الكميـن وموسـى فـي أوائلهـم فخـرج الكميـن وانهزم أصحاب موسى من ورائه وعطف عليـه أبـو الأعـزّ فأخـذ أسيـراً وجـاء بـه إلـى ابـن جيفونـة وبعـث بـه إلـى ابـن طولون فاعتقله وعاد إلى مصر وذلك سنة ست وستين. ومـن أخبـار الزنـج أنّ سليمـان احتفـر نهراً يمرّ إلى سواد الكوفة ليتهيّأ له الغارة على تلك النواحي وكان أحمد بن كيتونة. فكبسهم وهم يعلمون وقد جمروا عساكرهمِ لذلك فأوقع بهم وقتل منهـم نحـواً مـن أربعين قائداً وأحرق سفنهم ورجع سليمان مهزوماً إلى طَهْتَا. ثم عدَت عساكر الزِنج على النًعْمَانِيَّةِ - واستباحوها وصار أهلها إلى جَرْجَرَايا وأجفل أهل السواد إلى بغداد وزحف علي بن أبان بعسكر الزنج إلى تَسْتُر فحاصرها وأشرف على أخذها. وكان الموفّق استعمـل علـى كـور الأهـواز مسـروراً البَلْخِيّ فولّى عليها تكين البُخَاريّ فسار إليها ووافاها أهل تستـر فـي تلـك الحـال فأغـزى علـيّ بـن أبّـان وهزمـه وقتـل مـن الزنـج خلقـاً ونـزل تستـر. وبعـث ابـن أبان جماعـة مـن قـوّاد الزنـج ليقيمـوا بقنطـرة فـارس وجاء عين بخبرهم إلى تكين فكبسهم وهزمهم وقتل منهـم جماعـة. وسـار ابـن أبـان فانهـزم أمامـه وكتـب ابـن أبّـان إلى تكين يسأله الموادعة فوادعه بعض الشيء واتّهمه مسرور فسار وقبض عليه وحبسه عند عِجلان بن أبان وفرّ منه أصحابـه وطائفة إلى الزنج وطائفة إلى محمد بن عبد اللًه الكرخي ثم أمّن الباقين فرجعوا إليه. |
موت يعقوب الصفّار وولاية عمرو أخيه
وفي سنة خمس وستّين أخريات شوّال منها مات يعقوب الصفَارُ وقد كان افتتح الرجح وقتل مَلِكَهَا وأسلم أهلُها على يده وكانت مملكةً واسعة الحمود. وافتتح زابَلَسْتَانَ وهي غزنة وكان المعتمـد قـد استمالـه وقلّـده أعمـال فـارس. ولمـا مات قام أخوه عمرو بن الليث وكتب إلى المعتمد بطاعته فولّاه المُوَفّقُ من قِبَلِهِ ما كان له من الأعمال: خراسان وأصْبَهَانَ والسِنْد وسِجِسْتَان والشرْطة ببغداد وسُرّ مَن رَأى وقبله عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن طاهر وخلع الموفّق عمرو بن الليث وولّى على أصبهان من قبله أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف محمد بن أبي الساج. أخبار الزنج مع أغرتمش قـد كـان تقـدّم لنـا إيقاع سليمان بن جامع بأغرتمش وحربه بعد ذلك مع تكين وجعلان ومطر بن جامـع وأحمـد بـن كيتونـة واستيلـاؤه علـى مدينـة واسـط. ثم ولي أغرتمش مكان تكين البخاريّ ما يتولّـاه مـن أعمـال الأهـواز فدخـل تستـر فـي رمضـان ومعـه مطر بن جامع وقتل جماعة من أصحاب أبّان كانوا مأسورين بها. ثم سار إلى عسكر مكرم ووافاه هناك عليّ بن أبان والزنج فاقتتلوا ثـم تحاجـزوا لكثـرة الزنـج ورجع علي إلى الأهواز وسار أغرتمش إلى الخليل بن أبّان ليعبروا إليه من قنطرة أربل وجاءه أخوه عليّ وخاف أصحابه المخلفون بالأهواز فارتحلوا إلى نهر السروة وتحـارب علـي وأغرتمـش يومـاً ثـم رجـع علـي إلى الأهواز ولم يجد أصحابه فبعث مَن يردّهم إليه فلم يرجعوا. وجاء أغرتمش وقتل مطر بن جامع في عدّة من القوّاد وجاء المَدد لابن أبّان من صاحبه الخبيث فوادعه أغرتمش وتركه. ثـم بعـث محمـد بـن عبيـد اللَّـه إلـى أبِكْلـاي ابـن الخبيـث فـي أن يرفع عنه يد ابن أبان فزاد ذلك في غيظه وبعث يطالبه محمد بالخراج ودافعه فسار إليه وهرب محمد من رَامَهُرْمُز إلى أقصـى معاقله ودخل عليّ والزنج رامهرمز وغنموا ما فيها. ثم صالحه محمد على مائتي ألف درهم وتـرك أعماله. تم استنجده محمد بن عبيد الله على الأكراد على أن لعليّ غنائمهم فاستخلف علـي علـى ذلـك مُجْلِـز وطلـب منـه الرهـنَ فمطـل وبعث إليه الجيش فزحف بهم إلى الأكراد. فلما نشب القتال انهزم أصحاب محمد فانهزم الزنج وأثخن الأكراد فيهم وبعث عليٌّ مَن يعترضهم فاستلبوهم وكتب عليّ إلى محمد يتهدده فاعتذر وردّ عليهم كثيراً من أسلابهم وخشي من الخبيث وبعـث إلـى أصحابـه مـالاً ليسألـوه فـي الرضـا عنـه فأجابهـم إلـى ذلـك علـى أن يقيـم دعوتـه فـي أعمال ففعل كذلك. ثم سار ابن أبان لحصار مؤتة واستكثر من آلات الحصار وعلم بذلك مسرور البلخي وهو بكور الأهواز فسار إليه ووافاه عليها فانهزم ابن أبان وترك ما كان حمله هناك وقتل من الزنج خلق وجاء الخبر بمسير الموفّق إليهم. استرجاع ابن الموفّق ما غلب عليه الزنج من أعمال دجلة لما دخل الزنْجُ واسط وعاثوا فيها كما ذكرناه بعث المُوَفَّقُ ابنه أبا العَباس وهـو الـذي وَلـيَ الخلافة بعد المُعْتَمَدِ ولقِّبَ المُعْتَضِدُ فبعثه أبوه بين يديـه فـي ربيـع سنـة سـت وستّيـن فـي عشـرة آلـاف مـن الخيـل والرجـال وركـب لتشييعه وبعث معه السفُنَ في النهر عليها أبو حمزة نصر فسار حتى وافى الخيل والرَجْل والسفن النهرية وعلى مُقدمته الجناني وأنهم نزلوا الجزيرة قريباً من بردروبا وجاءهـم سليمـان بـن موسـى الشعرانـي مَدَداً بمثل ذلك وأن الزنج اختلفوا في الاحتشاد ونزلوا من السفـح إلـى أسفـل واسـط ينتهـزوا الفرصـة فـي ابـن الموفّـق لما يظنون من قِلّة درايَتِهِ بالحرب. فركب أبـو العبـاس لاستعـلاء أمرهـم ووافـى نصيراً فلقيهم جماعة من الزنج فاستطرد لهم أوّلًا ثم كر في وجوه! وصاح بنصير فرجع وركب أبو العبّاس السفن النهريّة فهزم الزنج وأثخن فيهم واتّبعهم ستّة فراسخ وغنم من سعيهم وكان ذلك أوّل الفتح. ورجع سُلَيمان بن جامع إلى نهر الأمين وسليمان بن مؤمن الشعراني إلى سوق الخميس وأبو العباس على فرسخ من واسط يغاديهم القتال ويُراوحُهُم. ثم احتشد سليمان وجاء من ثلاثة وجوه وركب في السفن النهرية وبرز إليه نُصَيْر في سفنه وركب معه أبو العباس في خاصّته وأمر الجند بمحاذاته من الشطِّ ونثب الحرب فوقعت الهزيمة على الزنج وغُنِمَتْ سُفُنُهُمْ وأفلت سليمان والجناني من الهلكة وبلغوا طَهْتا ورجع أبو العباس إلى معسكره وأمر بإصلاح السفن المغنومة وحفر الزنج في طريق الجبل الآبار وغطوها فوقع بعض الفرسان فيها فعـدل جنـد السلطان عن ذلك الطريق. وأمر الخبيث أصحابه بالسفن في النهر وأغاروا على سفن أبي العَباس وغنموا بعضها وركب في أتباعهم واستنقذ سفنهم وغنم من سفنهم نحواً من ثلاثين وجد في قتالهم وتحضن ابن جامع بطهتا وسمّى مدينته المنصورة. والشعراني بسوق الخميس وسمّى مدينته المنيعة. وكـان أبـو العبـاس يُغيـر علـى الميـرة التـي تأتيهـم مـن سائـر النواحي وركب في بعض الأيام إلى مدينة الشعرانـي التـي سماهـا المنيعـة وركـب نُصَـيْرُ في النهر وافترقوا في مسيرهم واعترضت أبا العباس جماعةٌ من الزنج فمنعوه من طريق المدينة وقاتلوه مقدار نهاره وأشاعـوا قتـل نصيـر وخالفهـم نصير إلى المدينـة فأثخـن فيهـا وأضرمـوا النـار فـي بيوتهـا. وجـاء الخبـر بذلـك إلـى أبـي العبـاس بسبـرة. ثـم جـاء نصيـر ومعـه أسـرى كثيرون فقاتلوا الزنج وهزموهم ورجع أبو العباس إلى عسكره وبعث الخبيث إلى ابن أبان وابن جامع فأمرهما بالاجتماع على حرب أبي العباس. وصول الموفق لحرب الزنج وفتح المنيعة والمنصورة كان المُوَفَقُ لما بعث ابنه أبا العباس لحرب الزِنْج تأخر لإمداده بالحشود والعُمَدِ وإزاحة علله ومسارقة أحواله فلما بلغه اجتماع ابن أبان وابن جامع لحربه سار من بغداد إليه فوصل إلى واسط في ربيع الأول من سنة سبع وستّين ولقيه ابنه وأخبره بالأحوال ورجع إلى عسكره. ونـزل المُوَفَـقُ علـى نهـر شَـدَّاد ونزل ابنه شرقي دجلة على موهة بن مساور فأقام يومين ثم رحل إلى المنيعة بسوق الخميس سار إليها في النهر ونادى بالمقامة ولقيه الزنج فحاربوه. ثم جاء الموفـق فانهزمـوا وأتّبعهم أصحاب أبي العباس فاقتحموا عليهم المنيعة وقتلوا خلقاً وأسروا آخرين وهرب الشعراني واختفى في الآجام آخـرون ورجـع الموفـقُ إلـى عسكـره وقـد استنقـذ مـن المسلمـات نحـو خَمْسَ عَشَرَةَ امرأةً ثم غدا على المنيعة فأمر بنهبها وهدم سورها وطمِّ خندقها وإحراق ما بقي من السُفنِ فيها وبيعت الأقوات التي أخذت فكانت لا حدّ لها فصرفت في الجند. وكتب الخبيث إلى ابن جامع يحذره مثل ما نزل بالشعْرانيّ وجاءت العيون إلى الموفّق أن ابن جامـع بالحوانيـت فسـار إلـى الضبِيـةِ وأمـر ابنـه بالسيـرِ فـي النهـر إلى الحوانيت فلم يلقَ ابن جامع بها ووجد قائدين من الزنج استخلفهم عليها بحفظ الغلات ولحق بمدينته المنصورة بطهتا فقاتل ذلك الجند ورجـع إلـى أبيـه بالخبـر فأمـره بالمسيـر إليـه وسـار علـى أثـره بـرّاً وبحـراً حتـى نزلـوا علـى ميليـن مـن طهتا وركب لبيوني مقاعد القتال على المنصورة فلقيه الزنج وقاتلوه وأسروا جماعة من غلمانه. ورمى أبو العباس بن الموفّق أحمد بن مهدي الجناني فمات وأوهن موته ثم ركب يوم السبت آخر ربيع من سنة سبع وعبّى عسكره وبعث السفن إلى البحر الذي يصل إلى المنصورة ثم صلّى وابتهل بالدعاء وقدِمَ ابنه أبا العباس إلى السور واعترضه الجنا فقاتلهم عليه واقتحموا وولّوا منهزمين إلى الخنادق وراءه فقاتلوه عندها واقتحمها عليه كلها ودخلت السفن المدينة من النهر فقتلوا وأسروا وأجلوهم عن المدينة ومـا اتصـل بهـا وهـو مقـدار فرسـخ وملكـه الموفّـق وأفلت ابن جامع فـي نفـر مـن أصحابـه. وبلـغ الطلـاب فـي أثـره إلـى دجلـة وكثـر القتـل فـي الزنـج والأسـر واستنقـذ العبـاس مـن نسـاء الكوفـة وواسط وصبيانهم أكثر من عشرة آلاف وأعطى ما وجد في المنصورة من الذخائر والأموال للأجناد وأسر من نساء سليمان وأولاده عدّة. ولما جاء جماعة مـن الزنـج إلـى الآجـام اختفـوا فأمـر بطلبهـم وهـدم سـور المدينـة وطـمّ خنادقهـا وأقام سبعة عشر يوماً حصار مدينة الخبيث المختارة وفتحها ثـم إن المُوَفَّـقَ عـرض عساكـره وأزاح علَلَهُـم وسـار معه ابنه أبو العبّاس إلى مدينة الخبيث فأشرف عليها ورأى من حصانتها بالأسوارِ والخنادق ووعر الطرق وما أعدّ من الآلات للحصار ومن كثـرة المقاتلـة مـا استعظمـه. ولمـا عايـن الزنـجُ عساكـر الموفّـق دهشـوا وقدمِ ابنه أبا العباس في السفن حتى ألصقها بالأسوار فرموه بالحجارة في المجانيق والمقاليع والأيدي ورأوا من صبره وأصحابه مـا لـم يحتسبـوه. ثـم رجعـوا وتبعهـم مستأمنـة مـن المقاتلـة والملّاحين نزعوا إلى الموفّق فقبلهم وأحسن إليهـم فتتابـع المُسْتَأمِنُـونَ فـي النهر فوكّل الخبيث بفوهة النهر من منعهم وتعبّى أهل السفن للحرب مـع بهبـود قائـد الخبيـث فزحـف إليـه أبـو العبـاس فـي السفـن وهزمه وقتل الكثير من أصحابه ورجع فاستأمن إليه بعض تلك السفن النهريّة وكثير من المقاتلة فأمّنهم وأقام شهراً لم يقاتلهم. ثم عبَّى عساكـره منتصـف شعبـان فـي البـرّ والبحـر وكانـوا نحـواً مـن خمسيـن ألفـاً. وكـان الزنـجُ فـي نحـو ثلثمائة ألف مقاتل فأشرف عليهم وناس بالأمان إلّا للخبيث ورمى بالرقَاع في السهام بالأمان فجـاء كثيـر منهـم ولـم يكـن حرب. ثم رحل من مكانه ونزل قريباً من المختارة ورتّب المنازل من إنشاء السفن وشرع في اختطاط مدينة لنزله سفاها المُوَفَقِيَّةِ. فأكمل بناءها وشيّد جامعها وكتب بحمل الأموال والميرة إليها وأغبّ الحرب شهراً فتتابعت الميرة إلى المدينة ورحل إليها التجّار بصنوف البضائع واستبحر فيها العمران ونفقت الأسواق وجلبت صنوف الأشياء. ثم أمر الموفّق ابنه أبا العباس بقتال مَن كان من الزنج خارج المُخْتَارة فقاتلهم وأثخـن فيهـم فاستأمن إليه كثير منهم فأمّنهم ووصلهم وأقام الموفق أياماً يحاصر المحاربين ويصل المستأمنين واعترض الزنج بعض الوفاد الجائية بالميرة فأمر بترتيب السفن على مخارج الأنهار ووكل ابنه أبا العبّاس بحفظها وجاءت طائفة من الزنج بعض الأيام إلى عسكر نُصَيْر يريدون الإيقاع به فأوقع بهم وظفر ببعض القوّاد منهم فقتل رشقَاً بالسهام وتتابع المستأمنة فبلغوا إلى آخـر رمضـان خمسين ألفاً. ثم بعث الخبيث عسكراً من الزِنْج مع عليّ بن أبان ليأتوا من صراء الموفّق إذا ناشَبَهُم الحرب ونمى إليه الخبر بذلك فبعث ابنه أبا العبّاس فأوقع بهم وحملت الأسرى والرؤوس في السفن النهرية ليراها الخبيث وأصحابه وظنوا أن ذلك تمويه فرميت الروس في المجانيق حتى عرفوها فظهـر منهم الجزع وتكرّرت الحرب في السفن بين أبي العباس وبين الزنج وهو يظهر عليهم في جميعها حتى انقطعت الميـرة عنهـم فاشتـد الحصـار عليهـم وخـرج كثيـر مـن وجـوه أصحابـه مستأمنين مثل محمد بن الحارث القُميّ وأحمد اليربوعي. وكان من أشجع رجاله القميّ منهم موكلًا بحفظ السور فأمنهم الموفق ووصلهم وبعدة الخبيث قائلين من أصحابه في عشرة آلاف ليأتوا البُطيْحَة من ثلاثة وجوه فيعبروا من تلك النواحي ويقطعوا الميرة عن الموفق. وبلغ الموفق خبرهم فبعث إليهم عسكراً مع مولاه ونزل فأوقع بهم وقتل وأسر وأخذ منهم أربعمائة سفينة. ولما تتابع خروج المستأمنة وكل الخبيث من يحفظها وجهدهم الحصار فبعث جماعة من قواده إلى الموفق يستأمنون وان يناشبهم الحرب ليجدوا السبيل إليه فأرسل ابنه أبا العبّاس إلى نهر الغربـي وبـه علـيّ بـن أبـان فاشتـدّ الحـرب وظهـر أبـو العبّـاس علـي ابـن أبـان وأمدّه الخبيث بابن جامع ودامت الحرب عامّة يومهم وكان الظفـر لأبـي العبـاس وسـار إليـه المستأمنـة الذيـن واعـدوه. وانصرف أبو العباس إلى مدينة الخبيث وقاتل بعض الزنج طمعاً فيهم لقتلهم فتكاثروا عليه ثم جـاءه المـدد مـن قبـل أبيـه فظهر عليهم. وكان ابن جامع قد صعد في النهر وأتى أبا العباس من ورائه وخفقت طبولة فانكشف أصحاب أبي العباس ورجع منهزمة الزنج فأجَبَّت جماعة من غِلمَان الموفّق وعدة من أعلامهم وحامى أبو العباس عن أصحابه حتى خلصوا وقوي الزنج بهذه الواقعة فأجمع الموفّق العبور إلى مدينتهم بعسكره. فعبى الناس لذلك من الغداة آخر ذي الحجّة واستكثر من المعابر والسُفُن وقصدوا حِصْنَ أو كان بالمدينة وفيها بكلاي بن الخبيث وابن جامع وابن أبان وعلية المجانيق والآلات فأمر غلمانه بالدنُـوّ منـه فخافـوا لاعتـراض نهـر الأتـراك بينهـم وبينـه فصـاح بهم فقطعوا النهر سبحاً وتناولوا الركن بالسلـاح يهدمونـه ثـم صعـدوا عليـه وملكوا ونصبوا به علم الموفق وأحرقوا ما كان عليه من الآلات وقتلوا من الزنج خلقاً عظيماً. وكان أبو العباس يقاتلهم من الناحية الآخرى وابن أبّان قبالته فهزمه ووصل أصحاب أبي العباس إلى السور فثلموه ودخلوا ولقيهم ابن جامع فقاتلهم حتى ردّهم إلى مواقفهم. ثم توافى الفَعَلَة فثلموا السور في مواضع ونصبوا على الخندق جسراً عبر عليه المقاتلة فانهزم الزنج عن السور وأتبعهم أصحاب الموفق يقتلونهم إلى دير ابن سمعان فملكه أصحاب الموفق وأحرقوه وقاتلهم الزنج هناك. ثم انهزموا فبلغوا ميدان الخبيث. فركب من هنالك وانهزم عنه أصحابه وأظلم الليل ورجع الموفّق بالناس وتأخر أبو العباس لحمل بعض المستأمنين في السفن واتّبعه بعض الزنج ونالوا من آخر السفن. وكان بهبود بإزاء مسرورٍ البَلْخِيّ فنال من أصحابه واستأمن بعض المنهزمين من الزنج والأعراب بعثوا بذلك من عبادان والبصرة وكان منهم قائده ريحان أبو صالح المعرّي فأمنهم الموفق وأحسن إليهم وضمّ ريحان إلى أبي العباس. وخـرج فـيِ المحـرّم إلـى الموفّـق مـن قـواد الخبيـث وثقاته جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان فأحسن إليـه الموفّـق وحملـه فـي بعـض السفـن إلـى قصـر الخبيـث فوقـف وكلـم الزنـوج فـي ذلـك وأقـام الموفـق أياماً استَجَم فيها أصحابه فلما كان منتصف ربيِع الثاني قصد مدينة الخبيث وفرّق القوّاد على جهاتها ومعهم النقّابون للسور ومن ورائهم الرماة يحمونهم. وتقدّم إليهم أن لا يدخلوا بعد الهزم إلاّ بإذنـه فوصلـوا إلـى السـور وثلمـوه وحاربوا الزنج من ورائه وهزموهم وبلغوا أبعد مما وصلوا إليه بالأمـس. ثـم تراجـع الزنـج وحاربـوا مـن المكامن فرجع أصحاب الموفّق نحو دجلة بعد أن نال منهم الزنج ورجع الموفّق إلى مدينته ولام أصحابه على تقدمتهم بغير إذنه. ثـم بلـغِ الموفّـق أنّ بعـض الأعـراب مـن بني تميم يجلبون الميرة إلى الزنج فبعث إليهم عسكراً أثخنوا فيهم قتلاً وأسراً وجيء بالأسرى فقتلهم وأوعز إلى البصرة بقطع الميرة فانقطعت عن الزنج بالكليّة وجهدهم الحصار وكثر المستأمنة وافترق كثير من الزنج في القرى والأمصار البعيدة وبـث الموفّـق دعاتـه فيهم ومَن أبى قتلوه وعرض المستأمنين وأحسن إليهم ليستميلهم وتابع الموفّق وابنـه قتـال الزنج وقتل بهبود بن عبد الواحد من قوّاد الخبيث في ذَلك الحروب فكان قتله من أعظم الفتوح وكان قتله في السُفُن البَحْرِيَّةِ ينصب فيها أعلاماً كأعلام الموفّق ويخايل أطراف العَسكر فيصيب منهم. وأفلت فـي بعـض الأيـام مـن يـد أبـي العبـاس بعـد أن كـان حصـل فـي قبضتـه. ثم خيل أخرى لبعض السفن طامعاً فيها فحاربوه وطعنه بعض الغلمان منها فسقط في الماء وأخفـه أصحابـه فمـات بين أيديهم وخلع المُوَفُّقُ على الغلام الذي طعنه وعلى أهل السفينة. ولما هلـك بَهبُـود قبـض الخبيـث علـى بعـض أصحابـه وضربهـم علـى مـا لـه فاستفسد قلوبهم وهرب كثير منهـم إلـى الموفّـق فوصلهـم ونـاس بالأمـان لبَقِيَّتِهِـم. ثـم اعتـزم علـى العبـور إلـى الزنـج مـن الجانـب الغربي وكانت طرقه ملتفّة بالنخيل فأمر بقطعها وأدار الخنادق على معسكره حذراً من البيات. ثم صعب على الموفّق القتال من الجانب الغربي لكثرة أوعاره وصعوبة مسالكه وما يتوجّه فيها على أصحابه من خيل الزنج لقلّة خبرتهم بها فصرف قصده إلى هدم أسوارهم وتوسعت الطرق فهدم طائفة من السور من ناحية نهر سلمى وباشر الحرب بنفسه واشتدّ القتال وكثرت القتلـى فـي الجانبين وفشت الجِراح وكانت في النهر قنطرتان يعبر منهما الزنج عند القتال ويأتون أصحاب الموفّق من ورائهم فأمر بهدمهما فهدمتا. ثم هدم طائفة من السور ودخلوا الملينة وانتهوا إلى دار ابن سمعان من خزائن الخبيث ودواوينه. ثـم تقدمـوا إلـى الجامـع فخرّبـوه وجـاؤوا بمنبـره إلـى الموفّـق بعد أن استمات الزنج دونه فلم يَغْنَوْا به. ثم أكثروا من هدم السور وظهرت علامات الفتح ثم أصاب المُوَفَق في ذلك اليوم سهمٌ في صدره وذلك لخمس بقين من جمادى سنة تسع وستين فعاد إلى عسكره. ثم صابح الحرب تقوية لقلوب الناس. ثم لزم الفراش واضطرب العسكر وأشير عليه بالذهاب إلى بغداد فأبى فاحتجب عن الناس ثلاثة أشهر حتى اندمل جرحه. ثم ركب إلى الحرب فوجد الزنج قد سددوا ما تثلم من الأسوار فأمر بهدمها كلِّها واتصل القتال مما يلِي نهر سلمى كما كان والزنج يظنون أنهم لا يأتون إلا منها فركب يوماً لقتالهم وبعث السفن أسفل نهر أبي الخصيب فانتهوا إلى قصر من قصور الزنج فأحرقوه وانتهبوا ما فيه واستنقذوا كثيراً من الساكن فيه. ورجـع الموفّق آخر يومه ظافراً. ثم بكّر لحربهم فوصلت المقدّمات دار أنكلاي بن الخبيث وهي متصلة بدار أبيه. وأشار ابن أبّان بإجراء المياه على الساج وحفر الخنادق بين يدي العساكر وأمر الموفق بطمّ الخنادق والأنهار ورام إحراق قصره وقصده من دجلة فمنع مـن ذلـك كثـرة الحُماة عنه فأمر أن تسقف السفن بالأخشاب وتُطلى بالأدوية المانعة من الإحراق. ورتّب فيها أنجاد أصحابه وباتَوا على أهبة الزحف من الغد. وجاء كاتب الخبيث وهو محمد بن سمعان عشاء ذلك اليوم مستأمنَاً وبكّروا إلى الحرب وأكل الموفّق ابنه أبا العباس بإحراق منازل القواد المتصلة بقصر الخبيث ليشغلهـم عـن حمايتـه وقصـدت السفـن المطليـة قصـر الخبيـث فأحرقـوا الرواشن والأبنية الخارجة وعلت النار فيه ورموا بالنار على السفن فلم تؤثّر فيها. ثم حصر الماء من النهر فزحفتَ السفن فلما جاء الدعاة إلى القصر أحرقوا بيوتاً كانت تَشرع علـى دجلـة واشتعلت النار فيها وقويت وهرب الخبيث وأصحابه وتركوها وما فيها. واستولى أصحـاب الموفّـق علـى ذلـك كلـه واستنقـذوا جماعـة مـن النسـاء وأحـرق قصر أنكلاي ابنه وجرحـا وعـاد الموفّـق عشاء يومه مظفراً. ثم بكّر من الغد للقتال وأمر نصيراً قائد السفن بقصد القنطـرة التـي كـان الخبيـث عملهـا فـي نهـر أبـي الخصيـب دون القنطـرة التـي كـان اتخذهـا وفـرّق العسكـر في الجهات فدخل نصير في أول المد ولصق بالقنطرة واتصل الشد من ورائه فلم يقدر على الرجوع حتى حسر الماء عنها وفطن لها الزنج فقصدوها فألقى الملاحون أنفسهـم فـي المـاء وألفـى نصيـر فنفسـه وقاتـل ابـن جامع ذلك اليوم أشَد قتال. ثم انهزم وسقط في الحريق فاحترق ثم خَلُصَ بعد الجهد. وانصـرف الموفّـق سالمـاً وأصابـه مـرض المفاصـل واتصل به إلى شعبان من سنته فأمسك في هذه المـدّة عـن الحرب حتى أبلى فأعاد الخبيث القنطرة التي غرق عندها نصير وزاد فيها وأحكمها وجعـل أمامهـا سكـراً من الحجارة ليضيق المدخل على السفن فبعث الموفّق طائفة من شرقي نهر أبي الخصيب وطائفة من بحريه ومعهم الفَعَلَة لقطع القنطرة وجعل أمامها سفناً مملوءة من القصب لتصيبها النار بالنفط فيحترق الجسر وفرّق جنده على القتال وساروا لما أمرهم عاشر شوّال وتقدّمـوا إلى الجسر ولقيهم أنكلاي بن الخبيث وابن أبان وابن جامع وحاموا على القنطرة لعلمهم بما في قطعها من المضرّة عليهم ودامت الحرب عليها إلى العشيّ. ثم غلبهم أصحاب الموفّق عليها ونقضها النجَّارون ونقضوا الأثقال التي دونها وأدخلوا السفن بالقصب وأضرموها ناراً ووافت القنطـرة فأحرقتهـا ووصـل النجّـارون بذلـك إلـى مـا أرادوا. وسهّل سبيل السفن في النهر وقتل من الزنج خلق واستأمن آخرون وانتقل الخبيث بعد حرق قصوره ومساكن أصحابه إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب ونقل أسواقه إليه وتبيّن ضعفه فانقطعت عنه الميرة وفقدت الأقوات وغَلَت حتى أكل بعضهم بعضاً وأجمعِ الموفق أن يحرق الجانب الشرقي كما أحرق الغربي. فقصد دار الهمذان وكان حصيناً وعليه الآلات فلما انتهى إليها تعذّر الصعود لعلو السور فرموا بالكلاليب ونشبت في أعلام الخبيث وجذبوها فتساقطـت فانهـزم المقاتلة وصعد النفاطون فأحرقوا ما كان عليها من الآلة ونهبوا الأثاث والمتاع. واتصل الحريق بما حولها من الدور واستأمن للموفّق جماعة من خاصة الخبيث فأمّنهم ودلّوه علـى سـوق عظيمة متصلة بالجسر الأول تسمى المباركة وبها التجار الذين بهم قوامهم فقصدها لإحراقها وحاربه الزنج بعدها وأضرم أصحابه النار فيها فاتصلت وبقي الحريق عامّة اليوم. ثـم رجـع الموفّـق ثـم انتقـل التجار بأمتعتهم وأموالهم إلى أعلى المدينة ثم فعل الخبيث في الجانب الشرقي بعد هذه من حفر الخنادق وتغوير الطرق مثل ما كان فعل في الجانب الغربي واحتفر خندقـاً عريضـاً حَصَّـنَ بـه منـازل أصحابـه علـى النهـر الغربـي. ثـم خـرق الموفـق باقـي السـور إلـى النهـر الغربي بعد حرب شديدة كانت عليه وكان للخبيث جمع من الزنج وهم أشجع أصحابه وقد تحصنوا بحصن منيع يخرجون على أصحاب الموفق عند الحرب فيعوقونهم فأجمع على تخريبه وجمع المقاتلة عليه برّاً وبحراً وفرّقهم على سائر جهاته وجهات الخبيث وأمدّ الخبيث الحصن بالمُهَلَبـيّ وابـن جامـع فلـم يغنـوا عنـه وانهزمـوا وتركـوا الحصـن في يدي أصحاب الموفّق وهزموه وقتلوا من الزنجِ خلقاً وخلصوا من الحصن كثيـراً مـن النسـاء والصبيـان ورجـع الموفّـق إلـى عسكـره ظافراً. |
استيلاء الموفق علي الجهة الغربية
ولما هدم الموفّق سور دار الخبيث أمر بتوسعة الطرق للحرب وأحرق الجسر الأول الذي على نهـر أبـي الخصيـب ليمنـع مـن مدد بعضهم بعضاً فكان في إحراقه حرب عظيمة. وأعدّت لذلك سفينة مُلِئَت قصباً وجعل فيها النفط وأرسلت في قوّة المدد فتبادر الزنوج إليها وغرّقوها. فركب الموفّق إلى فوهة نهر أبي الخصيب وقصدهم من غربي النهر وشرقيه إلى أن انتهوا إلى الجسر من غربيه وعليه أنكلاي بن الخبيث وابن جامع فأحرقوه وفعال مثل ذلك من الجانب الشرقـي فاحتـرق الجسر والحظيرة التي كانت لإنشاء السفن وسجن كان هناك للخبيث. وانحاز هو وأصحابه من الجانب الغربي. واستأمن كثير من قوّاده فأمّنهم وأخرجـوا أرسالًـا وخـرج قاضيه هارباً ووكّل بالجسر الثاني من يحفظه. وأمر الموفّق ابنه أبا العباس بأن يتجهّز لإحراقه فزحف في إنجاد غلمانه ومعه الفعلة والآلات. وكان في الجانب الغربي أي العباس أنكلاي وابن مجامع وفي الجانب الغربي قبالة أسد مولى الموفق الخبيث نفسه والمهلبي. وجاءت السفن في النهر وقاتلوا حامية الجسر فانهزم ابن مجامع وأنكلـاي وأضرمـت النار في الجسر ولما وافياه وهو مضطرم ناراً ألقيا أنفسهما في النهر فخلصا بعد أن غرق أصحابهما خلق واحترق الجسر واتصل الحريق بدُورهم وقصورهـم وأسواقهـم وافتـرق الجيـش فـي الجانبيـن ونهبـت دار الخبيـث واستنقـذ مَـن كـان فـي حبسـه من النسوة والرجال. وأخرج ما كان في نهر أبي الخصيب من أصناف السفن إلى دجلة ونهبها أصحاب الموفّـق واستأمن أنكلاي بن الخبيث وعلم أبوه فثنـاه عـن ذلـك. واستأمـن ابـن سليمـان بـن موسـى الشعراني من رؤساء قواده فأجيب بعد توقّف. ولما خرج تبعه أصحـاب الخبيـث فقاتلهـم ووصـل إلـى الموفّـق فأحسـن إليـه واقتفـى أثـره فـي ذلـك شبـل بـن سالـم مـن قـوّاده وعَظُـمَ على الخبيث وأوليائـه استئمـان هـؤلاء وصـار شبـل بـن سالـم يخـرج فـي السرايـا إلـى عسكـر الخبيث ويُكثِر النكاية فيهم. وفي خلال هذه الحروب واتصالها مَرِنَ أصحاب الموفّق على تخلّل تلك المسالك والشِعاب مع تضايقها ووعرها وأجمع الموفّق على قصد الجانب الشرقي في نهر أبي الخصيب وندب لذلك قوّاد المستأمنة لخبرتهم بذلك دون غيرهم ووعدهم بالإحسان والزيادة فأبوا وسألوه الإقالة فأبى لتتميّز مُنَاصَحَتهُم. وجمع سفن دجلة من كل جانب وكان فيها عشرة آلاف مَلّاَح من المُرْتَزِقَةِ. وأمـر ابنـه أبـا العبـاس بقصـد مدينـة الخبيـث الشرقيَّـةِ مـن جهاتهـا فسـار إلـى دار المهلبـي وهو في مائة وخمسيـن قطعـة مـن السفن قد شحنها بأنجاد غلمانه وانتخب عشرة آلاف مقاتل وأمرهمِ بالمسير حفافـي النهـر يشاهـد أحوالهـم وبكّـر الموفّـق لثمـانٍ خَلَـونَ من في القعدة زاحفاً للحرب فاقتتلوا مليّاً وصبـروا. ثم انهزم الزنج وقتل منهم خلق وأسِرَ آخرون فقتلوا وقصد الموفّق بجمعه دار الخبيث وقد جمع الخبيث أصحابه للمدافعة فلم يغنوا عنه وانهزموا وأسلموها فنهبها أصحاب الموفّق وسبوا حريمه وبنيه وكانوا عشرين. ونجا إلى دار المهلّبي ونهبها واشتغل أصحابهم جميعاً بنقل الغنائـم إلـى السفـن فأطمع ذلك الزنج فيهم وتراجعوا وردوا الناس إلى مواقفهم. ثم صدق الموفّق الحملة عشيّ النهار فهزم الزنج إلى دار الخبيث ورجع الناس إلى عسكره ووصله كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في القدوم عليه فأخر القتال إلى حضوره. ولمـا وصـل غُلـام ابـن طولـون فـي ثالـث المحـرّم مـن سنـة سبعيـن وجـاء فـي جيـش عظيـم فأحسن إليهم المُوَفَـق وأجـرى لهـم الأرزاق على مراتبهم وأمره بالتأهُّب لقتال الخبيث. وقد كان لما غلب على نهر أبي الخصيب وقُطِعَتِ القناطر والجسور التي عليه أحدث فيه سكراً وضيق جِرْيَةَ الماء ليمنع السُفُنَ من دخوله إذا حضر ويتعذرُ خروجها أمامه. وبقي جَرْيُهُ لا يتهيأ إلا بإزالة ذلك السِـكْرِ. فحـاول ذلـك مـدَّةً والزنـجُ يدافعـون عنـه. ودفـع الموفـق لذلـك لؤلـؤاً فـي أصحابـه ليتمرّنـوا على حـرب الـزنْج فـي تلـك المسالـك والطرق فأحسنوا البلاء فيها ووصلهم وألحّ على العسكر وهو كل يوم يقتل مُقاتِلَتَهُمْ ويحرِقُ مساكنهم ويقتل المُسْتأمِنَة منهم. وقد كان بقي بالجِهَةِ الغربِيَّة بقيَّة من أبنيِةِ ومزارع وبها جماعة يحفظونها. فسار إليهم أبو العباس وأوقع بهم ولم يسلَـم منهـم إلّـا الشريد. ثم غلبهم على السِكْرِ وأحرقه واعتزم على لقاء الخبيث وقدَّم ابنه أبا العبَّاسِ إلىِ دار المُهَلبِ وأضـافَ المستأمنـة إلـى شِـبْل بن سالمٍ وأمرهم أن ينتظروا بالقتال نفْخ لبوق ونَصْبَ عَلَمِهِ الأسود على دار الكَرْمَانِيّ. ثم صَمَدَ إليهم وزحف الناسُ في البر النهر ونُفِخَتِ الأبْوَاقُ وذلك لثلاث بقين من المُحَرَّم سنة سبعين واشتدّ القتال وانهزم الزِنْجُ ومات منهم قتلاً وغَرَقَاً ما لا يُحصى واستولى المُوَفَّق على المدينة واستنقذوا لأسرى وأسروا الخليل وابن أبـان وأولادهمـا وعيـال أخيهما ومضى الخبيث ومعه ابنه نبهلاي وابن جامع وقوادٌ من الزِنْج إلى موضع بنهر السُفْيَانِيّ كانـوا أعـدّوه ملجـأ إذا غلـب علـى المدينـة واتبعه المُوَفّق في السُفُن ولؤلؤ في البرّ. ثم اقتحم النهر بفرسه واتَّبعه أصحابه فأوقعوا بالخبيث ومَن معه حتى عبروا نهر السامان واعتصموا بجبل وراءه ورجع لؤلؤ عنهم وشكره المُوَفَّق ورفع منزلته واستبشر الناس بالفتح. وجمع المُوَفٌق أصحابه فوبَّخهم على انقطاعهم عنه فاستعذروا بأنهم ظنّوا انصرافه. ثم تحالفوا على الإقدام والثباتِ حتى يظفروا وسألوه أن ترد المعابِر التي يعبُرون فيها ليستميت الناس في حـرب عدوهـم فوعدهـم بذلك وأصبح ثالث صَفر فعبى المراكب وبعثهم إلى المراكز وردّ المعابر التي عبروا فيها وتقدّم العسكر فأوقعوا بالخبيث وأصحابه ففضوا جماعةً وأثخنوا فيهم قتلاً وأسراً وافترقوا كلّ ناحيةٍ. وثَبُتَ مع الخبيث لمة من أصحابه فيهم المُهًلّبِيّ وذهب ابنه أنكِلاي وابـنُ جامِع وأتبع كلاً منهم طائفةً من العسكر بأمر أبي العباس بن المُوَفّق. ثم أسر إبراهيم بن جعفر الهَمَذَانيّ فاستوثقوا منه. ثم كرّ الخبيث والمنهزمون معه على مَن اتَبعهم من أهل العسكر فأزالوهم عن مواقفهم. ثم رجعـوا ومضـى الموفّـق فـي اتّبـاع الخبيث إلى آخر نهر أبي الخصيب فلقيه غلام من أصحاب لُؤْلُؤ بـرأس الخبيـث وسـار أنكلـاي نحـو الدينـاريّ ومعـه المهَلّبـيّ. وبعث الموَفّق أصحابه في طلبهمِ فظفر بهم وبمَن معهم وكانوا زهاء خمسة آلاف فاستوثق منهم ثم استأمن إليه وَرْمُونةُ وكان عند البُطَيْحَةِ قد اعتصم بمغايضَ وآجامٍ هنالك يُخيفُ السابِلَةَ ويغيرُ على تلـك النواحـي وعلـى الواردين إلى مدينة المُوَفّق. فلما علم بموت الخبيث سُقِطَ في يده وبعث يستأمن فأمّنه الموفّق فحسُنَت توبته وردِّ الغصوبات إلى أهلها ظاهراً وأمر المُوَفَق بالنداء برجوع الزنْج إلى موطنهم فرجعوا وأقام الموفّق بمدينة المُوَفِّقيةِ ليأمن الناسُ بِمُقامه وولّى على البصرة والأبلَّة وكور دِجْلَةَ محمـد بـن حَمّـاد وقـدّم ابنـه أبـا العبـاس إلى بغداد فدخلها منتصف جمادى من سنة سبعين وكان خروج صاحب الزنْج آخر رمضان سنة خمس وخمسين وقتله أوّل صفر سنة سبعين لأربع عشرة سنة وأربعة أشهر من دولته. ولاية ابن كنداج على الموصل لما سار أحمد بن موسى بن بغا إلى الجزيرة وولّى موسى بن أتامش على ديار ربيعة فتغيَّر لذلك إسحاق بن كنداج وفارق عسكره وأوقع بالأكراد اليعقوبيَّةِ وانتهب أموالَهُم ثم لقي ابن مُساوِرَ الخارِجيّ فقتله وسار إلى الموصل فقاطع أهلها على مالٍ وكان عليهم عليّ بن داود قائداً فدفعه وسار ابن كنداج إليه فخرج عليُ بن داود واجتمع حمدان بن حمدون الثَعْلَبِيّ وإسحاق بن عُمَرَ بن أيُوب بن الخَطّاب الثعلَبِيّ العدوِيّ فكانوا خمسة عَشَرَ وجاءهم عليّ بن داود فلقِيَهُـمْ إسحـاق فـي ثلاثـة آلـاف فهزمهـم بدسيسـةٍ مـن أهـل مسيرتهـم. وسـار حمـدان وعلي بن داود إلى نيسابـور وابـن أيُّـوب إلـى نصيبيـن وابـن كنـداجَ فـي أتباعـه فسـار عنهـا وأستجـار بعيسـى ابـن الشيخ الشَّيْبَانِي وهو بآمد وأبي العزّ موسى بن زُرَارَةَ وهو عامل أردن فأنجداه وبعث المعتمد إلى إسحاق بن كنداج بولاية الموصل فدخلها وأرسل إليه ابن الشيخ وابن زُرارَةَ مائة ألف دينار على أن يُقرّهم على أعمالهم فأبى فاجتمعوا على حربه فرجع إلى إجابتهم. ثم حاربوه سنـة سبـع وستّيـن. واجتمـع لحربـه إسحـاق بـن أيـوب وعيسى ابن الشيخ وأبو العزّ بن حمدان بن حمـدون فـي ربيعـة وثعلـب وبكـر واليمـن فهزمهـم ابـن كنـداج إلـى نُصيبيـن ثـم إلـى آمد وحَمّر عسكره الجِصار ابن الشيخ بآمد وكانت بينهم حروب. حروب الخوارج بالموصل كان مُساوِرُ الخارِجِيّ قد هلك في حروبه مع العساكر سنة ثلاث وستّين بالبوارسح وأراد أصحابه ولاية محمد بن حَرْداد بشهرزور فامتنع وبايعوا أيوب بن حيّان المعروف بالغُلام فقُتِل فبايعوا هارون بن عبد اللِّه البَجَلِيّ وكثُر أتباعه واستولى على بلد الموصل وخرج عليه من أصحابه محمد بن حَرْداد وكان كثير العبادة والزهْدِ يجلِسُ في الأرض ويلبَسُ الصوف الغَليظ ويركـبُ البقـر لئـلاَّ يفِـرّ مـن الحـرب. فنـزل واسِـطَ وجـاء أهـل الموصـل فسـار إليهـم وهارون غائب في الأحشاد فادر إليه واقتتلا وانهزم هارون وقتل من أصحابه نحو مائتين. وقصد بني ثَعْلَبَ مستنجداً بهم فأنجدوه وسار معه حمدان بن حمدون ودخل معه الموصل ودخل ابن حرداد واستمال هارون أصحابه ورجع إلى الحُدَيْثَةِ ولم يبقَ مع ابن حرداد إلّا قليل من الأكراد فمالوا إلى هارون بالموصل فخرج وأوقع بابن حرداد فقتله وأوقع بالأكراد الجلالِيةِ وكثر أتباعه وغلب علـى القُـرى والرساتيـق وجعـل علـى دجلـة مَـن يأخـذ الزكـاة مـن الأمـوال المُصَعـدَةِ والمنحـدِرة ووضع فيٍ الرساتيق مَن يقبض اعتبار الغلات واستقام أمره. ثم جاء بنو ساسان لقتاله سنة ست وسبعين واستنجد بحمدان بن حمدون فجاءه بنفسه وسار إلى نهر الخازِنِ وانهزمت طليعتهم وانهزموا بانهزامها وجاء بنو شيبان إلى فسا فانجفل أهلها وأقـام هـارون وأصحابـه بالحُدَيْثَة. أخبار رافع بن هرثمة من بعد الخجستاني لما قُتِلَ أحمدُ الخُجِسْتَانِي سنة ثمانٍ وستِّين كما قدّمناه اجتمع أصحابه على هرثمة من قُوّاد محمـد بـن طاهـر وكـان رافع هذا لما استولى يَعْقُوبُ الصَفَار على نيسابور وزال بنو طاهِرٍ صار رافع في جملته وصَحْبِه إلى سِجِسْتَانَ. ثم أقصاه عن خدمته وعاد إلى منزله بنواحي جي حتـى استخدمـه الخُجِسْتَانِـيُّ وجعله صاحبَ جيشه. فلما قُتِلَ الخجستاني اجتمع الجيش عليه بهراة وأمروه وسار إلى نيسابور فحاصر بها أبا طلحة بن شركب وقد كان وصل إليها من جرجان فضيقَ عليه المخنق ففارقها أبو طلحة إلى مرو وولي هراة ابن الْمَهدِيّ وخطب لمحمَّد بن طاهر بِمَرْو وهَرَاة وزحف إليه عمرو بن الليث فهزمه وغلبه على ما بيده واستخلف عل مرو محمد بن سهل بن هاشم وخرج أبو طلحة إلى مَكْمَد واستعـان بإسماعيـل بـن أحمـد الساماني فأمده بعسكر وأخرج محمد بن سهـل وخطـب بهـا لعمـرو بـن الليـث سنـة إحـدى وسبعين. ثم قلّد المُوَفَقُ تلك السنة أعمالَ خُراسان لمحمد بن طاهر وهو ببغداد فاستخلف عليها رافع بن الليث وأقر على ما وراء النهر نصر بن أحمد ووردت ووردت كُتُبُ المُوَفٌق بعزل عمرو بن الليث ولعنه فسار رافع إلى هَراة وقد كان بها محمَّدُ بن المهديّ خليفة أبي طلحة فثار عليه يوسـف بـن معبـد. فلمـا جـاء رافـع استأمـن إليـه فأمّنـه واستعمل على هَراة مهدي بن مُحْسِن. ثم سـار رافـع إلـى أبـي طلحـة بمـرو بعـد أن استمدّ إسماعيل بن أحمد وأمده بنفسه في أربعة آلاف فارس واستقدم عليّ بن مُحسِن الْمَرْوَروزيّ فقَدِمَ عليه في عسكره وساروا جميعاً إلى أبي طلحـة بمـرو سنـة اثنتيـن وسبعيـن فهزمـوه وعـاد إسماعيـل إلـى بخارى ولحق بأبي طلحة وبها مهدي فاجتمع معه على مخالفة رافع فهزمهما رافع ولحق أبو طلحة بعمرو بن الليث. وقبض على مهـدي سنـة اثنتين وسبعين ثم خلّى سبيله وسار رافع إلى خوارِزم فجبى أموالها ورجع إلى نيسابور. مغاضبة المعتمد للموفق ومسيرة ابن طولون وما نشأ من الفتنة لأجل ذلك كـان المُوَفَّقُ حدثت بينه وبين ابن طولون وحشة وأراد عزله وبعث موسى بن بغا في العساكر إليه سنة اثنتين وستّين فأقام بالرَّقَّةِ عشرة أشهر واختلف عليه العسكر فرجع. وكان المُوَفَّقُ مُسْتَبِدّاً على أخيه المُعْتَمد منذ قيامه بأمر دولته مع ما كان من الكِفايَة والغَناء إلا أنه كان المعتمـد يتأفّـف مـن الحَـجْرِ. وكتـب إلـى أحمـد بـن طولـون فـي السـرّ يشكـو ذلـك وأشـار عليـه باللحاق إليـه بِمِـصْرَ لينصـره. وبعـث عسكـراً إلـى الرقَّـةِ فـي انتظاره وكان الموفّق مشغولًا بحرب الزنج فسار المُعْتَمدُ منتصف سنة تسـعٍ وستّيـن فـي القـوّاد ظهِـراً أنـه يتصيـد. ثـم سـار إلـى أعمـال الموصـل وعليهـا يومئـذ وعلـى سائـر الجزيـرة أصحـاب كِنـداج. وكتـب صاعِدُ بن مُخْلِد وزير الموفّق عن الموفّق إلى فلمـا وصـل المُعْتَمَـدُ إلـى عملـه أظهـر إسحـاق طاعتـه فارتحـل فـي خدمتـه إلـى أوّل عمل ابن طولون. ثم اجتمع بالمعتمد والقـوّاد وفيهـم نَـيْزَك وأحمـد بـن خاقـان وغيرهـم فعذلهـم فـي المسيـر إلـى ابـن طولـون والمقام تحت يده وطال الكلام منهم ملياً. ثم دعاهم إلى خيمته للمناظرة في ذلك أدباً مع المعتمـد وقيّدهـم وجاء إلى المُعْتَمَد فعذله في المسير عن دار خلافَتِه ومغاضَبَة أخيه وهو في دفـاع عـدوّه ومَـن يريـد خـراب ملكـه وحمـل الجميـع إلـى سامـرا وقطع ابن طولون الدعاء للموفق على منابره وأسقط اسمه من الطُرَرِ وغضب الموفـق بسبـب ذلـك علـى أحمـد بـن طولـون وحمـل المعتمد على أن يُشار بلعنه على المنابر. وولـى إسحـاق بـن كنـداج علـى أعمالـه وفـوض إليـه مـن بـاب الشماسِيَـة إلـى إفريقيـة. وكان لؤلؤ مولى ابن طولون عاملاً له على حِمْصَ وحَلَب وقَنِسْرين وديار مِصر من الجزيرة. وكان منزله بالرقَةِ فانقض عليه في هذه السنة وسار إلى بالِسَ فنهبها وكتب إلى الموفق فمر بفرقيسيا وبها ابن صفـوان العُقَيْلِـيّ فحاربـه وغلبـه عليهـا وسلّمهـا إلـى أحمـد بـن مالـك بـن طَـوْق. ووصـل إلـى الموفّـق في عسكر عظيم وهو يقاتل صاحبَ الزِنج فأكرمه المُوَفقُ وأحسن هو الغَنَاءَ في تلك الحرب. ثم بعث ابن طولون في تلك السنة جيشه إلى مكّة لإقامة الْمَوْسِم وعامل مكّة هارون بن محمد ففارقهـا خوفـاً منهـم وبعـث الموفـق جعفـراً فـي عسكـرٍ فقـوي بهم هارون ولقوا أصحاب ابن طولون فهزمزهـم وصـادروا القائـد علـى ألف دينار. وقرئ الكتاب في المسجد بلعن ابن طولون وانقلب أهل مصـر إلـى بلدهـم آمنيـن. ولـم يـزل لؤلـؤ فـي خدمـة المُوَفَّـقِ إلـى أن قُبِـضَ عليـه سنـة ثلـاث وسبعيـن وصادره على أربعمائة ألف وأدْبَرَ أمره ثَمّ ثم عاد إلى مِصْرَ آخر أيام هارون بن خمارويه. طولون ومسير ابن كنداج إلى الشام |
الساعة الآن 07:51 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |