منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   القسم الإسلامي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=21)
-   -   المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=9395)

ميارى 23 - 8 - 2010 05:05 AM

اتجاه المستشرقين للتاريخ :

أهمية التاريخ هذه، ولأثره في الأمة، اتجه المستشرقون في أبحاثهم إلى التاريخ، حتى جاءت معظم أعمالهم، سواء الأبحاث أم التحقيق والنشر، أم الترجمة، معظمها في مجال التاريخ،(30) ونعني التاريخ بمعناه العام، التاريخ السياسي والتاريخ الحضاري، والاجتماعي، وتاريخ الفرق والمذاهب، والفكر والفن والعلم، وتاريخ الرجال والطبقات، ومعاجم البلدان.
وفي اهتمام المستشرقين بالتاريخ، وتوظيفهم له، واعتمادهم عليه لتحقيق مآربهم، اتخذوا مناهج وطرقاً تؤدي بهم إلى ما يريدون.
ويمكن أن نتبين ملامح هذه المناهج إذا ميزنا فيها بين جانبين:

أ‌- المنهج من حيث الشكل الخارجي
(ونعني بذلك اختيار الموضوعات، وترتيب الاهتمام بها، وطريقة تناولها بصفة عامة).

ب‌- المنهج من حيث استكمال شروطه، والالتزام بقواعده.
وسنحاول أن نلقي نظرات سريعة على الجانبين نتبين بعض الملامح في كل منهما، على قدر ما تسمح به هذه العجالة.

أولاً: المنهج من حيث الشكل:
(أ‌) الاهتمام بتاريخ الفرق والصراع بينها، وعوامل نشأتها، ومحاولة إثارة أخبارها، ووضعها في بؤرة الشعور، لدى الأمة الإسلامية، وتلك مكيدة، كادها أسلاف لهم من قبل، حيث جلس ذياك اليهودي يحكي أخبار (يوم بعاث) حتى أوقد نار العداوة بين الأوس، والخزرج من جديد، وكادت تكون فتنة، لو لا أن تداركها النبي صلى الله عليه وسلم .
(ب‌) العناية بتاريخ الزندقة والزنادقة، وإبرازهم في صورة أصحاب الفكر الحر، وقادة الفكر، ولهم في هذا الباب دأب عجيب غريب وتستطيع أن تمد يدك إلى أي كتاب مما يتناول أعمال المستشرقين لترى ذلك واضحاً جليًّا، فهذا (هنري كوربان) يعيش حياته مع رفيق عمره – على حد تعبير الدكتور عبد الرحمن بدوي(31) (السهروردي المقتول) فيدرس كتبه ويترجم رسائله، ويحقق وينشر مؤلفاته وكأنه وجد في هذا (السهروردي) الزنديق، الذي عاش زمن الحروب الصليبية، ولم يتورع عن أضاليله وأباطيله، التي كان ينفثها في المجتمع الصامد المثابر المصابر، أمام الهجمة الصليبية الشرسة، مما استحق عليه القتل جزاء زندقته، كأن هذا المستشرق (كوربان) وقع على كنز، فراح يعكف على تراث هذا الزنديق، وكان من أثر ذلك أن تسربت هذه الأفكار على أسنة أقلام المثقفين المعاصرين، فإذا بأحدهم – وهو يكتب عن بعض القضايا الأدبية يطالعنا بعنوان بارز لإحدى مقالاته:
(إعدام حكيم الإشراق.. كان أبشع ما اقترفته يدا صلاح الدين الأيوبي). . وهكذا استطاع (كوربان) أن ينتقم من صلاح الدين الأيوبي أبشع انتقام، وأن يحدث في ثقافة هذا الكاتب المسلم، هذا الصدع الخطير وأن يضع المثقفين أمام هذه المفارقة العجيبة المؤلمة: بين قهر حرية الفكر والرأي، وقهر الصليبيين. . فصلاح الدين قاهر الصليبيين، هو في الوقت نفسه قاتل (السهرودي) قهراً للرأي، ووأداً لحرية الفكر، وعليكم أن تختاروا معشر المثقفين، بين قهر الفكر، وقهر الصليبيين!!.
وكنت قد كتبت تعليقا بمجلة الأمة القطرية عدد 50 ص 96، بعنوان (أصول الأفكار، وجذورها) حاولت فيه أن أبحث عن أصل هذه الفكرة – اتهام صلاح الدين، بوأد الفكر، وقتل السهروردي – وردها إلى منبتها وجذورها، ويومها وقفت بها عند سلامة موسى،(32) حيث رأيتها في كتابه (حرية الفكر وأبطالها في التاريخ:133) إذ قال: (ويجب ألا ننسى أن السهروردي قتل بأمر صلاح الدين الأيوبي. . فقد كان رجلاً كردياً غير مثقف، فاستطاع الفقهاء أن يؤثروا فيه، ويزينوا له قتل السهروردي). .
ويومها لم أكن قد اطلعت على ما كتبه المستشرق (كوربان) عن السهروردي، لأعلم أن (سلامة موسى) متكئ عليه في هذا الكلام، وأن أصل الفكرة، وجذورها ترجع إلى أبعد من سلامة موسى، ترجع إلى (كوربان).
وهكذا إذا استحال عليهم أن يجدوا مغمزًا في صلاح الدين الأيوبي عن طريق التاريخ السياسي، واستعصى عليهم إنكار بطولاته، وفروسيته ونبله، ومروءته، وكرمه، وشرفه، نقبوا في تاريخ الفكر لذلك العصر ليجدوا حادثة (السهروردي) الملحد، فيضخموها، ويكبروها ويجعلوا من الملحد بطلاً، ومثالاً لحرية الرأي، والفكر، التي لم يصبر عليها صلاح الدين الأيوبي، (الكردي الجاهل) فأمر بقتل ذلك (الحكيم)!!!.
ومما يدخل في هذا الباب – أعني توظيف تاريخ الفكر واستخدامه – ما قام به (ماسينيون) من دراسات وأبحاث حول (الحلاج)، يقول أستاذنا الدكتور محمود قاسم: (. . إن الاستعمار الفرنسي للجزائر استطاع بجبروته وعسفه أن يفرض لغته على كثير من المثقفين في الجزائر وشمال إفريقية، غير أنه لم يستطع أن ينال كثيراً من العقيدة الإسلامية، رغم ما بذل المختصون في شؤون الثقافة من محاولات لفصم العقلية الجزائرية عن طريق تمجيد التصوف الكاذب، وإشاعة الخرافات والأباطيل، على نحو ما نراه في مؤلفات (لويس ماسينون) الذي خصص حياته للكتابة في الحلاج(33) فجعله صورة من المسيح في الإسلام، وأعتقد أن ماسينيون، ما كان يعني بالحلاج قدر عنايته بتنفيذ مخطط استعماري أحكم صنعه، فقد ملأ كتابه الضخم عن الحلاج بحشد هائل من الخرافات والترهات والأباطيل، حتى يعمق الهوة بين طائفتين توجدان بالجزائر، طائفة تتمسك بالقديم فتنساق حسب ظنه، إلى اعتقاد أن هذه الخرافات والهذيانات، هي صميم الإسلام، وطائفة مثقفة بالثقافة الحديثة تتجه من جانبها إلى السخرية، والزراية بهذا الإسلام الخرافي، بل من الإسلام كله)(34).
ومن المعروف أن (لويس ماسينيون) هذا (كان مستشار وزارة المستعمرات الفرنسية لشؤون الشمال الإفريقي، والراعي الروحي للمجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر، وحين قامت الحرب العالمية الأولى – وكان قد تزوج منذ شهور - التحق بالجيش الفرنسي، وخاض معركة الدردنيل ضد الخلافة العثمانية، برتبة ضابط في جيش المشرق، ثم رأيناه مع الجيش الذي دخل القدس في سنة 1917م بقيادة اللورد (اللنبي)(35).
ولعل من هذا الباب – عبثهم بتاريخ الفكر والعلم – ما قام به المستشرق (كراوس)، ذلك الصهيوني التشيكي الأصل، الذي عمل أستاذاً للغات السامية في جامعة القاهرة من سنة 1936-1944م حيث عثر عليه وقد شنق نفسه في مسكنه بالزمالك.
عُني هذا المستشرق بتاريخ العلوم عند المسلمين، (وأكب على دراسة الكيمياء عند العرب، وركز بحثه على رسائل جابر بن حيان في الكيمياء، وانتهى في بحث نشره 1930م بعنوان (تحطم أسطورة جابر بن حيان) إلى القول: بأن الرسائل العديدة المنسوبة إلى جابر بن حيان، هي في الواقع من تأليف جماعة من الإسماعيلية)(36).
هكذا، إنكار لوجود جابر بن حيان عبقري الكيمياء المسلم، وتمجيد (للإسماعيلية) تلك الفرقة الباطنية المنشقة المنحرفة، عن عقائد الإسلام وتعاليمه.
فإذا علمنا أن هذا المستشرق كان عضواً في عصابة (اشترن) الصهيونية، التي عملت مع زميلتيها (عصابة الهاجاناه) و (عصابة أرجوان زفاي) على إنشاء إسرائيل في سنة 1948م وذلك بالقتل والإرهاب وسفك الدماء، ويرجح الدكتور عبد الرحمن بدوي، وقد كان صديقاً لهذا المستشرق، ومساعداً له في بعض أبحاثه، أن السبب في انتحاره هو (أن القرعة وقعت عليه، لتكليفه من العصابة بقتل (اللورد موين)، الوزير البريطاني المقيم في الشرق الأوسط، الذي خيل إلى عصابة (اشترن) أنه عقبة في سبيل النشاط الصهيوني، لإيجاد دولة إسرائيل، بدعوى أنه يمالئ العرب، (37)أو في القليل يحارب الإرهاب الصهيوني ضد الإنجليز في فلسطين آنذاك، التي كانت ما تزال تحت الانتداب البريطاني، وتبعاً لذلك كان على (كراوس) أن يختار بين الاشتراك في عملية الاغتيال، أو أن ينتحر، وهو على الحالين مقتول، فيبدو أنه آثر الاختيار الثاني، أعني أن يقتل نفسه بنفسه، بدلا من أن يشترك في قتل (اللورد موين) مما سينجم عنه إعدامه أيضا، كما حدث لمن نفذوا عملية الاغتيال)(38).
فهذا التاريخ (الناصع) لهذا المستشرق، يدلك على قيمة أمانته العلمية، حين ينكر شخصية (جابر بن حيان) ويدعي أنه أسطورة على حيث ينسب علمه إلى فرقة منحرفة، ضالة مضلة، وهي فرقة (الإسماعيلية)! والذي يجمع الأعمال الاستشراقية حول الإسماعيلية، من أبحاث ودراسات، وتحقيق لرسائلها، وترجمات لها، وتاريخ لرجالها، يهوله لا شك حجم هذه الأعمال، ويدرك بأدنى تأمل ما يريده المستشرقون من وراء هذه الأعمال ، وهذه الفرقة.
(ج) القفز وراء العصر الإسلامي، والاهتمام بالتاريخ القديم، لأقاليم دار الإسلام إحياء للفرعونية، والبابلية، والآشورية، والفينيقية، ونحوها، إثارة للنعرات الإقليمية، وتمزيقاً لجسد الأمة الإسلامية. . ونظرة إلى أعمال أحد المؤتمرات الدورية التي يعقدها المستشرقون – وهو المؤتمر الخامس عشر، الذي انعقد في (كوبنهاجن) سنة 1908م – تريك – صدق ما أقول، فقد كان جدول أعمال هذا المؤتمر على النحو التالي:
(1) التاريخ البابلي.
(2) آثار مصر التاريخية.
(3) تاريخ مصر القديم واكتشاف البردي
(4) المدافن الملكية من السلالة الرابعة عشرة.
(5) المدافن الملكية من السلالة الخامسة.
(6) اكتشاف الكرنك.
(7) أميرات مصر وملكاتها القديمات.
(8) ما بين الكتب المقدسة والآثار المصرية.
(9) مشروعات اليهود الدينية.
(10) حفريات أريحا والآثار الكنعانية.
(11) النظام الكنائسي في آسيا في القرن الرابع
عشر.
(12) رسوم الملك جوستينيان.
(13) فضل الكنيسة في إبطال الرق في القرون الوسطى.
(14) تاريخ الشرق والإسلام.
(15) اقتصاد العرب المالي في يد الفتح المصري.
(16) تاريخ بني إسرائيل.
(17) هيكل جزيرة أسوان وآثارها المكتشفة.(39)
وقد بذلوا جهوداً مضنية في البحث والتنقيب، والدراسة، والإشادة بهذه الحضارات البائدة، والتنويه بشأنها، وإغراء أهل كل إقليم بماضيه القديم حتى صارت الفرعونية في مصر مثلاً تناطح العروبة، وأصبح قرن الشر يطلع علينا من آن لآخر، في صورة هذا السؤال:
فرعونيون أم عرب؟ وهكذا في كل أقاليم ديار الإسلام!!.

وعلى حين كانت الثقافة، وكان التعليم، يتجاوز العصور التي قبل الإسلام ويوجز الحديث عنها، بدأ الاهتمام بها، ووضعها في مركز الشعور وتستطيع أن تتبين ما أقول إذا قرأت هذا الكلام لطه حسين، قال: (ولم ينس الفتى – يقصد نفسه – يوماً خاصم فيه ابن خالته، الذي كان طالباً في دار العلوم، ولج بينهما الخصام، فقال الدرعمي للأزهري: ما أنت والعلم، إنما أنت جاهل لا تعرف إلا النحو والفقه، لم تسمع قط درساً في تاريخ الفراعنة، أسمعت قط باسم رمسيس أو أخناتون؟ وبهت الفتى حين سمع هذين الاسمين. . وحين سمع ذكر هذا النوع من التاريخ، اعتقد أن الله قد كتب عليه حياة ضائعة لا غناء فيها، ولكنه يرى نفسه ذات ليلة في غرفة من غرفات الجامعة يسمع الأستاذ أحمد كمال رحمه الله، يتحدث عن الحضارة المصرية القديمة، ويذكر رمسيس وأخناتون، وغيرهما من الفراعنة، ويحاول أن يشرح للطلاب مذهبه في الصلة بين اللغة المصرية القديمة وبين اللغات السامية، ومنها اللغة العربية، ويستدل على ذلك بألفاظ من اللغة المصرية القديمة يردها إلى اللغة العربية مرة وإلى العبرية مرة، وإلى السريانية مرة أخرى، والفتى دهش ذاهل، حين يسمع كلّ هذا العلم.. وهو يعود إلى بيته ذلك المساء، وقد ملأه الكبر والغرور، ولا يكاد يلقى ابن خالته حتى يرفع كتفيه ساخراً منه ومن دار علومه، التي كان يستعلي بها عليه، وهو يسأل ابن خالته، أتتعلمون اللغات السامية في دار العلوم؟ فإذا أجابه بأن هذه اللغات لا تدرس في دار العلوم، أخذه التيه، وذكر العبرية والسريانية، ثم ذكر الهيروغليفية وحاول أن يشرح لزميله كيف كان المصريون القدماء يكتبون).(40)
وهكذا كان الأزهريون لا يسمعون باسم رمسيس وأخناتون، وكانت دار العلوم تمر على تاريخ الفراعنة مر الكرام، فلما جاءت الجامعة المصرية، وجاءت مناهج المستشرقين، صار تاريخ الفراعنة، وحضارة الفراعنة، ولغة الفراعنة محل عناية بالغة، جعلت للفرعونية مكاناً ومنزلة، مما أدى إلى أن تصير الفرعونية توجهاً مطروحاً بين التوجهات، ثم إحياء لإقليمية ضيقة ذات حدود محصورة مقصورة،وما حدث في إحياء الفرعونية حدث مثله مع البابلية، والآشورية، والفينيقية، وأخواتها، مما نجني ثماره علقماً بهذا التشرذم الذي نعيشه الآن.
(ذ) تمزيق تاريخ الأمة الإسلامية، طولاً وعرضاً بتقسيمه طولاً إلى تواريخ أسر: الأموية، والعباسية، والمماليك، والعثمانيين، الخ. . . وعرضا بتقسيمه إلى تواريخ أقاليم ومناطق، يمدها في العمق قبل الإسلام – كما أشرنا – لإثارة عوامل الفرقة، ومظاهر الاختلاف، ومؤكدًا إياها، ومذكراً بالصراعات والحروب والخصومات والإحن.
على حين الأصل في تاريخ دار الإسلام، أن يدرس – إذا أردنا دراسة علمية منهجية صحيحة – على أنه صراع بين المسيحية الشمالية المعتدية التي جاء الإسلام فوجدها مسيطرة على الشام ومصر، والشمال الأفريقي، فخلص هذه الديار من سلطانها وردها إلى عقر دارها، فاندحرت تحمل ذل الهزيمة على جباهها ونار الحقد والثأر في قلوبها، ثم كان الجهاد الإسلامي استجابة للأمر بتبليغ رسالة الإسلام للعالمين، فكان فتح الأندلس، ومحاولات فتح القسطنطينية، ثم الصراع الدائم على الحدود والثغور، ثم جولة الحروب الصليبية التي استمرت نحو قرنين، ثم سقوط القسطنطينية، ودخول الإسلام إلى قلب أوروبا، ودخول كثير من أقاليمها في الإسلام، ثم محاولة الصليبية الالتفاف حول ديار الإسلام، وعقد الأنشوطة حوله –على حد تعبير (توينبي) مؤرخهم – ثم محاولة اختراق ديار الإسلام منذ القرن التاسع عشر، على أيدي (نابليون) وحملته على الشرق، (وليس على مصر كما يلقنوننا) ثم حملة (فريزر) التي أرادت الدخول من بوابة مصر أيضاً، ثم حملة فرنسا على الجزائر سنة 1830م. . . إلخ . . هذا هو تاريخ الإسلام إن أردنا أن ندرسه على حقيقته، بمنهج علمي سليم.
أما معركة الجمل، ومعركة صفين،والتحكيم، والخوارج، ووقعة الحرة، وكربلاء ومقتل أبي مسلم الخرساني، وصراع الأمويين والعباسيين. . الخ.. فتلك عثرات على الطريق، وهي لازمة للقصور، والضعف البشري، فنحن لا نزعم أن أسلافنا ملائكة، وهي على أية حال جزئيات تظهر في الصورة، ولكنها لا يمكن – عند المنهج العلمي السليم – أن تغطي على عمود الصورة الكلية أو تؤثر في بنائها، كما أنها واقعاً وحقاً – لايجرؤ أن ينكره منكر – لم تؤثر في تدفق نهر تاريخ أمتنا، ولم تكدره، بل ظل أكثر من ألف عام تدفقاً معطاء.
ولا يتوهمن أحد أننا نريد أن نخفي شيئاً من تاريخنا، فنحن نعي أننا نكتب تاريخ بشر، لا تاريخ ملائكة، وإنما الخطر في ذلك المنهج الذي يقف عند هذه العثرات، ويصوغ منها تاريخنا، ولذا نشأت أجيال لا أقول من عامةالمثقفين، بل من خاصتهم، بل من خاصة الدعاة إلى الإسلام، ممن لا نغمطهم في علم ولا في خلق ولا في دين ولا في غيرة، واحتراق من أجل الإسلام، أقول نشأت أجيال من هؤلاء، ولم يبق في ذهنهم من تاريخ أمتنا إلا هذه المآسي التي انطبعت في أعماق أعماقهم، وهم في أول الطريق، فجاء جيل بعد جيل، وهم يمقتون تاريخهم، ويتخيلونه ساحة مظلمة، يسيطر عليها الجهل والطغيان، والقتل، والظلم الاجتماعي.(41)
ولو نظرنا في تاريخ أوروبا، لوجدنا أن ما دار بينهم من صراع، وما كان عندهم من مآسٍ، وما صبغ أيامهم من دم، وما غطى عصورهم من جهل، وما ران على تاريخهم من ظلم، وما تردت فيه خطواتهم من وحل، لوجدنا أن ما كان عندهم يفوق بعض بعضِه، كلَّ ما كان عندنا، بل إن ما كان عندنا أبداً لا يذكر في مقابلة ما كان عندهم، (وكلكن التاريخ الأوروبي عثر على مؤرخين أعادوا إليه الحياة، وقدموه في إطار حي بصورة فنية رائعة بكل، عناصرها، الخلفية والتكوين والأضواء والظلال، والألوان والمساحات).(42)
وبقينا نحن نتطلع إلى تاريخهم بإعجاب، معتقدين أنهم لم يعرفوا هذه المسي التي لم يبق غيرها مستقراً في أعماقنا، من تاريخ أمتنا.
ولم يقتصر تقسيمهم التاريخ إلى فترات زمنية، على التاريخ السياسي فقط، بل شمل ذلك تاريخ الأدب العربي أيضاً، فقسموه إلى العصر الجاهلي ثم صدر الإسلام، ثم العصر الأموي، والعصر العباسي،. . إلخ، على نحو ما هو معروف، يؤكد ذلك الدكتور أحمد أمين، حيث يقول في كتابه (حياتي): (إن فكرة تصنيف الأدب العربي إلى عصور مختلفة مع تحديد خصائص كل عصر، وتحليل سير مؤلفيه، لم تكن معروفة بمصر لحين وصول المستشرقين).(43)
(هـ) اختزال تاريخ الإسلام والمسلمين:
فقد ألفت كتب كثيرة في تاريخ العالم، أو تاريخ الحضارة الإنسانية، فكان مؤلفوها الغربيون، يختزلون تاريخ الإسلام والمسلمين، اختزالاً يوحي بقيمته ومكانته في نفوسهم، بل يوحي بانحراف منهجهم، وسوء قصدهم، ويكفي مثالاً على ذلك الكتاب الذي كتبه (هـ . ج . ويلز) باسم (معالم تاريخ الإنسانية) وترجمه إلى العربية عبد العزيز توفيق جاويد، وطبعته لجنة التأليف والترجمة والنشر بمصر، ولا تجد في الكتاب إلا تاريخ الجاهليات، والوثنيات، أما تاريخ الإسلام وأثره في (معالم تاريخ الإنسانية) فلم يذكره إلا بفصل من 53 صفحة.
والسر في ذلك أنهم دائما يكتبون التاريخ من مركز الدائرة الأوروبية، أي ينظرون من زاوية أوروبية، وبعيون أوروبية، فتاريخ العالم هو تاريخ الغرب وأما ما سوى الغرب، فهو لا يذكر إلا بمقدار ما يتصل بالغرب، أو يتأثر به، أو يأخذ عنه، فما سوى الغرب نقاط متناثرة حول صلب التاريخ وعموده.
ثانياً : المنهج من حيث استكمال شروطه، والالتزام بقواعده:
ومع أننا نتحدث عن كتابات الغربيين في التاريخ، إلا أننا سنرى أن ما سنقوله هنا ينطبق على مناهجهم في الدراسات الاستشراقية بصفة عامة، في التاريخ وغيره، كالدراسات الأدبية والدراسات حول القرآن، وحول السنة وكل ما تخطه أيديهم مما يتصل بالإسلام والعربية.
ولأننا جعلنا كتاباتهم في التاريخ موضوعنا، سنقصر أمثلتنا على الكتابات التاريخية وحدها، لنكون ملتزمين بموضوعنا. . إن شاء الله . .
ونستطيع أن نوجز هذه الملامح والسمات المنهجية وإن شئت قلت: المآخذ المنهجية على النحو الآتي:


أ - الخضوع للأهواء وعدم التجرد


للبحثشرط المنهج الأول، وأساسه، التجرد من الأهواء، وعدم الوقوع تحت سلطانها، فلا يميل الهوى بالباحث لإثبات ما يوافق هواه، ونفي ما عداه فما بالنا بمن يحدد الغرض أولاً، والنتيجة مسبقاً، ثم يبدأ في البحث عما يؤيدها، والتنقيب عما يثبتها، فهذا ليس علماً، وليس بحثاً، مهما كانت صورته، ومهما كان شكله، وهذا هو ما يعمله المستشرقون، فهم (يعينون لهم غاية، ويقررون في أنفسهم تحقيق تلك الغاية بكل طريق، ثم يقومون لها بجمع معلومات – من كل رطب ويابس – ليس لها علاقة بالموضوع، سواء من كتب الديانة والتاريخ، أو الأدب أو الشعر، أو الرواية، والقصص، أو المجون والفكاهة، وإن كانت هذه المواد تافهة لا قيمة لها، ويقدمونها بعد التمويه بكل جراءة، ويبنون عليها نظرية، لا يكون لها وجود إلا في نفوسهم وأذهانهم (العلامة أبو الحسن الندوي، الإسلام والمستشرقون:19، المجمع الإسلامي العلمي، ندوة العلماء، لكنو، الهند، 1402هـ – 1982م).
وما ذكرناه في هذا البحث آنفاً عن أهداف المستشرقين وغاياتهم، يشير إلى هذه الآفة، فالمستشرق يبدأ بحثه وأمامه غاية حددها، ونتيجة وصل إليها مقدماً، ثم يحاول أن يثبتها بعد ذلك، ومن هنا يكون دأبه، واستقصاؤه الذي يأخذ بأبصار بعضهم، وهو في الواقع يدأب، ويشقى ويكد لينحِّي ما يهدم فكرته ويكذب رأيه، ويخفي ويطمس ويتجاهل كل ما يسوقه إلى نتيجة غير التي حددها سلفاً، ومن هنا تأتي أبحاثهم عليها مسحة العناء والاستقصاء، ولكنه عناء الالتواء، واستقصاء من يجمع من لا شيء شيئاً، ويصنع من الهباء بناء ويبني من الغبار صرحاً.
يقول أستاذنا محمود شاكر، عن هذا الخطر، والخلل المنهجي:
(وأما الأهواء، فهي الداء المبير والشر المستطير، والفساد الأكبر، إن هو ألم بأي عمل إلمامة خفيفة الدبيب ، بله الوطء المتثاقل، أحاله إلى عمل مستقذر منبوذ كريه، حتى ولو جاءك هذا العمل في أحسن ثيابه، وحليه وعطوره، وأتمها زينة، من دقة استيعاب وتمحيص، ومهارة، وحذق وذكاء).(44)
هذا الداء المبير، والخطر الوبيل، حذر منه علماؤنا الأقدمون، منذ أكثر من ألف عام، حيث وضعوا قواعد المنهج، وحددوا أركانه وشروطه، فتردد في كتبهم، ونبهوا عليه في كثير من مؤلفاتهم، وخصوا هذه القواعد بكتب ورسائل خاصة فمن قبل ألف عام قرأت الدنيا للحسن بن الهيثم المتوفى سنة 430 هـ 1038م، فيما وضعه من قواعد المنهج قوله في كتابه (المناظر)..
(ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل، لا اتباع الهوى، ونتحرى، في سائر ما نميزه، وننتقده طلب الحق، لا الميل مع الآراء، فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج (45)الصدر، ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف، وينحسم بها مواد الشبهات).(46)
هكذا، استعمال العدل والبعد عن الهوى، وطلب الحق، وعدم الميل مع الآراء، شرط للوصول إلى اليقين والحقيقة!! فهل كان المستشرقون يبغون اليقين ويريدون الحقيقة؟؟.

ب - عجز المستشرق عن تمثل الثقافة واللغة
إذا كان من شروط المنهج البراءة من الأهواء، كما ذكرنا آنفاً، فإن من شروطه أيضاً إدراك اللغة والإحاطة بأسرارها، أسرار اللغة التي يبحث الباحث في آدابها وعلومها، وفنونها، وكذلك إدراك (الثقافة) والإحاطة بسرها، (ثقافة) الأمة التي يريد أن يبحث في تاريخها، وعقائدها، وعمرانها، وحضارتها، وعقائدها ودينها.
وذلك لازم للمستشرق وغير المستشرق، "هذه الشروط لا يختلف في شأنها أحد قط في كل ثقافة، وفي كل أمة، فإذا كان لا يعد كاتباً أو باحثاً أو عالماً من أبناء اللغة، وأبناء الثقافة أنفسهم، إلا من اجتمعت له هذه الشروط فإذا عري منها لم يكن أهلاً للنزول في ميدان (المنهج) فإذا فعل، فهو متكلم لا أكثر، ثم لا يلتفت إلى قوله، ولا يعتد به عند أهل البحث والعلم والكتابة.
والمستشرق فتى أعجمي ناشئ، في لسان أمته وتعليم بلاده، ومغروس في آدابها وثقافتها. . ثم يشدو طرفاً من علوم العربية وآدابها، يأخذها من أعجمي مثله، ثم يخرج على الناس بعد ذلك (مستشرقاً)، يفتي في اللسان العربي، والتاريخ العربي، . . . . غاية ما يمكن أن يحوزه (مستشرق) في عشرين أو ثلاثين سنة. . أن يكون عارفا معرفة ما بهذه (اللغة) وأحسن أحواله عندئذ أن يكون بمنزلة طالب عربي، في الرابعة عشرة من عمره، بل هو أقل منه على الأرجح، أي هو في طبقة العوام الذين لا يعتد بقولهم أحد في ميدان (المنهج).. على أن اللغة نفسها هي وعاء (الثقافة) فهما متداخلتان، فمحال أن يكون محيطًا أيضاً بثقافتها إحاطة تؤهله للتمكن من (اللغة) فمن أين يكون (المستشرق) مؤهلاً لنزول هذا الميدان؟. .
وإذا كان أمر (اللغة) شديداً لا يسمح بدخول المستشرق تحت هذا الشرط اللازم للقلة التي تنزل ميدان (المنهج) و(ما قبل المنهج) فإن شرط (الثقافة أشد وأعتى، لأن الثقافة سر من الأسرار الملثمة في كل أمة من الأمم، وفي كل جيل من البشر، وهي في أصلها الراسخ البعيد الغور، معارف كثيرة لا تحصى، متنوعة أبلغ التنوع، لا يكاد يحاط بها، مطلوبة في كل مجتمع إنساني، للإيمان بها أولاً من طريق العقل والقلب، ثم للعمل بها، حتى تذوب في بنيان الإنسان، وتجري منه مجرى الدم، لا يكاد يحس به، ثم للانتماء إليها بعقله وقلبه، انتماء يحفظه ويحفظها من التفكك والانهيار، وهذه القيود الثلاثة: (الإيمان) و (العمل) و (الانتماء) هي أعمدة (الثقافة) وأركانها التي لا يكون لها وجود ظاهر محقق إلا بها، وإلا انتقض بنيان (الثقافة) وصارت مجرد معلومات ومعارف وأقوال مطروحة في الطريق متفككة لا يجمع بينها جامع، ولا يقوم لها تماسك، ولا ترابط ولا تشابك. .
وبديهي، بل هو فوق البديهي، أن شرط (الثقافة) بقيوده الثلاثة، ممتنع على (المستشرق) كل الامتناع، بل هو أدخل في باب الاستحالة من اجتماع الماء والنار في إناء واحد، كما يقول أبو الحسن التهامي الشاعر:

ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

وذلك لأن (الثقافة) و(اللغة) متداخلتان تداخلاً لا انفكاك له، ويترافدان ويتلاقحان بأسلوب خفي غامض كثير المداخل والمخارج والمسارب، ويمتزجان امتزاجاً واحداً غير قابل للفصل، في كل جيل من البشر، وفي كل أمة من الأمم. . فأنى للمستشرق أن يحوز ما لا يحوزه إلا من ولد في بحبوبة اللغة وثقافتها منذ كان في المهد صبيًّا. . . . . . .".(47)
وهذا كلام مبين غاية الإبانة، واضح تمام الوضوح، لا تحتاج معه إلى جليل ومع ذلك أسوق لك من كلام أحد المستشرقين وكبار دهاقينهم ما يؤكد هذا. كتب شيخ المستشرقين الروس، وأقدرهم بإطلاق (كراتشوفسكي) إلى شقيقته يقول لها: (إن اللغة العربية تزداد صعوبة، كلما ازداد المرء دراسة لها) – أرجع إلى المقدمة التي كتبتها زوجته لكتابه (مع المخطوطات العربية) ترجمة الدكتور محمد منير مرسي. قلت: ما باللغة العربية من صعوبة !! وكيف تزداد صعوبتها مع الأيام؟ وكلما ازداد دراسة لها؟؟ لكنه العجز الفطري والعجمة الموروثة، فأني يهرب منها (كراتشوفسكي) وأضرابه.
وإن كنت بعد في شك من أمر عجز المستشرق عن استكناه سر اللغة، وإدراك كنه الثقافة، فسأضع بين يديك نماذج لما وقعوا فيه من أوهام غليظة (48)نتيجة لهذا العجز المهين، فمنها : "شرح كرترمير، (الأحداث) بالغوغاء، وتفسير كازانوفا، لفظ (أمي) بشعبي، ومن ذلك ما وقع فيه المستشرق الألماني (براجستراسر) في تحقيق كتاب مختصر في شواذ القراءات لابن خالويه، حيث صحف كلمة أبي عمرو بن العلاء: (فقد تربع في لحنه) وجعلها: (فقد تربع في الجنة، مع أن المقام مقام ذم".(49)
وإذا كانت هذه الأخطاء لا يترتب عليها كبير خلل في المعنى، أو قضايا علمية، فهناك ما يترتب عليه فساد في المعنى، وأحكام شرعية، فمن ذلك ما قاله (م. وات) من تفسير الغض من البصر بأنه التواضع، حيث قال: (وقد نزلت آيات أخرى تدعو المؤمنات إلى التواضع) [وقل للمؤمنات يغضُضْن من أبصارهِنَّ، ويحْفظْن فُروجهنَّ، ولا يُبدين زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها] (سورة النور:31).(50)
هكذا يرى أن هذه الآية تدعو إلى التواضع، ولسنا ندري من أين جاءه هذا المعنى، مع أن السياق، يشير إلى أن الأمر بغض النظر هنا هو عدم النظر إلى ما لا يحل نظره من الأجنبي، ولا علاقة لهذا بالتواضع.
ونموذج آخر للمستشرق (فان فلوتن) وهو يعتبر أحد المستشرقين المعنيين بالتاريخ الإسلامي، المتخصصين في فترة الأمويين والعباسيين، وتستطيع أن تجد اسمه يتردد في كثير من الكتب الجامعية مرجعًا من مراجعهم يباهون به، ويفتخرون بالاعتماد عليه، وهو يغريهم بما ينسبه إلى الطبري، والبلاذري، واليعقوبي، والواقدي، ونحوهم، فيخيل للباحثين والدارسين أنه (وثق) كل أخباره، وأتى بها من منابعها، فيعجبون به، ويطمئنون إليه.

ميارى 23 - 8 - 2010 05:07 AM

السيطرة العربية

لفلوتن كتاب بهذا الاسم، ونظراً لأهميته في مجال التاريخ حظي بعناية من رجال التاريخ عندنا، فترجمه إلى اللغة العربية سنة 1934م، الدكتور حسن إبراهيم حسن، ومحمد زكي إبراهيم، وطبعت هذه الترجمة طبعتان، ثم ترجمه سنة 1980م مرة ثانية الدكتور إبراهيم بيضون. . وفلوتن متخصص في تاريخ هذه الفترة حيث كانت أطروحته للدكتوراه في نفس الموضوع ودراسته ومقالاته وأبحاثه تتجه كلها هذه الوجهة.
ومن هنا كان لكلامه وزن وقيمة، وكان (لتحريفه) للمصادر، (وخيانته) للمنهج خطر عظيم، وكان هذا منه جرماً أي جرم.
ونحن نلتزم بهدفنا هنا، فلا يعنينا ما في الكتاب من تهجم على الإسلام والمسلمين، الذي لا يعدو أن يكون سبًّا وشتمًا (بأسلوب أكاديمي) وإنما يعنينا هنا جريمته في حق تراث أمتنا، وكيف حرف المصادر والمراجع وزيفها. وإليك هذا المثال:
جاء في ص 66: "ولقد أصابت الأسر المرموقة في الكوفة ثراء، فاحشاً كان مصدره (المغانم) والأعطيات السنوية، فكان الكوفي إذا ما ذهب إلى الحرب يصطحب معه أكثر من ألف من الجمال، عليها متاعه وخدمه" ثم نسب ذلك إلى الطبري:2/8106 س8.
وعلى البديهة نرفض أن يكون هذا الكلام في الطبري، فنحن نعرف الطبري رضي الله عنه إماماً عالماً، مؤرخاً محدثًا فقيهاً، أو على الأقل (عاقلاً، يدري ماذا يقول) !! فكيف يذهب الجندي المقاتل إلى الميدان ومعه أكثر من ألف من الجمال، تحمل متاعه وخدمه؟ كيف يقاتل ومعه هذه الحاشية؟ وما يصنع بحمل ألف جمل من المتاع في الميدان؟ وإذا فرضنا أن الجيش كان عشرة آلاف مقاتل (وهذا تقدير متواضع) فكم عدد الجمال التي تحمل متاعهم؟ أليست أكثر من عشرة ملايين من الجمال؟ كيف يتحرك هذا الجيش؟ وأية طرق تسعهم وأية مياه تكفيهم؟ وأية مراع تطعمهم؟ وإذا سقط من الجيش بضع مئات أو آلاف قتلى في الميدان، فأين تذهب الملايين من الجمال التي تحمل أمتعتهم.
لو قرأ أي عاقل هذا الخبر في أصح كتاب لا تهم صاحبه أو على الأقل نسبه إلى الخطأ والوهم، ورفض أن يحكي هذا الكلام أو ينقله.
ولكن المستشرق العظيم في غمرة اجتهاده، لإثبات أن فتوحات المسلمين كانت انتهاباً لخيرات وثروات البلاد التي فتحوها، راح يجمع الأدلة من هنا وهناك ويلويهاليًّا، ويزيفها تزيفاً، إلا أننا ما كنا نتوقع أن يخرج بتزييفه إلى حد اختراع هذه الخرافة، التي لا شك أنه لم ينتبه إليها، فقد شهدت عليه لا له.
وهل لذلك أصل في الطبــري؟؟
إن عبارة الطبري تقول على لسان قيس بن الهيثم أحد أصحاب مصعب بن الزبير قبيل التحامه مع جيش عبد الملك بن مروان، يُرغب أهل العراق في القتال، ويبين لهم حسن معاملة ابن الزبير لهم، ورفعه لمنزلتهم ومكانتهم: ". . والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح إن أرسله في حاجة، ولقد رأيتنا في الصوائف، وأحدنا على ألف بعير. ."
فالقائل هنا يريد أن يوازن لأهل العراق بين معاملة خليفة الشام لأصحابه فالسيد منهم يقف بالباب، ويعتدها تكريما من الخليفة لو أرسله في حاجته، وبين إكرام حكامهم (الزبيريين) لهم، فالواحد منهم على ألف بعير، ومعنى على ألف بعير، أي أمير ألف، وكان هذا أكبر لقب في الجيش، بعد القائد العام، أي أنهم في كنف الزبيريين كلهم أمراء.(51)

ميارى 23 - 8 - 2010 05:09 AM

التعسف في التفسير والاستنتاج

فإذا تركنا شروط المنهج، وما رأيناه آنفاً، من أن المستشرق محروم منها وجدنا لوناً آخر، بل ألواناً من خيانة المنهج، أعني ما ذكرناه آنفا من البراءة من الهوى، وسنعرض طرفاً من أفانين خيانة المنهج، ونبدأ بما سميناه (التعسف في التفسير والاستنتاج) فهنا لا يكون اللفظ العربي مستعصيا مستغلقا على المستشرق، ويمكنه – لو أراد – أن فهمه فهماً صحيحاً، ولكنه يميل مع هواه فينطق النص بما يتفق وهدفه، ويشبع هواه، والأمثلة على ذلك كثيرة – ككل خيانات المستشرقين – لا تقع تحت حصر، ولكن يكفي أن نذكر مثالاً للمستشرق (المنصف) (المعتدل) م. وات: وذلك حين يفسر أمر القرآن الكريم للمؤمنين بالاستئذان قبل الدخول لبيوت غير بيوتهم، وأمر المؤمنين والمؤمنات بغض البصر(52). يفسر ذلك بانحطاط في مستوى الأخلاق، كان النبي صلى الله عليه وسلم ، بحاجة إلى السمو به(53).
فمن أين أتى بهذا الاستنتاج؟؟ وهل تسمح النصوص القرآنية الكريمة بأن يستنتج منها هذا الاستنتاج العجيب.
هل إذا كانت الأخلاق (غير منحطة) يسمح بدخول بيوت الغير بدون استئذان؟؟
إذا نصح هذا المستشرق ابنه وهو يؤدبه ويعلمه، ألا يدخل بيتاً غير بيته إلا بعد أن يستأذن، أيدل ذلك ( على انحطاط مستوى أخلاق ابنه)؟؟ وعلى انحطاط مستوى أخلاق مجتمعه؟؟..
ونعود إلى (فلوتن) وكتابه (السيطرة العربية) لنأتيك منه بمثال آخر: جاء في ص 67 قوله: "وقد فرضت حالة الترف المتصاعدة هذه – يقصد الترف الذي أصابه المسلمون ثمرة للفتوح – تغطيةً دائمة لمواجهة متطلبات جديدة، واللجوء إلى الاستدانة كطريقة فذة من أجل إشباع رغباتهم.." ثم أحالنا على الطبري: 1/2811.

فماذا نجد في الطبري في هذا الموضع؟

لم نجد في الطبري إلا خبراً عن استدانة سعد بن أبي وقاص من بيت مال الكوفة، وكان خازن بيت المال عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، وكان سعد والي الكوفة، فاستقضى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سعداً، واشتد في مطالبته، فاستمهله سعد فلم يقبل، وكان بينهما تلاوم، ووصل إلى عثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعاً، فلا مهما معاً، وقال لهما: أنتما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف تتلاحيان هكذا أمام الناس وعزل سعدًا وأقر عبد الله بن مسعود على عمله.
هذا هو ما ذكره الطبري، فكيف يفهم منه أي قارئ ، بله باحث ضليع يقتعد مقعد الأستاذية؟؟
كيف يفهم من هذه الحادثة أن الاستدانة قد صارت ظاهرة في المجتمع؟؟.. وأنها أصبحت وسيلة (فذة) لإشباع الترف الذي شاع فيه؟ كيف يفهم هذا؟؟ وبأي منطق يقال هذا؟؟ وأي ترف كان في مجتمع الكوفة سنة 26هـ. ثم لو نظر إلى هذه الحادثة بعين مجردة، ودون تعمق ولا (منهج بحث) ولا . . ولا . . ألا يجد فيها فخراً للإسلام والمسلمين؟؟ ألا يرى كيف لم يستطع الحاكم (والي الكوفة) أن ينال من مال الجماعة إلا قرضاً؟ ثم ألا يرى كيف كانت أمانة خازن بيت المال، الذي لم يسعه السكوت عن (الوالي) واصطناع يد عنده، وأي (يد)؟ بالتأجيل فقط طبعاً (لا بالتنازل) ثم ألا يرى تلك الحرية التي وسعت (موظفاً) (صرافاً) (خازناً) يلاحي الأمير، ويناصيه ويغلظ له؟؟!! أية (ديمقراطية) هذه؟؟ ألا تهز أعطافه؟ ألا تروعه؟ ألا تبهره؟
لو لم تلعب بهذا (المستشرق) الأهواء لرأي في هذا لوناً من الضبط الإداري، وتنظيماً مبكراً لمالية الدولة، وفصلاً بين سلطة الحاكم (والي الكوفة) وسلطة خازن بيت مال الولاية، بحيث لا يملك الحاكم أن ينال من مال الدولة شيئاً، أي شيء. كان من الممكن أن يقف (فلوتن) أمام هذا الموقف بين سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، موقفاً آخر، ينطلق منه إلى قضية أخرى، قضية الإدارة والتنظيم الإداري للولاة، وللدولة الإسلامية منذ عهدها المبكر.
ثم ألا يتبادر إلى الذهن أن الحاجة، والفاقة هي التي ألجات سعداً إلى الاستدانة؟؟ وهذا هو الواقع!!! ففيم كان يستدين سعد في ذلك الوقت؟؟ وفي أي مجال كان ينفق في ذلك الحين؟؟ فقد كانوا يعيشون عيش الكفاف!!!
ثم لو مد بصره قليلاً، لقرأ في الأسطر التالية بقية القصة، وكيف أن سعداً لشدة ألمه من عنف عبد الله بن مسعود، وعدم رفقه وتأنيه به – رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم ربّ السماوات والأرض.. فقاطعه عبد الله بن مسعود قائلاً: ويلك!! قل خيراً ولا تلعن. وخاف أن يدعو سعد عليه، فقال سعد عند ذلك: أما والله لولا اتقاء الله، لدعوت عليك!!! كلمات تقطر تقوى وتندى بالحب والإخاء، ومواقف تنطق بالطهارة والتعفف.
ولو قرأ بقية الصفحة لوجد أن الأمير الذي تولى بعد سعد على الكوفة مكث خمس سنوات، وليس على داره باب!!! فأي ترف؟ وأي استدانة؟؟
ولكن هكذا بهذا التحريف، وبهذا التزييف استكره النص، واستنطقه ما لا ينطق به ، وقال على الطبري ما لم يقل، وقلب الحسنات سيئات.
وكل هذا الخلل والتعسف إنما جاء (فلوتن) من الفكرة التي سيطرت عليه مسبقاً، وهي أن المسلمين نالوا من الفتوحات أموالاً طائلة، حققت هدفهم من الغزو، وجعلتهم يعيشون عيشة الترف والسرف والبذخ، فلما اصطدم بما قرأه في الطبري من قصة استدانة سعد بن أبي وقاص، وتأخره في السداد، مما يجعل الذهن ينصرف تلقائيًّا إلى عجز مرتبات الولاة عن أن تقوم بشؤونهم ونفقاتهم – كان عليه أن يلوي عنق النص، ويعتسف طريق فهمه وتفسيره، حتى ينطقه بما يريد أن يثبته من شيوع حالة الترف وسيطرتها على المجتمع، "وأن اللجوء إلى الاستدانة كان الطريقة الفذة من أجل إشباع الرغبات"..
ولا يقف تعسف (فلوتن) وتزييفه للنصوص عند هذا الحد، بل نجد أمثلة كثيرة، نذكر منها ما قاله في ص 68، فبعد أن ذكر أن الفتوح الإسلامية كانت من أجل الغنائم والأسلاب، وأن تقسيم أربعة أخماس الغنائم على الجند كان الدافع وراء هذه الفتوحات التي منها "ما لم يكن في حقيقته سوى حملات من الإرهاب، أو قطع الطريق، ضد شعوب لا تبغي سوى السلام" قال بعد ذلك مباشرة: "ولعل ما حدث في سمرقند يعتبر مثالا صارخاً لهذا النوع من (الفتوح) – يقصد، كما وضح من كلامه آنفاً، فتوح السلب والنهب وقطع الطريق – فقط استسلمت هذه المدينة على إثر معاهدة أبرمتها مع سعيد بن عثمان، (54)مقابل دفع سبعمائة ألف درهم، وتقديم ألف من سكانها رهائن.
ثم استولى عليها قتيبة بن مسلم في وقت لاحق (حسب الرواية العربية) (كذا) وطرد أهلها، واحتل جنودُه، منازلها، رغم التزامهم بالمعاهدة المبرمة مع القائد السابق". انتهى. بنص حروفه.
والحق لقد فزعت حين قرأت هذا الكلام، لا من حدوث مثل هذه الشناعة من القادة المسلمين، فمعرفتي بتاريخ أمتي، والروح الذي سادته، يجعل ذلك لا يخطر لي ببال، ولكن فزعي من أن يصل الأمر في الاجتراء والافتراء إلى أن ينسب الغدر إلى جيش المسلمين، ويضرب مثالاً للفتوح، التي لا باعث لها، إلا السلب والنهب.
وإمعانا في التغرير يلبس الرجل طيلسان العلماء، ويرفع راية (المنهج) و(البحث العلمي) فيسند ظهره إلى المصادر والمراجع، وقد اختار شيخ المؤرخين الطبري، لينسب إليه هذا الكلام.
فلننظر ماذا عند الطبري، وماذا قال، ثم نرى هل يمكن أن يفهم منه هذا الكلام العجيب؟؟
أولا – عزا قوله: إن سمرقند استسلمت لسعيد بن عثمان إلى الجزء الثاني ص 1245،1246.
وليس في هاتين الصفحتين، ذكر لسعيد بن عثمان، ولا خبر عنه، وإنما فيهما خبر عن فتوح (قتيبة بن مسلم الباهلي) لسمرقند، وبينه وبين فتح سعيد بن عثمان لها نحو سبع وثلاثين سنة، وذلك وارد في الجز الثاني ص 178،179، وليس كما ذكر.
ونترك هذه دون تعليق.
ثانياً – ذكر (فلوتن) أن سعيد بن عثمان، عاهد أهل سمرقند، على دفع سبعمائة ألف درهم، وتقديم ألف من سكانها رهائن، وأسند ذلك إلى الطبري، أيضاً في الموضع السابق نفسه، الذي وهم فيه.
والذي في الطبري بنصه: "خرج إليهم سعيد بن عثمان، وناهضه الصغد (أهل سمرقند) فقاتلهم، فهزمهم، وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه، وأعطوه رهناً منهم خمسين غلاماً في يده من أبناء عظمائهم.. " أ هـ . بنصه.
فليس في كلام الطبري ذكر لمبالغ من المال أصلاً، لا سبعمائة ألف، ولا سبعة آلاف. .
وأما الرهائن، فهم خمسون، فكيف صارت ألفا؟؟
هكذا. . خطأ في العزو لا أدري له سرًا!!
ثم تحريف في الأرقام والأعداد (يجعل الخمسين ألفا).
ثم اختلاق وإضافة "زاد من عنده اختلاقاً، أن المسلمين أخذوا سبعمائة ألف درهم". . .
وذلك خضوعاً لهواه، المسبق، أليس "الفتح لنهب الأموال، وقطع الطرق؟؟ ؟ فإذا لم يذكر الطبري أن المسلمين عاهدوا أهل سمرقند على مال فليتبرع هو بالمال للجنود "المترفين الذين هم في حاجة إلى المال، ويقاتلون من أجله".
وأما الرهائن، فلست أدري الهدف من تزييف عددها، وزيادته، من خمسين إلى ألف، أي عشرين ضعفا!!!
ثالثاً – ذكر أن قتيبة بن مسلم استولى على سمرقند في وقت لاحق، وطرد أهلها واحتل جنوده منازلها، رغم التزام أهل سمرقند بالمعاهدة المبرمة مع القائد السابق، وأضاف ذلك إلى الطبري، وغيره من المصادر العربية، وسماها (الرواية العربية). .
فهذا اتهام صريح لقتيبة بن مسلم، بنقض المعاهدة التي وقعها أهل سمرقند مع سعيد بن عثمان، والتزموا بها، ولكن المسلمين بقيادة قتيبة بن مسلم أعادوا فتحها ثانية، ودخلوها – رغم العهد – مغيرين (طبعاً لنهب الأموال والغنائم).
فهل نجد ذلك في كلام الطبري؟؟
هل قال الطبري: إن قتيبة بن مسلم استولى على سمرقند، وغزاها مع أنها كانت ملتزمة بعهدها مع سعيد بن عثمان؟؟
سنضع أمامك نص الطبري بحروفه، وليس لنا فيه إلا شيء من الاختصار لا يذهب بشيء من المعنى:
جاء في ج2 ص 1242: ". . وخطب قتيبة الناس، فقال: إن الله قد فتح لكم هذه البلدة، (55)في وقت الغزو فيه ممكن، وهذه الصغد، شاغرة برجلها(56) (الصغد أو السغد أهل سمرقند، وينسب إليهم الإقليم الذي عاصمته سمرقند) قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، منعونا ما كنا صالحنا عليه (طرخون) (اسم قائدهم حاكم سمرقند) وصنعوا به ما بلغكم، وقال الله تعالى: ((فَمن نَّكث فإنّما ينكُثُ على نفسِه)) [سورة الفتح:10] فسيروا على بركة الله فإني أرجو أن يكون خوارزم، والصغد، كالنضير وبني قريظة، وقال الله تعالى: ((وأُخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بهاُُ)) [سورة الفتح:21] أ هـ بنصه وحروفه.
فها هي عبارة الطبري تنطق صراحة بما يلي:
(1) : إن أهل سمرقند نقضوا العهد، ومنعوا ما كانوا قد صالحوا عليه.
(2) : إن أهل سمرقند غدروا بقائدهم (طرخون) لأنه لم يوافقهم على نقض العهد.
(3) :إن قتيبة ملتزم بآداب الجهاد في الإسلام، وأنه خاشع خاضع لله، لاجيء إليه، راج للنصر منه سبحانه فليس فيها روح (الجري وراء المغانم والنهب وقطع الطريق).
وجاء في صفحة 1249 من الجزء الثاني من الطبري بعد وصف المعركة، وكيف كانت يقظة قتيبة، وإعداد جنوده للقضاء على القوة العاتية التي جاءت من (الشاش) و (اخشاذ فرغانة) و (خاقان) لنجدة (سمرقند) وكيف أبلى قتيبة وجنوده أحسن البلاء في تبديد هذه النجدة: ". . فقال قتيبة (لقواده بعد المعركة) جزاكم الله عن الدين والأعراض خيراً. . وكسر ذلك أهل الصغد، فطلبوا الصلح، وعرضوا الفدية فأبى وقال: أنا ثائر بدم (طرخون) كان مولاي من أهل ذمتي. . ".
وفي الصفحة نفسها، جاء في وصف المعركة واستماتة أهل سمرقند في الدفاع عنها: ". . أطال قتيبة المقام، وثلمت الثلمة، في سمرقند (أي في سور المدينة) فنادى منادٍ فصيح بالعربية يشتم قتيبة، ونحن حول قتيبة، فحين سمعنا الشتم خرجنا مسرعين، فمكثنا طويلاً وهو ملح بالشتم، فجئت إلى رواق قتيبة، فاطلعت، فإذا قتيبة محتب بشملة يقول كالمناجي لنفسه: حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان؟!! أما والله لئن أصبحت، لأحاولن من أهلك أقصى غاية. . ..
وفي ص 1250 من الجزء نفسه: "ودخلوا سمرقند، فصالحوهم، وصنع (غوزك) (ملك سمرقند) طعاماً، ودعا قتيبة، فأتاه في عدد من أصحابه فلما تغدى، أستوعب منه سمرقند، فقال للملك: انتقل عنها، فانتقل عنها،وتلا قتيبة: ((وأنّه أهْلكَ عادًا الأولى، وثمود فما أبقى)) [النجم:50-51]. أ. هـ بنصه.
وبأدنى تأمل، تنطق نصوص الطبري هذه بما يلي:
(1) وضوح الهدف الذي يقاتل من أجله المسلمون، الدين والأعراض، كما جاء في دعاء قتيبة لرجاله، وثنائه عليهم.
(2) الوفاء بالعهد – لا الغدر به – حيث يرى قتيبة أن في قتاله لأهل سمرقند ثأراً لحاكمها السابق (طرخون) الذي كان حليفاً للمسلمين، وقتله أهل سمرقند، وذلك قوله: "أنا ثائر بدم (طرخون ) كان مولاي، وكان من أهل ذمتي". .
(3) إن سمرقند قد عُرفت بالشقاق، وأكثرت الثورة والغدر، والعناد، وهذا واضح من قول قتيبة، وهو يناجي نفسه: "حتى متى يعشش فيك الشيطان يا سمرقند؟".
(4) سماحة قتيبة والمسلمين، وحفاظهم على العهد، فمع ضراوة المعارك، واستنفار (غوزك) حاكم سمرقند للأقاليم المجاورة، واشتداده على المسلمين، كما هو واضح تمام الوضوح في الطبري، مع هذا نجد المسلمين يؤمنون (غوزك) على نفسه ومن معه، ثم يقبلون دعوته على الغداء، ويؤاكلونه، ويتلطفون معه، إلى حد أنه طمع في أن يسلموا له المدينة ثانية، لما رآه من حلمهم وحسن معاملتهم، فلما استوهبها من قتيبة، رفض، وأمره بالانتقال عنها حتى لا تتكرر مأساة الغدر، والقتال، والمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين.
هذه نصوص الطبري، بوضوحها وصراحتها، وهذا ما تنطق به، فأين نجد فيها ما قرأه، واستنتجه منها (فلوتن) من أن قتيبة "طرد أهلها منها واحتل جنوده منازلها، رغم التزامهم بالمعاهدة المبرمة، مع القائد السابق؟؟".
بم نسمي هذا؟؟!!
واستكمالاً للمسألة من جميع أطرافها، نقول: إن الطبري عالج فتح قتيبة لسمرقند في نحو أربع عشرة صفحة، عرض فيها كعادته – أكثر من رواية، لوصف المعركة، وفتح سمرقند، وكلها قريب بعضها من بعض والاختلاف في بعض التفاصيل.
وليس في هذه الروايات كلها إشارة إلى غدر قتيبة بأهل سمرقند، إلا ما ورد من أن محمد بن أبي عيينة قال لسلم بن قتيبة بن مسلم بين يدي سليمان بن علي: إن العجم يعيرون أباك (قتيبة) الغدر، إنه غدر بخوارزم وسمرقند" أ.هـ.
فهذه الرواية كما نرى فيها ما يشبه أن يكون ملاحاة بين سلم بن قتيبة وابن أبي عيينة، ولا حظ أيضاً أنه ينسبها إلى (العجم) ولم يأت لها بشاهد من أصحاب الرواية المسلمين، ولا حظ أيضاً أن هذه الملاحاة كانت بعد المعركة بأزمان، فقد توفي سلم سنة 149 هـ على حين كان فتح سمرقند سنة 93هـ.
فإذا عرفنا أن سلم بن قتيبة كان والياً على البصرة في زمن الأمويين لمروان بن محمد، ثم وليها في زمن العباسيين ثانية، ولاه إياها أبو جعفر المنصور، وأن سليمان بن علي الذي قيلت بين يديه هذه العبارة، كان والياً على البصرة من قبل ابن أخيه أبي العباس السفاح، أي بين ولايتي سلم، إذا عرفنا هذا أدركنا مقام المجاملة والممالأة، والمنافسة، التي قيلت فيه هذه العبارة.
ونجد أيضاً في الطبري إشارة أخرى إلى غدر قتيبة، ونص هذه الرواية: ". . حدثني الذي سرحه قتيبة إلى الحجاج بفتح سمرقند، قال: قدمت على الحجاج، فأنفذني إلى الشام، فقدمتها، فدخلت مسجدها، فجلست قبل طلوع الشمس وإلى جنبي رجل ضرير، فسألته عن شيء من أمر الشام، فقال: إنك لغريب، قلت: أجل، قال: من أي بلد أنت؟ قلت: من خراسان، قال: ما أقدمك؟ فأخبرته. فقال والذي بعث محمداً بالحق ما افتتحتموها إلا غدراً، وإنكم يا أهل خراسان للذين تسلبون بني أمية ملكهم، وتنقضون دمشق حجرا حجراً" أ.هـ. بنصه.
هذا ما ورد في الطبري عن (غدر) قتيبة، وهو لا يعني إطلاقاً أنه غدر بأهل سمرقند، فاجتاحها، وهي مقيمة على العهد الذي عاهدت عليه سعيد بن عثمان – كما يزعم (فلوتن) – وإنما (الغدر) المذكور في هاتين الروايتين، والذي يُعيِّر به قتيبة شيء آخر، يعنون به أن قتيبة باغتهم بالهجوم، ولم يعلنهم بالحرب حتى يستعدوا له. وفي الفقرة التالية من هذا البحث مزيد بيان لهذا المعنى.
وإذا لم يكن هذا كله كافياً، فسنضع بين يديك مثالاً آخر، من كلام (فلوتن) أيضاً: جاء في صفحة 68 قوله: "وفي عهد عمر الثاني (عمر بن العزيز) الذي آلت إليه الخلافة في دمشق، شكا أهل سمرقند ظلامتهم للخليفة الجديد، وما نزل بهم من خراب وتدمير على يد قتيبة، فأمر عمر بتعيين قاضٍ خاص للنظر في هذه المسألة، وجاء قراره من الخبث، ما يبدو واضحا لأي قارئ متجرد، حيث قضى بأن يتحارب الفريقان – العرب وأهل سمرقند – وراء أسوار المدينة وأن يؤخذ هؤلاء بالقوة قبل عقد معاهدة جديدة معهم.
فإذا ما انتصرت العرب، وهو ما كان محتملاً (حيث فقد أهل سمرقند خاصية الدفاع من مدينتهم داخل أسوارها) عادوا مرة أخرى إلى فتحها عنوة وانطبقت عليها شروط الاحتلال العسكري إلا إذا امتثلوا لتلك التي فرضها العرب عليهم. أي أن قرار القاضي لم يغير شيئاً في وضع المدينة" أ.هـ.(57)
هذا هو نص كلام (فان فلوتن)، وقد أسنده للطبري جزء 2 ص 1364، وإلى البلاذري: 420-422.
وقبل أن نناقش هذه الفقرة نشير إلى ملاحظة قد يبدو أمرها هيّناً، ولكنها لا شك ذاتُ وزن وقيمة، عند من يلتزم (بالمنهج) ويرعى حرمته، ذلك أننا لم نجد أثرا لهذا الكلام عند البلاذري، لا في الموضع الذي حدده ولا قبله، ولا بعده، ولا في كل ما ذكره عن فتح (سمرقند).
ثم ننظر في عبارة (فلوتن) بكل تجرد – على تعبيره – فنجده يقول فيها ما يأتي:
(1) إن أهل (سمرقند) شكوا إلى عمر بن عبد العزيز، ما أصابهم من خراب وتدمير وظلم على يد (قتيبة).
(2) إن الخليفة قبل الدعوى، وعين لهم قاضياً ينظر في وقائعها.
(3) إن القاضي رأى أنهم محقون.
(4) إن حكم القاضي كان خبيثاً مبيناً واضحاً لكل من يقرؤه بتجرد.
(5) إن خبث الحكم جاء من أن القاضي حكم بأن يتحارب الفريقان – العرب وأهل سمرقند – خارج أسوار المدينة، فإما انتصر العرب، فدخلوها عنوة، وإما استسلم أهل (سمرقند) فدخلها العرب صلحاً.
(6) إن خبث هذا الحكم ظهر في فرضه على أهل سمرقند أن يخرجوا خارج أسوار المدينة "ففقدوا خاصية الدفاع عن مدينتهم داخل أسوارها".
(7) إن قرار القاضي لم يغير من الواقع شيئاً.
هذه الأحكام كلها جاءت في هذه العبارة الموجزة من كلام (فلوتن)، وقال إنه استقاها من الطبري.

فماذا عند الطــبري؟؟

سنضع أمامك نصّ الطبري كاملاً، لنرى هل يمكن أن نفهم منه هذه الأحكام، جاء في الطبري ما نصه: "قال أهل (سمرقند) لسليمان (واليهم): إن قتيبة غدر بنا، وظلمنا، وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف، فائذن لنا، فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين، يشكون ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة، فأذن لهم، فوجهوا منهم قوماً، فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سليمان بن أبي السري (أي والي سمرقند): إن أهل سمرقند قد شكَوْا إليّ ظلماً أصابهم، وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي، فاجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم، فأخرجهم إلى معسكرهم، كما كانوا ، وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة.
فأجلس لهم سليمان جُميعَ بن حاضر القاضي الناجي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم، وينابذوهم، على سواء، فيكون صلحاً جديداً، أو ظفراً عنْوة.
فقال أهل السغد: بل نرضى بما كان، ولا نجدد حرباً، وتَراضَوا بذلك، فقال أهل الرأي (أي منهم) : قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم، وأمنونا وأمناهم، فإن حكم لنا عدنا إلى الحرب، ولا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا كنا قد اجتلبنا عداوة في المنازعة، فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا، ولم ينازعوا" أ.هـ. بنص حروفه.
وحين نقف أمام هذا النص (متجردين) – كما ينصحنا فلوتن – فهل نجد فيه أن القاضي حكم بإخراج أهل سمرقند خارج أسوار مدينتهم، وأفقدهم بذلك خاصية الدفاع عنها، داخل أسوارها؟ إن نص الطبري أمامنا واضح تمام الوضوح، وقد جاء ذكر هذا الأمر في عبارتين هما:
(الأولى) – ما جاء في رسالة الخليفة عمر بن عبد العزيز: ". . فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة.
(الثانية) – ما جاء في منطوق حكم القاضي: ". . أن يخرج عرب سمرقند، وبنابذوهم على سواء. . .".

فأين في هذا الكلام إخراج أهل سمرقند خارج أسوار مدينتهم؟؟

إن العبارة الأولى، عبارة الخليفة عمر بن عبد العزيز ، تأمر إن قُضي لهم، أن يخرج القوات الإسلامية من المدينة، لا أن يخرج أهل سمرقند، ولقد قطع الخليفة رضي الله عنه أي احتمال للخطأ في الفهم، ففسر المقصودين بالإخراج بقوله: "كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة". أي عودة الوضع إلى ما كان عليه "قبل أن يظهر ليهم قتيبة!!" وهل كانوا قبل أن يظهر عليهم قتيبة خارج أسوار مدينتهم؟؟ إن عبارة الخليفة هذه لم تدع مجالاً لوهم من يتوهم أن الضمير في قوله: "فأخرجهم: يعود على أهل (سمرقند) عملاً بالقاعدة التي تقول: "إن الضمير يعود على أقرب مذكور" وهم هنا الشاكون: أهل سمرقند، ثم إن العرب لم يرد لهم ذكر في اللفظ حتى يعود عليهم الضمير.. قطعت العبارة الأخيرة" كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة"، هذا الوهم، مع أن المقام عند من يلحظ السياق ليس في حاجة إليها، ذلك أن الشكوى كانت من (دخول المسلمين): (جيش قتيبة) فكان قوله: "فإن قضى القاضي للشاكين فأخرجهم" كافياً في بيان أن المراد بالضمير هم المسلمون، فهو بمثابة، قوله: "شكَوا إليّ فإن حكم لهم القاضي فأزل شكواهم، أي سبب شكواهم" وسبب شكواهم، هو دخول جيش المسلمين مدينتهم، وإزالة السبب يعني إخراجهم.
كان هذا وحده كافيا، لأن يفهم القارئ (المتجرد) مَن المقصود بالإخراج، ولكن جاءت العبارة الأخيرة في رسالة الخليفة "كما كانوا وكنتم، قبل أن يظهر عليهم قتيبة"، لتقطع أي وهم، مع أن ما قبلها كان كافياً للفهم السليم، فجاءت بمنزلة التأكيد.
وأما العبارة الثانية، وهي: ". . . فقضى (القاضي) أن يخرج عرب سمرقند، إلى معسكرهم، وينابذوهم على سواء" فهي أيضا في غاية الوضوح عند القارئ المتجرد، وليس فيها أي لبس أو احتمال، فقد وضع القاضي الاسم الظاهر، مكان الضمير"يخرج العرب" ثم أيضاً أكد المعنى بقوله: "وينابذوهم على سواء" أي لا يبدءوهم بحرب إلا بعد أن يعالنوهم بها ويعلموهم.
فمن أين أتى القارئ (المتجرد) فلوتن بأن حكم القاضي جاء بإخراج أهل سمرقند من مدينتهم، وبالتالي أفقدهم خاصية الدفاع عنها داخل أسوارها"؟ من أين أتى بهذا الفهم المتعسف العجيب؟ إن الأمر هنا ليس أمر خطأ، أو وهم، فالعبارة واضحة للقارئ (المتجرد) كما رأينا وإنما هو التعسف، وليّ أعناق النص، ليصل إلى النتيجة التي رتبها عل هذا الفهم وهي الحكم بخبث القاضي وسوء نيته، حيث لم يستطع إنكار صدق أهل سمرقند، في دعواهم، فتظاهر بالإنصاف وأنه حكم لهم، ولكن جاء حكمه لا قيمة له حيث "لم يغير شيئاً في وضع المدينة". .
هذا هو السر في لي عنق النص، والتعسف في تفسيره.
إن الرجل راعه – وهو المتحامل على الفتوحات العربية أبشع التحامل – أن يرى هذه الصفحة الناصعة، وأعشى ضوءها بصره، فراح يتلمس في ظلام الحقد وسيلة يطمس بها هذه الروعة، فلم يجد إلا هذا التزييف والتحريف، لكي يفرج به عما يعانيه من مكنون حقده، فيرمي قاضينا العظيم (بالخبث) قائلاً : "فجاء قراره من الخبث، ما يبدو واضحاً لأي قارئ متجرد"!! فأين الطهارة إذاً؟؟
ونترك الآن استكراهه للعبارة، ولي عنقها، وإنطاقها بما لا تنطق به، ونناقشه فيما سلم به وخطه بيمينه وذلك قوله: "شكا أهل سمرقند ظلامتهم للخليفة، وما نزل بهم من خراب، وتدمير على يد قتيبة" كيف يمر الباحث (المتجرد) على هذه (العجيبة) ولا يلتفت إليها، بلدة مفتوحة، فتحها سعيد بن عثمان، ثم عادت فانتقضت – ذكر ذلك فلوتن بنفسه في الموضع نفسه – ففتحها قتيبة ثانية، بعد معارك شرسة وصفها الطبري، وقرأها (فلوتن ) طبعاً – ذكرنا شيئا من ذلك آنفاً – تفكر في الشكوى إلى الخليفة، مجرد خطور هذا بالذهن، بذهن أهل المدينة المفتوحة، أليس لهذا مدلول؟
من الشاكي؟ ومن المشكو؟ ومن المشكو إليه؟
تشكو بلدة مهزومة مفتوحة، تشكو القائد الفاتح، تشكوه لحاكم الدولة التي كلفته بالفتح!!! أيمكن أن يأتي هذا من فراغ؟ ألا يشهد ذلك بأن هؤلاء الشاكين كان عندهم – لا شك – علم بأن وراء هؤلاء الفاتحين نظماً وأخلاقاً ومبادئ تحكمهم، ألا يشهد ذلك بأن هذه المبادئ وهذه النظم قد تداولها سمع الدنيا، وملأت آفاق الأرض حتى سمع بها من في سمرقند على بعد ما بين سمرقند ودمشق، وعلى قلة وسائل الاتصال والإعلام آنذاك، أن يأمل – مجرد أمل مَنْ في سمرقند أن يشكو قائد الجيش وجيشَه في دمشق، وأن يكون ذلك قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان؟ فهذا وحده كاف أن يروع الباحث (المتجرد) ليقف ويبحث ويتأمل، ليدرك سرَّ هذه المبادئ ، هذه الأخلاق وهذه القوانين، بل سر هذا الدين الذي بنى هذا كله.
ثم إذا لم يلفت نظره، ويبهره تفكير أهل سمرقند في الشكوى . . . . ألا يروعه أنهم استأذنوا واليهم، وأعلموه أنهم ذاهبون إلى دمشق للشكوى إلى الخليفة، فأذن لهم (58)!!! يا سبحان الله !!! أية سماحة!! وأية أُخوة!! وأية رحمة !! تصل إلى هذا الحد.
ثم إذا لم يلفته ذلك إلى سماحة الإسلام، وعظمة مبادئه، ألا يروعه استقبال الخليفة لهذا الوفد، وهو الحاكم العام لتلك الدولة، التي كانت تمتد من كابل شرقاً إلى طنجة غرباً، ومن جبال البرانس شمالاً إلى جبال النوبة جنوباً، لم تشغله شؤون هاتيك البلاد المترامية الأطراف عن مقابلة الوفد الشاكي والاستماع له، "لم يحوله على المختص بشؤون الشرق الأوسط" ! ثم قبل الدعوى وأمر بالحكم فيها.
ثم جلس القاضي للحكم، ونظر في القضية، وحكم قاضي الدولة الفاتحة، على قائد دولته، وجنوده. قاضٍ يحكم على دولته بإخلاء جيشها وإخراجه من المدينة التي دخلها عنوة!!!
أيضرب فلوتن عن كل هذا صفحاً، وهو بين عينيه، قرأه عند الطبري، ونقله عنه في كتابه، ولا يلفته ذلك، لا تلفته هذه الصفحة الرائعة من حضارتنا ومن صفحات فتوحاتنا، فتوح العدالة، والرحمة، وتحرير الإنسانية؟ ! لم تكن الدنيا بعد قد عرفت القانون الدولي العام، ولا القانون الدولي الخاص، ولم تكن بعد قد تفتقت الأذهان عن عصبة الأمم الموءودة، ولا مجلس الأمن المعوج، ولا الجمعية العامة للأمم المتحدة الشلاء.
لم يكن شيء من ذلك، ولكن أمتنا قد عرفت العدل، والإنصاف، في السلم والحرب فلم تعرف الدنيا، ولن تعرف – إ لا إذا عاد المسلمون لقيادتها – حرباً يلتزم أصحابها – منتصرين أو منهزمين – بمبادئ الحق والأخلاق إلا فتوحات الإسلام، ولن ترى الدنيا قاضياً – بعد قاضينا – يحكم بإجلاء جيش بلاده عن المدينة التي فتحها وبذل في سبيل دخولها أرواحاً غالية، وساعات عصبية، وأثقالٍ غالية؛ كل ذلك لاحتمال أن القائد لم يكن قد عالنهم بالحرب.
إن المستشرق (فان فلوتن) عاش حياته في القرن التاسع عشر، (59)قرن الاستعمار، ورأى بلاده (أوربا) وهي تجتاح دولنا وتتقاسمها أحياناً بالمعاهدات والاتفاقات، وتتقاتل وتتنازع عليها أحياناً أخرى، وفي أثناء كلامه يستخدم كثيراً لفظ (احتلال) واصفاً به الفتوحات الإسلامية، ألم يسائل نفسه ما بال قومه، يفعلون كل هذا، أو ما با ل دولته (هولندا) تصنع ما تصنعه بالدول التي احتلتها فأذاقتها الهوان؟.
وإذا نعجب من هذا الباحث (المتجرد) الذي لم يُرعه ذلك، ولم تخطف بصره نصاعة هذه الصفحة، فإن الذي لا ينقضي العجب منه هو موقفه الغريب من بقية القصة، فقد عمي عنه تماماً، وأخفاه عن قارئه، مع أنه جزء من القضية والحكم والتنفيذ، وتلك جريمة منهجية أخرى أبشع وأفظع؛ فقد كان بين أصابعه، وملء عينيه اللتين في رأسه، قول أهل سمرقند، المحكوم لهم ونصيحة ذوي الرأي منهم، فقد حكاه الطبري عنهم، فقال: "فقال أهل السغد (أي بعد الحكم): بل نرضى بما كان، ولا نجدد حرباً، وتراضَوا بذلك.
فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم، وأقمنا معهم، وأمنونا وأمنَّاهم فإن حُكم لنا عدنا إلى الحرب، ولا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا كنا قد اجتلبنا عداوةً في المنازعة، فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا"(60).
ويلوح لي – وهو صحيح إن شاء الله – أن أهل الرأي الذي حكى الطبري كلامهم هذا لم يكونوا مؤيدين للشكوى إلى الخليفة – ولرفع الدعوى؛ إذ كانوا يرون أن ما هم فيه أفضل وأولى، . . وقد خالطنا هؤلاء القوم وأمناهم، فهم مع المسلمين في أمن ونعمة وعافية، ويخشون أن يجددوا العداوة مع المسلمين لو حكم لهم القاضي، فلو كان هؤلاء، في ذل الاحتلال ومهانة السيطرة، وفي ضيق الظلم، والعدوان والنهب، لكانت الحرب هي الملجأ والمخلص مما يعانون أيا كانت نتيجتها، لكن أن يرتاح (أهل الرأي) من أهل سمرقند إلى المسلمين الفاتحين، ويروْن أنه لا داعي لشكواهم، ولو ضمنوا الحكم لهم، (لأنهم خالطوهم فعرفوهم وأمنوهم) فهذا شيء لا يعجب المستشرق الباحث (المتجرد) ربيب (الأكاديميات) وسليل (الجامعات)، ولأنه لا يعجبه، فيجب أن يبتره من النص حتى لا ينقض عليه كتابه ويهدم الأساس الذي قام عليه، وهو تبشيع أمر الفتوح الإسلامية، وإثبات أنها ما كانت إلا للنهب وقطع الطريق، وليس هذا من (فلوتن) بغريب، ولا عجيب، فالرجل يكتب لبني قومه، كما قلنا، لغرض ولهدف محدد، فلا تثريب عليه.
ولكن العجب كل العجب من بني قومنا الذين يسمون هذا الكلام (بحثًا) ويسمونه (علمًا).

ميارى 23 - 8 - 2010 05:10 AM

هل غدر قتيبة ؟

كنا قد ناقشنا آنفاً زعم (فلوتن) "أن قتيبة استولى على سمرقند وطرد أهلها، واحتل جنوده منازلها، رغم التزامهم بالمعاهدة المبرمة مع القائد السابق سعيد بن عثمان بن عفان" وأكدنا أن الغدر كان من أهل سمرقند، إذ غدروا بقائدهم (طرخون) الذي عقد الصلح مع المسلمين، ونقضوا المعاهدة وأعلنوا عدم التزامهم بها، مما دعا المسلمين أن يوجهوا إليها جيشاً بقيادة قتيبة لإعادة فتحها، فلم يكن الغدر من قتيبة، وإنما كان من أهل سمرقند.
ثم ذكرنا شكوى أهل سمرقند إلى عمر بن عبد العزيز، وأنهم شكَوْا إليه أن قتيبة غدر بهم، ورأينا أن القاضي حكم لهم.
فهل يعني ذلك صدق كلام (فلوتن) من غدر قتيبة، إذ قد حكم القاضي لهم، بأن قتيبة غدر بهم؟؟

ميارى 23 - 8 - 2010 05:10 AM

لا غدر
إن (الغدر) الذي ادعاه (فلوتن) ونفيناه أشد النفي، وأقمنا الدليل على كذب ادعائه، غير (الغدر) الذي حكم به القاضي.
فالغدر الذي يعنيه (فلوتن) قد وضحنا مفهومه من كلام فلوتن نفسه قبلاً، أكثر من مرة. أما (الغدر) الذي حكم به، القاضي، وصدق قول أهل سمرقند به، فمفهومه يختلف تماماً عما يعنيه (فلوتن).. إن الغدر الذي ادعاه أهل سمرقند، هو أن قتيبة فجأهم من غير أن يعالنهم بالحرب، قبل أن يهجم عليهم، وهذا واضح تماماً من الرواية التي أوردها الطبري وأشرنا إليها آنفاً، من أن محمد بن أبي عيينة قال في ملاحاة له مع سلم بن قتيبة: "إن العجم يعيرون أباك (قتيبة) الغدر، إنه غدر بخوارزم، وسمرقند".(61)
فالعار هنا يُلحقونه بقتيبة، ويعيرونه به؛ لأنه هاجمهم قبل أن يعلنهم أو ينذرهم، على غيرما هو معروف من قواعد القتال وآدابه في الإسلام، ولو كان الأمر كما ادعى (فلوتن): "هاجمهم واحتل بلادهم وطردهم منها، رغم التزامهم بالمعاهدة التي عقدوها، قبلاً مع سعيد بن عثمان، لو كان الأمر كذلك، لكان التعيير للمسلمين وللقيادة الإسلامية، وللحكم الإسلامي كله، فتسيير جيش مثل هذا إلى سمرقند ليس من عمل قتيبة، وإنما من عمل قيادة الدولة، ومحال أن ينفرد قتيبة بتوجيه جيش إلى معركة كهذه، من غير إذن الخليفة، وقادة الدولة، ولو سلمنا جدلاً، أن قتيبة انفرد بتوجيه الجيش، وتسييره إلى معركة سمرقند وكان ذلك برأيه هو، فإن ذلك – لو حدث – لا يعفي الدولة الإسلامية من الخطأ – إذا كان – أعني أن حرب سمرقند وإعادة فتحها، وتكليف قتيبة بقيادة ذلك الجيش أمر لم يُعيّر به أحد، ولم يشك منه الشاكون من أهل سمرقند، ولم ينظر فيه القاضي، والذي قبله منهم القاضي هو هجوم قتيبة قبل أن يعالنهم، وهذا هو الذي سموه (غدراً) وكذلك كان يسمى فعلاً، فقد روى الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي الفيض عن سليم بن عامر قال: "كان معاوية يسير في أرض الروم، وكان بينه وبينهم عهدُ إلى أمد، فأراد أن يدنو منهم حتى إذا انقضى الأمد غزاهم من قريب، فإذا بشيخ على فرس يقول: الله أكبر. وفاءاً لا غدراً يا معاوية. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يحلن عقدة، ولا يشدها حتى ينقضي أمد العهد، أو ينبذ لهم على سواء، قال: فبلغ ذلك معاوية، فرجع بجيشه".(62)
فهذا معاوية ما كان يريد أن يهجم على الروم قبل أن ينقضي الأمد، ولكن يريد أن يقرب منهم حتى إذا انقضى الأمد أسرع بالهجوم عليهم – بعد انقضاء العهد – قبل أن يعلنهم، وحتى يفجأهم من غير أن يستعدوا، فجاءه التحذير من أحد رجاله، ذاكراً له أن هذا هو (الغدر) وحذره وذكره بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، الذي يوجب الإنذار، والمعالنة، (ينبذ لهم على سواء) أي يعالنهم باطراح العهد وبدء القتال، فرجع معاوية.
وما أظنه من قبيل الاستطراد، إذا قلنا: إن هذا الهجوم من قتيبة بدون معالنة، والذي يسمى (غدراً) كان اجتهاداً من قتيبة، فقد كان نقضهم العهد وامتناعهم عن الوفاء بما عاهدوا عليه من قبل، وقتلهم لقائدهم (طرخون) لعدم متابعته لهم في ذلك، كان ذلك منهم بمثابة الإعلان، والاستعداد والمبادأة فلعل قتيبة رأى أنه بهذا هو المعلن بالحرب، وأنهم البادئون و (المنابذون) وفيما رأينا من وصف المعركة، وتحصنهم وراء أسوار مدينتهم، وعناء المسلمين في فتح ثلمة في السور، كل هذا يشهد أنهم كانوا على أهُبة كاملة للحرب وأن قتيبة كان على صواب في تقديره، أنهم هم المعالنون بالحرب، وأن هجومه عليهم ليس غدراً.
وأما أن حكم القاضي جاء مخالفاً لتقدير قتيبة، فذلك راجع للوزن والتقدير للقرائن والأحوال، ولا أريد أن أقول: إن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب، وربما لو كان قتيبة موجوداً يوم نظر القضية، لاستطاع عرض الظروف والأحوال، والهيئة التي كان عليها الميدان ساعة بدأ المعركة، ولكان للقاضي رأى آخر.
وعلى أية حال لا حرج على قتيبة إن أخطأ في اجتهاده هذا، وهذا الخطأ على أية حال هو الذي أتاح للتاريخ أن يسجل حكم هذا القاضي، الذي يحكم على جيش أمته أن يخرج من المدينة التي احتلها، حتى تشهد الدنيا أي فتح هذا وأي مجد هذا، كان فتح رحمة ونعمة، وتحرير، وعدالة. . . .
ونعود لنختتم بما جردنا الحديث له أصلاً، وهو أن الغدر الذي حكم به القاضي على قتيبة، لا علاقة له أصلاً، من قريب أو من بعيد، بما يدعيه ويفتريه، (فلوتن)، ومن عجب أنه إمعاناً في التورية، وادعاء الأمانة العلمية، يضع هامشاً في صفحة 69 برقم 11 نصه: "أشرت إلى هذه المراجع ليعود إليها القارئ إذا شاء ذلك".
وها قد رأينا كيفية تعامله مع المراجع، التي يوهمنا بأمانته، بتأكيده للرجوع إليها، ويسمون هذا بحثاً وعلماً. . . .

ميارى 23 - 8 - 2010 05:12 AM

التفسير بالإسقاط
ونعني بهذا إسقاط الواقع المعاصر المعاش، على الوقائع التاريخية الضاربة في أعماق التاريخ، فيفسرونها في ضوء خبراتهم ومشاعرهم الخاصة وما يعرفونه من واقع حياتهم ومجتمعاتهم، فيتناولون بيعة أبي بكر يوم السقيفة، وكأنهم، يحللون انتخاب الرئاسة في أمريكا بألا عيبها وفضائحها الحزبية، ويفسرون خروج طلحة والزبير على علي رضي الله عنهم جميعاً بأنه خوف على ثرواتهما التي جمعاها، أثناء الفتوح، ومن غنائم الفرس، والروم، وكأنهم ينظرون إلى الصراع بين شركات الصلب، أو شركات السلاح، ومؤسساتهم ا لرأسمالية الضخمة، التي تصارع، للتأثير على السلطة وعلى صناعة القرار، مع أن أول وأبسط قواعد تفسير النصوص، وفهمها، هو المعرفة التامة لروح العصر، ولما يسمونه، جو النص، ثم المعرفة بحياة قائل النص: نشأته، وثقافته، وحياته، وأعماله. . هذه المبادئ يتعلمها الشادون المبتدئون، وفي الصفوف الأولى من التعليم المتوسط.
ولكن هؤلاء المستشرقين يغضون الطرف عن قواعد المنهج، بل يدوسون قواعد المنهج ويمتهنونها.
فمن عرف تاريخ أبي بكر، وعمر، وأبي عبيدة، وحياتهم، وكيف جاهدوا في الله بأموالهم وأنفسهم، وكيف كانت الآخرة أمام أعينهم، وكيف كانت حقارة الدنيا في نظرهم، كيف يستطيع أن يفسر ما دار يوم السقيفة، على أنه اتفاق بين الثلاثة، على أن يُعين عمر وأبو عبيدة أبا بكر، على شرط أن يعهد بها أبو بكر لعمر، ثم يعهد بها عمرُ إلى أبي عبيدة!! إن هذه صورة منتزعة من واقع انتخاب عصرنا ومؤامراته، يستحيل على من عنده أدنى معرفة برجال صدر الإسلام، وبروح العصر، ومشاعر المسلمين يوم السقيفة، أن يقبل هذا التفسير الذي يُسقطونه من داخل أنفسهم على وقائع تاريخنا.
وكيف يقال : إن طلحة والزبير كانا يخشيان على أموالهما، وهما من هما تضحية وبذلاً في سبيل الله، إن هذا الطراز من الرجال الذين كانوا لا يبالون أيقعون على الموت أم يقع الموت عليهم، كيف يخافون على عرض زائل؟ وقد ظهر كذب هذا التفسير وزيفه، إذ ثبت بأصدق الروايات، وأوثقها، أن الزبير يوم مات لم يكن ماله يكفي لسداد ديونه.(63)
ومن طرائف التفسير بالإسقاط، أو الإسقاط في التفسير، ما رأيناه عند المستشرق الإنجليزي (منتجومري وات) إذ فسر ما كان من خلوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، في غار (حراء) قبيل البعثة، بأنه كان هروباً من حر مكة، وابتراداً في رأس الجبل، جبل حراء، حيث كان محمد (صلى الله عليه وسلم ) فقيراً لا يستطيع السفر إلى الطائف ، مثل أغنياء قريش!!.(64)
فهو هنا أمام حدث، قديم وقع في مكة، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، ولكنه يفسره ويعلله، بروح عصره هو، ويُسقط عليه مشاعر واتجاهات، وعادات وقيم عصره، الآن، يفسره وفي ذهنه، رحلات المصطافين في عصرنا هذا، وكيف يُعدون لها، وينفقون في سبيلها، يفسر هذا الحدث وفي ذهنه قمم الجبال المعشوشبة، التي يكسوها الجليد والبرد.
ولم يكلف نفسه، بل لم يستطع أن يدرك واقع المجتمع المكي، آنذاك، بل واقع المناخ في مكة، والفرق بين درجة الحرارة في شعاب مكة ورأس جبل حراء، وهل حقاً تنخفض الحرارة في رأس (حراء) عند الغار – وهو ما زال موجوداً للآن – انخفاضاً ملموساً يجعل محمداً – صلى الله عليه وسلم – يلجأ إليه؟! لم يذكر أحد قط ممن كتبوا عن مكة وأهلها آنذاك، أن الفقراء كانوا يصطافون بالجبال، والأغنياء كانوا يصطافون بالطائف.
إن الرواية الصحيحة تقول: "إنه صلى الله عليه وسلم حُبب إليه الخلاء، فكان يذهب إلى غار حراء يتحنث فيه ويظل به الليالي ذوات العدد، قبل أن يعود لأهله ليتزود لمثلها". . . .
فكيف يختلي بجبل هو مصطاف الفقراء من أهل مكة، أم يا ترى كان محمد "صلى الله عليه وسلم "، هو الفقير الوحيد في مكة، فخلا له جبل حراء؟؟
أم تراه هو الوحيد الذي أدرك السر الخطير، وهو برودة رأس الجبل؟ وضن به على غيره، فم يشاركه في خلوته بالجبل أحد؟؟
أم يا ترى كان في مكة جبال بعدد فقرائها، لكل فقير – لا يقدر على السفر إلى الطائف - جبل؟؟
ثم أين تقع الطائف من مكة؟؟ ألم يقرأ أن محمداً صلى الله عليه وسلم ، ذهب إلى الطائف ماشياً بعد أكثر من عشر سنوات، أي بعد أن كبرت سنه، حينما اشتد إيذاء قريش وعنادها، ليعرض الدعوة على شيوخ ثقيف؟؟
ثم كيف يستقيم له هذا الفهم العجيب، والتفسير الغريب، (العجز المالي) مع حديثه في كتابه هذا نفسه ص 73 – 75 عن زواج محمد صلى الله عليه وسلم ، من خديجة و ثراء خديجة، فهل كانت خديجة (رضي الله عنها) عاجزة عن إعطاء محمد صلى الله عليه وسلم ، ناقة يسافر عليها إلى الطائف، مع نفقات الإقامة.
ثم لماذا لم يسأل نفسه عن السبب في عدم انتقال خديجة إلى الطائف لتصطاف بها مثل أثرياء مكة؟؟
إن السبب في هذا التفسير العجيب الغريب، هو تصور واقع الصيف والمصطافين في عصرنا هذا: نفقات ورحلات وسيارات وفنادق. . . . إلخ.
ولو حاول أن يستشرف الواقع، في عصر البعثة، ويتمثل أحواله، لأدرك أن الأمر على غير ما فسر وقدر. وإنما هو كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها، (كانت الخلوة للتحنث).
ونجد هذا (التفسير بالإسقاط) عند (لا مانس) حين يحدثنا عن مكة والمدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعلى حد تعبير (دينيه) "يفسد متعمداً الصورة التاريخية: فيعطينا صورة أوربية حديثة، وكأنه يحدثنا عن باريس ولندن حينما يتحدث في جزيرة العرب عن الحملة الصحافية، عن الماليين في بنك مكة. مليارات، النقابة القرشية، الضريبة على الدخل، طبقة العمال، إبلاغ الرسالة إلى محل الإقامة، ديوان ذي الجلال، وزارة الله، إلى آخر هذه التعبيرات الحديثة التي تفسد الصورة ولا تصور الحقيقة".(65)

ميارى 23 - 8 - 2010 05:13 AM

منهج العكس

هو نوع آخر من الفساد، يعتري البحوث والدراسات الاستشراقية، وهو غير المنهج المعكوس (المقلوب) أي الذي توضع فيه النتائج مقدماً، ثم يكون البحث عن الأدلة التي تؤيدها، فذلك قد أشرنا إليه قبلاً، حيث تحدثنا عن الخضوع للهوى، وعدم البراءة من سلطانه، وجعلنا من آثار الخضوع للهوى هذا المنهج المعكوس.
أما منهج العكس، فنعني به شيئاً آخر، وهو أن ينظر الباحث في النصوص والوثائق، والروايات، فإذا قالت شيئاً، فعليه أن يدرك أن الصواب هو عكسه تماماً.
يقول ناصر الدين دينيه (الذي كان من كبار المستشرقين الفرنسيين وهداه الله للإسلام)، وهو ينتقد أعمال المستشرقين وأبحاثهم:"إن منهج العكس هو ذلك المنهج الذي يأتي إلى أوثق الأخبار وأصدق الأنباء، فيلقيها – متعمداً – إلى عكسها وكلما كانت الأخبار أوثق بدت – قوية جامحة – الرغبة في البراعة من ذلك الذي يتبع هذا المنهج، ولما كان ينبغي أن يستند إلى دعامةٍ مّا، فقد تبنى أصحاب هذا المنهج الفكرة التي تقول: "البشر يعملون غالباً على كتمان عيوبهم والظهور بنقيضها".
ويستمر ناصر الدين قائلاً: "وهذه فكرة لا يمكن أن تتخذ كمبدأ عام، وإلا كنا مضطريين إلى كتابه التاريخ بأجمعه من جديد، وعكس صورة الطبيعة كلها عكساً تاماً.
إن جميع القديسين إذاً أشرار. وجميع الأنبياء طالحون، وجميع الشجعان جبناء، وجميع الأديان تهريج.
وقد شاع هذا المنهج عند بعض المتحذلقين حتى أصبح (موضة). . ولقد أراد بعض الظرفاء أن يسخر من أتباع هذا المنهج، فألّف رسالة دلّل فيها في براعة بارعة، على أن نابليون لم يوجد قط، وأن تاريخه أسطورة ملفقة ابتدعتها فرنسا، تريد بها التغطية على ما يشاع من ضعفها الحربي..
ثم يستمر (دينيه) مدللاً على فساد هذا المنهج، وكأنه يوجه كلامه لمتعصبة المستشرقين، فيقول: وإننا لو نظرنا في الأناجيل، من هذه الوجهة واتبعنا هذه السنة، لوجب أن نتناول كل حسنة فيها، ونعكسها. . وإذن لما بقي جديرا بمودة (القسيس) إلا (هيرود) و (يهودا) اللذان يجب أن يرفعا إلى مصاف القديسين الأخيار.(66)
ولقد كان المستشرق (لا منس) اليسوعي من أكثر المستشرقين، اعتماداً على منهج العكس، وهذه نماذج من ثمار استخدامه لهذا المنهج:
إن مما لا شك فيه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، كان شجاعاً لقد كان يقود الجيوش في الغزوات، ولم تطر نفسه شعاعاً في أية واحدة، منها ولا يوم أحد – وقد ابتلي المؤمنون ولزلوا زلزالاً شديداً – ولم تهله كثرة الجيوش المعادية في غزوة الخندق، يوم أن زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، ولم ترعه النبال كالمطر، يوم حنين. . ومع ذلك، فإن "لا مانس" يصفه بعدم الشجاعة، ثم يحاول أن يعمم الحكم على العرب قاطبة، يقول:
"زعموا أن العربي يتسم بالشجاعة، بل لقد عللوا النجاح في الفتوح الإسلامية الأولى بما يمتاز به العربي من صفات ومزايا، ولكني أتردد كل التردد في قبول هذا الرأي المبالغ فيه كل المبالغة. . إن شجاعة العرب إنما هي من نوع غير سام".(67)
ويرد (ناصر الدين دينييه) هذه الفرية، مؤكداً شجاعة العرب، مذكراً إياه بمواقفهم في الحرب العالمية، ومساندتهم للحلفاء (قوم لا مانس) وأحاله على شهادة القواد الغربيين للمقاتلين المسلمين، فقال:
"والرد على القسيس اللبناني بسيط، ويكفي أن نُسدي إليه هذه النصيحة: وهي أن يقرأ آلاف الشهادات التي نالها من قيادة جيوش الحلفاء الجنود المسلمون الشجعان، الذين حاربوا دفاعاً عما اعتقدوه حقًّا، فكانوا من عوامل النصر في الحرب الكبرى، لقد أثارت فرق الهجوم منهم إعجاب العالم أجمع، وإن هذه الشهادة في أسلوبها العسكري الموجز صرح شامخ مجيد، يسجل روح التضحية والبطولة لدى العرب المغاوير.
وإن سهام النقد، مهما بلغت من العنف، لا يمكن أن تنال من هذا الكتاب الذهبي النفيس، ذلك أنه مكتوب بخط قواد منصفين، لا يمتون إلى الأمة العربية بصلة الجنس أو الدين.
ومن المعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتحنث في غار حراء، ينفرد بنفسه يستجمع ذهنه وشعوره، منصرفاً كل الانصراف عن هذا العالم المادي، مستغرقاً في التفكير في الله، ولكن، "لا مانس" يؤكد أنه كان يكره الوحدة!!
ومن المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، وكان يأتي على آل محمد الشهر، والشهران لا يوقد في بيت من بيوتهم نار، وكثيراً ما كان قوته التمر والماء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعصب على بطنه الحجر من الجوع، ومع ذلك فإن "لا مانس" يصفه بأنه أكول، وقد كثف جسمه بالملذات، ولا يذكر شيئاً عن صوم الرسول لشهر رمضان، وأنه كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس، وكان يصوم حتى يظن أنه لا يفطر، وقد كان الرسول من أكثر المسلمين صوماً، ولكن القسيس "لا مانس" يثبت على عناده!!
ويقول الله تعالى: ((إن ربَّك يعلمُ أنَّك تَقومُ أدْنى من ثُلُثي الليل ونِصْفه وثُلُثه وطائفةٌ من الذين مَعك)).(68)
وقد نقلت الأخبار: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، لطول وقوفه في الصلاة، ومع ذلك يقول "لا مانس": كان محمد نؤوماً.(69)
ونستطيع أن نقول له:
إن مشركي قريش قد لجوا في عنادهم كل اللجاجة، وكانوا يبحثون بعيون طُلعة عن أي مطعن أو مغمز، فلو رأوا أن ما جاء في القرآن من وصف محمد صلى الله عليه وسلم ، بالقيام ليلاً، لا يصدقه واقع الحال، لكان لهم شأن، ولنقل إلينا عن هذه المعارضة.
وقد ناقشه (ناصر الدين دينييه) بقوله:
"وهو – أي لا مانس – لا شك يجهل أو يتجاهل أن روح النقد عند العرب تبلغ حد الإفراط، وأن هؤلاء لو رأوا ما يكذب خبر القرآن من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقضي جزءًا كبيراً من الليل في العبادة، لما استمروا على متابعته وتصديقه، ولما احتفظ هو بثقتهم".
وإنه لمن المعروف أن العالم لم ينجب من أمثال سيدنا عمر إلا أفراداً يعدون على الأصابع، : إن عمر من أعظم الفاتحين المصلحين، الذين عرفهم التاريخ ، وإن عدالته الرحيمة الصارمة، وسياسته الحكيمة النافذة، وإدارته الدقيقة الساهرة، كل ذلك يجعله من هؤلاء الذين لا يظفر التاريخ بأمثالهم إلا في دهور دهيرة، وإننا حقاً لا نكاد نجد ممن يشابهه في التاريخ، اللهم إلا إذا كان الإسكندر الأكبر.
ومع ذلك، فقد كان عمر في نظر القسيس (لا مانس) جنديًّا مسكيناً، أدنى مرتبة من الوسط، ولكنه في كراهيته البالغة للإسلام، ينسى أو يتناسى هذا الوصف حينما يريد أن ينتقص – معاذ الله – من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيذكر أن عمر سيطر عليه هو وأبو بكر.
وليس عمر وحده هو الذي نال منه قلم القسيس، فقد أخذ القسيس يحطم – كعاصفة هوجاء – كل أخيار المسلمين: الرسول – أبا بكر، عمر، عثمان، عليًّا، فاطمة، عائشة، حفصة، وغيرهم. . وغيرهم..
أما إذا تحدث عن أعداء الإسلام، كأبي جهل، وأبي لهب، ألد أعداء النبي، أما إذا ما تحدث عن المنافقين، خونة الإسلام، أما إذا ما تحدث عن يزيد قاتل الحسين ، فإنه يشيد ما شاء له هواه ويمدح ما أمكنه المدح، ويطري كلما أتيح له الإطراء، ويلبسهم من الفضيلة ثوباً لامعاً خلاباً".(70)
أما المنافقون فهم أبطال الوطنية، عند القسيس، وإذا تساءلت: من هو هذا الدخيل الذي لم تنبته الجزيرة العربية، والذي يقف أمامه" أبطال الوطنية القومية" فإنك لا تجد من القسيس إلا صمتاً!
أكان محمد "فارسيًّا" غازياً للجزيرة العربية؟
أم كان "روميًّا" يهاجمها؟
أم هو عربي يحب وطنه ويعمل على جمع شتاته في وحدة تكون قدوة ومثلاً أعلى لكل من يشرئب بصره نحو الكمال؟".(71)
وأعجب نموذج، وأبلغ صورة لمنهج العكس هذا عند "لا مانس" أنه إذا أراد أن يؤيد دعواه في قضية من القضايا، ثم بحث حتى أعياه البحث فلم يجد خبراً لا صحيحاً ولا سقيماً يؤيد ما ادعّاه، فإنه لا يتراجع، وإنما يمضي في جرأة نادرة – على حد تعبير (دينييه) - ويستمر متشبثاً بدعواه، ويقول: "إن هذا أمر عُني رجال الحديث بكتمانه"(72) هكذا إذا لم يجد الخبر، فهو حقيقة ولكن تواطأ الرواة على كتمانه.
وليس هذا الفساد المنهجي (منهج العكس) قاصراً على (لا مانس) وأضرابه من متعصبة المستشرقين، بل إننا نلحظه عند كثيرين منهم، ولكن بدرجات متفاوتة، فمن ذلك مثلاً، ما نراه عند (ول. ديورانت) في كتابه "قصة الحضارة" حيث لا يعجبه أن المؤرخين في كل ما كتبوه "صوروا هارون الرشيد – أولا وقبل كل شيء في صورة الرجل الورع المتمسك أشد التمسك بأوامر الدين . . وأنه كان يحج إلى مكة مرة كل عامين، (73)وأنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة مع الصلوات المفروضة" أ.هـ.
فهو يرى، أن هذه الصورة غير الصورة المعروفة، عن هارون الرشيد، حيث صوّرته قصة "ألف ليلة وليلة" في صورة الملك المرح، ولكن هذا (المرح) أغضب المؤرخين، فصوّروه في صورة الورع المتمسك بالدين. . . إلخ.
فكل المؤرخين في نظر (ديورانت) كاذبون مزيفون، ساءهم مرح هارون الرشيد، فاخترعوا له صورة (معكوسة) (عكس الواقع).
وهكذا يفعل (منهج العكس) عند علماء الاستشراق وفي أبحاثهم.(74)

ميارى 23 - 8 - 2010 05:15 AM

التشكيك في الدليل القاطع والتعامي عنه
فحينما يكون الدليل قائماً على الرأي أو الحكم، الذي لا يوافق هوى المستشرق تجده يتعامى عنه، ويتجاهله،ويشكك فيه، حتى لو كان صحيحاً بين الصحة، كأن يكون حديثاً في الصحيحين، بل لو كان قرآناً كريماً صريح الدلالة.
فمن ذلك مثلاً قول (مونتجومري وات): "وكان يقال في الإسلام: إن المهر كان ملك المرأة. . .".(75)
فانظر تعبيره بلفظ (يقال) فهي صيغة تشكيك في هذا الحكم، يوحي بأنه غير مصدق أن يكون ذلك من شريعة الإسلام وأحكامه، مع قراءته (قطعاً) للآية الكريمة في سورة النساء: ((وآتوا النساء صَدُقاتِهنَّ نِحْلةً)) [النساء:4] ولكنه يغض بصره عن هذه الآية الكريمة: (وهو قد قرأها قطعاً بدليل استشهاده بآيات من السورة نفسها) التي تأمر بغاية الوضوح، والصراحة بإعطاء النساء مهورهن.
فمع ما استقر في أعماق ثقافته من أن الإسلام يظلم المرأة ويمتهنها لا يقبل عقله أن يرى القرآن ينص على أن المهر حق المرأة.
ولذا يواصل التعامي عن أي دليل في هذا الحكم، وينكره، فيقول: "ولا يذكر القرآن المهر إلا بصورة عارضة عند ذكر الطلاق".(76)
وهو بذلك يشير إلى الآية الكريمة: ((الطلاق مرّتان فإمساكٌ بمعروفٍ، أو تسريحُ بإحسان] ولا يحلُّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنَّ شيْئاً)) [سورة البقرة:229]. والى قوله تعالى: ((لا جُناح عليكم إن طلّقتم النساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضةً، ومتّعوهُنّ على الموسع قدرُه، وعلى المقتر قدره، متاعاً بالمعروف حقًّا على المُحسنين)) [سورة البقرة:236]. وإلى الآية الكريمة أيضا: ((وإن طلّقتموهنَّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهُنّ فريضةً، فنصف ما فرضتم، إلا أن يعفون، أو يعفو الذي بيده عُقدة النكاح، وأن تعفو أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم، إنّ الله بما تعملون بصير)) [سورة البقرة:237]. وكذلك إلى الآية الكريمة: ((وإن أردتم استبْدال زَوجِ مكان زوجِ وآتيتُم إحداهنَّ قِنْطاراً، فلا تأخُذوا مِنهُ شيْئاً، أتأْخُذونه بُهتاناً وإثماً مبيناً)) [ سورة النساء:20].
فهذه الآية الكريمة التي تتحدث عن حكم المهر، وأحقية المرأة في المهر بالغاً ما بلغ، ولو كان قنطاراً من الذهب، وتحرم أشد التحريم أن يأخذ الرجل منه شيئاً، وتجعل أخذه بهتاناً وإثماً مبيناً، يسميها (م. وات): "عرضاً" تعميّا عن الحكم المقرر الثابت الذي أكدته، ومن أجل هذا تجده لا يذكر هذه الآيات في كتابه، ولا يشير إلى أرقامها، ولا إلى موضعها من القرآن الكريم ويكتفي بإشارة سريعة غاية في التعمية والتجهيل: "لا يذكر القرآن المهر إلا عرضاً" كذا. .
فما بال الآيتين اللتين ذكرتا المهر قصداً لا عرضاً، أعني قوله تعالى: ((وآتوا النساء صدقاتهنَّ نِحلة، فإن طِبْن لكم عن شيءٍ منه نفساً فكُلوه هنيئاً مريئاً)) [سورة النساء:4] وقوله تعالى: ((فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنَّ أُجورهُنَّ)) [سورة النساء:24].؟؟
نجده يتعامى عن الآية الأولى تماماً (رقم4) ولا يعرض لها إطلاقاً، وكأنما ذهب بصره عندما مر عليها، أما الآية الثانية (رقم 24) فقد وجد لنفسه مخرجا منها، ووجد لنفسه حيلة معها، ومن أجل ذلك عرض لها حيث قال: "ولا شك أن الأجور التي يجب دفعها للنساء (قرآن 4-28) تختلف عن ذلك (يعني المهر)".(77)
وإذا تجاوزنا عن الخطأ في رقم الآية فالصحيح أنها رقم (24) وليس (28) كما ذكر (هذا إذا لم تقل إنه تعمد التضليل).
أقول: إذا تجاوزنا عن ذلك، فمن حقنا أن نسائله: لما رفض تفسير المهور بالأجور، مع أن هذا هو الذي عليه القرطبي، وابن كثير والسيوطي، وغيرهم من المفسرين، فسياق الآية بعد ذكر المحرمات من النساء، ((وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين، فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، إن الله كان عليماً حكيماً)) [سورة النساء:24] هذا السياق يؤكد أن المراد بالأجور هو المهر، حيث تتحدث الآية عن الزواج (الاستمتاع) بما (وراء ذلكم) أي بغير المحرمات من النساء. ولذلك قال القرطبي: قال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى: فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح "فآتوهن أجورهن" أي مهورهن. . (جزء 5/129)، ولكنه تعلق بما روي أن الآية في نكاح المتعة التي كانت في صدر الإسلام، ثم نسخت. ولعله لم يشأ أن يفصح عن هذا التفسير لما رآه واهياً، وإن كان القرطبي قد عزاه إلى الجمهور.
كما ورد ذكر المهر في آية أخرى، لم يشأ أن يراها (م. وات) مع أنها تالية للآية التي أشار إليها مباشرة، وهي قوله تعالى: ((ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان، فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم)) [النساء:25].
فهنا ذكر للأجور (أي المهور) قصداً، ولا عرضاً، ولكنه لم يشر إليها رغم أنها في آية تالية للآية التي استشهد بها، ولكن لأنه لم يجد له حيلة مع هذه الآية لأن المراد هنا بالأجور المهور، لم يقل قائل بغير ذلك، لأن قوله تعالى: ((فانكحوهن بإذن أهلهنَّ)) يمنع أن يراد هنا نكاح المتعة، كما قاله البعض في الآية السابقة.
وأعتقد أنه قد بان الآن بأجلى بيان، أن الرجل (م.وات) يتجاهل الدليل ويهرب منه، وهو بين يديه، وأي دليل!! آيات القرآن العظيم!!
على حين لو وجد في كتاب (الأغاني) أو (الأحاجي) أو (القصص) أو (الخرافات) أي كلام يؤيد دعواه، لاحتفى به كل الاحتفاء، وأقام منه صرحاً شامخاً يعتمد عليه ويستند إليه.
ونجد هذا التشكيك في الدليل القاطع عند مستشرق آخر، هو (ول. ديورانت) صاحب الموسوعة الضخمة قصة الحضارة(78) ومثال ذلك:
يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم ،"وقد أعانه نشاطه على أداء واجبات الحب والحرب، ولكنه أخذ يضعف حين بلغ التاسعة والخمسين من عمره وظن أن يهود خيبر قد دسوا له السم في اللحم قبل عام من ذلك الوقت، فأصبح بعد ذلك الحين عرضة لحمايات، ونوبات غريبة. . إلخ"(79)
ولا يعنينا أن نناقش القبح والفحش الذي كتب به المؤلف ما كتبه عن نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام – بأبي هو وأمي وبنفسي وبالناس أجمعين – فليس هذا مجال مناقشته، ولكن الذي يعنيني أن أضبط هذا المستشرق العلامة، متلبسا بخيانة المنهج. وذلك قوله: "وظن أن يهود خيبر قد دسوا له السم في اللحم) فهذا التعبير بـ (ظن) يريد به أن ينفى صحة الخبر، ليبرئ اليهود بالتالي من جريمة محاولة قتله – صلى الله عليه وسلم – بالسم، ومن قتل الصحابي الجليل الذي أكل معه.
وهذا الخبر (خبر دس السم) موجود مشهور في مصادر السيرة النبوية المختلفة فقد أورده ابن هشام في سياق غزوة خيبر، وأورده ابن سعد في طبقاته، ورواه البخاري في غير موضع: 5/176، ومسلم 7/14-15 كلاهما من حديث أنس، وأحمد برقم 2885 من حديث ابن عباس وأبو داود: 1/146 والدارمي 1/33 عن جابر. . . . (وفيه اعتراف اليهود بدس السم وعفو الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا الجرم الفظيع مع موت الصحابي الجليل البراء بن معرور بهذا السم).
ومع ثبوت هذا الخبر ووفرة مصادرة تأبى (الأمانة العلمية) و (الحيدة الأكاديمية) و (منهج البحث) على هذا المستشرق العتيد إلا أن يزيف ويحرف فينكر الخبر، وينسب الحادثة في إيجاز بارع إلى مجرد ظن ووهم.

ميارى 23 - 8 - 2010 05:16 AM

التحريف والتزييف والادعاء

لقد حاولت أن أجد اسماً لهذه الآفة المنهجية التي سنعرضها فلم أجد، غير هذه الصفات، فحينما يحذف الباحث كلمة من العبارة محل الاستشهاد، أو يزيد كلمة أو يغير كلمة، أو ينفي كاذباً وجود نص من النصوص التي استدل بها غيره، حينما يفعل ذلك بماذا نصفه؟ أو بماذا نسمي هذا الخلل أو بالأحرى الفساد المنهجي؟ أرجو أن نجد له اسماً يعبر عن حقيقته. وما عليّ الآن إلا أن أضع النماذج لهذه الشناعات:
يحاول بعض المستشرقين إنكار عالمية الرسالة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا للناس كافة، وفي سبيل ذلك يجمعون من الأدلة ما يركبون في سبيله كل صعب وذلول، ولكن الذي يتصل بموضوعنا هنا، أنهم ينكرون رسائل النبي صلى الله عليه وسلم ورسله إلى ملوك العرب والعجم، وفي سبيل هذا الإنكار يتصدى (كايتاني) لخبر الرسول والرسائل في سيرة ابن هشام، فيشكك فيه، مدعياً أن ابن هشام لم يورد لابن إسحاق مصدره الرئيسي خبراً عن الرسائل، واعتبر كايتاني ذلك سكوتاً من ابن إسحاق وبالتالي إضعافاً للخبر. (80)
والسيرة النبوية لابن هشام، مطبوعة، وبأيدي الناس، وفي وسعهم أن ينظروا فيها ليجدوا أن ابن هشام أورد خبر الرسائل بروايتين إحداهما لابن هشام بسنده عن أبي بك الهذلي، والثانية لابن إسحاق بسنده عن يزيد بن أبي حبيب المصري.(81)
وما أظن إنساناً عاقلاً يفعل هذا الذي فعله (كايتاني) وأمثاله، لأن الذي يخفي شيئاً بهذا الوضوح، لا يمكن أن يعد بين العقلاء.
ولكن عذرهم أنهم يكتبون للمثقف الأوروبي – كما أشرنا آنفاً - وهو غير مستطيع أن يتتبع هذه المراجع والمصادر، بل هو غير مريد أيضاً، لأن هؤلاء موضع ثقته وما كانوا يعلمون أن ناساً منا سيقرءون لهم، ويطلعون على هذه الخيانات المنهجية.
ونعود إلى (ول. ديورانت) لنرى عنده مثالا ً آخر، في موسوعته (قصة الحضارة) التي أشرنا إليها آنفاً، يقول وهو يتحدث عن الثراء الذي أصابه المسلمون بسبب الفتوح: "وكان للزبير بيوت في عدة مدن مختلفة، وكان يمتلك ألف جواد وعشرة آلاف عبد. ." أ . هـ بنصه.
وهذا الخبر بهذه الصورة وبهذا الإيجاز يجمع ألواناً وأفانين من التحريف، ففيه زيادة، وفيه نقص، وفيه تغيير وتبديل، وبيان ذلك:
إن الخبر ورد في المصادر المعروفة والمشهورة هكذا: "كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه خراجهم كل يوم، فما يُدخل إلى بيته منها درهماً واحدا، يتصدق بذلك جميعه".
هكذا ورد الخبر في:
(1) الإصابة لابن حجر العسقلاني: 1/546
(2) أسد الغابة لابن الأثير: 2/198
(3) البداية والنهاية لابن كثير: 7/251
(4) صفة الصفوة لابن الجوزي: 1/346
(5) الاستيعاب لابن عبد البر (بهامش الإصابة) 1/583
وبعض هذه المراجع من منشورات المستشرقين، أعني أن هذا الخبر بهذه الصبغة كان متاحاً له وبين يديه، (وهم يزعمون، ويزعم تلاميذهم أنهم يستقصون المراجع ولا يخطون حرفاً إلا بعد جمع كل ما يتصل بموضوعهم) ولكنه كما ترى ارتكب التحريفات الثلاثة الآتية:
1- زيادة ألف جواد من عنده، فقد أقحمها في الخبر، ولا وجود لها فيه أصلاً.
2- نقص الجزء الأخير من الخبر عن تصدق الزبير بخراج
هؤلاء المماليك.
3- زيادة الألف مملوك إلى عشرة آلاف.
وهكذا تكون (الأمانة العلمية) و(النزاهة) و (الحيدة) و(التجرد) و (المنهج÷ إلى آخر هذا الركام من الأحجار التي يلقمونها لمن يريد أن ينظر في عمل المستشرقين.
وهاك نموذج آخر للتحريف وخيانة المنهج،وهو ما قاله هذا المستشرق عن هارون الرشيد، ذلك الخليفة العظيم، وعلاقته بالبرامكة، قال: "وكان هارون يحب جعفر حبا أطلق ألسنة السوء في علاقتهما الشخصية، ويقال: إن الخليفة أمر بأن تصنع له جبة ذات طوقين، يلبسها هو وجعفر معا، فيبدوان كأنهما رأسان فوق جسم واحد، ولعلهما كانا في هذا الثوب يمثلان حياة بغداد الليلية(82)" كذا. .
انظر: مؤرخ الحضارة، عملاق الفكر، وربيب الأكاديمية، وسادن العلم، وأستاذ البحث والمنهج، ينكر الحدث الثابت والخبر المتفق عليه، الذي تردد في كل الكتب تقريباً، "عن دس اليهود السم للرسول صلى الله عليه وسلم ". ويُضيف ويغير في خبر ثروة الزبير رضي الله عنه ، ويأتي هنا بخبر (لقيط) لا يدرى له أصل فيحتفي به أيما احتفاء، بل يبني عليه من عنده، فيتخذ منه مناسبة ليطعن بغداد دار السلام، عاصمة الدنيا كلها في ذلك الوقت، فيقول: "ولعلهما كانا في هذا الثوب يمثلان حياة بغداد الليلية"، هكذا يقذف المجتمع كلّه بهذه الفرية، ولنا على هذا الكلام ملاحظتان.
(الملاحظة الأولى): أن هذا الخبر على فرض صحته: كان الأولى به أن يعف عن ذكره، فلا (يلوث) به كتابه، ولا يؤذي به حياء قارئه، فهذا شأن العلماء والباحثين، لا سيما وأن الخبر في سياقه مقحم لا قيمة له، فإثبات قوة الصلة بين هارون ا لرشيد والبرامكة لا تحتاج إلى مثل هذا الفحش، الذي يعف عنه عامة الناس، بله كبار العلماء، (آه متى يعود لأمتنا مكانها حتى تقيم حدود الله، وتجلد هؤلاء القذفة).
(الملاحظة الثانية): أن هؤلاء المستشرقين دائماً يدعون إلى العقل، وتحكيم العقل في الخبر مهما كانت صحة سنده، والسؤال للمستشرق العملاق، هل يقبل عقل عاقل (أيّ عاقل) بله عقل متحضر، بله عقل (مؤلف عالمي) هل يقبل العقل أن يمشي رجلان في ثوب واحد؟؟ وكيف؟ وبأي سعة يكون هذا الثوب؟ وأيهما يمشي أولاً؟ وأيهما يمشي ثانيا؟ أم كان هناك إيقاع موسيقي يضبط حركتهما؟؟
وإذا تركنا هذا الإمكان (العملي) فهل يقبل العقل أن حاكماً في مثل منزلة هارون الرشيد كان فارغاً لهذا العبث، بل لهذا الفساد؟ وهل يعقل أن من يصل إلى هذا الحد من (السقوط) يمكن أن يكون صاحب هذا التاريخ الذي زحم الدنيا، من الغزوات والانتصارات والسفارات، والبناء والتعمير، وقيادة (الدنيا كلها) في طريق الحضارة والنور؟ هذه الخطوات الفساح التي تمت في عهد الرشيد، هل يقبل عقل عاقل أن هارون الرشيد الذي كان يقود الجيوش بنفسه، ويقضي الشهور تلو الشهور في ملابس الميدان، هذا الذي أذل أباطرة الروم، ودفع عن ثغور المسلمين دسائسهم، ومؤامراتهم، حتى مات مجاهداً ودفن هناك في (طوس) على أطراف دولته، بعيداً عن عاصمته (وقصره) مسيرة أيام، هل يعقل عاقل أن هذا المجاهد يصل إلى هذا المنحدر من السقوط؟؟ إلا في عقل هؤلاء المستشرقين.
بل إن جعفر البرمكي هذا، كان قائدا محنكاً، ولا شك أن مؤرخ الحضارة قرأ عن أعماله الحربية العظيمة، وأن هارون الرشيد كان يرمي به في أخطر المآزق ويلجأ إليه في أشق المضايق، فطالما قمع الفتنة، وردع العدوان، وسد الثغور، وحمى الحصون، وجال في أرض العدو وصال.
أفمثل هذين العظيمين الطاهرين المجاهدين، يكون فارغاً لما يرمز إليه بهمزه ولمزه، ذلك المؤلف العالمي (الهمزة واللمزة).(83)

ميارى 23 - 8 - 2010 05:17 AM

إصدار أحكام قاطعة بغير دليل أصلا
لقد حاولت أن أجد اسماً لهذه الآفة المنهجية التي سنعرضها فلم أجد، غير هذه الصفات، فحينما يحذف الباحث كلمة من العبارة محل الاستشهاد، أو يزيد كلمة أو يغير كلمة، أو ينفي كاذباً وجود نص من النصوص التي استدل بها غيره، حينما يفعل ذلك بماذا نصفه؟ أو بماذا نسمي هذا الخلل أو بالأحرى الفساد المنهجي؟ أرجو أن نجد له اسماً يعبر عن حقيقته. وما عليّ الآن إلا أن أضع النماذج لهذه الشناعات:
يحاول بعض المستشرقين إنكار عالمية الرسالة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا للناس كافة، وفي سبيل ذلك يجمعون من الأدلة ما يركبون في سبيله كل صعب وذلول، ولكن الذي يتصل بموضوعنا هنا، أنهم ينكرون رسائل النبي صلى الله عليه وسلم ورسله إلى ملوك العرب والعجم، وفي سبيل هذا الإنكار يتصدى (كايتاني) لخبر الرسول والرسائل في سيرة ابن هشام، فيشكك فيه، مدعياً أن ابن هشام لم يورد لابن إسحاق مصدره الرئيسي خبراً عن الرسائل، واعتبر كايتاني ذلك سكوتاً من ابن إسحاق وبالتالي إضعافاً للخبر. (80)
والسيرة النبوية لابن هشام، مطبوعة، وبأيدي الناس، وفي وسعهم أن ينظروا فيها ليجدوا أن ابن هشام أورد خبر الرسائل بروايتين إحداهما لابن هشام بسنده عن أبي بك الهذلي، والثانية لابن إسحاق بسنده عن يزيد بن أبي حبيب المصري.(81)
وما أظن إنساناً عاقلاً يفعل هذا الذي فعله (كايتاني) وأمثاله، لأن الذي يخفي شيئاً بهذا الوضوح، لا يمكن أن يعد بين العقلاء.
ولكن عذرهم أنهم يكتبون للمثقف الأوروبي – كما أشرنا آنفاً - وهو غير مستطيع أن يتتبع هذه المراجع والمصادر، بل هو غير مريد أيضاً، لأن هؤلاء موضع ثقته وما كانوا يعلمون أن ناساً منا سيقرءون لهم، ويطلعون على هذه الخيانات المنهجية.
ونعود إلى (ول. ديورانت) لنرى عنده مثالا ً آخر، في موسوعته (قصة الحضارة) التي أشرنا إليها آنفاً، يقول وهو يتحدث عن الثراء الذي أصابه المسلمون بسبب الفتوح: "وكان للزبير بيوت في عدة مدن مختلفة، وكان يمتلك ألف جواد وعشرة آلاف عبد. ." أ . هـ بنصه.
وهذا الخبر بهذه الصورة وبهذا الإيجاز يجمع ألواناً وأفانين من التحريف، ففيه زيادة، وفيه نقص، وفيه تغيير وتبديل، وبيان ذلك:
إن الخبر ورد في المصادر المعروفة والمشهورة هكذا: "كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه خراجهم كل يوم، فما يُدخل إلى بيته منها درهماً واحدا، يتصدق بذلك جميعه".
هكذا ورد الخبر في:
(1) الإصابة لابن حجر العسقلاني: 1/546
(2) أسد الغابة لابن الأثير: 2/198
(3) البداية والنهاية لابن كثير: 7/251
(4) صفة الصفوة لابن الجوزي: 1/346
(5) الاستيعاب لابن عبد البر (بهامش الإصابة) 1/583
وبعض هذه المراجع من منشورات المستشرقين، أعني أن هذا الخبر بهذه الصبغة كان متاحاً له وبين يديه، (وهم يزعمون، ويزعم تلاميذهم أنهم يستقصون المراجع ولا يخطون حرفاً إلا بعد جمع كل ما يتصل بموضوعهم) ولكنه كما ترى ارتكب التحريفات الثلاثة الآتية:
1- زيادة ألف جواد من عنده، فقد أقحمها في الخبر، ولا وجود لها فيه أصلاً.
2- نقص الجزء الأخير من الخبر عن تصدق الزبير بخراج
هؤلاء المماليك.
3- زيادة الألف مملوك إلى عشرة آلاف.
وهكذا تكون (الأمانة العلمية) و(النزاهة) و (الحيدة) و(التجرد) و (المنهج÷ إلى آخر هذا الركام من الأحجار التي يلقمونها لمن يريد أن ينظر في عمل المستشرقين.
وهاك نموذج آخر للتحريف وخيانة المنهج،وهو ما قاله هذا المستشرق عن هارون الرشيد، ذلك الخليفة العظيم، وعلاقته بالبرامكة، قال: "وكان هارون يحب جعفر حبا أطلق ألسنة السوء في علاقتهما الشخصية، ويقال: إن الخليفة أمر بأن تصنع له جبة ذات طوقين، يلبسها هو وجعفر معا، فيبدوان كأنهما رأسان فوق جسم واحد، ولعلهما كانا في هذا الثوب يمثلان حياة بغداد الليلية(82)" كذا. .
انظر: مؤرخ الحضارة، عملاق الفكر، وربيب الأكاديمية، وسادن العلم، وأستاذ البحث والمنهج، ينكر الحدث الثابت والخبر المتفق عليه، الذي تردد في كل الكتب تقريباً، "عن دس اليهود السم للرسول صلى الله عليه وسلم ". ويُضيف ويغير في خبر ثروة الزبير رضي الله عنه ، ويأتي هنا بخبر (لقيط) لا يدرى له أصل فيحتفي به أيما احتفاء، بل يبني عليه من عنده، فيتخذ منه مناسبة ليطعن بغداد دار السلام، عاصمة الدنيا كلها في ذلك الوقت، فيقول: "ولعلهما كانا في هذا الثوب يمثلان حياة بغداد الليلية"، هكذا يقذف المجتمع كلّه بهذه الفرية، ولنا على هذا الكلام ملاحظتان.
(الملاحظة الأولى): أن هذا الخبر على فرض صحته: كان الأولى به أن يعف عن ذكره، فلا (يلوث) به كتابه، ولا يؤذي به حياء قارئه، فهذا شأن العلماء والباحثين، لا سيما وأن الخبر في سياقه مقحم لا قيمة له، فإثبات قوة الصلة بين هارون ا لرشيد والبرامكة لا تحتاج إلى مثل هذا الفحش، الذي يعف عنه عامة الناس، بله كبار العلماء، (آه متى يعود لأمتنا مكانها حتى تقيم حدود الله، وتجلد هؤلاء القذفة).
(الملاحظة الثانية): أن هؤلاء المستشرقين دائماً يدعون إلى العقل، وتحكيم العقل في الخبر مهما كانت صحة سنده، والسؤال للمستشرق العملاق، هل يقبل عقل عاقل (أيّ عاقل) بله عقل متحضر، بله عقل (مؤلف عالمي) هل يقبل العقل أن يمشي رجلان في ثوب واحد؟؟ وكيف؟ وبأي سعة يكون هذا الثوب؟ وأيهما يمشي أولاً؟ وأيهما يمشي ثانيا؟ أم كان هناك إيقاع موسيقي يضبط حركتهما؟؟
وإذا تركنا هذا الإمكان (العملي) فهل يقبل العقل أن حاكماً في مثل منزلة هارون الرشيد كان فارغاً لهذا العبث، بل لهذا الفساد؟ وهل يعقل أن من يصل إلى هذا الحد من (السقوط) يمكن أن يكون صاحب هذا التاريخ الذي زحم الدنيا، من الغزوات والانتصارات والسفارات، والبناء والتعمير، وقيادة (الدنيا كلها) في طريق الحضارة والنور؟ هذه الخطوات الفساح التي تمت في عهد الرشيد، هل يقبل عقل عاقل أن هارون الرشيد الذي كان يقود الجيوش بنفسه، ويقضي الشهور تلو الشهور في ملابس الميدان، هذا الذي أذل أباطرة الروم، ودفع عن ثغور المسلمين دسائسهم، ومؤامراتهم، حتى مات مجاهداً ودفن هناك في (طوس) على أطراف دولته، بعيداً عن عاصمته (وقصره) مسيرة أيام، هل يعقل عاقل أن هذا المجاهد يصل إلى هذا المنحدر من السقوط؟؟ إلا في عقل هؤلاء المستشرقين.
بل إن جعفر البرمكي هذا، كان قائدا محنكاً، ولا شك أن مؤرخ الحضارة قرأ عن أعماله الحربية العظيمة، وأن هارون الرشيد كان يرمي به في أخطر المآزق ويلجأ إليه في أشق المضايق، فطالما قمع الفتنة، وردع العدوان، وسد الثغور، وحمى الحصون، وجال في أرض العدو وصال.
أفمثل هذين العظيمين الطاهرين المجاهدين، يكون فارغاً لما يرمز إليه بهمزه ولمزه، ذلك المؤلف العالمي (الهمزة واللمزة).(83)


الساعة الآن 05:22 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى