![]() |
كان أبو علاء، جيراننا لصق الدار، رئيس عرفاء شرطة، مأزوماً نفسياً وكئيباً غالب الوقت. كل يوم خميس يذهب عصراً الى إحدى حانات بغداد، يشرب ثم يعود الى بيته سكران فيبدأ بتكسير كل ما هو مصنوع من الزجاج، بحيث تمتلىء أرضية البيت، كل ليلة خميس، بشظايا الزجاج المتناثر في جميع الزوايا. كنا نحن، جيران أبي علاء، نراه حين يخرج من بيته عصر الخميس، وقوراً مرتدياً بدلته الرمادية، ملمعاً شعره وسابلاً شاربيه الكثين. وكنا نراه عائداً في المساء يترنح ويستند على الجدران الى أن يصل الى داره فيرفس باب بيته رفساً شديداً حتى تسارع زوجته لفتحه قبل أن يتحطم. أما نحن الجيران، شيباً وشباباً، أطفالا ونساء، فقد كنا نبقى صامتين بانتظار الزوبعة.
يبدأ المشهد هكذا: سعال متواصل تقطعه نتف من شتائم موجهة لا على التعيين… ثم أصوات أحذية وشحاطات وأشياء أخرى ترتطم بالجدران.. بعدها يتصاعد لغط كلام أشبه بالعتاب لكنه متشنج ومكبوت. وماهي إلا دقائق.. حتى ينبثق صراخ متوسل مصدره أم علاء. الكلام نفسه يتكرر: لخاطر الله أبو علاء… لخاطر عيون أولادك… ما ظل عدنه شي ينكسر.. والله هاي الصحون اشتريتهن بالدين… عند هذه النقطة تبدأ استعداداتنا، نحن جيران أبي علاء، يذهب أبي، ثم نلحق به، أخوتي وأنا فنقف جميعاً بجوار الحائط الذي يفصل بيتنا عن بيت أبي علاء… استعداداً للقفز عند الضرورة. ومع أول دزينة من الصحون تبدأ تتكسر بعد ارتطامها ببلاط غرفة أبي علاء، تصرخ أم علاء بكل صوتها: يا ويلي دخيلك أبو عبد الواحد. وماهي إلا لحظات حتى يكون أبي، أبو عبد الواحد، قد أصبح في باحة دار أبي علاء. وكما يهبط المظليون من السماء، نهبط من سياج الحائط، الواحد تلو الآخر فنحتل الدار.. أبي وأخي الكبير يمسكان بأبي علاء ويدخلان معه في عراك لكي يخلصا من بين براثنه بقية الصحون وكاسات الشاي، وأنا وأخي الآخر نذهب الى غرفة الأولاد لكي نهدىء من اهتياجهم ورعبهم وصراخهم. تستمر الجولة نحو نصف ساعة يهدأ أبي علاء شيئاً فشيئاً، وتهدأ معه الشتائم الموجهة الى أم علاء وأجدادها وأعمامها وأخوالها، من دون سبب معلوم.. ثم يجلس على الأرض ويغطي وجهه بكفيه ويذهب في نشيج حار متواصل يخلع القلب. عندها نبدأ، نحن جيران أبي علاء، بالتسلل من بيته الواحد تلو الآخر وهذه المرة من باب الدار وليس عبر الحائط، شاعرين بالأسى والخجل. هذه هي سهرتنا كل خميس لا يتغير فيها شيء سوى غياب البعض منا أحيانا، وهو الآخر لا يغير من المشهد شيئاً، فأبي، الذي لا يخرج من البيت إلا عند الضرورة، هو من يتكفل بالإمساك بأبي علاء عندما يبدأ يهيجانه والبقية يتولاها الآخرون.. ومع مرور الأيام صرنا نحرص جميعاً على أن لا نغيب مساء الخميس عن البيت، حتى أن أبي أنبني مرة لأنني غبت عن الدار في واحد من الخميسات قائلاً: "يعني ماكو يوم غير الخميس تروح تسهر بيه؟". وفيما بعد علمت أنني لست وحدي من كان غائباً في ذلك الخميس، بل أخوتي أيضاً، الأمر الذي جعل أبي يقوم بفك الاشتباك وحيداً.. وكانت الخسائر في ذلك المساء كبيرة جداً، إذ ليست الصحون والكاسات فقط ما تناثر على الأرض، بل الطناجر المليئة بالطعام والمروحة الحديدية التي (تفصخت) بعد ارتطامها بالحائط. تلا ذلك، العبث بصناديق الملابس التي رميت من الشباك الى الشارع، وتمزيق ثوب أم علاء.. وأخيراً شتم الجميع بما في ذلك أبي (أبو عبد الواحد). بعد يومين أو ثلاثة أيام من ذلك الخميس الحزين، الذي قيل لي، فيما بعد، إن أبا علاء، ركل فيه زوجته فأخرجها من المطبخ مثل كرة، ثم رماها بصحن كبير تكسر على رأسها وتناثرت شظاياه في كل الاتجاهات، التقيت بأبي علاء تحت جدارية فائق حسن، في حديقة الأمة وسط بغداد. كانت مصادفة غريبة أن التقي به وهو في قمة الصحو، وقوراً وكئيباً، ملمعاً شعره وسابلاً شاربيه ومرتديا بذلته الرمادية ذاتها. وقف حين اقتربت منه وقال في ما يشبه الاعتذار عن قاموس من الأخطاء: أخي جمعة… تعال أبوس رأسك.. وإذا أردت أبوس حذاءك… لأنني تسببت لكم بما يكفي من الإزعاج… قاطعته خجلاً: استغفر الله أبو علاء.. أنت مثل أخي الكبير وكل ما حصل لا يستأهل اعتذارك هذا. قبلني وقبلته وكان يكاد يبكي، أو إنه بكى فعلا، ثم تركته يعود ليجلس على المصطبة في حديقة الأمة وذهبت. بعد أيام من ذلك اللقاء المؤثر، وكنت عائداً الى البيت في وقت متأخر، وجدت أمي جالسة في باب الدار، على غير العادة، فتعجبت، قالت لي، قبل أن اسألها: أبوك أخذ أم علاء للمستشفى، وأبو علاء أخذوه الشرطة. |
أقمت، خلال الثلاثين عاماً الماضية، علاقات مع نساء كثيرات، بعضها كان مجرد صداقات عابرة، وبعضها الآخر كان أبعد من ذلك. وعلى العموم أتيح لي أن أتبادل القُبل مع غالبية من أقمت معهن علاقة عاطفية.
يختلف طعم هذه القُبل من واحدة الى أخرى، وفقا لطبيعة ونوع العلاقة، أو تبعاً لحساسية الواحدة منهن. وأحياناً تبعاً لطبيعة المكان، بيتا كان أم شارعاً مظلماً، أم حديقة، أم زاوية مظلمة تحت درج بناية. وإن شئنا الدقة يمكن القول أن لكل قُبلة طعمها الخاص. فهناك قبلة طائرة تشبه وخزة الدبوس، لذيذة لكنها سريعة الذوبان. وأخرى هادئة مليئة بالحنان والرقة، وهناك قُبلة ساخنة تغور في أعماق الحواس فتحدث لذة لا توصف. وكما يقول التاويون فإن للقُبلة، ثلاثة ينابيع، الأول يدعى زهرة اللوتس، حيث يتفجر سائله من فتحتين قائمتين تحت لسان المرأة، وهذا السائل يجري بغزارة عند المداعبة، وهو شفاف وذو فائدة عظيمة. والينبوع الثاني وسائله كالثلج الأبيض ينفجر من النهدين، لونه أبيض وطعمه حلو، ومن فوائده تنظيم الدورة الدموية لدى المرأة والرجل، كما أنه يبعث الراحة في الجسد والروح. أما الينبوع الثالث ويعرف بإسم الفطر الأرجواني، أو مغارة النمر الأبيض، فسائله لزج ويدعى زهرة القمر، وهو لا ينفجر أو لا يجري إلا بعد أن تفتح القصور جناتها وتخفت الأصوات حتى تصبح همساً. على أية حال ليس موضوعنا أية قبلة وإنما تلك القبلة، التي لم تتكرر طوال الثلاثين سنة التالية من حياتي. وقبل أن نتحدث عن القبلة لابد من الحديث عن صاحبتها. ففي الصيف ننام على سطح بيتنا، كما هو حال غالبية العراقيين، هرباً من الحر اللاهب، وفي صباح من الصباحات، وكنت أصحو متأخراً دائماً، فلا أجد سواي على السطح، لاحظت أن هنالك فتاة على سطح الدار المقابلة لنا، تتأخر، هي الأخرى، عن النهوض من فراشها. دفعني الفضول وأشياء أخرى، الى النظر إليها من جدار سطحنا فوجدت أنها، هي الأخرى، تسترق النظر نحوي بدوافعها الخاصة. توالت الأيام والصباحات المتأخرة، فتحولت النظرات المتبادلة الى تحايا صباحية. ثم الى ابتسامات ووشوشات وإشارات بالأيدي. وتطور الأمر بعد ذلك، فكنت، حين اذهب الى عملي أو أعود منه، تنتظرني تلك الفتاة وراء الباب، الذي تتركه موارباً، فألقي عليها التحية همساً وتردها بتحريكة من شفتيها.. ولمناسبة الحديث عن الشفاه لابد من الإشارة الى فرادة شفاه تلك الفتاة، فهي أشبه بحبتي كرز تميلان الى حمرة شفافة.. منذ اليوم الأول الذي مررت به بجوار بابها الموارب سحرتني تلك الشفاه الى درجة أنني كنت أتلمض بعد أن أتجاوز باب بيتهم. في مرة من المرات، وكنت قادماً من عملي ظهراً، رميت لها من شق الباب برسالة صغيرة مطوية طياً فالتقطتها فوراً وأغلقت الباب. كتبت لها في الرسالة، أو القصاصة الصغيرة، كلمات حب غاية في الرقة، وطلبت منها أن نلتقي في مساء ذلك اليوم.. كان الطلب صعب التحقيق بطبيعة الحال، بسبب الأجواء المحافظة السائدة من جهة وانعدام وجود أماكن لمثل هذه اللقاءات في المدينة من جهة ثانية. ولهذا فقد هددتها بأنني سأزعل، ولن أنام على السطح، ولن أمر من أمام باب بيتهم، إن لم تلب طلبي باللقاء. انتظرت المساء بفارغ الصبر والحيرة، فقد كنت شبه متأكد من أنها لن تأتي، لكن أملاً خفياً مدعوماً بتهديداتي، كان يداعب مشاعري بأنها ستفعل ذلك. كنا نسكن عند أطراف المدينة وكانت البيوت والشوارع العامة الضاجة بالحركة وبالمحلات والدكاكين، تقع كلها على يمين بيوتنا، أما على يسارها فكانت هناك فسحة واسعة، خالية من البناء، تحاذي الشارع العريض الفارغ أيضا من أية حركة. ومما زاد في خلو هذا الشارع، نصف المضاء وشبه المظلم، أن تلك الأيام كانت أيام عاشوراء. ولأن مجالس العزاء الحسينية تقام في الجهة الأخرى من المدينة، فقد كان الناس يذهبون الى تلك الجهة، فلا تبقى في جهة شارعنا الموحش، سوى الكلاب السائبة والقطط الجائعة. في هذا الشارع كان موعدي المؤمل. بعد أن هبط المساء، كنت قد ارتديت ملابسي وتعطرت وخرجت لأقف بجوار بيتنا منتظراً. وماهي إلا دقائق حتى تحققت المعجزة العاطفية، فقد جاءت متلفعة بعباءتها السوداء لا يظهر منها سوى عيناها وأنفها. سرت متقدما عليها خطوات حتى بتنا بعيدين بعض الشيء عن بيوتنا، فتقاربنا وكاد جسدانا أن يتلامسا لولا حذرها الزائد… تكلمنا كلاماً لا أتذكر منه غير عبارات المجاملة المصحوبة بالخوف والرعشة… خوفها هي ورعشتي أنا، فقد كان في روحي وعقلي هدف واحد من ذلك اللقاء هو تقبيل ذينك الكرزتين اللامعتين بالحمرة الشفافة. اقتربت منها أكثر حتى شعرت بأنفاسها تلفع وجهي. كانت خائفة وكنت مندفعاً فأمسكت بخصرها بكلتا يدي وسحبتها فانضغط نهداها الصغيرين على صدري. كانت تصدر لهاثاً أشبه بلهاث النائم. حاولت أن تدفعني ثم تمسكت بي بقوة فاندفعتُ مقبلاً شعرها وجبينها ورقبتها، فأحسست بأن جسدها كله صار ثقيلاً بيدي، وأخذت ترتجف ويزداد لهاثها… ضغطت على خصرها مرة أخيرة وقبلتها من شفتيها قبلة عميقة، شعرت معها، وكأنني غبت عن الوعي. وما أن صحوت حتى وجدتها وقد انسلت بين يدي وسقطت على الأرض… فوجئت وخفت، حاولت أن أساعدها على النهوض فوجدتها في حالة إغماء حقيقية… ازدادت مخاوفي فرحت افرك لها يديها وأتوسلها أن تنهض… دام الأمر بضع دقائق حتى عادت الى الوعي فنهضت وهي في شبه غيبوبة. أوصلتها الى مكان قريب من بيتها وتابعتها حتى دخلت، ومنذ ذلك المساء قررت أن لا أعود لرؤية تلك الفتاة مرة أخرى… وللمناسبة كان اسمها زنوبة |
في الخمسينات، وحتى الستينات لم تكن هناك آلات كتلك التي نراها اليوم لتزفيت الشوارع، ولهذا كان العبء الأساسي يقع على (القيارة) وهم عمال مفتولي العضلات يمسكون بألواح مستطيلة من الخشب، أو بلوح واحد طويل يتوزعون للإمساك به، كل من طرف، ويقومون بجرف القير، كما تفعل الآلة الضخمة الآن، حين يرمى في جوفها القير فتأخذ برصفه وتوزيعه على المساحة المطلوبة، قبل أن تمر عليه الحادلة الثقيلة لتسويته بالأرض. عندما كنا نعود من المدرسة، في تلك الأيام، كنا نتوقف طويلا لمشاهدة عمال تزفيت الشوارع، وخاصة علي القيار، أحد هؤلاء العمال وهو يقوم بعملية التزفيت بمفرده ماسكاً بلوحه الخشبي الطويل والضخم جارفاً به القير الملتهب في عز الظهيرة. ماكان يستوقفنا أمام ذلك المشهد هو عضلات علي القيار المفتولة وصدره العريض المفصّل والمجسّم، الذي كان يكاد أن يتفتق حين يقوم بجرف القير بلوحة الخشب. كان علي القيار طويلاً بعض الشيء ومهيباً بعضلاته القوية، ووسيماً في الوقت ذاته. ولهذا كان موضع إعجاب لا النساء وحدهن، بل والشباب كذلك ممن يرون فيه فتوتهم المفتقدة أو المؤملة. وكنا نحن، الذين نقف نتفرج على عضلاته، بعد خروجنا من المدرسة، أولاداً صغاراً لم نكن نفقه ذلك الحسد الدفين في قلوب شباب المدينة إزاء علي القيار، ولا كذلك افتتان النساء به.
تمر السنون وتحل الآلات الجديدة محل عمال القيارة، ولكن علي يظل موضع إعجاب لأنه لم يتوقف عن تنمية وصقل عضلاته. ومع إنه لم يدخل نادياً رياضياً لكمال الأجسام، إلا أنه استطاع أن يفوز ببطولة العالم في هذه الرياضة، وكان ذلك في بداية السبعينات. كان فوز علي القيار موضع فخر لأبناء تلك المدينة الفقيرة، التي كان علي واحداً منها. إذ كان يعيش وسط عائلة معدمة لاتملك شيئاً، وكان لديه أخوة صغار يعيلهم بمفرده. وحين كبر أحد أخوته وصار شاباً، ذهب ليتعلم رياضة الملاكمة، فأصبح ملاكماً جيداً، خلال فترة قياسية. في أمسيات الخميس كانا، علي وشقيقه الملاكم، يسهران على سطح الدار، وما أن يدب دبيب الخمرة في رأسيهما، حتى تبدأ المناقرات التي تتحول الى مشاجرة وعراك بالأيدي، بدون أسباب معلومة. كانت تلك هي (السهرة) الحقيقية لنا جميعاً، نحن جيران علي القيار وأخيه الملاكم. فبعد العاشرة من مساء الخميس الموعود، يتحول بيتهم الى ما يشبه السيرك الصغير. يقف الناس على سطوح دورهم المجاورة ويذهب آخرون، مجازفين، الى باب البيت، الذي تدور فيه المعركة الطاحنة بين الشقيقين القويين. والملفت في الأمر أنهما كانا يتقاتلان بقسوة غير متناهية. فحين تتاح فرصة للملاكم يشبع أخيه لكما حتى تنفجر الدماء من فمه وأنفه، لكن ما أن تتاح مثل هذه الفرصة لعلي القيار، حتى يتحول الملاكم بين يديه الى ما يشبه الكرة أو الخرقة، يضرب بها هذا الجدار وذاك ثم يرمي به الى السقف. تنتهي المعركة في ساعة متأخرة من الليل بعد أن ينهك المتقاتلان تماماً، لكنهما يعودان في الأيام التالية الى حياتهما الطبيعية وكأن شيئاً لم يكن. يظل علي القيار نجماً طوال سنوات السبعينات، محتفظاً بذكرى فوزه ببطولة العالم مثل تعويذة. إلا أن نحس الفقر والبطالة لن يفارقه يوماً. يضاف الى هذا موقف الحكومة السلبي منه. فعندما جاء البعثيون الى السلطة، قبل السبعين بسنتين، أدعو أنهم سيطوون صفحات الماضي ويبدأون بصفحات جديدة، لكنهم ما أن ثبتوا أقدامهم في السلطة، حتى بدأوا بنبش تواريخ الناس والتفتيش فيها. ومن سوء حظ علي القيار أن له صفحة سوداء بالنسبة للبعثيين. فقد سبق له أن خرج في صبيحة 8 شباط 1963 لمواجهة انقلابهم، مثله مثل آلاف من الناس ممن كانوا يعشقون الزعيم عبد الكريم قاسم، أو أن لهم صلة ما بالحزب الشيوعي العراقي. وكان علي، في تلك الأيام، يجمع بين الصفتين: حبه لقاسم وصلته بالشيوعيين. وكان هذا يكفي ويزيد لاعتباره، من قبل البعثيين، شخصاً غير مرغوب فيه، حتى وإن كان فائزاً بجائزة نوبل. في الثمانينات، لف الفقر والإهمال حياة علي القيار حتى لم يعد يتذكره الناس لا سلبا ولا ايجابيا، وتراجعت في أذهان الشباب وقلوب النساء، صورة الفتى الوسيم مفتول العضلات، والفائز ببطولة العالم للكمال الجسماني. وفي أواخر التسعينات بلغت التعاسة بعلي القيار حداً آثار شفقة الصحافة، فكتبت عنه واحدة من الصحف تقول: ترى هل يعقل أن مواطناً بمستوى ما قدمه علي القيار لبلاده من إنجازات، يتقاضى راتباً تقاعدياً لا يساوي ثمن ربع دجاجة كل ثلاثة اشهر؟ |
قبل أيام نسيت أسناني في البيت وخرجت على عجل.. ( سيفتح القاريء فمه اندهاشاً: كيف يمكن أن ينسى المرء أسنانه؟) نعم هذا الذي حصل معي وهو مزعج دون ريب، خاصة بالنسبة إلى شاعر. والأكثر إزعاجا هو أنني، عندما نسيت أسناني، كنت ذاهباً إلى أمسية شعرية لإلقاء قصيدة. المهم، قبل أن أصل مكان الأمسية (وهو يقع في شارع فخم من شوارع العاصمة) تنبهت للأمر صدفة فراعني ذلك. قلت لسائق التاكسي، بنبرة يبدو أنها كانت خشنة بعض الشيء، أن يعيدني سريعاً إلى حيث انطلق بي، ففعل بوجوم. في جوار البيت وجدت أبنتي لإنزال واقفةً، بعد أن كانت ودعتني قبل لحظات وهي منزعجة لأنها حاولتْ بإلحاح أن تذهب معي إلى الأمسية، فرفضت ذلك بذرائع شتى (فهي طويلة وأكبر من عمرها، كما كانت تقول والدتي، رحمها الله، وهذا يسبب لي الإحراج على الدوام عندما ترافقني، خصوصاً في الأماسي الشعرية!) قلت لابنتي بنبرة تشبه تلك التي انزعج منها سائق التاكسي، أذهبي سريعاً واجلبي لي أسناني من البيت، فضحكت ابنتي بوجهي بطريقة لم اعهدها منها قبلاً (فهي تكن لي احتراماً كبيراً، بل وتعتبرني أباً روحياً لمحاولاتها المتواضعة في كتابة الشعر والقصة) عادت أبنتي بالأسنان بعد أن أخفتها داخل كومة من المناديل الورقية (وكانت هذه إلتفاتة ذكية منها، فلو رأى أولاد الحارة الأسنان بيد أبنتي لكانت فضيحة) ذهبتُ أبحث عن تاكسي أخرى، وكانت الأمسية قد بدأت بالطبع حسب التوقيت المحدد في بطاقة الدعوة، لكن من حسن الحظ كان هناك شاعران يشاركاني الأمسية، وهما من أصحاب المطولات. وأنا أقبع في التاكسي مغموماً، تذكرت يوم فقدت أسناني الحقيقة، وكان ذلك بمثابة انهيار مروع لشعوري بالشباب والحيوية. كنت أتناول طعام الغداء عندما سقط شيءٌ من فمي في صحن الطعام فأحدث رنيناً خافتاً، لم أصدق الأمر أول وهلة، فمددت إصبعي في فمي لأتأكد وإذا به يلج فراغاً مخيفاً بين صف أسنان المقدمة. تذكرت في الحال أن لي ضرساً كبيراً آخر كان مرتخياً، مددت إصبعي فلم أجده هو الآخر. بحثت أمامي في كومة العظام والفضلات، فإذا به مركونٌ بإهمال يدعو الى الشفقة. صدمتُ حينها واكتأبت كثيراً، وعندما سألتني زوجتي لماذا كففت عن الأكل صمًتُ برهةً ثم بكيت بصمت، لكن دمعة سقطت، بصخب، في صينية الطعام، نبهت زوجتي للأمر. وبعد أن عرفت بالقصة واستني بشيء من المزاح البريء، لكنَ كآبتي بقيت مسيطرة عليّ، خاصة عندما ذهبتُ لأرى شكلي الجديد. وقفت أمام المرآة وابتسمت بانزعاج. كانت ابتسامة باكية في الواقع فقد شعرت حينها وكأن دهراً قد مضى على شبابي. كان شكلي مروعاً. وفي الحال شغلتني فكرة مزعجة: كيف يمكن أن يكون الشاعر بدون أسنان؟. ذهبت الى غرفة النوم، ارتديت ثيابي بسرعة ووضعت منديلاً على فمي وخرجت قاصداً طبيب الأسنان.
|
في قاعة الأمسية استقبلني عريف الحفل بترحاب كبير وأعلن على الجمهور وصولي بعد تأخر. جلست في مقدمة الصفوف حزيناً جراء تذكري لقصة سقوط أسناني، حتى أن كأس العرق الكبيرة، التي شربتها قبل أن أخرج من البيت، تبخرت من رأسي فعادت صحوتي القاتلة تحركُ فيَّ الخجل والتردد. لم أصغ لحرف واحد مما كان يقرأه الشاعر الأول في الأمسية، فقد انشغلت مجدداً بالفكرة المزعجة إياها: كيف يمكن أن يكون الشاعر بدون أسنان؟ أدرت الفكرة في رأسي مراراً وتكراراً وحاولت تخفيف وطأتها على نفسي (خاصة عندما نبهني صديق جالس بجانبي الى أن الشاعر الأول أنهى قصيدته ولم يبق غير الشاعر الثاني وبعده سيأتي دوري في القراءة) فتذكرت صديقاً، يُعد من أفضل المغنين الشباب، كان هذا الصديق المغني يعاني من مشكلتي ذاتها، لكن الفارق أن له ضرساً اصطناعياً واحداً فقط. وقد أخبرني ذات يوم بأن هذا الضرس سقط من فمه مرة وهو يغني في احتفال كبير ومهيب. ومن شدة فزعه وخوفه من أن يكتشف الجمهور ذلك، مد يده وقطع سلك الكهرباء المربوط بجهاز الميكرفون، وفي الحال بدأ صفير وصراخ الجمهور، وبينما انشغل عمال الإنارة بإصلاح السلك الكهربائي، مد صديقي المغني يده وألتقط ضرسه من الأرض، وبحركة فنية بارعة، (كما وصفها!) أعاده الى فمه دون أن يشعر به أحد. كنت ساهماً عندما نبهني الصديق الجالس الى جانبي أن دوري قد جاء وأن لغط الجمهور بدأ يتعالى لأنني تأخرت في النهوض عندما أعلن عريف الحفل عن اسمي. نهضت، بعد أن تلمستُ أسناني بحركة لا إرادية. وقفت أمام الميكرفون وفي ذهني الفكرة المزعجة إياها: كيف يمكن أن يكون الشاعر بدون أسنان؟ تصورت الأمر من زوايا مختلفة، قلت، ربما لن يكون الشاعر مقبولاً من قبل الجمهور إذا لم يكن على شيء من الجمال أو الأناقة في أقل تقدير، وهذا من حق الجمهور دون ريب، فشكل الشاعر وأناقته وطريقة إلقائه لقصيدته، كلها مكملات لقوة وجمال القصيدة، حتى أن معاصري بدر شاكر السياب يقولون أنه كان يتجنب المشاركة في المهرجانات الشعرية لأنه لم يكن وسيماً مثل أدونيس أو أنسي الحاج. وإن محمد الفيتوري أيضاً كان يتردد هو الآخر في قبول دعوات المهرجانات للسبب ذاته. هذا من جانب، ومن جانب آخر تصورت أن الشاعر عندما يكون بدون أسنان قد لا يستطيع إلقاء قصيدته إطلاقاً لأنه سيظل يلثغ بكل الحروف تقريباً، إلى درجة، تخيلت معها، أن القصيدة يمكن أن تسقط من فم الشاعر دون صوت، مثل طفو السيجارة. بل الأكثر مأساة أن يتصور الشاعر إياه، عندما تسقط القصيدة من فمه مثل طفو السيجارة، إنه قد ألقى قصيدته، لذلك سيتساءل مع نفسه: لماذا لم يصفق له الجمهور؟ في حين سيتساءل الجمهور أيضاً: لماذا لم يقرأ الشاعر قصيدته؟
وقفت أمام الميكرفون والفكرة المزعجة إياها لا تزال تشغل ذهني: كيف يمكن أن يكون الشاعر بدون أسنان؟ وبعد لحظات، وبدون تردد، طرحت السؤال على الجمهور، وأنا جاد كل الجد في ذلك، قلت: أيها الجمهور الكريم المحترم.. ترى كيف يمكن أن يكون الشاعر بدون أسنان؟ فضحك الجمهور بصخب ثم تعالى التصفيق في القاعة حتى صمّ أذنيّ. وكما تأكدت فيما بعد، من الصديق الذي كان يجلس بجانبي، فأن الجمهور كان يتصور أن سؤالي هذا إنما كان عنواناً لقصيدة جديدة! |
أنتظر على الرصيف بملل وحرج، طوال نحو عشرين دقيقة، حتى نقل العمال آخر كيس من تلك الأكياس الكبيرة المحشوة بالرسائل، إلى داخل مؤسسة البريد . همَّ بصعود الدرجات القليلة المتآكلة المؤدية إلى باب المؤسسة الداخلي، ثم توقف فجأة وكأنه تذكر شيئاً (من شبه المستحيل أن يتمكن العمال، خلال هذه الدقائق، التي مضت للتو، من تفريغ كل هذه الأكياس، ومن تصنيف الرسائل ومن ثم إيداعها العلب البريدية!) كان يفكر بملل زائد وبانزعاج (ثم مَن يضمن أن تلك الرسالة الموعودة، التي انتظرها منذ أشهر، وربما سنوات، موجودة مع هذه الشحنة من أكياس الرسائل؟)
تساءل مع نفسه جزعاً ثم عاد أدراجه إلى الرصيف ومنه إلى المقهى الصغير المعتم الواقع تحت جسر فيكتوريا (ماذا يحصل لو أني عدت بعد ساعة، وحتى ساعتين، فإذا كانت رسالتي في واحدة من تلك الأكياس، التي نقلها العمال، فستكون، بكل تأكيد، في طريقها إلى علبتي البريدية الصغيرة) شعرَ براحة لهذا الاستنتاج لكنه لم يتخلص تماماً من ذلك القلق الذي تغذيه هواجس غريبة (ماذا لو كانت الرسالة، التي انتظر بشغف منذ منذ كثير في ذلك الكيس الأزرق الضخم، الذي كان عامل البريد يسحله على الدرجات مثل خروف يُجرجَر للذبح؟! ولِمَ لا يكون ذلك الكيس قد تمزق على الدرجات وسقطت منه تلك الرسالة؟ ماذا لو أن ...) ـ سادة أُستاذ؟ قطع نادل المقهى، الطويل بإفراط (كما يسميه عادة) منلوجه، فحملق بوجهه برهة ثم أجاب باستسلام: ـ نعم سادة مع كأس ماء . نزع نظارته الطبية وبخ على زجاجها نثاراً من فمه ومسحها بقطعة ورق ناعم . أخرج صحيفة صغيرة من حقيبته الجلدية السوداء، (وضع النادل فنجان القهوة وكأس الماء على الطاولة) بدأ يتصفح جريدته بلا مبالاة فوقع نظره فجأة على خبر ملفت، قرأ باندهاش لهذه المصادفة: «حتى الرسائل محرمة على المنفيين» (كان الخبر الصحفي يتحدث عن ضياع، أو عدم وصول الرسائل التي يبعث بها المنفيون إلى أهاليهم ) عاد إليه القلق لكنه تذكر أن الأمر لا يعنيه كان باب المقهى يطل، من موقع جانبي، على بناية البريد الكبيرة الغبراء .... رشف من فنجان القهوة والتفت، دون قصد، ناحية الباب كان هناك شابان وفتاة يقفون عند مدخل المقهى فيمنعون عنه رؤية بناية البريد تضايق أول الأمر لكن الفتاة سرقت انتباهه لم يكن يرى وجهها بيد أن قوامها الرشيق واكتناز خلفيتها المضمومة في بنطال الجينز الأبيض، أغرياه فظل يمعن النظر، خلسة، بتقاطيع ذلك الجسد، مأخوذاً بشهوة دفينة طمرها العوز اليومي وذلك الانتظار الشغوف، لتلك الرسالة الموعودة . ظل يُقلّب صفحات جريدته الصغيرة باصطناع وفوضى، لكي يواصل اختلاس النظر إلى خلفية الفتاة، ازداد تأججاً وهو يراها تميل صوب أحد الشابين بطريقة أبرزت، أكثر فأكثر، مفاتنها البارزة . كانت تضحك فيهتز جسدها اهتزازات تجعل من خلفيتها المكتنزة تتكور وترتفع ثم تهبط باهتزاز آخر ناعماً لكنه صاخب أيضاً . انتفخت خصيتاه وشعر بارتجاف يجتاح جسده كله. حاول أن يلتقط كأس الماء، الذي اندلق بحركة غير إرادية من يده المتوترة، فأوقع الكأس وفنجان القهوة معاً، فالتفت نحوه رواد المقهى والشابان وفتاتهما أيضاً، شعر بالخجل لكنه تخلص من توتره الجنسي وعاد يقلّب، بلا مبالاة، جريدته الصغيرة . تطلع إلى الساعة ونهض مسرعاً . سار باتجاه البريد، صعد الدرجات القليلة، التي تؤدي به إلى الباب الدوار، ثم دلف إلى الرواق المعتم المليء بصفوف طويلة من العلب البريدية. توقف أمام علبته ودقق في رقمها جيداً قبل أن يلج فيها مفتاحه الصغير. صمت برهة كأنه يصلي ثم فتح العلبة . لم يكن هناك شيء سوى الغبار والعتمة. مد يده ليتأكد فتركت أصابعه خطوطاً على الغبار، ذكرته بتلك الخطوط، التي تركها الكيس الأزرق الضخم على الدرجات، عندما كان عامل البريد يسحله كما الخروف . لم ينشغل، من قبل، بانتظار رسالة، كما هو مشغول هذه المرة، وبهذه الرسالة بالذات . ربما كان عوزه المادي، الذي بلغ حدوداً مخزية (كما كان يردد) واحداً من أسباب هذا الانشغال المرير . فهو منذ أشهر يتحايل على صاحب البقالية المجاورة لغرفته، لكي يبقي صفحة ديونه مفتوحة، أو لكي يتهرب من تسديد ما بذمته، أطول فترة ممكنة . |
ولأن أسباب عدم تسديده دين البقالية، ضعيفة، أو غير مبررة في الأقل، بسبب مظهره الأنيق ولغته المهذبة والمثقفة في التعامل مع الآخرين، فقد كان يتجنب، طوال الأسابيع الماضية، المرور في الشارع الذي تقع فيه «بقالية الأمل» فيضطر لقطع مسافة التفافية مرهقة وموحلة، من أجل بلوغ غرفته في الأزبكية . تصادف مرة مع صاحب البقالية وجهاً لوجه، وكان مشهداً كئيباً، فقد حاول الإفلات دون جدوى، إذ لم يجد أمامه غير حل واحد هو عبور الشارع، بسرعة فائقة، إلى الجهة الأخرى. لكن سوء الحظ كان بانتظاره هناك أيضاً، فبعد هذه المخاطرة، وجد "أبو أمل" صاحب البقالية نفسه، يقف قبالته بالضبط، فهو الآخر كان قد قطع الشارع في اللحظة ذاتها، لأن بيته يقع في الجهة الثانية . انتهت المقابلة بسلام إذ لم يفتح "أبو أمل" أي حديث عن الدين واكتفى بسؤاله عن أحواله وعما إذا كانت الرسالة التي ينتظرها قد وصلته، بعد كل هذا الانتظار .
ستصل الرسالة لا محالة (قال لنفسه) ورمى بحقيبته الصغيرة على الطاولة بتكاسل وتعب، كمن يرمي بسيفه بعد معركة منهكة . ذهب إلى الفراش دون أن يفعل شيئاً، مع أن بطنه كانت خاوية (كان قد تساءل في المقهى: كيف يمكن أن يحدث لديه مثل هذا الانتصاب وبطنه خاوية؟) . أشعل سيجارته، التي يدخنها عادة قبل النوم، وهو يضع نصف جسده السفلي تحت الغطاء والنصف الآخر على حافة السرير العليا . تطلع في فضاء غرفته المعتم وكأنه يراه للمرة الأولى . كان الصباغ الزيتي قد تشقق من الرطوبة والقِدم فترك في السقف والجدران ما يشبه فوهات البراكين، يتطاير منها طحين رطب رمادي اللون، مع كل نسمة هواء تدخل من النافذة الوحيدة . كانت صور النساء، نصف العاريات، قد فقدت بريقها من جراء تراكم ذلك الطحين الرمادي الرطب، فقام، مدفوعاً برغبة متأججة منذ الظهيرة، لينفخ في الصور، وعاد ليتمدد على السرير وهو يحدق بها كأنه يكتشفها للتو . فكّر ملياً بتلك العبارة، التي انزلقت من ذهنه مثل حكمة عبقرية (ستصل الرسالة لا محالة) فأحس بالاطمئنان لأنه توصل أخيراً إلى حلٍ لتلك المعضلة، التي أرقته طوال الأيام الماضية. فما دامت الرسالة ستصل، كما توصل بفضل حكمته السديدة، فسوف تحل كل المشاكل دفعة واحدة ولا داعي، إذن، للقلق . |
كان يستدعي، في العادة، واحدة من صاحبات الصور، كلما عزم على تهييج نفسه، لكنه قرر الليلة (أو هكذا جرى الأمر) أن يسهر مع صاحبة الجينز الأبيض وتكويرتها المغرية. هدأ ضجيج السيارات في الشوارع المحيطة بغرفته، مع هدوء أعصابه المتوترة، فانزلق، رويداً رويداً، في حوض الماء الدافئ المليء برغوة الشامبو، حتى بلغ الماء رقبته. مرت لحظات غائمة، اختلطت فيها الألوان والأضواء والأصوات والأمكنة. حطت حَمامات، بلا حركة، على حافة حوض الماء الدافئ، فلمح قصاصات ملونة تسقط من أرجل الحمامات، فتتطاير مثل أوراق شجر في الخريف . حاول أن يلتقط واحدة من تلك القصاصات، فانزلقت في حوض الماء وترسبت في القاع . حاول التقاط واحدة أخرى، كانت أشبه بمظروف رسالة ملونة، مد يده، فاستحالت شيئاً صلباً ساخناً ولزجاً، استهوته مداعبة ذلك الشيء، فطارت الحمامات من حافة الحوض وحطت على حافة السرير، لكنه ظل يحاول الإمساك بتلك الرسالة ليفك مظروفها الملون .
مد يده مرة أخرى، فانزلقت يده في منفذ معتم، بسبب لزوجة أصابعه . سقطت قصاصته في الحوض فاستحال الماء الدافئ أحمر قانياً، ثم اندلق على أرضية الحمام وانساب إلى غرفة نومه . ظل يحاول، يدخل يده في الكوة فتعود لزجة خالية، فيما الماء يندلق أكثر فأكثر فيشكل نهراً صغيراً من رغوة الشامبو، يتسرب بهدوء، وهو لا يزال يكرر محاولته للإمساك بقصاصة الورق الخضراء. قطع نهر الرغوة باب غرفة النوم فامتلأت به، ثم صعدت السرير وغطت الشراشف وكادت تصل صور النساء، شبه العاريات، المعلقة على الجدران . كانت فتاة الجينز الأبيض، بين تلك الصور . مد يده ليمسك بها فسمع ضحكات، كان مصدرها فتيات الصور . ترك القصاصة تسقط في الماء الدافئ وذهب يتفحص الفتاة صاحبة الجينز، ويحاول منع الرغوة من الوصول إليها، تلمّس صدرها وبطنها فانزلقت يده في فتحة الحوض، فتلمس شيئاً رخواً ساخناً. عاد يبحث عن القصاصة فلم يجد هناك شيئاً سوى الغبار والعتمة .سقطت يده من على السرير وكانت رطبة ولزجة، فانطبعت أصابعه على الطحين الرمادي المتساقط من السقف، تاركة خطوطاً تشبه تلك التي تركها الكيس الأزرق، الذي كان يسحله عامل البريد، مثل خروف يجرجر للذبح . في صباح اليوم التالي كان جبار العراقي (بطل هذه القصة) خاوياً مهدود الأعصاب، مبللاً بعرقه اللزج، يعاني من حمى شديدة، لا يقوى على تذكر أي شيء سوى تلك القصاصة، الغبراء اللون، التي تسلمها من موظف البريد . مد يده بصعوبة إلى طرف الطاولة والتقط القصاصة وقرأ ثانية: «نبلغكم أن اشتراككم في العلبة البريدية رقم ألفين، التي كانت مسجلة باسمكم، قد إلغّي جراء عدم تسديدكم الاشتراك السنوي ... شكراً رمى بالقصاصة وردد مع نفسه: شكر! |
الساعة الآن 05:03 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |