![]() |
( 3 )
والحق أن المذاهب الوضعية القاصرة، والأديان المحرّفة، هي التي بسببٍ من قصورها، وعجزها، ورؤيتها المحدودة، وهوى أصحابها، وضعت قطبي الفردية والجماعية، في حالة تنازع واقتتال وخصام، وحكمتهما بقانون: "إما هذا أو ذاك" وكأن ليس ثمة حالة أخرى، أكثر موضوعية وعدلاً، تلم القطبين معًا، وتتعامل معهما بنفس الدرجة من العناية والاهتمام. وهكذا صارت ساحات الوضعيين، ومحرّفي الأديان، وبخاصة في أوروبا، تشهد سلسلة لا آخر لها من الأفعال، وردود الأفعال، التي بعثرت الكثير من الطاقات، وضيعت أجيالاً بكاملها، وهي تتخبط بين القطبين، متوهمة أن نجاتها لن تكون، إلا بالاندفاع مع أحدهما، حتى إذا تبين خطأ اندفاعها الأحادي هذا، وتجرعت مرارته وإحباطاته، عادت، لكي تندفع في الاتجاه الآخر، بنفس العنف، وبالرؤية العوراء ذاتها، ولكي تتجرع حفنات أخرى من المرارة والإحباط. إن فردانية النصرانية المحرفة، والرأسمالية الجائرة، والوجودية البائدة، من جهة، وجماعية الاشتراكيات الطوباوية الحالمة، والشوفينيات العدوانية الطاغية، والشيوعية المستبدة، لتعطينا مجرد شواهد على ما شهدته الساحة الأوروبية من تضاد، بين الأفعال وردودها، ومن ذهاب وإياب، بين طرفي المعادلة: الفردية والجماعية.. والمصير الذي انتهت إليه هذه المحاولات جميعًا.. ثم القيام المتخبط كرة أخرى، للبحث عن البديل. ولن يكون البديل - والحالة هذه - متوازنًا شاملاً، يلم كلا القطبين، وينقذ الإنسان الحائر من ورطته وضياعه، طالما أنه يصدر عن الإنسان، ذي القدرات المحدودة، والرؤية النسبية، والاستشراف المنقوص.. فليس ثمة إلا الدين القادم من عند الله، ما يقدر على تجاوز هذا التأرجح المحزن، ويقود الإنسان ، فردًا وجماعة، إلى شاطئ الأمان، ويأوي به إلى العالم المتوازن، الذي تلتقي فيه، وتتصالح، وتتآلف، سائر الأطراف. ( 4 ) وكلّنا يعرف، كيف أن الحركة الإسلامية ، في بدايات تشكلها الأولى، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اجتازت دوائر عديدة، في صيغة اندياح متواصل صوب الأوسع، والأكثر امتدادًا، قبل أن تبلغ حافات العالم، حيث مضت قدمًا، لكي تغطي على مطالبه، وتهندس لمفرداته، وعلاقاته جميعًا. ولقد كان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجتاز بأصحابه الأوائل، رحلة الثلاث عشرة سنة في العصر المكي، في مرحلتيه السرّية والعلنية، وهو يبني الذات المسلمة، موغلاً إلى أبعد نقطة في العمق البشري، مستعينًا على مهمته الصعبة، بآيات الكتاب الكريم، وهي تتنزل على مكث، وبما وهبه الله إياه من قدرة على الصبر، والأناة والتحمل، ومن مراس شديد، ومرونة في التعامل، وخبرة عجيبة بالنفس البشرية. حتى إذا حان الوقت، للانتقال إلى الدائرة التالية، دائرة الدولة، التي تحمي وتمتد في الوقت نفسه، كان صحابته الكرام الأولون رضي الله عنهم، قديرين على تحمل المهمة الصعبة، والوفاء بالأمانة كاملة غير منقوصة.. وراح القرآن الكريم يغزّي، بتشريعاته المتواصلة، مطالب الدائرة الجديدة، بصيغة تماس يومي مع الوقائع، ومتابعة حركية للخطوات، التي تُقطع، والخطوات التي تجيء.. وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشرح، وتبسط، وتعلو بالبناء، الذي كان يتنامى يومًا بعد يوم، حتى آن الأوان، للانتقال إلى الدوائر الأخرى، حيث راحت الموجة تنداح باتجاه جزيرة العرب أولاً، ثم العالم كله بعد ذلك. وفي الأحوال كلها.. في المراحل والخطوات كلها، كانت الحركة الإسلامية ، وهي تنداح، قد وضعت في حسبانها، بهدي كتاب الله، وتعاليم رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، طرفي المعادلة، وقطبي الوجود البشري في العالم: الفرد والجماعة، وكانت أولويات الحركة وحدها، تقتضي التركيز على الذات حينًا، من أجل بناء القاعدة العقيدية، والاهتمام بالجماعة حينًا آخر، من أجل إقامة الدولة ذات النظم والمؤسسات.. ولكنها كانت في الأحوال كلها، تتوجه بالخطاب إلى الفرد، والجماعة على السواء. ( 5 ) ومنذ اللحظات الأولى، وحتى اكتمال النسيج، كان الإسلام بكتابه العزيز وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، يمضي بالفرد المسلم، والجماعة المسلمة، إلى كسر حواجز المنظور، وتجاوز عتبات العالم، والتحرر من أسر التاريخ، باتجاه الغيب، والكون والخلود. إنها الدائرة الأشمل، والأوسع، التي تنتهي عندها، وتؤول إليها، سائر الموجات المنداحة من نقطة الوسط، مندفعة إلى ما وراء الراهن الموقوت.. لقد أراد الإسلام، منذ لحظات تشكّله الأولى، أن بيني الإنسان الكوني - إذا صح التعبير - فهذه هي واحدة من مهمات الأديان الكبرى، وهذا هو أحد الفروق الحاسمة، بينها وبين الوضعيات القاصرة المحدودة، الملتصقة بالأرض، والمتشبثة بالمنظور القريب. الإنسان الكوني بتجاوزه الظاهر إلى الغيب، والأرض إلى السماء، والدنيا إلى الآخرة، والمادة إلى الروح، والأسر إلى الحرية، والفناء إلى الخلود. إن كل المذاهب، والمبادئ، والمحاولات، ما بلغت، وهي تنداح بدوائرها، متسعة، صوب هذا الجانب، أو ذاك، ما بلغه هذا الدين، الذي هو حصيلة الأديان السماوية كلها، ومصدّقها وخاتمها، من تجاوز للنسبي إلى المطلق، والمحدود إلى الممتد، والفاني إلى الخالد.. من كسر لحواجز الزمن والمكان، والانطلاق إلى الآفاق الكونية، على امتدادها، في واحدة، من أوسع، وأعمق، حركات الاندياح في التاريخ البشري، وأرحبها فضاءً.. ها هنا، يلتقي كرة أخرى، الفرد والجماعة، وحيث يصير السعي البشري في العالم جهدًا مزدوجًا، في العمق والعرض، لصياغة حياة إيمانية، يتوغل منظورها الكوني، في ذات كل مسلم، حتى آخر طبقة فيها، ويمتد، ويتسع، لكي يغطي كل مطامح الجماعة المسلمة، وسائر مفردات نشاطها، وعطائها، وإبداعها، بحيث يصير إنجازها الحضاري، علمًا عليها، مؤشرًا على تْوقها للسماء، وتعبيرًا عن اجتيازها الصعب، لكل تحديات البلى والفناء.. لكل العوائق والمتاريس، التي تصد الإنسان، والجماعة البشرية، عن الذهاب إلى آخر نقطة ممكنة في الكون. لقد انطلق الفاتحون، الذين ربّاهم نبيهم ومعلمهم عليه أفضل السلام، والذين تلقوا دفعات التوجيه والبناء، في ذوات أنفسهم، وفي علاقاتهم الجماعية على السواء.. انطلقوا وقد اكتملت الأسباب، إلى العالم، وهم يرفعون شعارًا واحدًا، يحمل مغزاه التحريري الشامل: "جئنا لكي نخرج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن عبادة العباد، إلى عبادة الله وحده". حقًا، لقد كان الخروج بالإنسان، من ضيق الدنيا، إلى سعتها، واحدًا من أخطر الخطوات في التاريخ البشري، وأكثرها امتدادًا، وإنه ليرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعدل والتوحيد.. العدل بين الإنسان والإنسان.. والتوحيد المطلق لله.. فليس ثمة إلا الله وحده، من يحرر الإنسان، ويعدل بين الجماعات! |
عصر الاختزال ( 1 ) يمكن أن تكون البداية ، أعمال النحّات السويسري المشهود (جياكوميتي)، الذي اعتمد الأسلاك في نحته، للتعبير عن مأساة الإنسان المعاصر. لقد حقق في حقل النحت، مبادئ عن الجمال المذكر والمؤنث - التي حققتها الحضارة المعاصرة في الحياة العملية - بتبديد الدهن، واللحم، من الأجساد البشرية.. إن الجسم البشري قد حُوّل - بهذا الشكل - إلى مقياسٍ واحد، فأخذ أشكالاً محددة، جافة، لا تزيد على حجم سلك حديدي.. هذا ما يحكيه الأديب الروماني (كونستانتان جيوروجيو) في روايته المعروفة (الساعة الخامسة والعشرون).. ولقد مضى على احتجاج الرجلين: النحات، والأديب، أكثر من نصف القرن، ولا تزال عملية اختزال الإنسان ماضية في طريقها، تحت مظلة المطالب الحضارية، ومقتضيات السرعة، والاقتصاد، والإنجاز.. ولا يزال الإنسان في مطالبه الحيوية، والوجدانية، والحسية، والروحية.. في علاقاته الاجتماعية، وفي وضعه الحضاري.. ساحةً للتجريب والاختبار، من أجل الوصول إلى تلك الحالة، التي لا يستهلك فيها طعامًا، مستغنيًا عنه بالحبوب والأقراص، ولا يمارس حبًّا وأشواقًا، لأن إفرازاته الجنسية، يمكن أن تتحقق من أقرب طريق.. ولا يأوي إلى بيت، أو زوج، أو ذرّية، لأن استمرارية الحياة بالمعدلات المرسومة، لن تسمح للرجل أن يتزوج على هواه، وينجب كما تملي عليه رغباته، ونزوعه الإنساني. الاختزال في كل مكان، وعبر كل ممارسة، وكأن الحياة البشرية، قد تحولت إلى ورشة كبيرة، أو حقل للتجارب العلمية، من أجل الوصول إلى أقصى درجات الإنتاجية، المتوخاة من الإنسان، في مقابل أقل قدر ممكن من الاستهلاك في الزمن، والطاقة، والرغبات، والدوافع، والميول، والأشواق. اختزال في الجسد.. إذ يكفي، أن يعيش الإنسان، بأقل وزن ممكن.. تكفيه الكيلوات الأربعون أو الخمسون، بل إنها تضمن له قدرة أكبر على الفاعلية والإنجاز.. اختزال في الرغبة الجنسية، تكفي معها نظرية كأس الماء، التي نادى بها المنظرون الماركسيون يومًا، والتي تتمثل بإفراغ سريع للشهوة، من أقرب طريق، أسوة بما يحدث إزاء إلحاح العطش، للانصراف، من ثم، وبعد تفريغ الشحنة المقلقة، إلى العمل والإنتاج.. اختزال في الأحاسيس، والمطالب الحيوية، إذ تكفي ثلاثة أقراص في اليوم، للتعويض عن الطعام، ويكفي فيلم تليفزيوني، للتعويض عن رحلة في الهواء الطلق.. وتكفي زجاجة عطر مركز، للتعويض عن النزهات الدورية، في الحدائق والمتنزهات.. اختزال في العلاقات والممارسات الاجتماعية، إذ تكفي حديقة واحدة، لكل مجموعة سكنية، وتكفي تحية سريعة عابرة، بين الجار والجار، بدلاً من تبادل الزيارات الطويلة، وتكفي الانحناءة المهذبة، بدلاً من عبارات المودّة والسلام، وتكفي ساعة واحدة مع الزوجة والأطفال، في نهاية يوم من الكدح الصعب، بدلاً من تضييع الساعات الطوال بصحبتهم، وتكفي سنوات ما قبل الرشد، لكي يظل الأولاد ملتصقين بالأب والأم، أما بعدها فإن عليهم أن يرحلوا، حيث لا يقتضي الأمر عند ذاك، سوى زيارات مجاملة متباعدة، لبيت العائلة، وقد لا يكون لهذه الزيارات مبرر أساسًا، لأنها مضيعة للوقت.. اختزال في الأحاديث المباشرة، لأن تكنولوجيا التواصل، ألغتها من الحساب.. وفي تبادل الأشواق، لأن عصر السرعة، لا يسمح بها ! اختزال في الروح، حيث لا وقت لصلاة أو صيام، وحيث تحجّم هذه فتغدو ممارسة روتينية، محددة بساعة ما، في يوم من أيام الأسبوع.. اختزال في الراحة والاسترخاء، حيث تضيّق زحمة المطالب خناقها على الإنسان، وحيث يكفي قرص من (الأتيفان) أو (الفاليوم)، لا ستدعاء النوم، في الوقت المطلوب، واستعادة التوازن، والقدرة على العمل من جديد. اختزال في المنظور الرؤيوي للعالم، حيث لا مبرر لتجاوز العالم، إلى ما وراءه، والمنظور إلى المخفي، والظاهر إلى الباطن، والملموس إلى الغيب، والقريب إلى البعيد، والأرضي إلى السماء، والدنيا إلى الآخرة.. إن هذا كله، نوع من الترف الزائد، وأحرى بالإنسان أن يحيا في عالمه المباشر، وأن يكون واقعيّاً، في عصر يرفض المثاليات والأحلام، وينسحق كل من لا يركض مع الراكضين، للحصول على مغنم أكبر، وضمان لقمة أكثر إشعاعًا… عصر يجعل توقف المرء فيه لمراجعة الحساب، عرضة لكي يدوسه الآخرون، والمندفعون إلى أهدافهم، بحتمية جماعية، وإحساس بالضغوط المنصبة على كل إنسان، وكأنها قدر لا فكاك منه. اختزال في التفكير، لأن الحاسب الآلي، أغنى الإنسان عن التفكير.. وفي التأمل الذاتي، لأن عجلة الحياة، لا تسمح بالإيغال فيه.. واختزال في الإبداع، لأن ألعاب (الفلبرز) امتصت حاجة الإنسان إلى الإبداع.. اختزال في كل شيء .. في كل ممارسة.. في كل نشاط.. في كل ما يهم الإنسان في ذاته.. في تكوينه البشري.. في ملذّاته.. في مطالبه الحيوية، وأحاسيسه.. في آماله وأحلامه.. في أشواقه، ومطامحه الروحية.. في علاقاته الاجتماعية.. في رؤيته للكون، والعالم، والحياة.. الإنسان يتحول إلى سلك، والعلاقات الاجتماعية، تصير شبكة من الأسلاك.. والأنشطة الحضارية، تنبض عبر حُزم الأسلاك الدقيقة، التي لا ترى بدلاً من أن يكون محلها القلب، والعقل، والوجدان. والتكنولوجيا التي لم يعد يقف أمام زحفها، شيء في العالم، تمضي مسرعة هي الأخرى، في مزيد من الاختزال.. إن "الغرامافون" الذي كان يدار باليد، بين دقيقة وأخرى، أصبح يدار بالكهرباء، ثم استغني عنه بجهاز التسجيل، ذي البكرات الكبيرة، ثم نفي هذا لكي يحلّ محله الكاسيت الصغير لجهاز الجيب.. وقد يجيء اليوم، الذي يكتفى فيه، بما تستوعبه ساعة اليد.. ولقد جاء فعلاً.. الاختزال في كل صغيرة وكبيرة.. والتكنولوجيا، تمضي أبدًا، للإعانة عليه بحجة أنه مطلب حضاري، وأن عصر البطء، والتثاقل، عصر الأدوات والأشياء الكبيرة، التي تحتل مكانًا أكبر، في حياتنا اليومية، مضى إلى غير رجعة. الأجيال الجديدة، التي نشأت في مناخ الاختزال هذا، لا تدرك جانبه السيئ، لأنها لم تكد ترى إلا وجهه المتفرّد. أما الأجيال التي سبقتها، والتي عايشت إيقاع حياة أكثر مرونة، وهدوءًا، وانسيابية، وسعادة، وفرحًا، واستقرارًا.. أخذت تشعر يومًا بعد يوم، بأن الحياة أصبحت محاصرة، أكثر مما يجب، وأن لعنة ما، تأخذ بخناق الإنسان.. وأن المسرات القديمة، قد ولت إلى غير رجعة، لتحل محلها مسرات من نوع جديد، لا يكادون يستسيغون لها طعمًا.. بل إن الأجيال الجديدة نفسها، رغم أنها لم تعرف شيئًا، عن حياة الآباء والأجداد، أو تذق سكينتهم،وفرحهم، وحلمهم الدائم، بالمزيد من السعادة.. هذه الأجيال، يكاد المرء، يلمس، كم أنها غير سعيدة، كم أنها قلقة، مشتتة، موزّعة، كم أنها لا تفرح، ولا تحلم، ولا تؤمّل بيوم آخر، يتضمن قدرًا مغايرًا من المسرة، أو البهجة.. إن أبناء هذه الأجيال، يركضون.. وهم حتى في ألعابهم، وهواياتهم، والتيسيرات العجيبة، التي وضعت بين أيديهم، لا يتحققون بعشر معشار السعادة والغبطة، والفرح، يوم كان آباؤهم، في أعمار الصبا والشباب، يلعبون، ويمرحون، بوسائل وإمكانات أولية، تكاد تتضاءل خجلاً، أمام متع وألعاب ومسرات التكنولوجيا والآلات! ( 2 ) إن استنكار حالة (الاختزال) هذه، في الحياة المعاصرة، لا يعني رفضًا للتكنولوجيا، وإنكارًا لخدماتها، التي لم يعد بمقدور إنسان ما، الاستغناء عنها، والتي تتأكد يومًا بعد يوم، كضرورة ملحّة، من ضرورات الحياة اليومية.. إن رفضا كهذا، لا يقول به إلا شاذ، أو بوهيمّي، أو درويش، أو مجنون، ولنتذكر، كيف أن عطلاً ما يصيب الطاقة الكهربائية في مدينة من المدن، أو حي من الأحياء، يجعل الناس، لا يكادون يطيقون اصطبارًا. وما أن تستأنف الطاقة عملها كرة أخرى، حتى يتنفسون الصعداء، ويذكرون بالخير (أديسون)، وكل المكتشفين والمخترعين، الذين منحوهم نعمة الضوء، وتيسيرات الكهرباء.. إن الاستنكار، لا ينصب على التكنولوجيا، ولكن على طرائق توظيفها، وعلى تفرّدها في الساحة.. في التعامل مع الإنسان.. على المنظور، أو الرؤية الأحادية، التي يتم التعامل بها معها.. على الاستغلال، الذي قد تمارسه المؤسسات الاقتصادية، والشركات المنتجة، ودوائر الدعاية والإعلان، لتحقيق مكاسب خيالية في المبيعات، ليس على حساب جيب الإنسان فحسب، وإنما أيضًا على حساب أعصابه، وأشواقه، وأحلامه، ومطالبه الحيوية، ومنازعه الاجتماعية.. على الجنوح، أو الميل العظيم، الذي تشهده الحضارة المعاصرة، باتجاه المزيد من المادية، تعينها على ذلك قدرات التكنولوجيا المذهلة، المتزايدة يومًا بعد يوم.. على الاستلاب النفسي، الذي يحاصر الإنسان، ويأخذ بخناقه.. على التكاثر الشيئي الذي يطوقه، ويقذف به بعيدًا عن مواقعه المشروعة، لكي تحتلها الأشياء.. باختصار، فإن نقد التكنولوجيا، لا ينصبّ على المعطى التكنولوجي، وإنما على مفردات التعامل معه، وهي مفردات، تتضمن خطأ كبيرًا بحق الإنسان، وهو نقد يتوخى العودة إلى حالة التوازن المفقود، بين الآلية والإنسان،وليس نفي التكنولوجيا أساسًا، لأن هذا لا يقول به، إلا شاذ أو مجنون. على العكس تمامًا، فإن النخبة، لا الناس العاديين، هي التي تنقد، وتعترض، وتطالب بالتريث قليلاً، من أجل إنقاذ الحياة، من حصار الآلية، والشيئية، والتكاثر.. من التسطح، والتضحل، وفقدان طعم الحياة.. إن المفكرين، والفلاسفة، والأدباء، والفنانين، وهم يقفون في قمة الحياة الحضارية للعالم المعاصر، هم الذين يرفعون أصواتهم بالاحتجاج.. بل إن العديد من العلماء أنفسهم، يضيفون أصواتهم إلى أصواتهم، مؤكدين على أن هناك اندفاعًا ما، غير مدروس، في مسيرة التكنولوجيا، وعلى أن هناك خطأ في التعامل، قد يدمّر الإنسان، ويلغي سعادته وفرحه من الحساب.. إننا نقرأ هذا كله في مؤلفات الفلاسفة والمفكرين.. في خطابات العلماء.. في روايات ومسرحيات وقصائد الأدباء.. وفي لوحات وأعمال الفنانين.. ولن يتهم أحد، أو يخطر على باله، أن أيّـاً من هؤلاء، يقف ضد التحضر، أو التقدم العلمي، أو ينادي بنفي التكنولوجيا، خارج حدود الحياة البشرية. إنما هو - مرة أخرى - استنكار للجموح.. للاندفاع غير المرسوم.. للحياة العرجاء ، التي تركض على ساقٍ واحدة.. للابتزاز والاستلاب، الذين يتعرض لهما الإنسان، باسم التكنولوجيا، والتيسيرات، والإعلان! وهي - مرة أخرى - رفض للتسطح، والتضحل، اللذين يراد للحياة، أن تتشكل، وفق مطالبهما، فلا يغدو لها طعم أو مذاق، وتتخلى عن طبقاتها الأكثر إيغالاً وعمقًا، لكي تصبح وجهًا واحدًا، ذا طول وعرض، ولكنه لا يملك أي عمق على الإطلاق.. إنهم يحتجون على صيغ التوظيف، وليس على التكنولوجيا ذاتها. إنها بوادر (الارتداد) إلى الفطرة، التي تلقت ضغوطًا فوق طاقتها، ولكنها ظلت، وستظل، تقاوم من أجل استعادة وظيفتها الكبرى، في العودة بالإنسان إلى سويّته، وبالحياة البشرية إلى توازنها المفقود. ( 3 ) والحل الوحيد هو (الدين)، الذي يوقف الردّة، ويحجم الاندفاع بالعين الواحدة، ويقضي على التشيّؤ، والتسطح، في مجرى الحياة، ويعيد إليها تألقها، ونبضها، وتدفقها.. يمنحها عمقها المطلوب، لكي تكون موازية تمامًا للإنسان، هذا الكائن المتفرّد.. ولكي تستحق فعلاً أن تعاش. ليس أي دين.. وليس الأمر باجتهادات، أو وجهات نظر، أو أذواق وأهواء وظنون، تتلبس كتابات هذا المفكر، أو ذاك، ودعوات هذا الفيلسوف، أو الأديب أو ذاك، فتذهب حينًا إلى الشرق الأقصى، تستعير منه ضلال البوذية أو البرهمية، وتستجدي عبث اليوكا، وخرافات النيرفانا، كما فعل الروائي الألماني هيرمان هيسه في (سدهارتا)، وحينًا إلى الغرب الأقصى، لكي تسترجع تفاهات الوثنيات الأمريكية العتيقة، كما فعلٍ الروائي الأمريكي، جون شتاينبك في (البحث عن إله مجهول). وترجع حينًا آخر إلى المسيحية نفسها، باحثة منقبة، علّها تجد في بقايا نسيجها المتهرئ، قيمًا تصلح للمحاولة، كما فعل المؤرخ والفيلسوف الإنكليزي أرنولد توينبي، في (دراسة للتاريخ)، وتمضي حينًا رابعًا، وقد أصابها الإحباط، من المحاولات الفاشلة، لكي تصنع دينًا على هواها، تلمّ أقسامه، وقطع غياره، من هنا وهناك.. وتخيط هنا،وترقّع هناك، فيما تسمية الديانة الثلاثية أو الرباعية! وهي لا تنسى - أحيانًا - أن تلقي نظرة سريعة على الإسلام، لعلها تجد في بعض مفرداته، ما يعينها على استكمال محاولتها التوفيقية، أو الترقيعية تلك! كما فعل الأديب الأيرلندي برنارد شو، في (العودة إلى ميتو شالح)، أو الأديب الإنكليزي كولن ولسون في (سقوط الحضارة).. وغير هؤلاء كثيرون.. إن هذه الأهواء، والظنون، والمحاولات، التي تخضع الدين للمعطيات الوضعية، فيما يجعل الحالة مقلوبة، على رأسها، بدلاً من أن تمضي على قدميها.. هذه كلها، لا تعدو أن تكون عبثًا.. باطل الأباطيل، وقبض الريح، إذا استعرنا كلمات السيد المسيح عليه السلام، وهي في نهاية الأمر، لا تأتي بأية نتيجة قبالة جديّة الزحف التكنولوجي، وواقعيته الساحقة، ومنطقه الصارم، الذي لا يكون فيه حاصل جمع الواحد والواحد إلا اثنين، والذي تنتفي في شبكته، أية فرصة للصدفة، أو الاحتمال، أو الظن والهوى! إن محاولات كهذه، فضلاً عن هزيمتها المؤكدة، ستمنح سلطة التكنولوجيا، فرصة أخرى لتأكيد وجودها، ولتفرّدها في حكم الحياة البشرية، وبالتالي، فإن أصحاب تلك المحاولات، سيخسرون مرتين، وسيخسر معهم الإنسان البائس التعيس، الذي ينتظر خلاصًا، ليس بمقدور أحد من الغربيين أنفسهم، أن يقدمه إليه. الحل الوحيد ليس في الدين على إطلاقه، أو في مطلق دين، كما يصطلح المناطقة، بعد أن عبثت الأهواء بالأديان، فحرّفت كلماتها وتعاليمها، عن مواضعها، وغلّبت عليها الأهواء والمصالح والظنون، واشترت بآيات الله ثمنًا قليلاً. كما أن الحل، ليس في ممارسة الخطيئة المنهجية، بتحكيم النسبي بالمطلق، والمحدود بالشامل، والعقل البشري، بمعطيات الوحي، عن طريق عملية انتقاء، وتلفيق، وترقيع يؤتى بقطعها، وتوصيلاتها من هذا الدين أو ذاك، ومن هذا المذهب الوضعي، أو ذاك، لكي يصاغ دين جديد، يمتزج فيه ما يجيء من عند الله، وما يهواه العبيد، ويكون ملائمًا لمطالب الإنسان. إن الحل لن يكون إلا بدين متفرد واحد، هو الإسلام، صادر عن مصدر واحد هو الله سبحانه، ينطوي على نسيج متوحد في معطياته العقيدية، والسلوكية، والشعائرية، والتشريعية، على السواء، قدير على صياغة حياة متجانسة، ذات خصائص ومواصفات، مرسومة بالدقة، والإعجاز، اللذين يليقان بعلم الله سبحانه، ويستجيبان - بسبب من هذا كله - لمطالب الإنسان، والحياة البشرية في أكثر صيغها صفاءًا، ونقاءًا، وتوحدًا، وتوازنًا، ومرونة، واستقامة، وسعادة، وفرحًا، وإنجازاً، وعطاءًا، وعمقًا، وامتدادًا.. وليس في هذه الصفحات، مجال للإسهاب، في الحديث عن هذه المواصفات والشروط، التي يطول الخوض فيها، ويتشعب، وإنما التأشير فقط، على أن الاستجابة للتحدي التكنولوجي، الذي يسعى للتفرد بالإنسان، وإحكام قبضته على الحياة البشرية، هذه الاستجابة، لن تتحقق بالشكل المأمول، إلا عبر الإسلام، ومن خلاله: أولاً: بسبب من صدور هذا الدين، عن الله سبحانه، ذي العلم المطلق، والخبرة اللامتناهية، بمطالب الإنسان، والحياة البشرية، وبسبب من مصداقية أصول هذا الدين، متمثلة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بينما في الأديان المحرّفة، يتداخل الإلهي بالبشري، بشكل عشوائي، وتفقد الأصول الدينية، توثيقها ومصداقيتها. ثانيًا: إن هذا الدين هو قمة الخبرات الدينية، التي تشكلت عبر رحلة الأديان السماوية، في مسار التاريخ، والتي أخذت صيغتها الأخيرة المتكاملة في الإسلام، بجوهره التوحيدي الخالص. ثالثًا: إن هذا الدين، بسبب من الشرطين أو الخصيصتين السابقتين، يحقق أقصى حالات التوازن والوفاق، مع الإنسان، والحياة البشرية، ويقدّم مشروعًا، أو برنامج عمل، إذا ما تم التعامل معه بالجدية، والصدق المطلوب، فإنه سيصوغ الحياة المتوازنة السعيدة، التي يطمح إليها كل إنسان سويّ، لأنها ستجيء على قياس الحياة البشرية نفسها، بكل أبعادها، وطبقاتها، وخبراتها المادية والجسدية، والحسية، والوجدانية، والروحية، والفردية، والجماعية. رابعًا: وهذا يعني أن الإسلام، بدلاً من أن ينفي المعطيات التكنولوجية، التي تشكلت في الأساس للإعانة على الحياة البشرية، وإرفادها بالتيسيرات الأساسية، والتحرر من ضغوطها وضروراتها، فإنه - أي الإسلام - سيتبنّاها ويؤكدها، ويوظفها في مجرى الحياة، بعد أن يضعها في مكانها الحق، على خارطة هذه الحياة، ويوازن معطياتها ومفرداتها، برؤيته الشاملة، وتأكيداته الروحية، وتجاوز الالتصاق بالمنظور القريب، إلى الآفاق الشاملة، التي تنطوي على البعد الغيبي، وتتطلع إلى السماء، وترى في الحياة الدنيا، طريقًا إلى الآخرة، وتجعل من التجربة البشرية في العالم، تجربة نماء، وإعمار، وعطاء، ليست كهدف بحدّ ذاتها، وإنما كخطوة إيجابية، صوب أهداف أبعد، تتمحور في عبادة الله وحده، والتلقي عنه، والتوجّه إليه ، في الصيرورة والمصير. خامسًا: وتأسيسًا على ذلك، فإن التعامل مع التكنولوجيا، ومع الخبرة المدنية والعملية عمومًا، واحتواءها، ليس مجرد موقف، لا يرتطم بخطط الإسلام ومشاريعه وتوجهاته، بل هي جزء أساس من مطالب الإيمان، التي يتقرب بها الإنسان من الله سبحانه، كشفًا وتشكيلاً، وإنجازًا، وتعاملاً، والتي تمنح الحياة البشرية في ظلال الإسلام ، فرصاً أكثر فاعلية للتحقق، والتألق، والعطاء. إن الإسلام -في ضوء هذا- لا يحيّد التكنولوجيا، أو يكتفي بالتصالح معها، وإنما يتبنّاها، ليس من أجل أن يكون الإنسان في خدمتها، وإنما لكي تكون هي في خدمة الإنسان، هذا الكائن المتفرّد، ذي التكوين والخصائص المتفوّقة، المتشابكة، الغنية، التي لن يكون كسبًا للإنسان، التضحية بأي جانب منها، في سبيل أي شيء في هذا العالم، والتي يجيء الإسلام، لكي يؤكدها، ويتبنّاها، ويمنحها فرصة التحقق، والفاعلية، والعطاء: (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )(الروم:30). |
القرآن الكريم وفلسفة التاريخ
( 1 ) يمكن للمرء، وهو يتابع في دائرة فلسفة التاريخ، النظريات المختلفة، في تفسير التاريخ، وبغض النظر عن صوابها، أو خطئها، كفلسفات ونظريات، أن يتبين، و دونما تكلّف، أو صعوبة، أن أي جانب خاطئ، أو مفردة سلبية، من هذه النظرية أو تلك، سبق وأن أدانه القرآن الكريم، وأن أي جانب صحيح، أو مفردة إيجابية، أو كشف ذي قيمة، سبق وأن أكّده القرآن! وبمقدور المرء، أن يجد حشودًا من شواهد الإدانة، أو التأكيد القرآني، لهذا الجانب، أو ذاك، وهي تتدفق دونما تمحّل، أو استدعاء. ( 2 ) في نظرية توينبي، في التفسير الحضاري للتاريخ -على سبيل المثال- يبرر مبدأ التحدي، والاستجابة، ومسألة الحدّ الوسط، وكيف أن السهولة البالغة للبيئة لا تستثير تحديًا، ولا تنشئ بالتالي حضارة.. وفي المقابل فإن الصعوبة البالغة، تضع الاستجابة، في حالة استحالة، وتجهض أية إمكانية لنشوء الحضارة، بالتالي. وهكذا فإن الحد الوسط، الذي تتوازن فيه المصاعب، والتيسيرات، هو الذي يشكّل نواة الاستجابة، ويمنح الفرصة للتحقق الحضاري، عبر التاريخ. ألا يذكرنا هذا، بالآية القرآنية الكريمة: (إنا كل شيء خلقناه بقدر )(القمر:49)، وبالآية الكريمة: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء، إنه بعباده خبير بصير )(الشورى:2)، وبغيرهما من الشواهد القرآنية، التي تؤكد المعنى نفسه؟ ألا يذكرنا بالآيات الخاصة بتذليل الأرض، ومنحها المواصفات، التي تمكن الإنسان، من ممارسة مهماته العمرانية في العالم؟ وكذلك بآيات التسخير، التي تجعل العلاقة بين الإنسان والكرة الأرضية، علاقة تمهيد مسبق، وظروف مواتية، وبالقدر المناسب، لتنمية الحياة، وللتحقق بالمزيد من الإنجازات، والتيسيرات؟ ألا يذكرنا بدعوة القرآن المؤكدة، في حشود المقاطع، والآيات، إلى ضرورة التنقيب في الأرض، لاستخراج الخامات، والنظر في السماء لإدراك سننها ونواميسها، فيما يمنح الإنسان - في الحالتين - فرصة للتحقق العلمي: النظري والتطبيقي، والذي يعد أساسًا لقيام الحضارات، وديمومتها؟ ألا يذكرنا بحملة القرآن المتواصلة ضد الترف، لأنه يمنح الحياة استرخاءً أكثر، ويحيطها بالتيسيرات المبتذلة، التي يضيع معها شد القدرات، واستفزاز التحديات، على كافة المستويات، الجسدية، والنفسية، والأخلاقية، ويسوق الحياة بالتالي، إلى التفكك والدمار، في مقابل غياب متزايد للفعل والإنجاز؟ ( 3 ) في النظرية المذكورة، نجد كذلك، كيف أن معظم الجماعات، والعروق البشرية، وأعطيت الفرصة، لكي تنشئ حضاراتها الخاصة بها، بغض النظر عن مواقعها في الزمن والمكان، وعن أصولها البيضاء، أو السمراء، أو الصفراء.. ألا يذكرنا هذا بالآية القرآنية الكريمة، التي تقول: (كُلاً نُمدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورًا )(الإسراء:20)، وبالآية الكريمة: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء )(الإسراء:18)؟ طبعًا، فإن هاتين الآيتين، أو أي شاهد قرآني، يتضمنه بحث، أو مقال، ينطوي على أكثر من بُعد، ويمنح أكثر من مغزى، فلا يقتصر على المعنى، الذي ذهب إليه هذا المفسر، أو ذاك، ولا يقف عنده، اللهم إلا في أنماط معينة من الآيات المعنية - مثلاً - بالعقيدة أو التشريع. إنما يرد الاستشهاد ها هنا، أو يلتقي مع تلك الدلالات القرآنية، التي تتوازى بدرجة أو أخرى، مع كشوف، ومعطيات، مفسري التاريخ، وفلاسفته. ( 4 ) وثمة مفردة أخرى، في نظرية توينبي، يمكن أن نشير إليها هنا، إنها سقوط العثمانيين، نتيجة (ضغط) التفوّق الغربي، وبسبب من عدم الالتفات إلى حقيقة أن الانتشار العسكري، وحده، لا يحمي الجماعة، إذ لا بد أن يدعمه، ويغذيه، نموّ علمي وتطبيقي، وبخاصة في تكنولوجيا السلاح. إننا نتذكر - هنا - التعامل القرآني مع خامة الحديد، بشكل مباشر، في الآية الخاصة بالموضوع، في السورة، التي سميت بالاسم نفسه: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس وليعلمَ اللهُ من ينصره ورسلَه بالغيب إن الله قوي عزيز )(الحديد:25). وفي المقطع الخاص بذي القرنين والسدّ الذي أقامه، لحماية المستضعفين في الأرض: (حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولاً * قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجًا على أن تجعل بيننا وبينهم سدّاً * قال ما مكني فيه ربي خيرٌ فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردمًا * آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارًا قال آتوني أفرغ عليه قِطْراً * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا )(الكهف:93-97). أو بشكل غير مباشر في الآية الخاصة بالإعداد العسكري: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة )(الأنفال:60)، وبالمقطع الخاص بتسخير الطاقات الكونية، لداود وسليمان، عليهما السلام في سورة سبأ. ولقد وقفنا طويلاً عند هذه المسألة، في أكثر من كتاب، ولكننا هنا نشير إليها، مجرد إشارة، لغرض المقارنة، بين المعطيات القرآنية، وبعض جوانب التفسير الحضاري للتاريخ، حيث نجد تأكيدًا، في المستويين، على ضرورة التصنيع، واعتماد خامات الأرض، والنمو العلمي: الصرف والتطبيقي، إذا ما أريد تنفيذ إسناد جادّ، للانتشار في الأرض، وإلا فإنه الانحسار، والتفتت، والدمار. ( 5 ) في أواخر العصر الباليوليتي، حيث أصبح زحف الجليد جنوبًا، باتجاه المراعي الأفروسية، يمثل تحديًا للجماعات البشرية، شمالي الهند، كشفت دراسة توينبي عن تشكل ثلاثة مواقف، لتلك الجماعات. فإذ بقيت إحداها في مكانها، لم تتحرك، فإنها ظلت على تخلفها وبداوتها، حيث إنها رفضت الاستجابة للتحدي الجليدي، بشكل أو بآخر.. وجماعة أخرى، كانت استجابتها محدودة، حيث تراجعت قليلاً، باتجاه الجنوب، صوب المناطق الأكثر دفئًا، ولكنها بسبب هذا المدى المحدود للاستجابة، ظلت على رعويتها. أما الفئة الثالثة، فقد نزحت إلى مكان بعيد: إلى وادي النيل في مصر، حيث شمرت عن ساعد الجدّ، بسلسلة أخرى من الاستجابات الناجحة، لضغوط البيئة هناك، وصنعت - بالتالي - الحضارة المصرية المعروفة. وإننا لنتذكرها هنا - على المستوى العقدي - الآية الكريمة، التي تحكي عن المستضعفين في الأرض: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيه ا..)(النساء:97). ها هنا، حيث يقدم القرآن الكريم إيضاحًا، وتحفيزًا في الوقت نفسه، للحركة صوب الأحسن، عن طريق "الهجرة" التي كانت في العديد من النماذج التاريخية، سبيلاً للخلاص، والتفوق، والإنجاز.. إيضاحًا عن أن الاستسلام للضغوط، يعني اختيار حالة الضعف، والتخلف، على المستويات كافة.. وتحفيزًا للحركة من أجل صياغة عالم أكثر تقدمًا، وعطاءًا، وعدلاً: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذي يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليًّا واجعل لنا من لدنك نصيرًا )(النساء:75). والآيات التي تتحدث عن (الهجرة)، من أجل تجاوز مواقع الظلم، والقهر، والتخلف، والانتقال إلى مرحلة أفضل، تحرر المؤمنين من الضغوط، وتبارك المهاجرين، كثيرة، متنوعة، ويكفي أن نتذكر أنموذجًا آخر منها، ينطوي على دلالة واضحة، فيما نحن بصدده: (ومن يهاجرْ في سبيل الله يجدْ في الأرض مُراغمًا كثيرًا وسعةً ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يُدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورًا رحيمًا )(النساء:100).. ويبقى الفارق الحاسم، والمنعطف الخطير، بين الهجرة، التي يدعو إليها كتاب الله، وهجرات الجماعات البشرية الضاربة في الأرض، على غير هدى، أن أولاها تمارس حركتها، بهدي من الله، وتتوجه إليه وحده، في البدء والمصير.. ومن ثم تجيء النتائج (التاريخية)، بمستوى الجهد المبذول، في الحركة، والنية الإيمانية الصادقة، التي تدفعه وتشكله. ( 6 ) وتوينبي يتحدث، عن "التقليد"، ودوره في بناء الحضارات، فيشير إلى نمطين أساسين من التقليد، الذي تمارسه الأكثريات (البرولياتارية)، كما يسميها، أحدهما: تقدمي بتقليد الأكثرية للقلة، أو النخبة المبدعة، وثانيهما: رجعي، بتقليدها للآباء والأجداد. في الحالة الأولى، يمارس التقليد نقلاً، ونشرًا للقيم الإيجابية، في مناحي الحياة العقلية، والاجتماعية، والنفسية كافة، فيمضي بالفعل الحضاري، صوب المزيد من النمو، ويحصنه ضد عوامل الانكماش، والانحسار، والتيبس، والفناء.. وفي الحالة الثانية، يمارس التقليد خطيئة الشد الأعمى إلى الماضي، وتقليد الآباء والأجداد، تقليدًا (وثنيًّا)، بغض النظر، عن مدى سلامة مواقف الآباء والأجداد، الأمر الذي يعرقل حركة النمو الحضاري، ويشل فاعليتها، ويميل بالمجتمع إلى السكون، والتراجع، بسبب من تشنّجه على معطيات خاطئة، مضى زمنها، وانقفاله على كل دعوة جديدة، متحرّرة من الأسر، قديرة على أن تقوده، خطوات إلى الأمام. ولطالما حدثنا كتاب الله عن هذا التقليد (السيء). هذا الموقف الرجعي، الذي يقود الأكثريات، إلى الاختباء وراء شعارات الآباء والأجداد، ضد كل دعوة جديدة، يقودها نبي أو رسول: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا )(الأعراف:28)، (قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا )(يونس:78).. (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين )(الأنبياء:53)، (قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون )(الشعراء:74)، (قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا )(لقمان:21)، (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون )(الزخرف:22)، (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون )(البقرة:170)، (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون )(المائدة:104)، (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون )(الزحرف:23-24).. وغير هذه الشواهد عشرات أخرى! إن القرآن الكريم، وهو يدين هذه المواقف الرجعية الساكنة، التي كانت واحدة من أشد عوامل المجابهة، والعداء، ضد الرسالات السماوية، إنما يدعو في المقابل إلى اتخاذ موقف تقدمي، متحرر.. بمعنى: اختيار الحركة، صوب الأمام، والتحرر من سائر الضغوط، التي يمارسها الإلف، والعادة، من خلال التشبث، بتقاليد الآباء والأجداد، التي عفا عليها الزمن. ( 7 ) وما هي إلا شواهد وأمثلة محدودة للمقارنة.. وغير التفسير الحضاري لتوينبي، هناك مثالية هيغل، ومادية ماركس، وأنغلز، ودورية اشبنغلر.. إلى آخره. ويستطيع المرء، أن يجد في بعض كشوف هذه النظريات، مفردات إيجابية قد تلتقي مع المعطى القرآني، في هذا الجانب، أو ذاك، ولكن هذا لا يعني، سواء بالنسبة لتوينبي، أم الفلاسفة الآخرين، أن نظرياتهم تلتقي مع المنظور الإسلامي في المنطلقات الأساسية، والخطوط العريضة، والتوجهات الكبرى.. إنها هنا تتعارض ابتداءً.. وهو التعارض، الذي قد يمتد من الطول إلى الطول، حيث لا لقاء أساسًا، بين الإلهي، والوضعي، ولقد أشرنا على بعض هذه التعارضات، بقدر من التفصيل، في كتاب (التفسير الإسلامي للتاريخ). إنما نود التأكيد هنا، على أنه كلما حدث، وأن تم لقاء أو تشابه ما، بين مفردة من مفردات، تلك التفاسير، وبين المنظور الإسلامي، فإن ذلك يجيء تأكيدًا لمصداقية هذا المنظور، وقدرته على الكشف المبكر.. بما أنه صادر عن الله سبحانه، ذي العلم المطلق، والذي لا يخفى عليه شيء، في الأرض، ولا في السماء. إن الخبرة البشرية، في أنشطتها الوضعية، ليست شرًّا كلها، وهي ليست نسيجًا من الأخطاء، التي يتخللها صواب، كما قد يخيل للبعض.. إنها محاولة للكشف، قد تصل وقد لا تصل.. وهي عندما تصل، تمنح العقل البشري في العالم، إضاءة جديدة، للمسيرة التاريخية، والتشكل الحضاري. فإذا حدث، وأن جاء هذا الكشف مطابقًا للمعطيات القرآنية، وحاول امرؤ ما، أن يؤشّر عليه، فليس معنى ذلك، إحالة تلك المعطيات الإلهية، على كشوف الوضعيين واستجداء الرضا والقبول، من أصحابها.. أبدًا.. فإن هذا لا يخطر على البال، لأنه نقيض البداهات الإيمانية ابتداءًا، وإنما محاولة التحدث، باللغة التي تقنع حشودًا من أتباع المذاهب الوضعية، وأفواجًا من المعجبين، بهذه النظرية، أو تلك، في تفسير التاريخ.. وهو كذلك الانسجام، والتوافق، مع منظور الآية الكريمة التي تقول: (بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله )(يونس:39)، والآية الكريمة التي تقول: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد )(فصلت:53). وإلا فإنه لبدهي بالنسبة للمسلم في الأقل، سبق القرآن في الزمن، على هذه النظريات، ومصدره الإلهي، ذو العلم المطلق، ولن تكون كل الموافقات، التي تجيء فيما بعد، صادرة عن الجهد الوضعي، بأكثر من تأشيرات، تبين للناس يومًا بعد آخر، وأكثر فأكثر، مصداقية هذا الدين. ( 8 ) أما أخطاء هذه النظريات الوضعية، وتناقضاتها، ومطباتها، فإننا نجد قبالتها، وبالسهولة، والتدفق نفسه، شواهد القرآن، التي تدين، وترفض، وتستبعد، والتي تقدم، أو هي قدمت، منذ قرون متطاولة، البدائل التي تتميز بثباتها، وصدقها، وديمومتها، ولقد وقفنا طويلاً، عند نماذج عديدة، من هذا التعارض في كتاب (التفسير الإسلامي للتاريخ). وإنما نحب، أن نشير هنا، مجرد إشارة، قد تغني عن كل تفصيل، كيف أن نظريات التفسير الوضعي للتاريخ، كافة، وقد أقام بعضها دولاً، وكسب بعضها الآخر حشودًا من الاتباع والمعجبين، ما بين المفكر، والمتلقي، أخذت تتساقط، الواحدة تلو الأخرى، وينفض عنها السامر والجليس، ولن يكون آخرها انهيار وسقوط الماركسية، نظرية وتطبيقًا.. إنما هو قدر الله الذي يمضي أبدًا، لكي يبطل، ويمحو، كل ما لا ينسجم، ويتوافق، ويصدر عن علم الله: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون )(الأنفال:8). |
العقيدة والشريعة والمجتمع
( 1 ) فضلاً عن أن الإسلام ، مارس أدقّ هندسة وأحكمها، لتحقيق الوفاق بين الإنسان وذاته، وبينه، وبين المجتمع، والعالم، والكون، فإنه جعل كل موقف، يستند إلى أكثر من خط، أو ضمان، لكي يتحقق، ويتأكد، ويتمكن، من الاستمرار لصالح الإنسان. إنه - ابتداءً - يعتمد خطين أساسين: الذات، والموضوع، فيغذّي الخط الأول بالتوجيه، ويتعامل مع الخط الثاني بالتشريع.. يمنح الخط الأول عمقًا عقيديًّا، ويمنح الخط الثاني، شبكة من المعطيات التشريعية. ثم هو فضلاً عن هذا وذاك، يعيد صياغة البيئة العامة، والعلاقات الاجتماعية، بما يعين على أداء المهمة، ويمنح الممارسة المطلوبة، المزيد من الضمانات. لكأننا إزاء مثلث، أحكمت أضلاعه، تتعاضد فيه، وتتكامل أطراف المساحة كافة، ما بين الفردي، والجماعي، والتنظيمي، لكي تؤدي جميعًا مهمتها في تيسير الحياة، على هدي الإسلام ، وتمكينها من مجابهة المعضلات والتحديات، بأكبر قدر من التماسك والمرونة في الوقت نفسه. وعبر عصر الرسالة، شهدت عملية بناء الحياة الإسلامية ، مرحلتين أساسيتين، تمثلت أولاهما، بالعصر المكي، وتمثلت أخراهما بالعصر المدني. ففي العصر الأول الذي استغرق زهاء الثلاثة عشر عامًا، كان الجهد، ينصب على بناء الإنسان، المسلم بالعقيدة، وتوجيهه وفق مطالبها ومفرداتها.. بينما مضى الجهد في العصر المدني، الذي استغرق زهاء السنوات العشر، إلى بناء المجتمع والدولة، بالتشريع، مع استمرار الخط الأول، لكي ما يلبث البنيان، أن ينهض قائمًا، واضحًا، متميزًا، متماسكًا، قديرًا على الاستمرار، بتجذّره في العقيدة، وتلقيه تشريعات السماء، وشروح وإضافات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم . ومع البنيان العقيدي، والتشريعي، كانت تجري عملية بناء اجتماعي شامل، أو بعبارة أدق: عملية تشكيل جديد، للبيئة العامة، التي تحميها الدولة، ويتحرك فيها الإنسان المسلم. ولقد انعكس هذا التركيب الثلاثي، على جل الممارسات الحيوية في الحياة الإسلامية، بحيث إن أية ممارسة، كانت تجد ضماناتها، ومقوماتها، في السياقات الثلاثة، الأمر الذي يجعلها قديرة، على التحقق بأكبر قدر من "الإسلامية"، و "التوازن"، و "العطاء". إن البعد التوجيهي، يجذّر الممارسة في المنظور العقيدي، ويربطها بالله سبحانه، الأمر الذي يمنحها قدرة أشدّ، على الديمومة والفاعلية، في إطار الإسلامية. ذلك أن أية مخالفة عنها، أي ميل، أو تزوير في تفاصيلها، وجزئياتها، سيؤول إلى غضب الله سبحانه، وإلى عقابه، الذي يخشاه المسلم الجاد.. وفي المقابل، فإن التزام مطالبها، والتحقق بها، والإحسان في تنفيذها، سيؤول إلى رضى الله، الذي يطمح إليه المؤمن الجاد، كهدف عزيز، لكل ما يقوم به، وينفّذه في واقع الحياة.. والبعد التشريعي ينظم الممارسة، ويضع ضوابطها، ويرسم مسالكها، بالعلم الإلهي، الذي لا يخفى عليه شيء، في الأرض ولا في السماء، والذي تجيء معطياته التنظيمية، وهي تنطوي على كل إيجابيات الجهد التشريعي، توازنًا، وتكاملاً، ومرونة، ودقة، وإحكامًا، وانسجامًا مع مطالب الإنسان، وتوافقًا مع السنن والنواميس. والبعد الاجتماعي، يتكفل بتهيئة البيئة، أو المناخ المناسب، للممارسة بأكبر قدر من الإسلامية ، عن طريق رسم وتصميم العلاقات الموزونة المرنة، بين كافة أطراف الحياة الاجتماعية، وسائر مفرداتها ومقوماتها. بعد ذلك سيجد المسلم نفسه، يتحرك لأداء هذه الممارسة، أو تلك، والتعامل مع مطالبها، وقد تهيأت له كافة الضمانات، والدفوع والروادع والقدرات والمحفزات، ما بين توجيه بقوة العقيدة، المتجذرة في الأعماق، وتنظيم، بقوة التشريع القادم من السماء، وتيسير للبيئة، أو المناخ العام، الذي يجعل الممارسة أكثر قدرة على التحقق في واقع الحياة اليومية، دون أن تفقد شيئًا من مطالبها الإيمانية، أو نبضها الإسلامي. ( 2 ) إذا ضربنا مثلاً بالمطالب الحيوية الأساسية للإنسان: الجنس، والطعام، والملبس، والمسكن.. فإننا سنجد بوضوح، كيف تتعاضد هذه الأبعاد الثلاثة، وتتناسق، وتعمل مجتمعة، من أجل التحقق بأكبر قدر من المقاربة، للمطالب الإسلامية. في التجربة الجنسية، يشكل الإسلام منظوره المتميز، منطلقًا من رؤيته الإيمانية الشاملة، التي تنفسح آفاقها، لكي تتجاوز الضرورة، بعد تطمينها، إلى ما وراءها، حيث يصير الإنسان ، قديرًا بقوة الإيمان، على التعفف والاستعلاء، على المقاومة، ورفض الالتصاق بالأرض، وعلى تصعيد التجربة إلى مستويات عليا.. وهو يربط هذه المقاومة الصعبة.. هذا التجاوز لشدّ الضرورات.. هذا التعفف الذي يتحصن به المؤمن، عندما تقفل أمام حاجته الأبواب المشروعة.. هذه القدرة العجيبة على التصعيد والتحويل.. يربط هذا كله بتقوى الله، ويمنحه بعدًا عقيديًّا، يتجذر هناك في الثواب والعقاب. إنها قوة التوجيه، التي يملكها هذا الدين، والتي تضع أتباعه في حالة تطوّع، غير قسري، لمقاومة إغراءات السقوط، أو الاندفاع في المزالق.. أو - حتى - وضع الخطوات الأولى، على أعتاب الاستجابة الخاطئة. والذي يمنح هذا التوجيه قدرته على الفاعلية، ذلك الارتباط الوثيق، الذي ألمحنا إليه بين الممارسة والعقيدة.. ذلك التجذر بالتقوى، والإحسان، وهما محطتان معروفتان جيدًا، لكل مؤمن جاد، يتوخى رضا الله، ويتقي غضبه، ما وسعه الجهد، وما أعانته القدرة، في طبقاتها جميعًا. ويعين التوجيه - كذلك - ويحضه، ويمنحه القدرة على الفعل، والتجاوز والتصعيد، خطان آخران من الضمان، هما التشريع، والمناخ العام. ففي أولهما ترتب الأولويات، وتحدد المفردات، وترسم خطوات التنفيذ، ويمنح التعامل مع التجربة، أكبر قدر من التنظيم، والضبط، والمرونة.. فلا إفراط، ولا تفريط، وإنما هو الحد الوسط، الذي يلبي مطالب الحاجة، دونما أي قدر من الكبت، والقسر، ولكنه لا يدعها تنفلت، وتتسيب، بأية صيغة من الصيغ، التي تذهب بالطاقة، الجنسية هدرًا، وتزيد التفكك العام، الذي يلحق بالمجتمع صنوفًا من السوء، فكأننا والحالة هذه، إزاء حماية للطاقة الفردية، والاجتماعية، على السواء، وإزاء تصريف للطاقة الجنسية، في قنواتها الطبيعية المحددة، دونما زيادة أو نقصان. وكلنا يعرف الكبت المدمر، الذي مارسته النصرانية المحرفة، وعدد من الأديان الأخرى، تجاه هذه المسألة، ويعرف كذلك، "الميل العظيم"، الذي نفّذته الوضعيات الجانحة، وأرباب الأهواء والشهوات.. وفي كلتا الحالتين كان الإنسان يضيع، ويضيع أيضًا المجتمع على مداه، بما يلحق بالطرفين من دمار نفسي، وجسدي، وفكري، وبالتالي من شلل، أو عجز في الفاعلية الحضارية، يكون مصيرها الضمور، والتدهور، والسقوط. إن التشريع الإسلامي للمسألة الجنسية، يقف عند نقطة التوازن، لا ينحرف ولا يتفلّت ولا يميل.. لا يكبت ولا يهدر.. وهو يلاحق كل حالة، ويعالج كل مفردة، دون أن يغفل، أن ينسى، واحدة منها، مهما ضؤلت. إن تشريعات الزواج، والطلاق، والتعدد، وتنظيم الأسرة.. إلى آخره.. تلك التي لقيت من قبل الخصوم، من أصحاب المصالح والأهواء، نقدًا وهجومًا، استمرا فترات متطاولة من الزمن، ونعق بها الناعقون، من عبيد الحضارة الغربية، في الشرق الإسلامي، هذه التشريعات، ما لبثت بمرور الوقت، وضغوط التجربة البشرية، وتراكم الخبرة، أن أثبتت مصداقيتها، وتفردها في مجابهة المعضلات، قبالة كل صنوف الفشل والإحباط، التي آلت إليها التشريعات الوضعية، والدينية المحرفة. واليوم نسمع من الغربيين أنفسهم، من مفكريهم، ومشرعيهم، والمعنيين بقضاياهم الاجتماعية، أن التشريع الإسلامي، لقضايا الجنس، والمرأة، والأسرة، والطفولة.. هو وحده التشريع القدير على الديمومة، لأنه -وحده- الذي يناسب حجم التجربة، ويستجيب - بإعجاز باهر موزون- لمطالب الإنسان! وثمة خط الضمان الثالث، الذي يحمي الطاقة الجنسية من الكبت والدمار، أو التبدد، والهدر، والضياع، ويعيق الخطين السابقين، على أداء المهمة، بأكبر قدر من التوازن، والنظافة، والإشباع. إنه "البيئة" أو "المناخ العام" الذي يشكله الإسلام، عبر نسيج الحياة الاجتماعية، حيث تجتث كل صنوف الإثارة والإغراء، وتقفل كل المسالك والأبواب، إلى ظلمات الخطيئة، وسراديب الانحراف، وحيث تصير الوقاية، قاعدة الحياة اليومية، وحيث تسود العلاقات الاجتماعية، بين سائر الأطراف، مفردات العفّة، والتطهر، والنظافة، والاعتدال، وحيث يتشكل، ما يمكن تسميته بالذوق العام، الذي يمارس نوعًا من الرقابة العفوية، والاحتقار الجماعي، لكل انحراف، مهما دق وخفي.. ودونما همز ولمز، و دونما فضح، وتشهير، أو تجاوز لأمن الآخرين وحرياتهم.. ويكافئ، في مقابل هذا وذاك، وبعفوية أيضًا، كل المتطهرين، الذين يتجاوزون الدنس، ويعينون من هم أقل منهم قدرة على الاجتياز.. إنه المناخ النظيف، الذي لا يؤزّم، ولا يدفع إلى حافات الانهيار والسقوط، والذي يعين المسلم، على اجتياز رحلة الحياة اليومية، بأقل قدر ممكن من الإثارة والاحتكاك، والاحتراق، وبأكبر قدر ممكن، من الحث على التعفف، والتجاوز والتصعيد. إن العلاقات العامة، والأنشطة الوظيفية، والممارسات التربوية والتعليمية، والمعطيات الإعلامية، ومفردات الحياة البيتية، تساهم جميعًا في تشكيل هذا المناخ العام، وحمايته، وتصعيده، من أجل تمكين الإنسان المسلم، من التحقق بأقصى درجات الطهر، والاعتدال. وإننا بمجرد أن نتذكر ما الذي يجري اليوم في شوارعنا، ومؤسساتنا، ودوائرنا، وممارساتنا التعليمية، وأنشطتنا الإعلامية، بل في بيوتنا، وأزقتنا، وأحيائنا، بسبب من ثأثرنا، وإعجابنا، وتبعيتنا للحياة الغربية المنحلة، من إثارة متجددة، لحوافز الجنس، تتميز بالحدة والامتداد ، إلى كل خلايا الحياة الاجتماعية، وما يترتب على هذا ، من تلف في أعصاب المسلمين، الذين يتأبّون على الانجراف، ومن دمار، وتفكك، لأولئك الذين تكتسحهم الموجة.. والخسارة البالغة للحياة والمستقبل الإسلامي، في كلتا الحالتين.. ونقارن هذا كله بالمناخ العام، للمجتمع الإسلامي الملتزم.. المناخ المتعفف، المتطهر، النظيف، أدركنا، بما تكاد الأيدي، أن تلمسه، كيف تصير ضمانات هذا المناخ في الحياة الإسلامية، فرصة فريدة، لكي يجتاز الإنسان المسلم، رحلته اليومية متوازنًا، مطمئنًا، سعيدًا.. قديرًا على الفعل والإنجاز، غير مشتت ولا معقد، ولا متمزق ولا مكبوت. ومرة أخرى، فإن الإسلام بتعامله الثلاثي هذا، مع المسألة الجنسية، أو أي من المطالب الحيوية: توجيهًا، وتشريعًا، وعلاقات عامة، إنما يضع المسألة في مكانها الصحيح تمامًا، ويمكن الإنسان من التعامل معها، بحجمها تمامًا، دونما إفراط أو تفريط. ( 3 ) ولنا الآن أن نؤشر على المسألة الحيوية الأخرى: الطعام، والمسكن، والملبس بالإيجاز، الذي تتطلبه صفحات كهذه. إن ضمانات التوجيه الأساسية، تنبثق ها هنا أيضًا من المنظور الرؤيوي للإسلام، وتتجذّر في العقيدة.. في أوامر قادمة من عند الله.. في الحلال والحرام، والمباح، والمندوب، والمكروه.. لقد أريد للحياة البشرية ها هنا أيضًا، أن تتجاوز شفافية الملائكة الأطهار، وانكباب السوائم على الطعام، والتصاقها بعفن الأرض ولزوجته.. إنه الحدّ الوسط، الذي يليق بكرامة الإنسان، ويستجيب في الوقت نفسه، لمطلبه الأساس هذا، في الإشباع والسكن، وأن التوجيه الإسلامي ، بصيغته المتوازنة هذه ليتأكد في حشود، يصعب حصرها من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، وإننا بمجرد أن نتابع مفردات، تتعلق بالمسألة، كالحلال، والحرام، والزينة، والإسراف، والمتاع، والطعام، والشراب، والطيّبات، والنعم.. إلى آخره، فإننا سنجد، كيف أن كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ، ما انفكا يذكّران المسلم، لحظة بعد أخرى، بهذا التوجيه الأساس، وهو يتعامل مع المسكن، والملبس، والطعام. لا إفراط ولا تفريط، ها هنا أيضًا.. لا تزهّد، يجافي الضرورات الحيوية، ولا إسراف، يبلغ حد البذر، والهدر، والكبر، والخيلاء.. لا كبت، أو قسر، ولا تسيب، أو انفلات.. إن هذا التوجيه، يحمي الحياة الإسلامية، من أي ميل باتجاه اثنتين، طالما تناوشتا الجماعات الأخرى: الانسحاب من الحياة، أو الإقبال النهم، على متاعها، كما تفعل البهائم والأنعام. وبقدر ما يمنع توجيه كهذا، من الانحدار، باتجاه المتعة الصرفة، أو الإشباع المسرف، الخالي من أي ضابط، أو منظم، والمجافي لكل مطالب الاعتدال، فإنه يمنح المسلم في الوقت نفسه، ضمانات مؤكدة، باتجاه الإشباع الذي لا يصير في المنظور الإسلامي إثمًا، أو خطيئة أو حرامًا، وإنما حقًا مباحًا مشروعًا، بل هو - فوق هذا - ممارسة إيمانية تمنح صاحبها - إذا أحسن التعامل معها - أجرًا مضافًا. أكثر من هذا، أننا نجد، كيف أن الحلال، هو القاعدة في هذا الدين، وكيف أن الحرام هو الاستثناء، ونجد كذلك كيف شنّ القرآن الكريم، حملة في غاية الشدّة، والسخرية، من الكهنة،والوضّاعين، ومحرّفي الأديان، اليهود والنصارى وغيرهم، بسبب من تحريمهم ما أحل الله، وكيف، أن هذا الدين، جاء لكي يحرر الإنسان من الكوابت، ويمنحه الإشباع المطلوب، ويضع عنه إصره، والأغلال التي كانت عليه: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم )(الأعراف:157)، (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نُفصل الآيات لقومٍ يعلمون )(الأعراف:32) (كل الطعام كان حلاًّ لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين )(آل عمران:93)، (قل لا أجد في ما أُوحى إلي مُحرَمًا على طاعمٍ يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجسٌ أو فِسقًا أُهِلَّ لغير الله به فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فإن ربك غفور رحيم )(الأنعام:145). بل إن التوجيه الإسلامي، يمضي إلى أبعد من هذا، فيعتبر الإشباع، مطلبًا يكاد يبلغ حد القدسية، ويحض المسلم على أن يرفع سيفه - إذا اقتضى الأمر - فيقاتل من أجله. وكلنا يذكر مقولات الإمام علي رضي الله عنه بهذا المعنى، ويذكر مقولتي عمر رضي الله عنه ، اللتين يحذر فيهما من الإفقار والتجويع: (لا تجيعوهم فتكفروهم).. و(كاد الفقر أن يكون كفرًا). ومع التوجيه، وبموازاته، يجيء خط الضمان الثاني: التشريع، لكي يرسم ويخطط، ويقنن، ويوزع المفردات، على هذه المساحة، أو تلك، ويمنح السلطة أو الدولة، ومؤسساتهما، صلاحية تنفيذ هذا كله، في نسيج الحياة الاجتماعية، من أجل التحقق، بأكبر قدر من الإشباع. إن تعاليم مفردات تشريعية، كالزكاة، والأعطيات، والصدقات.. ورعاية مال اليتامى، والأرامل، والقاصرين.. وحماية المال العام، من كل يد تمتد إليه بسوء.. والحجر على أموال السفهاء.. وتنظيم حقوق سائر الأطراف، المشاركة في بنيان الأسرة.. وإن مبادئ فقهية، كالمصالح المرسلة، وسد الذرائع.. فضلاً عن سوابق الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم)، وغيرهم ممن اتبعهم بإحسان، وبخاصة (عمر بن عبد العزيز)، و (نور الدين محمود).. وقبل هذا وذاك: ذلك الحشد من التعاليم القيمة، التي انطوت عليها سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في سياق المسألة الاجتماعية، لتعبر - مجتمعة - عن غنى هذا الخط التشريعي، في الإسلام، وخصبه، وقدرته على العطاء، من أجل تحقيق الضمان المطلوب، لكل العراة، والجوعى، والذين لا يجدون، ما يأوون إليه . ولقد تميز هذا الخط التشريعي، بقدر كبير من المرونة، من أجل تحقيق أكبر نسبة من مفردات العدل الاجتماعي، ومن أجل أن يتلاءم في روحه وجوهره، مع مطالب هذا العدل. والوقائع كثيرة، والأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى، ويكفي ، أن نحيل القارئ إلى بعض التجارب التي شهدها التاريخ الإسلامي، بدءًا من عصر الرسالة، ومرورًا بالقرون التالية، متمثلة في تجارب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمر بن عبد العزيز، ونور الدين محمود، بن عماد الدين زنكي، لكي يلمس مرونة التشريع الإسلامي، في مسألة المطالب الأساسية، وجوهره الأصيل، الذي يستهدف إشباع الحاجات الأساسية للإنسان. ويكفي أن نتذكر هنا - كذلك، ومن بين حشود الشواهد - تلك الرواية التي تحكي، كيف أن غلمانًا لابن حاطب بن أبي بلتعة، سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر (رضي الله عنه ) فأقروا، فأمر كثير بن الصلت، بقطع أيديهم، فلما ولى ردّه. ثم قال: أما والله، لو لا أني أعلم أنكم تستعملونهم، وتجيعونهم، حتى أن أحدهم، لو أكل ما حرم الله عليه لحل له، لقطعت أيديهم. ثم وجه القول، لابن حاطب بن أبي بلتعة، قائلاً: وأيمن الله، إذ لم أفعل ذلك، لأغر منك غرامة توجعك! ثم قال: يا مزني، بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربعمائة. قال عمر لابن حاطب: اذهب فأعطه ثمانمائة! وثمة -أخيرًا- خط الضمان الثالث، متمثلاً بالمناخ العام، الذي يشكله الإسلام، فيمنح الحياة الإسلامية، وسطيتها، واعتدالها، وإشباعها في الوقت نفسه. فها هنا أيضًا، نجد أنفسنا، قبالة حياة اجتماعية، يسودها إحساس شامل باحتقار التبذير والإسراف. بالاستعلاء على البطر، والكبر، والخيلاء، وباحترام التعفف والاعتدال، في المأكل، والمسكن، والملبس.. ها هنا أيضًا، نجد عزلاً اجتماعيًا لكل قادر، على أن يعطي، فيمتنع، أنانية وشحًّا.. وقبولاً اجتماعيًا، لكل من يلاحق العري، والجوع، والتسكع، لكي يعين على الستر، والإشباع، والإيواء. ها هنا أيضًا نجد حالة من التكافل الاجتماعي، يلتقي عليها المؤمنون كافة، لكي لا يبيت أحدهم شبعانًا، وجاره جائع، آمنًا وجاره خائف، متدثرًا، وجاره يتآكله العري والبرد. لقد ضربت المجتمعات الإسلامية، على ما تضمنته من أخطاء وتجاوزات على مطالب الإسلام، أكثر الأمثلة في التاريخ البشري، خصوبة وغنى، وعطاءً.. على ما يمكن لمبدأ التكافل الاجتماعي هذا، أن يفعله في مواجهة حالات العري والتشرد، والجوع. ولقد ساعدت العبادات، كالزكاة، والصلاة، والصيام، على تعزيز وتعميق، ملامح "المناخ العام" للمجتمع الإسلامي. ويكفي أن يرجع المرء إلى مصادرنا التاريخية، وبالذات إلى نمطين معروفين منها، وهما: كتب التراجم، وكتب الجغرافيا والرحلات، لكي يرى بأم عينيه حشود الوقائع، والممارسات، التي شهدتها الأرض الإسلامية، وتعامل معها المجتمع المسلم، عبر الزمن والمكان، فما يمسك نفسه عن الدهشة والإعجاب، بهذا المناخ العام، الذي تشكله الممارسات الاجتماعية، وبتلك النماذج البشرية المتألقة، التي كانت تطارد سرًّا وعلانية، أشباح العري، والتشرد، والجوع، وتكافح من أجل إلباس العراة، وإشباع الجوعى، وإيواء المشردين. ومع هذا وذاك، فإن بمقدور المرء، أن يتابع أنشطة "الوقف"، تلك المؤسسة الطوعية، التي انبثقت عن مطالب هذا الدين، وتشكلت وسط مبادئ وتقاليد، هذا المناخ العام، والتي مارست دورًا لم تشهده أية بيئة أخرى، خارج عالم الإسلام ، في قدرتها على الامتداد، والتغطية، والعطاء. ومرة أخرى، فلقد ساعدت العبادات الإسلامية، كالزكاة، والصلاة، والصيام، على تعزيز، وتعميق، ملامح المناخ العام هذا، للمجتمع الإسلامي، فإن الزكاة تضمن، بانبثاقها عن قاعدتها التعبدية، حق الفقراء والمعدمين، وهي تمارس هذا الضمان الاجتماعي، حتى في حالات غياب السلطة، وتوقف التشريع عن العمل، فتنفذ تغطية فعالة لحالات الفقر، والمسغبة، والتشرد، والجوع.. وكلنا يعرف ما كان يفعله أبناء هذا الدين، وهم يجوسون الأزقة والأحياء، ويجتازون الدروب في الليالي المظلمة الباردة، لكي يوصلوا إلى بيوت المعدمين، ما تحتاجه من مال، وملبس، وطعام.. وكلنا يعرف - كذلك - أن نسبة الاثنين والنصف بالمائة، هذه، لو أحسن جمعها، ونفّذ كما يريده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن بمقدوره أن يفعل الأعاجيب، في الإعانة على التحقق بالكفاية، وفي ملاحقة البؤر المنخفضة في سطح المجتمع الإسلامي، من أجل رفعها إلى المستوى المطلوب، وتزداد قدرة هذه (الفريضة) المالية أكثر فأكثر بمرور الزمن، وبتزايد مصادر المال العام، وارتفاع الدخول، حيث إن بمقدور مدينة واحدة، وفق إحصائية قام بها أحد الدارسين، أن تجمع استنادًا إلى النسبة المفروضة، عشرين مليونًا من الدنانير، كواحد من المعدلات الوسطية، للعديد من مدن عالم الإسلام. ولنا أن نتصور ما يمكن أن يفعله مبلغ كبير كهذا، في تحقيق الكفاية والعدل. والصلاة تعمل فيما تعمل على تمتين الأواصر الاجتماعية، وتعميق التعارف بين أبناء الحي الواحد، حيث يصير بمقدور الواجدين، أن يلبّوا - بشكل أو بآخر - حاجات المعدمين. والصيام، يكوي بجمر الجوع الطوعي، أحاسيس الذين شبعوا طويلاً، وآن لهم، عبر هذه التجربة الملزمة، أن يذوقوا مسّ الحرمان، فإذا أرادوا - وهم يلبّون أمر الله، فيصومون نزولاً عنده - أن يكسبوا رضاه حقًّا، فإن لهم أن يتعلموا من التجربة، ويمضوا بها إلى نهاية الطريق، هنالك حيث يعرفون، أن الجزاء لن يستكمل أسبابه، وأن الجهد التعبدي، لن يتحقق بأهدافه كاملة، ما لم يتعلم منه الإنسان المسلم، وما لم يسع - في الوقت نفسه - إلى تحويل التعاليم، إلى وقائع وممارسات. |
المستقبل لهذا الدين ( 1 ) يومًا بعد يوم، ومن خلال حشود الممارسات، والخبرات اليومية المعاشة، على مستوى النفس والمجتمع، يزداد المرء إيمانًا، بأحقية هذا الدين في حكم الحياة. بدءًا من معاملة العقل، للنفس، والروح للجسد، داخل الذات المؤمنة، ومعاملة الزوج للزوجة، والأب للأطفال، وتلك وهؤلاء، للزوج والأب، داخل البيت المسلم، و معاملة الجار للجار، والأخوة للأخوة، داخل الحي المسلم، ومعاملة البائع للمشتري، والمشتري للبائع، داخل السوق المسلم، ومعاملة صاحب العمل للعامل، داخل المصنع المسلم، ومعاملة الموظف للمراجع، داخل المؤسسة الإسلامية، ومعاملة المدرس ، والعالم، والمفكر، للطلبة والمتلقين، داخل الحلقة الثقافية الإسلامية ، ومعاملة القيادة للجماهير، داخل الدولة المسلمة، ومعاملة المجتمع المسلم للمجتمعات الأخرى في نطاق العالم. بدءًا من معاملة زوجتي،وابني، وقريبي، وجاري، وانتهاءً بآخر نقطة، على حدود العالم، حيث تنهار الشيوعية، واحدة، من أشد المذاهب عداءً للمنظور الديني، للكون والحياة والإنسان.. مرورًا بكل الممارسات الواقعية.. كل المفردات اليومية.. كل التفاصيل، التي تتشكل في البيت، والشارع، والحي، والسوق، والمصنع، والمؤسسة، والمدرسة، والدولة، والتي تؤكد، بما لا يقبل لجاجة أو جدلاً، عجز القدرة البشرية، الوضعية، المرتجاة، عن بلوغ صيغتها المثلى، المنسجمة تمامًا مع الإنسان، ا لمتطابقة مع وضعه البشري.. والتي تؤكد في المقابل، تفرّد هذا الدين، القادم من الله سبحانه، في تصميمها، وهندستها، بإعجاز باهر، مع مطالب الإنسان. يومًا بعد يوم، ومن خلال ضغط التجربة ومطالبها، يزداد المرء اقتناعًا بتفوق هذا الدين، وقدرته العجيبة، على موازنة كل الضغوط، والاستجابة لكل المطالب، بما يجعل الإنسان، في ممارساته كافة، يقف في حالة التوازن، والانسجام، والتوحد، والقدرة على العطاء، والإبداع. يومًا بعد يوم، وعبر تساقط كل المذاهب القاصرة، والدعاوى الباطلة، والمبادئ الجائرة، والأيديولوجيات الكافرة، والطوباويات الحالمة، السابحة في الفضاء، والأديان المحرّفة، والخطط والمشاريع الفاشلة، يتبين أكثر فأكثر، أنه ما من مذهب، ولا دعوة، ولا مبدأ، ولا أيديولوجية، ولا خطة، أو مشروع، أو مثال، كهذا الدين، قدرة على صياغة حياة، أكثر سعادة، ورفاهية، وبشاشة، وتفاؤلاً، وأملاً.. يومًا بعد يوم، ومن خلال ما يجري في الميدان - كما يقولون - أو على السطح المنظور، للسعي البشري.. يتبدّى أكثر فأكثر، أن الكل باطل الأباطيل، وقبض الريح، وأنه ليس ثمة سوى كلمة الله الأخيرة، متمثلة في هذا الدين، الذي ارتضاه سبحانه لبني آدم، وبعث به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم هدية كبرى للإنسان: دينًا متكاملاً، وشريعة سمحة عادلة، ونظامًا قديرًا على التشكل، في قلب الفعل البشري: في الذات.. في البيت.. في الحي.. في الشارع.. في المصنع.. في السوق.. في المؤسسة.. في الدولة.. وفي مدى العالم، من أقصاه إلى أقصاه.. ( 2 ) إن الحكمة ، تبدو في كل مفردة إسلامية.. في كل أمر، أو نهي.. في صنوف الحلال والحرام، والمندوب، والمباح، والمكروه.. في نسيج التشريعات والنظم.. في نبض العبادات.. وفي جوهر الآداب، والمعاملات، ومفردات السلوك، التي يريدها هذا الدين.. إنه ما من صغيرة، أو كبيرة، في الممارسة الإسلامية، إلا وهي تمنح الإنسان المسلم، فردًا، وجماعة، أكثر من مردود.. أكثر من كسب أو منفعة..إن على مستوى العقل، أو الروح، أو الوجدان، أو الحس، أو الجسد، أو هذه جميعًا.. وإن على مستوى العلاقات الاجتماعية، بدءًا من خلية التشكل الأولى، للمجتمع الإسلامي : البيت، وانتهاءً بالعالم، مرورًا بالسوق، والمزرعة، والمصنع، والشارع والحي، والمدرسة، والمؤسسة، والدولة. إن هذا ليتأكد، أكثر فأكثر، بمرور الزمن، وتزايد الخبرة البشرية، وتعقيد الحياة الحضارية، وتشابك مؤسساتها ومعطياتها، وتأزم وضع الإنسان في العالم.. وهو يتأكد بصيغتي الإيجاب، والسلب على السواء. فإن الموقف، أو الحل، أو التصميم الإسلامي، يثبت أحقيته، وتميزه، وتفوقه، يومًا بعد يوم، من خلال التجربة والممارسة على سطح الأرض، وفي الميدان.. وبالمقابل تتساقط المواقف، والحلول، والتصاميم الوضعية، بسبب من عجزها وقصورها، وما تتضمنه من تناقضات، سواء كانت هذه المواقف، والتصاميم، في هيئة خبرات تجريبية واقعية، أو وفق أنساق فلسفية وأيديولوجية.. هذا التساقط الذي أتى، ولا يزال، على كل المحاولات الوضعية، بدءًا من أصغر ممارسة، وأدق جزئية، وانتهاءً بتهاوي تصاميم أيديولوجية ضخمة، كالرأسمالية، والشوفينية، والوجودية، وأخيرًا الشيوعية، على الامتداد المذهل لبعضها، في الزمن والمكان، وانتشارها الواسع بين الجماهير. وعلى العكس مما كان قد خيّل لبعضهم - غفلة أو قصدًا - فإن مرور الزمن يجيء لصالح هذا الدين.. لإعلان مصداقيته، في سائر شؤون الحياة، وتأكيد أحقيته في حكمها، والإشراف على صيرورتها الدائمة.. إن المستقبل لهذا الدين، رغم، أو مع، أو بسبب، من كل المتغيرات، والنسبيات، التي يشهدها العالم، أو يتحرك إليها في الأفق القريب، أو البعيد. ( 3 ) لننتقل من العام إلى الخاص، فنضرب عددًا من الأمثلة، كشواهد محدودة فحسب، من بين مئات الأمثلة، وألوفها، مما لا يتسع له المجال. إن المسلم - مثلاً - وهو يؤدي فريضة الصلاة، خمس مرات في اليوم، يحبذ أن يؤديها جماعة في المسجد، أو الجامع، ويغرى بمضاعفة الأجر، سبعًا وعشرين مرة، إن هو فعل ذلك.. إن لهذا مردودًا نفسيًا، وصحيًّا، واجتماعيًّا، لا يعرفه إلا من مارسه فعلاً. فعندما ينكب الإنسان على العمل الفكري، أو الجسدي، الساعات الطوال، يصل في كثير من الأحيان، حافة التوتر والإعياء، وتجيء الصلاة فرصة طيبة للتوقف، عن الانحدار، فيما وراء الحافة، واستعادة القدرات النفسية، والفكرية، والجسدية، من خلال هذه العبادة الفذّة، التي تشارك فيها الكينونة البشرية، بكافة مكوناتها، الروحية، والفكرية، والجسدية، وسرعان ما يجد الإنسان نفسه، وقد تحقق بقدر من الارتخاء، وبعد، بدرجة أو أخرى، عن نقطة التوتر والإعياء، ويتذكر المرء ها هنا، نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يخاطب بلالاً، عند كل صلاة: "أرحنا بها يا بلال"، ويتذكر كذلك، ما أراد أن يقوله الباحث الأمريكي، (ديل كانيجي) في كتابه المعروف، الذي حطّم أرقامًا قياسية في مبيعاته في الخمسينيات: (دع القلق وابدأ الحياة)، وكيف أن إحدى مرتكزاته الأساسية، لعلاج التوتر، هي أن يمنح الإنسان المجهد نفسه، بين حين وحين، دقائق من الاسترخاء، يقدر بعدها على استعادة توازنه، والمضي في الجهد المبذول، وإلا فإن الجملة العصبية، والقلب، قد يتعرضان بنتيجة الضغط المتواصل، لأذى يصعب تداركه.. ويتذكر، فضلاً عن هذا وذاك، وعلى مستوى الخبرة الشخصية، كم أن الصلاة بحركاتها الجسدية المرسومة بعناية، تعطي الجسد، والفقرات بخاصة، رياضتها الملائمة، بين فترة وأخرى، وتمنحها بالتالي المرونة المطلوبة، كما أنها تتجاوز الآلام القاسية، التي يعرفها جيدًا، أولئك الذين لا يمارسون أية رياضة، لتكييف الفقرات. فإذا ما أضفنا إلى هذا كله، تلك المسافة التي يقطعها المصلي، بين داره والمسجد، عدّة مرات في اليوم، وقد لا تقل عن مئات الأمتار، وما تتمخض عنه حركة الذهاب والإياب، من رياضة جسدية، ونفسية، تجيء في وقتها المناسب، تمامًا بين فترات الجهد والعمل، وتذكرنا - على وجه الخصوص - صلاة الفجر، وكيف تمنح الإنسان المؤمن، فرصة يومية، مترعة بالنداوة، والشفافية، والعذوبة، وهو يجتاز الطريق من داره إلى المسجد، مع لحظات الفجر الواعدة الأولى.. وكيف أن هذه الصلاة، في وقتها المرسوم، تمنح الإنسان مرتكزًا روحيًا وسلوكيًا، يعطي بفاعلية ملحوظة، سياق اليوم كله.. أدركنا كم تملك الصلاة، ولا سيما إذا ما نفذت في المسجد، من مردود نفسي، وجسدي، على المصلي.. ولن يتسع المجال هنا للحديث عن البعد الاجتماعي، المتحقق عن لقاءات المسجد الدورية، وهذا كله، في مستوييه النفسي والاجتماعي، لا يعد شيئًا، إذا ما قورن بالمردود الروحي للصلاة، التي هي عماد الدين، وجوهر العبادات وتاجها، والتي تمثل قمة التصعيد التعبدي لله سبحانه، وأعلى صيغ التواصل، بين الإنسان، وخالقه جل في علاه. وهذا هو الهدف الأساس للصلاة الإسلامية، ولعله هدفها الأوحد، بكل ما يتضمنه من مغزى، لكن هذا لا يمنع ، من أن تترتب على هذه الممارسة التعبدية منافع شتى، إن على مستوى العقل، أو الجسد، أو الوجدان، فليس ثمة تعارض في الرؤية الإسلامية، بين أي من مكونات الإنسان.. والممارسة التي تستهدف أو تتعامل مع جانب منها، لا ترتطم ابتداءً، مع سائر المكونات الأخرى، بل، والأكثر من ذلك، أنها تمنحها فرصًا مناسبة، بهذا القدر أو ذاك، لكي يتحقق كل منها بالمزيد من حالات الحيوية، والتوازن، الأمر الذي يؤول في نهاية المطاف، إلى تعزيز إنسانية الإنسان، وتغذية هذه الإنسانية، ذات المواصفات الخاصة، بما يلائم جوانبها كافة. إن هذا التوازي، بين المطلب الروحي للصلاة، كهدف أساس، وبين المطالب الأخرى، التي تجيء عرضًا، إنما يمثل في سياقه العام، التوجّه الأساس للإسلام، في نسيجه كافة، بل إنه ليمثل جوهر هذا الدين، بما أنه العقيدة، التي جاءت لكي تعيد الوفاق، بين مكونات الإنسان، التي بعثرتها المذاهب، والأديان المحرفة، ولكي تمارس المهمة نفسها، بين الإنسان وبين العالم، والطبيعة، والكون. في المنظور الإسلامي، تتوافق الطاقات الكونية والإنسانية، وتنسجم، وتتوجه في حركة عطاء دائمة، نحو الله الواحد الخلاق، متعبدة إياه وحده، مسبحة بحمده وحده.. وهذا التوجه المتناغم، الذي يقف قبالة كل المحاولات الوضعية، والدينية، التي أقامت الحواجز، والمتاريس، بين مخلوقات الله، وبين الإنسان.. وبين هذا الجانب، أو ذاك، من مكوناته، والتي حكمت على ممارساتها، وتوجهاتها، بالتناقض، والتصادم، والتبعثر.. هذا التوجه المتوحد يحكم كل الممارسات الإسلامية، بدءًا من أشدها روحية، وانتهاءً بأكثرها التصاقًا بحاجات الإنسان الحسية والجنسية.. ففي كل الأحوال، نلتقي بتعامل شمولي، يتمحور عند جانب ما، من الإنسان، لكنه لا يصطدم أو يتعارض، مع مطالب الجوانب الأخرى كافة. ولقد كان لهذا الوفاق، مردود إيجابي فعّال، ليس على مستوى النفس البشرية فحسب، وإنما على المستوى الحضاري، الذي هو بشكل من الأشكال، جماع التوافق بين الطاقات كافة. ومهما يكن من أمر، فإن الصلاة، بأبعادها هذه، لتتكشف أكثر، فأكثر، عن حكمة الله البالغة، في كل ما فرضه من عبادات، وأنزله من تعاليم وتشريعات، وبغض النظر عن الجدل القائم، حول الإفادة من معطيات العلم الحديث، لتفسير أو تعزيز المفردات الإسلامية ، وردود الفعل المبالغ فيها، بين أصحاب هذه الدعوة، والمنكرين لها، فإن مما لا ريب فيه، أن كشوف العلم، والخبرة البشرية المتأتية، عن رصيد التجربة، في واقع الحياة، لتؤكد أكثر فأكثر، مصداقية المفردات الإسلامية، وطبقاتها المتعددة، ذات المردود الإيجابي، الفعّال في الحياة الإنسانية. فإذا ما تجاوزنا دائرة العلم، بمفهومه الاصطلاحي، المحدود، إلى الخبرة البشرية المتأتية، عن رصيد التجربة، في واقع الحياة، ومجرى الحضارات، فإننا سنجد أنفسنا، قبالة تأكيدات أخرى، أكثر أهمية وخطورة، لما تتضمنه الممارسات الإسلامية ، من أبعاد إيجابية، وبالتالي لأحقية هذا الدين، في حكم الحياة. وما يقال عن الصلاة، يمكن أن يقال، عن أية ممارسة تعبّدية أخرى، في الإسلام.. خذ الصيام - مثلاً - إنه هو الآخر، يتمركز عند تنفيذ أمر الله، والالتزام بكلماته وتعاليمه: (يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )(البقرة:183)، لكن هذه الممارسة الروحية ذات الخصوصية، والتي يتكفل الله سبحانه بمكافأة أصحابها، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به )(متفق عليه، واللفظ للبخاري).. هذه الممارسة، سرعان ما تتكشف عن جملة من المزايا، في شتى السياقات الصحية، والنفسية، والاجتماعية، فتتواءم معها، وتغذيها، وإذا كان العلم الحديث، قد أكد أكثر من مرة، ما لتجربة الصيام، من مردود إيجابي فعال، على صحة الإنسان، وعلى تمكينها من استعادة سويتها، وحيويتها، إثر كل مرض أو انحراف، فإن واقع التجربة البشرية، يؤكد من جهته، غنى المكاسب، التي يحظى بها الإنسان، من جراء هذه العبادة الدورية، الأساسية، في الإسلام. إن رمضان هو شهر الفرح، والسكينة، والتوازن، ومراجعة الحسابات، وتدارك الأخطاء.. شهر الأمن النفسي، والاجتماعي، لكل الخائفين المذعورين، والجوعى المتضورين.. شهر كسر حاجز الروتين الزمني، والاجتماعي، والوظيفي، والنفسي، الذي يغطي أحد عشر شهرًا، فلو أنه امتد على مدار السنة، ومضى لكي يأكل العمر كله، فإن لنا أن نتصور، كم سيكون لهذه الاستمرارية النمطية، لهذا التسطح، والتشابه المكرور، من مردود سيّء، على الإنسان، يعرفه جيدًا من يجد في رمضان، فرصة للتجدد، والتغيير، وممارسة نظام يومي جديد، تتبدل فيه جلّ المواصفات، والعلاقات، والمفردات. فهناك في رمضان، تجاوز لتقليد الوجبات الثلاثية الصارم، وتحرّر من إلزامها، تقابله وجبتان، تحملان مذاقهما الخاص، وأجواءهما السعيدة، وفرحهما: الفطور، والسحور.. هناك صلاة التراويح، التي يجتمع لها أبناء الحيّ، أو القادمون إليه من أماكن شتى، والتي تحمل هي الأخرى، مذاقها الخاص.. هناك التخفيف من قيود العمل الوظيفي، ترويحًا عن الصائمين.. هناك القيلولات العذبة، بعد العودة من العمل.. هناك الفترات الزمنية المتطاولة، للتواصل أكثر مع كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهنا:.. وهناك.. مفردات كثيرة، لا يحصيها العدّ، تتكشف أكثر فأكثر، عن غنى التجربة الإسلامية، في شتى مستوياتها، وكثافتها، وازدحامها، بما يمنح الإنسان والحياة البشرية، المزيد من الفرح، والسعادة والتوازن، والسكينة، والأمن، والاسترخاء، والعطاء، والإبداع. ( 4 ) وإذا كنا في المقطع السابق، قد أشرنا - مجرد تأشير - على نمطين من الممارسات التعبدية، وما تتضمنانه من أبعاد نفسية، وجسدية، واجتماعية (مضافة) على المطلب الروحي الأساسي، فإن لنا في هذا المقطع، أن نؤشر على بعض الشواهد، في دائرة الممارسات الاجتماعية، حيث تمنح آداب الإسلام ، حشودًا غنية من التعاليم، لا تكاد تترك صغيرة، ولا كبيرة، في مجرى الحياة، إلا ورسمت لها المعالم، ودلت السائرين عبرها، إلى الطريق.. وهو طريق ينطوي - والحق يقال - على أقصى درجات المرونة، والاستقامة، والشفافية، والبرّ، والرحمة، والتكافل، والأمانة، والإخلاص، والعطاء، والنظافة، والحشمة، والذوق. ها هنا أيضًا، تتبدى أكثر فأكثر، ومن خلال حشود الخبرات الحضارية، التي يمارسها، ويكتشفها "غيرنا"، وبخاصة دائرة الحضارة الغربية، مصداقية المفردات الإسلامية، وقدرتها الفذة، على تشكيل مجتمع سعيد، متوازن، نظيف، قدير على العطاء.. فإن مما يميز الحياة الحضارية الغربية، في دائرة العلاقات الاجتماعية، في جانبها الوضيء طبعًا، تلك المفردات المؤكدة في الحياة اليومية، والتي تشكل مراكز الثقل، في نسيج الممارسات العامة، والتي غدت، لكثرة تكرارها، والتزامها، إلفًا يتفق عليه الجميع، ولا يكاد يجرؤ أحد على تخطيه، إلا لحقه الاشمئزاز والاحتقار. وللأسف، فإن هذه المفردات، التي تمنح قدرًا من الضوء، للحياة الاجتماعية الغربية، هي نفسها التي كان هذا الدين، قد منحنا إياها، وألزمنا بها، وهي نفسها التي نقضناها، في عصور تخلفنا، وانحطاطنا، عروة عروة، حتى بلغت حياتنا الاجتماعية القعر، من الحضيض، الذي لا تحسدنا عليه، أشد الجماعات والشعوب تفككًا، وتخلفًا! ولعل من السذاجة القول: بأن الغربيين، قد اقتبسوا هذه المفردات المتألقة، من تجربة الحياة الإسلامية، عبر التاريخ، وإن كان بعضها، فيما تؤكده الدراسات الحضارية المقارنة، والشواهد اللغوية، مستمدًا من هذه التجربة.. لكن السياق العام للخبرة، يصعب معه التحقق، من بينة قاطعة، والأهم من ذلك أن الحضارة الغربية، وهي تجتاز طريقها الطويل، تكتشف، وتؤسس، وتنمّي، وتنفذ مفردات السلوك الاجتماعي، وعن طريق التجربة والخطأ، ومن خلال الاحتكاك بمطالب الواقع البشري، يرسب أو ينفى بعضها، ويظل بعضها الآخر قديرًا على البقاء، بسبب من "نجاحه"، المستمد من "المنفعة"، أو المردود الإيجابي، الذي حققه ولا يزال، للحياة الاجتماعية هناك. بمعنى أن الاكتشاف الحضاري، للمفردات، في صميم الخبرة الاجتماعية، يجيء لكي يؤكد بلسان الحال، ما سبق وأن وضعه هذا الدين، بين يدي المنتمين إليه، ودعاهم إلى الالتزام به، والحرص عليه، إذا أرادوا أن تكون حياتهم إسلامية حقًّا! ويصعب على المرء، ماذا يأخذ، وماذا يدع، من هذه المفردات، كشواهد على ما أراد الإسلام، أن يزرعه في نسيج التجربة الاجتماعية، لكي ينبت خيرًا ونظافة، وأمنًا، وطهرًا، وعطاءً.. ولنتذكر - على سبيل المثال - آداب أو أخلاقيات (الجوار) و (المجلس) و (الطعام) و (الطريق) من بين حشود، لا تعد، ولا تحصى من الشواهد.. إن الغربيين - والحق يقال - يتفوقون اليوم، في العديد من مفردات هذه الحلقات الاجتماعية الأربع. وهم - والحق يقال أيضًا - لا يتكلفون في الأعم الأغلب، أيما سلوك مصطنع، إزاء هذه المفردة أو تلك، وإنما تصدر عنهم بشكل عفوي، وكأنها غدت جزءًا من حياتهم، لا يحتاج لأي قدر من الالتفات، أو التذكير، أو التفكير. وعلينا وقبل المضي في الموضوع، ومن أجل تجاوز، أي قدر من سوء الفهم، أن نشير، إلى أن هذه المسألة، تمثل الجانب المضيء، من الحياة الاجتماعية الغربية، وتظل هناك جوانب، وطبقات أخرى، في نسيج هذه الحياة، مترعة حتى النخاع بالقذارة، والعفونة، والظلمة، والتفكك، والفساد، الذي قد يبلغ حافة البهيمية، بل إنه ليتجاوزها أحيانًا، بحيث تبدو السوائم والكلاب، أكثر احتشامًا من الإنسان! فإذا ما جئنا إلى تلك الحلقات، للتأشير على ما أراده الله و رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحقق، في مساحاتها جميعًا، فإننا سنجد أنفسنا، قبالة حالة اجتماعية، تتوازن فيها وتتلاءم، كافة القيم الإيجابية، في نسيج العلاقات الاجتماعية، والحضارية عمومًا. ويزيدها قدرة على الفاعلية، والتألق، أنها تنبثق عن "العقيدة"، القادمة من عند الله، وتستمد مقومات وجودها، من طاعة الإنسان، والجماعة المسلمة للأمر الإلهي، الذي يرتبط في عمقه، بمطالب الإيمان، والتقوى، والإحسان. . ويزيدها جمالاً، وإشعاعًا - كذلك - أنها لا تقتصر على تغطية باطن اجتماعي، متعفن، بديكور جميل، كما أنها لا تنكمش - كما يحدث في التجربة الغربية - عند مفردات، أو مساحات محدودة، من نسيج الحياة الاجتماعية، بينما تتسيب المفردات، في المساحات الأخرى، وتتفكك، وتضيع.. إنها هنا في الحياة الإسلامية ، كل مترابط، وهي تمثل جهدًا أخلاقيًّا، واجتماعيًا متواصلاً، لنفي الخبث، والتحقق أكثر فأكثر، بالطيب وحده.. هذا إلى أنها - على خلاف الحالة الغربية - لا ترتبط بنسبيات المنافع، والمصالح العابرة، وإنما تتجاوزها، وتعلو عليها، باتجاه القيم التي تليق بمكانة الإنسان، في العالم، مستمدة تجاوزها، وديمومتها، في الوقت نفسه، من تجذّرها في العقيدة، وليس في أي شيء، أو قيمة أخرى. في علاقات "الجوار" مثلاً يلتقي المرء، بتأكيدات متزايدة، في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على احترام حق الجار، الذي يكاد يبلغ حدّ القدسية، التي يكون اختراقها، تجاوزًا لحرمات الله، ونستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقول في واحد من أحاديثه الشريفة، في هذه المسألة: "ما زال- أي جبريل - يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورّثه!". هذه مسألة، قد لا يبدو ثقلها واضحًا على مستوى التنظير، ولكن بمجرد أن يتذكر كل امرئ منا، ما جرى، ويجري على الأرض، أو في الميدان، كما يقولون، أن يسترجع العذاب، والمرارة، والقلق، والغيظ، والكراهية، والحقد، والرغبة في الانتقام، كلما ابتلي بجار، لا يرعى، هو أو أبناؤه ، حق الجوار، بدءًا من استراق النظر، وانتهاء بالشتائم، والسباب، مرورًا بصنوف الأذى والاستلاب، والعدوان.. وأن يتذكر قبالة هذا، كل صنوف الفرح، والاستقرار، والمحبة، والألفة، والانسجام، والتعاون، والتزاور، والعطاء، عندما يمنحه الله سبحانه جارًا طيّبًا، يقدر مطالب هذا الدين، ويرعى الله في جاره.. عندما يتذكر هذا وذاك.. حالة الظلمة، وحالة الضوء.. حالة تلف الأعصاب، وتجدد المشاحنات، وتراكم الأحقاد.. وحالة السكينة، والمحبة، وتبادل العطاء.. فإنه سيعرف، لماذا في كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كل تلك التعليمات، والأوامر، والتوجيهات، التي بلغ أحدها حدًّا، كاد معه الجار، يرث جاره، بدلاً من الزوجة والأبناء! في آداب المجلس، نلمح متابعة عجيبة، لكل صغيرة، وكبيرة، بدءًا بخفقات النفس، وخوالج الشعور، وانتهاءً بأماكن الجلوس، وصيغ الدخول، والخروج.. هذه الخطوط التي تتجمع، وتتآلف، لكي تجعل (المجلس)، في المجتمع الإسلامي، نموذجًا لرهافة الإحساس، واحترام النظام، وتوزيع الفرص بالعدل، والقسطاس، لكل المشاركين، وتنتهي عند بؤرة احترام إنسانية الإنسان، التي تهان، وتبتذل في العديد من المجالس، التي لا تستهدي بكلمة الله. في آداب الطعام، نكاد نلتقي - إذا جاز التعبير - بما يسميه الغربيون ويفاخرون به: "الإتيكيت"، الذي ترسمه تعاليم الكتاب، والسنة، والذي ينفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما يجعله أنموذجًا، في الذوق، والنظافة، والاحتشام، والأناقة، وبما يرتفع بهذه الممارسة الحسية الصرفة، إلى الآفاق التي تليق بالإنسان: البدء باسم الله.. تناول الطعام باليمين.. إفساح المكان للآخرين.. تجاوز الأحاديث التي لا تنسجم، وحالة تناول الطعام.. التعامل مع الجهة القريبة من الماعون.. تجاوز حالتي الشح، والإسراف، في الولائم والدعوات.. إلخ . . إلخ.. مما يمكن أن نتابع تفاصيله في كتب السنن. في آداب الطريق، الذي يكاد اليوم في الحياة الإسلامية الراهنة، ينقلب إلى ساحة للإسفاف، والقذارة، وانعدام الذوق، والصراع، والتكالب، وتجاوز حقوق الآخرين، وإسقاط الحق العام.. إلخ.. في هذه الآداب، نلتقي بتلك المفردات المتألقة، التي يصير فيها الطريق، دربًا آمنًا، نظيفًا، يجتازه المسلم إلى عمله، أو بيته، وهو مطمئن، إلى أنه لن يرى إلا الجميل، ولن يسمع إلا الكلمة الطيبة، ولن يلتقي إلا أولئك، الذين لا يكاد "السلام"، يسقط من شفاههم! إن "إماطة الأذى" عن طريق الناس، و "إفشاء السلام"، و"الكلمة الطيبة"، و"البسمة الودود"، و"الإحسان" إلى الآخرين، والرحمة بالضعيف، والحنان مع الطفل، والاحتشام في التعامل بين الجنسين.. إلخ، لهي في مجموعها ترسم صورة مشرقة، ووجهًا متحضرًا أصيلاً، للعالم الذي يريد الإسلامُ، أن يقيمه، وللآداب التي يتحتم الالتزام بها، عبر اجتياز طرقه، ودروبه، في هذه المدينة أو تلك، وعبر هذا الحي، أو ذاك.. إن بعضًا من هذه المفردات، يمارسها الغربيون في الشوارع، والطرقات، فتمنح حياتهم بهاءً، وسماحة، وإنسانية، وجمالاً.. إن التحية الودودة.. وكلمتي "شكرًا"، و"آسف"، المعلقتين على الشفاه، والبسمة الحانية المطلة، من الوجوه، بإلفة وحنان، والالتزام المتأصل، بمفاهيم وقيم النظافة، والتعاون العفوي المتجذر في السليقة، لإماطة الأذى عن طريق الناس.. إلى آخر هذه المفردات العذبة النبيلة، لا نكاد نجد عشر معشارها في طرقنا، وأزقّتنا، وحاراتنا.. لقد ضيعناها، منذ زمن طويل، وحلت بدلاً عنها اللعنة، والكراهية، والحقد، والتقاتل، والتدافع، والغضب، والكلمات الحادة، التي تخرج بين لحظة وأخرى، كالسكاكين الجارحة، فتنزف لها النفوس الحساسة، والضمائر المرهفة، التي كادت تصل في حياتنا الراهنة، لهذه الأسباب، وغيرها كثير، حافة الإعياء والانهيار. إن هذا الذي يميز الشارع، أو الطريق الغربي، فيمنحه ملامح إنسانية متحضرة، ويغذيه بالإلفة، والمحبة، والجمال، هو مما أراد أن يعلمنا إياه هذا الدين.. ولقد تعلمه أجدادنا حقًا وصدقًا، فصاغوا تلك الحياة الأنيقة، الودودة، الإنسانية، المتحضرة، التي انطوت على كل المفردات، التي تتألق وتزدهي بها مدينة الغرب اليوم، دون أن تنزلق في مساوئها، ومطباتها.. وما أكثر هذه المساوئ، والمطبات. ( 5 ) تلك شواهد من عبادات الإسلام وآدابه، تؤكدها وتصدقها خبرات البشرية، عبر طريقها الحضاري الطويل.. تبرهن عليها المطالب الملحة للفرد والمجتمع، في كل بيئة وزمن، وتتكشف أكثر فأكثر، ضروراتها الخصبة، الغنية، للحياة الإنسانية، إذا أريد لهذه الحياة، أن تمضي إلى أهدافها، بأكبر قدر من التوازن والاعتدال، والاستقامة، والصدق، والنظافة، والجمال، والبذل، والانسجام، والعطاء.. إن التقوى والإحسان، الذين يتطلبهما الإسلام، في كل ممارسة فردية أو جماعية، في نسيج الحياة، وعبر صيرورتها الدائمة، إنما هما جماع هذه القيم كافة، حثّ عليها، ودفع إلى الالتزام بها، وتجذيرها في عمق الممارسة البشرية، عن طريق ربطها بالعقيدة، التي هي قاعدة هذا الدين، وبالأوامر الإلهية، والتوجيهات النبوية، التي يحاذر كل مسلم، أن يخالف عنها، ما وسعه الجهد. ولن يتسع المجال، في صفحات كهذه، للانتقال إلى الدائرة الثالثة، دائرة التشريع، سياقاته كافة: السياسة، والحكم، والعلاقات الدولية، والمال، والاقتصاد، والتربية والتعليم.. إلى آخره.. حيث تتكشف كل مفردة من مفرداته الإلهية، والمتألقة، عن المزيد من المصداقية، والقدرة على الاستجابة لمطالب الجماعة البشرية، بأكبر قدر من التغطية، والتوازن، والشمول، والإحكام، وحيث يصير مرور الزمن، وتراكم الخبرة البشرية، والسلسلة الطويلة المحزنة، من تجارب الخطأ والصواب، والتعثر، والمسير، والانحراف، والاستقامة، والسقوط، والنهوض.. حيث يصير هذا كله، تأكيدًا آخر، لأحقية هذا الدين في التفرّد، ولتميّز شريعته، وتفوقها في حكم الحياة.. ويكفي أن نتذكر سقوط العديد من العمارات التشريعية الشاهقة، التي شهدها العالم، منبثق بعضها، عن منظور عقيدي، ومنطلق بعضها الآخر، من خبرات الواقع المشهود.. يكفي أن نتذكر سقوط الرأسمالية، والشوفينية، والاشتراكيات الطوباوية، والشيوعية.. إلى آخره.. لكي ندرك كم أن مرور الزمن، يجيء في خدمة هذا الدين، وكم أن المستقبل، سيكون لهذا الدين! إن الحديث عن تفوق المفردات الإسلامية، في دائرة التشريع، يطول، وقد قيل فيه الكثير، وكتب الكثير، ولن يتسع المجال للخوض فيه. ولعلّ من المفيد طلبًا للإيجاز، أن نتذكر مؤلفين فحسب، من بين عشرات، بل مئات المؤلفات، التي تصدر عن العقل الغربي تباعًا، مؤكدة جلّ ما ذكرناه، فأما أولهما: فهو كتاب "إنسانية الإسلام"، الذي ألفه خبير العلاقات الدولية والقانون الدولي المعاصر (مارسيل بوزار)، لكي يرى، ماذا فعله الإسلام، وماذا أراد أن يقوله في دائرة العلاقات الدولية والإنسانية عمومًا. وأما ثانيهما: فهو كتاب "وعود الإسلام" الذي ألفه المفكر الفرنسي المعروف (روجيه جارودي)، والذي يستطلع فيه الآفاق المستقبلية الخصبة، الواعدة، التي سيشارك هذا الدين في صياغتها، وتنفيذها، وحمايتها، من أجل مكانة الإنسان في مستقبل هذا العالم. وغير هذين الكتابين، عشرات ومئات من المؤلفات، التي وقفنا عندها طويلاً في كتاب: "قالوا عن الإسلام". وصدق الله العظيم، القائل في محكم كتابه: (سنُريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كلّ شيءٍ شهيد )(فصلت:53). |
محاولة لتصور المجتمع الإسلامي ( 1 ) سؤال يطرحه المسلم على نفسه كل يوم.. ويحاول أن (يعيش) الجواب.. إنه أمنيته الغالية، وخبزه اليومي، وحلمه المرتجى، وغده المأمول.. فلا ريب، أن يلحّ على فكره، ونفسه، ووجدانه، هذا الإلحاح.. مجتمع يشرع له الله، ويتحرك في أرض الواقع، على عين الله.. ترى كيف تكون صورته؟ نستطيع أن نصنع الجواب عمليًّا، بالرجوع إلى بعض فترات التاريخ الإسلامي، وبخاصة في عقوده الأولى، حيث كان الالتزام على أشده، ومداه.. ولكن قد تتعثر المحاولة، لكون المصادر (القديمة)، لا تقدم لنا كل شيء، عن الصورة المبتغاة، لا سيما وأن هذه المصادر، كانت تقدم جل مادتها عن الأمور السياسية والعسكرية.. ولا تمنحنا ما فيه الكفاية، عن المسائل الحضارية عمومًا، والاجتماعية على وجه الخصوص. ونستطيع، أن نصوغ الجواب نظريًّا، باستمداده من معطيات القرآن، والسنة واجتهادات الصحابة، والتابعين، وتابعيهم بإحسان، رضي الله عنهم جميعًا، الأمر، الذي يمكن، أن نجد جوانب منه، في كتب الفقه، والأحكام. ولكن المحاولة لن تتجاوز - في هذه الحالة - إطارها النظري البحت بحال.. ثم إن العصر الحديث، طرح الكثير من المعطيات، التي ما عرفها الأجداد، وألقى بالعديد من التحديات، التي ما خطرت لهم على بال، واستجدت أمور في مجرى الحياة الاجتماعية، لم تعرف عنها الأجيال السابقة شيئًا.. وأنها لبأمس الحاجة، إلى أن توضع في إطارها الصحيح، من نشاط المجتمع الإسلامي المنشود، لأنها أصبحت، تمثل ثقلاً كبيرًا، في العلاقات الاجتماعية، وتحتل فراغًا واسعًا، وإن تجاهلها، أو إهمالها، يعد بمثابة الهروب من المشكلة، لا السعي لإيجاد الحل المقبول لها، في إطار الممارسة الإسلامية . لن تكون هذه الصفحات محاولة منهجية، أو أكاديمية، لتصور ما يمكن أن يكون عليه المجتمع الإسلامي، في العصر الراهن، ولن تكون حتى مجرد مقال، يستهدف الإمساك بأطراف الصورة، وإنما هي مجموعة خواطر، وضوابط، ومؤشرات، عن الموضوع، قد يضاف إليها الكثير فيما بعد. ( 2 ) إن الإسلام يستهدف - ولا ريب - صياغة عالم، مهندسٍ، متناظر، منسق، وجميل.. لقد جاء لكي يمنح المجتمعات البشرية صيغًا من العمل، وأنماطًا من العلاقات، وطرائق من النشاط، ما عرفتها المجتمعات الجاهلية، في يوم من الأيام، ولا ذاقت طعمها، أو استروحت في ظلالها المترعة بالتكافل، والتكامل، والمحبة، والإبداع. وإذا ما حدث، وأن تراجعت بعض التجارب الاجتماعية الإسلامية، في فترات من التاريخ، عن هذه الصيغة المثلى، بدرجة أو أخرى، فإنه يتوجب أن نبحث عن أسباب التراجع، والانكماش في طبيعة الجماعة، وظروفها البيئية، ولن يكون السبب الإسلام نفسه، بأية حال من الأحوال.. إنه صيغة عمل في الواقع المعاش، ترفض المثالية (الطوباوية)، رفضها للتسيب والفوضى، وتملك من رصيد التنفيذ والالتزام، ما يمكنها من التخلق والنمو، في أي زمان ومكان.. إن الله سبحانه أدرى بخلقه، كما أنه سبحانه أدرى بالدين، الذي بعث به إلى خلقه.. وهو يعلم - جلت مشيئته - أن المنهج، الذي لا يمكن تنفيذه في العالم، ليس من الدين في شيء!! لأن الدين ممارسة، والتزام، وفعل، وتحقق، وهو على نقيض المثاليات، التي تدور مقولاتها في فضاء الأذهان، البشرية، والسماوات العليا، ولا تقدر على النزول، إلى أرض الواقع، إذ لايمكنها بحال، تجاوز حالتها الغازية، المهوشة،وصيغها الضبابية المخلخلة.. إن الدين كيان صلب مرئي، وهو قدير في أية لحظة، على أن يتحرك على الأرض، وأن يحفر فيها، ويمدّ الجذور. إن القرآن الكريم يقولها مرارًا، ويعلنها تكرارًا: (لا يُكلّف الله نفسًا إلا وُسعها )(البقرة:286)، (يُريد الله بكم اليُسر ولا يريد بكم العسر )(البقرة:185)،: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم )(الأعراف:157).. إنه صيغة عمل واقعي، (مفصل)، على حجم الإنسان، وطاقته، وهمومه.. (مهندَس)، وفق قدراته وإمكاناته.. صنع الله الذي أتقن كل شيء، والذي هو أدرى بخلقه: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )(الملك:14).. فما يقال من أن الإسلام، عجز عن التعبير، عن معطياته اجتماعيًّا، في مساحات واسعة، من التاريخ، أمرٌ مردود، فإن الضعف البشري، وتراكم السلبيات التاريخية، والانحرافات البيئية، لتقف في معظم الأحيان، وراء هذا الانفلات.. إن القمة السامقة، التي تزهو بمعانقتها السماء، لهي هي، في علوّها، وسموقها، ولن يحط من رفعتها، عدم قدرة بعض الناس، على الصعود إليها ، لهذا السبب أو ذاك.. ولقد جاء الإسلام ، لكي يصوغ تجارب اجتماعية، أشبه بالقمم، إزاء تجارب وضعية، مترعة تخلخلاً، وفسادًا، مملوءة شقوقًا وعيوبًا.. ولقد صاغها فعلاً في مراحل كثيرة من التاريخ، وهو قدير دومًا، على أن يجدد الصياغة، ما دام يملك رصيده الواقعي، الفعال، في تحويل العقيدة، إلى فعل متحقق.. إن التحرك في السفوح الهابطة لهو ممارسة سهلة، ميسورة في أي مجتمع، ولكن الارتفاع إلى فوق، يحتاج إلى بذل مزيد من الجهود.. ولن يقدر كل الناس، في كل زمان ومكان، على تقديم البذل من أنفسهم.. فبدون الدافع الإيماني، المتفجر في النفوس، بدون وقوده المحترق كالنار، بدون شرارته المتألقة في الفكر، والروح، والوجدان.. لن يتحقق شيء.. إن الملامح الأساسية العريضة في المجتمع الإسلامي، أو خصائصه الشاملة، يمكن أن تركز بالخطوط التالية، وهي خطوط، يمكن أن نجد بعض امتداداتها في مجتمعات أخرى، ويمكن أن تلتقي نوعيًّا، أو كميًّا، مع ما يمارسه المجتمع الإسلامي.. ولكنها على كل حال، لن تكون بهذا القدر من التكامل، والشمول، والارتباط.. إنها هناك مزق، وتفاريق، ولكنها هنا توحّد، وتداخل مرسوم، يسعى لتحقيق أكبر قدر من الفاعلية، والالتزام، في نطاق هذا المجتمع. إنه - أولاً - مجتمع متوازن، على كل الأصعدة، وفي كافة المستويات.. توازن بين الروح والمادة، بما أن الإنسان نسيج متوحد من لقاء القطبين.. بين الفردية والجماعية، بما أن المجتمع الإسلامي، هو مجتمع الإنسان،والجماعة، على السواء.. بين المنفعة،والقيم، بما أن عجلة الحياة المؤمنة، لا تمضي إلى هدفها، دون تحقق الوفاق.. بين حاجات الناس، العملية، والتزاماتهم الخلقية، وإلا جنحت بهذا الاتجاه، أو ذاك، وفقدت ملامحها، أو قدرتها على الفاعلية.. وتوازن بين التعامل مع الطبيعة، والامتداد إلى ما ورائها، بما أن الموقف الإيماني الصحيح، هو الذي يمدّ رؤيته، هنا، وهناك، يتحرك على أرضية العالم، ويمتد إلى الآفاق البعيدة، فيما وراء العالم القريب، حيث الإيمان بالغيب يشكل ركيزة كل إيمان، ويرتفع بالإنسان إلى المكانة، التي تليق به كإنسان. إن الإسلام يدعو إلى مجتمع، تنمو معطياته على كل المستويات الروحية، والاجتماعية، والطبيعية. وثمة ما يبدو واضحًا في كتاب الله: أن كل آية تتناول مسألة طبيعية، أو حيوية، أو مادية، تنتهي بأفعال التقوى، والإيمان، بالدعوة إلى ربط أية فاعلية بالله، وهذا التأكيد المتكرر، له مغزاه.. إن منطق التوازن الحركي، الذي يرفض الانحراف، أو السكون، هو القاعدة التي نتلمسها في القرآن الكريم بوضوح، من خلال عدد كبير من آياته، والتي تكفل نموًّا سليمًا، لأي مجتمع، يريد أن يحافظ على نقطة التوازن، بين تجربتي الروح، والمادة، ولا تنحرف باتجاه إحداهما ، مهملة الأخرى، أو ضاغطة عليها، مستخدمة إزاءها، أساليب القمع، والكبت، والتحديد. التوازن الذي يمكن المجتمع من الحركة الدائمة، لأن الأهداف التي يضعها أمامه، تأخذ مستويات صاعدة، لا يحدها أفق، ولا يقف في طريقها تحديد صارم، إنها تبدأ بتأمين متطلبات الحياة اليومية المباشرة، وتتقدم - بعد هذا - صوب أعمال الفكر، في قلب العالم، للكشف عن نواميسه، أو في بنيان الكون، لإدراك سرّه المعجز، هذه الفاعلية، الفكرية التي ما لها من حدود تقف عندها.. ومن ثم يوالي المجتمع الإسلامي، خطواته، لتنفيذ أكبر قدر من ضمانات التجربة الروحية الشاملة، وإيصالها إلى مطامحها، التي تتجاوز الأرض، إلى أعماق السماء، وتغادر اللحظة الموقوتة العابرة، إلى عالم الخلود. إن مجتمعًا يسعى إلى تغطية متطلبات الغريزة، والفكر، والوجدان، والروح، بهذا القدر من التوازن، لا يمكن أن يبلغ حالة السكون أبدًا.. وهو - ثانيًا - مجتمع متحرر على كل المستويات.. على المستوى الفكري،والوجداني، والفلسفي - إذا صح التعبير - حيث يغدو الإنسان سيد العالم، وحيث لا يستعبده خوف من طبيعة، أو انكماش إزاء المجهول، أو أسرُ تجاه المصير.. على المستوى السياسي، حيث يسقط كافة الطواغيت والأرباب، وتسقط معهم نظمهم، وشرائعهم، وحيث يتحرر الإنسان من قسرهم وإرهابهم، ويرفع جبهته عاليًا، فليس ثمة إلا الله، الواحد الأحد، خالق الكون، والحياة، والإنسان،وباعث الأديان شرائع للناس، من يحني رأسه له، ويتلقى مناهجه عنه.. على المستوى التعبيري، حيث يستطيع الإنسان، أن يقول ما يشاء، ويكتب ما يشاء، في مدى المساحة الواسعة الممتدة، التي يمنحها الإسلام للمنتمين إلى مجتمعه، وهي مساحة كبيرة، لم توازها، أو تضارعها، أية تجربة أخرى، رغم ما يضعه الإسلام من ضوابط، ومعايير، والتزامات، إزاء حرية التعبير. على المستوى الاجتماعي، حيث لا تستعبده الضرورات، أو تغلّ حركته ونشاطه حواجز طبيعية، أو حاجات يومية، يعرف الإسلام، كيف يضمن توزيعها على الناس، بالعدل، والقسطاس، وكيف يمنع تحولها إلى جدار، يصد الناس عن الذهاب إلى الآفاق البعيدة، متحررين، تلك التي جاء هذا الدين لكي يقود الناس إليها. على المستوى النفسي، حيث لا يميل الإنسان صوب الإشباع المادي وحده، فتنكمش، وتضمر اهتماماته الروحية والوجدانية، ويفقد توازنه بالتالي، وحيث لا ينحرف باتجاه الروح، على حساب الضرورات.. إن توازن الإنسان في المجتمع المسلم، هو أساس تحرره، لأنه بدون تلبية نداء التكوين البشري، بكافة أطرافه ومساحاته، لن تكون هناك حرية، بمعنى الكلمة.. وهو - ثالثًا - مجتمع متكافل، حيث يلتقي الفرد بالجماعة، في وفاق عميق، وحيث تتعاضد الجماعة الإسلامية ، وتتعاون، وتتآسى، في كل صغيرة وكبيرة، من أجل التحقق بأكبر قدر من التناغم،والانسجام، لدفع عجلة الحياة الإسلامية إلى الأمام، وإعانتها على مواصلة الطريق.. إن أي مجتمع إسلامي هو - بالضرورة - مجموعة مسافرين في مركب واحد - كما يصوّرهم نبيهم ومعلمهم صلى الله عليه وسلم - وأنه يتوجب عليهم، أن يتكاتفوا من أجل مجابهة المخاطر، والاستجابة للتحديات، ومنع كل ما من شأنه، أن يحدث ثغرة، قد يتسرب منها الماء، وقد يقود الجميع إلى الغرق المحتوم.. إنه يتوجب عليهم، أن يعملوا يدًا واحدة، من أجل أن ينطلق بهم المركب، في عرض البحر، وصولاً إلى الشواطئ البعيدة، لكي يلقي مرساته بأمان.. إن المجتمع الإسلامي، كما صوّره الـرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا، هو كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى!! وهو - رابعًا - مجتمع أخلاقي، منضبط.. يلزم أفراده ومؤسساته، بحشد من القيم والمعايير والضوابط، من أجل ألا يجنح به ميل أو هوى، وألا ينحرف به نزوة أو شهوة.. إننا نستطيع أن نعاين الصورة المضيئة، لأخلاقيات المجتمع المسلم، بمجرد القيام بعرض مقارن، بينه وبين سائر المجتمعات، تلك التي لا تهمها المسألة الأخلاقية، إلا بمقدار، أو التي لا تهمها على الإطلاق.. إن الالتزام الأخلاقي للمجتمع الإسلامي، يرمي إلى تكوين أخلاقية خاصة بالجماعة المؤمنة، تنبثق في أعماق الفرد، لكي ما تلبث أن تعطي لونها، للعلاقات الاجتماعية كلها.. وأن القيم الأخلاقية لتمثل - بحق - مراكز الثقل، في حضارات الأمم، وشحنات الدفع، في مسيراتها، وتكاد علاقتها الضرورية للنمو، تبدو طردية باستمرار، على مستوى الكيف والكم، فكلما التزمت جماعة ما، بمزيد من القيم الأخلاقية، وكلما سعت إلى صقل هذه القيم، وتأصيلها في أعماق البنية الاجتماعية، تمكنت من حماية وحدتها، وإبعاد شبح التفتت والتدهور والسقوط بالتالي.. وكلما بدأت جماعة ما، بالتخلي عن هذه الالتزامات، وطرحها جنبًا، وعدم السعي لبلورتها وتعميقها، في الممارسة الجماعية، عرضت وحدتها للتفتت، وآذنت نشاطها ومستقبلها بمصير سيء قريب. إننا نرى اليوم بأم أعيننا، كيف أن بقايا القيم الأخلاقية، التي يتميز بها رجل العالم المتقدم، ومجتمعاته، من صدق وأمانة، وتحمل للمسؤولية، وشجاعة، وإخلاص، وصبر، وتضحية، ومن رفض للكذب، والغش، والخيانة، والتهرب، والجبن، والجزع، والأثرة، هي التي تلعب دورها الواضح، على المستوى العملي (البراغماتي) في تفوق هذا الرجل، وذلك المجتمع، في عالم لم يعد يعترف - على المستوى النظري - بالأخلاقيات، مما يشير إلى مدى الثقل الواقع، لهذه القيم، وارتباطها العضوي، بأية ممارسة حضارية. إن القرآن الكريم، يطرح سلّمًا من القيم الأخلاقية، كثير الدرجات، بعيد الامتداد، من خلال مئات الآيات، المنبثة هنا وهناك، والتي لا يسعنا الإشارة إليها، والتي تجيء في معظم الأحيان، ملامسة لواقعة تاريخية قريبة، أو بعيدة، معلقة عليها، مستمدة منها قيمًا جديدة، وذلك من أجل أن ترتبط (القيمة) الخلقية ارتباطًا شرطيًا، في ذهن المسلم نفسه، وتزداد توغلاً في أعماقه، وتأصلاً في علاقاته مع المجتمع، الذي يتحرك فيه.. ولا جدال في أن القيم الخلقية، المنبثقة عن الرؤية الإيمانية، والحس الديني، تكتسب موضوعية في ميدان العلاقات، وعمقًا في ميدان الذات، لا نجد عشر معشارها، في الأخلاقيات الوضعية، المبنية على الموقف المصلحي، والتبرير البراغماتي (الذرائعي).. إنها آنذاك سوف تفقد موضوعيتها، وشموليتها، وتقع في أسر التحيز والنسبية، فتحوّر وتزيف حينًا، من أجل أن تلائم مصلحة ما، أو منفعة معينة، وتلغى أو تستبعد، حينًا آخر، لأنها لا تنسجم أساسًا، ومتطلبات الموقف النسبي، هذا إلى أن هذه القيم ستفقد بعدها العمقي، وتغدو أكثر قلقًا واهتزازًا، الأمر الذي يفقدها قوتها الإلزامية، وثباتها وديمومتها.. وإننا بمجرد إلقاء نظرة عجلى، على التاريخ البشري، سنتبين بوضوح هذا الفرق الحاسم، بين قيم أخلاقية دينية موضوعية، شاملة، عميقة، متأصلة، وبين قيم أخلاقية، وضعية نسبية محدودة سطحية قلقة.. ولشدّ ما لعب هذا التقابل الأخلاقي دوره في التاريخ، وغطى مساحات واسعة، لا تبررها بأية حال النظرة المادية الضيقة، أو المثالية الفضفاضة. إن مقياس التفوق الحضاري، لا يكمن في حجم الإنتاج الكمي، بقدر ما يكمن في مدى أخلاقية المجتمع المتحضر، وسعيه لخدمة الأهداف الإنسانية الشاملة.. وإننا بمجرد أن نلقي نظرة سريعة، على حضارتنا الإسلامية، في عصور تألقها، ونقارن ذلك، بمعطيات الحضارة المعاصرة، على المستوى الإنساني، سنضع أيدينا على قيمة هذا (المقياس)، وأهميته القصوى.. إن مجتمعات الحضارة المعاصرة تتجاوز، حتى على مستوى الفكر والفلسفة، حدود الموضوعية الشاملة، وتهبط كثيرًا عن أخلاقية الإنسان، بما هو إنسان، فتحصر أهدافها، ومعطياتها، في نطاق دولة، أو عرق معين، كما هو الحال عند (هيغل)، أو طبقة معينة، كما هو الحال عند (ماركس) ورفاقه، أو على أحسن تقدير في إطار وحدة حضارية معينة، كما هو الحال عند (توينبي)، هذا بينما تطرح مجتمعات الحضارة الإسلامية وحدها، شعاراتها الإنسانية الشاملة الرحيبة، المنبثقة عن قيم الحق، والعدل، التي صاغها القرآن: (ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى )(المائدة:8)، (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى )(الأنعام:152). الصدق، والأمانة، تحمل المسؤولية، الشجاعة، الصبر، الإخلاص، التضحية، الإيثار، مقاومة إغراءات الشهوة، التجرد، الصمود، التزام الحق والعدل بمقاييسهما الموضوعية، لا المنفعية.. إلى آخره.. ويطرح القرآن - بالمقابل - النقائض السالبة، لهذه الأخلاقيات، كالكذب، والغش، والتزوير، والتهرب، والجبن، والجزع، والأثرة، والانسياق وراء إغراءات الشهوة والمنفعية.. إلى آخره.. داعيًا المسلمين أفرادًا وجماعات، إلى مكافحتها، دون هوادة، و إلى استئصالها من أعماق نفوسهم، ونسيج علاقاتهم الاجتماعية، رابطًا إياها بمسألة الصراع الدائم، الذي لا يكف بين الإنسان والشيطان.. بين الخير والشر.. من أجل أن يمنح الإنسان المسلم، قاعدة واسعة، لتصوّر الموقف، وإيمانًا عميقًا بضرورة المقاومة، واستجاشة لكل طاقاته، من أجل الانتصار، الذي مهما كان جزئيًا، فإنه في النهاية، سيضيف قوة إلى الرصيد الأكبر، في صراع الخير، ضد الشر، والإنسان ضد الشيطان. وتكاد المسألة تبدو في المجتمع المسلم، أو في أي مجتمع، أشبه بمعادلة رياضية واضحة، كلما تجاوز الإنسان والمجتمع، في حضارة ما، درجة أكثر في سلم القيم الخلقية، تقدم خطوات إلى الأمام، وامتلك مزيدًا من ضمانات الديمومة والتطور.. وبالعكس، يجيء الرجوع، والسكون، أو التفتت، والانهيار، بالإشاحة عن هذه القيم، وإسقاطها في ميادين الذات، والمجتمع، واحدة بعد أخرى.. وهو - خامسًا - مجتمع حركي، يلتزم غاية في الوجود، يعيش لها، ويتحرك من أجلها: جهاد الطاغوت في العالم كله، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله.. وجهاد النفس، حتى لا يتبقى في طبقاتها، ومنحنياتها، ما يميل بالإنسان المسلم يمينًا أو شمالاً.. إنه صراع أبدي على مستوى الذات، والجماعة، من أجل التحقق بالسير على الصراط، والتحرر من ضغوط الشرك، التي يمارسها الطاغوت، في كل زمان ومكان.. مجتمع لا يعرف السكون، ما دامت النفس البشرية، تحمل ميلها الأبدي للهوى، وجنوحها للطين، وما دامت زعامات الدنيا، تحمل ميلها الأبدي للتجبر والقسر، وإرغام الناس على طاعة، ما لم يأذن به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. إن الإسلام يدعونا على المستوى النفسي، والداخلي، لأن نمارس باستمرار أخلاقية، أو عملية التغيير الذاتي، أو ما سمّاه الرسول صلى الله عليه وسلم (الجهاد الأكبر)، لكي نكون قديرين دائمًا، على المجابهة، مستعدين أبدًا، لكشف المواقف غير الأخلاقية، وتعريتها، وعزلها: (إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقومٍ سوءً فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال ٍ)(الرعد:11)، (ذلك بأن الله لم يكُ مغيرًا نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يُغيروا ما بأنفُسهم وأن الله سميعٌ عليمٌ )(الأنفال:53). وهو يدعو المجتمع المسلم - على المستوى الخارجي العام - إلى الجهاد.. والجهاد كما هو معروف، وكما يرد في عدد كبير من معطيات القرآن والسنة، هو حركة المسلمين الدائمة، في العالم، لإسقاط القيادات الجاهلية الضالة، وإتاحة حرية الاعتقاد للإنسان، حيثما كان هذا الإنسان، بغض النظر عن الزمن، والمكان، والجنس، واللون، واللغة، والثقافة والانتماء.. إنه - في الحقيقة - مبرر وجود الجماعة الإسلامية، في كل زمان ومكان، ومفتاح دورها في الأرض، وهدفها العقيدي، ومعامل توحدها، وضامن ديمومتها وتطورها، وبدون هذه الحركة الجهادية، يسقط هذا المبرّر، ويضيع المفتاح، ويفقد المجتمع المسلم قدرته، على الوحدة والتماسك، والاستمرارية والبقاء. إن الجهاد كهدف إيماني، حركي، دائم، أشبه بمعامل عقائدي - اجتماعي، يشد أفراد المجتمع الواحد بعضهم إلى بعض، ويوجههم صوب بؤرة واحدة، ويدفعهم إلى تجاوز السكون، والتحرك الدائم إلى أهداف أبعد فأبعد، وهذا - بطبيعة الحال - يجيء بمثابة ضمان أكبر، لوحدة المجتمع المسلم، وتماسكه، واستمراره، وصيرورته التحريرية المبدعة.. وعلى العكس، ما أن تفتر روح الجهاد في نفوس المسلمين، أفرادًا وجماعات، قيادات وقواعد، حتى تتفكك عرى وحدتهم، وتتعدد أهدافهم، وتميل تجربتهم الاجتماعية إلى التباطؤ، فالسكون، وتتساقط مواقعهم الأمامية. وبدلاً من أن يسدّدوا ضرباتهم، إلى القوى الجاهلية، ويمتلكوا زمام المبادرة الاستراتيجية في العالم، إذا بهم يتلقون الضربات، من هذه القوى، ويتراجعون صوب المواقع الدفاعية، في الخطوط الخلفية. فهي الهزيمة - إذن - على كل المستويات: السياسية، والعسكرية، والاستراتيجية، والعقيدية، والحضارية، في نهاية المطاف.. وإننا لننظر إلى تاريخنا، فنرى في هذا الالتزام الكبير، معادلة رياضية، فحيثما سادت روح الجهاد مجتمعًا إسلاميًّا، حيثما تمكن من حماية وجوده، وتعزيز وحدته، وضمان ديمومته العقائدية، وإبداعه الحضاري، واتساع ميادين نشاطه في العالم.. وحيثما افتقدت هذه الروح الجهادية، وطمس عليها في مجتمع آخر، حيثما فقد مبرّر وجوده، وتمزقت وحدته، وتباطأت اندفاعيته العقيدية، واضمحلت منجزاته الحضارية، وتقلص دوره في العالم، وآل أمره إلى التفكك، والانهيار.. وإن تاريخنا المعاصر، ليقدم لنا عشرات الأمثلة التطبيقية، على صدق هذه المعادلة. وهو -سادسًا- مجتمع عالمي مفتوح، حيث جاء الإسلام، لكي يخاطب الناس كافة، ويمد يديه إليهم، حيثما كانوا، في المكان، والزمان، لكي يخرجهم من ضيق الدنيا، إلى سعتها، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام، لا تصده عن هدفه حواجز عرضية، أو مذهبية، أو طبقية، أو جنسية، أو جغرافية.. وهو في الوقت نفسه، يتيح لكافة المنضوين تحت لواء قيادته وسلطانه، أن يبقوا على أديانهم وعقائدهم، وأن يمارسوها بحرية، ما داموا قد غدوا مواطنين في دولة يسوسها الإسلام. إن انفتاح المجتمع المسلم على الطوائف كافة، لهو مثلٌ فذ في تاريخ المجتمعات البشرية، لم ترق إليه أية تجربة أخرى، في القديم والحديث، ولن ترقى إليه. وهو من خلال هذا الانفتاح، يمارس تنفيذ مبدأ تكافؤ الفرص، لكافة المنضوين إليه ، أو المنتمين لسلطانه، وقيادته، بحيث يتاح لكل من يملك قدرة، أو إبداعًا في هذا الجانب، أو ذاك، أن يعبّر عنهما بالصيغة التي يريد، ويتقدم إلى الأمام في موقعه الاجتماعي، مسلمًا كان أم غير مسلم، عربيًّا أم غير عربي، غنيًا أم فقيرًا. وهو - سابعًا - وأخيرًا مجتمع واقعي، لا يضرب في تيه الأخيلة والأوهام، ولا يحلم بعالم مثالي، وهو قاعد مستريح، ولكنه يسعى إلى تنفيذ مقولاته، على أرضية الواقع، وينسج مصيره، من حيثيات الزمن والمكان، ويستند إلى ما هو كائن، من أجل صياغة ما سيكون، ويعيد تشكيل معادلات الحياة، من الأرقام اليومية المنظورة، التي يتعامل معها، صباح مساء، لكي ما يلبث، أن يتجاوز القيم المحدودة، لهذه الأرقام، صوب قيم أكبر، وأغنى، وأكثر امتدادًا. ومن أجل هذا يضرب المجتمع الإسلامي جذوره في أعماق الأرض، ويقدر في الوقت نفسه، على أن يمدّ فروعه السامقة، إلى أعالي السماء. |
( 4 ) هذا عن الخطوط الرئيسة، لملامح المجتمع المسلم، فماذا عن التفاصيل؟ ماذا عن (تصوّر) هذا المجتمع في قلب القرن العشرين، أو الحادي والعشرين، حيث الانفجار المشهود، على كافة المستويات، العلمية، والفنية، والعمرانية، والترفيهية، وسائر ما يهم مجتمعًا ما، من المجتمعات في حياته اليومية؟ إنها صورة وضيئة يقينًا، ومنطقية بكل تأكيد، ما دام أن المجتمع الجديد يتحرك على تلك الخطوط العريضة، التي عرضنا لها بإيجاز شديد. إن المجتمع الجديد سيقبل، كل ما ينسجم وهذه الخطوط، من معطيات الحضارة الراهنة، ويرفض كل ما يرتطم بها، أو يتعارض معها.. ابتداءً .. إن لدى قياداته ومؤسساته،وأفراده، مقاييس، ومعايير، وموازين، وضوابط فكرية، وروحية، وعقيدية، ومادية، تمكنهم من أداء مهمة النقد، والاختبار، والتمحيص، والفرز، والانتقاء، دونما صعوبات، أو عقابيل، لكي ما يلبثوا أن يقولوا كلمتهم، في جلّ ما تطرحه هذه الحضارة، أخذًا وتقبلاً، وهضمًا، وتمثلاً، أو رفضًا، واستبعادًا، وإنكارًا وصراعًا.. إن معطيات هذه الحضارة، غزيرة كثيفة، وهي تزداد مع الأيام بانفجار مشهود، يأخذ صيغة متوالية هندسية.. لكن ملاحقة هذا العطاء الغزير، وفرزه والتأشير عليه، لاتخاذ موقف منه، ليس مستحيلاً، ما دام المجتمع المسلم يملك - كما قلنا - معاييره الخاصة، وما دامت عقيدته وسوابقه التاريخية، تعلمه ألا ينغلق، أو يتشنج، إزاء معطيات الحضارات المختلفة، بل أن ينفتح، ويتحرر، ويتعامل مع معطياتها، بأكبر قدرٍ من المرونة، ورحابة الصدر، وانفساح النظر.. وهكذا فإن الرفض التقليدي، لمنجزات الحضارة الراهنة، ملغيُّ من الحساب، والتقبّل الكامل لها، ملغيّ من الحساب كذلك.. ويبقى ثمة طريق واحد، يتوجب وضعه في الحساب، لكنه طريق عريض، واسع، مرن، قدير على تحقيق أقصى درجات الفاعلية والعطاء: إنه طريق الانتقاء العقيدي، المستمد من معايير الإسلام، وقيمه، وموازينه. وعلى هذا فإن المجتمع الجديد، سيشهد الكثير، مما تشهده، وتمارسه المجتمعات الأخرى، وسيكيّف الكثير، من الممارسات الأخرى، وسيعيد تركيب الكثير الآخر، بما ينسجم ورؤيته للحياة، وسيرفض، ويلغي من الحساب، الكثير أيضًا.. ليست سواءً.. معطيات الحضارة المعاصرة هذه، والموقف إزاءها يتوجب ألا يكون متخشبًا، أو متشنجًا، ولا اعتباطيًّا عشوائيًّا.. ويجب أن نضع في الحسبان دومًا، هذا المقياس الحاسم: إن معطيات هذه الحضارة، ذات شقين رئيسين، أحدهما، يمثل فلسفتها، وآدابها، وفنونها، وأذواقها، وعاداتها، وتقاليدها، ونظرتها للحياة والوجود.. أي (ثقافتها) بشكل عام، والآخر يمثل علومها الصرفة، والتطبيقية (التكنولوجية)، وإنجازاتها التجريبية، ومناهج بحثها وتخطيطها.. أي (مدنيتها) بشكل عام. في الأولى يتوجب الحذر، لأن نقاط الارتطام، تكمن ها هنا: في فلسفة الحياة،والموقف من الوجود، والعالم، والكون.. وفي الثانية يتوجب الانفتاح والأخذ، لأنها بمثابة عطاء محايد، يمكن أن يوظف لصالح هذا الموقف أو ذاك. لقد فعلتها اليابان، بشكل أو آخر، وفعلتها الصين، بدرجة أو أخرى.. ولكننا لم نفعلها لحد الآن، فضاعت مجتمعاتنا، في العالم، ولم يتبق لدينا أية شخصية، أو حيثية، أو هوية.. إن المجتمع المسلم، إذن، سيناقش الحساب مع الحضارة الغربية، في شقها الأول، ولكنه سيسارع في الأخذ والاقتباس في دائرة الشق الثاني.. في المجتمع الإسلامي، نشهد جلّ المؤسسات الإدارية، التي تشهدها مجتمعات العالم الحديث، لا كما يتصور السذج أو الخبثاء، من أن التزام الإسلام، يعني العودة إلى بساطة الصحراء، وتسطحها.. إن هذا التصور يثير سخرية أي مسلم، حتى ولو امتلك الحدّ الأدنى من فهم متطلبات دينه، وبداهات عقيدته. في المجتمع الإسلامي، نشهد كافة المؤسسات، والأجهزة الاقتصادية: صناعية، وزراعية، وتجارية، ومالية (حتى)!! في المجتمع الإسلامي، نشهد جلّ الأجهزة السياسية، والقانونية، والدستورية.. في المجتمع الإسلامي، نشهد كافة المؤسسات التعليمية، والتربوية.. في المجتمع الإسلامي، نشهد كافة المؤسسات الإعلامية، والثقافية، بما فيها الصحافة، والإعلان، والإذاعة، والتلفزيون، والمسرح، والكتاب، والسينما (حتى)!! ولكن أيًّا من هذه المؤسسات، والأجهزة، والنظم، لن تعمل فوضى، وعلى غير هدى.. كما أنها لن تكون مسخًا للصيغ، التي تعمل بها في إطار الحضارة الغربية العلمانية، أو المادية المعاصرة.. إنها - مرة أخرى - أدوات حيادية، والمجتمع الإسلامي، سيعرف كيف يسمها بفلسفته ورؤيته، ويوظفها لتحقيق أهدافه، وتنفيذ مطالب دينه وعقيدته.. وعجيبة - إذن - فكرة الرجوع إلى بساطة الصحراء وتخففها.. إنها تذكرني بذلك السائح الغربي الساذج، الذي زار بغداد، قبل عشرين سنة أو ثلاثين، وهو يحمل خيالاته الرومانسية عن أيام (ألف ليلة).. ودخل شارع الرشيد، فإذا به يجد عمارات، بدلاً من الخيام، وأسواقًا حديثة، بدلاً من القيصريات، وسيارات بدلاً من الجمال!! إن مطالب الحياة المتطورة، وتعقيداتها المستمرة، وتراكم معطياتها الحضارية، جعلت الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ينظم الأعطيات، ويخطط الخطط، ويدون الدواوين.. ودفعت غيره من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، إلى البحث في خبرات الحضارات المعاصرة - يومها - لاقتباس كل ما يساعد الحياة الإسلامية الناشئة، على التقنين والتنظيم، والتخطيط، من أجل أن تكون أكثر انضباطًا، وبالتالي أكثر قدرة على الفاعلية.. لم يقل أحدُ منهم، ولن يقول: بأن علينا أن نستلهم بساطة الصحراء، وحياة الأعراب، وتقاليدهم، ونحن نتحرك في العالم، لإعادة صياغته من جديد.. بالعكس.. لقد فتحوا صدورهم لكل خبرة أو مؤسسة، أو تنظيم، ما دامت أنها لا ترتطم بتصورهم وعقيدتهم.. بل إنهم، أحيانًا، اضطروا إلى قبول بعضها، رغم ما قد يتضمنه من ارتطام خفيف، إذا صح التعبير، قبلوها (مرحليًّا)، ريثما يتيح لهم الزمن، فرصة تنقيحها، وإعادة صياغتها.. ألم يستعملوا لعقود عديدة، عملات فارسية وبيزنطية، كانت تحمل شعارات جاهلية أو دينية محرفة؟! المجتمع الإسلامي ، مجتمع مؤسسات، ولكنها لن تكون أدوات مضادة للإسلام.. ستوظف بما يخدم أهداف هذا الدين.. والمجتمع الإسلامي، سيشهد مشاركة المرأة في الحياة العامة، لكي تمارس دورها الذي ينسجم وتركيبها، وإمكاناتها، ضمن إطار الضوابط الشرعية.. ولكنها لن تخرج فوضى، وعلى غير هدى، كما تشهد المجتمعات الجاهلية، التي تحولت فيها المرأة إلى أداة رخيصة، للإثارة، ووسيلة تافهة للإشباع، وكأنها سلعة أو إعلان، يستفاد منها لهذا الغرض أو ذاك، وتستهلك هنا أو هناك.. ولكنها لن تكون إلا ذلك الإنسان، الذي كرمه الله وفضّله على كثير ممن خلق.. إن حركة المرأة في المجتمع الإسلامي، مرسومة ومحسوبة، كي لا تميل الشهوات بها، وهي تسعى لاستهلاكها، ميلاً عظيمًا: وقت الخروج.. مدته.. طبيعة العمل.. الزيّ.. أسلوب التعامل مع الآخرين.. مطالب الأمومة، والحياة الزوجية.. ضرورات التركيب النفسي، والفزيولوجي.. وغير هذه الأمور والتفاصيل كثير، مما يحسب لكي يكون مردوده إيجابيًا، لصالح المجتمع الإسلامي ، ولصالح المرأة نفسها في هذا المجتمع.. إنه التحرير للمرأة، لا التعهير لها. إنه انطلاق مبرمج مرسوم، لا تسيبًا فوضويًّا، ونزوات عمياء.. إن المرأة في المجتمع الإسلامي، ستقدم أقصى ما عندها أمّا، وزوجة، وعاملة، وإنسانية في نهاية المطاف.. بينما هي لا تقدم في المجتمعات الأخرى، سوى جوانب محدودة فحسب، من إمكاناتها الفذة المتميزة، التي منحها إياها لله.. وسيشهد المجتمع الإسلامي ، وإذاعات مسموعة ومرئية، ودور عرض سينمائي، وملاعب، وحدائق، ونواد، ومتنزهات.. وغيرها من مؤسسات الترفيه، والتوجيه، والتربية.. هذه جميعًا ستكون موجودة، وربما ستزداد عددًا، ما دامت ستعمل في إطار التصوّر الإسلامي، تثقيفًا، وتوجيهًا، وتربية، وترفيهًا.. وما دامت ستوظف لتعزيز قيم المجتمع الجديد، وهزّ الثقة، والتعاطف، مع معطيات وقيم الجاهليات المعاصرة كافة.. لقد قام الاتحاد السوفييتي، بعيد نجاح ثورته، باعتماد وتوظيف سائر الأجهزة والمؤسسات المذكورة، من أجل تعزيز فلسفته، ونشر قيمها، وتوضيح أهدافها.. لم يرفض منها شيئًا، بحجة أنها معطيات بورجوازية.. لقد رفضت الصين فيما بعد، بعض الطرائق والصيغ البورجوازية، التي اعتمدت في تلك المؤسسات.. أما المؤسسات والأجهزة نفسها، فإنها كانت، وستظل إمكانات حيادية، يمكن أن تمنح الكثير.. فالموقف، الذي يجزع له كثير من المسلمين، من الذين يتصورون المجتمع الإسلامي، وقد صفيت فيه هذه المؤسسات كافة، فليس ثمة دارُ للسينما، ولا برامج تلفزيونية، أو ملاعب، أو متنزهات.. ليس ثمة إلا الجد وحده.. يحتاج إلى مراجعة. وإذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم ، يطلب منا، أن نروّح على أنفسنا ساعة بعد ساعة، لأن القلوب إذا كلّت عميت، وإذا كان كتاب الله سبحانه، ينادينا أن نتزين عند كل مسجد، وفي ألصق ما يخص الروح، ويبعد عن المظاهر.. فما بال جماعات من المسلمين، يريدون أن يحرّموا ما أحلّ الله، ويعيدوا وضع الإصر في أعناق المسلمين، والأغلال في أيديهم، وأرجلهم، بعد إذ حررهم هذا الدين منها!؟ والحديث عن الزينة، يقودنا - أخيرًا - عبر هذا العرض الموجز، إلى المكانة الكبيرة، التي تحتلها القيم الجمالية في الموقف الإسلامي، وبالتالي في (تطبيقات) وحياة المجتمع الإسلامي.. لقد شكلت الجوامع - على سبيل المثال - مهرجانًا معماريًّا، يثير الإعجاب، عبر التاريخ الإسلامي، ومثلت إضافة كبيرة، لفنون العمارة في العالم.. فإذا كانت دور العبادة، قد فتحت صدرها، لتقبل أحدث الابتكارات والصيغ في ميدان المعمار، فلا ريب أن سائر الأبنية والعمائر الأخرى، لا تتناقض في متطلباتها الجمالية، مع مقولات مجتمع، يحكمه الإسلام ، بل العكس: إن الجمال والزينة، والتنسيق، والأناقة، والنظافة.. لهي بعض من أبرز قيم الحياة الإسلامية، ومساحات أصيلة، في واجهتها المتألقة.. فلا يتصورون غبي، أو خبيث، أن قيام المجتمع الإسلامي، يقتضي بالضرورة اختفاء العمارات الجميلة، وتسوية ناطحات السحاب بالتراب،والاستعاضة عنها بالخيام، ودور اللبن والطين.. إن المدينة الإسلامية، ليتوجب أن تكون من أجمل المدن.. وإن القيم الجمالية الإسلامية، لتجد فرصتها هناك، في تصميم العمائر، وصيغ الديكورات.. وإن المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ، لتفخر بكونها قدمت الكثير في مجال العمارة، وأغنت معطياتها، بحشد من القيم الجمالية.. وهي لا تزال قديرة، بدفعٍ من روح الإسلام، المتعشقة للأناقة والجمال، إلى تقديم المزيد. ( 5 ) صحيح أن ثمة صعوبات وعوائق شتى، قد تقف أمام تنفيذ القيم والمعايير الإسلامية، في المجتمع المنشود… ولكن الإسلام ، عرف كيف يعلم أتباعه - ولا يزال - القدرة على الاستجابة للتحديات، ومجابهة العوائق والصعوبات، واجتياز الحواجز، والموانع والمتاريس.. إنه إذ يشعل في عقولهم وأفئدتهم، شرارة الإيمان: بتفوقهم في العالمين، ووسطيتهم في قيادته، وتميزهم - بالكفر الذي يحملون وحده - على العالمين.. يمنحهم من الطاقات الخلاقة، ما يمكنهم من أداء المهمات المطلوبة.. وزيادة.. لقد وصفوا بأنهم: (يسارعون في الخيرات)، وأنهم: (لها سابقون).. والحياة الدنيا حلبة سباق.. والمؤمن الجاد، هو الذي يسعى دائمًا، ليس للفوز وحده، ولكن لتحطيم الأرقام السابقة، وتسجيل أرقام قياسية جديدة، كسبًا لمحبة الله، وتقربًا إليه.. ثم إن المستقبل يتكون لصالح تجربة الإسلام الاجتماعية.. ما ثمة ريب في هذا.. وإننا لنلمح في (وضع العالم الراهن، تيارين ينحدران صوب المستقبل، وتزداد روافدهما غزارة، كلما توغلا فيه.. وكلاهما يعزز هذه المقولة، ويجعل من قيام المجتمع الإسلامي، ضربة لازب، في يوم قريب أو بعيد.. فهنالك، في التيار الأول، تراكمات الفشل والخيبة، والمرارة، التي عانت منها، ولا تزال، المجتمعات الجاهلية.. إلى الحدّ الذي دفع بأبنائها أنفسهم إلى المناداة بضرورة تجاوز المحنة، بالبحث الجاد عن البديل.. وقد أشار بعضهم إلى البديل، فسماه باسمه حينًا، وكنّي عنه حينًا آخر.. ولم يستطع آخرون أن يحددوا ملامحه، ولكنهم مصرّون عليه.. ولن يكون هذا البديل، من خلال مواصفاتهم وأمانيهم، سوى الإسلام.. لن يتسع المجال، لتحليل أبعاد الفشل، الذي تعاني منه مجتمعات اليوم، ولا صنوف الخيبة، التي تأخذ بخناقها، ولا طعوم المرارة، التي تملأ حلوقها، وقد سبق وأن تناولنا هذه المسألة بالتفصيل في غير هذا المكان. ولكننا هنا نكتفي بالإشارة إليها فحسب، باعتبارها إحدى رافدين سيعينان، على إنجاح التجربة ويؤكدان حتميتها.. أما الرافد الآخر، فيتمثل في معطيات العلم ومناهجه، تلك التي تؤكد يومًا بعد يوم، ووفق أشد الطرائق (تجريبية) و (اختبارًا) حقيقة الألوهية، وتوحدها، وصدق المقولات، التي جاء بها الدين الأخير.. تؤكدها بلسان الحال حينًا، وبلسان المقال أحيانًا.. وإنها لشهادة قيمة حقًّا، لأنها تصدر عن أبناء مجتمعات الإلحاد والعلمانية، ولأنها تنبثق عن الأبحاث الميدانية والمختبرات.. إن هذا الرافد سيمثل في عصر العلم والتجريب، ضمانة من أهم الضمانات، في طريق التحقق بتجربة المجتمع المنشود.. لقد قالها كتاب الله من قبل: (سنُريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )(فصلت:53)، وقالها: (بل كذبوا بما لم يُحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله )(يونس:39).. واليوم يؤكد الرافدان صدق التحليل القرآني، إن المجتمعات المعاصرة ترى بأم أعينها: الخراب والتفكك، والدمار، الذي يعمل في نفوس أبنائها، ثم ما يلبث أن يمتد، لكي يلفّ العالم كله.. وهي في الوقت نفسه، بدأت تحيط (علمًا)، بما كذبت به من قبل عشرات الأجيال.. |
المعادلة بطرفيها ( 1 ) بعض الناس، وهم يجادلون في قضية العقاب والثواب، يشيرون إلى "أديسون" الذي أنعم على البشرية بالإنارة الكهربائية، فأخرجها من الظلمات.. أو بغيره من المكتشفين والمخترعين، الذين قدمت كشوفهم ومخترعاتهم للإنسان، أجل الخدمات، في العديد من جوانب الحياة.. فيذكرون - على سبيل المثال أيضًا - اكتشافات باستور، أو كوخ، أو تيسر المخدّر، والأمصال، والبنسلين، للمرضى والبائسين، ثم يثنون عطفهم قائلين: ليس من المعقول، أن يدخل هؤلاء الروّاد النار، بينما يساق إلى الجنة، حشود من الهمل والدراويش، الذين لم ينفعوا أحدًا من خلق الله. والجواب: إن المسألة ليست على هذا القدر من التبسيط، ولكنها مركبة تتضمن أكثر من وجه. إن القرآن الكريم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تضع المعادلة بطرفيها، وبشكل واضح حاسم، لا غبش فيه، ولا جدال: الإيمان، والعمل الصالح.. فلا جدوى من الإيمان بدون عمل صالح، ولا قيمة للعمل الصالح بدون إيمان. هذه القلة المبدعة، من المكتشفين والمخترعين، لا يستطيع أحد، أن يجزم بأنهم لم يكونوا في حقيقتهم مؤمنين، والذين يرجح أن تكون عقولهم الكبيرة، ونفوسهم المرهفة، ونزعتهم الإنسانية، وتعاملهم مع حقائق الكون والعالم، قد قادتهم ليس إلى الإيمان فحسب، بل إلى التوحيد، وإنكار خرافات الشرك والتثليث النصراني، الذي لا يستقيم، ومعطيات العقل والوجدان.. ولقد أعلن بعضهم عن قناعته هذه، وصمت بعضهم الآخر، لسبب ما، لكنه ظلّ، مع نفسه، صادقًا، إزاء الحقيقة الكونية الكبرى، متمثلة بوحدانية الله سبحانه. ويكفي أن نرجع إلى كتاب: (الله يتجلى في عصر العلم)، الذي حرّره هوتسما، لكي نتابع عشرات، من العلماء الغربيين المتفوّقين، في حقول العلوم المختلفة: الطبيعة، والكيمياء، وعلوم الحياة، والجيولوجيا، والرياضيات، ونرى كيف يقود التعامل المتألق مع الحقائق العلمية، أصحابه إلى ساحة الإيمان والتوحيد، ويدفعهم إلى إنكار خرافات الشرك، والوثنية، والتثليث. ولعلّ من المفيد - كذلك - الإشارة هنا، إلى أحد أقوال أديسون نفسه، في هذا السياق: "إني أبحث عن الحقيقة.. وقد تقدّمت في مضمارها تقدمًا كبيرًا، خصوصًا فيما يتعلق بالعالم الآخر، والحياة، بعد الموت، وإني أقرّ، بأنه لا بدّ وأن تبقى الروح، وتحيا بعد انفصالها عن الجسد…". إذا استثنينا تلك القلة المبدعة، وانتقلنا إلى السياقات البشرية العامة، الأكثر عرضًا وامتدادًا، في واقع المجتمعات الغربية، فإننا سنجدها تعمل العمل الصالح، ولكنها لا تملك الإيمان، في الأعم الأغلب، ولذا نراها تتعذب في الدنيا قبل الآخرة، هذا العذاب، الذي يعبر عن نفسه، بصيغ القلق، والتأزم، والتشتت، والتمزق، واليأس، والانحراف، والجريمة، التي تبلغ أقصى حالاتها بقتل النفس، إلى تزداد منحنياته في الحياة الغربية، يومًا بعد يوم. وبمجرد أن يرجع المرء إلى آداب القوم وفنونهم، إلى فكرهم وفلسفتهم، إلى إعلامهم المسموع والمرئي والمقروء.. إلى آخره.. فإنه سيجد بأم عينيه حشودًا من مفردات هذا العذاب اليومي، لمجتمعات تعمل العمل الصالح، لكنها لا تؤمن بالله! ثم إن علينا أن نتريث لحظات، لتفحّص تعبير كهذا: "العمل الصالح"، فمن قال: إنهم يعملون صالحًا، بكل ما يتضمنه الصلاح من معنى؟ فمن إذن استعمر بلادنا، وسامنا سوء العذاب، عبر أكثر من قرنين؟ من استنزف ثرواتنا، ودمر قدراتنا، وصدّنا عن المضي في طريق التقدم الحقيقي، للتحقق بالحدّ الأدنى من الحياة الملائمة للإنسان؟ من أعلن الحرب على ديننا، وسد كل الطرق والمنافذ لكي يرجع ثانية، فيصوغ الحياة الإسلامية، ويشكلها، ويقودها، ويجابه بها العالم؟ من بنى جوانب كبيرة من تقدّمه المادي، وسعادته الاجتماعية، وتفوقه، ورفاهيته، على حساب قدراتنا وإمكاناتنا، وسعادتنا، ورفاهيتنا؟ من لا يزال إلى اليوم يجلس إلى الموائد المستديرة، وغير المستديرة، لكي يرسم الخطط من أجل الاستمرار في الهيمنة 0 غير المعلنة 0 على عالمنا المنكود، ونهب ثرواتنا المهدورة، وتدمير مستقبلنا المنشود، ومنعنا من اختيار العقيدة، التي تمنحنا المكان المناسب في خرائط العالم؟! أي عمل صالح، وهو يزن بميزانين، ويكيل بمكيالين، فيكون عدلاً مستقيمًا في دائرة الحياة الغربية، ويصير ملتويًا معوجًّا، مع الشعوب الأخرى كافة؟ أي عمل صالح، هذا الذي يلتزم منظومة القيم الخلقية، أو بعضها، في الأرض الغربية، ثم هو يضرب بها عرض الحائط، خارج هذه الأرض؟ ثم.. أي عمل صالح هذا، داخل الحياة الغربية نفسها، وهو يزداد يومًا إثر يوم، بُعْدًا عن نقائه، وتجرّده، وإخلاصه، ونظافته، ويرتكس يومًا بعد يوم، في المزيد من الغش، والكذب، والخديعة، والقذارة، والانحناء أمام مطالب المصلحة وحدها، بعيدًا عن أي استشراف، أو ضابط ديني أو أخلاقي؟ ويكفي أن نشير، مجرد إشارة، إلى حشود المفردات السيئة، التي تتزايد في الحياة الغربية، بمعدّل متواليات هندسية، يعلن عنها إعلام القوم صباح مساء: سرقة، واغتصابًا، وابتزازًا ورشوة، وغشًّا، وتبذلاً، وانتحارًا جمعيًّا؟ ويكفي - كذلك - أن نتذكر، ما كانت تتميز به الصناعات الغربية، التي كنا نستوردها، من دقة وإحكام، وإتقان، وما هي عليه اليوم من غشّ، وتدليس، من أجل تعرضها للتلف، بأسرع وقت، والاضطرار - من ثم - إلى استيراد المزيد لتحقيق المصلحة الصرفة للمنتج الغربي. وغير هذا، مما لا يتسع المجال لمجرد الإشارة إليه، بحيث إن العمل أو الإنجاز الغربي، يفقد صلاحه يومًا بعد يوم، بكل المقاييس الدينية والأخلاقية، والفنية الصرفة. وثمة ملاحظة أخرى: إن الإبداع الغربي، لم يتوجه في معظم الأحيان، وبشكل موضوعي عادل، إلى البشرية عمومًا، بل إنه اقتصر على فئات محدودة من الغربيين أنفسهم.. وهكذا فإن صراع الطبقة العاملة في الغرب، يمثل رفضًا وإدانة لهذا الإبداع، لأنه احتكر لفئة معيّنة؛ ليس هذا فحسب، بل إنه وجه في كثير من الأحيان لإلحاق الظلم والأذى، والاستغلال، ليس لأبناء الجلدة من الفقراء، والكادحين فحسب، بل لعديد من الشعوب المستضعفة، التي لا تملك القدرة على الردّ المتكافئ، فاستعمرت، واستنزفت ماديًّا، وبشريًّا، وحضاريًّا.. وبعضها أبيد، أو شرّد في الأرض بالتفوق الغربي، ولصالح الرجل الغربي، وليس (الإنسان). ( 2 ) إن "الصلاح" ليس مسألة نسبية، ولا مزيجًا من المفردات المفككة، لكي يتم اختيار بعضها، وإهمال بعضها الآخر، إنه قضية كلية، ونسيج متوحد، ترتبط خيوطه وتتداخل، تداخل السدى واللحمة، في نسيج القماش، بحيث إنه يتم التعامل معه كلاًّ، وإلا تعرض للتمزق، وانفتح فيه العديد من الثغرات، التي يتسرب منها الفساد، ثم ما تلبث أن تأخذ بالاتساع، لكي تصير الثغرة خرقًا، ولكي يمتد الخرق، فيأتي على النسيج كله. إن هذا هو ما حدث في كل الحضارات والمدنيات السابقة، فأتى عليها من القواعد، بغض النظر عن المدى الزمني، الذي يستغرقه الانهيار، وهو التحدي ذاته الذي يجابه الحضارة الغربية اليوم، وعلى مدى المستقبل المنظور. فليس - إذن - عملاً صالحًا، ذاك الذي لا يتجذّر في الإيمان بالله، ولا يحرص على إنسانية الإنسان، ولا يملك رؤية شمولية، تنطوي على كافة مفردات الصلاح، في الخبرة البشرية، بدءًا من الجوانب المادية الصرفة، وانتهاءً بآفاق الروح، مرورًا بمنظومة القيم الخلقية كافة. والعمل الصالح، بناءً على هذا، يمتد باتجاهين، لكي يتحقق له الصلاح: اتجاه عمقي، عن طريق تجذّره في العقيدة، وتعامله مع الإنسان، وليس نسبيات المنافع القريبة، والمصالح العادلة، والأهواء المتقلبة. واتجاه أفقي، عن طريق امتداده لكي يشمل بالإتقان والإحسان، سائر الخبرات والممارسات البشرية، المادية، والاجتماعية، والأخلاقية، والروحية على السواء. ( 3 ) والشرقيون - اليوم - يملكون الإيمان - ولو وفق مواصفاته ومطالبه الدنيا - ولكنهم، لا يملكون العمل الصالح، بخصائصه التي ألمحنا إليها، ولذا نراهم يذلّون ويستغلون، ويستعبدون، ويهانون.. بل ينفون من الأرض، ويشردون في الآفاق. ولا بد - كرة أخرى - من التقاء الحدّين، للتحقق بحياة فاضلة سعيدة، متوازنة. وبمجرد نظرة سريعة على آيات كتاب الله، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، يستطيع المرء، أن يضع يديه على حشود الشواهد القرآنية، والنبوية، التي تؤكد هذه الحقيقة، وأنه بدون توافر الشرطين، لن يكون هناك انتصار لعالم الإسلام، ولن يكون بمقدور العقيدة، أن تجابه التحديات والضغوط، بمعزل عن عوامل القوّة المنظورة. وإننا لنلمح هذا، ليس فقط في تأكيد القرآن والسنة على معادلة الإيمان، والعمل الصالح، بل في تلك الدعوة المؤكدة، المستمرة، على ضرورة اعتماد القدرات المادية، التي يزخر بها العالم المحيط بنا، والتنقيب عنها، والكشف عن أسرارها وقوانينها من أجل حماية المطالب العقائدية، لهذا الدين، وحماية المنتمين إليه بالتالي، بل من أجل حماية وضع الإنسان المتفوّق في هذا العالم. والعمل الصالح المطلوب في الإسلام، ينطوي على الإتقان والإحسان، فيما علمنا إياه، وألزمنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ،: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً، أن يتقنه"، أي أن يحسن أداءه، وصنعته، وإخراجه، وممارسته.. الخ، وهو الأمر الذي ضيعناه في عصور تخلفنا الحضاري، بينما تشبث به الغربيون، زمن تأسيس حضارتهم، ونموّها، فاحتلوا مواقع الريادة، والقيادة العالمية، عبر القرون الأخيرة. إن العمل الصالح إتقان، وإبداع، وإضافة، وإحسان، لصالح الجماعة المسلمة، والبشرية عمومًا، وهو عندما يتجذّر في الإيمان، يصير من أشدّ القربات إلى الله سبحانه، ولقد وصف القرآن الكريم المؤمنين بأنهم: (يسارعون في الخيرات) وأنهم: (لها سابقون)، فأضاف إلى البعد الإبداعي بعدًا زمنيًّا يضع الإنسان العامل في مواجهة الزمن.. قبالة حركة التاريخ، كي لا يتأخر أو يتباطأ، فيتخلف عن المسيرة، ويسبقه الآخرون. فهو ليس إذن العمل المتقن فحسب، ولكنه أيضًا العمل الذي يحرص على الزمن من الهدر، ويبتغي اللحاق بالهدف، بأكبر قدر من الشد، والتوتر، والفاعلية. والذين يعدهم الإسلام بالثواب في الآخرة، هم هؤلاء المؤمنين، الذي يدفعهم إيمانهم، بكافة مطالبه وآفاقه، إلى العمل، ويحضهم على أن يكون متقنًا، ما وسعهم الجهد، وعلى أن يسابقوا الزمن، في تحقيق مطالبه، من أجل أن يظلوا في المقدمة دومًا. ولن يكون العمل، الذي يدخل صاحبه الجنة، أو يمنحه ثواب الله، وفق مواصفاته هذه ، مقتصرًا على حقل من الحقول، أو جانب من جوانب الحياة، كما أنه لن يكون بالضرورة عملاً أخلاقيًّا صرفًا، بالمفهوم الشائع، أو اجتهادًا فقهيًّا، أو نشاطًا دعويًّا، أو وعظًا وتربية، وتوجيهًا، وإرشادًا.. إنه قد يكون هذا كله، وقد يمضي لكي يعبّر عن القدرة البشرية المؤمنة في ساحات أخرى، تنقيبًا، وكشفًا، واختراعًا، في أشد الميادين حسية ومادية، ما دام أن صاحبه، يبتغي وجه الله سبحانه، وينفّذ المطالب الملحة للإيمان، ويسعى لخدمة الإنسان، في سعيه لإعمار الحياة، وترقيتها على عين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهكذا شهد تاريخنا الحضاري، أفواجًا من العلماء، في مجالات العلوم الصرفة: الطبيعة، والفلك، والكيمياء، والرياضيات، والجغرافيا، والطب، والصيدلة، والنبات، والحيوان.. والعلوم التطبيقية.. الخ.. جنبًا إلى جنب مع الفقهاء، والدعاة، والمربين، والمرشدين، والوعاظ، والمعلمين، والمفسرين، والمحدثين.. وغيرهم كلهم، كانوا يبدءون باسم الله، وينطلقون باسم الله، وينجزون أعمالهم مطمئنين، إلى أنها ستحسب لهم عند الله في ميزان الحسنات، التي تقربهم من الجنة ، وتبعدهم عن النار! وهكذا أيضًا لم تمارس الكشوف والمنجزات الإسلامية، أي نوع من الأنانية، أو الاحتكار، الذي يحجب حق الاستفادة والمنفعة من هذه الإنجازات، والكشوف، وتركت أبوابها مشرعة على مصاريعها، من أجل أن يأخذ منها من يشاء، ويبني عليها من يشاء، بغض النظر عن جنسه، وبيئته، وعقيدته، ولونه، ودينه، بل بغض النظر عن موقفه المعادي للإسلام، وأهله، وعالمه. إن أخلاقية العمل الصالح، وارتباطها المحتوم بالإيمان، هما في الحقيقة صمامًا الأمان في مناهج وأساليب هذا العمل، وفي صيغ التعامل مع نتائجه، فليس مجرد العمل وحده هو المقياس، وإنما يتحتم أن يكون صالحًا، وكما رأينا، فإن صلاح العمل، لن يتحقق باجتهادات الناس وأهوائهم ومصالحهم، لن يتحقق برؤاهم القاصرة، ومعطياتهم النسبية.. إن مواصفات الصلاح التي تجعل العمل، وجه العبادة الآخر، وتضعه في خدمة الإنسان، لا تتحدد إلا بالمنظور الديني القادم من عند الله سبحانه، وإلا انحرف العمل، مهما غطي بديكورات التجميل والإصلاح، ومضى لكي يخدم هذه الفئة أو تلك، ولكنه لا يخدم الإنسان، ولكي يعين على مزيد من الضلال، والتعاسة للجماعات والشعوب، ولكنه لا يقودها إلى بر الإيمان والسعادة، والتوازن، والأمان. ( 4 ) وماذا بشأن "البسطاء" الذين يدخلون الجنة دون أن يبدو في الظاهر أنهم قدموا عملاً، لا لشيء إلا لكونهم مؤمنين، بينما تكتب اللعنة على (أديسون) و (واط) و (باستور)، وغيرهم من العلماء والمكتشفين والمخترعين لأنهم لم يكونوا مؤمنين؟! ولم لا؟ لم لا يكافأ هؤلاء الناس البسطاء ذوو الصفحات البيضاء والطوية السليمة، والتوجه الخيّر، والقلوب التي تشع نورًا؟ لم لا يكافأ هؤلاء الأطهار الطيبون الذين لا يفعلون إلا طيبًا، ولا يقولون إلا طيبًا، والذين يتوحد في ممارساتهم الفعل، و الكلمة، فلا يعرفون معنى للنفاق، والالتواء، أو الازدواج؟ لم لا يكافأ هؤلاء الذين يلبون نداء الحق أول من يلبي، ويتجمعون، بدافع فطرتهم النقية، وتوحدهم، حول كل نبي أو رسول أو داعية، يدافعون عنه، يوم يلاحقه الكبراء، ويحمونه في لحظات الأذى والعدوان، حين يعتدي عليه الملأ، وتطارده النخبة الممتازة.. ويلثمون حواليه يوم ينفض الواجدون والمترفون ويعزّ النصير؟ إنهم يشكلون نواة كل دين أو دعوة حق، وقاعدتهما التي تزداد اتساعًا يومًا بعد يوم، فتحول الفكرة إلى واقع مشهود، والحلم إلى ممارسة تمنح خيرها للناس. والقرآن الكريم يقف أكثر من مرة عند هؤلاء.. ولآياته البينات تتنزل لكي تتحدث عنهم بمحبة واعتزاز، ولكي تمنحهم الوعد الجميل بالمصير.. ليس فقط لأنهم منحوا حياتهم، ومحضوا وجودهم للدعوة، في لحظات الاجتياز الصعبة، بل لأنهم كانوا يعبّرون بسلوكهم، عن أقصى حالات التوحيد، والتوافق، والانسجام بين الفعل والكلمة.. هؤلاء - أيضًا - أعطوا الكثير، فاستحقوا الأجر الكبير! إننا نقرأ في كتاب الله خطابًا إلى رسوله الأمين عليه أفضل الصلاة والسلام: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيءٍ وما من حسابك عليهم من شيءٍ فتطردهم فتكون من الظالمين * وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين * وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفورُ رحيم. وكذلك نُفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين )(الأنعام: 52-55)، ونقرأ: (عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدّى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى * كلا إنها تذكرة )(عبس:1-11)، ونقرأ: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرًا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين * قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون * ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قومًا تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني مَلَكٌ ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرًا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين )-(هود:27-31)، ونقرأ: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا )(الكهف:28). ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان عبر حياته جميعًا صديق هؤلاء البسطاء الكادحين.. كان أخاهم الكبير.. يحبهم ويحبونه، ويربّت على أكتافهم بحنان، وهم يقفون بين يديه مسلّمين، مخلصين، تغمر وجوههم البسمة الحانية، وقلوبهم الودّ والفداء. من أجل هذا تحدث عنهم قائلاً: "ربّ لأشعث مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره". وإذا كان منطق العدل يقتضي مكافأة كل مؤمن يعمل صالحًا في النسيج الاجتماعي، أيًا كان موقعه في هذا النسيج، بالجنة التي وُعد بها المتقون العاملون، فإن هؤلاء أيضًا، وبضرورات المنطق نفسه، يستحقون الوعد ذاته، لأنهم - مع إيمانهم العميق - عملوا ما وسعهم الجهد من أجل ما آمنوا به واعتقدوه. ولنتذكر أنه فيما بعد مرحلة التأسيس النبوي للدعوة والدولة، وكان هؤلاء البسطاء قاعدتها، وجندها، فيما بعد حيث بدأ الخلفاء الراشدون (رضي الله عنهم) تنفيذ مرحلة عالمية الإسلام، كما أراد منهم الرسول صلى الله عليه وسلم، أصبح هؤلاء البسطاء الذين تدفقوا على أطراف العالم القديم من كل مكان في جزيرة العرب، الخامة البشرية التي نفّذ بها قادة الفتح مهماتهم الصعبة، والجند الذين استجاب - بهم - أولئك القادة تحديات القوى التي تفوقهم كثيرًا، بالمقاييس المادية، لكنها هزمت بقوة العقيدة التي التقى على مطالبها القادة والجند معًا بكل ما تتطلبه من شجاعة، وتضحية، وإيثار، وفدائية، واندفاع غير وجل، ولا متردد، إزاء الأهداف التي تنتظرهم في كل مكان. لقد لبى هؤلاء البسطاء نداء الفتح منذ اللحظات الأولى، وما كان بمقدور القيادات الإسلامية، على تألقها وتفوّقها وفدائيتها، أن تصنع شيئًا لولا هؤلاء الجند الذين شكلوا عصب الحركة وحولوا مطالبها إلى واقع منظور. وفيما بعد، وعبر المسار الطويل للتاريخ الإسلامي.. عبر جلّ التحديات التي شهدها عالم الإسلام، والضغوط التي مورست ضده.. وقبالة كل الهجمات التي شنها الخصوم.. كان هؤلاء (البسطاء) يشكلون الخامة الأساسية في خط الثغور، وبأذرعهم قدر هذا العالم على الدفاع عن أراضيه، والتوسع والامتداد في ديار الخصوم والأعداء. وبالمقابل فإن الذين يكتفون بالوقوف عند حافة الإيمان دون أن يمارسوا فعلاً أو عملاً أو تغييرًا مما يتطلبه الإيمان.. أو الذين يعملون على غير هدى، أو هدف، أو بيّنة مما يتطلبه الإيمان الذي يستهدي بهدي الله ويستهدف حياة نظيفة، طهورة، عادلة، تليق بالإنسان.. هؤلاء وهؤلاء لا يستحقون الوعد، لأنهم لم يتحققوا بطرفي المعادلة التي لا تستقيم بدونها حياة.. وما دام هؤلاء (البسطاء) قد آمنوا، واقترن الإيمان عندهم بالعمل الصالح، فما لنا نحكم عليهم بالطرد ونلاحقهم باللعنة لكونهم لم يبلغوا في عطائهم ما بلغه (وات) و (أديسون)؟ وإذا كانت شبكة الظروف والتأثيرات البيئية قد رفعت بعض الناس إلى القمة، ووضعتهم في خط المتفوقين، ومكّنتهم من الريادة والاكتشاف، فإن غيابها عن القواعد البشرية العريضة لا يقتضي نفيها من دائرة التقويم، ما دام أنها تؤمن وتكدح وتنتج كل حسب قدرته التي أتيحت له. لقد أدرك فلاسفة التاريخ وعلماء الاجتماع الدور الخطير الذي تمارسه هذه الجماعات البسيطة التي تتحرك في أسفل السلم الاجتماعي؛ وحدثنا (أرنولد توينبي) في تفسيره الحضاري للتاريخ عن الأكثريات المتبعة، والأقليات المبدعة، وعن أن حضارة ما، لا تأخذ سبيلها إلى التحقق ما لم يتم التواصل بين القطبين، فتتلقى الأكثريات المتبعة معطيات الإبداع، وتؤمن بها، وتتبناها، وتنفذها في أرض الواقع، وتنشرها في الآفاق.. أما (كارل ماركس) فقد مضى، بإلحاحه المعروف، وتعميماته المبالغ فيها، إلى إلغاء دور النخبة وعلّق الفعل التاريخي على أكتاف الجماهير الكادحة وحدها. وفي كل الأحوال، تظل كلمات الله سبحانه، وتعاليم رسوله صلى الله عليه وسلم ، الشاهد العدل على ما يفعله هؤلاء، وهؤلاء: أولئك الذين يتربعون القمة، أو يتحركون عند السفوح، وتظل الحكم العدل الذي يمنح المصير المناسب لكل الأقطاب، شرط أن تتحقق - الأقطاب - بطرفي المعادلة: الإيمان والعمل الصالح، وإلا فإنه باطلٌ إيمانهم وعملهم إن لم يلتقيا ويتعاشقا من أجل تنفيذ كلمة الله في هذا العالم: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله)-(المائدة:5)، (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون )(الأنعام:88)، (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم )(الأعراف:147)، (أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم )(الأحزاب:19)، (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم )(البقرة:62)، (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )(المائدة:69)، (وأما من آمن وعمل صالحًا فله جزاءً الحُسنى)-(الكهف:88)، (وإني لغفّارُ لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى )(طه:82). ( 5 ) ودائمًا تظل الرؤية أحادية الجانب، سواء في تصميم الشرائع، أو التعامل معها، مرفوضة، علمًا، ومنهجًا، ودينًا.. مرفوضة - أيضًا - على سائر المستويات النفسية، والاجتماعية، الذاتية، والموضوعية، وأقل ما يقال فيها: إنها تُسطح الظواهر وتتعامل معها من جانب واحد، فتفقد صاحبها - بالتالي - القدرة على متابعة الطبقات الأعمق، والأوجه المتعددة للظاهرة.. إنها تحجم للرؤية، وانحراف بها يجعلها تفقد الكثير من الطبقات عمقيًّا، والأوجه أفقيًّا، ومن ثم فإن أحكامها لا تعدو أن تكون أحكامًا جزئية ناقصة لأنها تقوم في الأساس على رؤية جزئية منقوصة. |
وقفة للنقد ( 1 ) ما من شك في أن نصف القرن الأخير كان فترة من أخصب الفترات في تاريخ الفكر الإسلامي، وبعبارة أدق: في تاريخ الكتابة والتأليف عن الإسلام من قبل (الإسلاميين) أنفسهم، وقد لمعت في هذه الفترة أسماء متميزة أغنت المكتبة الإسلامية بعطائها المتدفق الموصول، إلى جانب حشد من المؤلفين من أصحاب الكتاب الواحد أو الكتابين والثلاثة.. وما من شك - أيضًا - في أن أهم ما تميزت به جل معطيات هذه الحقبة الحديثة من الزمن هو (التعصير).. أي محاولة طرح القيم والمفاهيم والقضايا الإسلامية من وجهة نظر معاصرة أسلوبًا، ومنهجًا، وموضوعًا.. دون أن تفقد أصالتها أو تبعد بشكل أو آخر، عن أطروحات الإسلام وتصوره ورؤياه الحقة.. وأصبح بمقدور المثقف المعاصر أن يلتقي بالإسلام بالصيغة التي يستطيع أن يفهمها ويتواصل معها، بعد أن كانت أساليب ومناهج القدماء، ومفكري الفترات المتأخرة تصدّه عن التوغل في فهم الإسلام. وكانت تبرز إلى جانب هذه الميزة الأساسية مجموعة من الميزات لا يقل بعضها أهمية عنها، وفي مقدمتها ولا ريب الطابع الحركي لكثير من هذه الكتابات، فهي ليست كتابات فكرية أو فقهية صرفة، وإنما تضمنت الكثير من القيم الحركية واستهدفت تكوين وتربية وتحريك الجماعات الإسلامية، بالفكر الذي ينتمون إليه صوب الأهداف التي آمنوا بها وتعشقوها.. ولا غرو، فإن هؤلاء الكتاب الرواد هم أبناء الحركات الإسلامية، وقادتها، على مدى عالم الإسلام.. وكانوا يكتبون وهم يعيشون (التجربة) أو يسيرون قريبًا منها على أقل تقدير.. وثمة (الشمولية) التي تميزت بها هذه الكتابات عن معطيات الفترات السابقة التي كانت تحكمها الرؤية التجزيئية حيان.. والشمولية واحدة من أهم عناصر التأليف الحديث أهمية، وأكثرها ثقلاً، وهي جانب أساس في منهج التعامل مع الإسلام، والكتابة عنه، فهذا الدين العظيم الذي منح الإنسان موقفًا إزاء الكون والحياة والعالم، يتميز بالشمول والاستشراف والتوحيد، ويرفض التجزئة، والدونية، والثنائية، ما كان له أن يدرك وفق منهج غير هذا المنهج الذي يلم الجزئيات ويوحد المعطيات ويركب القيم لكي يقدم للناس صيغة الإسلام على حقيقته: ذلك العمل المعماري المتوحد العالي، المركب الذي يتمنع على الفهم الجزئي والرؤى المفككة.. التعصير، والحركية، والشمولية.. تلك هي - بإيجاز شديد - الملامح الأساسية لمعطيات كتابنا الروّاد الذين شقوا مجرى حديدًا في مجال الكتابة عن الإسلام، وأنشئوا مدرسة، لها كيانها المتجدد، ومنهجها الخاص، وطرائقها المتفردة.. فكان ما كان من قدرة تلك الأعمال على (التأثير) و (البناء)، ومن ضخامة الدور التي أدّته في مسيرة الحركة الإسلامية المعاصرة، استشرافًا، وبرمجة، وتقويمًا، وإغناءًا، وتكوينًا.. وبمجرد أن نتذكر بعض نماذج هذه المؤلفات الحديثة، الرائدة، من مثل: (الظلال)، أو (المعالم)، أو (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، أو (رجال الفكر والدعوة في الإسلام)، أو (الجهاد في سبيل الله)، أو (شروط النهضة)، أو (وجهة العالم الإسلامي)، أو (عقيدة المسلم)، أو (منهج التربية الإسلامية)، أو (جاهلية القرن العشرون)، أو (الفكر الإسلامي الحديث، وصلته بالاستعمار الغربي)، وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره، ومما هو معروف جيدًا بسبب انتشاره الواسع وتأثيره العميق.. بمجرد أن نتذكر هذه النماذج، فإننا سنعرف حجم الدور الذي لعبته كتابات هؤلاء الرواد، وهو حجم كبير إن على مستوى التقاليد المنهجية التي أرساها هؤلاء، أو على مستوى البناء الحركي الذي كانت هذه المؤلفات بالنسبة إليه بمثابة الهادي، والموجه، والدليل.. ولكن ماذا عن الجيل التالي من الكتاب الإسلاميين الذين حملوا الأمانة، وواصلوا المسيرة وهم يجدون أمامهم طريقًا معبدًا إلى حد كبير؟ ماذا عن الجيل التالي الذي وازى بعضه في بداياته عصر الرواد، وامتد بعضه الآخر عبر السنين التالية يكتب، ويؤلف، ويواصل المشوار؟ الحق إن المكتبة الإسلامية شهدت على يدي هذا الجيل، إغناءً متزايدًا في محتوياتها، وأخذ سوق الكتاب الإسلامي عبر العقد الأخير يشهد ما يمكن أن يكون متوالية هندسية في حسابات (الكم) بحيث أصبح القارئ يحار في أيها يأخذ وأيها يدع.. ومما شجع على اتساع نطاق هذه الحركة التأليفية قيام عدد من دور النشر الإسلامية في أكثر من بلد، أخذت على عاتقها مهمة نشر الكتاب الإسلامي وتشجيعه.. وتخصصت في هذه المهمة وحققت نجاحًا طيبًا كان له دوره الفاعل فيما نحن بصدده من تزايد عدد المؤلفات الإسلامية بشكل يلفت الأنظار. ولا بد - إذن - إزاء هذا التكاثر الذي هو بحد ذاته ظاهرة صحية تملأ قلب المثقف المسلم بالثقة والأمل والاعتزاز.. لا بد من وقفة نقدية تضع يدها على ما يعانيه بعض هذا العطاء من مناقص، وما استمرأه من عيوب إن على مستوى المنهج أو الموضوع.. لا بد من إشعال الأضواء الحمراء على درب الحركة التأليفية كيلا توغل فيما يمكن أن يحمل الفكر الإسلامي ومناهجه بالكثير من الأوهان والأخطاء، ويزيد من عناء القارئ الذي يجد نفسه إزاء هذا العطاء المنوع، المتشعب، الكثيف والذي يتوجب عليه أن يملك معه القدرة المتبصرة على الانتقاء، وإلا غدا وقته وماله عرضة لاستنزاف ليس له أي مردود إيجابي أو إضافة جادة. إنها نقدات متواضعة قد يضاف إليها الكثير فيما بعد، وهو أمرٌ يتوجب على كل مفكر إسلامي أن يسهم فيه في أعقاب كل حقبة.. فبالنقد الهادف المترع بالمحبة والإخلاص، لا الكراهية والمكر، يمكن أن نتعلم الكثير.. نقدات أولية من أجل المؤلف والقارئ على السواء، فكلاهما رصيد ثمين في مجرى الحركة الإسلامية المعاصرة يدفع إلى التقدير والاعتزاز، ذاك بعطائه السخي، وهذا بإقباله الذي ضربت به الأرقام القياسية في ميادين القراءة والاقتناء. في بعض هذه المؤلفات يلمح الإنسان تطرفا باتجاه (الإنشائية).. مئات، بل ألوف من الكلمات والجمل والفقرات، لا توثّق بنص، ولا تعزز بدليل، فيها تبذير واضح في اللغة، وتجاهل لقواعد الاقتصاد والتركيز.. ونحن في عصر السرعة والتكثيف، بأمس الحاجة إلى هذا الاقتصاد، والتركيز لأنه يمنحنا الفكرة، بالعبارة، والعبارتين، بدلاً من هذا التطويل الذي لا يفترس الوقت دون جدوى فحسب، ولكنه يبعث على الملل أيضًا.. والملل هو عدو المطالعة اللدود، وخصمها اللجوج، الذي يعرف كيف ينفّر الناس منها، ويبعدهم عنها.. صحيح أن (الإنشائية) هي ضرب من القدرة على الإبداع، ولكنه إبداعُ ناقص - إذا صح التعبير - إبداعُ مفكك، متراخٍ، سائب الأطراف.. ولا بد من استكماله بالشد والترصين، والتحديد الصارم.. إن المؤلف يتوجب أن يكون مهندسًا.. كل كلمة عنده بمقدار.. وأي تغيير في مواضع الكلمات قد يقلب عمارته الفكرية رأسًا على عقب. وبعض كتابنا - للأسف - يفتقدون الحس الهندسي لأنهم يفرشون تصورهم في أكبر قدر من الكلمات، بحيث أن أي تغيير فيها.. أي حذف أو استئصال، لا يؤثر عليها البتة.. أليس هذا من قبيل التبذير الذي لا مبرر له؟ وفي مقابل (الإنشائية)، وعلى الطرف النقيض الآخر، نلمح عددًا من الكتاب يسرفون في نزوعهم (الأكاديمي) فيقدمون أفكارهم وفق أشد الطرائق تيبّسًا وجفافًا، حتى إن عباراتها وفقراتها لتكاد تتكسر تحت عينيك وأنت تمر عليها.. إنهم يحشدون النصوص من هنا وهناك، ويطرحونها كم هي، لا يزيدون عليها ولا ينقصون.. أين التحليل، والإضافة، والإبداع؟ أين الأسلوب المتميز، واللغة القديرة على التعبير؟ لا يجد الإنسان شيئًا من هذا لأن بعض الكتاب يفقدون هذه القدرات ويختبئون، لتغطية عجزهم، وراء النظم الأكاديمية متصوّرين أن مهمتها تقوم فقط على تجميع النصوص عن موضوع ما، وتنفيذها وفق هذا التسلسل أو ذاك.. لا بد من تحقيق قدر من الوفاق بين الاثنتين: الإنشائية، والأكاديمية.. إذا أردنا عملاً متكاملاً لجذب القراء، ويمكن لفكرنا الإسلامي من غزو الأفكار والعقول والتوغل إلى الأعماق.. إننا - على هذا المستوى، كما هو الحال على أي مستوى آخر - يتوجب أن نتعلم من مدرستنا الكبرى: القرآن الكريم.. فها هنا نجد في آيات الله البينات توازنًا معجزًا بين الشكل والمضمون.. بين الجمال والفكرة.. بين الأسلوب والمعطيات.. وثمة - أيضًا - ما يعاني منه بعض الكتاب، مما يرتبط بالمسألة السابقة أشد الارتباط: إنه افتقاد الرؤية المنهجية أو الحس المنهجي الذي يمنح الكاتب قدرة عفوية على التركيب بين الجزئيات وفق نسق معين للتعبير عن فكرة ما، أو مجموعة أفكار مترابطة، ولتقديم تصور عن مسألة ما، أو مجموعة مسائل متقاربة.. الكلمة تربط بشقيقتها بحسابٍ، والفقرة تلي سابقتها بحساب، والفصل يأخذ مكانه في خطة البحث بحساب، ومجموع الفصول والمباحث، يتم اختيارها وتخطيطها وتأشير حدودها النهائية بحساب.. مهندس معماري - مرة أخرى - هو المؤلف، وما لم يمتلك القدرة على تحقيق التناسب والتناظر والتقابل والتماثل، وملء الفراغ، وتنفيذ التخيّل بأكبر قدر من ا"لأمانة، فإنه قد يقدم عملاً لا يحسد عليه، وبما أنه يبذل جهده في حقل العمل الإسلامي على وجه التحديد، فإنه محاسب على قصوره، وتفريطه.. فإن الله سبحانه يجب إذا عمل أحد عملاً أن يتمه، كما يعلمنا رسولنا عليه الصلاة والسلام.. هناك معضلة تجاوز الإفادة من العلوم الحديثة المساعدة (أو الموصلة)، في ميدان البحث الإسلامي.. تجاوز هذه العلوم ذات الثقل المعلوم، كأن ليس بينها وبين حقائق الإسلام صلة، وكأن ليس في معطياتها ما يعين على تقريب الفكر الإسلامي للعقل الحديث، أو على تعزيز وترصين مناهج البحث في آفاقه الواسعة، وحقوله المتعددة. هل من جدار يقف بيننا وبين الإفادة من هذه العلوم؟ من علم الاجتماع، أو النفس، أو الآثار، أو السياسة، أو القانون، أو الطب، أو الهندسة بفروعها كافة.. من علم الطبيعة، والكيمياء، والحيوان، والنبات؟ من علوم اللغات، والفلسفة والمنطق… إلى آخره؟ أبدًا.. ليس ثمة ما يقف حائلاً دون ذلك.. بل على العكس تمامًا، فإننا نجد في كتاب الله ما يفعنا إليها دفعًا، ويغرينا بها.. فنحن لسنا أبناء الكنيسة التي وقفت بمواجهة العلم، وسعت إلى الحجر عليه، وأعلنته هرطقة وكفرًا.. ولكننا أبناء الدين الذي دعانا كتابه الكريم في عشرات المواضع ومئاتها إلى التفكير في خلق السماوات والأرض، والتنقيب في بنيانهما المعجز، والكشف عن أسراره ونواميسه، واعتمادها لتطوير الحياة، وتحقيق فهم أعمق لهذا العالم.. إن أي بحث إسلامي يتوجب أن يفيد من هذه العلوم التي تعتبر مناهج البحث الحديث مسألة اعتمادها بداهة من البداهات فتسميها بالمساعدة أو الموصلة.. أي المساعدة على البحث والتنقيب والكشف، والموصلة إلى القيم المعرفية، والحقائق العلمية.. فكيف تغيب عن بعضنا مسلمة كهذه؟ إن هذا الرفض غير المبرر، ينعكس ولا ريب على الأبحاث الإسلامية التي تتمخض عنه: هزالاً، وتسطحًا، ورؤية أحادية الجانب، واهتزاز في البناء العلمي، وعدم قدرة في تقديم قناعات على قدر كافٍ من التوثيق.. وتسير بموازات هذا، معضلة أخرى.. إنها رفض متابعة تيارات الثقافة الغربية الحديثة ومعطياتها التي تتمخض باستمرار عن المزيد.. إذا كان بعض الكتاب يرفضون - في الحالة السابقة - اعتماد العلم الغربي، فإنهم ها هنا يرفضون متابعة المعطيات الثقافية أو حتى قراءتها لأغراض الاطلاع فحسب. وإذا لم تكن لديهم حجة هناك أو كانت من الضعف بسبب عدم وجود أي تعارض في الأمر، فإنهم ها هنا يتكئون على حجة قد تبدو في ظاهرها مقنعة، وهي أن العلم الغربي عطاء محايد لا يحمل فلسفة ولا رؤية في معظم الأحيان، فالإفادة منه ممكنة من خلال توجيهه توجيهًا إيمانيًّا صرفًا.. ولكن الثقافة أمرٌ آخر.. إنها فلسفة وموقف، ورؤية، وتقليد اجتماعي، وتعبير ذاتي.. و.. و.. إلى آخره.. إنها جوهر حضارة نقيضة للإسلام.. إنها مزيج من إفراز مادي أو علماني على أحسن حال.. فكيف يتوجب اعتمادها أو الاتكاء عليها خلال التأليف، في هذا الجانب أو ذاك من جوانب الفكر الإسلامي؟ هذا ما يبدو في الظاهر.. ولكن ما وراءه شيء آخر بالكلية.. إنه يتوجب أن نعرف الخطأ لكي نحذّر منه.. ونحدد أبعاد الباطل وأساليبه وصيغه في العمل لكي نتماشاها.. وندرس التيارات المضادة والفلسفات الهدامة لكي نضربها في مقاتلها.. وقبل هذا وذاك، يتوجب معرفة مفردات هذه الثقافة وتفاصيلها لكي نتمكن من اعتماد منهج في المقارنة يمنح دراساتنا وأعمالنا بعدًا إضافيًّا، بعدًا ضروريًّا إذا ما أريد له أن يغزو العقل الحديث، وأن يتحدث إليه، ويحاوره باللغة التي يفهمها، والمعطيات التي يعيشها، ويكتوي بنارها كل يوم.. إن الهروب من جراثيم الفكر التي تفتك بالإنسان وعقيدته ليس حلاً.. والحلّ هو السعي لدراسة عوامل تكوّن هذه الجراثيم وانتشارها وتنامي حيويتها.. من أجل قتلها وتصفيتها وتقديم البديل الذي يمنح الصحة والعافية للإنسان، والسلامة والديمومة لعقيدته.. وماذا بعد؟ إنه التكرار الممل في اختيار مواضيع البحث، والغياب المحزن للتجديد، والريادة، والابتكار.. وقد علمنا الرواد شيئًا غير هذا: البحث عن الموضوع البكر، والتجديد والإضافة والابتكار في مواضيع سبق وأن عولجت، ولكن بأساليب ومناهج أخرى.. ما كان لهم أن يعيدوا القول في موضوع ما، وفق الصيغة نفسها التي سبق وأن عولج بها من قبل باحثين آخرين.. وما كان لهم وهم يكتبون ويؤلفون إلا أن يطلعوا على القراء بجديد لم يسبق لهم الاطلاع عليه، أو إضافة على ما سبق وإن قدم، أو ابتكار لقيم وتصاميم ومعطيات جديدة، على مستوى المنهج والموضوع.. ومن الضروري أن نتشبث بهذه التقاليد، ونحن نجتاز عصر الكثرة.. ونحن ننظر فنجد الباحث أو المؤلف يكتب في موضوع سبق وأن عول عشرات المرات بل مئاتها، دون أن يكلف نفسه عناء التنقيب عن جانب بكر لم يسبقه إليه أحد.. وننظر فنجد الباحث أو المؤلف، وهو يكتب في موضوع ما، قاله الآخرون اجترارًا، وسرده سردًا، دون أن يكلف نفسه جهد الإضافة والابتكار والتجديد.. كثيرة هي الكتب التي تعالج الموضوع الواحد بالصيغة نفسها، وكثيرون هم المؤلفون الذين يعتمدون أقرب طريق، وأسهل طريق، لإنجاز أعمالهم: الرتابة، والتقليد، والتجميع، والسيولة الإنشائية، أو التكديس النصي.. بلا إضافة، ولا ابتكار، ولا تجديد.. إنها إضافات كمية لمكتبتنا الإسلامية المعاصرة، لا تحمل أي قدر من الإغناء النوعي.. فهي لا تعدو أن تكون تبذيرًا في الجهد، وهدرًا للطاقة، ليس هذا فحسب، فهناك أمرٌ آخر: إن هذا التكرار والتكديس الكمي يُخشى أن يقود إلى ردود فعل تتمخض عن القارئ إزاء الفكر الإسلامي بمواصفاته هذه.. وردّ الفعل أعمى كما يقولون، وقد يقود إلى رفض كل كتاب يعالج موضوعًا إسلاميًّا، بكرًا كان هذا الموضوع أم عتيقًا، غني بالابتكار والتجديد والإبداع، أم خالٍ منها، والسبب هي هذه الأكداس التي أغرقت الأسواق، فاستنزفت أموال القراء، وأرهقت عقولهم، وقادتهم إلى ردّ الفعل الملعون ذاك. وأعرف عددًا من الأصدقاء المثقفين، ممن كانوا يتعشقون الكتاب الإسلامي، والقراءة الملتزمة، غادروا عالم المطالعة، وأوصدوا عليه الأبواب، وأعرف آخرين تحولوا لكي يقرءوا فكر الخصوم ومؤلفاتهم.. وتسألهم: لماذا؟ فيرد عليك أولئك بأنهم ملّوا التكرار، الذي قتل شهيتهم للقراءة، ويرد هؤلاء بأنهم قرءوا كثيرًا فلم يجدوا في معظمه ما يثير الفكر، فتركوه ويمموا وجوههم شطر الخصوم، لكي يجدوا لديهم (الأفكار).. من المسؤول عن هذه الخطيئة؟ هناك - أيضًا - تلك (النغمة) التي تتردد في عدد من المؤلفات الإسلامية.. إنها اعتماد منطوق الدفاع عن الإسلام، ودحض الشبهات والمفتريات التي ألصقت به بدلاً من تقديم قيم بنائية من عمارة الإسلام نفسه ذي الأسس العميقة الراسخة والأدوار السامقة التي تناطح السحاب.. وقد تتضاءل نبرة الدفاع، وتتضاءل، حتى تصل حد الاعتذار والعتاب على أيدي أولئك الذين انكسرت همتهم وهزموا من الداخل.. عتابُ لمن؟ واعتذار ممن؟ عتاب للذين داسو - ولا يزالون - على رقابنا.. واعتذار ممن سعوا - ولا يزالون - لاغتيال عقيدتنا ووجودنا.. وقد تشتد النبرة وتشتد حتى تصل حدّ السباب والشتائم وتبادل الاتهامات، واستخدام مفردات قد تتأذى منها لغة الإيمان النظيفة، الملتزمة.. وما لنا نحن ولهذا كله؟ فليقل الأعداء والخصوم ما شاء لهم الغيظ والحقد والتعصب.. وليكيدوا لهذا الدين بشبهاتهم ومفترياتهم ما شاء لهم الكيد.. وحرامٌ على مفكر إسلامي جاد أن يتصدى لهذه الترهات حيث يريدون هم، ويتمنون أن يهتم لها فيمنحها قيمة أكبر من قيمتها، ويسعى إلى انتشارها من حيث لا يريد!! وبدلاً من ذلك علينا أن نكشف عن المزيد مما تضمنه هذا الدين من قيم، ومعطيات لصالح الإنسان ومكانته في الكون.. ومع العرض (البنائي) للإسلام، هجوم منهجي مدروس ضد مواقع هؤلاء الأعداء والخصوم.. ضد أفكارهم وتجاربهم وعقائدهم، وفلسفاتهم لكشفها وتعريتها.. وحينذاك يتبين الذهب من التراب، وتتهافت كل الدعاوى، ولا تبقى أيما حاجة لدفاع يصدر عن ردود الفعل، ويتأرجح بين الاعتذار والسباب!! وليس - أخيرًا - ما يقال من أن الكبت الفكري، وانعدام حرية التعبير في مساحات واسعة من وطننا الإسلامي، تقف بدرجة أو أخرى، وراء الجدب الفكري الذي يعاني منه بعض الكتاب الإسلاميين، لأنها تصيبهم بنوع من الشلل في القدرة على الابتكار، والتجديد، وإطلاق الطاقات المبدعة من عقالها، وتدفعهم دفعًا إلى التسطح والتكرار، واختيار مواضيع لا تحمل أية إثارة.. فلا علاقة - مطلقًا - بين هذا وذاك، بل على العكس، إن هذا الكبت،وذلك القسر، إنما تمثل تحديات مغرية أمام الفكر الإسلامي، وإنه ليتوجب عليه أن يستجيب لها، ويردّ عليها، هناك حيث يكون التحرّر، والمجابهة، والإبداع.. وكلنا يعرف، كيف كانت معطيات رجال من مثل ابن تيمية والعز بن عبد السلام، وابن خلدون.. وغيرهم.. ردًّا على التحدي.. ويعرف قبل هذا وبعده، كيف ولد (الظلال)، ذلك العمل الكبير المبدع، في ليل الطغيان، وكيف خطت صفحاته في سجون الإرهاب، لكي ما يلبث أن يذهب (السجّان)، ويبقى (الظلال)، واحدًا من الأعمال التي صنعت أجيالاً من المؤمنين.. وستظل تصنعها بإذن الله.. |
الاخت مياري اسعد الله اوقاتك وشكرا على هذا الموضوع الشيق جدا والذي تناول العديد من المباحث التي ارى أن القراءة لها يستوجبها وقت كاف ومحاولة لفهم الكثير من المعطيات الوارده للدكتور خليل وانا حقا تستهويني جدا هذه المواضيع التي تضع فلسفة تحليليه في نهج المقارنه والرصد والتوقع والاستنتاج والمعطيات ...شكرا مياري واتمنا أن اتفاعل مع المواضيع المطروحه بعد قراءة معمقة للتفاصيل وماورد من رأي او اجتهاد او تفسير لان الموضوع تناول قضايا عديده تستوجب مني التأني في القراءة والاستنتاج والتعليق اذا لزم التعليق ...شكرا مياري هذا الموضوع الرائع |
الساعة الآن 01:54 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |