![]() |
وبما أن الشعر هو الأقرب إلى التفاعل والأسرع تجاوباً، كان له صدى أبرز على صعيد الثقافة، لأن زمن الرجع فيه أسرع من أي لون أدبي آخر.
بدأ الشعر في استبطان النكبة والمخيم والواقع الجديد بحراكه السياسي والاجتماعي. وقد برز هذا التوجه بشكل حاد وحاسم لدى شعراء المقاومة داخل الأرض المحتلة عام 48، حيث واجهوا السلطة الإسرائيلية المباشرة كسلطة أجنبية، وقد تميزت قصائدهم بالإصرار على عروبة فلسطين والارتباط بالتراث والهوية الوطنية والثقافية. أما الشعراء والأدباء في الجزء المتبقي من فلسطين، والذي لم يخضع للاحتلال الإسرائيلي، آنذاك، أعني الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد تميزت قصائدهم وكتاباتهم بالحنين والأمل بالعودة وتحرير الأرض المغتصبة، وقد سيطرت الروح الرومانسية على إبداعاتهم، ولكنهم لم يدخلوا في دائرة الصراع المباشر مع المحتل الأجنبي. كان الشعر الفلسطيني، في ذلك الوقت، ريادياً، ليس لتميّز الفلسطينيين، وإنما لتميّز قضيتهم. وقد شكّل الشعر الفلسطيني إرهاصة لتغيرات اجتماعية وسياسية في العالم العربي. وقد أضفت النكبة مفاهيم جديدة على الأدب والفكر والثقافة، وبداية هذا التغيير ـ التجديد، كانت على أيدي الفلسطينيين، وخصوصاً شعراء الأرض المحتلة. أما جيلي الشعري، فقد واجه الاحتلال الإسرائيلي لبقية فلسطين عام 1967، كما واجهه شعراء الأرض المحتلة. وهذا الواقع الجديد الغريب الذي عشناه تمثل في قصائدنا، من خلال الدعوة لرفض الاحتلال ومقاومته والتصدي لمخططاته، وهكذا انتقلنا بالشعر من دائرة الحنين والبكاء على الأطلال إلى ميدان الفعل الثوري بواسطة مضامين ومصطلحات جديدة لم تكن مطروقة في السابق، فالغنائية المفرطة تحولت إلى واقعية ثورية تعتمد على الشكل والمضمون. والحنين تحوّل إلى إصرار وتعبئة فكرية تمهيداً لخوض معركة الحريّة والاستقلال. والبكاء على الأطلال تحوّل إلى استنهاض الهمم ورص الصفوف استعداداً للثورة وطرد المستعمر عن أرض الوطن. وقد شكّل هذا التغيير في مجرى القصيدة الفلسطينية حاضنة للعمل الفدائي الذي انطلقت شرارته عام 1965بقيادة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، فقد تبوأ عدد من الشعراء والكُتّاب مراكز قيادية متقدمة في مختلف فصائل العمل الفدائي، ودفع بعضهم حياته ثمناً لإبداعاتهم ومواقفهم الثابتة. وفي الداخل أسهم الشعراء بدور فعّال على صعيد الجبهة الثقافية التي لا تقل أهمية عن الجبهات الأخرى في التصدي لمؤامرات الاحتلال الإسرائيلي وتهويد الأرض والمقدسات وسرقة تراثنا وتشويهه. فقد دفعنا من عمرنا ثمناً باهظاً بسبب قناعاتنا وأهدافنا التي لا يمكن أن نتزحزح عنها قيد أنملة. وأنت تعرف حجم معاناتي التي استمرت لسنوات في سجون ومعتقلات العدو الصهيوني، وكذلك معاناة غيري من المثقفين. * في ديوان محمود درويش "كزهر اللوز أو أبعد" اهتمام بالذاتي بعيداً عن الوطني بالمعنى الحرفي، هل تغيّر نبض القصيدة الفلسطينية. **هناك جنوح واضح نحو الذات في هذا الديوان، وفي الدواوين الخمسة التي سبقته، بمعنى أصح أن التغير الذي طرأ على شعر محمود درويش حدث بعد عودته لأرض الوطن. ودرويش، بالمناسبة، ليس هو القصيدة الفلسطينية ولا يمثل الشعر الفلسطيني، هو امتداد لمن سبقوه وألقوا بظلالهم عليه. وحول هذه الإشكالية، كتب الأديب والناقد صبحي شحروري في مجلة "الشعراء" مجموعة من الدراسات القيمِّة التي لاقت صدى عظيماً في أوساط الكُتّاب والمثقفين الفلسطينيين في الداخل والخارج، خاصة في نقده لـ "الجدارية" ولكن درويش، حتى في فرديته وفي مقاربته للقضايا الذاتية، يبقى فلسطينياً أولاً وأخيراً. * عبد الناصر صالح من الأسماء التي تستوقف الناقد لأهمية ما يكتب من قصيدة متطورة باستمرار. ما هو طموحك؟ **طموحي أن أتجه لدرامية الشعر بالاستفادة من السرد العربي، وأن أكتب قصائد ذات نفس ملحمي تصوّر نضالات الشعب الفلسطيني وتجعل من القضية الفلسطينية قضية إنسانية. أعترف لك أنني أكتب دمي المراق على الطرقات، وفي أزقة المخيّمات، وفي ميادين الشرف. الصدق الفني والنفسي هو ما يميّز أشعاري. هناك تطابق بين ما أقول وما أفعل. لم أعرف التزييف والفهلوة والكذب على الآخرين. لن أنزل عن جبل أُحد لاقتسام "الغنائم". وسأظل متشبّّثاً بأهدافي الوطنية والقومية لآخر يومٍ من عمري. هذا هو قدري، لا أجيد فن اللهاث وراء القصائد، القصيدة هي التي تكتبني، تتسلل إلى جسدي صافية من تأثير الآخرين، دافئة غنية كزيتون طولكرم المليء بالزيت والأغنيات وقسَم الشهداء. وأعترف لك، مرة أخرى، أن تجربتي الشعرية لم تستوعب بالكامل تاريخي النضالي، ولهذا السبب أجدني أطمح إلى تجاوز نضالي الشخصي للتعبير عن نضال الشعب الفلسطيني، بشكل أكبر وأعمق. |
* ما هي القصيدة الأجمل عندك؟ ** من الصعب على الإنسان أن يختار أحد أبنائه ليفضّله على أبنائه الآخرين. ومن الطبيعي أن يحظى جميع الأبناء بنفس القدر من المحبة والاهتمام. وهكذا يجد الشاعر نفسه مضطراً للمساواة بين جميع قصائده ومجموعاته الشعرية. وحتى مع تعاقب الأعوام، يظل للقصيدة رونقها الخاص. شعلة الانبهار، لدى الشاعر فيَّ، لا تخمد، بل تزداد عطاءً وتوهجاً عند الكتابة، وعند الرجوع إلى النصوص القديمة. على أني أرغب، في الأمسيات الشعرية، بقراءة قصيدة لها وقع خاص في قلبي ووجداني، هي قصيدة "مرثية لفارس القصيدة" وقد أهديتها لروح والدي الشاعر والمناضل محمد علي الصالح. استطعت فيها أن أستعيد الوالد وأن أخاطبه، وكأنه يعود إلى سوح النضال من جديد، فالزمان لم يتغير: "هل ألقوّا عليكَ القبضَ بعد مظاهراتِ اليوم؟ هل عانيتَ خلف قتامة القضبانِ حين كشفتَ للطلابِ خبث الانتدابِ وسيّئاتِ الأنظمة". ثم أناجيه قائلاً: "كم مرةً سأموتُ بعدكَ كم سيقتلني رحيلكَ قمْ إليك، وقم إليْ قمْ للقصيدةِ مزّقتْ أوراقها الأولى نهاياتُ الفصول". |
وقد أبرز الأستاذ صبحي شحروري، مسألة تعلق الابن بالأب والتصاقه به، في دراسته النقدية لديوان "المجد ينحني أمامكم"، فقد تطرق لهذه القصيدة محْلّلاً وكاشفاً للعلاقة الحميميّة بين الأب وابنه، فقد مررنا بنفس التجربة الكفاحية، وتعرّضنا لنفس السجن ونفس الاحتلال الذي يأخذ الآن اسماً مستعاراً، فالاحتلال الصهيوني هو ذاته الاحتلال البريطاني، الاسم، فقط، هو الذي تبدّل، لكن المضمون هو نفسه.
وعليه، فإنني، في هذا النص الشعري، استعدت صورة الوالد ـ الذي حمل هموم مرحلته ـ مرحلة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي ـ لأُحمّلها هموم المرحلة الحالية. في هذه القصيدة تداخل وارتباط ما، وكأني أجد نفسي مُعلقاً على كل لوحةٍ فيها. *إذا أردتُ أن أستمع إلى سيرة حياة شاعر هو عبد الناصر صالح، ماذا تقول؟. ** ولدت في طولكرم في 12/10/1957 وتلقيت تعليمي الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارسها. وكما قلت لك في إجابتي على سؤالك الأول، فقد بدأت محاولاتي الأولى عام 1974، متأثراً بوالدي بداية، كنتُ في تلك السنة طالباً في الصف الأول الثانوي. وفي مدرسة طولكرم الثانوية تعرفتُ إلى الزميليْن الطالبيْن: علي مبارك وحلمي الأسمر، اللذين كانا في بداية التأمل الشعري والاكتشاف والاحتفاء بالجمال. كنا نلتقي، ثلاثتنا، بشكل يوميّ، إمّا في بيتي أو في بيت علي مبارك في مخيم طولكرم، نقرأ ما كتبنا من خواطر ثم ننقدها، حسب مفهومنا للنقد، آنذاك، الذي يتكئ على العواطف والأفكار وجزالة اللفظ والمعنى. وعندما انتقلنا للمدرسة الفاضلية الثانوية في طولكرم، العام 1975، كنا قد تمكّنا، إلى حدّ ما، من امتلاك ناصية اللغة وتطوير مخيّلتنا الشعرية. بدأتُ بنشر محاولاتي في صحيفة "القدس"، ثمّ في صحيفتي "الفجر" و"الشعب" اللتين توقفتا عن الصدور في العام 1994. وقد أشرف على رعاية مواهبنا وتشجيعنا وتزويدنا بالكتب الثقافية والأدبية والمجموعات الشعرية، الأستاذ الأديب محمد البطراوي، الذي يعتبر أحد أبرز الوجود الأدبية والثقافية في الضفة والقطاع، فقد شغل، آنذاك، موقع رئيس تحرير صحيفة "الفجر" الصادرة في القدس. وعلى الصعيد الشخصي، أعجبت بهذا الرجل غاية الإعجاب، أعجبت به لسببين: الأول أنه يشبه والدي بدماثة خلقه وطيبة قلبه وتواضعه وحرصه على تنمية قدرات الشباب، والثاني: ثقافته الشمولية التي لا يبخل بها على أحد. كما لا يفوتني أن أشيد بالأديب المبدع الأستاذ صبحي شحروري، صاحب المكتبة التي شكلت مركزاً ثقافياً وحضناً دافئاً لأبناء جيلي من طولكرم، بل من كافة مدن وقرى ومخيّمات الضفة الغربية وقرى المثلث القريبة من طولكرم. كان يحدثنا عن تجربته القصصية في مجلة "الأفق الجديد" التي صدرت في القدس عام 1962 وتوقفت عن الصدور عام 1966. فمن معينه الواسع نهلنا الكثير، عرفنا سلطة النص، ونسق اللغة الشعرية وانزياحها ومستوياتها الدلالية. فالثقافة بالنسبة له هي تراكم خبرات على مستوى الفرد والمجتمع، فالنص لا يمكن أن يتخلّق من فراغ، إذن من الضرورة أن تكون له مرجعية ما كان شحروري يزهو بحديثه عن جيل "الأفق الجديد" الذي ضم نخبة من الأدباء والشعراء الفلسطينيين، أمثال: ماجد أبو شرار وخليل السواحري ونمر سرحان وعبد الرحيم عمر ومحمد القيسي ومحمد البطراوي وصبحي شحروري، ويحثنا على الاستفادة من خبرات وتجارب هؤلاء الكتاب. ظلت علاقتي بالأستاذين شحروري والبطراوي قوية ومتماسكة، فبفضلهما وتوجيهاتهما، ارتقى مستوى التدفق الشعري لديّ، وغنيت ممتلكاتي اللغوية والمعرفية. في العام 1976، صدرت مجلة "البيادر" في القدس، وهي المجلة الثقافية الأولى التي تصدر في الضفة والقطاع منذ العام 1976، وقد فتح رئيس التحرير الأستاذ جاك خزمو صفحات "البيادر" لأقلام الشباب في الأرض المحتلة. فبرز منهم الشعراء وكتاب القصة القصيرة والنقد. وبعد ذلك تم تشكيل "تجمّع كتاب البيادر"، كنت عضواً فاعلاً في هذا التجمّع، أحضر الاجتماعات في القدس، وأقدم الآراء والمداخلات والاقتراحات التي تخدم استمرارية المجلة وحضورها الثقافي الديمقراطي. في العام 1979، تعرفت إلى الشاعر علي الخليلي، كان عائداً من عمله في ليبيا، ليكمل مهمته الثقافية في فلسطين، حيث عمل محرراً أدبياً لصحيفة "الفجر"، ثم أصدر، فيما بعد، مجلة "الفجر الأدبي" التي اعتبرت منبراً ثقافياً وفكرياً هاماً، وإضافة نوعية لمجمل الحركة الأدبية الفلسطينية، احتضنت "الفجر الأدبي" الأدباء والكتاب على اختلاف مشاربهم ومنابعهم الفكرية والسياسية، وعملت على خلق مناخ ديمقراطي تعدّدي في أوساط المثقفين. استمرت هذه المجلة بالصدور حتى العام 1990، حيث توقفت لأسباب مالية. وفي العام 1979، صدرت مجلة "الكاتب" لصاحبها ورئيس تحريرها الشاعر أسعد الأسعد، لقد عنيت هذه المجلة، أيضاً، بالشؤون الثقافية والفكرية والسياسية والدفاع عن القيم الحضارية والإنسانية للشعب الفلسطيني أمام غطرسة وعنصرية الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وتفريط الرجعية العربية، هذه المجلة، بثوبها الماركسي، لعبت دوراً في توحيد الحركة الأدبية والثقافية تحت الاحتلال الإسرائيلي، وتنظيم جهود المبدعين الفلسطينيين. ولكن مصيرها، مع الأسف، كان كمصير سابقتيّها، فقد توقفت "الكاتب" عن الصدور في رام الله العام 1997، لأسباب مالية. |
في العام 1981، تم تشكيل "لجنة كتاب الملتقى الفكري" بمبادرة من عدد من المثقفين، أبرزهم: علي الخليلي وغريب عسقلاني وزكي العيلة وسامي الكيلاني وجميل السلحوت وعادل الأسطة وعبد الناصر صالح. هذا التجمع كان بمثابة نواة "اتحاد الكتّاب الفلسطينيين" فيما بعد. كنا نعقد جلساتنا ـ كأعضاء مؤسسين لهذا التجمّع، في مقر "جمعية الملتقى الفكري" في القدس. كانت النقطة الأولى على جدول أعمالنا هي وضع البرامج والسياسات الثقافية وسبل تنشيط العمل الثقافي الجماهيري والانفتاح على الوطن العربي. وبالفعل، فقد بادر هذا التجمّع إلى عقد "مهرجان الأدب والثقافة الأول" عام 1981، و"مهرجان الأدب والثقافة الثاني" عام 1982 في القدس، لمدة أسبوع حافل بالشعر والندوات والأيام الدراسية المخصصة للنقد الأدبي والفني. من خلال مشاركتي في هذين المهرجانين، توطّدت علاقتي بمعظم شعراء وأدباء فلسطين المحتلة عام 1948: أميل حبيبي وسميح القاسم ومحمد علي طه ومحمد نفاع وجمال قعوار وحسين مهنّا ومحمد حمزة غنايم ونبيه القاسم وفاروق مواسي، وغيرهم، الأمر الذي أتاح لي الفرصة للدخول إلى الوطن المحتل عام 48 والمشاركة في الحياة الثقافية والأدبية هناك. ذكريات زاخرة بالشعر والأصدقاء.. وأنهار العشق، فمن "باقة الغربية" في المثلث الشمالي إلى الناصرة في الجليل، إلى حيفا وعكا على ساحل المتوسط، انهمر الشعر من جديد وتألق الإبداع. صدر ديواني الثاني "داخل اللحظة الحاسمة" عن منشورات اليسار في باقة الغربية، لصاحبها الشاعر والصديق عبد الحكيم سمارة، هذا المناضل القريب من الروح، كان يطبع الكتب على نفقته الخاصة، ويقوم بتوزيعها، شخصياً، على المكتبات والمثقفين في المدن والقرى الفلسطينية في الضفة والقطاع وداخل فلسطين المحتلة عام 48. كنت رفيقاً له في جولاته الأسبوعية، وربما اليومية لتلك المناطق. عشرات الكتب الثقافية أصدرها، أو أعاد طباعتها، وبفضله عرفت الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ونجيب سرور. كنت أزوره، في بيته صباح كل يوم جمعة، نشرب القهوة ونقرأ صحيفة "الاتحاد"، لسان حال الحزب الشيوعي، ومن ثمّ ننطلق إلى رحاب الوطن. وكثيراً ما تعرضنا للاعتقال والاستجواب في مراكز الشرطة الإسرائيلية بتهمة ترويج كتب ممنوعة وعدم حصول "دار اليسار" على "ترخيص" بالنشر والطباعة من وزارة الداخلية الإسرائيلية. كان عبد الحكيم يرفض الحصول على مثل هذا "الترخيص"، فيتعرض للمضايقة والاعتقال. وأنا أواجه نفس التحدّي في طولكرم، يسألني رجال المخابرات عن سبب علاقتي المتينة بعبد الحكيم؟ فأجيبهم: الشعر فقط.
|
كانوا يعتقدون بوجود علاقة "تنظيمية" بيني وبينه، فيتساءل أحدهم بخبث: أنت عضو في "فتح" وهو عضو في "الحزب الشيوعي ـ راكاح" ما هو الرابط بينكما؟ فأجيبه الإجابة نفسها: الشعر. وأُضيف إنّ الصداقة التي تجمع شاعرين، كما هو الشعر، تتجاوز الأحزاب والتنظيمات. لم أر عبد الحكيم سمارة منذ ست سنوات، منذ بدء انتفاضة الأقصى، فالحواجز العسكرية والترابية وجدار العزل العنصري وظروف منع التجول، تحول دون رؤيته والتمتع بلقائه. في العام 1979، التقيت الشاعر المتوكل طه، للمرة الأولى، في جامعة بير زيت، وقتذاك كان طالباً في كلية الآداب، وفي "مهرجان التراث الشعبي" الذي نظمه مجلس الطلبة في حرم الجامعة، ألقينا القصائد، وتجاذبنا أطراف الحديث عن ضروريّات الفعل الثقافي والوطني.. وتفعيل دور الشعر في الجامعات الفلسطينية، وعلى الفور، باشرنا العمل على تنظيم الأمسيات الشعرية واللقاءات الأدبية في الجامعات والمعاهد، حيث امتدّ نشاطنا إلى جامعات الخليل وبيت لحم وأبو ديس والنجاح، برفقة الشاعرين عبد اللطيف عقل وعلي الخليلي. ومن خلال هذه الأمسيات، كنا نشعر أن الطلبة متعطشون لسماع الشعر الذي يلهب المشاعر والعواطف ويؤجج نار الثورة ضد الاحتلال. فعلى مدار سنوات، كتبنا للقدس والأسرى والشهداء والثورة، وغنينا لفلسطين الحلم والدولة. ومنذ ذلك الوقت، تعززت علاقتي الروحية بالمتوكل طه، فأصبح رفيق العمر والشعر والسجن.في العام 1986، صدر ديواني الثالث "خارطة الفرح" عن منشورات وكالة أبو عرفة في القدس، العديد من النقاد والأصدقاء كتبوا عن هذا الديوان، وظواهر التجديد فيه، من ناحية الأسلوب والإيقاع المعرفي ونسق اللغة. وفي مطلع العام 1987، عملتُ محرراً ثقافياً لصحيفة "الشعب" المقدسية، خلفاً للأستاذ عادل الأسطة الذي غادر إلى ألمانيا للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب العربي. عملت، جاهداً، على نشر النصوص الأدبية والشعرية الجادّة وتشجيع الناشئة، وإبداء الملاحظات على ما يرسلونه لي من مواد. وخلال تواجدي في القدس، كنت ألتقي المتوكل طه، بشكل يومي، حيث كان يعمل في المكتب الفلسطيني الذي تصدر، من خلاله، مجلة "العودة" السياسية الثقافية. كنا نلتقي لتدارس الوضع على الساحة الثقافية وأهمية توحيد الكتاب والأدباء الفلسطينيين في إطار نقابي يضم الجميع. وبعد مشاورات طويلة ولقاءات عديدة مع الكتاب والمثقفين في الضفة والقطاع، أُعلن في القدس في 30/7/1987 عن تشكيل "اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين" وانتخب المجتمعون الشاعر المتوكل طه رئيساً للاتحاد، في حين تمّ انتخابي نائباً للرئيس، والأخوة: عزت الغزاوي وجمال سلسع وسامي الكيلاني ومحمد أيوب وعبد الله تايه وجميل الحوساني، أعضاء في الهيئة الإدارية، بالإضافة إلى الأخت حنان عواد. وتم اختيار "القدس" جوهرة المدن مقراً للاتحاد. عملنا، بداية، على ضخ دماء جديدة للاتحاد، عن طريق استقطاب العديد من الكتاب ذوي الموهبة والحيثية الثقافية. كانت الفرحة تغمرني حيال هذه المبادرة العظيمة، فانصرفت أنا وزملائي لترتيب البيت الأدبي الفلسطيني، وإثبات وجودنا على الأرض، وفي غضون أشهر قليلة، تمكّنا من طباعة ونشر عشرات الكتب الموزعة ما بين الشعر والقصة والرواية والدراسة النقدية، وأولينا اهتمامنا خاصاً للنتاج الأدبي القادم من سجون ومعتقلات الاحتلال. كما بادر الاتحاد إلى تفعيل نشاطه في المدن والقرى والمخيمات، الأمر الذي أكسبه سمعة طيبة لدى أبناء شعبنا باختلاف شرائحهم الاجتماعية والسياسية. |
ولم تمض أشهر قليلة حتى اندلعت الانتفاضة الأولى، كان ذلك في 9/12/1987. أمواج بشرية تخرج إلى الشوارع متحدية جبروت الاحتلال. المظاهرات العارمة تعمّ الأرض الفلسطينية. الشباب والرجال والنساء ينصبون المتاريس ليمنعوا قوات الاحتلال من الوصول إليهم، ويرفعون الأعلام على الأشجار وأعمدة الكهرباء وأسوار المدارس والمؤسسات. مناضلون انتظروا طويلاً ليخرجوا من رحم المأساة لاستعادة هويتهم الفلسطينية. وبفضل إيمانهم العميق بالحرية، يفشل المحتلون في التقدم نحو مواقعهم المحصّنة بالغضب والإرادة وعشق الحياة، فينهزمون أمامهم.
الملثمون سادة الموقف، قادة لا يشق لهم غبار، كأنهم خريجو أكاديميات ومعاهد عسكرية عليا. في النهار يناورون كأنهم خبراء في استدراج العدو، وحين يتقدم، يمطرونه بوابل الحجارة والزجاجات الفارغة.. وقنابل المولوتوف. وفي الليل يرسمون الخطط وينفذونها كأنهم أساتذة في فنون الحرب الشعبية. كتبت لهم القصائد، وصغتُ لهم البيانات السياسية. كانوا يقرؤونها بواسطة الميكروفونات اليدوية ومكبرات الصوت في المساجد، ولم تمض ثلاثة أشهر على اندلاع الانتفاضة، حتى أقدمت السلطات الإسرائيلية على اعتقالي. ففي ليلة 17/3/1987م، حاصرت قوة عسكرية برفقة رجال المخابرات بيتنا في الحي الغربي من طولكرم، بدؤوا يطرقون على الباب الرئيسي ببساطيرهم وأعقاب بنادقهم، ثم اقتادوني، معصوب العينين ومكبّل اليدين، إلى معسكر الاعتقال في المدينة. ثلاثة أيام قاسية مضنية أمضيتُها في ذلك المعسكر، لم أعرف خلالها النوم، فأين أنام؟ وكيف يغمض لي جفن وأنا على هذه الحالة. كنت أميّز الأسرى المتواجدين معي، في الركن البارد المكشوف للمطر والريح، من خلال أصواتهم، فلا أستطيع رؤيتهم، ولا يستطيعون رؤيتي. كنّا نأتنس بأصواتنا وأغانينا ذات النبرة الخافتة. بعض الأخوة يغنّون لمرسيل خليفة وأحمد قعبور، فيما كنت أدندن أغنية الشيخ إمام: "اتجمّعوا العشاق في سجن القلعة". وبين الفينة والأخرى، كان جنود وحدة "جفعاتي" يتلذّذون بضربنا والتنكيل بنا وشتمنا بأقذع الألفاظ والشتائم. تعليمات صارمة أصدرها وزير الحرب الإسرائيلي السابق إسحاق رابين بتكسير عظام الفلسطينيين ونفيهم إلى معتقلات بعيدة عن أماكن سكناهم، ظناً منه أنّ هذا الإجراء سيجهض الانتفاضة ويقوّض أركانها. كانت وحدات "جفعاتي" و"جولاني" تنفذ هذه الأوامر بدقة فائقة، ليحصل أفرادها على الترقيات العسكرية المناسبة على حساب أيدي وأرجل ورؤوس الفلسطينيين المكسّرة. ثلاثة أيام من الظلام والجوع والعطش والإهانة. همس لي صديق أمضى في سجون الاحتلال خمسة عشر عاماً، وأفرج عنه في صفقة تبادل الأسرى عام 1985، وهو يرتجف من البرد ويشكو من آلام في المعدة: ـ هذه الأيام الثلاثة تعادل، في مرارتها، تلك السنوات. فأجبته، مهدّئاً من روعه: ـ اشتدي أزمة تنفرجي. |
في اليوم الرابع من الاعتقال، تم نقلنا إلى سجن "عتليت" القريب من حيفا، بواسطة حافلة عسكرية. وفي خيام "عتليت" التقيت مئات الأصدقاء من الأسرى السابقين وحديثي الأسر.
كنت أتأمل "الكرمل" و"عين حوض" و"عين غزال" وأشم رائحة البحر. من قلب الخيمة المشرعة لهواء حيفا، كتبت بياناً لذكرى "معركة الكرامة" و"عيد الأم" وأقمنا حلقات الدبكة وأنشدنا أغاني الثورة الفلسطينية، غير آبهين بتهديدات الجنود ونداءاتهم لنا بالتوقف. قضينا، في سجن عتليت، ثمانية عشر يوماً، فوجئنا بعدها بقرار نقلنا إلى معسكر "كتسيعوت" أو "أنصار 3" في النقب. ومرة أخرى بدؤوا بتعصيب عيوننا وتقييد أيدينا بالسلاسل البلاستيكية التي تحبس الدم في الكفّين، وتترك آثاراً مؤلمة لفترة طويلة من الوقت. وانطلقت الحافلات العسكرية "من عتليت" إلى "النقب" جنوب فلسطين. في الطريق طلب مني الجنود أن أشتم قادة المنظمات الفدائية، واحداً واحداً، فرفضت بالطبع، ثم سألته إذا ما كان هو على استعداد لشتم إسحاق شامير ـ كان رئيساً لوزراء العدو آنذاك ـ فردّ عليَّ بغضب واستغراب: ـ هل تضع شامير في مصافّ قادة إرهابيين؟ فأجبته: ـ ليسوا إرهابيين. إنهم ينادون بحقوق شعبهم المُعترف بها دولياً، والعودة إلى ديارهم. قال لي، مستنكراً، وبصوت صارخ: ـ بل إرهابيون، إرهابيّون، اشتمهم جميعاً وإلاّ حطمتُ رأسك. فرفضتُ، مرة ثانية، بالطبع. بدأ يلكُمني بكلتا يديه على رأسي ووجهي وظهري، حتى شعرتُ أنني أكاد أختنق. وأنّ الدم ينزف من أنفي وفمي. فارتميتُ على الأرض مغشياً عليّ من شدّة الضربات. أمام معتقل "أنصار 3"، عدتُ إلى الحياة مرة أخرى، ولكنني كنتُ منهك القوى، لا أقدر على الاحتمال. وعلمتُ من بعض الأسرى، أن الجنود طلبوا من الأسرى في الحافلات الأخرى ما طلبوه مني، ولما كان ردّهم على الجنود الرفض القاطع، بالطبع، لاقى الكثير منهم ما لاقيته من عنفٍ وهمجية. أفرَغَنا ضباط معسكر "أنصار 3" في الخيام الجاهزة، مسبقاً، للأسرى. الخيمة الواحدة كانت تتسع لثلاثين أسيراً. أمّا المعسكر، بالكامل، فهو مقسم إلى ثلاثة عنابر، هي أ، ب، ج. وكل عنبر منها يحتوي على خمسة أقسام. عنبر أ وعنبر ب، كانا مخصصّين لأسرى الضفة الغربية، أما عنبر ج، فكان مخصصاً لأسرى قطاع غزة. كان القسم الواحد من هذه العنابر الثلاثة يحتوي على ثماني خيام. في خيمة رقم 30 من قسم 5 في عنبر أ، بدأ الشعر متحفزاً من جديد، وخلال الثمانية أشهر التي أمضيتُها في ذلك المعتقل الرهيب، أفرغتُ شحناتي الكهربائية الشعرية على الورق والرمل لتدفئ القلوب من لسع البرد ولسع الرصاص والأفاعي. القصيدة الأولى التي نظمتها في تلك الخيمة المحاطة بالأسلاك الشائكة، كانت قصيدة "في البدء كان الحجر"، تحدثت فيها عن دور الحجر في مقاومة الغزاة، أقول، في مطلعها: "في شهر كانون يجيء لنا الخبر الجوُّ مشحونٌ يبشر بالمطر.. مطرٌ على الطرقات يجرف ما تبقّى من خطر مطرٌ ويحتدم الشّرر.. طفلٌ يعبّئ بالحجارة صدرَهُ وصبية تُرخي ضفيرتها لتهتفَ باسم عاشقها القمر.. حجرٌ وينهار التتر حجرُ وتختلط الأمور على موائدهم وتهتزُّ الفِكَر.. حجرٌ وتُرفع رايةً حجرٌ وتعلو هامة حجرٌ.. وتسقط هيبة الغازينَ في وحل الحُفَر". |
وعلى هذا النموذج ـ الأساس، انتحى شعري منحىً جديداً من الإشارات الواقعية إلى فضاءات مفتوحة. في معسكر "أنصار 3" نظمتُ العديد من القصائد الساطعة بنور الانتفاضة، وألقيتُها أمام الأسرى في الخيام، وعلى مسمع ومرأى جنود الاحتلال في باحات المعسكر. كان الأسرى يحفظون قصائدي ويقرؤونها فيما بينهم. وحين ضبط الجنود إحدى القصائد في حملات التفتيش المتكررة، استدعاني المدعو "أبو رامي"، ضابط المخابرات الإسرائيلي المسؤول عن الأمن في المعسكر، ليقرأ لي إحدى القصائد ويتهمني بتحريض الأسرى، والتخطيط لتنفيذ خطوات نضالية تصعيدية ضد إدارة السجن. أنكرتُ أنني صاحب القصيدة. وبالرغم من نهجه الخبيث معي لكي أعترف "بذنبي"، إلاَّ أنني أمعنتُ في الإنكار، فكون اسمي مذيّل في نهايتها، لا يعني أنها لي. فالخط ليس خطي، وبالتالي أنا معفيٌ من المسؤولية عنها. وفي الحال، بدأ القناع يسقط عن وجهه، كاشفاً عن ملامح صهيونية بحتة: ـ يظهر أنّ المعاملة "الطيبة" لا تنفع مع أمثالك. خرج من الغرفة، وبعد دقائق، عاد مصطحباً سبعة من الجنود، أمرهم بضربي ورشّ الماء على وجهي، واقتيادي إلى الزنزانة. في الطريق إلى الزنزانة المجاورة لقسم 5، والبعيدة لمسافة عشرة أمتار عن خيمتي، ظل ضابط المخابرات يهددني ويتوعدني بتمديد مدة اعتقالي الإداري. أمضيتُ في الزنزانة أسبوعاً تحت وطأة العذاب وسوء المعاملة، سبعة أيام في العتمة معصّباً ومكبلاً لا أرى النور إلاَّ في أوقات تناول الطعام، الفطور والغداء والعشاء. كان طعام الفطور عبارة عن مثلث جبنة صغيرة وملعقة من مربّى المشمش أو التوت وأربع حبات من الزيتون وثلاث قطع صغيرة من الخبز وكأس من الشاي. أما الغداء فهو قطعتان من اللحم المعلب أو المرتديلا وثلاث قطع من الخبز وحبة تفاح أو حبة برتقال واحدة. أمّا العشاء فهو عبارة عن فول مدمّس أو عدس وكأس من الشاي. في جحيم الزنزانة، أخذتُ أرتل مقطعاً من قصيدة جديدة، ذلك أنّ حالتي لا تسمح لي بالكتابة: "من دمي ينبثق الفتح ويعلو الانتصارْ من دمي يخرج مليون نهارْ.. فاقتلوا المرأة في منزلها واخنقوا بالغاز شيخاً طاعناً في السنِّ يا أحفاد هولاكو التتارْ.. وأطلقوا النار على كل الصغارْ لا غضاضَهْ.. إننا ميلاد شعبٍ ردّ للكون بياضَهْ.. إننا ميلاد شعبِ الانتفاضَهْ..". بعد خروجي من الزنزانة، أكملتُ القصيدةَ وأسميتها "الميلاد". في حالة الكتابة الشعرية، كنت أشعر بأني أقدم جزءاً من واجبي تجاه أبناء شعبي الذين يواجهون بصدورهم العارية إلاَّ من الإيمان بالله، الآلة العسكرية الإسرائيلية. فالحجر الفلسطيني هو السلاح الوحيد الذي يمتلكه المقاومون في تلك الحرب غير المتكافئة، ولكنه أكثر مضاءً من السيف. تَتَنزّل الحجارة على رؤوس قوات الاحتلال كأنها طيور الأبابيل، فتتراجع هرباً من "سجيّل" الأبطال الذي لا يخطئ الهدف. أليس هو الحجر الفلسطينيّ المقدّس؟ ألم يتحّول إلى رمز؟ أليس جديراً بأن تكتب عنه القصائد وتُغنّى له الأغنيات؟. كنت أتمثَّل مشَهد المقاومة ـ في ذهني ـ قبل أن أهمّ بالكتابة، فتخرج القصيدة، كأنها صورة حيَّة لما يجري على الأرض |
وحين تغير الشرطة العسكرية الإسرائيلية على أقسام السجن، مثيرةً الفوضى والإزعاج والقلق، كنتُ أحرص على تخبئة أوراقي في الرمل خشية أن يعثروا عليها. كانوا يحرصون على تفتيش الأسرى بشكل دقيق، بعد أن يخرجوهم من الخيام إلى ساحة القسم الرملية، ثم يتجهون إلى الخيام لتفتيش الفرشات والأغطية والحمّامات، فلا يعثرون على شيء. كان الهدف من اقتحام الأقسام هو تذكير الأسرى، بأنّ الشرطة العسكرية غير غافلة عنهم، وأنّ الأسرى في "متناول يد" تلك الشرطة التي ترصد تحركاتهم عن طريق الأبراج العالية المثبتة حول الأقسام. كان الرمل هو المخبأ الوحيد الأكثر أمناً في مثل هذه الأوضاع. أُخبّئ القصائد ثم أضع حجراً فوقها لأحدّد الموقع. هذه العلاقة بيني وبين الرمل تطورت إلى علاقة عاطفية من نوع خاص، فالرمل ملجئي الوحيد وكاتم أسرار قصائدي. ثمّة أشياء أخرى تغصُّ بها الذاكرة. قصص وحكايات ومواقف وأحداث تتقافز أمامي تعيدني إلى أحضان الرمال التي ألفيْتُ فيها عراقة التاريخ وأمجاد الماضي السحيق. عندما قام وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، إسحاق رابين، بزيارة "تفقديّة" إلى "أنصار 3"، منتصف عام 1988، ليطّلع من خلالها على الأوضاع العامة للأسرى، طلبنا منه تطبيق اتفاقية جنيف التي تنص في بنودها، على إيجاد أماكن اعتقال وسجون قريبة من أماكن سكنى الأسرى، فرفض بشكل قاطع، ذلك أن هذا الإجراء التعسفي يقع في صميم سياسته الرامية إلى إبعاد الأسرى عن أهلهم وأقاربهم وعدم السماح لهم بالزيارة. قلت لرابين: ـ أردتَ نَفْينا إلى الصحراء كعقاب لنا، ولكنك بخطوتك، هذه، عر ّفتنا على جزءٍ عزيز علينا من وطننا، لم نزره أو نتعرف عليه من قبل. فتجّهم وجهه وغادر الخيمة. ستة أشهر مرت علينا دون أن نرى أحداً من الأهل، الأمر الذي كان يؤرقنا ويقضُّ مضاجعنا. ستة أشهر في الصحراء مقطوعون عن العالم الخارجي، فلا صحيفة ولا راديو نعرف بفضلهما أخبار الأهل والوطن. المنفذ الوحيد لنا هم المحامون الذين يأتون لزيارتنا ويزودوننا بالأخبار، وكذلك الأعضاء العرب في الكنيست الإسرائيلي الذين واظبوا على زيارتنا والاطمئنان علينا، مثل المرحوم الشاعر توفيق زيّاد وعبد الوهاب دراوشة وطلب الصانع. كانت قصائدي تصل إلى صحيفة "الاتحاد" ومجلتي "الجديد" و"الغد" في حيفا بواسطة توفيق زيَّاد، فتلقى الرعاية والاهتمام والنشر في أماكن بارزة. ذات زيارة قال لنا زَيّاد: ـ لا أريد أن أمنحكم دفعة معنويّة لتصمدوا وتقاوموا، بل أريد أن أستمدّ منكم قوتي المعنوية. وأضاف: ـ اصمدوا فالفجر قريب. قلت له: ـ أشعارك الثورية تعزّز فينا روح الصمود، وقرأتُ لـه ما أحفظ من قصيدته: "على صدوركم باقون كالجدار". وعدنا إلى الخيام لمواصلة مهامنا. بدأنا بترتيب حياتنا التنظيمية والفكرية والسياسية والأدبية، كل الفصائل الفلسطينية أسهمت في خلق واقع جديد للأسرى، وقامت لجان العمل الثقافي بأخذ دورها في تعليم الأسرى اللغتين الإنجليزية والعبرية، وقواعد اللغة العربية. وقد تخرج في هذه الدورات العديد من الأسرى الذين بدؤوا يتقنون لغات أخرى. العديد من الأخوة والرفاق قاموا بشرح الفكر الصهيوني والماسوني، فيما أنجز آخرون الدراسات في الفكر القومي والماركسي والإسلامي وميثاق منظمة التحرير الفلسطينية. كنت أهتم بالحديث عن ثقافة شعبنا الفلسطيني، قديماً وحديثاً، فهذا الموروث الثقافي الجميل يجب الحفاظ عليه وتطويره، لمواجهة سياسة الاستلاب والتبديد التي تمارسها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بحق ثقافتنا، وإمعانها في سرقة تراثنا وتزييفه. أخوة آخرون أنجزوا دورات في محو الأمية لبعض الأسرى. تحوّل "أنصار 3" إلى جامعة تمنح "الدرجات" العلمية في كافة التخصصات. هذه الثورة الثقافية خلفت علاقات أخوية ونضالية متينة بين الأسرى، وحتى بين الفصائل التي تختلف سياسياً، فيما بينها. قلت لبعض الأخوة في الفصائل: ـ نريد أن يندم الإسرائيليون على اعتقالنا. كان هناك أساتذة جامعات وسياسيون ونقابيون وأدباء وشعراء، اتحدوا، جميعاً، لخلق مجتمع فلسطيني من نوع خاص، يضم كافة شرائح المجتمع، العمال والفلاحين والطلاب والمثقفين الثوريين. فقد عرفت خيام النقب د. عبد الستار قاسم ود. جاد إسحاق ود. محمود أبو الرب ود. سلمان سلمان أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعة، والشعراء والكتاب المتوكل طه وسامي الكيلاني وجمال بنورة ووسيم الكردي وعبد الناصر صالح. |
شهدت خيمة رقم 30، ميلاد "المجد ينحني أمامكم" وهو مجموعة شعرية ترتقي في انسيابيتها إلى مستويات دلالية تتقاطع مع إيقاع الانتفاضة، وقد صدرت عن منشورات "اتحاد الكُتّاب الفلسطينيين" في القدس العام 1989. وأنجز الصديق الشاعر المتوكل طه مطولته الشعرية "فضاء الأغنيات"، حيث نلنا على هذين العملين جائزة الشهيد عبد الرحيم محمود الشعرية عام 1990. وبالإضافة لدوري الثقافي والأدبي في توعية الأسرى وربطهم بماضيهم وتراثهم الشامخ، تم انتخابي عضواً في اللجنة المركزية لحركة فتح في معتقل "أنصار 3" وممثلاً للحركة في اللجنة النضالية العليا التي تضم ممثلين لكافة الفصائل الفلسطينية، هذه اللجنة أصدرت قراراً بالإضراب عن الطعام لأربعة أيام بهدف تحسين "شروط" الاعتقال وظروف السجن، ولعبت دوراً مميزاً في توعية الأسرى وطنياً وتعميق انتمائهم لقضية شعبهم.
جاء هذا التكريم من قبل الأخوة في "فتح" بناء على معطيات كثيرة، منها ما عرفوه عني من صدق وأمانة وحرص على وحدة الحركة، وابتعادي عن الأنانية والانتهازية والمطامح الشخصية. فليس من حق المناضل استغلال الآخرين والمتاجرة بدم الشهداء وأنات الجرحى وعذابات الأسرى، وإن فعل ذلك، فإنه يتخلى عن منظومة القيم والأعراف الاجتماعية والأخلاقية التي يتحلى بها المناضل. وبعد انتهاء مدة اعتقالي الإداري، عدت إلى طولكرم، محمّلاً بالشوق والشعر.. وكنوز الصحراء. محطتي الثانية بعد طولكرم، كانت جامعة النجاح الوطنية في نابلس. عدت للتدريس في كلية النجاح المتوسطة، ومع طلبتها وإدارتها وهيئتها التدريسية عشت أربع سنوات. وعند قدوم السلطة الفلسطينية إلى أرض الوطن، في الضفة والقطاع، عام 1994، وتشكيل وزارة الثقافة، طلب مني الصديق الأستاذ يحيى يخلف، وكيل الوزارة آنذاك، العمل معه في الوزارة، فلم أتردد لرغبة عظيمة في نفسي، مردّها إكمال المشروع الثقافي الذي بدأتُ فيه قبل مجيء السلطة، ومنذ ذلك الحين، لم أنقطع عن مزاولة عملي كمدير عام في وزارة الثقافة لمحافظات شمال الضفة الغربية. وبين السجن والجامعة واتحاد الكتاب والإقامة الجبرية في طولكرم، مياه كثيرة جرت في النهر. بدأ الشعر ينهمر بعد انقطاع طويل، فبعد صدور مطولتي الشعرية "نشيد البحر" عام 1990 عن منشورات دار النورس في القدس، توقفت عن الكتابة لإعادة تقييم تجربتي الشعرية، وبعد قراءة معمقة في الشعر والرواية والمسرح، استوفى الشعر شروطه وإيقاعاته ومعياره الجديد، حيث صدر ديواني "فاكهة الندم" عن منشورات بيت الشعر في رام الله عام 2000 وأُعدُّ الآن، لإصدار مجموعة أخرى، سترى النور خلال فترة قريبة. *ما هي الدراسات التي تحدثت عن شعرك، وماذا استوقفك ولم تكن منتبهاً له في هذه الدراسات؟ ** هناك دراسات كثيرة تناولت أعمالي الشعرية، لكن معظمها لكُتّاب من داخل الوطن؛ فبالإضافة إلى أهمية ما كتبه الأستاذ صبحي شحروري من دراسات تتماهى مع النص الشعري، كتب د. خليل عودة عن صورة البحر في مطولة "نشيد البحر" والظاهرة التموزية في ديوان "فاكهة الندم" والأسلوبية في ديوان "المجد ينحني أمامكم" وقد تطرق من خلال هذه الدراسات إلى هذه الملامح الفنية البارزة في أعمالي، وهو أمر ملفت للنظر إذا ما تمت مقارنته مع دراسات أخرى اتسمت بالسطحية. كما أعدّ الأستاذ إبراهيم رجب رسالة ماجستير عن مجموعاتي بعنوان: "البنية الصوتية ودلالاتها" تمت طباعتها في غزة عام 1995 وهي دراسة تهتم بالنبر الصوتي وتأويله. أما من ناحية النبوءة في أعمالي الشعرية، فقد أصدر الأستاذ محمد مدحت أسعد كتاباً نقدياً بعنوان "نبوءة الكلمات في شعر عبد الناصر صالح" تناول فيه كل ديوان على حده، مبيّناً فيما إذا كانت نبوءة القصائد قد تحققت أم لا من خلال النظرة البنيوية الاجتماعية. ولن أنسى اهتمام وحرص الأستاذ طلعت سقيرق، من دمشق، بالشعر الفلسطيني داخل الوطن المحتل، وكسره للحواجز التي أعاقت وصول شعرنا إلى العالم العربي، وخير دليل على صدق هذا القول مؤلفاته النقدية: "عشرون قمراً للوطن" و"شعر الانتفاضة في داخل الوطن المحتل" و"الشعر الفلسطيني في جيله الثاني". * هل استفدت من مسيرة الشعر العربي.. كيف؟ **كل قصيدة يقرأها الشاعر هي تجربة بحد ذاتها، مثل أي قصيدة يكتبها. والشعر أصلاً، عملية معقدة لدرجة لا نستطيع أن نقول كيف... الشعر امتلاء أكثر منه عملية تركيبية، والامتلاء يتجدد دائماً بتجدد التجربة التي هي استكمال دائم لهذا الامتلاء. إن قراءتي المتكررة لشعر روّاد الحداثة أمثال البياتي والسياب وعبد الصبور، أسهمت في تغذية منابعي الشعرية، ودفع سفينتي لكي تبحر بحثاً عن مياه جديدة حتى لا تغرق في بحر التكرار. الشعر الآن، هو الهواء الذي أتنفسه، ولا أستطيع أن أجد نفسي خارجه، ذلك أن وجودي يعتمد على ضرورة الشعر وتألقه في حياتي. وعلاقتي بالقصيدة هي علاقة زواج بالطريقة الكاثوليكية. * برأيك إلى أين وصل دور الشعر؟ ** سيظل الشعر ديوان العرب، مهما نشهد الآن من تراجعات وإخفاقات شعرية بدعاوى كثيرة. القرن العشرون كان قرناً شعرياً بالكامل. صحيح أن النص الروائي يتقدم على النص الشعري لابتعاد الشعر عن التراث والأصالة. والشعر في رأيي، لا ينمو ولا يأخذ مجده إلاَّ في ظل خط صعود قومي. الآن نحن في مرحلة الهزائم. سنوات الستينيات كانت تزدهر بالشعر بحيث لا نستطيع أن نغفل تأثيره في الوجدان القومي العربي. لقد تطورت الأمة العربية في لغتها ووجدانها وفكرها مرتكزةً على الإبداع الشعري. في الوطن العربي شعراء ولدوا خارج رحم الشعر وقصائد كثيرة حملها فارغ. أعتقد أن الرواية تتسيّد الأجناس الأدبية ولكنها لن تتغلب على الشعر بالضربة القاضية. أعتقد أن الشعر سيأخذ أشكالاً جديدة، كما أن الرواية، نفسها، يمكن أن تتضمن الكثير من روح الشعر أو الحوارات الشعرية. على سبيل المثال، نلحظ أن السيرة الذاتية الروائية قريبة جداً من الشعر، والشعر كذلك يمكن أن يأخذ مناحي متعددة لكن لن يموت، وسيبقى سيد الإبداع الأدبي في كل الأزمان. |
الساعة الآن 09:23 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |