منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب " أسباب ورود الاحاديث تحليل وتأسيس " (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8849)

ميارى 1 - 8 - 2010 03:09 AM

التوقف

فإذا تساوت الروايات في الصحة وعجز الباحث عن الجمع بينها، وعجز عن الترجيح بالمرجحات على كثرتها - وهذه الحالة نادرة إذا حصّل الباحث الأسس السابقة - فالأوفق له التوقف، ومعناه عدم الرفض له - لثبوته - بسبب العجز عن الجمع أو الترجيح حتى يفتح الله سبحانه على الباحث بفهم جديد، مع مداومة النظر، أو يفتح على غيره.

والتوقف أسلم من الرفض وإهمال النص مع ثبوته.

فهذه جملة الأسس التي رأيت ضرورة الوقوف عليها بصورة مجملة مع توضيح يسير بنماذج تطبيقية، وإلا فكل أساس منها في حاجة إلى تفصيل، نكتفي منه في هذه الدراسة بالأساس الذي ندرت الكتابة فيه، مع أهميته في فهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو فهم الأحاديث في ضوء أسباب ورودها، لبيان أهمية هذا الأساس، والجهود السابقة التي بذلت في ذلك، ومتابعة هذه الجهود بتأسيس منهج تسير عليه الدراسة القادمة، ونتناول ذلك في الفصل الآتي.


ميارى 1 - 8 - 2010 03:11 AM

تحليل وتأسيس أسباب ورود الحديث بداية التأليف في أسباب الورود

لقد كانت البدايةُ، في محاكاة ما كُتب في أسباب النزول للكتاب العزيز؛ لما وقَفَ عليه العلماءُ من أهمية المعرفة بأسباب نزول آيات القرآن الكريم في فهمِ معاني الآيات الكريمة المرتبطة بأسباب لنزولها، فشرع بعض العلماء من أهل الحديث في تصنيف أسباب ورود الحديث بمنهجِ أسبابِ نزولِ آيات القرآن الكريم، يقول الإمام السيوطي: "…من أنواع علوم الحديث معرفة أسبابه، كأسباب نزول القرآن، وقد صنّف فيه الأئمة كتبًا في أسباب نزول القرآن، واشتُهر منها كتابُ الواحدي، ولي فيه تأليف جامع يُسمى "لباب النقول في أسباب النزول".

وأما أسبابُ الحديث : فألف فيه بعضُ المتقدمين، ولم نقف عليه، وإنما ذكروه في ترجمته، وذكره الحافظُ أبو الفضل ابنُ حجر في شرح النخبة.

وقد أحببتُ أن أجمع فيه كتابًا، فتتبعت جوامع الحديث، والتقطت منها نُبذًا، وجمعتها في هذا الكتاب. والله الموفق والهادي للصواب" ويقصد السيوطي بذلك كتابه " اللمع في أسباب الحديث".

ويذكر جهد من سبقه في ذلك بقول شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني في كتابه: "محاسن الاصطلاح": "النوع التاسعُ والستون: معرفةُ أسباب الحديث، قال الشيخُ أبو الفتح القُشيريُّ المشهور بابن دقيق العيد رحمه الله في شرح العمدة في الكلام على حديث "إنما الأعمال بالنيات" في البحث التاسع: "شرع بعض المتأخرين من أهل الحديث في تصنيف أسباب الحديث، كما صُنِّف في أسباب النزول للكتاب العزيز، فوقفت من ذلك على شيء يسير له، وحديثُ "إنما الأعمال بالنيات" يدخل في هذا القبيل، ويَنْضمُّ إلى ذلك نظائر كثيرة لمن قصد تتبعه.

وإذا كان الإمام السيوطي قد ذكر ما وقف عليه من نماذج سابقة "في أسباب الورود" - كما رأينا - فإنه أشار في الوقت نفسه إلى مصنفات مفقودة في هذا الموضوع منها:

- تصنيف أبي حفص العُكْبري.

- وتصنيف أبي حامد بن قتاده الجوباري.

وذكر السيوطي قول الذهبي - بعد هذا التصنيف - : "ولم يسبق إلى ذلك".

كما أشار صاحب مفتاح السعادة إلى وجود مصنفات في هذا الفن لكنه لم يرها.

وعلى ذلك فالمصنفات التي بين أيدينا في هذا النوع من أنواع علوم الحديث، والتي يمكن أن نتعامل معها تحليلاً ودراسة، هي على هذا الترتيب:

1- ما كتبه الحافظ البلقيني في كتابه محاسن الاصطلاح، وتضمين كتاب ابن الصلاح، والذي تتبع فيه مقدمة ابن الصلاح فقرةً فقرة، فأعاد صياغتها تضمينًا، ثم عقَّب عليها بفوائد وزيادات تُفصِّل ما أجمل ابن الصلاح، وتستدرك ما فاته، وتناقشُ ما يرد على كلامه، حيثما بدا وجه اعتراض، ثم لما وصل في محاسنه إلى نهاية المقدمة، تابع تقديم أنواعٍ خمسةٍ من علوم الحديث لم يتكلم عنها "ابن الصلاح" في مقدمته، ومنها النوع التاسع والستون: "معرفة أسباب الحديث".

والذي يجعلني أعدُّ هذا الصنيع، من المصنفات، أن الإمام البلقيني لم يتعامل مع هذا النوع تعامله مع الأنواع الأخرى في ذكر قوانين الرواية، وما عُرف من منهج مصطلح الحديث، ولكنه زاد على ذلك. تصنيفًا لمجموعة من الأحاديث بأسبابها، مبينًا كيف يكون التصنيف في هذا النوع؛ فلم يكتف بمثالٍ أو مثالين، وإنما قدّم مجموعةً من الروايات، تُعدُّ مثالاً يُحتذى في هذا الموضوع.

2- "اللُّمع في أسباب الحديث"، أو "أسباب ورود الحديث" للحافظ جلال الدين السيوطي، وقد قام بتحقيقه الدكتور يحيى إسماعيل، في عمله للماجستير.

3- "البيانُ والتعريفُ في أسباب ورود الحديث الشريف" تأليف السيد الشريف إبراهيم بن محمد بن كمال الدين الشهير بابن حمزة الحُسيني الدمشقي،وقد حققه وعلق عليه فضيلة الدكتور الحسيني عبد المجيد هاشم رحمه الله.

ميارى 1 - 8 - 2010 03:12 AM

ارتباط سبب الورود بسبب النزول

وإذا كان ابن دقيق العيد والسيوطي قد نبّها - كما مر - إلى هذه العلاقة، بين أسباب الورود وما كتب فيها، وأسباب النزول وما كتب فيها، فإن المتأمل في هذه الكتابات، يجد أن المصنفين في أسباب النزول، هم المشتغلون بالروايات وما يتصل بعلوم الحديث؛ فقد ذكر الإمام الزركشي في كتابه "البرهان في علوم القرآن"، عناية المفسرين في كتبهم بمعرفة أسباب النزول، وأنهم أفردوا فيه تصانيف، منهم "علي بن المديني" شيخ البخاري، ومن أشهرها تصنيف الواحدي.

واتفق الإمام السيوطي مع الإمام الزركشي في وصف كتاب أسباب النزول لأبي الحسن "علي بن أحمد الواحدي النيسابوري" بأنه أحسنها.

كما يقول السيوطي: ثم شيخ الإسلام حافظ العصر، أبو الفضل "ابن حجر".

غير أن الإمام السيوطي - وقد ألف في هذا كتابه لباب النقول في أسباب النزول - يذكر في كتابه "الإتقان"، ما يشعر بسبب تأليفه لهذا الكتاب، على الرغم من شهادته بالحسن لكتاب الواحدي، فيقول: "ومن أشهرها كتاب الواحدي على ما فيه من إعواز، وقد اختصره "الجعبري" فحذف أسانيده، ولم يزد عليه شيئًا، وألف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر كتابًا مات عنه مسودة، فلم نقف عليه كاملاً، وقد ألف فيه كتابًا حافلاً موجزًا محرراً، لم يؤلف مثله في هذا النوع.

وعلى كل حال، فكل من كتب - بعد ذلك - في أسباب النزول، فإن مصادره الأساسية ما ذكر في البرهان، والإتقان، وما جمع من أسباب النزول في الكتب السابقة، ومن أجمع ما كتب من دراسة حديثة في هذا، ما سطره الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه "مناهل العرفان في علوم القرآن".

وتعود الصلة بين أسباب النزول وأسباب الورود، إلى ما يلي:


ميارى 1 - 8 - 2010 03:14 AM

أولا : اعتماد النوعين على رواية الصحابي أو التابعي

فيذكر السيوطي في الإتقان قول الواحدي: "لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب، إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها، وقد قال محمد بن سيرين: سألت عبيدة عن آية من القرآن، فقال: اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل الله من القرآن.

وقال الحاكم في علوم الحديث: إذا أخبر الصحابي، الذي شهد الوحي والتنزيل، عن آية من القرآن الكريم أنها نزلت في كذا، فإنه حديث مسند، ومشى على هذا ابن الصلاح وغيره.

ويقول السيوطي: "وما كان منه عن صحابي، فهو مسند مرفوع، إذ قول الصحابي فيهما لا مدخل فيه للاجتهاد، مرفوع.

أو تابعي فمرسل. وشرط قبولهما صحة السند، ويزيد الثاني (وهو المرسل) أن يكون راويه معروفًا بأنه لا يروي إلا عن الصحابة، أو ورد له شاهد مرسل أو متصل،ولو ضعيفًا.

وإذا تعارض فيه حديثان؛ فإن إمكن الجمع بينهما فذاك؛ كآية اللعان، ففي الصحيح عن سهل بن سعد الساعدي أنها نزلت في قصة عُويْمر العجلاني، وفيه أيضاً - أنها نزلت في قصة هلال بن أمية، فيمكن أنها نزلت في حقهما، أي بعد سؤال كل منهما، فيُجمع بهذا.

وإن لم يكن قُدّم ما كان سنده صحيحًا، أو له مُرجّح، ككون راويه صاحب الواقعة التي نزلت فيها الآية، ونحو ذلك،

فإن استويا، فهل يُحمل على النزول مرتين، أو يكون مضطربًا يقتضي طرح كل منهما.

عندي فيه احتمالان.

وفي الحديث ما يشبهه.

وربما كان في إحدى القصتين "فتلا" فوهم الراوي فقال: "فنزلت". مثال ذلك ما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس، قال: مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه، والأرضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟ فأنزل الله: (وَما قدروا الله حق قدْرِه… )(الأنعام:91). والحديث في الصحيح بلفظ "فتلا" رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصواب، فإن الآية مكية".

ومثال ذلك - أيضًا - ما أخرجه البخاري رحمه الله، عن أنس رضي الله عنه ، قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي:

ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد، إلى أبيه أو أمه؟

قال: أخبرني بهن جبريل آنفًا، قال: جبريل؟

قال: نعم. قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة.. فقرأ هذه الآية: (مَن كان عدُوًّا لجبريل فإنه نزله على قلْبِك )(البقرة:97).

قال ابن حجر في شرح البخاري: ظاهر السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية ردًا على اليهود، ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ، قال: وهذا هو المعتمد، فقد صح في سبب نزول الآية قصة غير قصة ابن سلام.

وعلى ذلك فإن سبب النزول، يجري عليه من الأحكام ما يجري على الأحاديث، من جهة التوثيق للروايات، والتأليف - بالطرق العلمية المعروفة لدى علماء الحديث - بين مختلفها، غير أن سبب النزول يتميز بارتباطه بآيات الذكر الحكيم وقت نزولها.

ولذلك ينبغي أن نعمق النظر للتفريق بين السبب في النزول، وما يجري في الأحاديث من بيان المعاني فيما تضمنته آيات القرآن الكريم، فمجئ عبد الله بن سلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة، وسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن الأمور الثلاثة، سبب لورود الحديث، ومن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم ، جاء ذكر جبريل عليه السلام، وجاء قول عبد الله بن سلام في جبريل من خلال تصور اليهود له، فجاء ذكر الآية الكريمة، بسبب ورود الحديث السابق، وذكرها - هنا - لا يعد سببًا لنزولها، حيث نزلت بسبب آخر، أخرجه أحمد والترمذي والنسائي، من طريق بكر بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أقبلت يهود إلى رسول الله فقالوا: يا أبا القاسم ! إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهنّ عرفنا أنك نبيّ، فذكر الحديث.. وفيه أنهم سألوه عما حرّم إسرائيل على نفسه، وعن علامة النبي ،وعن الرعد وصوته، وكيف تذكر المرأة وتؤنث، وعمّن يأتيه بخبر السماء، إلى أن قالوا: فأخبرنا من صاحبك؟

قال جبريل؟ قالوا: جبريل ! ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدوّنا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان خيرًا، فنزلت.

وعلى ذلك فإن الدقة في التفريق بين سبب النزول، وسبب الورود، ضرورية، حتى يكون الاجتهاد في فهم النصوص، واستنباط الأحكام منها، صحيحًا.

ميارى 1 - 8 - 2010 03:16 AM

ثانيًا: معرفة سبب النزول، وكذلك سبب الورود، تجعل الإنسان مدركًا لحقيقة المعنى وأبعاده:


ويعايش جزئيات الأسباب، ووجه الارتباط بين النص والحكم، والحكمة التي تكون في هذا الارتباط، وهذا يعين المجتهدين في كل عصر، لمعرفة الصفات المشتركة بين الفرع والأصل عند القياس، كما ييسر على المجتهدين الوقوف على تحقق الحكمة عند استنباط الأحكام للمشكلات المعاصرة، يقول الزركشي : "وأخطأ مَنْ زعم أنه لا طائل تحته، لجريانه مجرى التاريخ، وليس كذلك، بل له فوائد منها: وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.

ميارى 1 - 8 - 2010 03:18 AM

ثالثًا : معرفة سبب النزول، وكذلك سبب الورود، يزيل الإشكال

عند الوقوف أمام المعاني في بعض الآيات، وفي بعض الأحاديث، يقول الواحدي: "لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها، وبيان نزولها".
ويقول ابن دقيق العيد: "بيان سبب النزول، طريق قوي في فهم معاني القرآن".
ويقول ابن تيمية: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب".
ومن أمثلة ذلك:
أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى: (لا تحْسبنّ الذين يفرحون بما أتوا وّيُحبّون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذابُ أليم )(آل عمران:188).. فقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن علقمة بن وقاص: أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل، معذبًا، لنعذّبن أجمعون! فقال ابن عباس: وما لكم ولهذه؟! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبيننه للناس ولا تكتُمونه فنبَذُوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً فبئس ما يشترون * لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا ويُحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازةٍ من العذاب ولهم عذاب أليم )(آل عمران:187-188).

وأما الأمثلة التي تتعلق بأسباب الورود، فقد ذكر أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي، مجموعة منها في كتابة "كيف نتعامل مع السنة النبوية، معالم وضوابط"، قدم لها بقوله: " لا بد لفهم الحديث فهمًا سليمًا دقيقًا، من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص، وجاء بيانًا لها، وعلاجًا لظروفها، حتى يتحدد المرادُ من الحديث بدقة، ولا يتعرض لشطحات الظنون، أو الجري وراء ظاهر غير مقصود.

ومما لا يخفى أن علماءنا قد ذكروا أن مما يُعين على حسن فهم القرآن معرفة أسباب نزوله، حتى لا يقع فيما وقع فيه بعضُ الغلاة من الخوارج وغيرهم، ممن أخذوا الآيات التي نزلت في المشركين، وطبّقوها على المسلمين، ولهذا كان ابنُ عمر يراهم شرار الخلق، بما حرفوا كتاب الله عما أنزل فيه.

فإذا كانت أسباب نزول القرآن مطلوبة لمن يفهمه أو يفسره، كانت أسبابُ ورود الحديث أشدّ طلبًا.

ذلك أن القرآن بطبيعته عامّ وخالدُ، وليس من شأنه أن يعرض للجزئيات، والتفصيلات، والآنيات، إلا لتُؤخذ منها المبادئ والعبر.

أما السنة فهي تعالج كثيرًا من المشكلات الموضعية والجزئية والآنية، وفيها من الخصوص والتفاصيل ما ليس في القرآن.

فلا بد من التفرقة بين ما هو خاص وما هو عام، وما هو مؤقت وما هو خالد، وما هو جزئيُّ، وما هو كليُّ، فلكلّ منها حكمُه، والنظرُ إلى السياق والملابسات والأسباب، تساعد على سداد الفهم، واستقامته لمن وفقه الله".

والأمثلة التي قُدمت لبيان أهمية أسباب الورود، وأثرها في الفهم الصحيح، تجمع بين ذكر الحديث، والفهم الخطأ له، والفهم الصواب الذي يتحقق بمعرفة سبب ورود هذا الحديث.

فمثلاً يذكر الحديث الذي أخرجه مسلم، في كتاب المناقب، من صحيحه، عن عائشة رضي الله عنهما ، وكذلك عن أنس رضي الله عنه : "أنتم أعلم بأمور دنياكم".

وقد اتخذه "دعاة العلمانية" تكأةً للفصل بين الدنيا والدين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وكَلَ إلى الناس أمر دنياهم، فهم أعلم بها. وهذا خطأ في الفهم، يُردّه هذا الموقف التعليمي التربوي، الذي يُفهم من قصة هذا الحديث، وسبب وروده، وهي قصة تأبير النخل.

ومع ذكره أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي في ذلك؛ فإن النتيجة من قصة التأبير، تخاطب المسلمين في الأمور المتغيرة، والتي تخضع للخبرة، والتجربة، والتحسين المستمر، بما يفتح الله سبحانه به على عباده في كل زمان، مع الاسترشاد بما جعل الله سبحانه لعباده من الأصول العامة، التي ترشد هذه المتغيرات، فشأن المسلم في هذا، أن يأخذ بأحدث ما وصلت إليه الخبرة، والتجربة، والنتيجة العلمية، ولا يقول: كان الشأن في ذلك على عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو قال فيها بكذا، ما لم يكن هذا القول وحيًا مُلزمًا، وهذا - عادة - يكون في الجوانب الثابتة من أمور العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والأخبار، وأصول المعاملات، التي ترشّد ما يكون فيها من متغيرات.

والمثال الآخر، يذكر فيه الحديث الذي رواه أبو داود في الجهاد، ورواه الترمذي في السير: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين - لا تتراءى نارُهما"، والفهم الخطأ لهذا الحديث، تحريم الإقامة في بلاد غير المسلمين بصفة عامة، مع تعدد الحاجة إلى ذلك في عصرنا، للتعلم، وللتداوي، وللعمل، وللتجارة، وللسفارة، ولغير ذلك.

ويصحح هذا الفهم، بمعرفة سبب ورود الحديث، والذي جاء فيه: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر لهم بنصف العقل (أي الدية) وقال: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: لا تتراءى نارُهم ا".

فجعل لهم نصف الدّية وهم مسلمون؛ لأنهم أعانوا على أنفسهم، وأسقطوا نصف حقهم، بإقامتهم بين المشركين المحاربين لله ولرسوله.

وعلل الإمام الخطابي إسقاط نصف الدية، بأنهم أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه، وجناية غيره، فسقطت حصة جنايته من الدية.

فقوله عليه الصلاة والسلام: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، أي برئ من دمه إذا قُتل؛ لأنه عرّض نفسه لذلك بإقامته بين هؤلاء المحاربين لدولة الإسلام .

ميارى 1 - 8 - 2010 03:21 AM

أسباب الورود عند الإمام البلقيني

وتتبع النماذج التي قدمها الإمام البلقيني، وتحليلها، يؤكد لنا ضرورة العناية بالاستقراء الشامل لكل روايات السنة المطهرة، للوقوف على علاقة النصوص بأسبابها.

ويبدأ حديثه عن النوع التاسع والستين من أنواع علوم الحديث، "معرفة أسباب الحديث"، بعبارة ابن دقيق العيد، في شرح العمدة، في الكلام على حديث "إنما الأعمال بالنيات".

ويفيد كلام ابن دقيق العيد، أن التصنيف في أسباب الحديث كان متأخرًا، وهذا قد يعود إلى قرب عهد الرواة بمعرفة الأسباب والملابسات، التي قيلت فيها الأحاديث، واعتبار أن هذه المعرفة قد تجد طريقها في مباحث التاريخ والسير، إلا أنه قد لفت انتباهنا في الربط بين أسباب الحديث، وأسباب النزول للكتاب العزيز، وكما أن معرفة أسباب النزول تعين على الفهم الصحيح لبعض الآيات، فكذلك الحال في كثير من الأحاديث النبوية، التي يتوجه فيها المعنى الصحيح وجهته الصحيحة، بمعرفة أسباب ورودها، وهذا ما دفع المتأخرين إلى التصنيف في أسباب الحديث، كما صُنِّف في أسباب النزول للقرآن الكريم، ولما أحب ابن دقيق العيد أن يعمل في هذا المجال، فقد وجد أن ما ورد في ذلك من الكتابات شيءٌ يسيرٌ، وأن الأمر يحتاج إلى تتبعٍ، وإلى نظر في الأحاديث؛ فقد يكون السبب موجودًا في الحديث نفسه، وهذا أمرُ يسيرُ، يحدده راوي الحديث أو القارئ له، ولكن الأصعب في ذلك أن يكون الحديث مجردًا من سببه، ويحتاج إلى تتبع هذا السبب في روايات أخرى، وفي كتب أخرى، وعند رواة آخرين.

والحديث الذي يذكر كمثالً لوجود السبب في الحديث نفسه، هو حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، فقد ذكر أنهم نقلوا أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة، لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى "أم قيس"، فسمّي "مهاجر أم قيس"، ولهذا ذُكر في الحديث شأن هذه المرأة، دون سائر ما يُنوى به الهجرة، من أفراد الأغراض الدنيوية.

ويورد البلقيني حديثًا آخر ليدلل به على وجود السبب في الحديث نفسه، مثل حديث (سؤال جبريل عن الإيمان، والإسلام ، والإحسان، وغيرها)، وكذلك حديث (القلتين) "إذا بلغ الماءُ قلتين لم يحمل نجسًا: سُئِل عن الماء يكون بالفلاة وما ينوبه من السباع والدواب"… وكذلك حديث (الشفاعة)، سببه قوله صلى الله عليه وسلم : "أنا سيدُ ولد آدم ولا فخر".. وكذلك حديث (سؤال النجدي).. وحديث (صلِّ فإنك لم تصلّ).. وحديث (خذي فرصة مُمسّكةً فتطهري بها" والفرصة بكسر الفاء.. وحديث (السؤال عن دم الحيض يصيب الثوب).. وحديث (السائل: أيُّ الأعمال أفضل).. وحديث (سؤال: أيُّ الذنب أكبر)، وذلك كثير.

ونلاحظ أن البلقيني قد جعل السبب في هذه الأحاديث يعود إلى "السؤال"، ولكن هل السؤال المجرد يمكن أن يكون سببًا؟

إذا قلنا: إن السبب يعني الملابسات، والظروف والمواقف التي صاحبت ورود الحديث، ومعرفتها تبرز لنا المعنى في الحديث؛ فإن السؤال وحده، دون النظر إلى طبيعة السائل، وحاله، وصفاته، وما كان فيه عند السؤال من موقف، لا يحقق هذا المراد، ولذلك؛ فلا بد مع السؤال المجرد، من تتبع هذه الأحوال، وهذه الظروف والملابسات في مواضع أخرى، وعلى ذلك فإن هذا القسم الذي أشار إليه البلقيني، يتداخل مع القسم الثاني الذي ذكره في هذا الشأن بقوله: "وقد لا ينقل السبب في الحديث، أو ينقل في بعض طرقه، فهو الذي ينبغي الاعتناء به"… (ومن ذلك حديث: "أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة "). رواه البخاري ومسلم، وغيرهما، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.

وقد ورد في بعض الأحاديث، أنه ردُّ على سؤال سائل، وهذا أسنده ابن ماجه في سننه، والترمذي في الشمائل، من حديث عبد الله بن سعد، قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيُّما أفضل: الصلاة في بيتي، أو الصلاة في المسجد؟ قال: "ألا ترى إلى بيتي، ما أقربه من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحبُّ إليّ من أن أصلي في المسجد، إلا أن تكون صلاة مكتوبة" ، أخرجه ابن ماجه، وهذا لفظه من حديث شيخه أبي بكر بن خلف، وأخرجه الترمذي في الشمائل، عن عباس العنبري، عن عبد الرحمن بن مهدي بسنده.. إلا أنه قال: عن "حرام بن حكيم"، وعندما ننظر في هذا الحديث، نجد أن السؤال قد صُحِب ببيان حالة أخرى، نبه إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيها تدعيم لهذا الحكم في الحديث، من أفضلية صلاة التطوع في البيت، وهي التي جاءت في صيغة هذا الاستفهام، الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ليقرر قرب بيته من المسجد، ومحبته لصلاة التطوع في بيته، مع قرب المسجد منه إلا في الصلاة المكتوبة.

ومن ذلك حديث: "من صلى قاعًدا فله نصف أجر القائم "، رواه عمران بن حصين وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث عمران في صحيح البخاري، وأما سببه فرواه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه، عن معمر عن الزهري، أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قدمنا المدينة، فباء لنا وباء من وعك المدينة شديد، وكان الناس يكثرون أن يصلوا في سبحهم، جلوسًا، فقال: "صلاة الجالس نصف صلاة القائم"، قال: فطفق الناس حينئذ يتجشمون القيام، قال عبد الرزاق عقيب هذا: أخبرنا ابن جريج قال: قال ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي مُحِمّة فَحُمَّ الناس، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون قعودًا فقال: "صلاة القاعد نصف صلاة القائم "، فتجشم الناس الصلاة قيامًا.

والطريق الثاني أجود، فإن الزهري لم يسمع عبد الله بن عمرو، وأيضًا فقد صح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ما قد يخالف ظاهر ذلك، وهو ما رواه مسلم وغيره من حديث هلال بن يساف عن أبي يحيى عن عبد الله بن عمرو قال: حُدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة "، قال: فأتيت فوجدته يصلي جالسًا، فوضعت يدي على رأسي، فقال: مالك يا عبد الله بن عمرو؟ قلت: حدثت يا رسول الله أنك قلت: صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة، وأنت تصلي قاعدًا، قال: "أجل ولكن لست كأحدكم"، فظهر من هذا الحديث أن عبد الله بن عمرو، لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا، بخلاف ما يشعر به ظاهر حديث عبد الرزاق، ولعله سمعه من بعض الصحابة أولاً، فلا تنافي.

وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن للقاعد في الصلاة نصف أجر القائم، ولم يتعرض في هذا الحديث لذكر السبب. وما سبق من السبب، يستفاد منه أن هذا النصف لمن صلى وبه بعض مرض لا يلحقه حرج بالقيام، ويظهر من هذا السبب أن الصلاة كانت في المسجد وذلك لأحد أمرين:

(1) إما لأن الظاهر من حال المهاجرين إذ ذاك، أنهم لا بيوت لهم بالمدينة، وهذا إنما يستفاد بذكر السبب المذكور.

(2) أن تقريرهم على ذلك لبيان الجواز، وحديث عبد الله بن سعد السابق نص في تفضيل صلاة النافلة في بيوت المدينة، على صلاة النفل بمسجد المدينة.

وقد اتضح لنا أن تتبع أسباب الورود، يظهر لنا ما قد يكون من أسباب ترجيح رواية على أخرى، وإدراك ما بين الرواة من وصف دقيق لطرق التحمل والأداء وما ينشأ عن ذلك من ترجيح رواية على أخرى، كما أن هذا التتبع بعين المتأمل في معاني النصوص لكي يحسن توجيهها، فإذا وجد هذا التقرير الذي يفيد أن صلاة الجالس نصف صلاة القائم، وجه ذلك إلى النافلة، وأن المرء إذا تجشم القيام فهو أفضل له، وأن الصلاة من جلوس في النافلة جائزة، ولكن هل تستوى الفريضة مع النافلة في هذا التصنيف المذكور؟.

الظاهر من النصوص أن هذا لا يكون مع الفريضة إذا لم تكن هناك استطاعة، فالمرء يصلي قائمًا، فإن لم يستطع فجالسًا، وهكذا، ويكون أداؤه في هذه الحالة جريًا على القاعدة القرآنية الكريمة (لا يُكلف الله نفسًا إلا وُسعها )(البقرة:286). كما يتضح لنا من تتبع هذه الأسباب ما يكون من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم .

ولذلك كان توجيه سفيان الثوري: هذا للصحيح ولمن ليس له عذر، فأما من كان له عذر من مرض أو غيره، فصلى جالسًا، فله مثل أجر القائم.

وحديث: "لا تصوم المرأة وبعْلُها شاهد إلا بإذنه" ، جاء في رواية (غير رمضان)، ورواه أبو هريرة، وهذا الحديث في الصحيحين والسنن.

وأما سببه: فرواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن عنده، فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل السلمي يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده فسأله عما قالت، قال: يا رسول الله أما قولها: (يضربني إذا صليت) فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها، قال: فقال: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس "، وأما قولها: (يفطرني) فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها " وأما قولها: (إني لا أصلي حتى تطلع الشمس)، فإنا أهل بيت عرف لنا ذلك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس. قال: "فإذا استيقظت فصل ّ". أخرجه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

وفي اللفظ المخرج في سنن أبي داود والحاكم وغيرهما: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يومئذ"، وفيه دلالة تشعر بأن مبدأ هذا الحكم، وسماعهم له، كان ذلك اليوم على هذا السبب، ومعنى ذلك أن البحث عن أسباب ورود الحديث ظهرت مبكرة، ولجأ إليها الصحابة رضوان الله عليهم، لكي يتوجه النص الوجهة الصحيحة، فإذا ارتبط الصيام بإذن الزوج، فليس ذلك عامًا، وإنما يخص النافلة التي يتسع المجال فيها بما يشق على الزوج، وهنا يضيع حق من حقوقه برغبة الزوجة في صيام التطوع، والذي قد تبالغ فيه.

وقد ظهر من تتبع هذا السبب، كيف صارت المرأة في الناحية العملية، إلى حفظ الكثير من القرآن الكريم، وإلى كثرة القراءة منه في صلاتها، وكيف أقبلت على عبادتها برغبة، جعلت الزوج يطلب أن تحد منها، كما وجدنا شجاعة المرأة في عرض حالتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وزوجها شاهد، لأنها لا تريد الانتقاص من استمتاعها بهذه العبادات، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حقق بسنته التوازن في العلاقات، فلها أن تقرأ، ولكن بما تيسر، حفاظًا على حق الزوج، ولها أن تصوم التطوع، ولكن بالتنسيق مع زوجها، حتى لا تضيّع حقه، كما أنها لا تسكت على منكر، فقد أخذت عليه أنه يصلي الفجر بعد طلوع الشمس، وفي إجابة النبي صلى الله عليه وسلم ما يفيد أن هذه حالة تخص هذا الرجل، لأعذار لم تذكر في الحديث، إلا في قوله: إنا أهل بيت عرف لنا ذلك. فهل هذا يعود إلى عمل لهم في الليل، أو إلى حالات قد تكون مرضية لا تمكنهم من الاستيقاظ حتى تطلع الشمس، قد يكون ذلك، لأن الأحاديث الأخرى أخذت على من ينام حتى يصبح، أن الشيطان بال في أذنيه.

فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح! قال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه -أو قال- اُذُنه " متفق عليه.

ولقد كان لتتبعي ما يتصل بهذا السبب المذكور، من ملابسات وأسباب، من النتائج ما يؤكد أن ما نعده سببًا لحديث، قد يكون هو - أيضًا - في حاجة إلى بيان ما يرتبط به من أسباب.

فالإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لصفوان بن المعطل، والمذكور في الحديث السابق: "فإذا استيقظت فصلّ"، جعلني أتساءل أولاً عن موقف العلماء من هذا الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. فوجدت أن الإمام الذهبي قد ذكر الحديث في ترجمة صفوان بن المعطل، ولكن علق عليه بقوله: "فهذا بعيد من حال صفوان أن يكون كذلك، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم على ساقة الجيش: فلعله آخر باسمه، فهذا الاستبعاد من الذهبي والذي بلغ التشكيك في كونه المراد بذلك على الرغم من أن محقق الكتاب ومخرج أحاديثه ذكر في تخريجه للحديث أن أبا داود أخرجه، وكذلك أحمد، ورجاله ثقات، وقال الحافظ في الإصابة: وإسناده صحيح.

وأما الإمام ابن القيم رحمه الله فقال: "وقال غير المنذري: ويدل على أن الحديث وهم، لا أصل له: أن في حديث الإفك المتفق على صحته قالت عائشة: "وإن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط، قال: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله شهيدًا". وفي هذا نظر، فلعله تزوج بعد ذلك، والله أعلم.

ويذكر صاحب عون المعبود من الملابسات والظروف، ما يوضح هذا الإذن فيقول: "فإنا أهل بيت"، أي إنا أهل صنعة لا ننام الليل، "قد عرف لنا ذلك" أي عادتنا ذلك، وهي أنهم كانوا يسقون الماء في طول الليالي، "لا نكاد نستيقظ" أي إذا رقدنا آخر الليل. "قال: فإذا استيقظت فصلِّ" ذلك أمر عجيب من لطف الله سبحانه بعباده، ومن لطف نبيه صلى الله عليه وسلم ، ورفقه بأمته، ويشبه أن يكون ذلك منه على معنى ملكة الطبع، واستيلاء العادة، فصار كالشيء المعجوز عنه، وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يُغمى عليه، فعذر فيه، ولم يثرب عليه.

ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض الأوقات دون بعض، وذلك إذا لم يكن بحضرته من يوقظه، ويبعثه من المنام، فيتمادى به النوم، حتى تطلع الشمس، دون أن يكون ذلك منه في عامة الأحوال، فإنه يبعد أن يبقى الإنسان على هذا في دائم الأوقات، وليس بحضرته أحد لا يصلح هذا القدر من شأنه، ولا يراعي مثل هذا من حاله، ولا يجوز أن يظن به الامتناع من الصلاة في وقتها ذلك، مع زوال العذر بوقوع التنبيه والإيقاظ ممن يحضره ويشاهده، والله أعلم.

والذي جعل صاحب عون المعبود، يسلك مسلك التأويل المذكور، هو ما قاله أبو داود في تخريج هذا الحديث بعد روايته له: "قال أبو داود: رواه حماد - يعني ابن سلمة - عن حُميد أو ثابت، عن أبي المتوكل".

وطريق أبي داود في هذه الرواية: "حدثنا عثمان بن أبي شيبة، أخبرنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال:".

وأبو المتوكل هو الناجي البصري، "والحاصل أن أبا صالح ليس بمتفرد بهذه الرواية عن أبي سعيد، بل تابعه أبو المتوكل عنه، ثم الأعمش ليس بمتفرد أيضًا - بل تابعه حميد أو ثابت، وكذا جرير ليس بمتفرد بل تابعه حماد بن سلمة".

يقول صاحب عون المعبود: "وفي هذا كله رد على الإمام أبي بكر البزار، وسيجيء كلامه، قال المنذري: قال أبو بكر البزار: هذا الحديث كلامه منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: ولو ثبت احتمل: إنما يكون أمرها بذلك استحبابًا، وكان صفوان من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما أتى نكرة هذا الحديث أن الأعمش لم يقل: حدثنا أبو صالح، فأحسب أنه أخذه عن غير ثقة، وأمسك عن ذكر الرجل، فصار الحديث ظاهر إسناده حسن، وكلامه منكر لما فيه، و رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمدح هذا الرجل، ويذكره بخير، وليس للحديث عندي أصل".

ومن التتبع الذي أرى ضرورته، لتجلية العلاقات بين الروايات ورواتها، وجدت في تاريخ دمشق لابن عساكر روايتين، لهما علاقة بصحو صفوان رضي الله عنه ونومه، وبهما يرجح تأويل قول صفوان: "إنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك" وأن هذا لم يكن عادة دائمة فيه، بل يدخل هذا الأمر في دائرة الضرورة التي تقدر بقدرها، فإذا كان مجهدًا متعبًا من أثر العمل الليلي، وغلبه النوم فليس في النوم، تفريط.

أما الرواية الأولى، يقول فيها صفوان رضي الله عنه : "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرمقتُ صلاته، فصلى العشاء الآخرة ثم نام، فلما كان نصف الليل استنبه، فتلا العشر آيات آخر سورة آل عمران، ثم قام، ثم تسوك، ثم قام فتوضأ، وصلى ركعتين، فلا أدري أقيامه، أم ركوعه، أم سجوده، أطول، ثم انصرف فنام، ثم استيقظ ففعل مثل ذلك، فلم يزل يفعل كما فعل أول مرة، حتى صلّى إحدى عشرة ركعة".

فالذي يصف حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته بالليل وفي السفر؛ في أقواله وأفعاله، لا نستطيع أن نقول: إن عادته النوم ليلاً حتى تطلع الشمس.

ووجدت هذا الحديث في سير أعلام النبلاء، مع تخريج محقق الكتاب، ويذكر أن إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن جعفر المديني والد علي، والحديث في المسند، والطبراني.

والرواية الثانية يقول فيها أبو هريرة رضي الله عنه :

جاء صفوان بن المعطل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، إني سائلك عن أمر أنت به عالم، وأنا به جاهل. قال: وما هو؟

قال: هل من ساعات من الليل والنهار ساعة تكره فيها الصلاة؟

قال: "نعم. إذا صليت الصبح فدع الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع بين قرني الشيطان، ثم الصلاة محضورة متقبّلة حتى تستوي الشمس على رأسك قيد رمح، فإذا كانت على رأسك فدع الصلاة، فإن تلك الساعة التي تُسجر فيها جهنم، وتفتح فيها أبوابها، حتى ترتفع الشمس عن حاجبك الأيمن، فإذا زالت فصلّ، فإن الصلات محضورة متقبلة، حتى تصلي العصر، ثم ذكر الصلاة حتى تغرب الشمس ".

فهذا البيان لأوقات الصلاة، فيه ما يتعلق بالوقت ا لمذكور في حديث امرأة صفوان. وجاء في بيان الأوقات: "إذا صليت الصبح فدع الصلاة حتى تطلع الشمس"، فهو خطاب مباشر دون ذكر للحالة التي يمكن أن تطرأ من غلبة النوم.

وعلى كل حال، فإن تتبع الروايات، يمنح المزيد من تجلية المعاني والمواقف، ويصحح الفهم للروايات جميعها.

وحديث: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا "، وفي رواية: (فاقضوا).

وقد فسر ابن الأثير السعي بالعدو، أي المشي السريع، ويدل ذلك على أن المسبوق يدخل مع الإمام على أي حالة وجده، ثم إذا سلّم الإمام أتى المسبوق بما بقي.

وسبب هذا الحديث: ما رواه أبو نعيم قال: حدثنا سليم بن أحمد قال: أنا أبو زُرعه، أنا يحيى بن صالح الوحاظي، أنا فُليح بن سليمان، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مُرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنا نأتي الصلاة، فإذا جاء رجل وقد سبق بشيء من الصلاة أشار إليه الذي يليه، قد سبقت بكذا، فيقضي، قال: وكنا بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فجئت يومًا وقد سبقت ببعض الصلاة، وأشير إليّ بالذي سبقت به، فقلت: لا أجده على حال إلا كنت عليها، فكنت بحالهم التي وجدتهم عليها، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قمت، فصليت واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: من القائل كذا وكذا؟ قالوا : معاذ بن جبل، فقال: قد سن لكم معاذ فاقتدوا به، إذا جاء أحدكم وقد سبق بشيء من الصلاة فليصل مع الإمام بصلاته، فإذا فرغ الإمام فلْيقض ما سبقه به .

وروى أبو نعيم عن سليمان بن أحمد قال: أنا محمد بن محمد بن التمار البصري، ثنا حرمي بن حفص العتكي، أنا عبد العزيز بن مسلم، عن حصين، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قال: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سبق أحدهم بشيء من الصلاة، سألهم، فأشاروا إليه بالذي سبق به، فيصلي ما سبق به ثم يدخل معهم في صلاتهم، فجاء معاذ والقوم قعود في صلاتهم فقعد معهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى ما سبق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا ما صنع معاذ).

فذكر السبب.. بيّن القصة التي شرحت الأمر السابق، وما صار إليه بعد فعل معاذ، الذي وافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم التقريرية لفعل معاذ، فبيّن السبب أن المسبوق كان يبتدئ بعد أن يكون منفردًا، وقد أجاز ذلك جمْع من أهل العلم، ومنهم الشافعي في أرجح قولية، وقال في موضع آخر: ولا يجوز أن يبتدئ الصلاة لنفسه ثم يأتمّ بغيره، وهذا منسوخ.

وقد كان المسلمون يصنعون ذلك، حتى جاء معاذ بن جبل، أو عبد الله بن مسعود، وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الصلاة، فدخل معه، ثم قام يقضي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"إن ابن مسعود -أو معاذًا- قد سن لكم سنة فاتبعوها"، قال المزني: قوله عليه الصلاة والسلام: "إن معاذًا قد سن لكم"، يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستن بهذه السنة، فوافق ذلك فعل معاذ.

ويرى البلقيني: أن ما قاله المزني يشير به إلى أن معاذًا أقدم على ذلك بأمرٍ ظهر له من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.

وبقي للمجتهدين أن يفسروا ماذا يُراد بالقضاء أو الإتمام. فهل القضاء يعني أن ما فاتهم يؤدى على ما أداه الإمام؟ أم أن الإتمام سيجعل المسبوق يحسب لنفسه ما صلاه مع الإمام ثم يتم ما بقي من صلاته؟

ويكفينا من هذا التساؤل، الإشارة إلى بحث هذا في موضعه.

وحديــث: "ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ".

وفي هذا الحديث الذي يقول: "ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله"، وهذا الحديث له سبب، وهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، من حديث أبي نملة الأنصاري، وهو عمار بن معاذ بن زرارة بن عمر بن غُنْم الخزرجي الأنصاري، أنه قال: بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من اليهود، مُرَّ بجنازة فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الله أعلم. فقال اليهودي: إنها تتكلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوه، وإن كان حقًا لم تكذبوه " أخرجه أبو داود في كتاب العلم، في الباب الثاني منه.

ففي هذا السبب، بيان واضح للحديث، وتفسير النهي المذكور فيه، والذي قد يلتبس على من لم يعلم سبب ورود الحديث.. كما أن معرفة السبب، بيّنت جوانب أخرى، هي من فوائد معرفة أسباب ورود الحديث، ومنها: موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الشيء الغيبي، الذي لا يعلمه، فإنه يقول فيه: لا أعلم، حتى يخبره الله سبحانه بما شاء من علمه، وفي هذا تعليم لأمته، إذا استفتي أحدهم فلا يستحي من قول: لا أعلم، أو لا أدري، فإن من ترك هذه العبارة في مواضعها فقد أصيبت مقاتله كما ذكر العلماء.

كما أفاد هذا الموقف بيان طبيعة اليهود، ومظاهر التعنت التي سلكوها، ومنها : توجيه الأسئلة للإحراج، والمصحوبة بادّعاء العلم والكذب على الله.

وموقف النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي فسره سبب الورود، يصيب الحقيقة دون الانفعال الغاضب من فعل اليهود، فلا تصديق لهم فيما يحدثون به، لأنهم يكذبون ، ولا تكذيب لهم كذلك فيما يحدثون، لأنهم قد يخلطون بين حق وباطل، وإنما يكون التصديق بأصل ما نزل على موسى عليه السلام من التوراة، وأما ما في أيديهم فقد حرفوه، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : "وقولوا آمنا بالله ورسله ".

ومن ذلك، حديـث: "الخراج بالضمان "، فقد رواه الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله، وأصحاب السنن، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ؛ وحسنه "الترمذي" من طريق مخلد بن خُفاف، عن عروة عن عائشة، وصححه "ابن حبان" من هذا الطريق.

ورواه "الترمذي" من حديث عمرو بن علي المقدمي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث هشام، واستغربه "البخاري" من حديث عمرو بن علي، وللحديث طرق أخرى.

وقد ذكر سبب هذا الحديث في بعض طرقه.

فذكر الإمام "الشافعي" رحمه الله، من رواية مسلم بن خالد الزنجي، فقال: ولا أحسب، بل لا أشك -إن شاء الله- أن مسلمًا نصّ الحديث، (ومعنى "نصّ الحديث":رفعه، ومسلم -هنا- هو ابن خالد الزنجي).

فذكر أن رجلاً ابتاع عبدًا فاستعمله، ثم ظهر منه على عيب، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعيب، فقال المقضيّ عليه؛ قد استعمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الخراج بالضمان".

(وفسر ابن الأثير الخراج: ما يحصل من غلة العين المبتاعة، وتقديره: الخراج مستحق بالضمان، أي سببه).

والذي ذكره الإمام الشافعي، قد أسنده "أبو داود"، من حديث مسلم بن خالد على الجزم، فقال: ثنا إبراهيم بن مروان، قال: ثنا أبي، ثنا مسلم بن خالد الزنجي، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهما، أن رجلاً ابتاع عبدًا، فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيبًا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرده عليه، فقال الرجل: يا رسول الله قد استغل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان".. ورواه ابن ماجه من حديث شيخه هشام بن عمار، قال: "ثنا مسلم بن خالد، ثنا هشام" فذكره.

قال "أبو داود" عقب روايته الحديث: هذا إسناد ليس بذاك. وإنما قال "أبو داود" هذا من أجل مسلم بن خالد الزنجي، ومسلم بن خالد قد وثقه يحيى بن معين في رواية عباس الدوري والدارمي، ولم ينفرد برواية الحديث عن هشام، فقد رواه عمر بن علي المقدمي عن هشام - كما سبق - وتابعه على ذلك جرير، وإن كان جرير قد نُسب فيه إلى التدليس.

ولم ينفرد "مسلم بن خالد" بذكر السبب، فقد جاء ذكر السبب من غير رواية مسلم بن خالد، قال الشافعي رحمه الله : "أخبرني من لا أتهم من أهل المدينة، عن ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف قال: ابتعت غلامًا، فاستغللتُه، ثم ظهرت فيه علي عيب، فخاصمته فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى له بردّه، وقضى عليّ بردّ غلّته، فأتيت عروة بن الزبير فأخبرته، فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان، فعجلت إلى عمر رحمه الله، فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر بن عبد العزيز: فما أيسر عليّ من قضاء قضيته - والله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق، فبلغني سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرد قضاء عمر، وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراح إليه عروة، فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به له".

وقد رواه "أبو داود الطيالسي"، عن ابن أبي ذئب بمعنى رواية "الشافعي"، ورواية الشافعي أتم، وذكر السبب يتبين به الفقه في المسألة.

وقد جاء في سنن "أبي داود" أمر آخر، يفهم منه تعدي ذلك إلى الغاصب.

قال "أبو داود": ثنا محمد بن خالد، ثنا الفريابي، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن، عن مخلد الغفاري، قال: كان بيني وبين أناس شركة في عبد، فاكتريته، وبعضنا غائب، فأغلّ عليّ غلّة خاصمني في نصيبه إلى بعض القضاة، فأمرني أن أرد الغلة، فأتيت عروة بن الزبير فحدثته، فأتاه عروة فحدثه عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخراج بالضمان".

وقد أخذ بهذا العموم جماعة من العلماء من المدنيين والكوفيين، والأخذ بالسبب المرفوع أقوى، لأمور ليس هذا موضع بسطها.

هكذا يحكي الإمام البلقيني وهو يورد حديث "الخراج بالضمان"، ويتتبع أسباب وروده بالطرق المتعددة، وقد بيّن لنا بهذا التتبع أن سبب ورود الحديث قد يرد في طريق ولا يكون في غيره.

ولهذا فإن التتبع، هو الذي يحقق لنا الوصول إلى سبب الورود.

وأن بعض الطرق قد يكون أقوى من بعض، وقد يكون بعضها واهياً لا يعتد به.

ومعنى ذلك أن الأسباب تعامل في الحكم عليها، معاملة الحديث ذاته، من جهة سندها ومتنها، ولا فرق، وذلك لأن اعتماد سبب الورود سيؤثر في فهمنا للحديث نفسه.

وقد رأينا كيف أن سنن أبي داود قد جاء فيها ما يفيد أمرًا آخر، وهو تعدي ذلك إلى الغاصب.

ولذلك وجدنا عبارة البلقيني، والتي جعلها نتيجةً لتتبعه طرق الحديث: "والأخذ بالسبب المرفوع أقوى".

فهذه العبارة وإن كان أرجأ البسط فيها إلا أنها تفيد خضوع طرق الأسباب إلى المرجحات المعروفة لدى علماء الحديث، كما أنها تفيد في الوقت نفسه، أن ترجيح السبب المرفوع، يعود إلى الوقوف المباشر على الظروف، والملابسات، والقرائن، التي صاحبت الحديث.

وهذا يعين على فهم الحديث، كما يعين على حسن فقه المسألة، والانتفاع المعاصر بها بالقياس عليها، وقد صرح بذلك "البلقيني" في قوله: "وذكر السبب يتبين به الفقه في المسألة".

ويذكر البلقيني مثالاً آخر، وهو الإرخاص في "العَرايا".

فيقول: ومن ذلك الإرخاص في العرايا، رواه "البخاري، ومسلم" من حديث ابن عمر عن زيد بن ثابت رضي الله عنهم، ومن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، تقييد الرخصة بما دون خمسة أوْسُق، أو خمسة أوسُق - شكّ داود بن الحصين، أحد رواة الحديث.

أما سبب ورود هذا الحديث، فقد ذكره "الشافعي" وغيره، قال الشافعي رحمه الله في "كتاب البيوع": "وقال محمود بن لبيد لرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إما زيد بن ثابت، وإما غيره - ما عراياكم هذه؟ قال: فلان وفلان -وسمى رجالاً محتاجين من الأنصار- شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبًا يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر؛ فرخّص لهم أن يبتاعوا العرايا بِخًرْصها، من التمر الذي في أيديهم يأكلونها رطبًا".

وقال الشافعي رحمه الله في "كتاب اختلاف الحديث" : "والعرايا التي أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ما ذكره محمود بن لبيد قال: سألت زيد بن ثابت فقلت: ما عراياكم هذه التي تحلونها؟ فذكر معنى ما ذكره في البيوع، قال الشافعي رحمه الله : "وحديث سفيان يدل على مثل هذا الحديث". وهو ما رواه الشافعي رحمه الله ، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن بُشير بن يسار، قال: سمعت سهل بن أبي حثْمة يقول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر، إلا أنه رخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا، يأكلها أهلها رطبًا.

وأراد الشافعي بذلك قوله: "يأكلها أهلها رطبًا" ، وليس يدل على تتمة السبب.

فتتبع سبب الورود، فسر العرايا من جهة، وأزال الاختلاف والتعارض من جهة، وأزال الاختلاف والتعارض من جهة أخرى.

واختيار البلقيني لهذا المثال، يدل على ذلك.

وأكد البلقيني هذه الفائدة من فوائد تتبع أسباب الورود، وهو إزالة التعارض في هذا المثال الآخر، وهو حديث النهي عن كراء الأرض - وفي لفظ: كراء المزارع، وهو المراد بالأول.

رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، جماعة من الصحابة، منهم "رافع بن خديج"، ولحديث طرق، منها ما رواه نافع: أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرًا من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافته أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدخل عليه وأنا معه وسأله فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع"، فتركها ابن عمر بعد ذلك، فكان إذا سُئل عنها بعد، قال: "زعم ابن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها" ، رواه "مسلم" بهذا اللفظ.

وفي "البخاري" نحوه إلى قوله: ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع، فقال ابن عمر: "قد علمتُ أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء بشيء من التبن".

والحديث في كتاب البيوع، من صحيح البخاري، قال "القسطلاني" على هامشه: "قوله: الأربعاء، بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الموحدة ممدودًا: جمع ربيع، وهو النهر الصغير.

وقوله: من التبن، بالموحدة الساكنة. وحاصل حديث ابن عمر هذا، أنه ينكر على رافع إطلاقه في النهي عن كراء الأرض، ويقول: "الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم ، هو الذي كانوا يدخلون فيه الشرط الفاسد، وهو أنهم يشترطون ما على الأربعاء، وطائفة من التبن، وهو مجهول".

وفي رواية لنافع، أن ابن عمر كان يؤجر الأرض، قال: فنبئ حديثًا عن رافع، قال: فانطلق بي معه إليه. قال: فذكر عن بعض عمومته، ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كراء الأرض، قال: فتركه ابن عمر فلم يأجُرْه"، رواه "مسلم" بهذا اللفظ.

ومنها رواية سالم بن عبد الله: "أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه، حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض، فلقيه عبد الله فقال: يا ابن خديج، ماذا تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟

قال رافع بن خديج لعبد الله: "سمعت عمّي - وكانا قد شهدا بدرًا - يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض. قال عبد الله: لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تُكرى، ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا لم يكن يعلمه، فترك كراء الأرض" رواه مسلم. وأخرج البخاري قول عبد الله بن عمر الذي في آخره.

وفيها رواية أبي النجاشي، مولى رافع بن خديج، عن رافع أن ظهير بن رافع - وهو عمه - قال ظهير: لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقًا، فقلت: وما ذاك؟ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو حق.

قال: سألني كيف تصنعون بمحاقلكم؟ فقلت: نؤاجرها يا رسول الله على الربع، والأوسق من التمر والشعير، قال: "فلا تفعلوا، ازرعوها، أو أُزرِعوها، أو امسكوها""رواه "البخاري"، وفي روايته: "قال رافع: قلت: سمعًا وطاعة" ، ورواه مسلم وهذا لفظه.

ومنها رواية سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج، قال: "كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنكريها بالثلث، والربع، والطعام المسمّى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا: نهانا أن نحاقل الأرض، فنكريها على الثلث، والربع، والطعام المسمّى، وأمر رب الأرض أن يزرعها، وكره كِراها، وما سوى ذلك". رواه "مسلم" بهذا اللفظ، وله طرق.

وممن رواه من الصحابة: "جابر بن عبد الله" وله ألفاظ كلها في "الصحيح"، منها عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض".

ومنها، عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليُزْرِعها أخاه ".

ومنها، قال "جابر": كان لرجال فضولُ أرضين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من كانت له فضل أرض فليزرعْها أو ليمْنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه". ومنها، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كانت له أرض فليزرعْها، أو ليُزْرِعها أخاه، ولا يَكْرِها".

والكلُّ من رواية "عطاء" عنه.

ومنها رواية "سعيد بن ميناء" عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له فضل أرض فليزرعْها أو ليُزرِعها أخاه، وقال ولا تبيعوها" قال الراوي عن ابن ميناء: ما "ولا تبيعوها"؟، يعني الكراء؟ قال: نعم.

وممن روى ذلك من الصحابة "أبو هريرة" رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "من كانت له أرض فليزرعْها أو ليمْنحها أخاه، فإن أبى فليُمسك أرضه". رواه "مسلم" مسندًا عن حسن بن علي الحلواني، عن أبي توبة، عن معاوية، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. وذكره البخاري تعليقًا.

يقول البلقيني: ولذلك سبب، وهو ما جاء عن رافع بن خديج "قال: كنا أكثر أهل المدينة مزرعًا، كنا نكري الأرض بالناحية منها على مسمى، فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض، ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا. فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ" رواه البخاري. وعن رافع بن خديج قال: كنا أكثر الأنصار حقلاً، كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، قال: فربما أخرجت هذه، ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك. "فأما الورق فلم ينهنا"، رواه مسلم، وهذا لفظه.

وروى البخاري عنه قال: "كنا أكثر أهل المدينة حقلاً، وكان أحدنا يكري أرضه فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم -وفي لفظ له أيضًا- فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهينا عن ذلك، ولم نُنْه عن الورق".

ولمسلم عن حنظلة بن قيس الأنصاري، أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض، فقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، قال: فقلت: أفي الذهب والورق؟ قال: أما الذهب والورق فلا بأس به".

وفي رواية لمسلم عن حنظلة، قال: "سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر الناس عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به".

فهكذا يتتبع الإمام البلقيني الروايات التي تتضمن سبب الورود، وما تتضمنه هذه الروايات من مواقف للصحابة رضوان الله عليهم، كموقف عبد الله عمر رضي الله عنه من تسليمه وإذعانه لأمر لم يكن يعلمه من قبل، وإذعان رافع لما أمر به، وإذعان الرجل من بني عمومته،ولو كان في تصوره لا يطابق منفعة كما قال: "…عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا".

وما يصحب هذه المواقف من بيان ما كان عليه الناس في معاملاتهم، وتوافق الفتوى على ما كانوا عليه، وبيان أسباب النهي وملابساته، وغير ذلك من الفوائد العلمية، التي يقف عليها المتتبع لأسباب الورود.

يقول البلقيني - بعد إيراد هذه الروايات -:

فقد صرّحت هذه الروايات بالسبب المقتضى للنهي: وأما ما سبق من رواية سليمان بن يسار، عن رافع، عن رجل من عمومته، التي فيها النهي عن كراء الأرض بالطعام المسمى - وقد رواها مسلم من طريق أبي الطاهر عن رافع، من غير ذكر: بعض عمومته 0 فهو محمول على الطعام المسمى من تلك الأرض، لا على المضمون في الذمة، ولهذا السبب طرق أخرى من رواية رافع. وأما رواية جابر -يرفعه- قال: كنا نخاير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من القصرى ومن كذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كانت له أرض فليزرعها، أو فليُحْرثها أخاه، وإلا فليدعْها" رواه مسلم.

وله عنه قال: كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نأخذ الأرض بالثلث أو الربع، بالماذيانات؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من كانت له أرض فليزرعْها، فإن لم يزرعْها فليمْنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها ".

ويخلص البلقيني إلى تحرير القول في هذه الروايات، فيقول: فظهر بذلك أن النهي عن كراء الأرض في حديث "جابر"، إنما كان لهذا السبب، لا أنه نهى عن الإجارة مطلقًا.

ويكون نهي عن كراء الأرض بما كان يعتاد من الأمور التي فيها الغرر والجهل، ويؤدي إلى النزاع.

ويشهد له ما جاء عن "سعد بن أبي وقاص": أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ،كانوا يُكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزروع، وما سُقي بالماء مما حول البئر، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختصموا في ذلك فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُكروا بذلك، وقال: "اكروا بالذهب والفضة ". رواه الإمام أحمد - وهذا لفظه - وأبو داود، والنسائي. وللعلماء في هذه الأحاديث مقالات ليس هذا موضع بسطها.

وينبه "البلقيني" في دراسة أسباب ورود الحديث، إلى أن السبب قد يكون من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد يكون في طريق من طرق الرواية، وقد لا يكون في آخر. وهذا يقتضي التتبع والجمع للأسباب، يقول البلقيني: وما ذكر في هذا النوع من الأسباب: قد يكون ما ذكر عقد ذلك السبب من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، أول ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت. وقد يكون تكلم به قبل ذلك لنحو ذلك السبب، أو لا لسبب. وقد يتعين أن يكون أول ما تكلم به في ذلك الوقت لأمور تظهر للعارف بهذا الشأن.

ويشير إلى موارد هذه الأسباب بقوله: وفي أبواب الشريعة والقصص وغيرها، أحاديث لها أسباب يطول شرحها. وما ذكرناه أنموذجُ لمن يريد تَعرّف ذلك، ومدخل لمن يريد أن يضيف مبسوطًا في ذلك. والمرجو من الله سبحانه وتعالى، الإعانة على مبسوط فيه، بفضله وكرمه. فهذا الأنموذج الذي قدمه الإمام البلقيني في أسباب ورود الحديث، هل يعد مدخلاً لمن يريد أن يضيف مبسوطًا في ذلك؟

لقد قدم البلقيني هذه الدراسة الموجزة لتكون مدخلاً لمن يريد الإضافة، ولكنها مع إيجازها قد وفت بما يرجوه القارئ والدارس من الأعمال الأولى الممهدة للطريق، فقد بين في دراسته ما يلي:-

ميارى 1 - 8 - 2010 03:22 AM

نتائج التحليل لنماذج البلقيني

أولاً: بين أهمية معرفة أسباب ورود الحديث، وأنها تتساوى في تحقيق الأغراض العلمية مع معرفة أسباب نزول الآيات القرآنية الكريمة.

ثانياً: نظر إلى ما كتب قبل ذلك، فوجد نفسه أول من سيكتب في هذا الموضوع، فله فضل السبق، ومعاناة المؤسس، وما سبق في ذلك إلا بشيء يسير.

ثالثًا: استطاع أن ييسر لنا تقسيم الأسباب - وفق ما ورد في الأحاديث - إلى : أسباب تذكر في الحديث نفسه، وهذه لا تحتاج أكثر من حسن التدبر والتأمل، للربط بين الحديث وسببه، في الفهم والاستنباط.

وأسباب لا تذكر في الحديث نفسه، وإنما تأتي عن طرق أخرى، وخرجت في مصنفات أخرى.

وهذا القسم هو الذي يتطلب جهدًا علميًا في تتبع هذه الطرق، ويقتضي هذا التتبع القراءة الواسعة الواعية في كتب السنة، وحسن الربط بين المعاني في الرواية.

رابعًا: من خلال نماذجه، استطعنا أن نتعامل مع هذه الأسباب، باعتبارها روايات، مستقلة يجري عليها ما يجري على الروايات من قواعد النقد الحديثي، في السند والمتن.

خامسًا: قدم - لنا - نماذج لأسباب لا تتجاوز معنى سؤال السائل والإجابة من النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا ما دعاني إلى القول: بأن مثل هذه الأسباب في حاجة إلى مزيد من التتبع، لمعرفة أحوال السائل عند سؤاله، وطبيعة السؤال والبيئة التي قيل فيها، وغير ذلك من الملابسات والقرائن، التي تجعل للسؤال قيمة في معنى سبب الورود.

سادساً: قدم لنا أسبابًا في صورة قصة للحديث، أو تفسير حالة كان من أجلها الحكم الوارد في الحديث، أو بيان موقف كان له أثر في هذا الحكم، أو ملابسات اقترنت بهذا الحكم، أو خصوصية اقتضت هذا الحكم، أو تفصيلات لا بد من معرفتها لإمضاء هذا الحكم في الحديث.

سابعًا: نبّهنا إلى قيمة هذا التتبع في مقارنة الطرق، وظهور العلل الخفية - أحيانًا - عند هذه المقارنة بين الأسانيد.

ثامنًا : وجه الباحثين إلى موارد هذه الأسباب في أبواب الشريعة، حيث الأحكام، وفي القصص حيث المواقف والملابسات والظروف، وغيرها من الأبواب، التي تُطرق في تتبع هذه الأسباب.

تاسعًا: قدم لنا بهذا التتبع المصحوب الدراسة، كيف نجمع بين الروايات في الموضوع الواحد، وكيف نزيل ما يكون من تعارض أو اختلاف بينها.

عاشرًا: قدم في نماذجه، كيف تعين الأسباب على معرفة الحكمة من التشريع، والناسخ والمنسوخ، وحسن الفهم للمعاني، ومواجهة التعنت من المخالفين في الدين، وتعدد وجهات النظر في فهم الروايات، وطبيعة الصحابة في السماحة وحسن السمع والطاعة، والرجوع إلى السنة وما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم، على الفور، عند العلم بها.

ونستطيع بعد هذا التقديم لعمل البلقيني، أن نقول: إنه وفق في فتح الطريق أمام البسط والتتبع لأسباب ورود الحديث، فمن قدم لنا مبسوطًا بعده؟؛ وما المنهج الذي سار عليه؟.

ميارى 1 - 8 - 2010 03:24 AM

الإمام السيوطي وأسباب الورود


لقد كان للإمام السيوطي، الأثر الكبير في إبراز الجهود السابقة، في أسباب الحديث، والإفادة؛ في بيان منهجها، والتأسيس لنفسه في تقديم مبسوط في ذلك.

وقد مر بنا قوله في ذلك عند الحديث عن بداية الكلام في أسباب الورود، وارتباط ذلك بأسباب النزول، والمؤلفات المفقودة في هذا الموضوع، وأُحب أن يجمع كتابًا في ذلك، فسلك مسلك التتبع للجوامع الحديثية، والالتقاط منها.

وسار على المنهج الذي استخلصه من طريقة الإمام البلقيني في الأمثلة التي ذكرها، أي تتبع في المع والالتقاط الأسباب على النحو الآتي:-

- قد لا يُنقل السبب في الحديث، ولكن يُنقل في بعض طرقه، وهذا سبله التتبع وهو ما ينبغي الاعتناء به، وبذل الجهد فيه.

- وقد يكون ما ذكر عقب السبب من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، أول ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت.

- وقد يكون تكلم به قبل ذلك، لنحو ذلك السبب.

- وقد يكون تكلم به، لا لسبب.

- وقد يكون تكلم به لأمور تظهر للعارف بهذا الشأن.

فهذه الأسباب التي حكاها عن منهج السابقين فيها، واختارها لتطبيق جمعه وتصنيفه عليها، فارتضى السؤال في الحديث نفسه، أو السبب المنفصل عن الحديث، وجاء بطرق أخرى، والظروف والملابسات التي ترتبط بأقوال الرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرف بالخبرة والتتبع الواسع.

ولكن تطبيق الإمام السيوطي لهذا المنهج السابق، والذي وافق عليه، جعله يأخذ معه الأمثلة التي ذكرها الإمام البلقيني، تصريحًا بها في مقدمته مع الإيجاز، ونسبتها إلى البلقيني، وأغفل نسبتها عند التفصيل.

ففي خطبة كتابه، أشار إلى حديث "إنما الأعمال بالنيات"، وتناوُلِ ابن دقيق العيد له، وكذلك البلقيني في أسباب الورود.

وما ذكره البلقيني كذلك، في حديث سؤال جبريل عن الإسلام ، وحديث القلتين، وحديث الشفاعة، وحديث سؤال النجدي، وحديث "صلّ فإنك لم تصلِّ"، وحديث "خذي فِرْصةً من مسك"، وحديث "السؤال عن دم الحيض يصيب الثوب"، وحديث "السائل": "أيُّ الأعمال أفضل"، وحديث سؤال: "أيُّ الذنب أكبر"، وحديث "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".. فهذه نسبها عند الإجمال، ولكنه فصّلها في جملة اختياراته، وزاد عليها الأمثلة الأخرى التي ذكرها البلقيني.

ولكن هل الإمام السيوطي يعد في ذلك ناقلاً دون إضافة؟

إننا لا نستطيع الحكم في ذلك، إلا بعرض مقارنة سريعة بين ما ذكره البلقيني، وما ذكره السيوطي.

فأما الجانب المختصر عند البلقيني، فقد بسطه السيوطي بذكر الرواية وأسبابها، على النحو الآتي:-

حديث : أخرج الأئمة الستة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ".

سببه: قال الزبير بن بكار في أخبار المدينة: حدثني محمد بن الحسن، عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن، عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبيه، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وُعِك فيها أصحابه، وقدم رجل فتزوج امرأة كانت مهاجرة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: يا أيها الناس، إنما الأعمال بالنية (ثلاثًا)، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته في دنيا يطلبها أو امرأة يخطبها فإنما هجرته إلى ما هاجر إليه، ثم رفع يديه، فقال: اللهم انقل عنا الوباء (ثلاثًا). فلما أصبح قال: أتيتُ هذه الليلة بالحُمّى، فإذا بعجوز سوداء ملبّبة في يَدَي الذي جاء بها، فقال: هذه الحمى فما ترى؟ فقلت اجعلوها بخُمٍ.

وقد جعل السيوطي هذا الحديث في بداية كتابه على الرغم من تبويبه للكتاب على الطريقة الفقهية، حيث بدأ بباب الطهارة، وسلك في ذلك مسلك الإمام البخاري رحمه الله في الجامع الصحيح، باعتبار أن النية أساس الأقوال والأعمال، وعلقها بالطهارة - كذلك - بيِّنٌ في تنقية القلب وتطهيره.

وأما حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإحسان، فلم يورده السيوطي في التفصيل، وهذا يدل على أنه اختار من النماذج السابقة، والسبب الذي ذكر فيه هو ما يتصل بمجيء جبريل عليه السلام في صورة رجلٍ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، وكيف جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقول الرسول الكريم: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ".

وأما حديث القلتين، فإن السيوطي رحمه الله، قد ذكره في باب الطهارة، ولكنه قدم من اختياراته في باب الطهارة ثمانية أحاديث، وتسعة عشر سببًا للورود، ومعنى ذلك أنه ليس بجامع لجهد غيره، وإنما أفاد من النماذج، والمنهج، وأحسن التطبيق في اختيارات أفادت من بعده.

وقال في حديث القلتين: حديث: أخرجه أبو أحمد الحاكم، والبيهقي عن يحيى بن يعمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان الماء قلتين، لم يحمل نجسًا، ولا بأسًا، أو قال خبثًا ".

سبب: أخرج أحمد عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يسأل عن الماء، يكون بأرض الفلاة، وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء ".

وقد وُفق محقق "أسباب ورود الحديث" الدكتور يحيى اسماعيل، في إضافة ما يراه من أسباب مناسبة في الهامش فيقول: وللحديث سبب ثان: أخرجه أحمد في 2/107 ، من حديث عاصم بن المنذر، قال: كنا في بستان لنا، أو لعبيد الله بن عبد الله بن عمر، نرمي فحضرت الصلاة، فقام عبيد الله إلى مقْرى البستان، فيه جلد بعير، فأخذ يتوضأ فيه، فقلت: أتتوضأ فيه، وفيه هذا الجدل؟ فقال: حدثن أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان الماء قُلتين أو ثلاثًا، فإنه لا يَنْجس".. والمَقرى والمَقْراء: الحوض الذي يجمع فيه الماء.

وترك السيوطي حديث الشفاعة، وسببه قوله صلى الله عليه وسلم : "أنا سيد ولد آدم ولا فخر". والحديث أخرجه أحمد في المسند 1/281، والترمذي في أبواب التفسير، تفسير سورة الإسراء 4/370، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وترك حديث سؤال النجدي، والذي أخرجه البخاري في كتاب الحيل، باب الزكاة 229، وكتاب الإيمان باب الزكاة من الإسلام 1/18، ومسلم في كتاب الإيمان 1/141، وأبو داود في كتاب الصلاة 1/92 عن طلحة بن عبيد الله قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجدٍ ثائر الرأس، يُسمع دويّ صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّعٍ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وصيام رمضان. قال: هل عليّ غيره؟ قال: لا إلا أن تطوّع، قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع، قال: فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق ".

وكذلك لم يذكر حديث: "صلّ فإنك لم تصلّ"، وقد أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب الالتفات في الصلاة، عن أبي هريرة 1/192.

ولم يذكر حديث: "خذي فِرْصة من مسك" ، ولم يذكر حديث: "السؤال عن دم الحيض يصيب الثوب"، وحديث السائل: "أيُّ الأعمال أفضل"، وحديث سؤال: "أيُّ الذنب أكبر". وعلى ذلك، فإن اختيار الإمام السيوطي من هذه الأسباب السابقة، كان يسيرًا، والذي اختاره منها هو من النوع الذي يُذكرُ فيه السبب بطريق آخر، أو في رواية أخرى. ومعنى ذلك أنه اختار في تصنيفه، الطريق الذي يحتاج إلى جهد وتتبع، وليس سؤالاً في حديث، أو موقفًا، أو طرفًا في الرواية نفسها.

ولذلك سنجده قد توسع في الاختيار من الأمثلة الأخرى، التي ذكرها البلقيني بأسباب منفصلة عن الروايات.

فمثلاً ذكر حديثًا أخرجه أحمد، عن السائب بن أبي السائب، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم. وأخرج البخاري عن عمران بن حصين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم ".

سبب: أخرج عبد الرزاق في المصنف، وأحمد عن أنس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي مُحمّة، فَحُمّ الناس، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، والناس قعود يصلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "صلاة القاعد نصف صلاة القائ م"، فتجشم الناس الصلاة قيامًا.

وأخرج عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمرو، قال: قدمنا المدينة، فنالنا وباءُ من وعك المدينة شديد، وكان الناس يكثرون أن يصلوا في سُبُحتهم جلوسًا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم عند الهاجرة وهم يصلون في سبحتهم جلوسًا، فقال: "صلاة الجالس نصف صلاة القائم" قال: فطفق الناس حينئذٍ يتجشمون القيام.

وذكر كذلك حديث: "لا تصوم امرأةُ وبعلُها شاهدُ إلا بإذنه، غير رمضان"، وذكر سببه في حديث امرأة صفوان بن المعطل.

وذكر كذلك - مع إضافةٍ منه لما وقع عليه - الحديث الذي أخرجه الأئمة الستة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينةُ، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمو ا".

والسبب: أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم عن أبي قتادة، عن أبيه، قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ سمع جَلَبَةَ رجالٍ، فلما صلى دعاهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله استعجلنا إلى الصلاة، قال: "فلا تفعلوا. إذا إتيتم الصلاة فعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما سبقكم فأتموا".

ولكن إذا كان البلقيني قد جعل حديث معاذ سببًا لورود الحديث: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وعليكم السكينةُ، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا"، فإن السيوطي قد جعله سببًا لحديث آخر أخرجه الترمذي، عن عليّ وعن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أتى أحدكم الصلاة والإمامُ على حال، فليصنع كما يصنع الإمام" .

وهذا يدل على أن تحديد السبب، أمرُ اجتهادي، وأن السبب قد يصلح لأكثر من رواية، وأن السبب قد يتعدد.

وترك حديث: "ما حدثكم أهل الكتاب…".

وذكر حديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان"، وأورد ما ذكره البلقيني، وزاد من اختياره أسبابًا أخرى، منها: ما أخرجه أحمد، عن عروة بن الزبير، قال: قال زيد بن ثابت: "يغفر الله لرافع بن خديج، أنا والله أعلم بالحديث منه، وإنما أتى رجلان قد اقتتلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كان هذا شأنكم، فلا تكروا المزارع، فسمع رافع قوله: لا تُكروا المزارع".

وذكر السيوطي كذلك، حديث زيد بن ثابت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رخّص في العرايا.

ومع هذا الاختيار، الذي اتبعه السيوطي مع من سبقه، إضافة عظيمة لأحاديث أخرى بأسباب مستقلة بلغت جميعها ثمانية وتسعين حديثًا (98)، وأربعة وسبعين ومائتي سبب. صنفها على أبواب الطهارة، والصلاة، والجنائز، والصيام، والحج، والبيع، النكاح، والجنايات، والأضحية، والأطعمة، والأدب.

ونستطيع أن نقول: إن صنيع الإمام السيوطي، قد أرسى دعائم هذا النوع العظيم من أنواع علوم الحديث، في كثرة العدد، وتنوع الموضوعات، وتتبع الأسباب خارج الحديث.

وفتح الطريق أمام السالكين لهذا النوع الجدير ببذل المزيد من الجهود فيه.

ميارى 1 - 8 - 2010 03:25 AM


ابن حمزة وأسباب الورود


نجد ابن حمزة الحسيني، الحنفي، الدمشقي، بعد ذلك قد استوعب المنهج، والأمثلة التي قدمها البلقيني، وقدمها السيوطي، ويضيف إضافات تغرس اليقين في إمكانية استيعاب كتب السنة جميعها، في اختيار الأسباب، التي تُربط بأحاديثها.

لقد انطلق ابن حمزة في عمله، من القاعدة السابقة، التي أرساها البلقيني والسيوطي، حتى نجد التطابق في استعماله لعبارات السابقة في هذا الموضوع. فمعرفة الأسباب عنده، من أجلّ أنواع علوم الحديث.

والذين ألفوا فيه، قد ذكرهم - كما سبق - فقال: "وقد ألف فيها أبو حفص العكبري كتابًا، وذكر الحافظ ابن حجر أنه وقف منه على انتخاب، ولما لم أظفر في عصرنا بمؤلف مفرد في هذا الباب، غير أوائل تأليفٍ شَرع فيه الحافظ السيوطي، ورتبه على الأبواب، فذكر فيه نحو مائة حديث.. واخترمته المنيةُ قبل إتمام الكتاب، سنح لي أن أجمع في ذلك كتابًا، تقربه عيون الطلاب، فرتبته على الحروف والسّنن المعروف، وأضفت له تتمات تمس الحاجة إليها، وتحقيقات يعوّل عليها، وسميته: "البيان والتعريف في أسباب الحديث الشريف..". وأسباب الورود عنده كأسباب نزول القرآن الكريم. والحديث الشريف عنده - في الورود 0 على قسمين: ما له سبب قيل لأجله، وما لا سبب له. والسبب عنده - كذلك - قد يذكر في الحديث، وقد لا يذكر السبب في الحديث، أو يذكر في بعض طرقه، فهو الذي ينبغي الاعتناءُ به، ويورد الأمثلة ذاتها.

ويضيف ما أفاده الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي، من أن سبب الحديث، يأتي تارة في عصر النبوة، وتارة بعدها، وتارة يأتي بالأمرين.. ويقصد بما يكون بعد عصر النبوة، ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم، فقد حفظوا الأقوال والأفعال، وحافظوا على الأطوار والأحوال، فيكون السبب في الورود عنهم، مبينًا لما لم يعلم سببه عن النبي صلى الله عليه وسلم. كما عُني في منهجه بتخريج أحاديثه من المعاجم والمسانيد، والكتب الستة، وابتدأ بحديث "إنما الأعمال بالنيات".

وقدم لنا بهذا المنهج من الأحاديث، تسعة وثلاثين وثمانمائة وألف، بأسباب كثيرة. وقد حقق هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء، فضيلة الأستاذ الدكتور الحسيني هاشم رحمه الله.

وهذا مثال، اشترك فيه مع السابقين، وقدّمه على النحو الآتي: "إذا أتى أحدكم الصلاة، والإمامُ على حال، فليصنع كما يصنع الإمام ". أخرجه الترمذي والطبراني في الكبير، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال الترمذي: هذا حديث غريب.

سببه: ما أخرج الطبراني عن معاذ، قال: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا سبق أحدهم شيء من الصلاة سألهم، فأشاروا إليه بالذي سُبق به، فيصلي ما سُبق، ثم يدخل معهم في صلاتهم، فجاء معاذ والقوم قعود في صلاتهم، فقعد معهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فقضى ما سُبق به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اصنعوا ما صنع معاذ".

وفي رواية له عن معاذ: فقلت: لا أجده إلا لبث عليها، فكنت بحالهم التي وجدتهم عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد سنّ لكم معاذ، فاقتدوا به.. إذا جاء أحدكم وقد سُبق بشيء من الصلاة، فليصلِّ مع الإمام بصلاته، فإذا فرغ الإمام، فليتم ما سبقه به، والعمل على هذا عند أهل العلم.

وقد يذكر للحديث الواحد أكثر من سبب.


الساعة الآن 06:00 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى