![]() |
تظلّ نون أديب كمال الدين أقرب إلى نون القارب منها إلى نون الرّحم أوالحوت، لذلك فإنّها توضع في مهبّ الأعاصير، حتّى تختبر مدى كفاءة حروف الشاعر في التجديف ضدّ التيّار، لا في اتّجاهه الأفقي فحسب بل في اتّجاهه العموديّ أيضا، حيث تطرح موازنة أخرى بين سطح البحر وغوره: بين المعرفة الأنثويّة المشوبة بزخّات الشّتاء وأكاذيبه يرمز إليها الشّاعر بحرف الباء الطافي على سطح النّقطة، والمعرفة الإلهيّة اليقينيّة التي لم تدرَك حتّى بغرق النّقطة في قاع النّون وغرق القلب في البطون الأُوَل. وفي أوج تأزّم الخطاب يتمّ التشكيك في مدى الحكمة من سقوط الشمس وغرق القارب في المقطع الأخير من قصيدة "محاولة في سؤال النّقطة":
"أنتِ ........ مَنْ أنتِ ؟ وأين هي نقطتُكِ ؟ فوق حيث الشّمسُ تسقط ببلاهة ؟ أم هي تحْت حيث الشّمس يسرقها الكَفرة الفجَرة ؟"(14) في هذه اللّحظة المشبعة قلقا وارتباكا يتحوّل يقين الحبّ إلى احتمال يترجمه الشّاعر على لسان "خطاب الألف": "واأسفاه كيف أستطيع أن أحبّكِ وأنتِ على هذا النّحو قارب احتضن الشّمس وأعلن أنّ الدّنيا بين يديه ؟ واأسفاه كان كلام القارب صحيحًا !" (15) لعلّ في إقرار الشاعر بصحّة كلام القارب مصداقا للمرجعيّة العقائديّة التي شرّعت رحلة الإبحار وقدّرت لها الغرق مصيرا، غير أنّ ترديد "واهات" الأسف وترجيعها، يستبطنان تشكيكا في مدى قدرة القارب على الإفصاح عن كنه الحقيقة في ظلّ غياب السّند الإلهيّ. هنا بالذّات تنحسر لهجة الإفضاء بالإيمان والبوح بالحبّ، فتنسرب إلى بطن الحوت لهجة مشوبة بالخوف والوجل لتكشف عن التمزّق الذي تعانيه ذاتية الألف. وتبعا لتحوّل موطن هويّة نقطة النّون تتحوّل المياه المالحة إلى أسيان راكدة، في إحالة رمزيّة عميقة إلى غياب أمواج التألّه التي حرّكت القارب والحوت، بل إنّ بصيرة الشّاعر قد فقدت الإحساس بحدّ الحرف أصلا، |
فلم تنجلي إلاّ على عمق المهوَى حيث لا بحر ولا برّ لنقطة "باء المعنى":
"باء البعْد. باء الباب ولا بابَ هنا إلاّ بابكِ. باء الحزن عميق كالبئر. باء الرّاء ولا برّ بل بحر يجترُّ عميقا قلْبي.." (16) يصوّر المقطع الشعريّ تجليّات تلبّس الشاعر بحال الأنبياء ويتناهى إيقاع الباء المكثّف رجع صدى لنداءات الغوث التي يطلقها الغريق، ممّا يحيل على مدى "البلبلة" التي يعانيها في بطن الحوت ويردّنا المعجم الموظّف رمزيّا، مباشرة إلى الآية القرآنيّة. ففي القصص القرآنيّ تفصيل لحال الضّيم التي عاناها يونس في بطن الحوت ومثال على ذلك قوله تعالى: ﴿فاصْبرْ لحكْم ربِّكَ ولا تَكُنْ كصاحِبِ الحُوتِ إذْ نادَى وهو مكْظومٌ.﴾ (سورة القلم، الآية 48.) في عمق جوف النّون ينفتح الحوار بين القرآنيّ والشعريّ، فتصطرع الأصوات وتصطخب داخل نون دواة الكتابة تحت راية "التناصّ"(Intertextualité) الذي نظّر له روّاد النقد الأدبي الحديث ، ومنهم "ميخائيل باختين" (M .Bakhtine)، وقد حضر عنده المفهوم بتعابير أخرى منها "المبدأ الحواريّ" و"الصوت المتعدّد" و"تداخل السياقات" التي تحدث جميعها حين "يصطدم فيها صوتان اصطداما حواريّا."(17) وهو ما يحدث فعليّا مع النّون "القرآ- شعريّة"، إذ تضعنا حيال صوتين مباشرين لا يقلّ أحدهما حدّة عن الثاني: صوت الشاعر المستغاث له وصوت الله المستغاث به، هنا بالذّات تسقط واسطة النبوّة. وأمام هيمنة الوعيد على الوعد في لهجة الله، يهرع الشّاعر باتّجاه حروفه المحتجّة ليكتم أصواتها "بصبر من حديد". يقول في قصيدة " محاولة في الجنون" : |
"احْتجَّتْ حروفي
على جبال الحزن فيها فقمعتُها بيد من حديد وصبر ورُعْب." هذا السّرد الحكائيّ المفتوح على محاورة النّصّ القرآنيّ، يؤشّر إلى بدء انزياح الحرف الشّعريّ عن الحرف القرآنيّ ويؤذن بانفلات الحرف الذّاتيّ من أسر الحرف النبويّ، وهو ما تزامن سياقيّا مع احتجاج الحروف على تأخّر المكافأة، فأثار رعب الشّاعر من احتمال أن تزوغ حروفه من نون الأنبياء، ممّا اقتضى ردّ فعل وقائيّ تمثّل في الاستنجاد بقبّعة حديديّة تثقل عمامة الإيمان المتوارثة إراديّا، فكانت قبّعة الصّبر المُصطنعة قصريّا "بيد من حديد" خير منجد ومغيث. بذلك تبدأ العناصر البشريّة في اقتحام الفضاء الإلهيّ لرحلة الإبحار. فبعد زاد الإيمان وزاد المحبّة يضيف الشاعر زاد الصّبر، وإذا كان الأوّلان من دواعي الرّوح و القلب فإنّ الصّبر من دواعي العقل، وهو المخوّل، عند أديب كمال الدين، لإيجاد مصالحة بين الرّأس والجسد بأن يتخذ ألف الله دثارا ونون النبوّة عمامة في محاولة لتأجيل عري النّقطة. يقول الشّاعر في قصيدة "محاولة في سؤال النقطة": " أنتِ عُرْيي الذي حاولتُ تأجيله فلم أستطع إلاَّ بعد أن لبستُ ثياب الألـِف وتعمّمتُ بعمامة النّون." (19) توحي "ثياب الألف" بالتّماهي بين ذاتيّة الشّاعر وذاتيّة الله في موقف حلول صوفيّ يذكّرنا بقولة الحلاّج: "ما تحت الجبّة إلاّ الله"، ليجعل من التلبّس بألف الله أوّل السّبل لستر عري النّقطة التائهة في بطن الحوت، لكنّ الطريف في الصّورة الشعريّة ذاك التجسيد التخييليّ البصريّ للنّون التي ارتأى الشاعر أن يتخذها عمامة لستر نقطة الرّأس، في محاولة لتطويق العقل ومحاصرة حروفه الزّائغة |
المصادر والمراجع
[1] ابن منظور ، لسان العرب ، قدّم له عبد الله العلايلي ، إعداد و تصنيف يوسف خياط ، ط دار لسان العرب، بيروت . د.ت. (مادة نون). [2] دارت مجمل سورة الأنبياء تقريبا حول سير الرّسل بدءا بقصّة إبراهيم في الآية 58 وانتهاء بعيسى في الآية 91. [3] القاضي أبو بكر الباقلاّني ، إعجاز القرآن، دار الكتب العلميّة، ط1 بيروت 2001 ، ص 58. (ومن السور المقصودة بقصّة موسى على سبيل المثال: (سورة النمل / الآية 7) ، ( سورة القصص / الآية 29)، بالإضافة إلى سورة طه كاملة.) [4] أديب كمال الدين، نون ، مطبعة الجاحظ ، ط1 بغداد 1993، تصدير الكتاب [5] نون ، ص 58 [6] نون ، ص 57 [7] جلال الدين الرّومي، المثنوي، ترجمة د. إبراهيم الدّسوقي شتا، نشر بلديّة قونية (تركيا) 2006. ج3، ص 306 [8] أديب كمال الدين، شجرة الحروف ، دار أزمنة، ط 1 عمّان 2007 ، ص 50 - 51 [9] نون ، ص 5. [10] نون ، ص 54. [11] أديب كمال الدين، ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة ، ط1 دار أزمنة ، عمّان 2006 ، ص 107 [12] شجرة الحروف ، ص 110 [13] أديب كمال الدين، النّقطة، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر ، ط2 عمّان2001، ص 48 [14] النقطة ، ص 48- 49. [15] نون، ص 59 [16] أديب كمال الدين ، أخبار المعنى ، دار الشّؤون الثقافيّة العامّة، ط1 بغداد 1996، ص 49 [17] ميخائيل باختين، شعرية دستوفسكي، ترجمة جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنّشر، ط1 الدار البيضاء 1986، ص 269. [18] النّقطة ، ص 95. [19] النقطة ، ص 50 |
مشكور اخي كرمبو
على روعة ما نقلت لنا جميل دائما انت في خياراتك تحيات لك |
مررت مرورا عابرا على نون الحوت ونون الدواة ونون القراءة التي قرأتها الآن والسرد القرآني القصصي منه أو الذي يعنى بالاحكام أو غيره من الجوانب التي يقف العقل البشري عاجزا عن إدراكها إلاّ أنني أريد أن أنبه هنا من ناحية شرعية بغض النظر عن كون التأمل فريضة من الفرايض التي إفترضها ربنا علينا وهي عبادة من العبادات حين نرى القرآن برؤية إعجازية وكيف أنه لا يحاكيه أي نظم مهما علا وإن إجتهدت الإنس والجن على أن تأتي بمثله فلن تستطيع بنص القرآن ولوكان بعظهم لبعض ضهيرا وقال عنه الوليد بن المغيرة وهو أعرف أهل زمانه باللغة : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أصله لمورق ، وأعلاه لمثمر ، وما هو بقول بشر والخوض في القرءات التأويلية يتطلب الشي الكثير من الحيطة خوف الوقوع في مغبة التفسير الخاطئ أما من ناحية النظم فنستطيع القول أنه ليس بالشعر ولا القول المنثور فهو لون إعجازي ..حتى أن هناك إعجازا رقميا توصل إليه المختصون مبهر تقاطع مع الكيمياء والأحياء وغيره كثير. لذا [mark=#FF9900]المقارنة او المقاربة[/mark] أراها نوعا من السعي المجهد الذي قد ينقص من شأن النص القراني . مجهود رائع سيدي الكريم إذ نقلت لنا هذه الرؤية إلا أنه يجب أخذها بتحفظ شديد شكرا [mark=#66FF99] أرى أن القراءة هنا ضرورية للوقوف وقفة تأمل كيف أن القرآن مبهر مع الدكتور فاضل السامرائي [/mark] وها هي بعض كتبه لمن أراد أن يستزيد |
مشكور مفتش كرمبو ويعطيك العافية على الطرح
|
الاخ الفاضل المفتش
تحية وبعد موضوع شيق لو كان على دفعات لكان افضل بكل الصدق ليتمكن القارىء من المتابعه والمناقشه بكل فصل من فصول الموضوع ..تحيتي وتقديري 23/9/2011 |
مشكور اخي المفتش كرمبو على الطرح الوافي
سلمت الايادي تحياتي واحترامي |
الساعة الآن 02:41 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |