منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب التوسل - محمد ناصر الدين الألباني (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8904)

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 10:49 PM

لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد ) كما ذكره في المقدمة فهذان النصان من الحافظ نفسه دليل على وهمه في تضعيفه كون عطية مدلسا في الجملة المذكورة آنفا فهذا وجه من وجوه التعارض بينها وبين عبارة التقريب . وثمة وجه آخر وهو أنه في هذه الجملة لم يصفه بما هو جرح عنده - كما سبق عن شرح النخبة - وهو قوله في ( التقريب ) : ( يخطيئ كثيرا ) فهذا كله يدلنا على أن الحافظ رحمه الله تعالى لم يكن قد ساعده حفظه حين تخريجه لهذا الحديث فوقع في هذا القصور الذي يشهد به كلامه المسطور في كتبه الأخرى وهي أولى بالاعتماد عليها من كتابه ( التخريج ) لأنه في تلك ينقل عن الأصول مباشرة ويلخص منها بخلاف صنيعه في ( التخريج )
ولما ذكرنا من حال العوفي ضعف الحديث غير واحد من الحفاظ كالمنذري في ( الترغيب ) ( 1 ) والنووي وشيخ الإسلام ابن تيمية في ( القاعدة الجليلة ) وكذا البوصيري فقال في ( مصباح الزجاجة ) :
( هذا إسناد مسلسل بالضعفاء : عطية وفضل بن مرزوق والفضل بن الموفق كلهم ضعفاء ) . وقال صديق خان في ( نزل الأبرار ) بعد أن أشار لهذا الحديث وحديث بلال الآتي بعده :

( وإسنادهم ضعيف صرح بذلك النووي في الأذكار )
الحديث الثاني :
وحديث بلال الذي أشار إليه صديق خان هو ما روي عنه أنه قال :
( ضعيف ) ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خرج إلى الصلاة قال : بسم الله آمنت بالله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله اللهم بحق السائلين عليكن وبحق مخرجي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا . . ) الحديث أخرجه ابن السني في ( عمل اليوم والليلة ) من طريق الوازع بن نافع العقيلي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عنه
قلت : وهذا سند ضعيف جدا وآفته الوازع هذا فإنه لم يكن عنده وازع يمنعه من الكذب كما بينته في ( السلسلة الضعيفة ) ولذلك لما قال النووي في ( الأذكار ) : ( حديث ضعيف أحد رواته الوازع بن نافع العقيلي وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث ) قال الحافظ بعد تخريجه :
( هذا حديث واه جدا أخرجه الدارقطني في ( الأفراد ) من هذا الوجه وقال : تفرد به الوازع وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث . والقول فيه أشد من ذلك فقال ابن معين والنسائي : ليس بثقة وقال أبو حاتم وجماعة : متروك الحديث وقال الحاكم : يروي أحاديث موضوعة )قلت في ( السلسلة الضعيفة ) بعد أن تكلمت على حديث بلال هذا والذي قبله :
( وجملة القول أن هذا الحديث ضعيف من طريقيه وأحدهما أشد ضعفا من الآخر )
فتغافل بعض المؤلفين عن هذه الجملة ( وأحدهما أشد ضعفا من الآخر ) فافتروا علي وقالوا : ( فقد اتضح أنهما حديثان متغايران في الإسناد ابتداء وانتهاء فكيف يصح أن يجعلا حديثا واحدا ويحكم عليهما بحكم واحد إن هذا دليل على مبلغ تخليط قائله )
قلت : فليتأمل القارئ هل صدقوا فيما زعموا ثم ليعذرني إذا ذكرت قوله صلى الله عليه و سلم : ( من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت )

قلت : فلا يجوز الاستشهاد به كما فعل الشيخ الكوثري والشيخ الغماري في ( مصباح الزجاجة ) وغيرهما من المبتدعة
ومع كون هذين الحديثين ضعيفين فهما لا يدلان على التوسل بالمخلوقين أبدا وإنما يعودان إلى أحد أنواع التوسل المشروع الذي تقدم الكلام عنه وهو التوسل إلى الله تعالى بصفة من صفاته عز و جل لأن فيهما التوسل بحق السائلين على الله وبحق ممشى المصلين . فما هو حق السائلين على الله تعالى ؟ لا شك أنه إجابة دعوتهم وإجابة الله دعاء عباده صفة من صفاته عز و جل وكذلك حق ممشى المسلم إلى المسجد هو أن يغفر الله له ويدخله الجنة ومغفرة الله تعالى ورحمته وإدخاله بعض خلقه ممن يطيعه الجنة كل ذلك صفات له تبارك وتعالى
وبهذا تعلم أن هذا الحديث الذي يحتج به المبتدعون ينقلب عليهم ويصبح بعد فهمه فهما جيدا حجة لنا عليهم والحمد لله على توفيقه



الحديث الثالث :
عن أبي أمامة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أصبح وإذا أمسى دعا بهذا الدعاء : اللهم أنت أحق من ذكر وأحق من عبد . . أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض وبكل حق هو لك وبحق السائلين عليك . . )
قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) :
( رواه الطبراني وفيه فضال بن جبير وهو ضعيف مجمع على ضعفه )
قلت : بل هو ضعيف جدا اتهمه ابن حبان فقال :
( شيخ يزعم أنه سمع أبا أمامة يروي عنه ما ليس من حديثه )
وقال أيضا :
( لا يجوز الاحتجاج به بحال يروي أحاديث لا أصل لها )
وقال ابن عدي في ( الكامل ) :
( أحاديثه كلها غير محفوظة )
قلت : فالحديث شديد الضعف فلا يجوز الاستشهاد به أيضا كما فعل صاحب ( المصباح )
الحديث الرابع :
عن أنس بن مالك قال : لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي رضي الله عنهما دعا أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر ابن الخطاب وغلاما أسود يحفرون . . . فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فاضطجع فيه فقال : ( الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع مدخلها بحق نبيك . والأنبياء الذين من قبله فإنك أرحم الراحمين . . . )
قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) :
( رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح )
قلت : ومن طريق الطبراني رواه أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) وإسناده عندهما ضيف لأن روح بن صلاح الذي في إسناده قد تفرد به كما قال أبو نعيم نفسه وروح ضعفه ابن عدي . وقال ابن يونس : رويت عنه مناكير وقال الدارقطني : ( ضعيف في الحديث ) وقال ابن ما كولا : ( ضعفوه ) وقال ابن عدي بعد أن أخرج له حديثين : ( له أحاديث كثيرة في بعضها نكرة ) فقد اتفقوا على تضعيفه فكان حديثه منكرا لتفرده به
وقد ذهب بعضهم إلى تقوية هذا الحديث لتوثيق ابن حبان والحاكم لروح هذا ولكن ذلك لا ينفعهم لما عرفا به من التساهل في التوثيق فقولهما عند التعارض لا يقام له وزن حتى لو كان الجرح مبهما فكيف مع بيانه كما هي الحال هنا وقد فصلت الكلام على ضعف هذا الحديث في ( السلسلة الضعيفة - 23 ) فلا نعيد الكلام عليه في هذه العجالة ولكن المشار إليهم جاؤوا بما يضحك فقالوا : ( حكم عليه الشيخ ناصر بالضعف فنطالبه . بمن ضعف هذا الحديث من المحدثين )
قلت : قد ذكرنا من ضعف روايه روح بن صلاح الذي تفرد به وهذا يستلزم ضعف حديثه كما لا يخفى إلا عند المتابعة وقد نفاها أبو نعيم أو عند مجيئه من طريق آخر وهيهات ثم قالوا :
( ولو فرض تضعيفه فضعفه خفيف فلا يمنع جواز العمل لأنه من باب ما جوزه المحدثون والفقهاء من العمل بالضعيف الذي ليس ضعفه بشديد في الترغيب والترهيب ) . قلت : ليس في هذا الحديث شيء من الترغيب ولا هو يبين فضل عمل ثابت في الشرع إنما ينقل أمرا دائرا بين أن يكون جائزا أو غير جائز فهو إذن يقرر حكما شرعيا لو صح وأنتم إنما توردونه من الأدلة على جواز هذا التوسل المختلف فيه فإذا سلمتم بضعفه لم يجز لكم الاستدلال به وما أتصور عاقلا يوافقكم على إدخال هذا الحديث في باب الترغيب والترهيب وهذا شأن من يفر من الخضوع للحق يقول ما لا يقوله جميع العقلاء
الحديث الخامس :
عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال :
( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يستفتح بصعاليك المهاجرين )
فيرى المخالفون أن هذا الحديث يفيد أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يطلب من الله تعالى أن ينصره ويفتح عليه بالضعفاء المساكين من المهاجرين وهذا - بزعمهم - هو التوسل المختلف فيه نفسه . والجواب من وجهين :
الأول : ضعف الحديث فقد أخرجه الطبراني في ( المعجم الكبير ) : حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه حدثنا أبي حدثنا عيسى بن يونس حدثني أبي عن أبيه عن أمية به
وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي بن عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي إسحاق عن أمية بن خالد به . ثم رواه من طريق قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة عن أمية بن خالد مرفوعا بلفظ : ( . . . يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين )
قلت : مداره على أمية هذا ولم تثبت صحبته فالحديث مرسل ضعيف وقال ابن عبد البر في ( الاستيعاب ) :
( لا تصح عندي صحبته والحديث مرسل ) وقال الحافظ في ( الإصابة ) :
( ليست له صحبة ولا رواية )
قلت : وفيه علة أخرى وهي اختلاط أبي إسحاق وعنعنته فإنه كان مدلسا إلا أن سفيان سمع منه قبل الاختلاط فبقيت العلة الأخرى وهي العنعنة
فثبت بذلك ضعف الحديث وأنه لا تقوم به حجة . وهذا هو الجواب الأول
الثاني : أن الحديث لو صح فلا يدل إلا على مثل ما دل عليه حديث عمر وحديث الأعمى من التوسل بدعاء الصالحين قال المناوي في ( فيض القدير ) : ( كان يستفتح ) أي يفتتح القتال من قوله تعالى : ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ذكره الزمخشري . ( ويستنصر ) أي يطلب النصرة ( بصعاليك المسلمين ) أي بدعاء فقراءهم الذين لا مال لهم )

قلت : وقد جاء هذا التفسير من حديثه صلى الله عليه و سلم أخرجه النسائي بلفظ : ( إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم ) وسنده صحيح وأصله في صحيح البخاري فقد بين الحديث أن الاستنصار إنما يكون بدعاء الصالحين لا بذواتهم وجاههم
ومما يؤكد ذلك أن الحديث ورد في رواية قيس بن الربيع المتقدمة بلفظ : ( كان يستفتح ويستنصر . . ) فقد علمنا بهذا أن الاستنصار بالصالحين يكون بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم وهكذا الاستفتاح وبهذا يكون هذا الحديث - إن صح - دليلا على التوسل المشروع وحجة على التوسل المبتدع والحمد لله
الحديث السادس :
عن عمر بن الخطاب مرفوعا : ( لما اقترف آدم الخطيئة قال : يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي فقال : يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه ؟ قال يا رب لما خلقتني بيدك ونخفت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا : لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك فقال : غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك )
أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري : حدثنا إسماعيل بن مسلمة : أنبأ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر . وقال : ( صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد ابن أسلم في هذا الكتاب )
فتعقبه الذهبي بقوله :
( قلت : بل موضوع وعبد الرحمن واه وعبد الله بن أسلم الفهري لا أدري من ذا ) قلت : ومن تناقض الحاكم في ( المستدرك ) نفسه أنه أورد فيه حديثا آخر لعبد الرحمن هذا ولم يصححه : بل قال :
( والشيخان لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد )
قلت : والفهري هذا أورده الذهبي في ( الميزان ) وساق له هذا الحديث وقال :
( خبر باطل ) وكذا قال الحافظ ابن حجر في ( اللسان ) وزاد عليه قوله في الفهري هذا :
( لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته ) قلت : والذي قبله هو عبد الله بن مسلم بن رشيد قال الحافظ : ذكره ابن حبان متهم بوضع الحديث يضع على ليث ومالك وابن لهيعة لا يحل كتب حديثه وهو الذي روى عن ابن هدية نسخة كأنها معمولة )
قلت : والحديث رواه الطبراني في ( المعجم الصغير ) : ثنا محمد بن داود بن أسلم الصدفي المصري : ثنا أحمد ابن سعيد المدني الفهري : ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم به . وهذا سند مظلم فإن كل من دون عبد الرحمن لا يعرفون وقد أشار إلى ذلك الحافظ الهيثمي حيث

قال في ( مجمع الزوائد ) :
( رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم )
قلت : وهذا إعلال قاصر . يوهم من لا علم عنده أن ليس فيهم من هو معروف بالطعن فيه وليس كذلك فإن مداره على عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال البيهقي : ( إنه تفرد به ) وهو متهم بالوضع رماه بذلك الحاكم نفسه ولذلك أنكر العلماء عليه تصحيحه لحديثه ونسوه إلى الخطأ والتناقض فقال ( وارث علم الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين شيخ الإسلام ابن تيمية ) ( 1 ) رحمه الله في ( القاعدة الجليلة ) :
( ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه فإنه نفسه قد قال في كتاب ( المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم ) : ( عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه ) . ( 2 ) قلت : وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيرا ( 3 ) ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم
وقال ابن حبان : ( كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك
من روايته من رفع المراسيل ) وإسناد الموقوف فاستحق الترك )
وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا : إن الحاكم يصحح أحاديث موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث . ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم )
قلت : وقد أورد الحاكم نفسه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في كتابه ( الضعفاء ) كما سماه العلامة ابن عبد الهادي وقال في آخره :
( فهؤلاء الذين قدمت ذكرتهم قد ظهر عندي جرحهم لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به فإن الجرح لا أستحله تقليدا والذي أختاره لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذين سميتهم فالرواي لحديثهم داخل في قوله صلى الله عليه و سلم : ( من حديث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ) ( 1 )
قلت : فمن تأمل في كلام الحاكم هذا والذي قبله يتبين له بوضوح أن حديث عبد الرحمن بن زيد هذا موضع عند الحاكم نفسه وأن من يرويه بعد العلم بحاله فهو أحد الكاذبين
وقد اتفق عند التحقيق كلام الحفاظ ابن تيمية والذهبي والعسقلاني على بطلان هذا الحديث وتبعهم على ذلك غير واحد من المحققين كالحافظ ابن عبد الهادي كما سيأتي فلا يجوز لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصحح الحديث بعد اتفاق هؤلاء على وضعه تقليدا للحاكم في أحد قوليه مع اختياره في قوله الآخر لطالب العلم أن لا يكتب حديث عبد الرحمن هذا وأنه إن فعل كان أحد الكاذبين كما سبق
( تنبيه ) : إذا عرفت هذا فقول بعض المشايخ : ( إن حكم الشيخ ناصر على الحديث بأنه ( كذب وموضوع ) باطل لأن مستنده قول الذهبي إنه موضوع ) باطل حقا لأن الذهبي قد وافقه من ذكرنا من الحفاظ الأعلام ثم قالوا : ( ومستند الذهبي ما في إسناد الحاكم من رجل قيل فيه إنه متهم ) . قلت : هذا باطل أيضا لأن الرجل المشار إليه وهو عبد الله بن مسلم الفهري جهله الذهبي ولم يتهمه كما تقدم نقله عنه وما أظن هذا يخفى عليهم ولكنهم تجاهلوه لغرض في أنفسهم وهو أن يتسنى لهم أن يقولوا عقب ذلك :
( لكن للحديث إسناد آخر عند الطبراني ليس فيه هذا المتهم وغاية ما فيه أن فيه من هو غير معروف ) قلت : بل فيه ثلاثة لا يعرفون وإذا كانوا لا يعلمون ذلك فلماذا عدلوا عن تقليد الهيثمي في قوله : ( وفيه من لم أعرفهم ) كما سبق وهم هلكى وراء التقليد إلى قولهم : ( فيه من هو غير معروف ) ؟
السبب في ذلك أن قول الهيثمي نص على أن ( من هو غير معروف ) جماعة وأما قولهم فليس نصا على ذلك بل هذا يقال إذا كان في السند شخص لا يعرف أو أكثر فهو الحقيقة من تلبيساتهم على القراء نعوذ بالله من الخذلان . ثم قالوا عطفا على ما سبق : ( وإن فيه عبد الرحمن بن زيد وهو على الراجح عند الحافظ ابن حجر ممن يقال فيه ضعيف وهذه الكلمة من أخف مراتب التضعيف ) أقول : لكن الراجح عند غير الحافظ أنه أشد ضعفا من ذلك فقد قال فيه أبو نعيم : ( روى عن أبيه أحاديث موضوعة ) . وكذلك قال الحاكم نفسه كما سبق وهو وكذا أبو نعيم من المعروفين بتساهلهم في التوثيق فإذا جرحا فإنما ذلك بعد أن ظهر لهما أن عبد الرحمن مجروح حقا ولذلك اتفقوا على تضعيفه كما نص في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . بل ضعفه جدا علي بن المديني وابن سعد وغيرهما وقال الطحاوي : ( حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف ) فهو معروف بالضعف الشديد منذ القديم فما الذي حمل المخالفين على الإعراض عن هذه الأقوال المتضافرة على أن عبد الرحمن هذا ضعيف جدا - إن لم يكن كذابا - إلى التمسك بقول الحافظ فيه ( ضعيف ) ؟ أقول هذا مع احتمال أن يكون سقط من قلم الحافظ أو قلم بعض النساخ عقب قوله ( ضعيف ) لفظة ( جدا ) وعلى كل حال فإن تقليدهم للحافظ في هذه الكلمة لا يفيدهم شيئا بعد أن حكم هو على الحديث بأنه ( خبر باطل ) كما سبق نقله عن ( لسانه ) فهذا من الأدلة الكثيرة على أن هؤلاء أتباع هوى وليسوا طلاب حق وإلا لأخذوا بقول الحافظ هذا الموافق لقول الذهبي وغيره من المحققين ولم يعرجوا على تضعيفه فقط لعبد الرحمن ليعارضوا به الذهبي ويدلسوا على الناس أمر الحديث ويظهروه بمظهر الأحاديث التي اختلف فيها العلماء حتى يتسنى لهم ابتداع رأي جديد .

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 11:02 PM

حول الحديث يتلاءم مع قول أحد الحفاظ في أحد رواته فانظر إليهم كيف قالوا عقب ما سبق : ( فما كان حاله هكذا عند المحدثين فليس من الموضوع ولا من الضعيف الشديد بل هو من القسم الذي يعمل به في الفضائل )
أقول : وهذا كلام ساقط من وجهين : الأول : أنه مبني على أن عبد الرحمن ضعيف فقط وليس كذلك بل هو ضعيف جدا كما سبق وسيأتي التصريح بذلك عن أحد الحفاظ النقاد . الثاني : أنه معارض لحكم الحافظ بل الحفاظ على الحديث بالبطلان كما سبق فيكف جاز لهم خالفتهم لا سيما قد صرح أحدهم في ( التعقيب الحثيث ) ( أنه ليس له صفة التصحيح والتضعيف فلعله قال ذلك تواضعا وإلا فأنت تراه هنا قد أعطى لنفسه منزلة تسوغ له الاستقلال في البحث ولو أدى إلى مخالفة كل أولئك الحفاظ النقاد ويؤيد هذا الذي نقوله فيه أنه قال عطفا على ما سبق : ( فنحن في هذا الحديث مع من لم ير به ذلك ( يعني الوضع ) كالحاكم والحافظ السبكي فليس علينا فيه افتيات على الحافظ الذهبي لكن رأينا ما عليها الحافظان المذكوران أقرب إلى الصواب )
أقول : ولا يخفى ما في هذا الكلام من التلبيس والتدليس فإن الحاكم إنما ذهب في ( المستدرك ) إلى تصحيح الحديث كما سبق والسبكي قلده في ذلك كما بينه الحافظ ابن عبد الهادي فقال في رده عليه في ( الصارم المنكي ) :
( وإني لأتعجب منه كيف قلد الحاكم في تصحيحه مع أنه حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث ضعيف الإسناد
جدا وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن بن زيد بصحيح بل مفتعل على عبد الرحمن كما سنبينه ولو كان صحيحا إلى عبد الرحمن لكان ضعيفا غير محتج به لأن عبد الرحمن في طريقه وقد أخطأ الحاكم وتناقض تناقضا فاحشا كما عرف له ذلك في مواضيع فإنه قد قال في كتاب ( الضعفاء ) بعد أن ذكر عبد الرحمن منهم ) . وذكر ما نقلته عنه فيما سبق : ( فانظر إلى ما وقع للحاكم في هذا الموضع من الخطأ العظيم والتناقض الفاحش ثم إن هذا المعترض المخذول عمد إلى هذا الذي أخطأ فيه الحاكم وتناقض فقلده فيه واعتمد عليه فقال : ( ونحن قد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم ) وذكر قبل ذلك بقليل أنه مما تبين له صحته . فانظر يرحمك الله إلى هذا الخذلان البين والخطأ الفاحش كيف جاء هذا المعترض إلى حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث موضوع فصححه واعتمد عليه وقلد في ذلك الحاكم مع ظهور خطئه وتناقضه مع معرفة هذا المعترض بضعف راويه وجرحه واطلاعه على الكلام المشهور فيه )
أقول : هذا شأن السبكي رحمه الله تعالى في هذا الحديث وتقليد الحاكم في تصحيحه وهذا مع كونه خطأ في نفسه كما سبق بيانه فهو خلاف رأي المشار إليه سابقا الذي صرح بأن الحديث ضعيف لا صحيح ولا موضوع فقد خالف - هو ومن قلده وناصره - الحاكم والسبكي كما خالفوا من سبق ذكرهم من العلماء الفحول الذين قالوا بوضع الحديث أو بطلانه فليس افتئاتهم على الذهبي فقط بل وعلى من وافقه وخالفه جميعا فليتأمل العاقل ما يفعل الهوى بصاحبه لقد أرادوا أن ينزهوا أنفسهم عن الافتئات على الذهبي وإذا بهم يقولون بما هو أدهى وأمر من الافتئات على من ذكرنا من العلماء
ومن مغالطاتهم المكشوفة عند أهل العلم قولهم في أثناء كلامهم السابق بعد أن أشاروا إلى طريق الطبراني الذي سبق الكلام عليه :
( فالذهبي لم يطلع على هذا الطريق وإلا لو اطلع عليه لم يقل بذلك )
أقول : وهذا الكلام باطل إذ أن الذهبي حكم على الحديث بالوضع والبطلان من طريق الحاكم وفيه عبد الرحمن بن زيد ورجل آخر لا يعرفه كما سبق بيانه في أول هذا التنبيه وطريق الطبراني فيه علاوة على عبد الرحمن هذا ثلاثة رجال آخرون لا يعرفون كما سبق أيضا فكيف يصح أن يقال حينئذ :
( إن الذهبي لو اطلع على هذا الطريق لم يقل بذلك ) ؟
اللهم إن هذه مغالطة ومكابرة مكشوفة أو جهل مركب فرحمتك اللهم وهداك
لقد تبين للقراء الكرام مما سلف أن للحديثين علتين :
الأولى : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأنه ضعيف جدا
الثانية : جهالة الإسناد إلى عبد الرحمن
وللحديث عندي علة أخرى . وهي اضطراب عبد الرحمن أو من دونه في إسناده فتارة كان يرفعه كما مضى وتارة كان
يرويه موقوفا على عمر لا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم كما روه أبو بكر الآجري في كتاب ( الشرعية ) من طريق عبد الله ابن إسماعيل بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن زيد به وعبد الله هذا لم أعرفه أيضا فلا يصح عن عمر لا مرفوعا ولا موقوفا ثم رواه الأجري من طريق آخر عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أنه قال : من الكلمات التي تاب الله بها على آدم قال : ( اللهم أسألك بحق محمد عليك . . . الحديث نحوه مختصرا وهذا مع إرساله ووقفه فإن إسناده إلى ابن أبي الزناد ضعيف جدا وفيه عثمان ابن خالد والد أبي مروان العثماني قال النسائي : ( ليس بثقة )
وعلى هذا فلا يبعد أن يكون أصل هذا الحديث من الإسرائيليات التي تسربت إلى المسلمين من بعض مسلمة أهل الكتاب أو غير مسلمتهم أو عن كتبهم التي لا يوثق بها لما طرأ عليها من التحريف والتبديل كما بينه شيخ الإسلام في كتبه ثم رفعه بعض هؤلاء الضعفاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم خطأ أو عمدا
مخالفة هذا الحديث للقرآن :
ومما يؤيد ما ذهب إليه العلماء من وضع هذا الحديث وبطلانه أنه يخالف القرآن الكريم في موضعين منه :
الأول : أنه تضمن أن الله تعالى غفر لآدم بسبب توسله به صلى الله عليه و سلم والله عز و جل يقول : ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) . وقد جاء تفسير هذه الكلمات عن
ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما بما يخالف هذا الحديث فأخرج الحاكم عنه { فتلقى آدم من ربه كلمات . . . } قال : أي رب ألم تخلقني بيدك ؟ قال : بلى . قال : ألم تنفخ في من روحك ؟ قال : بلى قال : أي رب ألم تسكني جنتك ؟ قال : بلى . قال : ألم تسبق رحمتك غضبك ؟ قال : بلى . قال : أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال بلى . قال : فهو قوله : { فتلقى آدم من ربه كلمات } وقال الحاكم : ( صحيح الإسناد ) ووافقه الذهبي وهو كما قالا
قلت : وقول ابن عباس هذا في حكم المرفوع من وجهين :
الأول : أنه أمر غيبي لا يقال من مجرد الرأي
الثاني : أنه ورد في تفسير الآية وما كان كذلك فهو في حكم المرفوع كما تقرر في محله ولا سيما إذا كان من قول إمام المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله : ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )
وقد قيل في تفسير هذه الكلمات : إنها ما في الآية الأخرى : { قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } . وبهذا جزم السيد رشيد رضا في ( تفسيره ) لكن أشار ابن كثير إلى تضعيفه ولا منافاة عندي بين القولين بل أحدهما يتمم الآخر فحديث ابن عباس لم يتعرض لبيان ما قاله آدم عليه السلام بعد أن تلقى من ربه تلك الكلمات
وهذا القول يبين ذلك فلا منافاة والحمد لله وثبت مخالفة الحديث للقرآن فكان باطلا
الموضع الثاني : قوله في آخره : ( ولولا محمد ما خلقتك ) فإن هذا أمر عظيم يتعلق بالعقائد التي لا تثبت إلا بنص متواتر اتفاقا أو صحيح عند آخرين ولو كان ذلك صحيحا لورد في الكتاب أو السنة الصحيحة وافتراض صحته في الوقع مع ضياع النص الذي تقوم به الحجة ينافي قوله تبارك وتعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } والذكر هنا يشمل الشريعة كلها قرآنا وسنة كما قرره ابن حزم في ( الإحكام ) وأيضا فإن الله تبارك وتعالى قد أخبرنا عن الحكمة التي من أجلها خلق آدم وذريته فقال عز و جل : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } فكل ما خالف هذه الحكمة أو زاد عليها لا يقبل إلا بنص صحيح عن المعصوم صلى الله عليه و سلم كمخالفة هذا الحديث الباطل . ومثله ما اشتهر على ألسنة الناس : ( لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك ) فإنه موضوع كما قال الصنعاني ووافقه الشوكاني في ( الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ) . ومن الطرائف أن المتنبي ميرزا غلام أحمد القادياني سرق هذا الحديث الموضوع فادعى أن الله خاطبه بقوله : ( لولاك لما خلقت الأفلاك ) وهذا شيء يعترف به أتباعه القاديانون هنا في دمشق وغيرها . لوروده في كتاب متنبئهم ( حقيقة الوحي )
ثم على افتراض أن هذا الحديث ضعيف فقط كما يزعم بعض
المخالفين خلافا لمن سبق ذكرهم من العلماء والحافظ فلا يجوز الاستدلال به على مشروعية التوسل المختلف فيه لأنه - على قولهم - عبادة مشروعة وأقل أحوال العبادة أن تكون متسحبة والاستحباب حكم شرعي من الأحكام الخمسة التي لا تثبت إلا بنص صحيح تقوم به الحجة فإذ الحديث عنده ضعيف فلا حجة فيه البتة . وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى
الحديث السابع : ( توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظم ) :
وبعضهم يرويه بلفظ :
( باطل ) ( إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم )
هذا باطل لا أصل له في شيء من كتب الحديث البتة وإنما يرويه بعض الجهال بالسنة كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه في ( القاعدة الجليلة ) قال : مع أن جاهه صلى الله عليه و سلم عند الله أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين ولكن جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب والله تعالى لا شريك له كما قال سبحانه : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [ سبأ : 22 و 23 ]
فلا يلزم إذن من كون جاهه صلى الله عليه و سلم عند ربه عظيما أن نتوسل به إلى الله تعالى لعدم ثبوت الأمر به عنه صلى الله عليه و سلم ويوضح ذلك أن الركوع والسجود من مظاهر التعظيم فيما اصطلح عليه الناس . فقد كانوا وما يزال بعضهم يقومون ويركعون ويسجدون لمليكهم ورئيسهم والمعظم لديهم ومن المتفق عليه بين المسلمين أن محمدا صلى الله عليه و سلم وهو أعظم الناس لديهم وأرفعهم عندهم . ترى فهل يجوز لهم أن يقوموا ويركعوا ويسجدوا له في حياته وبعد مماته ؟
الجواب : إنه لا بد لمن يجوز ذلك من أن يثبت وروده في الشرع وقد نظرنا فوجدنا أن السجود والركوع لا يجوزان إلا لله سبحانه وتعالى وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يسجد أو يركع لأحد كما أننا رأينا في السنة كراهية النبي صلى الله عليه و سلم للقيام فدل ذلك على عدم مشروعيته
ترى فهل يستطيع أحد أن يقول عنا حين نمنع السجود لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إننا نكره جاهه وقدره ؟ كلا ثم كلا
وكذلك : فهل يستطع أحد أن يبني على ثبوت جاه الرسول صلى الله عليه و سلم ثبوت السجود له والركوع ؟ أيضا نقول . كلا ثم كلا
فظهر من هذا بجلاء إن شاء الله تعالى أنه لا تلازم بين ثبوت جاه النبي صلى الله عليه و سلم وبين تعظيمه بالتوسل بجاهه ما دام أنه لم يرد في الشرع
هذا وإن من جاهه صلى الله عليه و سلم أنه يجب علينا اتباعه وإطاعته كما يجب إطاعة ربه وقد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( ما تركت شيئا يقربكم
إلى الله إلا أمرتكم به ) ( 1 ) . فإذا لم يأمرنا بهذا التوسل ولو أمر استحباب فليس عبادة . فيجب علينا اتباعه في ذلك وأن ندع العواطف جانبا . ولا نفسح لها المجال حتى تدخل في دين الله ما ليس منه بدعوى حبه صلى الله عليه و سلم . فالحب الصادق إنما هو الاتباع . وليس بالابتداع كما قال عز و جل : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ومنه قول الشاعر :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمرك في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
أثران ضعيفان :

1 - أثر الاستسقاء بالرسول صلى الله عليه و سلم بعد وفاته :
وبعد أن فرغنا من إيراد الأحاديث الضعيفة في التوسل وتحقيق القول فيها يحسن بنا أن نورد أثرا كثيرا ما يورده المجيزون لهذا التوسل المبتدع لنبين حاله من صحة أو ضعف وهل له علاقة بما نحن فيه أم لا ؟ فأقول : قال الحافظ في ( الفتح ) ما نصه :
( وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار - وكان خازن عمر - قال : أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتي الرجل في المنام فقيل له : ائت عمر . . . الحديث . وقد روى سيف في ( الفتوح ) )
أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة )
قلت : والجواب من وجوه :
الأول : عدم التسليم بصحة هذه القصة لأن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في علم المصطلح وقد أورده ابن أبي حاتم في ( الجرح والتعديل ) ولم يذكر راويا عنه غير أبي صالح هذا ففيه إشعار بأنه مجهول ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه - مع سعة حفظه واطلاعه - لم يحك فيه توثيقا فبقي على الجهالة ولا ينافي هذا قول الحافظ ( . . . بإسناد صحيح من وراية أبي صالح السمان . . . ) لأننا نقول : إنه ليس نصا في تصحيح جميع السند بل إلى أبي صالح فقط ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسناد من عند أبي صالح ولقال رأسا : ( عن مالك الدار . . . وإسناده صحيح ) ولكنه تعمد ذلك ليلفت النظر إلى أن هاهنا شيئا ينبغي النظر فيه والعلماء إنما يفعلون ذلك لأسباب منها : أنهم قد لا يحضرهم ترجمة بعض الرواة فلا يستجيزون لأنفسهم حذف السند كله لما فيه من إيهام صحته لا سيما عند الاستدلال به بل يوردون منه ما فيه موضع للنظر فيه وهذا هو الذي صنعه الحافظ رحمه الله هنا وكأنه يشير إلى تفرد إلى تفرد أبي صالح السمان عن مالك الدار كما سبق نقله عن ابن أبي حاتم وهو يحيل بذلك إلى وجوب التثبت من حال مالك هذا أو يشير إلى جهالته . والله أعلم
وهذا علم دقيق لا يعرفه إلا من مارس هذه الصناعة ويؤيد
ما ذهبت إليه أن الحافظ المنذري أورد في ( الترغيب ) قصة أخرى من رواية مالك الدار عن عمر ثم قال : ( رواه الطبراني في الكبير ورواته إلى مالك الدار ثقات مشهورون ومالك الدار لا أعرفه ) . وكذا قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد )
وقد غفل عن هذا التحقيق صاحب كتاب ( التوصل ) فاغتر بظاهر كلام الحافظ وصرح بأن الحديث صحيح وتخلص منه بقوله : ( فليس فيه سوى : جاء رجل . . ) واعتمد على أن الرواية التي فيها تسمية الرجل ببلال بن الحارث فيها سيف وقد عرفت حاله
وهذا لا فائدة كبرى فيه بل الأثر ضعيف من أصله لجهالة مالك الدار كما بيناه
الثاني : أنها مخالفة لما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة وأخذ به جماهير الأئمة بل هي مخالفة لما أفادته الآية من الدعاء والاستغفار وهي قوله تعالى في سورة نوح : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا . . . } وهذا ما فعله عمر بن الخطاب حين استسقى وتوسل بدعاء العباس كما سبق بيانه وهكذا كانت عادة السلف الصالح كلما أصابهم القحط أن يصلوا ويدعوا ولم ينقل عن أحد منهم مطلقا أنه التجأ إلى قبر النبي صلى الله عليه و سلم وطلب منه الدعاء للسقيا ولو كان ذلك مشروعا لفعلوه ولو مرة واحدة فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة
الثالث : هب أن القصة صحيحة فلا حجة فيها لأن مدارها على رجل لم يسم فهو مجهول أيضا وتسميته بلالا في رواية سيف لا يساوي شيئا لأن سيفا هذا - وهو ابن عمر التميمي - متفق على ضعفه عند المتحدثين بل قال ابن حبان فيه : ( يروي الموضوعات عن الأثبات وقالوا : إنه كان يضع الحديث ) . فمن كان هذا شأنه لا تقبل روايته ولا كرامة لا سيما عند المخالفة
( تنبيه ) : سيف هذا يرد ذكره كثيرا في تاريخ ابن جرير وابن كثير وغيرهما فينبغي على المشتغلين بعلم التاريخ أن لا يغفلوا عن حقيقة أمره حتى لا يعطوا الروايات ما لا تستحق من المنزلة
ومثله لوط بن يحيى أبو مخنف قال الذهبي في ( الميزان ) : ( أخباري تالف لا يوثق به . تركه أبو حاتم وغيره . وقال الدارقطني : ضعيف وقال يحيى بن معين : ليس بثقة وقال ابن عدي : شيعي محترق صاحب أخبارهم )
ومثله محمد بن عمر المعروف بالواقدي - شيخ ابن سعد صاحب ( الطبقات ) الذي يكثر الرواية عنه - وقد اغتر به الدكتور البوطي فروى أخبار كثيرة في ( فقه السيرة ) من طريقه مع أنه تعهد في مقدمته بأن ينقل الصحاح وما صح من السيرة والواقدي هذا متروك الحديث أيضا كما قال علماء الحديث فتأمل
الفرق بين التوسل بذات النبي صلى الله عليه و سلم وبين طلب الدعاء منه :
الوجه الرابع : أن هذا الأثر ليس فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم بل فيه طلب الدعاء منه بأن يسقي الله تعالى أمته وهذه مسألة أخرى
لا تشملها الأحاديث المتقدمة ولم يقل بجوازها أحد من علماء السلف الصالح رضي الله عنهم أعنى الطلب منه صلى الله عليه و سلم بعد وفاته قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( القاعدة الجليلة ) :
( لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين ويستشفعوا بهم لا بعد مماتهم ولا في مغيبهم فلا يقول أحد : ( يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين يا نبي الله يا ولي الله ( الأصل : رسول الله ) ادع الله لي سل الله لي سل الله أن يغفر لي . . . ولا يقول : أشكو إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو علي أو أشكو إليك فلانا الذي ظلمني ولا يقول : أنا نزيلك أنا ضيفك أنا جارك أو أنت تجير من يستجيرك . ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور ولا يكتب أحد محضر أنه استجار بفلان ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين كما يفعله النصارى في كنائسهم وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو في مغيبهم فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يشرع هذا لأمته وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئا من ذلك ولا فعل هذا أحد من أصحاب صلى الله عليه و سلم والتابعين لهم بإحسان ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها أنه يستحب
لأحد أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين وكان أصحابه يبتلون بأنواع البلاء بعد موته فتارة بالجدب وتارة بنقص الرزق وتارة بالخوف وقوة العدو وتارة بالذنوب والمعاصي ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول : نشكوا إليك جدب الزمان أو قوة العدو أو كثرة الذنوب ولا يقول : سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم بل وهذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة وضلالة باتفاق المسلمين ( 1 ) . ومن قال في بعض البدع : إنها بدعة حسنة فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة فأما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقولون أحد من المسلمين : إنها من الحسنات التي يتقرب بها إلى الله ومن تقرب بما ليس من الحسنات المأمور بها أمر إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان وسبيله من سبيل الشيطان كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : خط لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله
( 1 ) يحمل كلام الشيخ الإسلام هنا على أحد وجهين : أولهما : أن يكون خاطب المخالفين بما يعتقدون من انقسام البدعة بحسب الأحكام الخمسة ومنها الوجوب والاستحباب . وثانيهما : أن يكون أراد بالبدعة اللغوية منها وهي ما يحدث بعد النبي صلى الله عليه و سلم ودل عليها الدليل الشرعي . وإنما قلنا هذا لما هو معروف عنه رحمه الله أنه يعد البدعة الشرعية كلها ضلالة وتمام كلامه هنا يدل على عليه
ثم قال : هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } . ) . [ الأنعام : 53 ]
قلت : وإنما وقع بعض المتأخرين في هذا الخطأ المبين بسبب قياسهم حياة الأنبياء والأولياء في البرزخ على حياتهم في الدنيا وهذا قياس باطل مخالف للكتاب والسنة والواقع . وحسبنا الآن مثالا على ذلك أن أحدا من المسلمين لا يجيز الصلاة وراء قبورهم ولا يستطيع أحد مكالمتهم ولا التحدث إليهم وغير ذلك من الفوارق التي لا تخفى على عاقل
الاستغاثة بغير الله تعالى :
ونتج من هذا القياس الفاسد والرأي الكاسد تلك الضلالة الكبرى والمصيبة العظمى التي وقع فيها كثير من عامة المسلمين وبعض خاصتهم ألا وهي الاستغاثة بالأنبياء والصالحين من دون الله تعالى في الشدائد والمصائب حتى إنك لتسمع جماعات متعددة عند بعض القبور يتسغيثون بأصحابها في أمور مختلفة كأن هؤلاء الأموات يسمعون ما يقال لهم ويطلب منهم من الحاجات المختلفة بلغات متباينة فهم عند المستغيثين بهم يعلمون مختلف لغات الدنيا ويميزون كل لغة عن الأخرى ولو كان الكلام بها في آن واحد وهذا هو الشرك في صفات الله تعالى الذي جهله كثير من الناس فوقعوا بسببه في هذه الضلالة الكبرى
ويبطل هذا ويرد عليه آيات كثيرة : منها قوله تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } [ الإسراء : 56 ] . والآيات في هذا الصدد كثيرة بل قد ألف في بيان ذلك كتب ورسائل عديدة ( 1 ) فمن كان في شك من ذلك فليرجع إليها يظهر له الحق إن شاء الله ولكني وقفت على نقول لبعض علماء الحنفية رأيت من المفيد إيرادها هنا حتى لا يظن ظان أن ما قلناه لم يذهب إليه أحد من أصحاب المذاهب المعروفة
قال الشيخ أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي في ( التعليق المغني على سنن الدارقطني ) :
( ومن أقبح المنكرات وأكبر البدعات وأعظم المحدثات ما اعتاده أهل البدع من ذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله بقولهم : يا شيخ عبد القادر الجيلاني شيئا لله والصلوات المنكوسة إلى بغداد وغير ذلك مما لا يعد وهؤلاء عبدة غير الله ما قدروا الله حق قدره ولم يعلم هؤلاء السفهاء أن الشيخ رحمه الله لا يقدر على جلب نفع لأحد ولا دفع ضر عنه مقدار ذرة فلم يستغيثون به ولم يطلبون الحوائج منه ؟ أليس الله بكاف عبده ؟ اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك أو نعظم أحدا من خلفك كعظمتك قال في ( البزارية ) وغيرها من كتب الفتاوى : ( من قال : إن

أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر ) ( 1 ) وقال الشيخ فخر الدين أبو سعد عثمان الجياني بن سليمان الحنفي في رسالته : ومن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله واعتقد بذلك كفر . كذا في البحر الرائق وقال القاضي حميد الدين تاكوري الهندي في ( التوشيح ) : ( منهم الذين يدعون الأنبياء والأولياء عند الحوائج والمصائب باعتقاد أن أرواحهم حاضرة تسمع النداء وتعلم الحوائج وذلك شرك قبيح وجهل صريح قال الله تعالى : { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون } [ الأحقاف : 5 ] وفي البحر ( 2 ) : لو تزوج بشهادة الله ورسوله لا ينعقد النكاح ويكفر لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه و سلم يعلم الغيب ( 3 ) وهكذا في فتاوى قاضي خان والعيني والدر المختار والعالمكيرية وغيرها من كتب الحنفية وأما الآيات الكرمية والسنة المطهرة في إبطال أساس الشرك والتوبيخ لفاعله فأكثر من أن تحصى - ولشيخنا العلامة السيد محمد نذير حسين الدهلوي في رد تلك البدعة المنكرة رسالة شافية )

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 11:07 PM

زيد ثنا بن عمرو بن مالك النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال : قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة فقالت : انظروا قبر النبي صلى الله عليه و سلم فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف قال : ففعلوا فمطرنا مطرا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق )
قلت : وهذا سند ضعيف لا تقوم به حجة لأمور ثلاثة :
أولها : أن سعيد بن زيد وهو أخو حماد بن يزيد فيه ضعف . قال فيه الحافظ في ( التقريب ) : صدوق له أوهام . وقال الذهبي في ( الميزان ) :
( قال يحيى بن سعيد : ضعيف وقال السعدي : ليس بحجة يضعفون حديثه وقال النسائي وغيره : ليس بالقوي وقال أحمد : ليس به بأس كان يحيى بن سعيد لا يستمرئه )
وثانيها : أنه موقوف على عائشة وليس بمرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم ولو صح لم تكن فيه حجة لأنه يحتمل أن يكون من قبيل الآراء الاجتهادية لبعض الصحابة مما يخطئون فيه ويصيبون ولسنا ملزمين بالعمل بها
وثالثها : أن أبا النعمان هذا هو محمد بن الفضل يعرف بعارم وهو وإن كان ثقة فقد اختلط في آخر عمره . وقد أورده الحافظ برهان الدين الحلبي في ( الاغتباط بمن رمي بالاختلاط ) تبعا لابن الصلاح حيث أورده في ( المختلطين ) من كتابه ( المقدمة ) وقال :
( والحكم فيهم أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط
ولا يقبل من أخذ عنهم بعد الاختلاط أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده )
قلت : وهذا الأثر لا يدرى هل سمعه الدارمي منه قبل الاختلاط أو بعده فهو إذن غير مقبول فلا يحتج به ( 1 ) وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( الرد على البكري ) : ( وما روي عن عائشة رضي الله عنها من فتح الكوة من قبره إلى السماء لينزل المطر فليس بصحيح ولا يثبت إسناده ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة بل كان باقيا كما كان على عهد النبي صلى الله عليه و سلم بعضه مسقوف وبعضهم مكشوف وكانت الشمس تنزل فيه كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته لما زاد الحجر في مسجد الرسول صلى الله عليه و سلم . . ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد ثم إنه بنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف . وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بين ولو صح ذلك لكان حجة ودليلا على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت ولا يسألون الله به وإنما فتحو على القبر لتنزل الرحمة عليه ولم يكن هناك دعاء يقسمون به عليه فأين هذا من هذا ؟ والمخلوق إنما ينفع المخلوق بدعائه أو بعمله فإن الله تعالى يحب أن نتوسل إليه بالإيمان والعمل والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه و سلم ومحبته وطاعته وموالاته فهذه هي الأمور التي يحب الله أن نتوسل بها إليه وإن أريد أن نتوسل إليه بما تحب ذاته وإن لم يكن هناك ما يحب الله أن نتوسل به من الإيمان والعمل الصالح فهذا باطل عقلا وشرعا أما عقلا فلأنه ليس في كون الشخص المعين محبوبا له ما يوجب كون حاجتي تقضى بالتوسل بذاته إذا لم يكن مني ولا منه سبب تقضى به حاجتي فإن كان منه دعاء لي أو كان مني إيمان به وطاعة له فلا ريب أن هذه وسيلة وأما نفس ذاته المحبوبة فأي وسيلة لي منها إذا لم يحصل لي السبب الذي أمرت به فيها
وأما الشرع فيقال : العبادات كلها مبناها على الاتباع لا على الابتداع فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله فليس لأحد أن يصلي إلى قبره ويقول هو أحق بالصلاة إليه من الكعبة وقد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الصحيح أنه قال :
( صحيح ) ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها )
مع أن طائفة من غلاة العباد يصلون إلى قبور شيوخهم بل يستدبرون القبلة ويصلون إلى قبر الشيخ ويقولون : هذه قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة وطائفة أخرى يرون الصلاة عند قبور شيوخهم أفضل من الصلاة في المساجد حتى المسجد الحرام [ والنبوي ] والأقصى . وكثير من الناس يرى أن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل منه في المساجد وهذا كله مما قد علم جميع أهل العلم بديانة الإسلام أنه مناف لشريعة الإسلام . ومن لم يعتصم في هذا الباب وغيره بالكتاب والسنة فقد ضل وأضل ووقع في مهواة من التلف . فعلى العبد أن يسلم للشريعة المحمدية الكاملة البيضاء الواضحة ويسلم أنها جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإذا رأى من العبادات والتقشفات وغيرها التي يظنها حسنة ونافعة ما ليس بمشروع علم أن ضررها راجح على نفعها ومفسدتها راجحة على مصلحتها إذ الشارع حكيم لا يهمل المصالح ) ثم قال :
( والدعاء من أجل العبادات فينبغي للإنسان أن يلزم الأدعية المشروعة فإنها معصومة كما يتحرى في سائر عباداته الصور المشروعة فإن هذا هو الصراط المستقيم . والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين )
( تبيه ) : اعلم أن كتاب الدارمي هذا هو على طريقة السنن الأربعة في ترتيب الكتب والأبواب ولذلك فالصواب إطلاق اسم ( السنن ) عليه كما فعل فضيلة الشيخ دهمان في طبعته إياه
وقد اشتهر قديما ب ( مسند الدارمي ) وهذا وهم لا وجه له مطلقا عند أهل العلم ومثله تسميته ب ( الصحيح ) وهذا أبعد ما يكون عن الصواب لأن فيه أحاديث مرفوعة كثيرة ضعيفة الأسانيد وبعضها مرسلات ومعضلات وفيه آثار موقوفة وكثير منها ضعيفة كهذا الأثر فأنى له الصحة ومثل هذا الخطأ إطلاق لفظ ( الصحاح ) على السنن الأربعة أيضا كما يفعل بعض الدكاترة فإن هذا مع منافاته لأسمائها الحقيقية ( السنن ) فإنها منافية

أيضا لواقع الأمر فإن فيها أحاديث ضعيفة كثيرة أيضا ومنافية أيضا لصنيع مؤلفيها فإنهم ينبهون أحيانا على بعض الأحاديث الضعيفة التي وقعت فيها وبخاصة منهم الإمام الترمذي فإنه واسع الباع في بيان الضعيف الذي في كتابه كما يعرف ذلك أهل العلم بهذه ( السنن ) . وفي سنن ابن ماجه غير ما حديث موضوع فضلا عن الضعيف فلا يطلق على هذه ( السنن ) اسم ( الصحاح ) إلا جاهل أو مغرض
( 1 ) وتغافل عن هذه العلة الشيخ الغماري في ( المصباح - 43 ) كما تغافل عنها من لم يوفق للإصابة ليوهموا الناس صحة هذا الأثر
[ 129 ]

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 11:16 PM

الوجه الرابع :
الشبهة الرابعة : قياس الخالق على المخلوقين :
يقول المخالفون : إن التوسل بذوات الصالحين وأقدارهم أمر مطلوب وجائز لأنه مبني على منطق الواقع ومتطلباته ذلك أن أحدنا إذا كانت له حاجة عند ملك أو وزير أو مسؤول كبير فهو لا يذهب إليه مباشرة لأنه يشعر أنه ربما لا يلتفت إليه هذا إذا لم يرده أصلا ولذلك كان من الطبيعي إذا أردنا حاجة من كير فإننا نبحث عمن يعرفه ويكون مقربا إليه أثيرا عنده ونجعله واسطة بيننا وبينه فإذا فعلنا ذلك استجاب لنا وقضيت حاجتنا وهكذا الأمر نفسه في علاقتنا بالله سبحانه - بزعمهم - فالله عز و جل عظيم العظماء وكبير الكبراء ونحن مذنبون عصاة ويعيدون لذلك عن جناب الله ليس من اللائق بنا أن ندعوه مباشرة لأننا إن فعلنا ذلك خفنا أن يردنا على أعقابنا خائبين أو لا يلتفت إلينا فنرجع بخفي حنين وهناك أناس صالحون كالأنبياء والرسل والشهداء قريبون إليه سبحانه يستجيب لهم إذا دعوه ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا لديه أفلا يكون الأولى بنا والأحرى أن نتوسل إليه بجاههم ونقدم بين يدي دعائنا ذكرهم عسى أن ينظر الله تعالى إلينا إكراما لهم ويجيب دعاءنا مراعاة لخواطرهم فلماذا تمنعون هذا النوع من التوسل والبشر يستعملونه فيما بينهم فلم لا يستعملونهم مع ربهم ومعبودهم ؟
ونقول جوابا على هذه الشبهة : إنكم يا هؤلاء إذن تقيسون الخالق على المخلوق وتشبهون قيوم السماوات والأرض أحكم الحاكمين وأعدل العادلين الرؤوف الرحيم بأولئك الحكام الظالمين والمتسلطين المتجبرين الذين لا يأبهون لمصالح الرعية ويجعلون بينهم وبين الرعية حجبا وأستارا فلا يمكنها أن تصل إليهم إلا بوسائط ووسائل ترضي هذه الوسائط بالرشاوى والهبات وتخضع لها وتتذلل وتترضاها وتتقرب إليها فهل خطر ببالكم أيها المساكين أنكم حين تفعلون ذلك تذمون ربكم وتطعنون به وتؤذونه وتصفونه بما يمقته وما يكرهه ؟
هل خطر ببالكم أنكم تصفون الله تعالى بأبشع الصفات حين تقيسونه على الحكام الظلمة والمتسلطين الفجرة فكيف يسوغ هذا لكم دينكم وكيف يتفق هذا مع ما يجب عليكم من تعظيمكم لربكم وتمجيدكم لخالقكم ؟
ترى لو كان يمكن لأحد الناس أن يخاطب الحاكم وجها لوجه ويكلمه دون واسطة أو حجاب أيكون ذلك أكمل وأمدح له أم حين لا يتمكن من مخاطبته إلا من خلال وسائط قد تطول وقد تقصر ؟
يا هؤلاء إنكم تفخرون في أحاديثكم بعمر بن الخطاب رضي الله عنه
وتمجدونه وتشيدون به وتبينون للناس أنه كان متواضعا لا يتكبر ولا يتجبر وكان قريبا من الناس يتمكن أضعفهم من لقائه ومخاطبته وأنه كان يأتيه الأعرابي الجاهل الفظ من البادية فيكلمه دون واسطة أو حجاب فينظر في حاجته ويقضيها له إن كانت حقا . ترى هل هذا النوع من الحكام خير وأفضل أم ذاك النوع الذي تضربون لربكم به الأمثال ؟
فما لكم كيف تحكمون ؟ وما لعقولكم أين ذهبت وما لتفكيركم أين غاب وكيف ساغ لكم تشبيه الله تعالى بالملك الظالم أم كيف غطى عنكم الشيطان بشاعة قياس الله سبحانه على الأمير الغاشم ؟
يا هؤلاء إنكم لو شبهتم الله تعالى بأعدل الناس وأتقى الناس وأصلح الناس لكفرتم فكيف وقد شبهتموه سبحانه بأظلم الناس وأفجر الناس وأخبت الناس ؟
يا هؤلاء إنكم لو قستم ربكم الجليل على عمر بن الخطاب التقي العادل لوقعتم في الشرك فكيف تردى بكم الشيطان فلم ترضوا بذلك حتى أوقعكم في قياس ربكم على أهل الجور والفساد من الملوك والأمراء والوزراء ؟
إن تشبيه الله تعالى بخلقه كفر كله حذر منه سبحانه حيث قال : { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون . فلا تضربوا لله الأمثال . إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون }[ النحل : 74 ] . قال الحافظ ابن كثير : ( أي لا تجعلوا لله أندادا وأشباها وأمثالها ) كما نفى سبحانه أي مشابهة بينيه وبين أي خلق من مخلوقاته فقال : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ] [ الشورى : 11 ] . ولكن شر تشبيه أن يشبهه المرء بالأشرار والفجار والفساق من الولاة وهو يظن أنه يحسن صنعا إن هذا هو الذي يحمل بعض العلماء والمحققين على المبالغة في إنكار التوسل بذوات الأنبياء واعتباره شركا وإن كان هو في نفسه ليس شركا عندنا بل يخشى أن يؤدي إلى الشرك وقد أدى فعلا بأولئك الذين يعتذرون لتوسلهم بذلك التشبيه السابق الذي هو الكفر بعينه لو كانوا يعلمون
ومن هنا يتبين أن قول بعض الدعاة الإسلاميين اليوم في الأصل الخامس عشر من أصوله العشرين : ( والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة ) ليس صحيحا على إطلاقه لما علمت أن في الواقع ما يشهد بأنه خلاف جوهري إذ فيه شرك صريح كما سبق . ولعل مثل هذا القول الذي يهون من أمر هذا الانحراف هو أحد الأسباب التي تدفع بالكثيرين إلى عدم البحث فيه وتحقيق الصواب في أمره مما يؤدي في نهاية المطاف إلى استمرار المبتدعين في بدعهم واستفحال خطرها بينهم ولذلك قال الإمام العز بن عبد السلام في رسالة ( الواسطة ) : ( ومن أثبت الأنبياء وسواهم من مشايخ العلم والدين وسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب الذين بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله تعالى حوائج خلقه وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهؤلاء مشبهون لله شبهوا الخالق بالمخلوق وجعلوا لله أندادا . . . )
الشبهة الخامسة : هل هناك مانع من التوسل المبتدع على وجه الإباحة لا الاستحباب ؟
قد يقول القائل : صحيح أنه لم يثبت في السنة ما يدل على استحباب التوسل بذوات الأنبياء والصالحين ولكن ما المانع منه إذا فعلنا على طريقة الإباحة لأنه لم يأتي نهي عنه ؟
فأقول : هذه شبهة طالما سمعناها ممن يريد أن يتخذ موقفا وسطا بين الفريقين لكي يرضي كلا منهما وينجو من حملاتهما عليه والجواب : يجب أن لا ننسى في هذا المقام معنى الوسيلة إذا هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود كما تقدم بيانه
ولا يخفى أن الذي يراد التوصل إليه إما أن يكون دينيا أو دنيويا وعلى الأول لا يمكن معرفة الوسيلة التي توصل إلى الأمر الديني إلا من طريق شرعي فلو ادعى رجل أن توسله إلى الله تعالى بآية من آياته الكونية العظيمة كالليل والنهار مثلا سبب لاستجابة الدعاء لرد عليه ذلك إلا أن يأتي بدليل ولا يمكن أن يقال حينئذ بإباحة هذا التوسل لأنه كلام ينقض بعضه بعضا إذ أنك تسميه توسلا وهذا لم يثبت شرعا وليس له طريق آخر في إثباته وهذا بخلاف القسم الثاني من القسمين المذكورين وهو الدنيوي فإن أسبابه يمكن أن تعرف بالعقل أو بالعلم أو بالتجربة ونحو ذلك مثل الرجل يتاجر ببيع الخمر فهذا سبب معروف للحصول على المال فهو وسيلة لتحقيق المقصود وهو المال ولكن هذه الوسيلة نهى الله عنها فلا يجوز اتباعها بخلاف ما لو تاجر بسبب لم يحرمه الله عز و جل فهو مباح أما السبب المدعى أنه يقرب إلى الله وأنه أرجى في قبول الدعاء فهذا سبب لا يعرف إلا بطريق الشرع فحين يقال : بأن الشرع لم يرد بذلك لم يجز تسميته وسيلة حتى يمكن أن يقال إنه مباح التوسل به وقد تقدم الكلام في هذا النوع مفصلا في الفصل الثاني من هذه الرسالة
وشيء ثان : وهو أن هذا التوسل الذي سلمنا بعدم وروده قد جاء في الشرع ما يغني عنه وهو التوسلات الثلاثة التي سبق ذكرها في أول البحث فما الذي يحمل المسلم على اختيار هذا التوسل الذي لم يرد والإعراض عن التوسل الذي ورد ؟ وقد اتفق العلماء على أن البدعة إذا صادمت سنة فهي بدعة ضلالة اتفاقا وهذا التوسل من هذا القبيل فلم يجز التوسل به ولو على طريق الإباحة دون الاستحباب
وأمر ثالث : وهو أن هذا التوسل بالذوات يشبه توسل الناس ببعض المقربين إلى الملوك والحكام والله تبارك وتعالى ليس كمثله

شيء باعتراف المتوسلين بذلك فإذا توسل المسلم إليه تعالى بالأشخاص فقد شبهه عملا بأولئك الملوك والحكام كما سبق بيانه وهذا غير جائز
الشبهة السادسة : قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح :
هذه شبهة أخرى يثيرها بعض أولئك المبتدعين

شيء باعتراف المتوسلين بذلك فإذا توسل المسلم إليه تعالى بالأشخاص فقد شبهه عملا بأولئك الملوك والحكام كما سبق بيانه وهذا غير جائز
الشبهة السادسة : قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح :
هذه شبهة أخرى يثيرها بعض أولئك المبتدعين ( 1 ) زينها لهم الشيطان ولقنهم إياها حيث يقولون : قد قدمتم أن من التوسل المشروع اتفاقا التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح فإذا كان التوسل بهذا جائزا فالتوسل بالرجل الصالح الذي صدر منه هذا العمل أولى بالجواز وأحرى بالمشروعية فلا ينبغي إنكاره . والجواب من وجهين :
الوجه الأول : أن هذا قياس والقياس في العبادات باطل كما تقدم ص 130 ، وما مثل من يقول هذا القول إلا كمثل من يقول : إذا جاز توسل المتوسل بعمله الصالح - وهو بلا شك دون عمل الولي والنبي - جاز أن يتوسل بعمل النبي والولي وهذا وما لزم منه باطل فهو باطل
الوجه الثاني : أن هذه مغالطة مكشوفة لأننا لم نقل - كما لم يقل أحد من السلف قبلنا - أنه يجوز للمسلم أن يتوسل بعمل غيره الصالح وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه فإذا تبين هذا قلبنا عليهم كلامهم السابق فقلنا : إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي
زينها لهم الشيطان ولقنهم إياها حيث يقولون : قد قدمتم أن من التوسل المشروع اتفاقا التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح فإذا كان التوسل بهذا جائزا فالتوسل بالرجل الصالح الذي صدر منه هذا العمل أولى بالجواز وأحرى بالمشروعية فلا ينبغي إنكاره . والجواب من وجهين :
الوجه الأول : أن هذا قياس والقياس في العبادات باطل كما تقدم ص 130 ، وما مثل من يقول هذا القول إلا كمثل من يقول : إذا جاز توسل المتوسل بعمله الصالح - وهو بلا شك دون عمل الولي والنبي - جاز أن يتوسل بعمل النبي والولي وهذا وما لزم منه باطل فهو باطل
الوجه الثاني : أن هذه مغالطة مكشوفة لأننا لم نقل - كما لم يقل أحد من السلف قبلنا - أنه يجوز للمسلم أن يتوسل بعمل غيره الصالح وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه فإذا تبين هذا قلبنا عليهم كلامهم السابق فقلنا : إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي فأولى ثم أولى ألا يجوز التوسل بذاته وهذا بين لا يخفى والحمد لله
الشبهة السابعة : قياس التوسل بذات النبي صلى الله عليه و سلم على التبرك بآثاره :
وهذه شبهة أخرى لم تكن معروفة فيما مضى من القرون ابتدعها وروجها الدكتور البوطي ذاته إذ قرر في كتابه ( فقه السيرة ص 344 - 455 ) خلال حديثه عن الدروس المستفادة من غزوة الحديبية مشروعية التبرك بآثار النبي صلى الله عليه و سلم ثم قاس على ذلك التوسل بذاته بعد وفاته وأتى نتيجة لذلك برأي غريب وعجيب لم يقل به أحد من المشتغلين بالعلم حتى من المغرقين في التقليد والجمود والتعصب والابتداع في الدين
ولكي لا يظن أحد أننا نتقول عليه أو نظلمه ننقل نص كلامه بتمامه ونعتذر إلى القراء لطوله قال :
( وإذا علمت أن التبرك بالشيء إنما هو طلب الخير بواسطته ووسيلته علمت أن التوسل بآثار النبي صلى الله عليه و سلم أمر مندوب إليه ومشروع فضلا عن التوسل بذاته الشريفة وليس ثمة فرق بين أن يكون ذلك في حياته صلى الله عليه و سلم أو بعد وفاته فآثار النبي صلى الله عليه و سلم وفضلاته لا تتصف بالحياة مطلقا سواء تعلق التبرك والتوسل بها في حياته أو بعد وفاته ولقد توسل الصحابة بشعراته من بعد وفاته كما ثبت ذلك في صحيح البخاري في شيب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومع ذلك فقد ضل أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم وراحوا يستنكرون التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم بعد وفاته بحجة أن تأثير

النبي صلى الله عليه و سلم قد انقطع بوفاته فالتوسل به إنما هو توسل بشي لا تأثير له البتة . وهذه حجة تدل على جهل عجيب جدا فهل ثبت لرسول الله صلى الله عليه و سلم تأثير ذاتي في الأشياء في حال حياته حتى نبحث عن مصير هذا التأثير من بعد وفاته ؟ إن أحدا من المسلمين لا يستطيع أن ينسب أي تأثير ذاتي في الأشياء لغير الواحد الأحد ومن اعتقد خلاف ذلك يكفر بإجماع المسلمين كلهم . . فمناط التبرك والتوسل به أو بآثاره صلى الله عليه و سلم ليس هو إسناد أي تأثير إليه وإنما المناط كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق وكونه رحمة من الله للعباد فهو التوسل بقربه صلى الله عليه و سلم إلى ربه وبرحمته الكبرى للخلق وبهذا المعنى توسل الأعمى به صلى الله عليه و سلم في أن يرد عليه بصره فرده الله عليه ( 1 ) وبهذا المعنى كان الصحابة يتوسلون بآثاره وفضلاته دون أن يجدوا منه أي إنكار . وقد مر بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة في الاستسقاء وغيره وأن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة والصنعاني وغيرهم . والفرق بعد هذا بين حياته وموته صلى الله عليه و سلم خلط عجيب وغريب في البحث لا مسوغ له )
ولنا على هذا الكلام مؤاخذات كثيرة نورد أهما فيما يلي :
أ - لقد أشرنا إلى تعريض البوطي بالسلفيين واتهامه إياهم بأن أفئدتهم لا تشعر بحمبة رسول الله صلى الله عليه و سلم والاستدلال
على ذلك بإنكارهم التوسل به صلى االله عليه وسلم بعد وفاته . وهذه فرية باطلة وبهتان ظالم لا شك أن الله تعالى سيحاسبه عليه أشد الحساب ما لم يتب إليه التوبة النصوح ذلك لأن فيه تكفيرا لآلاف المسلمين دونما دليل أو برهان إلا الظن والوهم اللذين لا يغنيان من الحق شيئا 2 - إنه قد خلط في كلامه السابق بين الحق والباطل خلطا عجيبا فاستدل بحقه على باطله فوصل من جراء ذلك إلى رأي لم يسبقه أحد من العالمين
وإذا أردنا أن نميز بين نوعي كلامه فإننا نقول :
إن الحق الذي تضمنه هو :
آ - أن النبي صلى الله عليه و سلم قريب إلى الله تبارك وتعالى وأنه كان رحمة من الله تعالى للخلق
ب - أنه لا تأثير لأحد حتى للنبي صلى الله عليه و سلم تأثيرا ذاتيا في الأشياء وإنما التأثير كله لله الواحد الأحد
ج - أنه يشرع التبرك بآثار النبي صلى الله عليه و سلم وأن الصحابة فعلوا ذلك في حياته صلى الله عليه و سلم وبإقرار منه
هذه النقاط الثلاثة صحيحة لا خلاف فيها ولو وقف الكاتب عندها لما كان ثمة حاجة للتعليق عليه
وأما الباطل الذي تضمنه كلامه وفيه الخلاف العريض فهو :
آ - أن التوسل بآثار النبي صلى الله عليه و سلم جائز وأن الصحابة كانوا يتوسلون بآثاره صلى الله عليه و سلم وفضلاته
ب - تسويته بين التبرك والتوسل
ج - أن التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم جائز كجواز التبرك بفضلاته

د- - أن مناط التوسل به صلى الله عليه و سلم هو كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق
ه - جهلة بمعنى كلمة الاستشفاع مما حمله على الاستدلال بها على التوسل المبتدع
و - افتراؤه على السلفيين بأنهم يرون أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له تأثير ذاتي في الأشياء خلال حياته وقد انقطع ذاك التأثير بوفاته وأن هذا هو سبب إنكارهم التوسل به صلى الله عليه و سلم بعد وفاته
ز - ادعاؤه أن الأعمى توسل بقربه صلى الله عليه و سلم من ربه
ح - ادعاؤه أن محمدا صلى الله عليه و سلم أفضل الخلائق على الإطلاق
وننتقل بعد هذا الإجمال إلى الشرح والتفصيل فنقول : 1 - تخليط البوطي في التسوية بين التبرك والتوسل :
لقد قال الدكتور البوطي : ( إن التوسل بآثار النبي صلى الله عليه و سلم أمر مندوب إليه ومشروع فضلا عن التوسل بذاته الشريفة ) . وظاهر كلامه أنه يقيس التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم قياسا أولويا على التبرك بآثاره ويسمي هذا التبرك توسلا ويؤكد ما ذكرناه قوله ص 196 من كتابه المذكور حيث ذكر بعض الروايات التي فيها تبرك بعض الصحابة بآثاره صلى الله عليه و سلم ثم قال : ( فإذا كان هذا شأن التوسل بآثاره المادية فكيف بالتوسل بمنزلته عند الله جل جلاله ؟ وكيف بالتوسل بكونه رحمة للعالمين ؟ )
ولكنه سرعان ما تراجع عن كل ذلك زاعما أن التبرك والتوسل معناهما واحدا منكرا أن يقيس أحدهما على الآخر فقال : ( ولا يذهبن بك الوهم إلى أننا نقيس التوسل على التبرك وأن المسألة لا تعدو أن تكون استدلالا بالقياس فإن التوسل والتبرك كلمتان تدلان على معنى واحد وهو التماس الخير والبركة عن طريق المتوسل به وكل من التوسل بجاهه صلى الله عليه و سلم عند الله والتوسل بآثاره أو فضلاته أو ثيابه أفراد وجزئيات داخلة تحت نوع شامل هو مطلق التوسل الذي ثبت حكمه بالأحاديث الصحيحة وكل الصور الجزئية له يدخل تحت عموم النص بواسطة ما يسمى بتنقيح المناط عند علماء الأصول )
والحقيقة أن ظاهر كلام الدكتور الأول كان أهون بكثير من كلامه الأخير هذا لأن التوسل يختلف اختلافا بينا عن التبرك ومن يسوي بينهما فإنه يكون قد ارتكب خطأ شنيعا ووقع في جهل فظيع بالحقائق الشرعية مما لا يجوز أن يقع فيه طالب علم يحترم نفسه
إن التبرك هو التماس من حاز أثرا النبي صلى الله عليه و سلم حصول خير به خصوصية له صلى الله عليه و سلم وأما التوسل فهو إرفاق دعاء الله تعالى بشيء من الوسائل التي شرعها الله تعالى لعباده كأن يقول : اللهم إني أسألك بحبي لنبيك صلى الله عليه و سلم أن تغفر لي ونحو ذلك . ويتبدى هذا الفرق في أمرين :
أولهما : أن التبرك يرجى به شيء من الخير الدنيوي فحسب بخلاف التوسل الذي يرجى به أي شيء من الخير الدنيوي والأخروي
ثانيهما : أن التبرك هو التماس الخير العاجل كما سبق بيانه بخلاف التوسل الذي هو مصاحب للدعاء ولا يستعمل إلا معه
وبيانا لذلك نقول : يشرع للمسلم أن يتوسل في دعائه باسم من أسماء الله تبارك وتعالى الحسنى مثلا ويطلب بها تحقيق ما شاء من قضاء حاجة دنيوية كالتوسعة في الرزق أو أخروية كالنجاة من النار فيقول مثلا : اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بأنك أنت الله الأحد الصمد أن تشفيني أو تدخلني الجنة . . ولا أحد يستطيع أن ينكر عليه شيئا من ذلك بينما لا يجوز لهذا المسلم أن يفعل ذلك حينما يتبرك بأثر من آثاره صلى الله عليه و سلم فهو لا يستطيع ولا يجوز له أن يقول مثلا : اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بثوب نبيك أو بصاقه أو بوله أن تغفر لي وترحمني . . ومن يفعل ذلك فإنه يعرض نفسه من غير ريب ليشك الناس في عقله وفهمه فضلا عن عقيدته ودينه . وظاهر كلام الدكتور البوطي أنه يجيز هذا التوسل العجيب ويعده هو والتبرك بأثر من آثار النبي صلى الله عليه و سلم شيئا واحدا وهو بهذا يخلط خلطا قبيحا ومع ذلك لا يخجل من اتهام السلفيين بأنهم يخلطون خلطا عجيبا لا مسوغ له فقد علم القراء من الذي يخلط ويخبط خبط عشواء
إن هذا ليذكرنا حقا بالمثل العربي القائل : رمتني بدائها وانسلت . وصدق النبي الكريم صلى الله عليه و سلم حيث يقول :
( صحيح ) ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) .
وثمة ملاحظة هامة وخطيرة في كلام الدكتور السابق وهي أنه يدعي ثبوت مطلق التوسل بالأحاديث الصحيحة وهذا باطل لأنه ليس أكثر من افتراض ودعوى مجردة لا حقيقة لها إلا في ذهنه إذ لم يثبت من التوسل المتعلق بالنبي صلى الله عليه و سلم إلا دعاؤه صلى الله عليه و سلم كما تقدم في ثنايا هذه الرسالة وأما التوسل بجاهه صلى الله عليه و سلم أو آثاره فلم يثبت منه شيء البتة في كتاب أو سنة ونحن نطالب الدكتور أن يدلنا على حديث واحد ثابت فيه هذه الدعوى ونحن على يقين أنه لن يجد شيئا من ذلك فقد عودنا على تقرير أحكام ضخمة دونما دليل ( خبط لزق ) وادعاء دعاوي عريضة لا تقوم على أساس إلا أنهها بدت له هكذا وحسب القاريء له أن يؤمن بما يقول ويسلم له تسليما وإياه ثم إياه أن يسأله عن الدليل لأن ذلك من قلة الأدب ورقة الدين وطريقة السلفيين والعياذ بالله . فتأمل

2 - بطلان التوسل بآثار النبي صلى الله عليه و سلم :
وبعد إثبات الفرق بين التوسل والتبرك نعلم أن آثار النبي صلى الله عليه و سلم لا يتوسل بها إلى الله تعالى وإنما يتبرك بها فحسب أي يرجى بحيازتها حصول بعض الخير الدنيوي كما سبق بيانه
إننا نرى أن التوسل بآثار النبي صلى الله عليه و سلم غير مشروع البتة وأن من الافتراء على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم الادعاء بأنهم كانوا يتوسلون بتلك الآثار ومن ادعى خلاف رأينا فعليه الدليل بأن يثبت أن الصحابة كان يقولون في دعائهم مثلا : اللهم ببصاق نبيك اشف مرضانا أو : اللهم ببول نبيك أو غائطه أجرنا من
النار إن أحدا من العقلاء لا يستسيغ رواية ذلك مجرد رواية فكيف باستعماله وإذا كان الدكتور البوطي ما يزال في شك من ذلك وإذا كان يرى جواز ذلك فعليه أن يثبته عمليا بأن يدعو من على منبره بمثل الدعوات السابقات وإن لم يفعل - ولن يفعل إن شاء الله ما بقي فيه عقل وفي قلبه ذرة من إيمان - فذلك دليل على أنه يقول بلسانه ما لا يعتقد في قلبه
هذا ولا بد من الإشارة إلى أننا نؤمن بجواز التبرك بآثاره صلى الله عليه و سلم ولا ننكره خلافا لما يوهمه صنيع خصومنا ولكن لهذا التبرك شروطا منها الإيمان الشرعي المقبول عند الله فمن لم يكن مسلما صادق الإسلام فلن يحقق الله له أي خير بتبركه هذا كما يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلا على أثر من آثاره صلى الله عليه و سلم ويستعمله ونحن نعلم أن آثاره من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمرا غير ذي موضوع في زماننا هذا (( 1 ) لقد حاول الدكتور في هامش ( ص 197 ) من كتابه المذكور الرد على ما كنت بينته في رسالتي ( نقد نصوص حديثية ) للكتاني ونقل أنني قلت فيها : ( إنه لا فائدة ترجى من أحاديث التبرك بآثاره صلى الله عليه و سلم في هذا العصر . . . ) وحرف كلامي تحريفي سيئا والذي قلته حقا هو ( لا يتعلق كبير فائدة في تقرير مشروعية التبرك بآثار صلى الله عليه و سلم في زماننا الحاضر ) . فانظر رحمك الله كيف غير الدكتور كلامي وحرفه وما أرى له بذلك من غرض إلا أن يتاح له المجال للطعن في وإثارة العامة علي فهل يتفق هذا الصنيع - أخي القارئ - مع تقوى الله عز و جل والإخلاص في الوصول إلى الحق ؟ وقد فصلت القول في الرد على هذه الفرية في إحدى مقالاتي التي تنشر في مجلة التمدن الإسلامي بعنوان ( تعليق على أحاديث فقه السيرة ) وقد نشرت قريبا في رسالة خاصة تحت عنوان ( دفاع عن الحديث النبوي والسيرة في الرد على جهالات الدكتور البوطي في كتاب فقه السيرة ))
ينبغي إطالة القول فيه ولكن ثمة أمر يجب تبيانه وهو أن النبي صلى الله عليه و سلم وإن أقر الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك بآثاره صلى الله عليه و سلم والتمسح بها وذلك لغرض مهم وخاصة في تلك المناسبة وذلك الغرض هو إرهاب كفار قريش وإظهار مدى تعلق المسلمين بنبيهم وحبهم له وتفانيهم في خدمته وتعظيم شأنه إلا أن الذي لا يجوز التغافل عنه ولا كتمانه أن النبي صلى الله عليه و سلم بعد تلك الغزوة رغب المسلمين بأسلوب حكيم وطريقة لطيفة عن هذا التبرك وصرفهم عنه وأرشدهم إلى أعمال صالحة خير لهم منه عند الله عز و جل وأجدى وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي
عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم توضأ يوما فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم : ( ما يحملكم على هذا ؟ ) قالوا : حب الله ورسوله : فقال النبي صلى الله عليه و سلم : من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله فليصدق حديثه إذا حدث وليؤد أمانته إذا أؤتمن وليحسن جوار من جاوره ) ويكون أمرا نظريا محضا
3 - افتراء عريض :
والظاهر أن الدكتور لا يطيب له عيش ولا يهنأ له بال إلا إذا افترى على السلفيين وكذب عليهم كذبا مكشوفا حينا ومغطى حينا آخر . وهاهو هنا يفتري علينا حين يزعم أننا نحتج على منع التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم بعد وفاته بالقول بأن تأثيره صلى الله عليه و سلم في الحوادث قد انقطع بعد وفاته لذلك فمن غير السائغ أن نتوسل به صلى الله عليه و سلم بعد وفاته ويتطوع بأن يثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم سواء في حياته أو بعد وفاته ليس له تأثير ذاتي في الأشياء في كل ظرف وفي كل حين وأن المؤثر الوحيد فيها هو الله وحده سبحانه
وواضح من هذا بجلاء أنه يتهم السلفيين بأنهم يعتقدون أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له تأثير ذاتي في الأشياء حال حياته . وهذا كذب صراح وافتراء مكشوف لم يقل به سلفي قط بل ولا خطر في بال أحد من السلفيين البتة وكيف يقولونه وهم دعاة التوحيد الخالص والدين الصحيح والذين جعلوا أكبر همهم دعوة الناس إلى إخلاص عبوديتهم لله تعالى وحده وتخليص عقائدهم من كل شائبة من شوائب الشرك والتنديد بكل ما يخدش جناب التوحيد ولو كان ذلك خطأ لفظيا . وقد تحملوا في سبيل ذلك الأذى من الناس والتشهير بهم والافتراء عليهم واتهامهم بأقبح التهم وما نقم الناس - وفيهم الدكتور البوطي - عليهم إلا لدعوتهم الحقة هذه ومع ذلك فلا يخجل من أن يرميهم بهذه التهمة الباطلة التي يعلم هو - فيما نرجح - قبل غيره أنها باطلة مفتراة وإلا فليبين لنا - إن استطاع - مصدر هذا القول المزعوم ومن قاله من السلفيين وفي أي كتاب ورد من كتبهم أو نشراتهم فإن لم يفعل - وهيهات أن يفعل - فإنه يكون قد ظهر لكل أحد كذبه وافتراؤه
وشيء آخر نذكره هنا وهو أن كلام البوطي السابق ( ومن ادعى شيئا من ذلك يكفر بإجماع المسلمين ) يفيد لمن تأمله تكفير السلفيين عموما وهذا كذب آخر واتهام ظالم لا شك أن الله تعالى سيحاسبه عليه لأن السلفيين هم مسلمون بل هم أحق الناس بصفة الإسلام وهم يعلمون حق العلم أن نسبة التأثير الذاتي للنبي صلى الله عليه و سلم أو لغيره هو من الشرك في الربوبية المخرج من الملة وهم من أشد الناس تنبها له وتحذيرا منه بينما البوطي وأمثاله يلتمسون للواقعين فيه مختلف الأعذار والتبريرات
ولا يفوتنا هنا أن نذكره وأمثاله بما بيناه في ثنايا هذه الرسالة من أن السبب الذي يدعونا إلى منع التوسل بذوات الصالحين ومكانتهم وجاههم إنما هو كونه لم يرد في الشريعة الغراء ولم يستعمله النبي صلى الله عليه و سلم ولا أصحابه فهو لذلك محدث مبتدع وما ورد من النصوص التي يحتج بها المخالفون بعضها ثابت ولكنه لا يدل على ما يدعون وبعضها الآخر غير ثابت وقد مضى تفصيل ذلك
إن هذا هو السبب الذي يحملنا على إنكار ذاك التوسل ونقول بصراحة : إنه لو ورد في الشرع لقلنا به ولم يمنعنا منه مانع

لأننا أسرى في يد الشريعة فما أجازته أجزناه وما منعته منعناه والغريب أن الدكتور تغافل عن هذا السبب الأساسي واختلق من عنده سببا تخيله كما شاء له هواه قاصدا بذلك أن يتمكن من الطعن فينا والتشهير بنا وإثارة الغوغاء علينا فانظر - رحمك الله - إلى هذا الأسلوب الغريب المنافي للدين والعلم واشتك معنا إلى الله عز و جل من غربة الحق وأهله في هذا الزمان 4 - خطؤه في ادعائه أن مناط التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم كونه أفضل لخلائق :
وهذا خطأ آخر وقع فيه الدكتور نتيجة لتهوره وعدم تفكيره فيما يكتب . حيث ادعى أن مناط التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم هو كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق وكونه رحمة من الله للعباد كما تقدم من كلامه
ونقول له : أن معنى ذلك عندك أن من لم يكن كذلك ( أي أفضل الخلائق عند الله . . ) فلا يجوز التوسل به لأنه لم يتحقق فيه المناط المزعوم ذلك لأن المناط أصلا هو علة الحكم التي يوجد بوجودها وينعدم بعدمها وعلى هذا فمعنى عبارة الدكتور - لو كان يعقل ما يقول - إنه لا يجوز التوسل بأحد مطلقا إلا بالنبي صلى الله عليه و سلم ونحن نعلم علم اليقين أنه يعتقد خلاف ذلك ويرى جواز التوسل بك نبي أو ولي أو صالح وبهذا يكون هو نفسه قد قال ما لا يعتقد وناقض نفسه بنفسه والسبب في ذلك أحد أمرين

فإما أن يكون غير فاهم لاصطلاح المناط عند العلماء وإما أن يكون غير متأمل فيما ينتج عنه من كلامه وهذا هو الأقرب والله أعلم
وأمر آخر نذكره في هذه المناسبة وهو أن من المقرر لدى علماء الأصول أنه لا بد لاعتبار المناط في حكم ما من أن يكون قد ورد في تعيينه في نص من كتاب أو سنة ولا يكفي في الاعتماد على الظن والاستنباط
وإذا عدنا إلى ما ذكره الدكتور وجدنا أنه قد ادعى مناطا ليس عليه شب دليل من الكتاب أو السنة وإنما عمدته في ذلك مجرد الظن والوهم فهل هكذا يكون العلم وإثبات الحقائق الشرعية عند الدكتور الذي يعنون لبعض كتبه بأنها ( أبحاث في القمة ) ؟
وأمر ثالث وأخير أن الدكتور قد ادعى أن النبي صلى الله عليه و سلم أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق . وهذه عقيدة وهي لا تثبت عنده ( 1 ) إلا بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة ( 2 ) أي بآية قطعية الدلالة أو حديث متواتر قطعي الدلالة أي بآية قطعية الدلالة أو حديث متواتر قطعي الدلالة فأين هذا النص الذي يثبت كونه صلى الله عليه و سلم أفضل الخلائق عنده الله على الإطلاق ؟
ومن المعلوم أن هذه القضية مختلف فيها بين العلماء وقد توقف فيها الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ومن شاء التفصيل فعليه

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 11:21 PM

5 - جهله بالمعنى اللغوي لكلمة الاستشفاع :
وهذه غلطة شنيعة أخرى وقع فيها الدكتور - أصلحه الله وهداه - إذ استدل بالاستشفاع الوارد في أحاديث الاستسقاء على التوسل المبتدع فقال : ( وقد مر بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة الوراد في الاستسقاء وغيره وأن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة والصنعاني وغيرهم ) . وما كان للدكتور أن يقع في هذا الخطأ لو كان يفقه معنى الاستشفاع في اللغة ورغبة في تنوير القراء وإفادتهم نورد بعض ما ذكرته كتب اللغة في بيان معنى الشفاعة والاستشفاع
قال صاحب ( القاموس المحيط ) : ( الشفع خلاف الوتر وهو الزوج والشفعة هي أن تشفع فيما تطلب فتضمه إلى ما عندك فتشفعه أي تزيده وشاة شافع : في بطنها ولد يتبعها آخر سميت شافعا لأن ولدها شفعها أو شفعته واستشفعه إلينا : سأله أن يشفع )
وفي ( المعجم الوسيط ) الذي أصدره مجمع اللغة العربية في مصر : ( شفع الشيء شفعا : ضم مثل إليه وجعله زوجا والبصر الأشباح : رآها شيئين واشتشفع : طلب الناصر والشفيع - والشفائع : المزدوجات والشفاعة : كلام الشفيع والشفيع : ما شفع غيره وجعله زوجا )
وفي ( النهاية ) لابن الأثير : ( الشفعة مشتقة من الزيادة لأن الشفيع يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به كأنه كان واحدا وترا فصار زوجا شفعا والشافع هو الجاعل الوتر شفعا . . )
فمن هذه النقول وأمثالها يظهر معنى الاستشفاع بوضوح وهو أن يطلب إنسان من آخر أن يشاركه في الطلب فيزيد به ويكونا شفعا أي زوجا وقد أخذ من هذا الأصل اللغوي المعنى الشرعي للاستشفاع حيث أريد به الطلب من أهل الخير والعلم والصلاح أن يشاركوا المسلمين في الدعاء إلى الله في الملمات فيشفعوهم بذلك ويزيدوا الداعين فيكون ذلك أرجى لقبول الدعاء
وبهذا يمكننا فهم الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه و سلم يوم القيامة فهي باتفاق العلماء دعاء النبي صلى الله عليه و سلم للناس بعد مجيئهم إليه وطلبهم منه أن يدعو الله تعالى ليعجل لهم الحساب ولم يفهم أحد من أهل العلم من ذلك أن يقول الناس مثلاك اللهم بمنزلة محمد عندك عجل لنا الحساب
ومن الغريب حقا أن يتجرأ الدكتور البوطي فيدعي إجماع الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة والصنعاني على فهمه الشاذ المبني على جهل فظيع بمعاني الألفاظ المستعملة في اللغة والشرع ونكتفي للرد عليه بنقل كلام أحد الأئمة الذين نص على أسمائهم وادعى مشاركتهم إياه في فهمه لمعنى الاستشفاع ونعني الإمام ابن قدامة المقدسي صاحب أكبر كتاب في الفقه الحنبلي وهو ( المغني ) إذ قال فيه ما نصه :
( ويستحب أن يستسقي بمن ظهر صلاحه لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء فإن عمر استسقى بالعباس عم النبي صلى الله عليه و سلم . قال ابن عمر : استسقى عمر عام الرمادة بالعباس فقال : اللهم إن هذا عم نبيك نتوجه إليك به فاسقنا فما برحوا حتى سقاهم الله ووري أن معاوية خرج يستسقي فلما جلس على المنبر قال : أين يزيد بن الأسود الحرشي ؟ فقام يزيد فدعاه معاوية فأجلسه عند رجليه ثم قال : اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن الأسود يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا الله تعالى فثارت في الغرب سحابة مثل الترس وهب لها ريح فسقوا حتى كادوا لا يبلغون منازلهم واستسقى به الضحاك مرة أخرى )
وواضح من كلام ابن قدامة هذا أنه يعني بالاستشفاع الوارد في الاستسقاء أن يطلب إمام المسلمين من بعض أهل العلم والصلاح أن يشترك مع المسلمين في التوجه إلى الله ودعائه سبحانه لكشف الشدة عن عباده المؤمنين . ولم يقصد الإمام ابن قدامة ونجزم بأنه لم يخطر في باله ذاك المعنى الخاطئ الذي يحمله عليه البوطي وأمثال من المبتدعين ويريدون حمل الألفاظ الشرعية عليه
ترى كيف كان يدعي البوطي مثل هذا الإجماع المزيف ويستشهد بابن قدامة وغيره وها هو كلام ابن قدامة ينسف فهمه من الجذور ؟ أم أنه لا يفهم ما في كتب القوم أم لعله يدعي ما يروق له من الدعاوى الساقطة دون أن يراجع الكتب أو يقرأ كلام العلماء اعتمادا منه على أن قارئيه مقلدون تقليدا أعمى وليسوا ممن يراجع أو يقرأ أو يثبت مما يقال ؟
إنه لأمر مؤسف والله وبلية من أعظم البلايا التي نشهدها في واقع المسلمين وهي من غير شك من الأسباب الكبرى في تأخر المسلمين وضعفهم وانحطاطهم ومحال أن تتغير هذه الحال إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من الجمود والتصوف والفقه المذهبي وعلم
الكلام وعادوا إلى هدي الله الحق المتمثل في الكتاب والسنة والذي توضحه الدعوة السلفية الغراء



6 - خطؤه في ادعائه أن توسل الأعمى كان بمنزلة النبي صلى الله عليه و سلم عند الله :
ونختتم الرد على الدكتور البوطي بالإشارة إلى خطئه في ادعائه أن توسل الأعمى إنما كان بمنزلة النبي صلى الله عليه و سلم وبكونه أفضل الخلائق عند الله لأن ذلك مجرد دعوى لا برهان عليها ولم يستطع الدكتور أن يأتي بشبه دليل على ذلك وقد تقدم في هذه الرسالة إثبات أن توسل الأعمى إنما كان بدعاء النبي صلى الله عليه و سلم وقد فندنا كل الشبهات فيما علمنا التي يوردها المخالفون ويحتجون بها على رأيهم الخاطئ كما بينا ( 83 - 84 ) ضعف الزيادة التي أشار الدكتور إليها وسكت عنها جهلا أو تجاهلا وهي قوله : ( فإن كان لك حاجة فافعل مثل ذلك ) . ورغبة في عدم الإطالة لا نعيد ذلك
ومما سبق كله يتبين لكل منصف مريد للحق بطلان تلك الشبهة البوطية وسقوطها . وصدق الله تبارك وتعالى إذ يقول : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون ) ويقول : ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا )
والحمد لله أولا وآخر على توفيقه وهداه وهو وحده المستعان لا إله غيره ولا رب سواه
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك



انتهى بحمد الله

الغراب الأسود 11 - 11 - 2010 10:01 PM

مجهود رائع وموضوع قيّم
استمتعت بتواجدي بصفحتك

بانتظار المزيد من هذا العطاء

لك مني ارقّ تحية وأعذبها

دمت بخير


الساعة الآن 12:00 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى