منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   مواضيع ثقافية عامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=67)
-   -   العقل العربي وإعادة التشكيل (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=9177)

ميارى 13 - 8 - 2010 12:44 AM

العقل العربي : نظرة تحليلية على الصعيد المحلي

في تحليلنا للعقل العربي، على الصعيد المحلي، لا بد من الإشارة إلى أنه من الصعوبة بمكان الفصل، بين بنية العقل في تناوله للأمور والشؤون العالمية، وبين بنية العقل في تعامله مع القضايا المحلية. إلا أن عملية التقسيم، جاءت من أجل التبسيط في معالجة واقع العقل العربي، بالإضافة إلى أن التعامل مع القضايا، يعتبر نسبياً من حيث درجة الاهتمام، والتركيز، والمعالجة، فالعقل هو العقل، بصورته العامة، وتكوينه القائم على أسس وخبرات، قد تكون على درجة من الصلابة والجودة، أو تكون هشة، بسيطة، أميل إلى السذاجة والسطحية، وهذا دون شك، سينعكس على واقع العقل العربي، وتكوينه .

تبين لنا في عرضنا للعقل العربي على الصعيد العالمي، القوى، والمؤثرات، والمبادئ النفسية ، التي تسهم في صياغة العقل العربي، وتشكله، بالإضافة إلى واقع العقل العربي، في نظرته، وتحليله، وتعامله مع القضايا، والأمور المحيطة به، عالمياً ، وبالمثل يوجد قوى وعناصر ومرتكزات نفسية، أسهمت، وتسهم في تشكيل العقل العربي، على صعيده المحلي.

الجو العام، الذي يميز المجتمع، له تأثير قوي على عقول الناس، فمن خلال الجو العام، يمكن التمييز، بين الحق، والواجب، وبين الملكية العامة، والملكية الخاصة، وبين النظام والفوضى، وقد تكون الحدود بين هذه الجوانب واضحة، ومميزة، في مجتمع من المجتمعات، إلا أنها، قد تكون خلاف ذلك، في مجتمع آخر، وهنا سيكون الاجتهاد والعبث، هو السائد، إذ أنه لا يمكن إقناع الناس، [أن هذه ممتلكات عامة، عليهم الحفاظ عليها، واحترامها، كما لا يمكن أيضاً، إقناعهم باحترام النظام، إذا كان خرق النظام، والتلاعب به، هو القاعدة السائدة، ويمارسه من أوكل إليهم حفظ النظام ورعايته.

تصور أن مجتمعاً من المجتمعات ، تتغلغل الواسطة فيه، في كل أمر من الأمور، صغر أو كبر، وهذه حقيقة قد تنطبق على بعض المجتمعات العربية ماذا سيكون عليه حال الناس في مثل هذا المجتمع ، الحال سيكون أن هؤلاء القوم تجسد لديهم الإحساس، بأن أمورهم لا يمكن قضاؤها إلا من خلال الواسطة (1 )، في هذه الحال، عليهم البحث عن صديق، أو قريب، أو التقرب من شخص، ذو مكانة في المجتمع ، كي يأمر صاحب المسؤولية، فينجز الأمر. خطر مثل الجو، هو أن الناس سينصرف تفكيرهم عن الإجراءات النظامية، ويركزون على الطرق غير النظامية، وغير الشرعية، في كثير من الأحيان، ولذا نجد المثل الشعبي يقول:( عسى في كل خرابة لنا قرابة ) حيث يؤكد هذا المثل الحالة، التي عليها الناس، حينما يكون التوسط شائعاً، بل قاعدة تسيّر المجتمع في كل نشاطاته، وفي مثل هذا الوضع تفقد اللوائح، والأنظمة، والمؤسسات هيبتها، ودورها، ويحل محلها العلاقات الشخصية، والمعرفة، وهذا سيكون على حساب الحق، والكفاءة، ومن ثم الإنتاجية والعطاء.

الواقع الاجتماعي أو الأرضية الاجتماعية، تشكل إطاراً، يحدد الكيفية، التي يدرك بها الأفراد متغيرات الحياة ، فالصورة العامة، أو الكلية، كما في مصطلح مدرسة الجشطلت النفسية، تلعب دورها في التأثيرعلى كيفية الإدراك، قد تكون الصورة العامة مشبعة ومليئة بالتجاوزات والأخطاء، ولكن تصور هذه الأشياء، على أنها أمور طبيعية، وحسنة، ومن هنا ينظر لها الناس، وفق هذا المنظار، دون أن يكون هناك ردود فعل سلبية، نحو هذه الأشياء، وعلى هذا الأساس تنقلب الصورة، في أذهان الناس، ويختلط الحابل بالنابل، كما يقول المثل .

إلهاء الناس بالشعارات، أسلوب من الأساليب، التي تنطلق منها الكثير من الحكومات، حيث تجد أن رائحة الشعارات الفضفاضة، والبراقة، تفوح من وسائل الإعلام، وغيرها ، من خلال تصريحات الرسميين، ورجال النخبة. وكم كانت الشعوب العربية، وما تزال، تعاني من هذا الوضع، فالشعارات مادة يتم من خلالها إلهاء الشعوب، وتذويبها، والقضاء على طموحاتها، ومتطلباتها. ويختلف الأمر من مجتمع لآخر، فقد يرفع في مجتمع شعارات الحرية والديمقراطية ، وهو أبعد ما يكون عن ذلك، وقد ترفع شعارات الأمن، والعيش الرغيد ، في مجتمع آخر. كما أنه قد ترفع شعارات القومية، والوطنية، في مجتمع ثالث. وهكذا فقد يكون من الشعارات أيضاً رفع شعار الإسلام، وترديده في كل مناسبة، أو لقاء ، وفي كل تصريح، أو مقابلة، وذلك للاستهلاك المحلي، والإقليمي، أو حتى العالمي، وذلك لأهمية البعد الديني ، وقيمته، وتوغله في نفوس الناس، وعلى هذا الأساس يأتي ترديد الشعارات المرتبطة به، علماً أن هذه الشعارات، قد تكون فارغة المحتوى تماماً، لو تمت مقارنتها بواقع المجتمع السـياسي ، والاقتصادي، والثقافي ، والاجتماعي، ولكن كما تم القول: هذه الشعارات تؤدي دوراً استهلاكياً، يلهي الناس ويصرف انتباههم، عن التفكير في الواقع، بل ويقنع السذج منهم بصحة هذه الشعارات.

خلال السنوات الماضية، تعرض العقل العربي إلى عملية تسفيه، ممعنة في التردي، وذلك من خلال لخبطة الأولويات، وعدم وضوحها لدى الإنسان العربي، حيث إنه، لم يعد قادراً على التمييز، بين ما هو في عداد مصلحة الأمة، أو المصلحة العامة، بين ما هو في عداد المصالح الذاتية. تقام الحروب، وتشعل لسنوات طويلة، تهدر الأموال ، تزهق الأنفس البريئة، يدمر الاقتصاد، تقام العلاقات وتقطع، تشن الحملات الإعلامية، وتوقف، أعداء الأمس أصدقاء، وإخوان اليوم، تقدم الهبات المالية، والمعونات لدول، وتوقف عن أخرى، كل هذه الأشياء، تحدث دون أن يكون للإنسان العربي، فرصة للتفكير، أو التساؤل، لماذا هذه الأشياء، وما الأهداف التي تتوخى خدمتها وتحقيقها ؟

خلال العقود الماضية كُدِّس السلاح، في قواعد الدول العربية، أنفقت مليارات الدولارات على أمل محاربة إسرائيل، وهزيمتها، ولكن الذي حدث، أن الحروب اشتعلت بين الدول العربية ذاتها، والذي حدث هو هزيمة دول عربية، من قبل دول عربية أخرى، والتشفي بها، وبواقعها .

كم هو مخز ومخجل، حينما تصور الهزائم على أنها انتصارات، لماذا انتصارات ؟ لأن العدو فشل في قتل الزعيم الفلاني، أو إسقاط النظام الفلاني. تقدم هذه الأشياء، وكأنها حقائق لا تقبل الجدل، بينما العقل العربي، يستمر في بلاهته وسدره .

كم هو مخز، حينما تقام الأحلاف، والمعاهدات العسكرية، على الأرض العربية، والنتيجة أن يكون العرب هم ضحايا هذه الأحلاف ؟

كم هو مخز، حينما تبذل الجهود والاستعدادات، ولكن في النهاية توجه لقتل الإنسان العربي، وكأنه لا يوجد عدو متربص على أرض فلسطين ؟

كم هو مخز ومخجل، في الوقت نفسه، حينما يوجه الإعلام لخدمة سفاسف الأمور، وتهمل الأمور الجهورية والأساسية ؟

وأخيراً كم هو مخز ومخجل، حينما تصرف الأموال الطائلة على أشياء، أقرب ما تكون إلى القشور، وتهمل المرافق العامة كالطرق ، المدارس، المستشفيات، المصانع، الزراعة، والجيش .. إلخ ؟ باختصار قائمة الأولويات في العالم العربي، لا تقوم على أساس شرعي، أو علمي، أو موضوعي، بل ترتب وفق ما يخدم مصالح خاصة، لزعيم، أو نظام سياسي . ولذا فهي تتغير، وتتبدل، بما يخدم هذه المصلحة ويحققها.

أثر الهالة معروف لدى علماء النفس، وقدم تم استغلاله من قبل النخبة، في المجتمع العربي، وذلك لإضفاء صورة جديدة، وغير حقيقية، حول فرد أو نظام، على أن تكون هذه الصورة براقة، وجذابة، ومحببة للنفوس.

الهالة تكون بعدة صور من خلال الكلمة، الصورة السلوك، الملابس، الإجراءات المتبعة لمقابلة شخص، أو الحديث معه ، سكن الشخص، أو مكتبه، والأبهة التي يتمتع بها الخدم ، والحشم المحيطين بالفرد، العبارات والجمل الرنانة، والخطب الحماسية والنارية.

ويدخل ضمن إطار أثر الهالة استخدام الدعاية، بشكل شعوري أو لا شعوري، من أجل خلق صورة عقلية جديدة، لدى جموع من الناس، وتغيير آرائهم، وأفكارهم ، وقيمهم ، ومن ثم سلوكهم، وتصرفاتهم . وقد تكون هذه الدعاية من خلال الخطب، والصور، والرسوم الكاريكاتورية، والكتب، ككتب التاريخ، والقصص، والأقلام، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، حيث تحشد فيها أحكام مسبقة، غير قابلة للمناقشة، مثل عبارات المديح ، والثناء ،والبطولات، والكرم، والشجاعة، والحكمة، والدهاء.

وتقوم هذه الأحكام على أسس نفسية، قوامها عملية الإيحاء، والمنطلقة من أن ما يقدم من معلومات، وآراء، وأفكار ذات ارتباط أساسي، وجوهري، بالمعتقدات الراسخة لدى الناس، أو عموم المجتمع.

إن النتيجة الحتمية للدعاية هي إعطاء صورة وهمية، لكنها في نظر الناس، تعتبر حقيقية، لا تقبل المناقشة، وعليه تتمحور مشاعرهم، وأحاسيسهم، حول هذه القضايا، التي تقدمها الدعاية الموجهة لخدمة الفرد، أو الحزب أو النظام.

الشائعات تلعب دوراً مهماً في كثير من المجتمعات، من خلال الشائعات، يتم التلاعب في مشاعر الناس، وأحاسيسهم، وكذلك توجيه تصرفاتهم، كما يتم من خلال الشائعات رصد توجهات الناس، وآرائهم، وأفكارهم، حول بعض القضايا والأمور، وذلك من خلال رصد وتحليل ردود الفعل، الناجمة عن إطلاق مثل هذه الشائعة أو تلك. على سبيل المثال: قد تسري بين الناس شائعة مفادها أن هناك زيادة في الرواتب، أو أن سلعة من السلع سيرتفع ثمنها، مثل هذه الشائعات تعطي مطلقها سواء فرد أو جهة رسمية، فرصة لمعرفة الاحتياجات، والتطلعات الفعلية، لدى الناس وعليه يتم اتخاذ إجراء معين، أو سن سياسة معينة. الشائعة سواء كانت ذا طابع سلبي، أو إيجابي، تؤدي دورها الفعال في إشغال الناس، وصرف انتباههم، واهتمامهم ، نحو قضايا وأمور، تعتبر أقل أهمية من أمور أخرى، فلو قدر أن بلداً يمر بأزمة سياسية، ويتعرض نظامه لخطر ما، فلا مانع من إطلاق شائعة، تصرف أذهان الناس عن المشاكل، التي يعاني منها، ويتعرض لها ذلك النظام، الشائعة بالطبع تطلق بتوقيت معين، وبأسلوب معين، حتى تؤدي غرضها، والهدف المرجو منها، ولذا فبعض المجتمعات أصبحت مسرحاً للشائعات، خلال فترات من تاريخها، وفق ما تمر به من صعوبات، وأزمات سياسية، واقتصادية وتنموية.

المجتمعات العربية أصبحت هدفاً ومسرحاً للشائعات، وقد عني خبراء الشائعات في العالم العربي، بالربط بين الشائعات، واحتيجات وتطلعات، ومشاكل المجتمعات العربية . فعلى سبيل المثال قد تكون الشائعات موجهة لإحداث تغيير اجتماعي ،غير مقبول، أو مرفوض، فمثلاً قد يكون دور المرأة في المجتمع ، أو وضعها الاجتماعي هدفاً من أهداف الشائعات، التي تطلقها الجهات الرسمية ، بغرض إلهاء الناس، وصرفهم عن قضايا وأمور مهمة، وذلك كلما تعرض النظام لأزمة، أو مشكلة، أو أصبح مهدداً من قوى داخلية .

باختصار.. الشائعة تحدث البلبلة والفوضى، في صفوف المجتمع، كما أنها تفتت الجهود الموجهة لقضية من القضايا، وذلك لما تحدثه من صدمة نفسية، وتشتت ذهني ، وما تخلفه من مشاعر وأحاسيس جديدة، متعلقة بالموضوع الجديد، الذي تم إطلاق الشائعة من أجله .

إشغال الناس لا يقتصر على الشائعات، ولكنه يتعدى إلى بعض الأفعال والأعمال، لا سيما إذا كان الظرف حساساً، وحاسماً، بالنسبة للبلد أوالنظام. ومن الأعمال التي يتم الترتيب والتنظيم الرسمي لها بصورة غير مباشرة ، أو مباشرة، المهرجانات ، والاستعراضات الثقافية ، وكذلك المظاهرات، والمسيرات المطالبة ببعض الإصلاحات ، أو الحقوق، أو المنددة ببعض الإجراءات والسياسات. حتى إن بعض الدول التي لا يوجد في أنظمتها ما يجيز المظاهرات، تعمد إلى تنظيم شيء من هذا القبيل، بغرض إشغال الناس وإلهائهم ، لفترة من الزمن ، وكي تكون المظاهرة حديث المجالس، والمنتديات، وتصرف جهودهم وأذهانهم عن التفكير في الأمور الأساسية، والأوضاع الحرجة، التي يمر بها البلد أو المجتمع .

من الممارسات ، التي دأبت جماعة النخبة السياسية في العالم العربي على استخدامها مع الشعوب ، هو إعطاء الوعود، والمزيد من الوعود، مع تكرار هذه الوعود، في أوقات الأزمات والظروف الحرجة ، وذلك بغرض استرضاء الناس، والتقرب منهم، وتبديد مشاعر الإحباط والتثبيط التي تصيبهم. وعلى سبيل المثال، قد تكون هذه الوعود على شكل إصلاح سياسي، وقد تكون شكل تحسين للأوضاع المعيشية والاقتصادية، وقد تكون على شكل استبعاد لعناصر معرفة معروفة بفسادها الإداري والأخلاقي، أو قد تكون على شكل إصلاح في النظام الاقتصادي، والمالي في البلد، ولا شك أن مثل هذه الوعود، تحدث أثراً عند الناس، أو عند بعضهم على أقل تقدير، فهي تقلل من مطالبتهم بهذه الأشياء ، طالما حصل وعد بذلك ، وهي كذلك تحد من نشاطهم وأفعالهم، كما أنها تبدد مشاعر الغضب، وتقلل من حملات الانتقاد. وقد تتحول هذه الوعود، أو جزء من هذه الوعود، ولو بصورة شكلية، إلى عمل وفعل، وهذه تندرج ضمن ما يمكن تسميته بسياسة الإسفنجة، حيث يتم امتصاص مشاعر العداء والكراهية، وذلك من خلال بعض الإجراءات ، التي تحقق رضا الناس، وقناعتهم، ولو لفترة وجيزة حتى يتم استعادة الأنفاس، وترتيب الأوضاع من جديد، وبالصورة التي تخدم مصلحة النظام، أو الفرد القائم على الأمر.

إن التعامل مع العقل العربي على الصعيد المحلي، ومحاولة ترويضه، وإعداده بالصورة المتناسبة مع مصلحة النخبة السياسية، تستدعي الغموض في التصريحات، والأفعال، حتى تكثر الاجتهادات والتفسيرات، التي من شأنها معرفة هذا التصريح، أو ذلك الفعل، وقد تكون المحصلة في النهاية، تصب في مصلحة النخبة السياسية، إذ أنه لا يمكن أن يدان بأمر من الأمور، طالما أن تصريحه، أو فعله ، اتسم بالغموض، وعدم الوضوح . كما أن الغموض في التصريح، أو الفعل، يبدد ما قد يسري من أخبار أو شائعات في الأوساط الاجتماعية، وعندها يكون في غموض العبارة مجال للنقاش، والتساؤل من قبل عامة الناس، أو الفئة المستهدفة في التصريح أو الفعل، ويترتب على ذلك إحلال معلومة، بدل معلومة، ورأى، نتيجة هذا الغموض وعدم الوضوح .

سياسة فرق تسد الاستعمارية، التي تمت الإشارة لها، عند الحديث عن العقل العربي، على الصعيد العالمي، موجودة، ويعمل بها على الصعيد المحلي. لقد شقيت الشعوب العربية كثيراً، من عملية تصنيفها إلى فئات ، وطبقات، قائمة على اللهجات، أو المناطق، أو الانتماءات العرقية ، أو المستوى الاقتصادي والاجتماعي. لقد تعود الإنسان العربي، أن يسمع في قاموسه السياسي: فلان من منطقة كذا، وفلان من المكان الفلاني، وهكذا . لقد تردد في أسماعنا كثيراً مصطلحات تصنف الأفراد إلى متزمتين، وإلى أصوليين، وإلى علمانيين ، وإلى قوميين، حتى تحولت الشعوب إلى جيوش، يحارب بعضها بعضاً، ويكون العداء لبعضها الآخر، وتناسوا أنهم يجب أن يكونوا أمة واحدة ، يدينون، ويعتقدون بدين واحد، ويعملون لهدف ، أو أهداف واحدة . لقد حلت العداوة والشقاقات، محل الإخاء، وحل الشك محل الثقة، واستبد الخلاف واستفحل. من الذي يجني ثمار مثل هذه الأفعال؟ .

لا شك أن النخبة السياسية التي تعمل على إيجاد هذه الخلافات، وتأجيجها بين فينة وأخرى، هي الكاسب الوحيد، أما الخسارة فهي للشعوب، وللأمة بشكل عام .

كنتيجة لهذا التقسيم الطبقي، والإقليمي، والثقافي، والاقتصادي، وجدت طبقات طفيلية اعتمدت النفاق الاجتماعي، أسلوب حياة، تتقرب من خلاله للنخبة السياسية، وتجني من وراء هذا العمل الكثير، من المكاسب المادية، والمعنوية. وبحكم التركيب النفسي لهذه الفئات فقد لجأت إلى أساليب ممعنة في القذارة كالدّس، والإساءة وتشويه سمعة الآخرين، ونقل الأخبار الكاذبة، وتصوير الأمور بغير صورتها الحقيقية، وقلب الأكاذيب إلى الحقائق، والحقائق إلى أكاذيب، حتى أصبحت المجتمعات العربية، أشبه ما تكون بالغابة، بعضها يفترس بعضها الآخر.

ومن المؤسف أن بعض المحسوبين على المثقفين، والمتعلمين، هم من هذه الفئة، فأصبحت الوشاية مهنة لهم، والنفاق الاجتماعي علاقة وسمة مميزة لهم . ومن خلال الفئة التي تسعى فقط لمصالحها الذاتية، صورت الأخطاء والعيوب على أنها مكتسبات للأمة، واعتبر التراجع الاقتصادي، والاجتماعي، تقدماً، ونظر للأمية والجهل والمرض على أنها قفزات حضارية .

من خلال هذه الفئة، تم تجاوز المبادئ والمرتكزات الاعتقادية والحضارية، وبجهود هذه الفئة، شوهت الثقافة، ومزقت القيم، وأهينت كرامة الأمة، وأحدثت فوضى فكرية، وبلبلة عقائدية. ترى أين هذه الفئة التي ربطت نفسها بوثاق من حديد، لتكون عامل هدم وتمزيق وتشتيت للأمة، من سلف هذه الأمة، الذين ينظرون برؤية ثاقبة، لا تحجبها المصالح الدنيوية، وهم بذلك يعرضون أنفسهم للمحن، والابتلاء، بمواقفهم الشجاعة. ها هو أبو حنيفة يرفض القضاء، حينما دعاه والي العراق سعيد بن هبيرة في أواخر الحكم الأموي، إذ أدرك بعين بصيرته، أن هذا الوالي وخلفاءه، يريدون أن يتخذوه وأمثاله من العلماء مطية للشر، ومركباً للخطر، إذ يتخذونهم للقضاء، فيعلمون الناس، أن رجال الفقه، وحماة الشريعة، يؤيدون حكمهم الطاغي، ويباركون عهدهم الظالم، وقد كان رد أبي حنيفة صريحاً: ( والله لو أراد ابن هبيرة، أن أعد له أبواب مدينة واسط، لم أدخل في ذلك، فكيف وهو يريد أن يكتب بضرب عنق رجل مؤمن، وأختم أنا على ذلك الكتاب، والله لا أدخل في ذلك أبداً ) (1 ) .

هذه الفئة الطفيلية، الخاصة بحكم ما تحوز عليه، من معرفة، واطلاع، وبحكم النظرة الاجتماعية التي تعتبرها فئة علم، بالإضافة إلى ما تتمتع به هذه الفئة من تمكين، وبيان، وقلم، استطاعت هذه الفئة، أن تسهم في تجهيل العقل العربي، وإبراده موارد الضلال، والتيه، حتى أصبح لا يميز بين الغث والسمين، ولا بين الحق والباطل، وأصبح واقع العقل العربي، ينطبق عليه قول المتنبي، حينما حذر من أن يظن أن بروز أنياب الأسد ابتسامة، وأن الشحم والعافية ورم وانتفاخ غير طبيعي .

الأساليب والتكتيكات، التي تم عرضها فيما مضى، تكشف لنا الكيفية التي من خلالها تم تكوين، وصياغة العقل العربي، ليتسم بسمات معينة، ومحددة سلفاً، وبما يخدم مصالح محددة، وليدرك الأمور والمتغيرات من حوله بالطريقة المؤدية إلى خموله، وكسله، وتراجعه، وبالفعل فقد أثمرت هذه الأساليب، والطرق، مجموعة من السمات، والخصائص ، التي اكتسبها العقل العربي، عبر مراحل التجهيل هذه، ومن أبرز معالم العقل العربي على صعيده المحلي، هو اتسامه بسمة المذلة والخنوع، كنتيجة لحالة السحق النفسي، التي يعيشها، نتيجة الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والثقافية، حتى إن إدراكه لموقعه في المجتمع، أصبح غير واضح له، وليس له دور في تحديده، لأنه لا الكفاءة، ولا المؤهل، سيشفعان له في ذلك، بل إن ما يشفع له، ويقربه، هو سلوك التذلل، والخضوع التام، والتقريب بعبارات المديح، والثناء الكاذب.

وقد ترتب على هذا الوضع، أن مسخ عقل الإخلاص والرؤية السديدة، وحل محله عقل التملق، والخداع، والكذب، والتزلق. يضاف إلى ذلك، إحداث ما يمكن تسميته: بعقل الإنقاذ والطاعة العمياء، والذي لا يسمح لنفسه بمناقشة الأمور، وتحليلها، أو التساؤل، ولكن يجب أخذها كما هي، ودون تكليف للنفس بالدخول في متاهات التفاصيل، والسبب والنتيجة، والحق والباطل، والمقبول واللامقبول ، والجائز وغير الجائز، والنافع والضار، فهذه أمور لا تعنيه، ولا يجب عليه الاهتمام بها، أو الدخول في غمارها. ومثل هذا الوضع، ينطبق عليه تشبيه الأمعات ، التي تسير دون هدى وبصيرة واضحة.

لقد نتج عن مثل هذا الواقع ، تشكيل عقل، لا يعتبر أن له حقوق، لكنه يدرك، أن ما يحصل عليه، تفضل ومنة، من الآخرين، تستوجب الشكر، والثناء لهم، حتى إن مفهوم الواجب اختلط في أذهان الكثير من الناس، ولم يعد بمقدورهم، إدراك وتمييز الواجب، والعمل من أجله ولا لإدراك الحقوق، وتحديدها، والمطالبة بها، والسعي من أجل تحقيقها. في هذا السياق لقد أفرزت معارك هدم العقل العربي، التي أشرنا إليها ، عن إيجاد أشخاص، يظنون أنهم غير قادرين على العمل، وما عليهم في هذه الحالة إلا انتظار عطاء الآخرين، وكرمهم، وتصدقهم عليهم. قد يكون من المناسب استحضار صورة ذهنية لشخص ترتسم على وجهه علامات التعاسة، ويسيطر عليه اليأس والخذلان، ينظر للآخرين نظرة استكانة ، ومهانة، يتطلع إلى عطفهم وشفقتهم عليه، شعوراً منه بالعجز، ويقيناً ترسخ لديه، من أنه لا يمكنه إسعاف ذاته، والوقوف على رجليه، والاعتماد على جهوده الذاتية.

لقد تبين لنا، ونحن نعرض عقلية الإنسان العربي، على الصعيد الدولي، كيف أن إحالة قضايانا وشؤوننا للآخرين، كي يحلُّوها، أو ينفذوها، أصبح عرفاً سائداً، وتقليداً معتبراً، وما وضع العقل العربي على صعيده المحلي، إلا امتداد لما أصابه على الصعيد العالمي. ولذلك لم يعد للإبداع أي مكان يحتله داخل العقل العربي، حيث تحول إلى عقل يستهويه الاستهلاك، هذه الصورة، تمثل حال الأمة بكاملها، وهي تستجدي على عتبات الأمم المتحدة، وفي المنظمات الدولية الأخرى.

إن التلقي من الآخرين وتقليدهم في ضروب الحياة المختلفة، لم يعد أمراً مكروهاً، أوغير محبب، لقد تحول إلى نمط حياة مرغوب، وجذاب، مما ترتب عليه انتقال أنماط سلوكية، وطريقة تفكير خاصة، وعادات في المأكل، والمشرب، والمسكن، والمركب.. إلخ . من فئة اجتماعية إلى فئة أخرى، دون وعي ، أو محاولة لفهم، ما يمكن أن يترتب على مثل هذه الأشياء من ضرر، على الصعيد الفردي، والعائلي، ومن ثم الاجتماعي، بشكل عام. حالة التقليد والمحاكاة هذه أوجدت أفراداً ينطبق عليهم المثل الصيني: لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم، حتى إن حالة النقد الموضوعي، لم يعد لها وجود، في المجتمعات العربية، وأصبح من يريد إظهار نفسه بمظهر الناقد الحريص، على الأوضاع العامة، يقدم مديحاً وثناء، بما يشبه الذم، فهو في كلمة منه أو عبارة، يوحي ، بالنقد، ولكن المتمعن والمستكمل للموضوع، يجد المدح هو الفكرة التي تستقر في الذهن، عند نهاية المطاف.

لقد اكتسب العقل العربي خاصية سلبية، تمثلت في إصراره على اعتبار أن ما تحقق، هو أقصى ما يصبوا إليه، وأن الأمور بوضعها الحالي، تمثل وضعاً مثالياً، لم تصله الدول والشعوب الأخرى. إن هذه الخاصية السلبية، تعبر عن نفسها، من خلال تكرارعبارات، من قبل: ليس بالإمكان أفضل مما كان، وكل شيء على ما يرام. لقد ترك هذا الوضع العقلي انطباعاً لدى الإنسان العربي، أنه ليس بحاجة لبذل الجهد، وتقصي الأمور حقيقتها، ومعرفة الجوانب الإيجابية، والسلبية، وكرديف لهذه الخاصية، ومعرفة مفهوم ما يسمى بسددوا وقاربوا، وبشكل لا يتناسب مع مفهومه الحقيقي، كما وضحه الرسول صلى الله عليه وسلم ، والذي يقتضي بأن تكون الرمية أو الرأي موجهة بشكل دقيق وسليم، حتى يتحقق الهدف. لقد رفع شعار سددوا وقاربوا بصورته الخاطئة، في وجه بعض الأصوات المنادية بالإصلاح، بين فئة وأخرى، والتي تنطلق من أفراد معدودين، وفي فترات غير متقاربة أيضاً.

الدافعية للإنجاز، والعمل، والعطاء المثمر، تم تحطيمها، إن لم يكن القضاء عليها تماماً ، لأن كل شيء يصور على أنه على ما يرام، ولا يمكن تحقيق أفضل منه، إذن الرسالة التي تستقر في النفس، هي أنه لا داعي للجهد ، أو مزيد من النشاط، لأنه لن يحقق أفضل، مما هو متحقق في الوقت الحاضر .

استعراض المنجزات، والتباهي بها، أصبحت هي الأخرى سمة مميزة للعقل العربي، على الصعيد الفردي، وعلى الصعيد الرسمي، وقد يكون هذا الشيء محدوداً، إذا أريد به تقوية الثقة بالذات، ورفع المعنويات، وإذا استخدم بحدود معقولة، ومدروسة، ويقدم وفق أسس علمية سليمة. أما إذا أصبح على حساب الموضوعية، واستخدم للتغطية على الأخطاء والهفوات، ففي هذه الحالة يكون الأمر عيباً، لأنه يخدع الناس، ويصور لهم، أن ما وصلوا إليه هو الغاية، والمنتهى، وليس هناك من حاجة لبذل مزيد من الجهود. كما أن الاستعراض للمنجزات، يصرف الأنظار عن العيوب، ويجعل الناس، وكأنهم في حالة خدر، لأن ما تم إبرازه لهم، هو ما أنجز، دون ذكر العيوب الموجودة فيه، ودون إشارة إلى ما يجب إنجازه، أو ما خطط لإنجازه.

هذا العقل الذي يهمه إبراز ما تحقق، يتكون لديه ميل إلى أن يسمع ثناء الآخرين، ومدحهم، لأن في ذلك إطراب، وإسعاد له، حتى إنه أصبح من بين التقاليد الرسمية في البلاد العربية، أن نأخذ الضيوف بجولة حول المدينة، أو البلد، مع إصرار أن يكون ما يشاهد هي تلك الأماكن، التي نظن أنها ستنال إعجابه، ومن ثم يحصل بناءً على ذلك، مديحه وثناؤه، ولذا تجدنا نتلقف أي كلمة مدح، وثناؤه ، تصدر منه، لنخرجها من خلال وسائل الإعلام، وقد ارتدت أفخر حلى البلاغة والبيان، وحازت على مساحة، ووقت، ليس بالبسيط. وأبرزت في عناوين كبيرة وجذابة.

ميارى 13 - 8 - 2010 12:45 AM

أسس وملامح إعادة التشكيل

تبين من خلال العرض السابق، في الجزأين المتعلقين بتحليل العقل العربي على الصعيد العالمي، وكذا على الصعيد المحلي، أن العقل العربي، يعاني من مجموعة من جوانب النقص في إدراكه، لما يحيط به، وفي تعامله مع معطيات الحياة، وفي تقييمه لعناصرالحياة، وقضاياها ومشاكلها، على الصعيد الفردي، وعلى المستوى المؤسساتي. وما من شك في أن الوضع المذكور، ناتج من الجهود الموجهة، سواء من الداخل، أو من الخارج، للإبقاء على هذا الوضع في مثل هذه الحالة، ولكي تتم إعادة تشكيل العقل العربي، وإعادة صياغته مرة ثانية، وتنقيته وتصفيته من الشوائب العالقة به، لا بد من إجراء عملية جراحية، نفسية، واجتماعية، وثقافية، هذه العملية، لا بد لها من أن تقوم على أسس ، وتنطلق من مبادئ محددة، ومن ثم تصل إلى نتائج وأهداف واضحة.

في البداية لا بد من العودة للذات، والتعرف عليها، وتشخيصها بأمانة وموضوعية، كي يتسنى معرفة الإيجابيات، والسلبيات، ولكي يتم التعرف على جوانب القوة والضعف. العودة للذات، تقتضي أن تكون لدينا شجاعة مصارحة الذات، وتعريفها بأخطائها، لا بخداعها والتمويه عليها.. العودة للذات تقتضي حسّاً تشريحياً، وأسلوباً علمياً، نتمكن من خلاله من الدخول في أعماق الذات، والتعرف عليها، ولا نقتصر على الظواهر والقشور، وننخدع بها، وتصرفنا عن الجوهر والأسس. العودة للذات تقتضي، أن لدينا الأدوات المناسبة لعملية التشريح، والتحليل الذاتي . لا يمكن أن يتم فحص، واستقصاء ، وتحليل، وتشريح، بدون هذه الأدوات، ولكن ما هي الأدوات الواجب توفرها، والحصول عليها، لإتمام هذه العملية؟.

للإجابة على السؤال السابق، يلزم أن نطرح على أنفسنا السؤال الآتي وهو : من نحن ؟ إجابة السؤال، تقتضي أن نشير ولو لماماً إلى بعض الملامح، ومنها أننا عرب مسلمون، لغتنا العربية، لنا تاريخ معين، ورسالة محددة، لنا عادات وتقاليد، نقيم على أرض لها مواصفات، وخصائص ، وموقع معين ، بلادنا العربية تحتوي كنوزاً حضارية، وثقافية، وأخرى مادية، وطبيعية، وعلى أرضنا توجد أماكن مقدسة . . إلخ .

من خلال الملامح السابق ذكرها، يمكن القول: إننا مجتمع له تميز، ولا يمكن فرض ما لدى الآخرين، ولا سيما فيما يتعلق بالجانب الحضارية، والثقافية، والاعتقادية ، إذن الأدوات لإعادة التشكيل، لا بد لها من أن تكون ذاتية، ومرتبطة بواقعنا. أول هذه الأدوات: أن يكون لنا إطار مرجعي متكامل، وشامل لكل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفردية والعائلية . الإطار المرجعي ، يمكن التحاكم إليه، ومعرفة الخطأ والصواب، الحق والباطل، سلامة التوجه، وخطأ التوجه، الواجب وغير الواجب. الحلال والحرام، الضار والنافع وهكذا. الإطار المرجعي الذي يلزم الأخذ به ، للخروج من دوامة الضياع والتيه، هو الإسلام، فها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ( نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومن يبتغ العزة بغيره أذله الله )، وكما يقال: لا يصلح آخر هذه الأمة، إلا بما صلح به أولها.

الإسلام يمثل إطاراً مرجعياً للعرب، لأنه يشرع في السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية بشكل عام، يرسم ملامح الثقافة، ويوجهها، يبين الخير، والشر، الخبيث، والطيب، الضار، والنافع، وبهذا يكون الإسلام إطاراً متكاملاً وشمولياً. الأطروحات التي فرضت على الإنسان العربي، خلال العقود الماضية، تمثل أطروحات مستوردة الفكر، والأسس ، كما أنها غير متكاملة، وغير شمولية، قاصرة عن توجيه الاقتصاد، ومضطربة في تنظيرنا السياسي، وعاجزة عن بناء الفرد، والأسرة، ومن باب أولى المجتمع.

الإسلام كإطار مرجعي ينظم السياسة، وولاية الأمر، يضع شروطاً ومواصفات، لمن يتولى أمر المسلمين، من ضمنها القسط، العدل، المعرفة الشرعية، الأمانة، سلامة الحواس، والقدرة على تنفيذ الأوامر الشرعية .. إلخ .

الإسلام يحدد البيعة، ويوضح العلاقة ، بين الراعي والرعية، يفرض الشورى، ويلزمها كنهج سياسي، في المجتمع الإسلامي . في الاقتصاد، يبين الحلال والحرام، المبايعات، المداينات، المضاربات، الربا الاستثمار المباح. في المأكل والمشرب، يبين الطيبات، والخبائث، ويحددها ( الميتة، الدم، لحم الخنزير، الخمر ). وفي العلاقات الاجتماعية، يلزم البر بالوالدين، ويبين حق الجار. في الطريق، وفي العمل، وفي كل مكان، هذه أمثلة بسيطة على شمولية الإسلام لجوانب الحياة، وضرورة الأخذ به كإطار مرجعي .

(إن الدين عند الله الإسلام ) ( آل عمران: 19 ) ،( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه )(آل عمران\: 85 ) ، الأخذ بالإسلام كإطار مرجعي، ستكون نتيجته، التزام منهج تفكير واضح، غير مضطرب، ومشوه، تحدد من خلاله عناصر المعرفة، ومنابعها، ومرتكزاتها منهج تفكير يجمع بين الدنيا والدين:(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا )(القصص:77 ) .

منهج تفكير، يخلص من الأوهام والخرافات، ويؤصل المعرفة الحقيقية .. منهج تفكير، يستقر من خلاله الإيمان واليقين، ووحدة الكون في وجوده وخالقه.. منهج تفكير، يبعث على التفاؤل والاستبشار بالخير، لا منهج تفكير، يثير المخاوف، ويؤصل الاضطراب. سيكون منهج التفكير بعد ذلك جامعاً بين المحسوس واللامحسوس . ولن تكون الطبيعة والظاهر هو مصدر المعرفة فقط . الوحي مصدر للمعرفة، وما في الطبيعة والكون من موجودات، وظواهر مصدر لها أيضاً وكلاهما، يجب أن يكون وسيلة ، لمعرفة مبدع وخالق هذا الكون جل جلاله ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض ). بعد تحديد منهج التفكير، وملامحه العامة، يلزم الأمر تحليل الواقع، وتحديد إيجابياته وسلبياته، ولا سيما ما يقع في الجانب المعرفي. لا بد من معرفة المعرفة التي نحملها ، وما مصادرها، ومنا بعها، وكيف اكتسبناها ، وما هو الغث والسمين فيها. وبعد أن نقوم بهذه الخطوة ونكون على يقين من أمر المعرفة، التي تسيرنا، ونهتدي بها، لا بد من أن نقوم بعملية إحلال معرفي في مجال العقيدة، العبادة، السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، الثقافة العامة، والعلاقات الاجتماعية. عملية الإحلال المعرفي، تقتضي أن نستبعد بعض المعلومات من دائرتنا المعرفية، داخل العقل، ونستبدلها بمعرفة جديدة. ومن شأن هذه المعرفة الجديدة، أن تجدد في السلوك، وتهز الوجدان، وتحركه، وكذلك تصقل المهارات، وتعيد النظر في الهوايات والاهتمامات .

الهزة المعرفية هذه، سيكون من نتائجها، تحديد الثوابت، التي لا تقبل الجدل والنقاش، وكذلك تحديد المتغيرات، القابلة إعادة النظر والمرجعية، بين فترة وأخرى، وكلما اقتضى الأمر والظروف ذلك. كما أنه سيكون بالإمكان التخلص من التراكمات الخاطئة، والخزعبلات، والعادات والتقاليد البالية، التي فرضت على الناس ، دون وعي، ومعرفة صادقة. سيكون بالإمكان ، تحديد المفاهيم ووضوحها، ومن ثم ستكون النتيجة معرفة نقية، خالصة وسلوك مستقيم.

خلال الفترة الماضية، وجدت لدى الناس مفاهيم وعادات غريبة وبالية مع الزمن، وأصبحت هذه المفاهيم، وهذه العادات ، محل اعتبار وتقديس، لا يمكن معه التنازل عنها، ولذا فإن المعمول على عملية الهزة المعرفية هذه، أن تعيد النظر في مثل هذه الأمور، وتبين زيفها وضررها، ومن ثم اقتلاعها وإبعادها، بصورة نهائية.

الأخذ بهذه الأسس والمنطلقات، في عملية إعادة التشكيل، سيكون من شأنه إخراج عقل جديد، بمقومات جديدة، وبمفاهيم واضحة، ويتمتع بملامح أصلية. أول هذه الملامح، تجسيد الثقة بالذات، وانتفاء الشعور بالنقص، سواء عند مواجهة الآخرين، والتعامل معهم، أو في عملية الإنتاج، والاستحداث الثقافي والمادي.

الثقة بالنفس، ستجعل الإنسان العربي، يقدم نفسه بأنه عربي مسلم ، ولا داعي من استخدام أسماء مستعارة، كما يحدث، سيتصرف ، ويسلك، كما تملي عليه عقيدته ودينه، لا كما يريد، أو يرغب الأعداء له، أن يتصرف. الثقة بالنفس، ستجعل منه شخصاً يباهي بدينه، ويمارس عباداته، في كل وقت ومكان، دون حاجة للتخفي، والتستر، واقع حياة الإنسان العربي عند استعادة لثقته بنفسه، ستكون مليئة بكل ما يبعث على التميز والتفرد.

من نتائج إعادة تشكيل العقل العربي، يفترض التخلص من الروح الانهزامية، ونبذ التبعية، التي أصبحت تكبل الإنسان العربي، وتحد من نشاطه وحيويته. الإنسان العربي لن يكون بعد اليوم أسيراً لمشاعر الدونية والانكسار، بل إن الأنفة ومشاعر العزة والمنعة، ستكون هي البديل، ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) ( المنافقون :8 ).

لقد عانى الإنسان العربي، وما يزال، من ارتمائه في أحضان الشرق، تارة، وفي أحضان الغرب، تارة أخرى، وكم كانت نتائج مثل هذه الارتماء قاسية ومريرة، بالإضافة إلى أنها أفقدته استشعار ذاته، وقيمتها، بين الأمم، ومكانتها ودورها الحضاري، الذي يجب أن تلعبه.

تنمية الإرادة الذاتية، واكتسابها، ستكون نتيجة من النتائج، التي تتحقق للإنسان العربي، عند إعادة تشكيل عقله من جديد، ويفترض أن تكون هذه الإرادة باعثة على الاعتزاز بالنفس، مثيرة للحماس، مخلصة من المكبلات والعوائق، رافضة للوصاية من قبل الآخرين، الإرادة الذاتية، ستقود صاحبها إلى المبادرة، ومباشرة الأفعال، والأعمال، دون رجوع لأحد، كي يجيز له ذلك، والإدارة الذاتية، ستشجع على الانطلاق، وبكل ثقة نحو آفاق رحبة .

الاستقلال في الرأي والموقف، صفة وخاصية جديدة، ستلغي كل أشكال التبعية في الفكر والثقافة، والمواقف السياسية، والعلاقات الاقتصادية. استقلال الرأي: يعني تميزه، وانطلاقه من منطلقات واضحة ، صاحية غير خاضع لأي شكل من أشكال الضغوط، وحتى لو تعرض لمثل هذه الضغوط، فهو يرفضها، ويخرجها من دائرة تفكيره.

الاستقلال في الرأي: يعني الوضوح، وعدم التردد، يعني: الشجاعة، في قوله كلمة الحق ، ويعني: المبادرة في إعلانه، وإبرازه، ودون انتظار لأخذ الإذن والسماح من قوة أو سلطة أعلى. قد يكون الرأي مغايراً، ومخالفاً تماماً لآراء غيرنا، ولكن مع ذلك ، يتم إبرازه، والوقوف من أجله بكل شجاعة وإصرار. إن من النتائج المرتجاة لإعادة التشكيل، هو كسر حواجز الخوف التي هيمنت على عقل الإنسان العربي، وجعلته متردداً في قوله كلمة الحق، عاجزاً عن التصدي لعوامل الهدم ، التي سيطرت، وتسيطر على مجتمعه. إعادة التشكيل ستوجد لديه الشجاعة الأدبية التي تمكنه من مقارعة الحجة بالحجة، ومن الاعتراف بالخطأ، إذا وقع منه، والعمل للحق وتنفيذه، ولو كان على نفسه.

من ملامح العقل العربي بصورته الجديدة، وبعد إعادة تشكيله، أن يميز بين الحقوق والواجبات، فلا يخلط بين الذي له ، وبين الذي عليه. فالذي له كحق، عليه أن يسعى لنيله والحصول عليه، دون منة، أو تفضل من أحد . أما الواجب، فعليه أن يؤديه، عن طيب خاطر. كما أن عليه، أن يعلم، أن الحق لا يعطى ، ولكن يؤخذ، ولو تطلب ذلك استخدام القوة والسلاح .

ومن خلال هذه المفاهيم، وتركزها في عقل الإنسان العربي، سيكون بالإمكان استرداد الحقوق المغتصبة، دون تطلع للآخرين، كي يردوها له .

كذلك من ملامح العقل بصورته الجديدة، التحول من حياة الترف والدعة والسكون، إلى الجد والنشاط والحيوية. حياة طابعها الغلظة والشدة في المواقف والظروف، التي تستدعي ذلك، وطابعها الدفء واللين في المواقف الداعية لذلك. بهذا التمازج بين قطبي المعادلة، يمكن تحقيق الأهداف، وإحداث توازن، بين مختلف العناصر، مهما بدت وكأنها مختلفة ومتنافرة.

يضاف إلى ما سبق من ملامح، اكتساب خاصية العمل الجماعي، والتعاون بين الأفراد، كفريق واحد، دون أن يكون على حساب الفرد ونشاطه. فالفرد له دوره المحسوب، الذي لا يمكن إلغاؤه ، لكن العمل الجماعي، أجدى، لما يمثله من حس جماعي، ولما يخلفه من ترابط وألفة, كما أنه يقضي على العيوب والثغرات، التي توجد في الأفراد.( يد الله مع الجماعة ) (المؤمنون في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) .

من ملامح العقل العربي بعد إعادة تشكيله، أن يكون دقيقاً في تعامله مع غيره، ولا يكون دمية، يوجهونه كما يشاؤون ، يتعامل معهم وفق مفاهيم ومبادئ، وأسس ثابتة، وليس وفق أهواء، وآراء سطحية. وهذا الأمر يقتضي، بلا شك ، أن يكون محللاً للأمور، متعمقاً في فهمهما، والتعرف على خواصها، يدع السذاجة والسطحية عنه جانباً، ويعطي للتفكير حقه، وما يستوجبه. كما أنه، سيغلب جانب التعقل والتدبر، على جانب العاطفة ، فلا يكون أسيراً لنزات المشاعر، والرغبات العابرة، بل تكون مواقفه محسوبة، ودقيقة، وقائمة على الدقة والشمولية، والأخذ بكل معطيات وعناصر الموقف، الذي يمر به.

من ملامح إعادة التشكيل، أن يكون للوقت قيمة ومعناه، فلا يضيعه هدراً، ودونما فائدة، بل يحسب كل دقيقة، ويعرف أين، وكيف سيقضيها. يوزع وقته حسب الأولويات، حتى يكون منتجاً في وقته، ومعطاءً في يومه.

من ملامح العقل العربي، بعد إعادة تشكيله، تميزه بخصلة المبادأة والمبادرة، في التعامل مع الأمور والقضايا، فلا ينتظر طويلاً، بل إنه سيقدم بكل عزم وتصميم، على استجلاء جوانب الموقف، والتعرف عليه، ثم اتخاذ الإجراءات المناسبة والسليمة، والتي تمكنه من تجاوز الموقف، وبما يحقق له، ولأمته المنفعة والفائدة.

خطة المبادأة سيترتب عليها طرح أفكار جديدة، ومشاريع وأطروحات بناءة، بالإضافة إلى حسن التوقيت، والربط بين المرحلة التي يمر بها المرء، والخطوة التي يجب أن يخطوها. هذا ومن ملامح العقل، بعد إعادة تشكيلة، اعتماده مبدأ الأولويات، في حياته العامة والخاصة، حيث يسير وفق أسلوب الأهم، فالمهم، والضروري، والأقل ضرورة، بالإضافة إلى المستعجل، فالأقل استعجالاً. ومن خلال هذا المبدأ، سيكون الفرد قادراً على فرز مناشط الحياة، وترتيبها وفق جدول زمني، سواء على مستوى الحياة اليومية، أو الأسبوعية، أو الشهرية، أو حتى السنوية والعمرية. مبدأ الأولويات سيجعل الفرد، يلقي جانباً الأمور التافهة والساذجة، ويهتم بالأمور والقضايا الحاسمة، فيوليها اهتمامه، ويبذل قصارى جهده ونشاطه .

وأخيراً يمكن القول: إن ملامح العقل، بعد تشكيله، بصورته الجديدة، تمتعه بهيبة عامة يمكن من خلالها، أن يفرض نفسه، ورأيه على الصعيد العالمي، فلن يكون بعد اليوم مادة تسلية، تعرضها ووسائل الإعلام الأجنبية، والغربية بالذات. لن يكون مجال تندر واستهجان، من قبل غيره، من خلال الأفلام والبرامج الإذاعية، والتلفزيونية، والكاريكاتورية، والتي ما تفتأ تلتقط السقطات، والعثرات، لتصورها على أنها نمط وتفكير، وأسلوب حياة متكرر. وباختصار لن يكون الإنسان العربي، ذلك الفرد اللاهث وراء الشهوات والنزوات، والعبث بالأموال والخيرات.

فسحة أمل 17 - 8 - 2010 01:05 AM

الغالية مياري جزاك الله خيراً
كل التقدير و المحبة..


الساعة الآن 12:52 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى