![]() |
جابر عثرات الكرام
قيل: كان في أيام سليمان رجل يقال له خزيمة بن بشر من بني أسد، كان له مروءة ظاهرة ونعمة حسنة وفضل وبر بالإخوان، فلم يزل على تلك الحالة حتى قعد به الدهر فاحتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضل عليهم وكان يؤاسيهم، فواسوه ثم ملوه، فلما لاح له تغيرهم أتى امرأته وكانت ابنة عمه، فقال لها: يا ابنة عمي، قد رأيت من إخواني تغيراً، وقد عزمت على أن ألزم بيتي إلى أن يأتيني الموت، فأغلق بابه وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد وبقي حائراً وكان يعرفه عكرمة الفياض الربعي متولي الجزيرة، وإنما سمي بذلك لأجل كرمه، فبينما هو في مجلسه إذ ذكر خزيمة بن بشر فقال عكرمة الفياض: ما حاله? فقالوا: قد صار إلى أمر لا يوصف وإنه أغلق بابه ولزم بيته. قال: أفما وجد خزيمة بن بشر مواسياً ولا مكافئاً? فقالوا: لا. فأمسك عن الكلام ثم لما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس واحد ثم أمر بإسراج دابته وخرج سراً من أهله. فركب ومعه غلام من غلمانه يحمل المال. ثم سار حتى وقف بباب خزيمة فأخذ الكيس من الغلام، ثم أبعده عنه وتقدم إلى الباب فدفعه بنفسه فخرج إليه خزيمة فناوله الكيس، وقال: أصلح بهذا شأنك، فتناوله فرآه ثقيلاً فوضعه عن يده ثم أمسك بلجام الدابة، وقال له: من أنت? جعلت فداك. فقال له عكرمة: يا هذا ما جئتك في هذا الوقت والساعة أريد أن تعفني? قال: فما أقبله إلا أن عرفتني من أنت? فقال: أنا جابر عثرات الكرام. قال: زدني. قال: لا. ثم مضى ودخل خزيمة بالكيس إلى ابنة عمه، فقال لها: أبشري فقد أتى الله بالفرج والخير ولو كانت فلوساً فهي كثيرة. قومي فاسرجي. قالت: لا سبيل إلى السراج. فبات يلمسها بيده فيجد خشونة الدنانير ولا يصدق، وأما عكرمة فإنه رجع إلى منزله فوجد امرأته قد فقدته وسألت عنه فأخبرت بركوبه فأنكرت ذلك وارتابت. وقالت له: والي الجزيرة يخرج بعد هدو من الليل منفرداً من غلمانه في سر من أهله إلا إلى زوجة أو سرية. فقال: اعلمي أني ما خرجت في واحدة منها. قالت: فخبرني فيما خرجت? قال: يا هذه ما خرجت في هذا الوقت وأنا أريد أن يعلم بي أحد. قالت: لا بد أن تخبرني? قال: تكتمينه إذاً. قالت: فإني أفعل. فأخبرها بالقصة على وجهها وما كان من قوله ورده عليه. ثم قال أتحبين أن أحلف لك أيضاً? قالت: لا فإن قلبي قد سكن وركن إلى ما ذكرت. وأما خزيمة فلما أصبح صالح الغرماء وأصلح ما كان من حاله ثم إنه تجهز يريد سليمان بن عبد الملك، وكان نازلاً يومئذ بفلسطين، فلما وقف ببابه واستأذن دخل الحاجب فأخبره بمكانه، وكان مشهوراً بمروءته وكرمه. وكان سليمان عارفاً به فأذن له، فلما دخل سلم عليه بالخلافة فقال له سليمان بن عبد الملك: يا خزيمة، ما أبطأك عنا? قال: سوء الحال. قال: فما منعك من النهضة إلينا? قال: ضعفي يا أمير المؤمنين. قال: فبم نهضت إلينا الآن? قال: لم أعلم يا أمير المؤمنين إلا أني بعد هدو من الليل لم أشعر إلا ورجل يطرق الباب وكان من أمره كيت وكيت، وأخبره بقصته من أولها إلى آخره. فقال سليمان: هل تعرف هذا الرجل? فقال: خزيمة: ما عرفته يا أمير المؤمنين لأنه كان متنكراً وما سمعت من لفظه إلا إني جابر عثرات الكرام. قال: فتلهب وتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته وقال: لو عرفناه لكافأناه على مروءته، ثم قال: علي بقناة. فأتى بها فعقد لخزيمة بن بشر المذكور على الجزيرة عاملاً عوضاً عن عكرمة الفياض. فخرج خزيمة طالباً الجزيرة، فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه، فسلما على بعضهما ثم سارا جميعاً إلى أن دخلا البلد. فنزل خزيمة في دار الإمارة وأمر أن يؤخذ لعكرمة كفيل وأن يحاسب، فحوسب فوجد عليه فضول أموالٍ كثيرة فطالبه بأدائها قال: ما لي إلى شيء من ذلك سبيل. قال: لا بد منها. قال: لست عندي فاصنع ما أنت صانع. فأمر به إلى الحبس ثم أنفذ إليه من يطالبه فأرسل يقول: إني لست ممن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت. فأمر أن يكبل بالحديد فأقام شهراً كذلك أو أكثر فأضناه ذلك وأضر به، وبلغ ابنة عمه خبره فجذعت واغتمت لذلك ثم دعت مولاة لها، وكانت ذات عقل ومعرفة، وقالت لها: امض الساعة إلى باب هذا الأمير خزيمة بن بشر وقولي: عندي نصيحة، فإذا طلبت منك فقولي: لا أقولها إلا للأمير خزيمة بن بشر، فإذا دخلت عليه فسليه أن يخليك، فإذا فعل ذلك فقولي: ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك. كافأته بالحبس والضيق والحديد. ففعلت الجارية ذلك. فلما سمع خزيمة كلامها نادى برفيع صوته وا سوأتاه، وإنه لهو? قالت: نعم، فأمر لوقته بدابته فأسرجت وبعث إلى وجوه أهل البلد فجمعهم إليه وأتى بهم إلى باب الحبس ففتح ودخل خزيمة ومن معه فرآه قاعداً في قاعة الحبس متغيراً أضناه الضر والألم وثقل القيود فلما نظر إليه عكرمة والى الناس أحشمه ذلك فنكس رأسه فأقبل خزيمة حتى أكب على رأسه فقبله فرفع عكرمة إليه رأسه وقال: ما أعقب هذا منك? قال: كريم فعالك وسوء مكافأتي. قال: يغفر الله لنا ولك. ثم أتي بالحداد ففك القيود عنه وأمر خزيمة أن توضع القيود في رجل نفسه. فقال عكرمة: ماذا تريد.? فقال: أريد أن ينالني من الضر مثل ما نالك. فقال: أقسم عليك بالله لا تفعل. فخرجا جميعاً حتى وصلا إلى دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الانصراف عنه. فقال: ما أنت ببارح. قال: وما تريد? قال: أغير حالك وإن حيائي من بنت عمك أشد من حيائي منك. ثم أمر بالحمام فأهلي ودخلاه معاً فقام خزيمة وتولى أمره وخدمه بنفسه ثم خرجا فخلع عليه وحمله وحمل معه مالاً كثيراً ثم سار معه إلى داره واستأذنه في الاعتذار إلى ابنة عمه، فاعتذر إليها وتذمم من ذلك. قال: ثم سأله بعد ذلك أن يسير معه إلى سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ مقيم بالرملة، فأنعم له بذلك وسارا جميعاً حتى قدما على سليمان بن عبد الملك فدخل الحاجب فأعلمه بقدوم خزيمة بن بشر فراعه ذلك وقال: والي الجزيرة يقدم بغير أمرنا? ما هذا إلا لحادث عظيم! فلما دخل قال له قبل أن يسلم: ما وراءك يا خزيمة? قال: الخير يا أمير المؤمنين. قال: فما الذي أقدمك? قال: ظفرت بجابر عثرات الكرام، فأحببت أن أسرك به لما رأيت من تلهفك وتشوقك إلى رؤيته. قال: ومن هو? قال: عكرمة الفياض? قال: فأذن له بالدخول. فدخل وسلم عليه بالخلافة فرحب به وأدناه من مجلسه وقال: يا عكرمة ما كان خيرك له إلا وبالاً لعيك. ثم قال سليمان: اكتب حوائجك كلها وما تحتاج إليه في رقعة. ففعل ذلك، فأمر بقضائها منه ساعته، وأمر له بعشرة آلاف دينار وسفطين ثياباً، ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وقال له: أمر خزيمة إليك إن شئت أبقيته وإن شئت عزلته. قال بل اردده إلى عمله يا أمير المؤمنين، ثم انصرفا من عنده جميعاً ولم يزالا عاملين لسليمان مدة خلافته، والله أعلم |
كيف ولد الحجاج
وفي مروج الذهب للمسعودي وشرح السيرة وغيرهما. أن أم الحجاج ابن يوسف وهي الفارعة بنت همام. ولدته مشوهاً لا دبر له فثقب دبره، وأبى أن يقبل ثدي أمه وغيرها فأعياهم أمره، فيقال: إن الشيطان تصور لهم في صورة الحرث بن كلدة، فقال: ما خبركم? فقالوا: ولد ليوسف الثقفي من الفارعة ولد وقد أبى أن يقبل ثدي أمه فقال: اذبحوا له تيساً أسود والعقوه دمه ثم اذبحوا له أسود سالخاً، وأولغوه من دمه واطلوا به وجهه ثلاثة أيام ففعلوا فقبل الثدي في اليوم الرابع فكان لا يصبر عن سفك الدم وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره. تولية عبد الملك للحجاج على العراق روي أنه لما ولي الحجاج الحرمين الشريفين حظي عنده إبراهيم بن محمد بن طلحة فلما أراد الحجاج الرجوع إلى الشام إلى عبد الملك بن مروان، وفد معه إبراهيم بن محمد بن طلحة وقال: أتيتك برجل الحجاز في الشرف والأبوة والفضل والمروءة يا أمير المؤمنين، مع ما هو عليه من حسن الطاعة وجميل المناصحة، والله لم يكن في الحجاز له نظير، فبالله عليك يا أمير المؤمنين، إلا فعلت معه من الخير ما هو مستحقه? فقال عبد الملك: من هو يا أبا محمد? قال له: إبراهيم بن محمد بن طلحة. قال: يا أبا محمد لقد ذكرتنا بحق واجب ائذن له في الدخول. فلما دخل على عبد الملك أمر بجلوسه في صدر المجلس ثم قال: إن أبا محمد الحجاج ذكر لنا ما نعرفه من كمال مروءتك وحسن نصيحتك، فلا تدع في صدرك حاجة إلا أعلمتنا بها حتى نقضيها لك ولا نضيع شكر أبي محمد الحجاج فيك. قال إبراهيم: إن الحاجة التي نبغي بها وجه الله تعالى والتقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في القيامة نصيحة أمير المؤمنين. قال: قل! قال: لا أقولها وبيني وبينك ثالث. قال: ولا صديقك الحجاج? قال: لا. قال: قم. فقام خجلاً وهو لا يعرف أين تطأ رجله، فلما مضى قال له: هات نصيحتك. فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، وليت الحجاج الحرمين الشريفين وفيهما من تعرف من أولاد المهاجرين والأنصار وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما تعلمه من ظلمه وفسقه وجوره وبعده من الحق وقربه إلى الباطل، يسومهم الخسف ويطؤهم بالعسف، فليت شعري أي جواب أعددته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سألك الله في عرصات القيامة عن ذلك? فبالله عليك يا أمير المؤمنين، إلا عزلته وادخرتها قربة إلى الله تعالى. فقال عبد الملك: لقد ظن الحجاج الخير بغير أهله، ثم قال: يا إبراهيم! قم. فقمت على أنحس حال وخرجت من المجلس، وقد اسودت الدنيا في وجهي فتبعني حاجبه وقبض على زندي وجلس بي في الدهليز، ثم دعا عبد الملك بالحجاج. فدخل فمكث طويلاً فما شككت إلا أنهما يتشاوران في قتلي. ثم دعاني فقمت ودخلت فوافاني الحجاج خارجاً فعانقني، وقال: جزاك الله عني خيراً في هذه النصيحة، أما والله لئن عشت لأرفعن قدرك. وتركني وخرج ودخلت وأنا أقول: يهزأ بي، وهو معذور، فدخلت على عبد الملك فأجلسني مجلسي الأول ثم قال لي: قد علمت صدقك وقد عزلته عن الحرمين ووليته العراق وأعلمته أنك استقللت له الحجاز واستدعيت له العراق، وأنك تطلب له الزيادة في الأعمال وهو يظن أنك السبب في توليته العراق، وقد تهلل وجهه فرحاً لذلك، فسر معه أينما توجه يولك خيراً، ولا تقطع نصيحتك عنا والله أعلم. الحجاج والمرأة الحرورية قال الرواي: ولما ولي الحجاج العراق قال: علي بالمرأة الحرورية. فلما حضرت قال لها: كنت بالأمس في وقعة ابن الزبير تحرضين الناس على قتل رجالي ونهب أموالي? قالت: نعم. قد كان ذلك يا حجاج. فالتفت الحجاج إلى وزرائه وقال: ما ترون في أمرها? فقالوا: عجل بقتلها. فضحكت المرأة فاغتاظ الحجاج وقال: ما أضحكك? قالت: وزراء أخيك فرعون خير من وزرائك هؤلاء. قال: وكيف ذلك? قالت: لأنه استشارهم في موسى فقالوا: "أرجه وأخاه"، أي أنظره إلى وقت آخر، وهؤلاء يسألونك تعجيل قتلي. فضحك الحجاج وأمر لها بعطاء وأطلقها. |
العاشق ذو المروءة
حكي عن الأصمعي أنه قال: دخلت البصرة أريد بادية بني سعد، وكان على البصرة يومئذ خالد بن عبد الله القسري (والي العراق في عهد هشام بن عبد الملك بن مروان)، فدخلت عليه يوماً فوجد قوماً متعلقين بشاب ذي جمال وكمال وأدب ظاهر، بوجه زاهر حسن الصورة طيب الرائحة جميل البزة، عليه سكينة ووقار، فقدموه إلى خالد فسألهم عن قصته فقالوا: هذا لص أصبناه البارحة في منازلنا. فنظر إليه فأعجبه حسن هيئته ونظافته، فقال: خلوا عنه. ثم أدناه منه وسأله عن قصته، فقال: إن القول ما قالوه والأمر على ما ذكروه. فقال له: ما حملك على ذلك وأنت في هيئة جميلة وصورة حسنة? قال: حملني الشره في الدنيا. وبذا قضى الله سبحانه وتعالى. فقال له خالد: ثكلتك أمك، أما كان لك في جمال وجهك وكمال عقلك وحسن أدبك زاجر لك عن السرقة. قال: دع عنك هذا أيها الأمير، وانفذ ما أمرك الله تعالى به. فذلك بما كسبت يداي. وما الله بظلام للعبيد. فسكت خالد ساعة يفكر في أمر الفتى ثم أدناه منه وقال له: إن اعترافك على رؤوس الأشهاد قد رابني وأنا ما أظنك سارقاً. وإن لك قصة غير السرقة فأخبرني بها. فقال: أيها الأمير، لا يقع في نفسك سوى ما اعترفت به عندك، وليس لي قصة أشرحها لك إلا أني دخلت دار هؤلاء فسرقت منها مالاً فأدركوني وأخذوه مني وحملوني إليك. فأمر خالد بحبسه وأمر منادياً ينادي في البصرة: ألا من أحب أن ينظر إلى عقوبة فلان اللص وقطع يده فليحضر من الغد. فلما استقر الفتى في الحبس ووضع في رجليه الحديد تنفس الصعداء، ثم أنشأ يقول: هددني خالد بقطع يدي إن لم أبح عنده بقصتها فقلت هيهات أن أبوح بما تضمن القلب من محبتها قطع يدي بالذي اعترفت به أهون للقلب من فضيحتها فسمعه الموكلون به فأتوا خالداً وأخبروه بذلك، فلما جن الليل أمر بإحضاره عنده، فلما حضر استنطقه فرآه أديباً عاقلاً لبيباً ظريفاً فأعجب به فأمر له بطعام فأكلا وتحادثا ساعة. ثم قال له خالد: قد علمت أن لك قصة غير السرقة، فإذا كان غداً وحضر الناس والقضاة وسألتك عن السرقة فأنكرها واذكر فيها شبهاتٍ تدرأ عنك القطع. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات". ثم أمر به إلى السجن، فلما أصبح الناس لم يبق بالبصرة رجل ولا امرأة إلا حضر ليرى عقوبة ذلك الفتى، وركب خالد ومعه وجوه أهل البصرة وغيرهم، ثم دعا بالقضاة وأمر بإحضار الفتى، فأقبل يحجل في قيوده، ولم يبق أحد من النساء إلا بكى عليه وارتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب، فأمر بتسكيت الناس، ثم قال له خالد: إن هؤلاء القوم يزعمون أنك دخلت دارهم وسرقت مالهم فما تقول? قال: صدقوا أيها الأمير، دخلت دارهم وسرقت مالهم. قال خالد: لعلك سرقت دون النصاب. قال: بل سرقت نصاباً كاملاً. قال: فلعلك سرقته من غير حرز مثله.? قال: بل من حرز مثله. قال: فلعلك شريك القوم في شيء منه? قال: بل هو جميعه لهم لا حق لي فيه. فغضب خالد وقام إليه بنفسه وضربه على وجهه بالسوط. وقال متمثلاً بهذا البيت: يريد المرء أن يُعطى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا ثم دعا بالجلاد ليقطع يده. فحضر وأخرج السكين، ومد يده ووضع عليها السكين، فبرزت جارية من صف النساء عليها آثار وسخ، فصرخت ورمت بنفسها عليه، ثم أسفرت عن وجه كأنه البدر وارتفع للناس ضجة عظيمة كاد أن تقع منه فتنة، ثم نادت بأعلى صوتها: إليه رقعة ففضها خالد فإذا هي مكتوب فيها: أخالد هذا مُستهام متيمٌ رمته لِحاظي من قسي الحمالق فأصماه سهم اللحظ مني فقلبه حليف الجوى من دائه غير فائق أَقَرَ بما لم يقترفه لأنه رأى ذلك خيراً من هتيكة عاشق فهلا على الصب الكئيب لأنه كريم السجايا في الهوى غير سارق فلما قرأ الأبيات تنحى وانعزل عن الناس وأحضر المرأة، ثم سألها عن القصة، فأخبرته أن هذا الفتى عاشق لها وهي له كذلك، وأنه أراد زيارتها وأن يعلمها بمكانه، فرمى بحجر إلى الدار، فسمع أبوها واخوتها صوت الحجر، فصعدوا إليه، فلما أحس بهم جمع قماش البيت كله وجعله صرة، فأخذوه وقالوا: هذا سارق وأتوا به إليك فاعترف بالسرقة وأصر على ذلك حتى لا يفضحني بي اخوتي، وهان عليه قطع يده لكي يستر علي ولا يفضحني. كل ذلك لغزارة مروءته وكرم نفسه. فقال خالد: إنه خليق بذلك. ثم استدعى الفتى إليه وقبل ما بين عينيه وأمر بإحضار أبي الجارية وقال له: يا شيخ إنا كنا عزمنا على إنفاذ الحكم في هذا الفتى بالقطع، وإن الله عصمه من ذلك، وقد أمرت له بعشرة آلاف درهم لبذله يده وحفظه لعرضك وعرض ابنتك وصيانته لكما من العار. وقد أمرت لابنتك بعشرة آلاف درهم، وأنا أسألك أن تأذن لي في تزويجها منه. فقال الشيخ: قد أذنت أيها الأمير بذلك. قال: فحمد الله وأثنى عليه وخطب خطبة حسنة وقال للفتى: قد وقدره عشرة آلاف درهم. فقال الفتى: قبلت منك هذا التزويج. وأمر بحمل المال إلى دار الفتى مزفوفاً في الصواني، وانصرف الناس مسرورين ولم يبق أحد في سوق البصرة إلا نثر عليهما اللوز والسكر حتى دخلا منزلهما مسرورين مزفوفين. قال الأصمعي: فما رأيت يوماً أعجب منه أوله بكاء وترح وآخره سرور وفرح. |
معاوية والطرماح بن الحكم
قيل: إن معاوية رضي الله عنه جلس يوماً بين أصحابه، إذ أقبلت قافلتان من البرية، فقال لبعض من كان بين يديه: انظروا هؤلاء القوم وائتوني بأخبارهم. فمضوا وعادوا وقالوا: يا أمير المؤمنين، إحداهما من اليمن والأخرى من قريش. فقال: ارجعوا إليهم وادعوا قريشاً يأتونا، وأما أهل اليمن فينزلون في أماكنهم إلى أن نأذن لهم في الدخول. فلما دخلت قريش سلم عليهم وقربهم وقال: أتدرون يا أهل قريش لم أخرت أهل اليمن وقربتكم? قالوا: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: لأنهم لم يزالوا يتطاولون علينا بالفخار ويقولون ما ليس فيهم، وإني أريد إذا دخلوا غداً وأخذوا أماكنهم من الجلوس أن أقوم فيهم نذيرا وألقي عليهم من المسائل ما أقل به إكرامهم وأرخص به مقامهم، فإذا دخلوا وأخذوا أماكنهم من الجلوس وسألوا عن شيء فلا يجبهم أحد غيري. قال الراوي: وكان المقدم عليهم رجلاً يقال له الطرماح بن الحكم الباهلي، فأقبل على أصحابه، وقال: أتدرون يا أهل اليمن لم أخركم ابن هند وقدم قريشاً? قالوا: لا قال: لأنه في غداة غد يقوم فيكم نذيراً ويلقي عليكم من المسائل ما يقل به إكرامكم ويرخص به مقامكم، فإذا دخلتم عليه وأخذتم أماكنكم من الجلوس وسألكم عن شيء فلا يجبه أحد غيري. فلما كان من الغد دخلوا عليه وأخذوا أماكنهم فنهض معاوية قائماً على قدميه، وقال: أيها الناس من تكلم قبل العرب، وعلى من أنزلت العربية? فقام الطرماح وقال: نحن يا معاوية، ولم يقل يا أمير المؤمنين. فقال: لماذا? فقال: لأنه لما نزلت العرب ببابل وكانت العبرانية لسان الناس كافة أرسل الله تعالى العربية على لسان يعرب بن قحطان الباهلي، وهو جدنا فقرأ العربية وتداولها قومه من بعده إلى يومنا هذا، فنحن يا معاوية عرب بالجنس وأنتم عرب بالتعليم. فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه وقال: أيها الناس، من أقوى العرب إيماناً ومن شهد له بذلك? فقال الطرماح: نحن يا معاوية. قال: ولم? قال: لأن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم فكذبتموه وسفهتموه وجعلتموه مجنوناً، فآويناه ونصرناه فأنزل الله: "والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً". وكان النبي صلى الله عليه وسلم، محسناً لنا متجاوزاً عن سيئاتنا فلم لم تفعل أنت كذلك? كأنك خالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فسكت زماناً ثم رفع رأسه وقال: أيها الناس، من أفصح العرب لساناً ومن شهد له بذلك? قال الطرماح: نحن يا معاوية. قال: ولم ذلك? قال: لأن امرأ القيس بن حجر الكندي منا قال في بعض قصائده: يطعمون الناس غَباً في السنين الممحلاتِ في جِفانٍ كالخوابي وقدورٍ راسياتِ وقد تكلم بألفاظ جاء مثلها في القرآن، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. قال: فسكت معاوية زماناً وقال: أيها الناس، من أقوى العرب شجاعة وذكراً ومن شهد له بذلك? قال الطرماح: نحن يا معاوية. قال: ولم ذلك? قال: لأن منا عمرو بن معد يكرب الزبيدي، كان فارساً في الجاهلية وفارساً في الإسلام وشهد له بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له معاوية: وأين أنت وقد أتي به مصفداً بالحديد? فقال له الطرماح: ومن أتى به? قال معاوية: أتى به علي. قال الطرماح: والله لو عرفت مقداره لسلمت إليه الخلافة ولا طمعت فيها أبداً. فقال له معاوية: أتحجني يا عجوز اليمن? قال: نعم أحجك يا عجوز مضر لأن عجوز اليمن بلقيس آمنت بالله، وتزوجت بنبيه سليمان بن داود، عليهما السلام، وعجوز مضر جدتك التي قال الله في حقها: "وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد". قال: فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه وقال: جزاك الله خيراً من صاحب ووفر عقلك ورحم سلفك وأعطاه وأحسن إليه. |
القوي الفاجر
وقيل: إنه قدم أهل الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكون سعد بن أبي وقاص. فقال: من يعذرني من أهل الكوفة? إن وليتهم التقي ضعفوه، وإن وليتهم القوي فجروه. فقال له المغيرة بن شعبة: يا أمير المؤمنين، إن التقي الضعيف له تقاه ولك ضعفه، وإن القوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره. قال: صدقت أنت القوي الفاجر فاخرج إليهم. فلم يزل عليهم أيام عمر وعثمان رضي الله عنهما وأيام معاوية حتى مات المغيرة أجبن وأحيل وأشجع من لقي وقيل: دخل عمر بن معد يكرب الزبيدي على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه فقال عمر: أخبرني عن أجبن من لقيت وأحيل من لقيت وأشجع من لقيت. قال: نعم يا أمير المؤمنين. خرجت مرة أريد الغارة، فبينما أنا سائر إذا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا رجل جالس كأعظم ما يكون من الرجال خلقاً، وهو محتب بحمائل سيفه، فقلت له: خذ حذرك فإني قاتلك. فقال: ومن أنت? قلت: أنا عمرو بن معد يكرب الزبيدي، فشهق شهقة فمات. فهذا يا أمير المؤمنين أجبن من رأيت. وخرجت مرة حتى انتهيت إلى حي فإذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا صاحبه في وهدة يقضي حاجته، فقلت: خذ حذرك فإني قاتلك. فقال: ومن أنت? فأعلمته بي، فقال: يا أبا ثور ما أنصفتني أنت على ظهر فرسك وأنا على الأرض، فأعطني عهداً أنك لا تقتلني حتى أركب فرسي. فأعطيته عهداً فخرج من الموضع الذي كان فيه واحتبى بحمائل سيفه، وجلس. فقلت: ما هذا? فقال: ما أنا براكب فرسي ولا بمقاتلك فإن نكثت عهدك فأنت أعلم بناكث العهد. فتركته ومضيت. فهذا يا أمير المؤمنين أحيل من رأيت. وخرجت مرة حتى انتهيت إلى موضع كنت أقطع فيه الطريق فلم أر أحداً، فأجريت فرسي يميناً وشمالاً وإذا أنا بفارس، فلما دنا مني، فإذا هو غلام حسن نبت عذاره من أجمل من رأيت من الفتيان، وأحسنهم. وإذا هو قد أقبل من نحو اليمامة، فلما قرب مني سلم علي ورددت عليه السلام وقلت: من الفتى? قال: الحرث بن سعد فارس الشهباء. فقلت له: خذ حذرك فإني قاتلك! فقال: الويل لك، فمن أنت? قلت: عمرو بن معد يكرب الزبيدي. قال: الذليل الحقير، والله ما يمنعني من قاتلك إلا استصغارك. فتصاغرت نفسي، يا أمير المؤمنين، وعظم عندي ما استقبلني به. فقلت له: دع هذا وخذ حذرك فإني قتلك، والله لا ينصرف إلا أحدنا. فقال: اذهب، ثكلتك أمك، فأنا من أهل بيت ما أثكلنا فارس قط. قلت: هو الذي تسمعه. قال: اختر لنفسك فإما أن تطرد لي، وإما أن أطرد لك. فاغتنمتها منه فقلت له: أطرد لي. فأطرد وحملت عليه فظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه فإذا هو صار حزاماً لفرسه ثم عطف علي فقنع بالقناة رأسي وقال: يا عمرو خذها إليك واحدةً، ولولا أني أكره قتل مثلك لقتلتك. قال: فتصاغرت نفسي عندي، وكان الموت، يا أمير المؤمنين أحب إلي مما رأيت، فقلت له: والله لا ينصرف إلا أحدنا. فعرض علي مقالته الأولى فقلت له: أطرد لي، فأطرد فظننت أني تمكنت منه فاتبعته حتى ظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه. فإذا هو صار لبباً لفرسه، ثم عطف علي فقنع بالقناة رأسي وقال: خذها إليك يا عمرو ثانية. فتصاغرت علي نفسي جداً، وقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا فاطرد لي، فاطرد حتى ظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه فوثب عن فرسه، فإذا هو على الأرض فأخطأته فاستوى على فرسه واتبعني حتى قنع بالقناة رأسي! وقال: خذها إليك يا عمرو ثالثة، ولولا كراهتي لقتل مثلك لقتلتك. فقلت: اقتلني أحب إلي ولا تسمع فرسان العرب بهذا. فقال: يا عمرو، إنما العفو عن ثلاث، وإذا استمكنت منك في الرابعة قتلتك وأنشد يقول: وكِدت إغلاظاً من الإيمان إن عدت يا عمرو الى الطعان لتجدن لهب السنان أولاً فلست من بني شيبان فهبته هيبة شديدة، وقلت له: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي? قلت: أكون صاحباً لك. قال: لست من أصحابي. فكان ذلك أشد علي وأعظم مما صنع، فلم أزل أطلب صحبته حتى قال: ويحك أتدري أين أريد? قلت: لا والله. قال: أريد الموت الأحمر عياناً. قلت: أريد الموت معك. قال: امض بنا. فسرنا يومنا أجمع حتى أتانا الليل ومضى شطره. فوردنا على حي من أحياء العرب، فقال لي: يا عمرو في هذا الحي الموت الأحمر فإما أن تمسك علي فرسي فأنزل وآتي بحاجتي، وإما أن تنزل وأمسك فرسك فتأتيني بحاجتي. فقلت: بل أنزلت أنت. فأنت أخبر بحاجتك مني. فرمى إلي بعنان فرسه ورضيت والله يا أمير المؤمنين بأن أكون له سائساً، ثم مضى إلى قبة فأخرج منها جارية لم تر عيناي أحسن منها حسناً وجمالاً، فحملها على ناقة ثم قال: يا عمرو، فقلت: لبيك! قال: إما أن تحميني وأقود الناقة أو أحميك وتقودها أنت? قلت: لا بل أقودها وتحميني أنت. فرمى إلي بزمام الناقة ثم سرنا حتى أصبحنا. قال: يا عمرو قلت: ما تشاء? قال: التفت فانظر هل ترى أحداً? فالتفت فرأيت رجالاً فقلت: اغذذ السير. ثم قال: يا عمرو انظر إن كانوا قليلاً فالجلد والقوة وهو الموت الأحمر. وإن كانوا كثيراً فليسوا بشيء. فالتفت وقلت: وهم أربعة أو خمسة. قال: اغذذ السير. ففعلت. ووقف وسمع وقع حوافر الخيل عن قرب فقال: يا عمرو. كن عن يمين الطريق وقف وحول وجه دوابنا إلى الطريق. ففعلت ووقفت عن يمين الراحلة ووقف عن يسارها ودنا القوم منا وإذا هم ثلاثة أنفار: شابان وشيخ كبير، وهو أبو الجارية والشابان أخواها. فسلموا فرددنا السلام. فقال الشيخ: خل عن الجارية يا ابن أخي. فقال: ما كنت لأخليها ولا لهذا أخذتها. فقال لأحد ابنيه: اخرج إليه، فخرج وهو يجر رمحه فحمل عليه الحرث وهو يقول: من دون ما ترجوه خضب الذابل من فارس ملثمٍ مقاتل ينمي الى شيبان خير وائلٍ ما كان يسري نحوها بباطل ثم شد على ابن الشيخ بطعنة قد منها صلبه، فسقط ميتاً، فقال الشيخ لابنه الآخر: اخرج إليه فلا خير في الحياة على الذل، فأقبل الحرث وهو يقول: لقد رأيت كيف كانت طعنتي والطعن للقرم الشديد الهمةِ والموت خيرٌ من فراق خلتي فقتلتي اليوم ولا مذلتي ثم شد على ابن الشيخ بطعنة سقط منها ميتاً، فقال له الشيخ: خل عن الظعينة يا ابن أخي، فإني لست كمن رأيت، فقال: ما كنت لأخليها، ولا لهذا قصدت. فقال الشيخ: يا ابن أخي اختر لنفسك فإن شئت نازلتك وإن شئت طاردتك فاغتنمها الفتى ونزل فنزل الشيخ وهو يقول: ما أرتجي عند فناء عمري سأجعل التسعين مثل شهر تخافني الشجعان طول دهري إن استباح البيض قصم ظهري فأقبل الحرث وهو ينشد ويقول: بعد ارتحالي ومطال سفري وقد ظفرت وشفيت صدري فالموت خير من لباس الغدر والعار أهديه لحي بكر ثم دنا فقال له الشيخ: يا ابن أخي إن شئت ضربتك، فإن أبقيت فيك بقية فيَّ فاضربني، وإن شئت فاضربني. فإن أبقيت بقية ضربتك. فاغتنمها الفتى وقال: أنا أبدأ. فقال الشيخ: هات. فرفع الحرث يده بالسيف فلما نظر الشيخ أنه قد أهوى به إلى رأسه ضرب بطنه بطعنة قد منها أمعاءه ووقعت ضربة الفتى على رأس الشيخ فسقطا ميتين. فأخذت يا أمير المؤمنين أربعة أفراس وأربعة أسياف ثم أقبلت إلى الناقة فقالت الجارية: يا عمرو: إلى أين ولست بصاحبتك ولست لي بصاحب ولست كمن رأيت؟ فقلت: اسكتي. قالت: إن كنت لي صاحباً فأعطني سيفاً أو رمحاً فإن غلبتني فأنا لك وإن غلبتك قتلتك. فقلت: ما أنا بمعط ذلك. وقد عرفت أهلك وجراءة قومك وشجاعتهم. فرمت نفسها عن البعير ثم أقبلت تقول: أبَعْد شيخي ثم بعد أخوتي يطيب عيشي بعدهم ولذتي وأصحبن من لم يكن ذا همةٍ هلا تكون قبل ذا منيتي ثم أهوت إلى الرمح وكادت تنزعه من يدي. فلما رأيت ذلك منها خفت إن ظفرت بي قتلتني. فقتلتها. فهذا يا أمير المؤمنين أشجع من رأيت. |
عمر والهرمزان
وأحضر الهرمزان بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه مأسوراً فدعاه إلى الإسلام، فأبى، فأمر بضرب عنقه. فقال: يا أمير المؤمنين، قبل أن تقتلني اسقني شربة من الماء، ولا تقتلني ظمآن. فأمر له عمر بقدح مملوء ماء، فلما صار القدح في يد الهرمزان، قال: أنا آمن حتى أشربه? قال: نعم لك الأمان. فألقى الهرمزان الإناء من يده فأراقه، ثم قال: الوفاء يا أمير المؤمنين. فقال عمر رضي الله عنه: دعوه حتى أنظر في أمره. فلما رفع السيف عنه، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال عمر، رضي الله عنه: لقد أسلمت خير الإسلام فما أخرك? قال: خشيت أن يقال إني أسلمت خوفاً من السيف. فقال عمر: إنك لفارس حكيم، استحققت ما كنت فيه من الملك. ثم إن عمر رضي الله عنه، بعد ذلك كان يشاوره في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه. عمر والشاب القاتل وأبو ذَرّ قال شرف الدين حسين بن ريان: أغرب ما سمعته من الأخبار، وأعجب ما نقلته عن الأخيار، ممن كان يحضر مجلس عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه، ويسمع كلامه قال: بينما الإمام جالس في بعض الأيام، وعنده أكابر الصحابة، وأهل الرأي والإصابة، وهو يقول في القضايا، ويحكم بين الرعايا، إذ أقبل شاب نظيف الأثواب، يكتنفه شابان من أحسن الشبان، نظيفا الثياب، قد جذباه وسحباه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين، ولبباه. فلما وقفوا بين يديه، نظر إليهما وإليه، فأمرهما بالكف عنه. فأدنياه منه وقالا: يا أمير المؤمنين، نحن أخوان شقيقان، جديران باتباع الحق حقيقان. كان لنا أب شيخ كبير، حسن التدبير، معظم في قبائله، منزه عن الرذائل، معروف بفضائله، ربانا صغاراً، وأعزنا كباراً، وأولانا نعماً غزاراً، كما قيل: لنا والدٌ لو كان للناس مثله أبٌ آخرٌ أغناهم بالمناقبِ خرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها، ويقطف يانع ثمارها، فقتله هذا الشاب، وعدل عن طريق الصواب. ونسألك القصاص بما جناه، والحكم فيه بما أراك الله. قال الراوي: فنظر عمر إلى الشاب وقال له: قد سمعت، فما الجواب? والغلام مع ذلك ثابت الجأش، خال من الاستيحاش، قد خلع ثياب الهلع، ونزع جلباب الجزع، فتبسم عن مثل الجمان، وتكلم بأفصح لسان، وحياه بكلمات حسان ثم قال: يا أمير المؤمنين، والله لقد وعيا ما ادعيا، وصدقا فيما نطقا وخبرا بما جرى، وعبرا بما ترى، وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك: اعلم، يا أمير المؤمنين، أني من العرب العرباء، أبيت في منزل البادية، وأصيح على أسود السنين العادية، فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد، فأفضت بي بعض طرائقها، إلى المسير بين حدائقها، بنياق حبيبات إلي، عزيزات علي، بينهن فحل كريم الأصل، كثير النسل، مليح الشكل، حسن النتاج، يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج. فدنت بعض النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها، فتناولته بمشفرها، فطردتها من تلك الحديقة. فإذا شيخ قد زمجر، وزفر، وتسور الحائط، وظهر وفي يده اليمنى حجر، يتهادى كالليث إذا خطر، فضرب الفحل بذلك الحجر، فقتله وأصاب مقتله. فلما رأيت الفحل قد سقط لجنبه وانقلب، توقدت في جمرات الغضب، فتناولت ذلك الحجر بعينه، فضربته به، فكان سبب حينه، ولقي سوء منقلبه، والمرء مقتول بما قتل به بعد أن صاح صيحة عظيمة، وصرخ صرخة أليمة فأسرعت من مكاني فلم يكن بأسرع من هذين الشابين، فأمسكاني وأحضراني كما تراني. فقال عمر: قد اعترفت بما اقترفت، وتعذر الخلاص، ووجب القصاص، ولات حين مناص. فقال الشاب: سمعاً لما حكم به الإمام، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام، لكن لي أخ صغير، كان له أب كبير، خصه قبل وفاته بمالٍ جزيل، وذهب جليل، وأحضره بين يدي، وأسلم أمره إلي، وأشهد الله علي، وقال: هذا لأخيك عندك، فاحفظه جهدك، فاتخذت لذلك مدفناً، ووضعته فيه، ولا يعلم به إلا أنا، فإن حكمت الآن بقتلي، ذهب الذهب، وكنت أنت السبب، وطالبك الصغير بحقه، يوم يقضي الله بين خلقه، وإن أنظرتني ثلاثة أيام، أقمت من يتولى أمر الغلام، وعدت وافياً بالذمام، ولي من يضمنني على هذا الكلام. فأطرق عمر، ثم نظر إلى من حضر، وقال: من يقوم على ضمانه والعود إلى مكانه? قال: فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين، وأشار إلى أبي ذَرّ دون الحاضرين، وقال: هذا يكفلني ويضمنني. قال عمر: يا أبا ذر، تضمنه على هذا الكلام? قال: نعم، أضمنه إلى ثلاثة أيام. فرضي الشابان بضمانة أبي ذرّ وأنظراه ذلك القدر. فلما انقضت مدة الإمهال وكاد وقتها يزول أو قد زال، حضر الشابان إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذرّ قد حضر والخصم ينتظر. فقالا: أين الغريم يا أبا ذرّ? كيف يرجع من فر، لا تبرح من مكاننا حتى تفي بضماننا. فقال أبو ذَرّ: وحق الملك العلام، إن انقضى تمام الأيام، ولم يحضر الغلام، وفيت بالضمان وأسلمت نفسي، وبالله المستعان. فقال عمر: والله، إن تأخر الغلام، لأمضين في أبي ذرّ، ما اقتضته شريعة الإسلام. فهمت عبرات الناظرين إليه، وعلت زفرات الحاضرين عليه، وعظم الضجيج وتزايد النشيج، فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية واغتنام الأثنية، فأصرا على عدم القبول، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول. فبينما الناس يموجون تلهفاً لما مر، ويضجون تأسفاً على أبي ذرّ إذ أقبل الغلام ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم السلام ووجهه يتهلل مشرقاً ويتكلل عرقاً وقال: قد أسلمت الصبي إلى أخواله، وعرفتهم بخفي أمواله وأطلعتهم على مكان ماله. ثم اقتحمت هاجرات الحر، ووفيت وفاء الحر. فعجب الناس من صدقه ووفائه، وإقدامه على الموت واجترائه.. فقال: من غدر لم يعف عنه من قدر، ومن وفى، رحمه الطالب وعفا، وتحققت أن الموت إذا حضر، لم ينج منه احتراس، كيلا يقال: ذهب الوفاء من الناس. فقال أبو ذَرّ: والله، يا أمير المؤمنين، لقد ضمنت هذا الغلام، ولم أعرفه من أي قوم، ولا رأيته قبل ذلك اليوم. ولكن نظر إلي دون من حضر فقصدني وقال: هذا يضمنني، فلم أستحسن رده، وأبت المروءة أن تخيب قصده، إذ ليس في إجابة القاصد من بأس، كيلا يقال: ذهب الفضل من الناس. فقال الشابان عند ذلك: يا أمير المؤمنين، قد وهبنا هذا الغلام دم أبينا، فبدل وحشته بإيناس، كيلا يقال: ذهب المعروف من الناس. فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وصدقه ووفائه، واستفزر مروءة أبي ذرّ دون جلسائه، واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى عليهما أحسن ثنائه. وتمثل بهذا البيت: من يصنع المعروف لم يعدم جوائزه لا يذهب العرف بين الله والناس ثم عرض عليهما أن يصرف من بيت المال دية أبيهما. فقالا: إنما عفونا ابتغاء وجه ربنا الكريم، ومن نيته هكذا لا يتبع إحسانه مناً ولا أذى. قال الراوي: فأثبتها في ديوان الغرائب، وسطرتها في عنوان العجائب. |
عمر والعجوز المدنية
لما رجع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، من الشام إلى المدينة، انفرد عن الناس ليتعرف أخبار رعيته، فمر بعجوز في خباء لها فقصدها. فقالت: ما فعل عمر رضي الله عنه? قال: قد أقبل من الشام سالماً. فقالت: يا هذا! لا جزاه الله خيراً عني! قال: ولمَ? قالت: لأنه ما أنالني من عطائه منذ ولي أمر المسلمين ديناراً ولا درهماً. فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع? فقالت: سبحان الله ! والله ما ظننت أن أحداً يلي على الناس، ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها. فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: وا عمراه، كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر. ثم قال لها: يا أمة الله! بكم تبيعيني ظلامتك من عمر، فإني أرحمه من النار? فقالت: لا تهزأ بنا، يرحمك الله. فقال عمر: لست أهزأ بك. ولم يزل حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين ديناراً. فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: وا سوأتاه! شتمت أمير المؤمنين في وجهه? فقال لها عمر رضي الله عنه: لا بأس عليك، يرحمك الله، ثم طلب قطعة جلد يكتب فيها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي الخلافة إلى يوم كذا، بخمسة وعشرين ديناراً. فما تدعي عليه عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر بريء منه، شهد على ذلك علي وابن مسعود. ثم دفعها إلى ولده وقال له: إذا أنا مت فاجعلها في كفني ألقى بها ربي. |
مع الشافعي
كان الامام الشافعي ماشياً فاذا برجل يسبقه يناجي ربه ويقول: يارب هل انت راض عني؟ فقال الشافعي: يا رجل وهل انت راض عن الله حتى يرضى عنك؟ قال الرجل: كيف أرضى عن ربي وأنا أتمنى رضاه؟ قال:إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله. عندما يغلق الله من دونك بابا تطلبه .فلا تجزع و لاتعترض .. فلربما الخيرة في غلقه .. لكن ثق أن بابا آخر سيفتح لك ينسيك هم الأول ..وقتها ستدرك معنى قوله تعالى .."يدبر الأمر". |
ابن المقفع والخليل
كان ابن المقفع والخليل يحبان أن يجتمعا، فاتفق التقاؤهما، فاجتمعا ثلاثة أيام يتحاوران، فقيل لابن المقفع: كيف رأيته؟ فقال: وجدت رجلاً عقله زائد على علمه. وسئل الخليل عنه فقال: وجدت رجلاً علمه فوق عقله؛ قال بعض العلماء: صدقاً فإن الخليل مات حتف أنفه في خص وهو أزهد خلق الله، وتعاطى ابن المقفع ما كان مستغنياً عنه حتى قتل أسوأ قتلة. |
أراك كلما تكلمت خالفتني
عن عبد الله بن صالح العجلي قال: أخبرني أبو زيد النحوي قال : قال رجل للحسن : ما تقول في رجل ترك أبيه وأخيه ، فقال الحسن : ترك أباه وأخاه ، فقال الرجل: فما لأباه وأخاه ، فقال الحسن : فما لأبيه وأخيه ، فقال الرجل للحسن : أراني كلما كلمتك خالفتني |
الساعة الآن 06:16 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |