منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=9402)

ميارى 23 - 8 - 2010 04:29 PM

الحديث الثلاثون
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً‏)‏ رواه البخاري‏.‏
هذا من أكبر مِنن الله على عباده المؤمنين‏:‏ أن أعمالهم المستمرة المعتادة إذا قطعهم عنها مرض أو سفر كتبت لهم كلها كاملة؛ لأن الله يعلم منهم أنه لولا ذلك المانع لفعلوها، فيعطيهم تعالى بنياتهم مثل أجور العاملين مع أجر المرض الخاص، ومع ما يحصل به من القيام بوظيفة الصبر، أو ما هو أكمل من ذلك من الرضى والشكر، ومن الخضوع لله والانكسار له‏.‏ ومع ما يفعله المسافر من أعمال ربما لا يفعلها في الحضر‏:‏ من تعليم، أو نصيحة، أو إرشاد إلى مصلحة دينية أو دنيوية وخصوصاً في الأسفار الخيرية، كالجهاد، والحج والعمرة، ونحوها‏.‏
ويدخل في هذا الحديث‏:‏ أن من فعل العبادة على وجه ناقص وهو يعجز عن فعلها على الوجه الأكمل، فإن الله يكمل له بنيته ما كان يفعله لو قدر عليه؛ فإن العجز عن مكملات العبادات نوع مرض‏.‏ والله أعلم‏.‏
ومن كان من نيته عمل خير، ولكنه اشتغل بعمل آخر أفضل منه، ولا يمكنه الجمع بين الأمرين‏:‏ فهو أولى أن يكتب له ذلك العمل الذي منعه منه عمل أفضل منه، بل لو اشتغل بنظيره‏.‏ وفضل الله تعالى عظيم‏.‏
الحديث الحادي والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أسرعوا بالجنازة‏.‏ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه‏.‏ وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذا الحديث محتوٍ على مسائل أصولية وفروعية‏.‏
فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أسرعوا بالجنازة‏)‏ يشمل الإسراع بتغسيلها وتكفينها وحملها ودفنها، وجميع متعلقات التجهيز‏.‏ ولهذا كانت هذه الأمور من فروض الكفاية‏.‏ ويستثنى من هذا الإسراع إذا كان التأخير فيه مصلحة راجحة، كأن يموت بغتة، فيتعين تأخيره حتى يتحقق موته‏:‏ لئلا يكون قد أصابته سكتة‏.‏ وينبغي أيضاً – تأخيره لكثرة الجمع، أو لحضور من له حق عليه من قريب ونحوه‏.‏ وقد علل ذلك بمنفعة الميت لتقديمه لما هو خير له من النعيم، أو لمصلحة الحي بالسرعة في الإبعاد عن الشر‏.‏
وإذا كان هذا مأموراً به في أمور تجهيزه، فمن باب أولى الإسراع في إبراء ذمته من ديون وحقوق عليه، فإنه إلى ذلك أحوج‏.‏
وفيه‏:‏ الحث على الاهتمام بشأن أخيك المسلم حياً وميتاً، وبالإسراع إلى ما فيه خير له في دينه ودنياه‏.‏ كما أن فيه‏:‏ الحق على البعد عن أسباب الشر، ومباعدة المجرمين، حتى في الحالة التي يبتلى الإنسان فيها بمباشرته‏.‏
وفي هذا الحديث‏:‏ إثبات نعيم البرزخ وعذابه‏.‏ وقد تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن مبتدأ ذلك وضعه في قبره إذا تم دفنه، ولهذا يشرع في هذه الحال الوقوف على قبره والدعاء له، والاستغفار، وسؤال الله له الثبات‏.‏
وفي هذا أيضاً‏:‏ التنبيه على أسباب نعيم البرزخ وعذابه، وأن أسباب النعيم الصلاح؛ لقوله‏:‏ ‏(‏فإن كانت صالح‏)‏ والصلاح كلمة جامعة تحتوي على تصديق الله ورسوله، وطاعة الله ورسوله‏.‏ فهو تصديق الخبر، وامتثال الأمر، واجتناب النهي، وأن العذاب سببه الإخلال بالصلاح‏:‏ إما لشك في الدين، أو اجتراء على المحارم، أو لترك شيء من الواجبات والفرائض‏.‏ وجميع الأسباب المفصلة في الأحاديث والآثار ترجع إلى ذلك‏.‏ ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَصْلَاهَا إِلا الأَشْقَى ، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏ كذب الخبر، وتولى عن الأمر‏.‏
الحديث الثاني والثلاثون
عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة‏.‏ وليس فيما دون خمس أواقٍ من الوَرِق صدقة‏.‏ وليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة‏)‏ متفق عليه‏.‏
اشتمل هذا الحديث على تحديد أنصبة الأموال الزكوية الغالية، والتي تجب فيه الزكاة‏:‏ الحبوب، والثمار، والمواشي من الأنعام الثلاثة والنقود، وما يتفرع عنها من عروض التجارة‏.‏
أما زكاة الحبوب والثمار‏:‏ فإن نص هذا الحديث أن نصابها خمسة أوسق‏.‏ فما دون ذلك لا زكاة فيه‏.‏ والوَسْق‏:‏ ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فتكون الخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع‏.‏ فمن بلغت حبوب زرعه أو مَغَلَّ ثمره هذا المقدار فأكثر‏:‏ فعليه زكاته فيما سُقي بمؤونة نصف العشر، وفيما سقي بغير مؤونة العشر‏.‏
وأما زكاة المواشي‏:‏ فليس فيما دون خمس من الإبل شيء‏.‏ فإذا بلغت خمساً‏:‏ ففيها شاة‏.‏ ثم في كل خمس شاة، إلى خمس وعشرين‏:‏ فتجب فيها بنت مخاض، وهي التي تم لها سنة، وفي ست وثلاثين‏:‏ بنت لبون، لها سنتان‏.‏ وفي ست وأربعين‏:‏ حِقَّةٌ، لها ثلاث سنين‏.‏ وفي إحدى وستين‏:‏ جَذَعة، لها أربع سنين‏.‏ وفي ست وسبعين‏:‏ بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين‏:‏ حقتان‏.‏ فإذا زادت على عشرين ومائة‏:‏ ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة‏.‏
وأما نصاب البقر‏:‏ فالثلاثون فيها تبيع أو تبيعة، له سنة‏.‏ وفي أربعين مُسِنَّة، لها سنتان‏.‏ ثم في كل ثلاثين تبيع‏.‏ وفي كل أربعين مسنة‏.‏
وأما نصاب الغنم‏:‏ فأقله أربعون، فيها شاة‏.‏ وفي إحدى وعشرين ومائة‏:‏ شاتان‏.‏ وفي مائتين وواحدة‏:‏ ثلاث شياه‏.‏ ثم في كل مائة‏:‏ شاة، وما بين الفرضين يقال له‏:‏ ‏(‏وَقْص‏)‏ في المواشي خاصة، لا شيء فيه، بل هو عفو‏.‏
وأما بقية الحيوانات، كالخيل والبغال والحمير وغيرها‏:‏ فليس فيه زكاة، إلا إذا أعد للبيع والشراء‏.‏
وأما نصاب النقود من الفضة‏:‏ فأقله خمس أواق‏.‏ والأوقية أربعون درهماً‏.‏ فمتى بلغت عنده مائتي درهم‏:‏ ففيه ربع العشر‏.‏ وكذلك ما تفرع عن النقدين من عروض التجارة‏.‏ وهو كل ما أعدّ للبيع والشراء لأجل المكسب والربح، فيُقَوَّم إذا حال الحول بقيمة النقود، ويخرج عنه ربع العشر‏.‏ ولا بد في جميعها من تمام الحول إلا الحبوب والثمار، فإنها تخرج زكاتها وقت الحصاد والجذاذ ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ‏}‏ ‏.‏
فهذه أصناف الأموال التي تجب فيها الزكاة‏.‏
وأما مصرفها‏:‏ فللأصناف الثمانية المذكورين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏.‏
الحديث الثالث والثلاثون
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ومن يستعفف يُعفّه الله‏.‏ ومن يستغن يُغنه الله‏.‏ ومن يَتَصَبَّر يُصّبِّره الله‏.‏ وما أعطِيَ أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذا الحديث اشتمل على أربع جمل جامعة نافعة‏.‏
إحداها‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏ومن يستعفف يعفه الله‏"‏
والثانية‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏ومن يستغن يغنه الله‏"‏
وهاتان الجملتان متلازمتان، فإن كمال العبد في إخلاصه لله رغبة ورهبة وتعلقاً به دون المخلوقين، فعليه أن يسعى لتحقيق هذا الكمال، ويعمل كل سبب يوصله إلى ذلك، حتى يكون عبداً لله حقاً حُرّاً من رق المخلوقين‏.‏ وذلك بأن يجاهد نفسه عن أمرين‏:‏ انصرافها عن التعلق بالمخلوقين بالاستعفاف عما في أيديهم‏.‏ فلا يطلبه بمقاله ولا بلسان حاله‏.‏ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعمر‏:‏
‏"‏ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه‏.‏ ومالا فلا تتبعه نفسَك‏)‏ فقطع الإشراف في القلب والسؤال باللسان، تعففاً وترفعاً عن مِنن الخلق، وعن تعلق القلب بهم، سبب قوي لحصول العفة‏.‏
وتمام ذلك‏:‏ أن يجاهد نفسه على الأمر الثاني‏:‏ وهو الاستغناء بالله، والثقة بكفايته، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه‏.‏ وهذا هو المقصود‏.‏ والأول وسيلة إلى هذا‏.‏ فإن من استعف عما في أيدي الناس وعما يناله منهم‏:‏ أوجب له ذلك أن يقوى تعلقه بالله، ورجاؤه وطمعه في فضل الله وإحسانه، ويحسن ظنه وثقته بربه‏.‏ والله تعالى عند حسن ظن عبده به إن ظن خيراً فله‏:‏ وإن ظن غيره فله‏.‏ وكل واحد من الأمرين يمد الآخر فيقويه‏.‏ فكلما قوي تعلقه بالله ضعف تعلقه بالمخلوقين وبالعكس‏.‏
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى‏)‏ فجمع الخير كله في هذا الدعاء‏.‏ فالهدى‏:‏ هو العلم النافع‏.‏ والتقى‏:‏ العمل الصالح، وترك المحرمات كلها‏.‏ هذا صلاح الدين‏.‏
وتمام ذلك بصلاح القلب، وطمأنينته بالعفاف عن الخلق، والغنى بالله‏.‏ ومن كان غنياً بالله فهو الغني حقاً، وإن قلت حواصله‏.‏ فليس الغني عن كثرة العَرَض، إنما الغنى غنى القلب‏.‏ وبالعفاف والغنى يتم للعبد الحياة الطيبة، والنعيم الدنيوي، والقناعة بما آتاه الله‏.‏
والثالثة قوله‏:‏ ‏(‏ومن يتصبر يصبره الله‏)‏‏.‏
ثم ذكر في الجملة الرابعة‏:‏ أن الصبر إذا أعطاه الله العبد فهو أفضل العطاء وأوسعه وأعظمه، إعانة على الأمور‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ‏}‏ أي‏:‏ على أموركم كلها‏.‏
والصبر كسائر الأخلاق يحتاج إلى مجاهدة للنفس وتمرينها‏.‏ فلهذا قال‏:‏ ‏(‏ومن يتصبر‏)‏ أي‏:‏ يجاهد نفسه على الصبر ‏(‏يصبره الله‏)‏ ويعينه وإنما كان الصبر أعظم العطايا، لأنه يتعلق بجميع أمور العبد وكمالاته وكل حالة من أحواله تحتاج إلى صبر‏.‏ فإنه يحتاج إلى الصبر على طاعة الله، حتى يقوم بها ويؤديها‏.‏ وإلى صبر عن معصية الله حتى يتركها لله وإلى صبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يتسخطها‏.‏ بل إلى صبر على نعم الله ومحبوبات النفس، فلا يدع النفس تمرح وتفرح الفرح المذموم، بل يشتغل بشكر الله، فهو في كل أحواله يحتاج إلى الصبر‏.‏ وبالصبر ينال الفلاح‏.‏ ولهذا ذكر الله أهل الجنة فقال‏:‏ ‏{‏وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ، سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ‏}‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا‏}‏ فهم نالوا الجنة بنعيمها، وأدركوا المنازل العالية بالصبر‏.‏ ولكن العبد يسأله الله العافية من الابتلاء الذي لا يدري ما عاقبته، ثم إذا ورد عليه فوظيفته الصبر‏.‏ فالعافية هي المطلوبة بالأصالة في أمور الابتلاء والامتحان‏.‏ والصبر يؤمر به عند وجود أسبابه متعلقاته‏.‏ والله هو المعين‏.‏
وقد وعد الله الصابرين في كتابه وعلى لسان رسوله أموراً عالية جليلة‏.‏ وعدهم بالإعانة في كل أمورهم، وأنه معهم بالعناية والتوفيق والتسديد، وأنه يحبهم ويثبت قلوبهم وأقدامهم، ويلقي عليهم السكينة والطمأنينة، ويسهل لهم الطاعات، ويحفظهم من المخالفات، ويتفضل عليهم بالصلوات والرحمة والهداية عند المصيبات‏.‏ والله يرفعهم إلى أعلى المقامات في الدنيا والآخرة‏.‏ وعدهم النصر، وأن ييسرهم لليسرى ويجنبهم العُسرى‏.‏ ووعدهم بالسعادة والفلاح والنجاح، وأن يوفيهم أجرهم بغير حساب، وأن يخلف عليهم في الدنيا أكثر مما أخذ منهم من محبوباتهم، وأحسن، يعوضهم عن وقوع المكروهات عوضاً عاجلاً يقابل أضعاف أضعاف ما وقع عليهم من كريهة ومصيبة‏.‏ وهو في ابتدائه صعب شديد‏.‏ وفي انتهائه سهل حميد العواقب كما قيل‏:‏
والصبر مثل اسمه مُرٌّ مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل

ميارى 23 - 8 - 2010 04:30 PM

الحديث الرابع والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً‏.‏ وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله‏)‏ رواه مسلم‏.‏
هذا الحديث احتوى على فضل الصدقة، والعفو والتواضع، وبيان ثمراتها العاجلة والآجلة، وأن كل ما يتوهمه المتوهم من نقص الصدقة للمال، ومنافاة العفو للعز، والتواضع للرفعة‏.‏ وهم غالط، وظن كاذب‏.‏
فالصدقة لا تنقص المال؛ لأنه لو فرض أنه نقص من جهة، فقد زاد من جهات أُخر؛ فإن الصدقة تبارك المال، وتدفع عنه الآفات وتنميه، وتفتح للمتصدق من أبواب الرزق وأسباب الزيادة أموراً ما تفتح على غيره‏.‏ فهل يقابل ذلك النقص بعض هذه الثمرات الجليلة‏؟‏
فالصدقة لله التي في محلها لا تنفد المال قطعاً، ولا تنقصه بنص النبي صلى الله عليه وسلم ، وبالمشاهدات والتجربات المعلومة‏.‏ هذا كله سوى ما لصاحبها عند الله‏:‏ من الثواب الجزيل، والخير والرفعة‏.‏
وأما العفو عن جنايات المسيئين بأقوالهم وأفعالهم‏:‏ فلا يتوهم منه الذل، بل هذا عين العز، فإن العز هو الرفعة عند الله وعند خلقه، مع القدرة على قهر الخصوم والأعداء‏.‏
ومعلوم ما يحصل للعافي من الخير والثناء عند الخلق وانقلاب العدو صديقاً، وانقلاب الناس مع العافي، ونصرتهم له بالقول والفعل على خصمه، ومعاملة الله له من جنس عمله، فإن من عفا عن عباد الله عفا الله عنه‏.‏ وكذلك المتواضع لله ولعباده ويرفعه الله درجات؛ فإن الله ذكر الرفعة في قوله‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏}‏ فمن أجلّ ثمرات العلم والإيمان‏:‏ التواضع؛ فإنه الانقياد الكامل للحق، والخضوع لأمر الله ورسوله؛ امتثالاً للأمر، واجتناباً للنهي، مع التواضع لعباد الله، وخفض الجناح لهم، ومراعاة الصغير والكبير، والشريف والوضيع‏.‏ وضد ذلك التكبر؛ فهو غمط الحق، واحتقار الناس‏.‏
وهذه الثلاث المذكورات في هذا الحديث‏:‏ مقدمات صفات المحسنين‏.‏ فهذا محسن في ماله، ودفع حاجة المحتاجين‏.‏ وهذا محسن بالعفو عن جنايات المسيئين‏.‏ وهذا محسن إليهم بحلمه وتواضعه، وحسن خلقه مع الناس أجمعين‏.‏ وهؤلاء قد وسعوا الناس بأخلاقهم وإحسانهم ورفعهم الله فصار لهم المحل الأشرف بين العباد، مع ما يدخر الله لهم من الثواب‏.‏
وفي قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وما تواضع أحد لله‏)‏ تنبيه على حسن القصد والإخلاص لله في تواضعه؛ لأن كثيراً من الناس قد يظهر التواضع للأغنياء ليصيب من دنياهم، أو للرؤساء لينال بسببهم مطلوبه‏.‏ وقد يظهر التواضع رياء وسمعة‏.‏ وكل هذه أغراض فاسدة‏.‏ لا ينفع العبد إلا التواضع لله تقرباً إليه‏.‏ وطلباً لثوابه، وإحساناً إلى الخلق؛ فكمال الإحسان وروحه الإخلاص لله‏.‏
الحديث الخامس والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل عمل ابن آدم يضاعف‏:‏ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ إلا الصوم‏.‏ فإنه لي، وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلي‏.‏ للصائم فرحتان‏:‏ فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه‏.‏ ولَخَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك‏.‏ والصوم جُنَّة‏.‏ وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل‏:‏ إني امرؤ صائم‏)‏ متفق عليه‏.‏
ما أعظم هذا الحديث؛ فإنه ذكر الأعمال عموماً، ثم الصيام خصوصاً وذكر فضله وخواصه، وثوابه العاجل والآجل، وبيان حكمته، والمقصود منه، وما ينبغي فيه من الآداب الفاضلة‏.‏ كلها احتوى عليها هذا الحديث‏.‏
فبين هذا الأصل الجامع، وأن جميع الأعمال الصالحة – من أقوال وأفعال، ظاهرة أو باطنة، سواء تعلقت بحق الله، أو بحقوق العباد – مضاعفة من عشر إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة‏.‏
وهذا من أعظم ما يدل على سعة فضل الله، وإحسانه على عباده المؤمنين؛ إذ جعل جناياتهم ومخالفتهم الواحدة بجزاء واحد، ومغفرة الله تعالى فوق ذلك‏.‏
وأما الحسنة‏:‏ فأقل التضيف أو الواحدة بعشر‏.‏ وقد تزيد على ذلك بأسباب‏.‏
منها‏:‏ قوة إيمان العامل، وكمال إخلاصه‏.‏ فكلما قوي الإيمان والإخلاص تضاعف ثواب العمل‏.‏
ومنها‏:‏ أن يكون للعمل موقع كبير، كالنفقة في الجهاد والعلم، والمشاريع الدينية العامة، وكالعمل الذي قوي بحسنه وقوته ودفعه المعارضات، كما ذكره صلى الله عليه وسلم في قصة أصحاب الغار، وقصة البَغِيِّ التي سقت الكلب، فشكر الله لها وغفر لها‏.‏ ومثل العمل الذي يثمر أعمالاً أُخر، ويقتدي به غيره، أو يشاركه فيه مشارك، وكدفع الضرورات العظيمة، وحصول المبرات الكبيرة، وكالمضاعفة لفضل الزمان أو المكان، أو العامل عند الله‏.‏
فهذه المضاعفات كلها شاملة لكل عمل‏.‏
واستثنى في هذا الحديث الصيام، وأضافه إليه، وأنه الذي يجزى به بمحض فضله وكرمه، من غير مقابلة للعمل بالتضعيف المذكور الذي تشترك فيه الأعمال‏.‏ وهذا شيء لا يمكن التعبير عنه، بل يجازيهم بما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏.‏
وفي الحديث كالتنبيه على حكمة هذا التخصيص، وأن الصائم لما ترك محبوبات النفس التي طبعت على محبتها، وتقديمها على غيرها، وأنها من الأمور الضرورية، فقدم الصائم عليها محبة ربه، فتركها لله في حالة لا يطلع عليها إلا الله، وصارت محبته لله مقدمة وقاهرة لكل محبة نفسية، وطلب رضاه وثوابه مقدماً على تحصيل الأغراض النفسية‏.‏ فلهذا اختصه الله لنفسه، وجعل ثواب الصائم عنده‏.‏ فما ظنك بأجر وجزاء تكفل به الرحمن الرحيم الكريم المنان، الذي عمت مواهبه جميع الموجودات، وخصّ أولياءه منها بالحظ الأوفر، والنصيب الأكمل، وقدر لهم من الأسباب والألطاف التي ينالون بها ما عنده على أمور لا تخطر له بالبال‏.‏ ولا تدور في الخيال‏؟‏ فما ظنك أن يفعل الله بهؤلاء الصائمين المخلصين‏؟‏
وهنا يقف القلم، ويسبح قلب الصائم فرحاً وطرباً بعمل اختصه الله لنفسه، وجعل جزاءه من فضله المحض، وإحسانه الصرف‏.‏ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم‏.‏
ودلّ الحديث على أن الصيام الكامل هو الذي يدع العبد فيه شيئين‏:‏ المفطرات الحسية، من طعام وشراب ونكاح وتوابعها‏.‏ والمنقصات العملية، فلا يرفث ولا يصخب، ولا يعمل عملاً محرماً، ولا يتكلم بكلام محرم‏.‏ بل يجتنب جميع المعاصي، وجميع المخاصمات والمنازعات المحدثة للشحناء‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏(‏فلا يرفث‏)‏ أي‏:‏ لا يتكلم بكلام قبيح ‏(‏ولا يصخب‏)‏ بالكلام المحدث للفتن والمخاصمات‏.‏ كما قال في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه‏)‏‏.‏
فمن حقق الأمرين‏:‏ ترك المفطرات، وترك المنهيات، تم له أجر الصائمين‏.‏ ومن لم يفعل ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏.‏
ثم أرشد الصائم إذا عرض له أحد يريد مخاصمته ومشاتمته أن يقول له بلسانه‏:‏ ‏(‏إني صائم‏)‏‏.‏
وفائدة ذلك‏:‏ أن يريد كأنه يقول‏:‏ اعلم أنه ليس بي عجز عن مقابلتك على ما تقول، ولكني صائم، أحترم صيامي وأراعي كماله، وأمر الله ورسوله‏.‏ واعلم أن الصيام يدعوني إلى ترك المقابلة، ويحثُّني على الصبر‏.‏ فما عملته أنا خير وأعلى مما ملته معي أيها المخاصم‏.‏
وفيه‏:‏ العناية بالأعمال كلها من صيام وغيره، ومراعاة تكميلها، والبعد عن جميع المنقصات لها، وتذكر مقتضيات العمل، وما يوجبه على العامل وقت حصول الأسباب الجارحة للعمل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏الصيام جُنَّة‏)‏ أي‏:‏ وقاية يتقي بها العبد الذنوب في الدنيا ويتمرن به على الخير، ووقاية من العذاب‏.‏
فهذا من أعظم حكم الشارع من فوائد الصيام، وذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ فكون الصوم جنة، وسبب لحصول التقوى‏:‏ هو مجموع الحكم التي فصلت في حكمة الصيام وفوائده فإنه يمنع من المحرمات أو يخففها، ويحث على كثير من الطاعات‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏للصائم فرحتان‏:‏ فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه‏)‏‏.‏
هذا ثوابان‏:‏ عاجل، وآجل‏.‏
فالعاجل‏:‏ مشاهد إذا أفطر الصائم فرح بنعمة الله عليه بتكميل الصيام‏.‏ وفرح بنيل شهواته التي منع منها في النهار‏.‏
والآجل‏:‏ فرحه عند لقاء ربه برضوانه وكرامته‏.‏ وهذا الفرح المعجل نموذج ذلك الفرح المؤجل، وأن الله سيجمعهما للصائم‏.‏
وفيه‏:‏ الإشارة إلى أن الصائم إذا قارب فطره، وحصلت له هذه الفرحة، فإنها تقابل ما مر عليها في نهاره من مشقة ترك الشهوات‏.‏ فهي من باب التنشيط، وإنهاض الهمم على الخير‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك‏)‏‏.‏
الخلوف‏:‏ هو الأثر الذي يكون في الفم من رائحة الجوف عند خلوه من الطعام وتصاعد الأبخرة‏.‏ فهو وإن كان كريهاً للنفوس، فلا تحزن أيها الصائم؛ فإنه أطيب عند الله من ريح المسك، فإنه متأثر عن عبادته والتقرب إليه‏.‏ وكل ما تأثر عن العبادات من المشقات والكريهات فهو محبوب لله‏.‏ ومحبوب الله عند المؤمن مقدم على كل شيء‏.‏
الحديث السادس والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله قال‏:‏ من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب‏.‏ وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه‏.‏ وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه‏.‏ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها‏.‏ ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنه‏.‏ وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن‏:‏ يكره الموت، وأكره مساءته‏.‏ ولا بد له منه‏)‏ رواه البخاري‏.‏
هذا حديث جليل، أشرف حديث في أوصاف الأولياء، وفضلهم ومقاماتهم‏.‏
فأخبر أن معاداة أوليائه معاداة له ومحاربة له‏.‏ ومن كان متصدياً لعداوة الرب ومحاربة مالك الملك فهو مخذول‏.‏ ومن تكفل الله بالذَّبِّ عنه فهو منصور‏.‏ وذلك لكمال موافقة أولياء الله لله في محابه؛ فأحبهم وقام بكفايتهم، وكفاهم ما أهمهم‏.‏
ثم ذكر صفة الأولياء الصفة الكاملة، وأن أولياء الله هم الذين تقربوا إلى الله بأداء الفرائض أولاً‏:‏ من صلاة وصيام وزكاة وحج وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وجهاد، وقيام بحقوقه وحقوق عباده الواجبة‏.‏
ثم انتقلوا من هذه الدرجة إلى التقرب إليه بالنوافل، فإن كل جنس من العبادات الواجبة مشروع من جنسه نوافل فيها فضائل عظيمة تكمل الفرائض، وتكمل ثوابها‏.‏
فأولياء الله قاموا بالفرائض والنوافل، فتولاهم وأحبهم وسهل لهم كل طريق يوصلهم إلى رضاه‏.‏ ووفقهم وسددهم في جميع حركاتهم، فإن سمعوا سمعوا بالله‏.‏ وإن أبصروا فلله‏.‏ وإن بطشوا أو مشوا ففي طاعة الله‏.‏
ومع تسديده لهم في حركاتهم جعلهم مجابي الدعوة‏:‏ إن سألوه أعطاهم مصالح دينهم ودنياهم، وإن استعاذوه من الشرور أعاذهم‏.‏
ومع ذلك لطف بهم في كل أحوالهم، ولولا أنه قضى على عباده بالموت لسلم منه أولياءه؛ لأنهم يكرهونه لمشقته وعظمته‏.‏ والله يكره مساءتهم، ولكن لما كان القضاء نافذاً كان لا بد لهم منه‏.‏
فبين في هذا الحديث‏:‏ صفة الأولياء، وفضائلهم المتنوعة، وحصول محبة الله لهم التي هي أعظم ما تنافس فيه المتنافسون، وأنه معهم وناصرهم، ومؤيدهم ومسددهم، ومجيب دعواتهم‏.‏
ويدل هذا الحديث على‏:‏ إثبات محبة الله، وتفاوتها لأوليائه بحسب مقاماتهم‏.‏
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم لأولياء الله بأداء الفرائض والإكثار من النوافل، مطابق لوصف الله لهم بالإيمان والتقوى في قوله‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}
فكل من كان مؤمناً تقياً كان لله ولياً؛ لأن الإيمان يشمل العقائد، وأعمال القلوب والجوارح‏.‏ والتقوى ترك جميع المحرمات‏.‏
ويدل على أصل عظيم‏:‏ وهو أن الفرائض مقدمة على النوافل، وأحب إلى الله وأكثر أجراً وثواباً‏.‏ لقوله‏:‏ ‏(‏وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إلي مما افترضت عليه‏"‏، وأنه عند التزاحم يتعين تقديم الفروض على النوافل‏.‏

ميارى 23 - 8 - 2010 04:31 PM

الحديث السابع والثلاثون
عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا‏.‏ فإن صدقا وبيَّنا‏:‏ بورك لهما في بيعهما‏.‏ وإن كذبا وكتما‏:‏ محقت بركة بيعهما‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذا الحديث أصل في بيان المعاملات النافعة، والمعاملات الضارة وأن الفاصل بين النوعين‏:‏ الصدق والبيان‏.‏
فمن صدق في معاملته، وبين جميع ما تتوقف عليه المعاملة من الأوصاف المقصودة، ومن العيوب والنقص‏.‏ فهذه معاملة نافعة في العاجل بامتثال أمر الله ورسوله، والسلامة من الإثم، وبنزول البركة في معاملته‏.‏ وفي الآجلة بحصول الثواب، والسلامة من العقاب‏.‏
ومن كذب وكتم العيوب، وما في العقود عليه من الصفات فهو مع إثمه معاملته ممحوقة البركة‏.‏ متى نزعت البركة من المعاملة خسر صاحبها دنياه وأُخراه‏.‏
ويستدل بهذا الأصل على تحريم التدليس، وإخفاء العيوب، وتحريم الغش، والبخس في الموازين والمكاييل والذرع وغيرها؛ فإنها من الكذب والكتمان‏.‏ وكذلك تحريم النجش ، والخداع في المعاملات وتلقي الجلب ليبيعهم، أو يشتري منهم‏.‏
ويدخل فيه‏:‏ الكذب في مقدار الثمن والمثمن، وفي وصف المعقود عليه، وغير ذلك‏.‏
وضابط ذلك‏:‏ أن كل شيء تكره أن يعاملك فيه أخوك المسلم أو غيره ولا يخبرك به، فإنه من باب الكذب والإخفاء والغش‏.‏
ويدخل في هذا‏:‏ البيع بأنواعه، والإجارات، والمشاركات وجميع المعاوضات، وآجالها ووثائقها‏.‏ فكلها يتعين على العبد فيها، الصدق والبيان، ولا يحل له الكذب والكتمان‏.‏
وفي هذا الحديث‏:‏ إثبات خيار المجلس في البيع، وأن لكل واحد من المتبايعين الخيار بين الإمضاء أو الفسخ، ما داما في محل التبايع‏.‏ فإذا تفرّقا ثبت البيع ووجب، وليس لواحد منهما بعد ذلك الخيار إلا بسبب يوجب الفسخ، كخيار شرط، أو عيب يجده قد أخفى عليه، أو تدليس أو تعذر معرفة ثمن، أو مثمن‏.‏
والحكمة في إثبات خيار المجلس‏:‏ أن البيع يقع كثيراً جداً، وكثيراً ما يندم الإنسان على بيعه أو شرائه؛ فجعل له الشارع الخيار؛ كي يتروى وينظر حاله‏:‏ هل يمضي، أو يفسخ‏؟‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الثامن والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغَرر‏)‏ رواه مسلم‏.‏
وهذا كلام جامع لكل غَرر‏.‏ والمراد بالغَرر‏:‏ المخاطرة والجهالة‏.‏ وذلك داخل في الميسر، فإن الميسر كما يدخل في المغالبات والرهان – إلا رهان سباق الخيل والإبل والسهام – فكذلك يدخل في أمور المعاملات‏.‏
فكل بيع فيه خطر‏:‏ هل يحصل المبيع، أو لا يحصل‏؟‏ – كبيع الآبق والشارد والمغصوب من غير غاصبه، أو غير القادر على أخذه، وكبيع ما في ذمم الناس – وخصوصاً المماطلين والمعسرين – فإنه داخل في الغرر‏.‏
وكذلك كل بيع فيه جهالة ظاهرة يتفاوت فيها المقصود؛ فإنها داخلة في بيع الغرر، كبيعه ما في بيته من المتاع، أو ما في دكانه، أو ما في هذا الموضع، وهو لا يدري به ولا يعلمه، أو بيع الحصاة التي هي مثال من أمثلة الغرر، كأن يقول‏:‏ ارم هذه الحصاة، فعلى أيّ متاع وقعت، فهو عليك بكذا، أو ارمها في الأرض فما بلغته من المدى، فهو لك بكذا، أو بيع المنابذة أو الملامسة، أو بيع ما في بطون الأنعام، وما أشبه ذلك‏:‏ فكل ذلك غرر واضح‏.‏
ومن حكمة الشارع‏:‏ تحريم هذا النوع؛ لما فيه من المخاطرات، وإحداث العداوات التي قد يغبن فيها أحدهما الآخر غبناً فاحشاً مضراً‏.‏
ولهذا اشترط العلماء للبيع‏:‏ العلم بالمبيع، والعلم بالثمن‏.‏
واشترطوا أيضاً‏:‏ أن يكون العاقد جائز التصرف، بأن يكون بالغاً عاقلاً رشيداً؛ لأن العقد مع الصغير أو غير الرشيد لا بد أن يحصل به غبن مضر‏.‏ وذلك من الغرر‏.‏
وكذلك اشترطوا‏:‏ العلم بالأجل، إذا كان الثمن أو بعضه، أو المبيع في السلم مؤجلاً؛ لأن جهالة الأجل تصيِّر العقد غرراً‏.‏
وكما يدخل في النهي عن بيع الغرر، الغررُ الذي يتفقان عليه‏.‏ فمن باب أولى أن يدخل فيه التغرير، وتدليس أحدهما على الآخر شيئاً من أمور المعاملة‏:‏ من معقود به، أو عليه، أو شيء من صفاته‏.‏
والغش كله داخل في التغرير، وأفراد الغش وتفاصيله، لا يمكن ضبطها‏.‏ وهي معروفة بين الناس‏.‏
وحاصل بيع الغرر يرجع إلى بيع المعدوم، كحبَل الحبَلة، والسنين، أو بيع المعجوز عنه، كالآبق ونحوه، أو بيع المجهول المطلق في ذاته، أو جنسه، أو صفاته‏.‏
الحديث التاسع والثلاثون
عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً حرم حلالاً، أو أحل حراماً‏.‏ والمسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرم حلالاً، أو أحل حراماً‏)‏ رواه أهل السنن إلا النسائي‏.‏
جمع في هذا الحديث الشريف بين أنواع الصلح والشروط – صحيحها وفاسدها – بكلام يشمل من أنواع العلم وأفراده ما لا يحصى، بحد واضح بيِّن‏.‏
فأخبر أن الأصل في الصلح‏:‏ أنه جائز لا بأس به، إلا إذا حرم الحلال، أو أحل الحرام‏.‏ وهذا كلم محيط، يدخل فيه جميع أقسام الصلح‏.‏ والصلح خير؛ لما فيه من حسم النزاع، وسلامة القلوب، وبراءة الذمم‏.‏
فيدخل فيه‏:‏ الصلح في الأمور في الإقرار، بأن يقرَّ له بدين، أو عين، أو حق، فيصالحه عنه ببعضه أو بغيره‏.‏
وصلح الإنكار، بأن يدعي عليه حقاً من دين، أو عين، فينكر‏.‏ ثم يتفقان على المصالحة على هذا بعين أو دين، أو منفعة أو إبراء، أو غيره‏:‏ فكل ذلك جائز‏.‏
وكذلك الصلح عن الحقوق المجهولة، كأن يكون بين اثنين معاملة طويلة، اشتبه فيها ثبوتُ الحق على أحدهما أو عليهما، أو اشتبه مقداره، فيتصالحان على ما يتفقان عليه، ويتحريان العدل‏.‏
وتمام ذلك‏:‏ أن يحل كل منهما الآخر، أو يكون بين اثنين مشاركة في ميراث أو وقف، أو وصية أو مال آخر‏:‏ من ديون، أو أعيان، ثم يتصالحان عن ذلك بما يريانه أقرب إلى العدل والصواب‏.‏
وكذلك يدخل في ذلك‏:‏ المصالحة بين الزوجين في حق من حقوق الزوجية‏:‏ من نفقة أو كسوة أو مسكن أو غيرها، ماضية أو حاضرة، وإن اقتضت الحال أن يغض أحدهما عن بعض حقه‏:‏ لاستيفاء بقيته، أو لبقاء الزوجية، أو لزوال الفضل، أو لغير ذلك من المقاصد، فكل ذلك حسن‏.‏ كما قال تعالى في حقهما‏:‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏ ‏.‏
وكذلك الصلح عن القصاص في النفوس، أو الأطراف بمال يتفقان عليه، أو المعاوضة عن ديات النفوس والأطراف والجروح أو يصلح الحاكم بين الخصوم بما تقتضيه الحال، متحرياً في ذلك مصلحتهما جميعاً‏.‏
فكل هذا داخل في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصلح جائز بين المسلمين‏)‏‏.‏
فإن تضمن الصلح تحريم الحلال، أو تحليل الحرام، فهو فاسد بنص هذا الحديث، كالصلح على رق الأحرار، أو إباحة الفروج المحرمة، أو الصلح الذي فيه ظلم‏.‏ ولهذا قيده الله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}
أو صلح اضطرار كالمكره، وكالمرأة إذا عضلها زوجها ظلماً لتفتدي منه، وكالصلح على حق الغير بغير إذنه وما أشبه ذلك، فهذا النوع صلح محرم غير صحيح‏.‏
وأما الشروط‏:‏ فأخبر في هذا الحديث أن المسلمين على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، وهذا أصل كبير‏.‏ فإن الشروط هي التي يشترطها أحد المتعاقدين على الآخر مما له فيه حظ ومصلحة، فذلك جائز‏.‏ وهو لازم إذا وافقه الآخر عليه، واعترف به‏.‏
وذلك مثل إذا اشترط المشتري في المبيع وصفاً مقصوداً، كشرط العبد كاتباً، أو يحسن العمل الفلاني، أو الدابة هملاجة أو لبوناً، أو الجارح صيوداً، أو الجارية بكراً أو جميلة أو فيها الوصف الفلاني المقصود‏.‏
ومثل أن يشترط المشتري‏:‏ أن الثمن أو بعضه مؤجل بأجل مسمى، أو يبيع الشيء ويشترط البائع‏:‏ أن ينتفع به مدة معلومة، كما باع جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما للنبي صلى الله عليه وسلم جمله، واشترط ظهره إلى المدينة‏.‏
ومثل أن يشترط سكنى البيت، أو الدكان مدة معلومة، أو يستعمل الإناء مدة معلومة، وما أشبه ذلك‏.‏
وكذلك شروط الرهن والضمان والكفالة هي من الشروط الصحيحة اللازمة‏.‏
ومثل الشروط التي يشترطها المتشاركان في مضاربة، أو شركة عنان، أو وجوه أو أبدان، أو مساقاة، أو مزارعة‏:‏ فكلها صحيحة، إلا شروطاً تحلل الحرام، وعكسه، كالتي تعود إلى الجهالة والغرر‏.‏
ومثل شروط الواقفين والموصين في أوقافهم ووصاياهم من الشروط المقصودة‏:‏ فكلها صحيحة، ما لم تدخل في محرم‏.‏
وكذلك الشروط بين الزوجين، كأن تشترط دارها أو بلدها، أو نفقة معينة أو نحوها‏.‏ فإن أحق الشروط أن يوفى به هذا النوع‏.‏

ميارى 23 - 8 - 2010 04:32 PM

الحديث الأربعون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَطْل الغنيِّ ظلم‏.‏ وإذا أُتْبع أحدكم على مَلِئٍ فليَتْبع‏)‏ متفق عليه‏.‏
تضمن هذا الحديث الأمر بحسن الوفاء، وحسن الاستيفاء والنهي عما يضاد الأمرين أو أحدهما‏.‏
فقوله‏:‏ ‏(‏مطل الغني ظلم‏)‏ أي‏:‏ المعاسرة في أداء الواجب ظلم؛ لأنه ترك لواجب العدل؛ إذ على القادر المبادرة إلى أداء ما عليه، من غير أن يحوج صاحب الحق إلى طلب وإلحاح، أو شكاية‏.‏ فمن فعل ذلك مع قدرته على الوفاء فهو ظالم‏.‏
‏"‏والغني‏)‏ هو الذي عنده موجودات مالية يقدر بها على الوفاء‏.‏
ومفهوم الحديث‏:‏ أن المعسر لا حرج عليه في التأخير‏.‏ وقد أوجب الله على صاحب الحق إنظاره إلى الميسرة‏.‏
ونفهم من هذا الحديث‏:‏ أن الظلم المالي لا يختص بأخذ مال الغير بغير حق، بل يدخل في كل اعتداء على مال الغير، أو عل حقه بأي وجه يكون‏.‏
فمن غصب مال الغير، أو سرقه، أو جحد حقاً عنده للغير، أو بعضه، أو ادعى عليه ما ليس له من أصل الحق أو وصفه، أو ماطله بحقه من وقت إلى آخر، أو أدى إليه أقل مما وجب له في ذمته – وصفاً أو قدراً – فكل هؤلاء ظالمون بحسب أحوالهم‏.‏ والظلم ظلمات يوم القيامة على أهله‏.‏
ثم ذكر في الجملة الأخرى حسن الاستيفاء، وأن من له الحق عليه أن يَتْبَع صاحبه بمعروف وتيسير، لا بإزعاج ولا تعسير، ولا يرهقه من أمره عسراً، ولا يمتنع عليه إذا وجهه إلى جهة ليس عليه فيها مضرة ولا نقص‏.‏ فإذا أحاله بحقه على ملئ – أي‏:‏ قادر على الوفاء غير مماطل ولا ممانع – فليحتل عليه؛ فإن هذا من حسن الاسيتفاء والسماحة‏.‏
ولهذا ذكر الله تعالى الأمرين في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ‏}‏ فأمر صاحب الحق أن يتبع من عليه الحق بالمعروف، والمستحسن عرفاً وعقلاً، وأن يؤدي من عليه الحق بإحسان‏.‏
وقد دعا صلى الله عليه وسلم لمن اتصف بهذا الوصف الجميل، فقال‏:‏ ‏(‏رحم الله عبداً سَمْحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى‏)‏‏.‏
فالسماحة في مباشرة المعاملة، وفي القضاء، والاقتضاء، يرجى لصاحبها كل خير‏:‏ ديني ودنيوي، لدخوله تحت هذه الدعوة المباركة التي لا بد من قبولها‏.‏
وقد شوهد ذلك عياناً‏.‏ فإنك لا تجد تاجراً بهذا الوصف إلا رأيت الله قد صبّ عليه الرزق صباً، وأنزل عليه البركة‏.‏ وعكسه صاحب المعاسرة والتعسير، وإرهاق المعاملين‏.‏ والجزاء من جنس العمل‏.‏ فجزاء التيسير التيسير‏.‏
وإذا كان مطل الغني ظلماً‏:‏ وجب إلزامه بأداء الحق إذا شكاه غريمه‏.‏ فإن أدى وإلا عُزر حتى يؤدي، أو يسمح غريمه‏.‏ ومتى تسبب في تغريم غريمه بسبب شكايته‏:‏ فعليه الغرم لما أخذ من ماله، لأنه هو السبب، وذلك بغير حق‏.‏ وكذلك كل من تسبب لتغريم غيره ظلماً فعليه الضمان‏.‏
وهذا الحديث أصل في باب الحوالة، وأمن حُوِّلَ بحقه على مليء فعليه أن يتحول، وليس له أن يمتنع‏.‏
ومفهومه‏:‏ أنه إذا أحيل على غير مليء فليس عليه التحول، لما فيه من الضرر عليه‏.‏
والحق الذي يتحول به‏:‏ هي الديون الثابتة بالذمم، من قرض أو ثمن مبيع، أو غيرهما‏.‏
وإذا حوله على المليء فاتبعه‏:‏ برئت ذمة المحيل، وتحوَّل حق الغريم إلى من حُوِّلَ عليه‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الحادي والأربعون
عن سمرة بن جُنْدب رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏على اليد ما أخذت، حتى تؤدِّيَه‏)‏ رواه أهل السنن إلا النسائي‏.‏
وهذا شامل لما أخذته من أموال الناس بغير حق كالغضب ونحوه، وما أخذته بحق، كرهن وإجارة‏.‏
أما القسم الأول‏:‏ فهو الغصب‏.‏ وهو أخذ مال الغير بغير حق بغير رضاه‏.‏ وهو من أعظم الظلم والمحرمات؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من غصب قيد شبر من الأرض طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين‏)‏‏.‏
وعلى الغاصب أن يرد ما أخذه، ولو غَرَم على رده أضعاف قيمته، ولو صار عليه ضرر في رده، لأنه هو الذي أدخل الضرر على نفسه‏.‏ فإن نقص ردَّه مع أرش نقصه‏.‏ وعليه أجرته مدة بقائه بيده، وإن تلف ضمنه‏.‏
وأما إذا كانت اليد أخذت مالك الغير برضى صاحبه، بإجارة، أو رهن، أو مضاربة، أو مساقاة، أو مزارعة، أو غيرها‏:‏ فصاحب اليد أمين؛ لأن صاحب العين قد ائتمنه، فإن تلفت وهي بيده، بغير تعدٍّ ولا تفريط‏:‏ فلا ضمان عليه‏.‏ وإن تلفت بتفريط في حفظها أو تعدٍّ عليها‏:‏ ضمنها ومتى انقضى الغرض منها ردها إلى صاحبها‏.‏
ودخل في هذا الحديث ‏(‏على اليد ما أخذت حتى تؤديه‏)‏‏.‏
وكذلك العارية على المستعير أن يردها إلى صاحبها بانقضاء الغرض منها، أو طلب ربها؛ لأن العارية عقد جائز لا لازم‏.‏
فإن تلفت العارية بغير تعد ولا تفريط‏.‏ فمن العلماء من ضَمَّنه، كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد‏.‏ ومنهم من لم يضمنه كسائر الأمناء‏.‏
ومنهم من فصَّل‏:‏ فإن شرط ضَمَانَها ضمِنَها، وإلا فلا‏.‏ وهو أحسن الأقوال الثلاثة‏.‏
ولكن لو وجد المال بيد مجنون، أو سفيه، أو صغير، فأخذه ليحفظه، فتلف بيده بغير تعدّ ولا تفريط‏:‏ فإنه محسن، وما على المحسنين من سبيل‏.‏
ولو أخذ اللقطة التي يجوز التقاطها، فعليه تعريفها عاماً كاملاً‏.‏ فإن لم تعرف‏:‏ فهي لواجدها‏.‏ فإن وجد صاحبها بعد ذلك ووصفها‏:‏ سلمها إليه إن كانت موجودة، وضمنها إن كان قد أتلفها باستعمال أو غيره‏.‏ وإن تلفت في حول التعريف بغير تفريط ولا تعد‏:‏ فلا ضمان على الملتقط؛ لأنه من جملة الأمناء، وهي حينئذ لم تدخل في ملكه‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الثاني والأربعون
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال‏:‏ ‏(‏قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم‏.‏ فإذا وقعت الحدود، وصُرفت الطرق، فلا شفعة‏)‏ رواه البخاري‏.‏
يؤخذ من هذا الحديث‏:‏ أحكام الشفعة كلها، وما فيه شفعة، وما لا شفعة فيه‏.‏
والشفعة إنما هي في الأموال المشتركة‏.‏ وهي قسمان‏:‏ عقار وغيره‏.‏
فأثبت في هذا الحديث الشفعة في العقار‏.‏ ودلّ على أن غير العقار لا شفعة فيه، فالشركة في الحيوانات، والأثاثات، والنقود، وجميع المنقولات لا شفعة فيها، إذا باع أحدهما نصيبه منها‏.‏
وأما العقارات‏:‏ فإذا أفرزت وحددت الحدود، وصرفت الطرق واختار كل من الشريكين نصيبه فلا شفعة فيها، كما هو نص الحديث لأنه يصير حينئذ جاراً، والجار لا شفعة له على جاره‏.‏
وأما إذا لم تحد الحدود ولم تصرف الطرق، ثم باع أحدهم نصيبه‏:‏ فللشريك أو الشركاء الباقين الشفعة، بأن يأخذوه بالثمن الذي وقع عليه العقد، كُلٍّ على قدر ملكه‏.‏
وظاهر الحديث‏:‏ أنه لا فرق بين العقار الذي تمكن قسمته والذي لا تمكن وهذا هو الصحيح؛ لأن الحكمة في الشفعة – وهي إزالة الضرر عن الشريك – موجودة في النوعين‏.‏ والحديث عام‏.‏
وأما ما استدل به على التفريق بين النوعين‏:‏ فضعيف‏.‏
واختلف العلماء في شفعة الجار على جاره، إذا كان بينهما حق من حقوق الملكين، كطريق مشترك، أو بئر أو نحوهما‏.‏
فمنهم‏:‏ من أوجب الشفعة في هذا النوع، وقال‏:‏ إن هذا الاشتراك في هذا الحق نظير الاشتراك في جميع الملك، والضرر في هذا كالضرر هناك‏.‏ وهو الذي تدل عليه الأدلة‏.‏
ومنهم‏:‏ من لم يثبت فيه شفعة، كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد‏.‏
ومنهم‏:‏ من أثبت الشفعة للجار مطلقاً‏.‏ وهذه الصورة عنده من باب أولى، كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة‏.‏
والنبي صلى الله عليه وسلم أثبت للشريك الشفعة‏:‏ إن شاء أخذ، وإن شاء لم يأخذ، وهو من جملة الحقوق، التي لا تسقط إلا بإسقاطها صريحاً، أو بما يدل على الإسقاط‏.‏
وأما اشتراط المبادرة جداً إلى الأخذ بها، من غير أن يكون له فرصة في هذا الحق المتفق عليه‏:‏ فهذا قول لا دليل عليه‏.‏
وما استدلوا به من الحديثين اللذين أوردهما‏:‏ ‏(‏الشفعة كحل العقال‏"‏، ‏(‏الشفعة لمن واثبها‏)‏ فلم يصلح منهما عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء‏.‏
فالصحيح‏:‏ أن هذا الحق كغيره من الحقوق من خيار الشرط، أو العيب أو نحوها الحق ثابت إلا إن أسقطه صاحبه بقول أو فعل والله أعلم‏.‏

ميارى 23 - 8 - 2010 04:33 PM

الحديث الثالث والأربعون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ أنا ثالث الشريكين، ما لم يَخُن أحدهما صاحبه‏.‏ فإن خانه خرجت من بينهما‏)‏ رواه أبو داود‏.‏
يدل هذا الحديث بعمومه على جواز أنواع الشركات كلها‏:‏ شركة العنان، والأبدان، والوجوه، والمضاربة، والمفاوضة وغيرها من أنواع الشركات التي يتفق عليها المتشاركان‏.‏
ومن منع شيئاً منها فعليه الدليل الدال على المنع، وإلا فالأصل الجواز، لهذا الحديث، وشموله‏.‏ ولأن الأصل الجواز في كل المعاملات‏.‏
ويدل الحديث على فضل الشركات وبركتها، إذا بنيت على الصدق والأمانة‏.‏ فإن من كان الله معه بارك له في رزقه، ويسر له الأسباب التي ينال بها الرزق، رزقه من حيث لا يحتسب، وأعانه وسدده‏.‏
وذلك‏:‏ لأن الشركات يحصل فيها التعاون بين الشركاء في رأيهم وفي أعمالهم‏.‏ وقد تكون أعمالاً لا يقدر عليها كل واحد بمفرده، وباجتماع الأعمال والأموال يمكن إدراكها‏.‏
والشركات أيضاً يمكن تفريعها وتوسيعها في المكان والأعمال وغيرها‏.‏
وأيضاً‏:‏ فإن الغالب أنها يحصل بها من الراحة ما لا يحصل بتفرد الإنسان بعلمه‏.‏ وقد يجري ويدير أحدهما العمل مع راحة الآخر، أو ذهابه لبعض مهماته، أو وقت مرضه‏.‏
وهذا كله مع الصدق والأمانة‏.‏ فإذا دخلتها الخيانة ونوى أحدهما أو كلاهما خيانة الآخر، وإخفاء ما يتمكن منه خرج الله من بينهما‏.‏ وذهبت البركة‏.‏ ولم تتيسر الأسباب‏.‏ والتجربة والمشاهدة تشهد لهذا الحديث‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الرابع والأربعون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له‏)‏ رواه مسلم‏.‏
دار الدنيا جعلها الله دار عمل، يتزود منها العباد من الخير، أو الشر، للدار الأخرى، وهي دار الجزاء‏.‏ وسيندم المفرطون إذا انتقلوا من هذه الدار، ولم يتزودوا منها لآخرتهم ما يسعدهم، وحينئذ لا يمكن الاستدراك‏.‏ ولا يتمكن العبد أن يزيد حسناته مثقال ذرة، ولا يمحو من سيئاته كذلك‏.‏ وانقطع عمل العبد عنه إلا هذه الأعمال الثلاثة التي هي من آثار عمله‏.‏
الأول – الصدقة الجارية‏:‏ أي‏:‏ المستمر نفعها‏.‏ وذلك كالوقف للعقارات التي ينتفع بمغلِّها، أو الأواني التي ينتفع باستعمالها، أو الحيوانات التي ينتفع بركوبها ومنافعها، أو الكتب والمصاحف التي ينتفع باستعمالها والانتفاع بها، أو المساجد والمدارس والبيوت وغيرها التي ينتفع بها‏.‏
فكلها أجرها جارٍ على العبد ما دام ينتفع بشيء منها‏.‏ وهذا من أعظم فضائل الوقف‏.‏ وخصوصاً الأوقاف التي فيها الإعانة على الأمور الدينية، كالعلم والجهاد، والتفرغ للعبادة، ونحو ذلك‏.‏
ولهذا اشترط العلماء في الوقف‏:‏ أن يكون مصرفه على جهة بر وقربة‏.‏
الثاني – العلم الذي ينتفع به من بعده‏:‏ كالعلم الذي علمه الطلبة المستعدين للعلم، والعلم الذي نشره بين الناس، والكتب التي صنفها في أصناف العلوم النافعة‏.‏
وهكذا كل ما تسلسل الانتفاع بتعليمه مباشرة، أو كتابة، فإن أجره جار عليه‏.‏ فكم من علماء هداة ماتوا من مئات من السنين، وكتبهم مستعملة، وتلاميذهم قد تسلسل خيرهم‏.‏ وذلك فضل الله‏.‏
الثالث – الولد الصالح‏:‏ ولد صلب، أو ولد ابن، أو بنت، ذكر أو أنثى – ينتفع والده بصلاحه ودعائه‏.‏ فهو في كل وقت يدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة، ورفع الدرجات، وحصول المثوبات‏.‏
وهذه المذكورة في هذا الحديث هي مضمون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ‏}‏ ‏.‏
فما قدموا‏:‏ هو ما باشروه من الأعمال الحسنة أو السيئة‏.‏
وآثارهم ما ترتب على أعمالهم، مما عمله غيرهم، أو انتفع به غيرهم‏.‏
وجميع ما يصل إلى العبد من آثار عمله ثلاثة‏:‏
الأول‏:‏ أمور عمل بها الغير بسببه وبدعايته وتوجيهه‏.‏
الثاني‏:‏ أمور انتفع بها الغير أيّ نفع كان، على حسب ذلك النفع باقتدائه به في الخير‏.‏
الثالث‏:‏ أمور عملها الغير وأهداها إليه، أو صدقة تصدق بها عنه أو دعا له، سواء أكان من أولاده الحسيين أو من أولاده الروحيين الذين تخرجوا بتعليمه، وهدايته وإرشاده، أو من أقاربه وأصحابه المحبين، أو من عموم المسلمين، بحسب مقاماته في الدين، وبحسب ما أوصل إلى العباد من الخير، أو تسبب به‏.‏ وبحسب ما جعل الله له في قلوب العباد من الود الذي لا بد أن تترتب عليه آثاره الكثيرة التي منها‏:‏ دعاؤهم، واستغفارهم له‏.‏
وكلها تدخل في هذا الحديث الشريف‏.‏
وقد يجتمع للعبد في شيء واحد عدة منافع‏.‏ كالولد الصالح العالم الذي سعى أبوه في تعليمه، وكالكتب التي يقفها أو يهبها لمن ينتفع بها‏.‏
ويستدل بهذا الحديث على الترغيب في التزوج الذي من ثمراته حصول الأولاد الصالحين، وغيرها من المصالح، كصلاح الزوجة وتعليمها ما تنتفع به، وتنفع غيرها‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الخامس والأربعون
عن أسمر بن مضرس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له‏)‏ رواه أبو داود‏.‏
يدخل في هذا الحديث‏:‏ السبق إلى جميع المباحات التي ليست ملكاً لأحد، ولا باختصاص أحد‏.‏
فيدخل فيه‏:‏ السبق إلى إحياء الأرض الموات‏.‏ فمن سبق إليها باستخراج ماء، أو إجرائه عليها، أو ببناء‏:‏ مَلَكها‏.‏ ولا يملكها بدون الإحياء‏.‏
لكن لو أقطعه الإمام أو نائبه، أو تحجر مواتاً من دون إحيائه‏:‏ فهو أحق به، ولا يملكه‏.‏ فإن وجد متشوف للإحياء قيل له‏:‏ إما أن تعمرها، وإما أن ترفع يدك عنها‏.‏
ويدخل في ذلك‏:‏
السبق إلى صيد البر، والبحر، وإلى المعادن غير الظاهرة، وغير الجارية‏.‏
والسبق إلى أخذ حطب أو حشيش أو منبوذ رغبة عنه‏.‏
والسبق إلى الجلوس في المساجد والمدارس والأسواق والرُّبُط إن لم يتوقف ذلك على ناظر جعل له الترتيب والتعيين، فيرجع فيه إلى نص الواقفين والموصين‏.‏
فمن سبق إلى شيء من المباحات التي لا مالك لها‏:‏ فهو أحق بها‏.‏ والملك فيها مقصور على القدر المأخوذ‏.‏
وكذلك من سبق إلى الأعمال في الجعالات التي يقول فيها صاحبها‏:‏ من عمل لي هذا العمل فله كذا‏:‏ فهو المستحق للتقديم والجعل‏.‏
وكذلك من سبق إلى التقاط اللقطة واللقيط، وغيرها فكله داخل في هذا الحديث‏.‏ والله أعلم‏.‏

ميارى 23 - 8 - 2010 04:35 PM

الحديث السادس والأربعون
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألحَقوا الفرائض بأهلها‏.‏ فما بقى فهو لأوْلى رجل ذكر‏)‏ متفق عليه‏.‏
الحديث السابع والأربعون
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الله قد أعطى كل ذي حق حقَّه، فلا وصية لوارث‏)‏ رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة‏.‏
هذان الحديثان اشتملا على جلّ أحكام المواريث، وأحكام الوصايا فإن الله تعالى فصَّل أحكام المواريث تفصيلاً تاماً واضحاً، وأعطى كل ذي حق حقه‏.‏ وأمر صلى الله عليه وسلم أن يلحق الفرائض بأهلها، فيقدمون على العصبات‏.‏ فما بقي فهو لأوْلى رجل ذكر‏.‏ وهم العصبة من الفروع الذكور، والأصول الذكور، وفروع الأصول الذكور، والولاء‏.‏
فيقدم من هذه الجهات إذا اجتمع عاصبان فأكثر‏:‏ الأقرب جهة‏.‏ فإن كانوا في جهة واحدة قدم الأقرب منزلة‏.‏ فيقدم الابن على ابن الابن، والعم مثلاً على ابن العم‏.‏ فإن كانوا في منزلة واحدة، وتميز أحدهم بقوة القرابة ولا يتصور ذلك إلا في فروع الأصول، كالإخوة والأعمام مطلقاً وبنيهم‏:‏ قدم الأقوى – وهو الشقيق- على الذي لأب‏.‏
وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأولى رجل ذكر‏)‏ أي‏:‏ أقربهم جهة، أو منزلة، أو قوة، على حسب هذا الترتيب‏.‏
وعلم من هذا‏:‏ أن صاحب الفرض مقدم على العاصب في البداءة، وأنه إن استغرقت الفروض التركة سقط العاصب في جميع مسائل الفرائض، حتى في الحِمَارِيَّة، وهي ما إذا خَلَّفت زوجاً، وأُمَّاً، وإخوة لأم وإخوة أشقاء‏:‏ فللزوج النصف، وللأم السدس؛ وللإخوة لأم الثلث‏.‏
فهؤلاء أهل فروض ألحقنا بهم فروضهم، وسقط الأشقاء؛ لأنهم عصبات‏.‏ وهذا هو الصحيح لأدلة كثيرة‏.‏ هذا أوضحها‏.‏
ويستدل بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألحقوا الفرائض بأهلها‏)‏ على أن الفروض إذا كثرة تزاحمت ولم يحجب بعضها بعضاً، فإنه يعول لهم، وتنقص فروضهم بحسب ما عالت به كالديون إذا أدلت على موجودات الغريم التي لا تكفي لدينهم؛ فإنهم يعطون بقدر ديونهم وهذا من العدل‏.‏
فكل مشتركين في استحقاق شيء لا يمكن أن يكمل لكل واحد منهم، وليس لواحد منهم مزية تقديم‏:‏ فإنهم ينقصون على قدر استحقاقهم، وذلك في الهبات والوصايا والأوقاف وغيرها، كما أن الزائد لهم بقدر أملاكهم واستحقاقهم‏.‏
ويدل الحديث أنه إذا لم يوجد صاحب فرض، فالمال كله للعصبات على حسب الترتيب السابق‏.‏
وكذلك يدلّ على أنه إذا لم يوجد إلا أصحاب الفروض، ولم يوجد عاصب، فإنه يرد عليهم على قدر فروضهم، كما تعالى عليهم؛ لأن من حكمة فرض الفروض وتقديرها‏:‏ أن تبقى البقية للعاصب‏.‏ فإذا لم يوجد رُدَّ على المستحقين لعدم المزاحم‏.‏
ويدل الحديث على صحة الوصية لغير الوارث‏.‏ ولكن في ذلك تفصيل‏:‏ إن كان الموصي غنياً ويدع ورثته أغنياء، استحبت‏.‏ وإن كان فقيراً وورثته يحتاجون جميع ميراثه، لفقرهم أو كثرتهم‏:‏ فالأولى له أن لا يوصى، بل يدع ماله لورثته‏.‏
وأما الوصية للوارث‏:‏ فالحديث دلّ على منعها‏.‏ وعلل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث‏)‏‏.‏
فمن أوصى لوارث فقد تعدى حدود الله، وفضل بعض الورثة على بعض‏.‏ وسواء وقع ذلك على وجه الوصية أو الهبة للوارث، كما هو اتفاق العلماء، أو على وجه الوقف لثلثه على بعض ورثته‏.‏
وشذ بعضهم في هذه المسألة، فأجازها‏.‏ وهو منافٍ للفظ الحديث ومعناه‏.‏
وأما الوصية للأجنبي، أو للجهات الدينية، فتجوز بالثلث فأقل‏.‏ وما زاد على الثلث‏:‏ يتوقف على إجازة الورثة‏.‏


الحديث الثامن والأربعون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاثةٌ حقٌّ على الله عَوْنُهم‏:‏ المُكاتب يريد الأداء، والمتزوج يريد العَفاف، والمجاهد في سبيل الله‏)‏ رواه أهل السنن إلا النسائي‏.‏
وذلك‏:‏ أن الله تعالى وعد المنفقين بالخلف العاجل، وأطلق النفقة‏.‏ وهي تنصرف إلى النفقات التي يحبها الله؛ لأن وعده بالخلف من باب الثواب الذي لا يكون إلا على ما يحبه الله‏.‏
وأما النفقات في الأمور التي لا يحبها الله‏:‏ إما في المعاصي، وإما في الإسراف في المباحات‏:‏ فالله لم يضمن الخلف لأهلها، بل لا تكون إلا مغرماً‏.‏
وهذه الثلاثة المذكورة في هذا الحديث من أفضل الأمور التي يحبها الله‏.‏
فالجهاد في سبيل الله هو سنام الدين وذروته وأعلاه‏.‏ وسواء كان جهاداً بالسلاح، أو جهاداً بالعلم والحجة‏.‏ فالنفقة في هذا السبيل مخلوفة وسالكُ هذا السبيل معانٌ من الله، مُيَسَّرٌ له أمرُه‏.‏
وأما المكاتب‏:‏ فالكتابة قد أمر الله بها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا‏}‏ أي‏:‏ صلاحاً في تقويم دينهم ودنياهم‏.‏ فالسيد مأمور بذلك‏.‏ والعبد المكاتب الذي يريد الأداء، ويتعجل الحرية والتفرغ لدينه ودنياه يعينه الله، وييسر له أموره، ويرزقه من حيث لا يحتسب‏.‏
وعلى السيد‏:‏ أن يرفق بمكاتبه في تقدير الآجال التي تحل فيها نُجُوم الكتابة، ويعطيه من مال الكتابة إذا أدَّاها ربعها‏.‏
وفي قوله تعالى في حق المكاتبين ‏{‏وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ‏}‏ أمر للسيد ولغيره من المسلمين‏.‏ ولذلك جعل الله له نصيباً من الزكاة في قوله‏:‏ ‏{‏وَفِي الرِّقَابِ‏}‏ وهذا من عونه تعالى‏.‏
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أعمّ من هذا، فقال‏:‏ ‏(‏من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّاها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله‏)‏ رواه البخاري‏.‏
وأما النكاح‏:‏ فقد أمر الله به ورسوله‏.‏ ورتب عليه من الفوائد شيئاً كثيراً‏:‏ عون الله، وامتثال أمر الله ورسوله، وأنه من سنن المرسلين‏.‏
وفيه‏:‏ تحصين الفرج، وغض البصر، وتحصيل النسل، والإنفاق على الزوجة والأولاد؛ فإن العبد إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له أجراً، وحسنات عند الله، سواء كانت مأكولاً أو مشروباً أو ملبوساً أو مستعملاً في الحوائج كلها‏.‏ كله خير للعبد، وحسنات جارية‏.‏ وهو أفضل من نوافل العبادات القاصرة‏.‏
وفيه‏:‏ التذكر لنعم الله على العبد، والتفرغ لعبادته، وتعاون الزوجين على مصالح دينهما ودنياهما، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء‏}‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تنكح المرأة لأربع‏:‏ لمالها، وجمالها، وحسبها، ودينها‏:‏ فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يمينك‏)‏ لما فيها من صلاح الأحوال والبيت والأولاد، وسكون قلب الزوج وطمأنينته، فإن حصل مع الدين غيره فذاك، وإلا فالدين أعظم الصفات المقصودة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ‏}‏ ‏.‏
وعلى الزوجة‏:‏ القيام بحق الله، وحق بَعْلها، وتقديم حق البعل على حقوق الخلق كلهم‏.‏
وعلى الزوج‏:‏ السعي في إصلاح زوجته، وفعل جميع الأسباب التي تتم بها الملاءمة بينهما، فإن الملاءمة هي المقصود الأعظم‏.‏ ولهذا ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النظر إلى المرأة التي يريد خطبتها؛ ليكون على بصيرة من أمره والله أعلم‏.‏
الحديث التاسع والأربعون
عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يحرُم من الرَّضاعة ما يحرم من الولادة‏)‏ متفق عليه‏.‏
وذلك‏:‏ أن المحرمات من النسب بنص القرآن والإجماع‏:‏ الأمهات وإن عَلْون من كل جهة، والنبات وإن نزلن من كل جهة، والأخوات مطلقاً، وبنات الأخوة، وبنات الأخوات وإن نزلن، والعمات، والخالات‏.‏
فجميع القرابات حرام، إلا بنات الأعمام، وبنات العمات، وبنات الأخوال، وبنات الخالات‏.‏
وهذه السبع محرمات في الرضاع من جهة المرضعة، وصاحب اللبن، إذا كان الرضاع خمس رضعات فأكثر، في الحولين‏.‏
وأما من جهة أقارب الراضع‏:‏ فإن التحريم يختص بذرية الراضع‏.‏ وأما أبوه من النسب وأمه وأصولهم وفروعهم، فلا تعلق لهم بالتحريم‏.‏
وكذلك يحرم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، أو خالتها في النسب‏.‏ ومثل ذلك في الرضاع‏.‏
وكذلك تحرم أمهات الزوجة، وإن علون، وبناتها، وإن نزلن، إذا كان قد دخل بزوجته، وزوجات الآباء، وإن علوا، وزوجات الأبناء وإن نزلوا من كل جهة، ومثل ذلك في الرضاع‏.‏
ومسائل تحريم الجمع والصهر في الرضاع فيه خلاف‏.‏ ولكن مذهب جمهور العلماء والأئمة الأربعة، تحريم ذلك للعمومات‏.‏
الحديث الخمسون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَفْرِك مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كره منها خُلقاً رضي منها آخر‏)‏ رواه مسلم‏.‏
هذا الإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم ، للزوج في معاشرة زوجته من أكبر الأسباب والدواعي إلى حسن العشرة بالمعروف، فنهى المؤمن عن سوء عشرته لزوجته‏.‏ والنهي عن الشيء أمر بضده‏.‏ وأمره أن يلحظ ما فيها من الأخلاق الجميلة، والأمور التي تناسبه، وأن يجعلها في مقابلة ما كره من أخلاقها؛ فإن الزوج إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الجميلة، والمحاسن التي يحبها، ونظر إلى السبب الذي دعاه إلى التضجر منها وسوء عشرتها، رآه شيئاً واحداً أو اثنين مثلاً، وما فيها مما يحب أكثر‏.‏ فإذا كان منصفاً غض عن مساوئها لاضمحلالها في محاسنها‏.‏
وبهذا‏:‏ تدوم الصحبة، وتؤدّى الحقوق الواجبة والمستحبة وربما أن ما كره منها تسعى بتعديله أو تبديله‏.‏
وأما من غض عن المحاسن، ولحظ المساوئ ولو كانت قليلة‏.‏ فهذا من عدم الإنصاف‏.‏ ولا يكاد يصفو مع زوجته‏.‏
والناس في هذا ثلاثة أقسام‏:‏
أعلاهم‏:‏ من لحظ الأخلاق الجميلة والمحاسن، وغض عن المساوئ بالكلية وتناساها‏.‏
وأقلهم توفيقاً وإيماناً وأخلاقاً جميلة‏:‏ من عكس القضية، فأهدر المحاسن مهما كانت، وجعل المساوئ نصب عينيه‏.‏ وربما مددها وبسطها وفسرها بظنون وتأويلات تجعل القليل كثيراً، كما هو الواقع‏.‏
والقسم الثالث‏:‏ من لحظ الأمرين، ووازن بينهما، وعامل الزوجة بمقتضى كل واحد منها‏.‏ وهذا منصف‏.‏ ولكنه قد حرم الكمال‏.‏
وهذا الأدب الذي أرشد إليه صلى الله عليه وسلم ، ينبغي سلوكه واستعماله مع جميع المعاشرين والمعاملين؛ فإن نفعه الديني والدنيوي كثير وصاحبه قد سعى في راحة قلبه‏.‏ وفي السبب الذي يدرك به القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة؛ لأن الكمال في الناس متعذر‏.‏ وحسب الفاضل أن تعدَّ معايبه‏.‏ وتوطين النفس على ما يجيء من المعاشرين مما يخالف رغبة الإنسان يسهل عليه حسن الخلق، وفعل المعروف والإحسان مع الناس‏.‏ والله الموفق‏.‏

ميارى 23 - 8 - 2010 04:36 PM

الحديث الحادي والخمسون
عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكِّلت إليها، وإن أوتيتها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها‏.‏ وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فائْتِ الذي هو خير، وكفِّر عن يمينك‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذا الحديث احتوى على جملتين عظيمتين‏:‏
إحداهما‏:‏ أن الإمارة وغيرها من الولايات على الخلق، لا ينبغي للعبد أن يسألها، ويتعرض لها‏.‏ بل يسأل الله العافية والسلامة، فإنه لا يدري، هل تكون الولاية خيراً له أو شراً‏؟‏ ولا يدري، هل يستطيع القيام بها، أم لا‏؟‏
فإذا سألها وحرص عليها، وُكِّلَ إلى نفسه‏.‏ ومتى وُكِّلَ العبد إلى نفسه لم يوفق، ولم يسدد في أموره، ولم يُعَن عليها؛ لأن سؤالها ينبئ عن محذورين‏:‏
الأول‏:‏ الحرص على الدنيا والرئاسة، والحرص يحمل على الريبة في التخوض في مال الله، والعلو على عباد الله‏.‏
الثاني‏:‏ فيه نوع اتكال على النفس، وانقطاع عن الاستعانة بالله‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏(‏وكلت إليها‏)‏‏.‏
وأما من لم يحرص عليها ولم يتشوف لها، بل أتته من غير مسألة ورأى من نفسه عدم قدرته عليها، فإن الله يعينه عليها، ولا يكله إلى نفسه؛ لأنه لم يتعرض للبلاء، ومن جاءه البلاء بغير اختياره حمل عنه، ووفق للقيام بوظيفته‏.‏ وفي هذه الحال يقوى توكله على الله تعالى، ومتى قام العبد بالسبب متوكلاً على الله نجح‏.‏
وفي قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعنت عليها‏)‏ دليل على أن الإمارة وغيرها من الولايات الدنيوية جامعة للأمرين، للدين، والدنيا؛ فإن المقصود من الولايات كلها‏:‏ إصلاح دين الناس ودنياهم‏.‏
ولهذا‏:‏ يتعلق بها الأمر والنهي، والإلزام بالواجبات، والردع عن المحرمات، والإلزام بأداء الحقوق‏.‏ وكذلك أمور السياسة والجهاد، فهي لمن أخلص فيها لله وقام بالواجب من أفضل العبادات، ولمن لم يكن كذلك من أعظم الأخطار‏.‏
ولهذا كانت من فروض الكفايات؛ لتوقف كثير من الواجبات عليها‏.‏
فإن قيل‏:‏ كيف طلب يوسف صلى الله عليه وسلم وِلايةَ الخزائن المالية في قوله‏:‏ ‏{‏اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ‏}‏ ‏.‏
قيل‏:‏ الجواب عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ‏}‏ فهو إنما طلبها لهذه المصلحة التي لا يقوم بها غيره‏:‏ من الحفظ الكامل، والعلم بجميع الجهات المتعلقة بهذه الخزائن‏.‏ من حسن الاستخراج، وحسن التصريف، وإقامة العدل الكامل‏.‏ فهو لما رأى الملك استخلصه لنفسه وجعله مقدماً عليه، وفي المحل العالي وجب عليه أيضاً النصيحة التامة، للملك والرعية‏.‏ وهي متعينة في ولايته‏.‏
ولهذا‏:‏ لما تولى خزائن الأرض سعى في تقوية الزراعة جداً‏.‏ فلم يبق موضع في الديار المصرية من أقصاها إلى أقصاها يصلح للزراعة إلا زرع في مدة سبع سنين‏.‏ ثم حصنه وحفظه ذلك الحفظ العجيب‏.‏ ثم لما جاءت السنون الجدب، واضطر الناس إلى الأرزاق سعى في الكيل للناس بالعدل، فمنع التجار من شراء الطعام خوف التضييق على المحتاجين، وحصل بذلك من المصالح والمنافع شيء لا يعد ولا يحصى، كما هو معروف‏.‏
الجملة الثانية‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك‏)‏‏.‏
يشمل من حلف على ترك واجب، أو ترك مسنون؛ فإنه يكفر عن يمينه، ويفعل ذلك الواجب والمسنون الذي حلف على تركه‏.‏ ويشمل من حلف على فعل محرم، أو فعل مكروه فإنه يؤمر بترك ذلك المحرم والمكروه، ويكفر عن يمينه‏.‏
فالأقسام الأربعة داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فائت الذي هو خير‏)‏ لأن فعل المأمور مطلقاً، وترك المنهي مطلقاً‏:‏ من الخير‏.‏
وهذا هو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ لا تجعلوا اليمين عذراً لكم وعرضة ومانعاً لكم من فعل البر والتقوى، والصلح بين الناس إذا حلفتم على ترك هذه الأمور، بل كفروا أيمانكم، وافعلوا البر والتقوى، والصلح بين الناس‏.‏
ويؤخذ من هذا الحديث‏:‏ أن حفظ اليمين في غير هذه الأمور أولى، لكن إن كانت اليمين على فعل مأمور، أو ترك منهي، لم يكن له أن يحنث‏.‏ وإن كانت في المباح، خيّر بين الأمرين‏.‏ وحفظها أولى‏.‏
واعلم أن الكفَّارة لا تجب إلا في اليمين المنعقدة على مستقبل إذا حلف وحنث‏.‏ وهي على التخيير بين العتق، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم‏.‏ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام‏.‏
وأما اليمين على الأمور الماضية أو لغو اليمين، كقول الإنسان‏:‏ لا والله، وبلى والله في عرض حديثه‏:‏ فلا كفارة فيها‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الثاني والخمسون
عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه‏.‏ ومن نذر أن يعص الله فلا يعصه‏)‏‏.‏ رواه البخاري‏.‏
النذر إلزام العبد نفسه طاعة لله‏:‏ إما بدون سبب، كقوله، لله عليّ أو نذرت عتق رقبة، أو صيام كذا وكذا، أو الصدقة بكذا وكذا‏.‏ وإما بسبب، كأن يعلق ذلك على قدوم غائبه، أو بُرْء مريض، أو حصول محبوب، أو زوال مكروه، فمتى تمّ له مطلوبه وجب عليه الوفاء‏.‏
وهذا الحديث شامل للطاعات كلها‏.‏ فمن نذر طاعة واجبة ومستحبة وجب عليه الوفاء بالنذر، وليس عنه كفارة‏.‏ بل يتعين الوفاء، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث‏.‏ وكما أثنى الله على الموفين بنذرهم في قوله‏:‏ ‏{‏يُوفُونَ بِالنَّذْرِ‏}‏ مع أن عقد النذر مكروه، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن النذر‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل‏)‏‏.‏
وأما نذر المعصية، فيتعين على العبد أن يترك معصية الله ولو نذرها‏.‏
وبقية أقسام النذر، كنذر المعصية، والنذر المباح، ونذر اللجاج، والغضب، حكمها حكم اليمين في الحنث، فيها كفارة يمين لمشاركتها في المعنى لليمين‏.‏ والله أعلم‏.‏


الحديث الثالث والخمسون
عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم‏.‏ ويرد عليهم أقصاهم‏.‏ وهم يَدٌ على من سواهم‏.‏ ألا، لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عَهْد في عهده‏)‏ رواه أبو داود والنسائي‏.‏ ورواه ابن ماجه عن ابن عباس‏.‏
هذا الحديث كالتفصيل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وكونواعباد الله إخوانا‏)‏‏.‏
فعلى المؤمنين‏:‏ أن يكونوا متحابين، متصافين غير متباغضين ولا متعادين‏.‏ يسعون جميعاً لمصالحهم الكلية التي بها قوام دينهم ودنياهم، لا يتكبر شريف على وضيع، ولا يحتقر أحد منهم أحداً‏.‏ فدماؤهم تتكافأ؛ فإنه لا يشترط في القصاص إلا المكافأة في الدين‏.‏ فلا يقتل المسلم بالكافر، كما في هذا الحديث، والمكافأة في الحرية، فلا يقتل الحرب بالعبد‏.‏
وأما بقية الأوصاف، فالمسلمون كلهم على حد سواء‏.‏ فمن قتل أو قطع طرفاً متعمداً عدواناً، فلهم أن يقتصوا منه بشرط المماثلة في العضو، لا فرق بين الصغير بالكبير، وبالعكس، والذكر والأنثى وبالعكس، والعالم بالجاهل، والشريف بالوضيع، والكامل بالناقص كالعكس في هذه الأمور‏.‏
قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويسعى بذمتهم أدناهم‏)‏ يعني‏:‏ أن ذمة المسلمين واحدة‏.‏ فمتى استجار الكافر بأحد من المسلمين وجب على بقيتهم تأمينه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏ فلا فرق في هذا بين إجارة الشريف الرئيس، وبين آحاد الناس‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويرد عليهم أقصاهم‏)‏ أي‏:‏ في التأمين‏.‏ وكذلك اشتراك الجيوش مع سراياه التي تذهب فتُغِير أو تحرس، فمتى غنم الجيش، أو غنم أحد السرايا التابعة للجيش، اشترك الجميع في المغنم‏.‏ ولا يختص بها المباشر؛ لأنهم كلهم متعاونون على مهمتهم‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وهم يَدٌ على من سواهم‏)‏ أي‏:‏ يجب على جميع المسلمين في جميع أنحاء الأرض أن يكونوا يداً على أعدائهم من الكفار، بالقول والفعل، والمساعدات والمعاونة في الأمور الحربية، والأمور الاقتصادية، والمدافعة بكل وسيلة‏.‏
فعلى المسلمين‏:‏ أن يقوموا بهذه الواجبات بحسب استطاعتهم؛ لينصرهم الله ويعزهم، ويدفع عنهم بالقيام بواجبات الإيمان عدوان الأعداء‏.‏ فنسأله تعالى أن يوفقهم لذلك‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولا ذو عهد في عهده‏)‏ أي‏:‏ لا يحل قتل من له عهد من الكفار بذمة أو أمان أو هدنة؛ فإنه لما قال‏:‏ ‏(‏لا يقتل مسلم بكافر‏)‏ احترز بذلك البيان عن تحريم قتل المعاهد؛ لئلا يظن الظان جوازه‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الرابع والخمسون
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من تطبَّب ولم يُعلم منه طِبٌّ، فهو ضامن‏)‏ رواه أبو داود والنسائي‏.‏
هذا الحديث يدلّ بلفظه وفحواه على‏:‏ أنه لا يحل لأحد أن يتعاطى صناعة من الصناعات وهو لا يحسنها، سواء كان طباً أو غيره، وأن من تجرأ على ذلك‏:‏ فهو آثم‏.‏ وما ترتب على عمله من تلف نفس أو عضو أو نحوهما‏:‏ فهو ضامن له‏.‏ وما أخذه من المال في مقابلة تلك الصناعة التي لا يحسنها‏:‏ فهو مردود على باذله؛ لأنه لم يبذله إلا بتغريره وإيهامه أنه يحسن، وهو لا يحسن، فيدخل في الغش‏.‏ و ‏(‏من غشنا فليس منا‏)‏‏.‏
ومثل هذا البنَّاء والنجار والحداد والخراز والنساج ونحوهم ممن نصَب نفسه لذلك، موهماً أنه يحسن الصنعة، وهو كاذب‏.‏
ومفهوم الحديث‏:‏ أن الطبيب الحاذق ونحوه إذا باشر ولم تجن يده وترتب على ذلك تلف، فليس بضامن؛ لأنه مأذون فيه، من المكلف أو وليه‏.‏ فكل ما ترتب على المأذون فيه فهو غير مضمون، وما ترتب على غير ذلك المأذون فيه، فإنه مضمون‏.‏
ويستدل بهذا على‏:‏ أن صناعة الطب من العلوم النافعة المطلوبة شرعاً وعقلاً‏.‏ والله أعلم‏.‏

ميارى 23 - 8 - 2010 04:37 PM

الحديث الخامس والخمسون
عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ادْرَءُوا الحُدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج، فخلوا سبيله‏.‏ فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة‏)‏ رواه الترمذي مرفوعاً وموقوفاً‏.‏
هذا الحديث‏:‏ يدلّ على أن الحدود تدرأ بالشبهات‏.‏ فإذا اشتبه أمر الإنسان وأشكل علينا حاله، ووقعت الاحتمالات‏:‏ هل فعل موجب الحد أم لا‏؟‏ وهل هو عالم أو جاهل‏؟‏ وهل هو متأول معتقد حلّه أم لا‏؟‏ وهل له عذر عقد أو اعتقاد‏؟‏‏:‏ درأت عنه العقوبة؛ لأننا لم نتحقق موجبها يقيناً‏.‏
ولو تردد الأمر بين الأمرين، فالخطأ في درء العقوبة عن فاعل سببها، أهون من الخطأ في إيقاع العقوبة على من لم يفعل سببها، فإن رحمة الله سبقت غضبه، وشريعته مبنية على اليسر والسهولة‏.‏
والأصل في دماء المعصومين وأبدانهم وأموالهم التحريم، حتى نتحقق ما يبيح لنا شيء من هذا‏.‏
وقد ذكر العلماء على هذا الأصل في أبواب الحدود أمثلة كثيرة، وأكثرها موافق لهذا الحديث‏.‏
ومنها‏:‏ أمثلة فيها نظر‏.‏ فإن الاحتمال الذي يشبه الوهم والخيال، لا عبرة به‏.‏ والميزان لفظ هذا الحديث‏.‏ فإن وجدتم له، أو فإن كان له مخرج، فخلو سبيله‏.‏
وفي هذا الحديث‏:‏ دليل على أصل‏.‏ وهو‏:‏ أنه إذا تعارض مفسدتان تحقيقاً أو احتمالاً‏:‏ راعينا المفسدة الكبرى، فدفعناها تخفيفاً للشر‏.‏ والله أعلم‏.‏


الحديث السادس والخمسون
عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا طاعة في معصية‏.‏ إنما الطاعة في المعروف‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذا الحديث‏:‏ قيد في كل من تجب طاعته من الولاة، والوالدين، والزوج، وغيرهم‏.‏ فإن الشارع أمر بطاعة هؤلاء‏.‏
وكل منهم طاعته فيما يناسب حاله وكلها بالمعروف‏.‏ فإن الشارع ردّ الناس في كثير مما أمرهم به إلى العرف والعادة، كالبر والصلة، والعدل والإحسان العام‏.‏ فكذلك طاعة من تجب طاعته‏.‏
وكلها تقيد بهذا القيد، وأن من أمر منهم بمعصية الله بفعل محرم، أو ترك واجب‏:‏ فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، فإذا أمر أحدهم بقتل معصوم أو ضربه، أو أخذ ماله، أو بترك حج واجب، أو عبادة واجبة، أو بقطيعة من تجب صلته‏:‏ فلا طاعة لهم، وتقدم طاعة الله على طاعة الخلق‏.‏
ويفهم من هذا الحديث، أنه إذا تعارضت طاعة هؤلاء الواجبة، ونافلة من النوافل، فإن طاعتهم تقدم؛ لأن ترك النفل ليس بمعصية، فإذا نهى زوجته عن صيام النفل، أو حج النفل، أو أمر الوالي بأمر من أمور السياسة يستلزم ترك مستحب، وجب تقديم الواجب‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الطاعة في المعروف‏)‏ كما أنه يتناول ما ذكرنا، فإنه يتناول أيضاً تعليق ذلك بالقدرة والاستطاعة، كما تعلق الواجبات بأصل الشرع‏.‏
وفي الحديث ‏(‏عليكم السمع والطاعة فيما استطعتم‏)‏ والله أعلم‏.‏


الحديث السابع والخمسون
عن عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا حكم الحاكم، فاجتهد وأصاب، فله أجران‏.‏ وإذا حكم، فاجتهد فأخطأ، فله أجر واحد‏)‏ متفق عليه‏.‏
المراد بالحاكم‏:‏ هو الذي عنده من العلم ما يؤهله للقضاء‏.‏ وقد ذكر أهل العلم شروط القاضي‏.‏ فبعضهم بالغ فيها، وبعضهم اقتصر على العلم الذي يصلح به للفتى‏.‏ وهو الأولى‏.‏
ففي هذا الحديث‏:‏ أن الجاهل لو حكم وأصاب الحكم‏:‏ فإنه ظالم آثم؛ لأنه لا يحل له الإقدام على الحكم، وهو جاهل‏.‏
ودلّ على‏:‏ أنه لا بد للحاكم من الاجتهاد‏.‏ وهو نوعان‏:‏
اجتهاد في إدخال القضية التي وقع فيها التحاكم بالأحكام الشرعية‏.‏
واجتهاد في تنفيذ ذلك الحق على القريب والصديق وضدهما، بحيث يكون الناس عنده في هذا الباب واحداً، لا يفضل أحداً على أحد، ولا يميله الهوى، فمتى كان كذلك فهو مأجور على كل حال‏:‏ إن أصاب فله أجران‏.‏ وإن أخطأ فله أجر واحد، وخطؤه معفو عنه، لأنه بغير استطاعته‏.‏ والعدل كغيره معلق بالاستطاعة‏.‏
والفرق بين الحاكم المجتهد، وبين صاحب الهوى‏:‏ أن صاحب الحق قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد‏.‏ وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده عليه دليله، بخلاف صاحب الهوى، فإنه يتكلم بغير علم، وبغير قصد للحق‏.‏ قاله شيخ الإسلام‏.‏
وفي هذا‏:‏ فضيلة الحاكم الذي على هذا الوصف، وأنه يغنم الأجر والثواب في كل قضية يحكم بها‏.‏
ولهذا‏:‏ كان القضاء من أعظم فروض الكفايات؛ لأن الحقوق بين الخلق كلها مضطرة للقاضي عند التنازع أو الاشتباه‏.‏
وعليه‏:‏ أنه يجاهد نفسه على تحقيق هذا الاجتهاد الذي تبرأ به ذمته، وينال به الخير، والأجر العظيم‏.‏ والله أعلم‏.‏


الحديث الثامن والخمسون
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو يُعطى الناسُ بدَعْواهم لادَّعى رجالٌ دماءَ قوم وأموالهم‏.‏ ولكن اليمين على المدعى عليه‏)‏ رواه مسلم‏.‏
وفي لفظ عند البيهقي‏:‏ ‏(‏البينة على المدعي، واليمين على من أنكر‏)‏‏.‏
هذا الحديث عظيم القدر‏.‏ وهو أصل كبير من أصول القضايا والأحكام؛ فإن القضاء بين الناس إنما يكون عند التنازع‏:‏ هذا يدّعي على هذا حقاً من الحقوق، فينكره، وهذا يدعي براءته من الحق الذي كان ثابتاً عليه‏.‏
فبين صلى الله عليه وسلم أصلاً يفض نزاعهم، ويتضح به المحق من المبطل‏.‏
فمن ادعى عيناً من الأعيان، أو ديناً، أو حقاً من الحقوق وتوابعها على غيره، وأنكره ذلك الغير‏:‏ فالأصل مع المنكر‏.‏
فهذا المدعي إن أتى ببينة تثبت ذلك الحق‏:‏ ثبت له، وحُكم له به وإن لم يأت ببينة‏:‏ فليس له على الآخر إلا اليمين‏.‏
وكذلك من ادعى براءته من الحق الذي عليه، وأنكر صاحب الحق ذلك، وقال‏:‏ إنه باق في ذمته، فإن لم يأت مدعي الوفاء والبراءة ببينة، وإلا حكم ببقاء الحق في ذمته؛ لأنه الأصل‏.‏ ولكن على صاحب الحق اليمين ببقائه‏.‏
وكذلك دعوى العيوب، والشروط، والآجال، والوثائق‏:‏ كلها من هذا الباب‏.‏
فعلم أن هذا الحديث تضطر إليه القضاة في مسائل القضاء كلها؛ لأن البينة اسم للمبين الحق‏.‏ وهي تتفاوت بتفاوت الحقوق‏.‏ وقد فصلها أهل العلم رحمهم الله‏.‏
وقد بين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحكم، وبين الحكمة في هذه الشريعة الكلية، وأنها عين صلاح العباد في دينهم ودنياهم، وأنه لو يعطى الناس بدعواهم لكثر الشر والفساد، ولادّعى رجال دماء قوم وأموالهم‏.‏
فعلم أن شريعة الإسلام بها صلاح البشر‏.‏ وإذا أردت أن تعرف ذلك، فقابل بين كل شريعة من شرائعه الكلية وبين ضدها، تجد الفرق العظيم، وتشهد أن الذي شرعها حكيم عليم، رحيم بالعباد؛ لاشتمالها على الحكمة والعدل، والرحمة، ونصر المظلوم، وردع الظالم‏.‏
وقد قال بعض المحققين‏:‏ إن الشريعة جعلت اليمين في أقوى جنبتي المدعين‏.‏ ومن تتبع ذلك عرفه‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث التاسع والخمسون
عن عائشة رضي الله عنها – مرفوعاً – ‏(‏لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا مجلود حدّاً، ولا ذي غمر على أخيه، ولا ظنين في ولاء ولا قرابة، ولا القانع من أهل البيت‏)‏ رواه الترمذي‏.‏
هذا حديث مشتمل على الأمور القادحة في الشهادة‏.‏
وذلك‏:‏ أن الله أمر بإشهاد العدول المرضيين‏.‏
وأهل العلم اشترطوا في الشاهد في الحقوق بين الناس‏:‏ أن يكون عدلاً ظاهراً‏.‏ وذكروا صفات العدالة‏.‏
وحَدَّها بعضهم بحد مأخوذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء‏}‏ فقال‏:‏ كل مرضى عند الناس يطمئنون لقوله وشهادته‏.‏ فهو مقبول‏.‏ وهذا أحسن الحدود‏.‏ ولا يسع الناس العمل بغيره‏.‏
والأشياء التي تقدح في الشهادة ترجع إلى التهمة أو إلى مظنتها‏.‏
فمن الناس من لا تقبل شهادته مطلقاً على جميع الأمور التي تعتبر فيها الشهادة، كالخائن والخائنة، والذي أتى حداً – أي‏:‏ معصية كبيرة لم يتب منها – فإنه لخيانته وفسقه مفقود العدالة، فلا تقبل شهادته‏.‏
ومن الناس نم هو موصوف بالعدالة، لكن فيه وصف يخشى أن يميل معه، فيشهد بخلاف الحق وذلك كالأصول والفروع، والمولى والقانع لأهل البيت‏.‏ فهؤلاء لا تقبل شهادتهم للمذكورين؛ لأنه محل التهمة‏.‏ وتقبل عليهم‏.‏
ومثل ذلك الزوجان، والسيد مع مكاتبه أو عتيقه‏.‏
ومن الناس من هو بعكس هؤلاء، كالعَدُوّ الذي في قلبه غمر – أي‏:‏ غِلٌّ – على أخيه فهذا إن شهد له، قبلت شهادته‏.‏ وإن شهد على عدوه‏:‏ لم تقبل؛ لأن العداوة تحمل غالباً على الإضرار بالعدو والله أعلم‏.‏

ميارى 23 - 8 - 2010 04:38 PM

الحديث الستون
عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال ‏(‏قلت يا رسول الله، إنَّا لاَقُوا العدوَّ غدا، وليس معنا مُدَى‏.‏ أفنذبح بالقصب‏؟‏ قال‏:‏ ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكُلْ، ليس السنَّ والظَّفْرَ، وسأحدثك عنه أما السنُّ فعظمٌ‏.‏ وأما الظفر فمدَى الحبشة‏.‏ وأصبنا نهب إبل وغنم فنَدَّ منها بعير، فرماه رجل بسهم فحبسه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن لهذه أوَابِدَ كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا‏)‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أنهر الدم – إلى آخره‏)‏ كلام جامع يدخل فيه جميع ما يُنْهِر الدم – أي‏:‏ يسفِكه – من حديد، أو نحاس، أو صفر، أو قصب، أو خشب، أو حطب، أو حصى محدد، أو غيرها، وما له نفوذ كالرصاص في البارود؛ لأنه ينهر بنفوذه، لا بثقله‏.‏
ودخل في ذلك‏:‏ ما صيد بالسهام، والكلام المعلمة، والطيور إذا ذكر اسم الله على جميع ذلك‏.‏
وأما محل الذبح‏:‏ فإنه الحلقوم والمريء‏.‏ إذا قطعهما كفى‏.‏ فإن حصل معهما قطع الودَجَين – وهما العرقان المكتنفان الحلقوم – كان أولى‏.‏
وأما الصيد‏:‏ فيكفي جرحه في أي موضع كان من بدنه؛ للحاجة إلى ذلك‏.‏
ومثل ذلك إذا ندَّ البعير أو البقرة أو الشاة وعجز عن إدراكه‏:‏ فإنه يكون بمنزلة الصيد، كما في الحديث‏.‏ ففي أي محل من بدنه جُرح كفى، كما أن الصيد إذا قُدر عليه – وهو حي – فلا بد من ذكاته‏.‏
فالحكم يدور مع علته، المعجوز عنه بمنزلة الصيد، ولو من الحيوانات الإنسية‏.‏ والمقدور عليه لا بد من ذبحه، ولو من الحيوانات الوحشية‏.‏
واستثنى النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك السن، وعلله بأنه عظم‏.‏ فدلّ على أن جميع العظام – وإن أنهرت الدم – لا يحل الذبح بها‏.‏
وقيل‏:‏ إن العلة مجموع الأمرين‏:‏ كونه سنا، وكونه عظما‏.‏ فيختص بالسن‏.‏ والصحيح الأول‏.‏
وكذلك الظفر لا يحل الذبح بها، لا طير ولا غيره‏.‏
فالحاصل‏:‏ أن شروط الذبح‏:‏ إنهار الدم في محل الذبح، مع كون الذابح مسلماً، أو كتابياً، وأن يذكر اسم الله عليها‏.‏
وأما الصيد‏:‏ فهو أوسع من الذبح‏.‏ كما تقدم أنه في أي موضع يكون من بدن الصيد، وأنه يباح صيد الجوارح من الطيور والكلاب إذا كانت مُعَلَّمة، وذُكر اسم الله عليها عند إرسالها على الصيد‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الحادي والستون
عن شدّاد بن أوْس رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله كتب الإحسان على كل شيء‏.‏ فإذا قتلتم فأحْسِنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة‏.‏ وليحدّ أحدكم شفرته ولْيُرِحْ ذبيحته‏)‏ رواه مسلم‏.‏
الإحسان نوعان‏:‏ إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه‏.‏ وهو الجد في القيام بحقوق الله على وجه النصح، والتكميل لها‏.‏ وإحسان في حقوق الخلق‏.‏
وأصل الإحسان الواجب، أن تقوم بحقوقهم الواجبة، كالقيام ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإنصاف في جميع المعاملات، بإعطاء جميع ما عليك من الحقوق، كما أنك تأخذ مالك وافياً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ فأمر بالإحسان إلى جميع هؤلاء‏.‏
ويدخل في ذلك الإحسان إلى جميع نوع الإنسان، والإحسان إلى البهائم، حتى في الحالة التي تزهق فيها نفوسها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة‏)‏‏.‏
فمن استحق القتل لموجب قتل يضرب عنقه بالسيف، من دون تعزير ولا تمثيل‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة‏)‏ أي‏:‏ هيئة الذبح وصفته‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏(‏وليُحِدَّ أحدكم شَفرته‏)‏ أي‏:‏ سكينه‏:‏ ‏(‏وليرح ذبيحته‏)‏ فإذا كان العبد مأموراً بالإحسان إلى من استحق القتل من الآدميين، وبإحسان ذبحة ما يراد ذبحه من الحيوان‏.‏ فكيف بغير هذه الحالة‏؟‏
واعلم أن الإحسان المأمور به نوعان‏:‏
أحدهما‏:‏ واجب، وهو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجه عليك من الحقوق‏.‏
والثاني‏:‏ إحسان مستحب‏.‏ وهو ما زاد على ذلك من بذل نفع بدني، أو مالي، أو علمي، أو توجيه لخير ديني، أو مصلحة دنيوية، فكل معروف صدقة، وكل ما أدخل السرور على الخلق صدقة وإحسان‏.‏ وكل ما أزال عنهم ما يكرهون‏.‏ ودفع عنهم ما لا يرتضون من قليل أو كثير، فهو صدقة وإحسان‏.‏
ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصة البغيّ التي سقت الكلب الشديد العطش بخفيها من البئر، وأن الله شكر لها وغفر لها‏.‏ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن لنا في البهائم أجراً قال‏:‏ في كل كبد حَرَّى أجر‏)‏‏.‏
فالإحسان هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن إليهم، وحقهم ومقامهم، وبحسب الإحسان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحسن وإخلاصه، والسبب الداعي له إلى ذلك‏.‏
ومن أجَلِّ أنواع الإحسان‏:‏ الإحسان إلى من أساء إليك بقول أو فعل‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}
{‏هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ‏}‏ ، ‏{‏لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ ، ‏{‏لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ‏}‏ ، ‏{‏إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ المحسنين في عبادة الله، المحسنين إلى عباد الله‏.‏
والله تعالى يوجب على عباده العدل من الإحسان، ويندبهم إلى زيادة الفضل منه‏.‏ وقال تعالى في المعاملة‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ اجعلوا للفضل والإحسان موضعاً من معاملاتكم‏.‏ ولا تستقصوا في جميع الحقوق، بل يَسِّروا ولا تعسروا، وتسامحوا في البيع والشراء، والقضاء والاقتضاء‏.‏ ومن ألزم نفسه هذا المعروف، نال خيراً كثيراً، وإحساناً كبيراً‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الثاني والستون
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال‏:‏ ‏(‏حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر الحمر الإنسية، ولُحومَ البغال، وكلَّ ذي ناب من السباع، وكلَّ ذي مخلب من الطير‏)‏ رواه الترمذي‏.‏
الأصل في جميع الأطعمة الحلّ؛ فإن الله أحل لعباده ما أخرجته الأرض من حبوب وثمار ونبات متنوع، وأحل لحم حيوانات البحر كلها‏:‏ حيها وميتها‏.‏
وأما حيوانات البر‏:‏ فأباح منها جميع الطيبات، كالأنعام الثمانية وغيرها، والصيود الوحشية من طيور وغيرها‏.‏
وإنما حرم من هذا النوع الخبائث، وجعل لذلك حداً وفاصلاً‏.‏ وربما عين بعض المحرمات، كما عين في هذا الحديث الحمر الأهلية، والبغال وحرمها‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إنها رِجْس‏)‏‏.‏
وأما الحمر الوحشية‏:‏ فإنه حلال، وكذلك حرم ذوات الأنياب من السباع، كالذئب والسد والنمر والثعلب والكلب ونحوها، وكل ذي مخلب من الطير يصيد بمخلبه، كالصقر والباشق ونحوهما‏.‏
وما نهى عن قتله كالصُّرد، أو أمر بقتله كالغراب ونحوها‏:‏ فإنها محرمة‏.‏ وما كان خبيثاً، كالحيات والعقارب والفئران وأنواع الحشرات وكذلك ما مات حتف أنفه من الحيوانات المباحة، أو ذكِّي ذكاة غير شرعية‏:‏ فإنه محرم‏.‏
والله أعلم‏.‏

ميارى 23 - 8 - 2010 04:41 PM

الحديث الثالث والستون
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال‏)‏ رواه البخاري‏.‏
الأصل في جميع الأطعمة الحلّ؛ فإن الله أحل لعباده ما أخرجته الأرض من حبوب وثمار ونبات متنوع، وأحل لحم حيوانات البحر كلها‏:‏ حيها وميتها‏.‏
وأما حيوانات البر‏:‏ فأباح منها جميع الطيبات، كالأنعام الثمانية وغيرها، والصيود الوحشية من طيور وغيرها‏.‏
وإنما حرم من هذا النوع الخبائث، وجعل لذلك حداً وفاصلاً‏.‏ وربما عين بعض المحرمات، كما عين في هذا الحديث الحمر الأهلية، والبغال وحرمها‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إنها رِجْس‏)‏‏.‏
وأما الحمر الوحشية‏:‏ فإنها حلال، وكذلك حرم ذوات الأنياب من السباع، كالذئب والأسد والنمر والثعلب والكلب ونحوها، وكل ذي مخلب من الطير يصيد بمخلبه، كالصقر والباشق ونحوهما‏.‏
وما نهى عن قتله كالصُّرد، أو أمر بقتله كالغراب ونحوها‏:‏ فإنها محرمة‏.‏ وما كان خبيثاً، كالحيات والعقارب والفئران وأنواع الحشرات وكذلك ما مات حتف أنفه من الحيوانات المباحة، أو ذكِّي ذكاة غير شرعية‏:‏ فإنه محرم‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الثالث والستون
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال‏)‏ رواه البخاري‏.‏
الأصل في جميع الأمور العادية الإباحة، فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله، إما لذاته كالمغصوب، وما خبث مكسبه في حق الرجال والنساء‏.‏ وإما لتخصيص الحل بأحد الصنفين، كما أباح الشارع لباس الذهب والفضة والحرير للنساء، وحرمه على الرجال‏.‏
وأما تحريم الشارع تشبُّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، فهو عام في اللباس، والكلام، وجميع الأحوال‏.‏
فالأمور ثلاثة أقسام‏:‏
قسم مشترك بين الرجال والنساء من أصناف اللباس وغيره، فهذا جائز للنوعين؛ لأن الأصل الإباحة‏.‏ ولا تشبه فيه‏.‏
وقسم مختص بالرجال، فلا يحل للنساء‏.‏ وقسم مختص بالنساء، فلا يحل للرجال‏.‏
ومن الحكمة في النهي عن التشبه‏:‏ أن الله تعالى جعل للرجال على النساء درجة، وجعلهم قَوّامين على النساء، وميزهم بأمور قَدَرية، وأمور شرعية فقيام هذا التمييز وثبوت فضيلة الرجال على النساء، مقصود شرعاً وعقلاً‏.‏ فتشبُّه الرجال بالنساء يهبط بهم عن هذه الدرجة الرفيعة‏.‏ وتشبه النساء بالرجال يبطل التمييز‏.‏
وأيضاً، فتشبه الرجال بالنساء بالكلام واللباس ونحو ذلك‏:‏ من أسباب التخنث، وسقوط الأخلاق، ورغبة المتشبه بالنساء في الاختلاط بهن، الذي يخشى منه المحذور‏.‏ وكذلك بالعكس‏.‏
وهذه المعاني الشرعية، وحفظ مراتب الرجال ومراتب النساء، وتنزيل كل منهم منزلته التي أنزله الله بها، مستحسن عقلاً، كما أنه مستحسن شرعاً‏.‏
وإذا أردت أن تعرف ضرر التشبه التام، وعدم اعتبار المنازل، فانظر في هذا العصر إلى الاختلاط الساقط الذي ذهبت معه الغيرة الدينية، والمروءة الإنسانية، والأخلاق الحميدة، وحَلَّ محله ضد ذلك من كل خلق رذيل‏.‏
ويشبه هذا – أو هو أشد منه – تشبه المسلمين بالكفار في أمورهم المختصة بهم‏.‏ فإنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من تشبه بقوم فهو منهم‏)‏ فإن التشبه الظاهر يدعو إلى التشبه الباطن، والوسائُل والذرائع إلى الشرور قصد الشارع حَسْمها من كل وجه‏.‏


الحديث الرابع والستون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أنزل الله دَاءً إلا أنزل له شفاءً‏)‏ رواه البخاري‏.‏
الإنزال هنا بمعنى‏:‏ التقدير‏.‏
ففي هذا الحديث‏:‏ إثبات القضاء والقدر‏.‏ وإثبات الأسباب‏.‏
وقد تقدم أن هذا الأصل العظيم ثابت بالكتاب والسنة‏.‏ ويؤيده العقل والفطرة‏.‏ فالمنافع الدينية والدنيوية والمضار كلها بقضاء الله وتقديره‏.‏ قد أحاط بها علماً‏.‏ وجرى بها قلمه‏.‏ ونفذت بها مشيئته‏.‏ ويَسَّر العبادَ لفعل الأسباب التي توصلهم إلى المنافع والمضار‏.‏ فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خلق له‏:‏ من مصالح الدين والدنيا، ومضارهما‏.‏ والسعيد من يَسَّره الله لأيسر الأمور، وأقربها إلى رضوان الله، وأصلحها لدينه ودنياه‏.‏ والشقي من انعكس عليه الأمر‏.‏
وعموم هذا الحديث يقتضي‏:‏ أن جميع الأمراض الباطنة والظاهرة لها أدوية تقاومها، تدفع ما لم ينزل، وترفع ما نزل بالكلية، أو تخففه‏.‏
وفي هذا‏:‏ الترغيب في تعلم طب الأبدان، كما يتعلم طب القلوب، وأن ذلك من جملة الأسباب النافعة‏.‏ وجميع أصول الطب وتفاصيله، شرح لهذا الحديث‏.‏ لأن الشارع أخبرنا أن جميع الأدواء لها أدوية‏.‏ فينبغي لنا أن نسعى إلى تعلمها، وبعد ذلك إلى العمل بها وتنفيذها‏.‏
وقد كان يظن كثير من الناس أن بعض الأمراض ليس له دواء، كالسل ونحوه‏.‏ وعندما ارتقى علم الطب، ووصل الناس إلى ما وصلوا إليه من علمه، عرف الناس مصداق هذا الحديث، وأنه على عمومه‏.‏
وأصول الطب‏:‏ تدبير الغذاء، بأن لا يأكل حتى تصدق الشهوة وينهضم الطعام السابق انهضاماً تاماً، ويتحرى الأنفع من الأغذية، وذلك بحسب حالة الأقطار والأشخاص والأحوال‏.‏ ولا يمتلئ من الطعام امتلاء يضره مزاولته، والسعي في تهضيمه، بل الميزان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ‏}
ويستعمل الحِمْية عن جميع المؤذيات في مقدارها، أو في ذاتها، أو في وقتها‏.‏ ثم إن أمكن الاستفراغ، وحصل به المقصود، من دون مباشرة الأدوية‏:‏ فهو الأولى والأنفع‏.‏ فإن اضطر إلى الدواء‏:‏ استعمله بمقدار‏.‏ وينبغي أن لا يتولى ذلك إلا عارف وطبيب حاذق‏.‏
واعلم أن طيب الهواء، ونظافة البدن والثياب، والبعد عن الروائح الخبيثة، خير عون على الصحة‏.‏ وكذلك الرياضة المتوسطة‏.‏ فإنها تقوي الأعضاء والأعصاب والأوتار، وتزيل الفضلات، وتهضم الأغذية الثقيلة، وتفاصيل الطب معروفة عند الأطباء‏.‏ ولكن هذه الأصول التي ذكرناها يحتاج إليها كل أحد‏.‏
وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم ‏(‏الشفاء في ثلاث‏:‏ شَرْطة مِحْجَم، أو شربة عسل، أو كَيَّة بنار، وفي الحبة السوداء شفاء من كل داء‏)‏‏.‏ ‏(‏العود الهندي فيه سبعة أشْفِية‏)‏‏.‏ ‏(‏يُسَعَّط من العذرة، ويُلَدُّ من ذات الجنب‏"‏، ‏(‏الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء‏"‏، ‏(‏رخص في الرُّقية من العين والحُمَّة والنملة‏"‏، ‏(‏وإذا استُغسِلتم من العين فاغسلوا‏"‏، ‏(‏ونهى عن الدواء الخبيث‏"‏، ‏(‏وأمر بخضاب الرجلين لوجعهما‏)‏‏.‏
الحديث الخامس والستون
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الرؤيا الصالحة من الله‏.‏ والحُلْم من الشيطان‏.‏ فإذا رأى أحدُكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب‏.‏ وإذا رأى ما يكره فليتعوَّذ بالله من شرها ومن شر الشيطان‏.‏ ولْيَتْفُلْ ثلاثاً، ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره‏)‏ متفق عليه‏.‏
أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث‏:‏ أن الرؤيا الصالحة من الله، أي‏:‏ السالمة من تخليط الشيطان وتشويشه‏.‏ وذلك لأن الإنسان إذا نام خرجت روحه‏.‏ وحصل لها بعض التجرد الذي تتهيأ به لكثير من العلوم والمعارف‏.‏ وتلطفت مع ما يلهمها الله، ويلقيه إليها الملك في منامها‏.‏ فتتنبه وقد تجلت لها أمور كانت قبل ذلك مجهولة، أو ذكرت أموراً قد غفلت عنها، أو تنبهت لأحوال ينفعها معرفتها، أو العمل بها، أو حَذِرَتْ مضار دينية أو دنيوية لم تكن لها على بال، أو اتعظت ورغبت ورهبت عن أعمال قد تلبست بها، أو هي بصدد ذلك، أو انتبهت لبعض الأعيان الجزئية لإدخالها في الأحكام الشرعية‏.‏
فكل هذه الأمور علامة على الرؤيا الصالحة، التي هي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة‏.‏ وما كان من النبوة فهو لا يكذب‏.‏
فانظر إلى رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ كما حصل بها من منافع واندفع من مضار‏.‏
وكذلك قوله تعالى ‏{‏لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا‏}‏ كم حصل بها من زيادة إيمان‏.‏ وتم بها من كمال إيقان‏.‏ وكانت من آيات الله العظيمة‏.‏
وانظر إلى رؤيا ملك مصر، وتأويل يوسف الصديق لها، وكما تولَّى التأويل فقد ولاَّه الله ما احتوت عليه من التدبير‏.‏ فحصل بذلك خيرات كثيرة، ونعم غزيرة، واندفع بها ضرورات وحاجات‏.‏ ورفع الله بها يوسف فوق العباد درجات‏.‏
وتأمل رؤيا عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما الأذان والإقامة، وكيف صارت سبباً لشرع هذه الشعيرة العظيمة التي هي من أعظم الشعائر الدينية‏.‏
ومرائي الأنبياء والأولياء والصالحين – بل وعموم المؤمنين وغيرهم – معروفة مشهورة، لا يحصى ما اشتملت عليه من المنافع المهمة والثمرات الطيبة‏.‏ وهي من جملة نعم الله على عباده، ومن بشارات المؤمنين، وتنبيهات الغافلين، وتذكيره للمعرضين، وإقامة الحجة على المعاندين‏.‏
وأما الحلم الذي هو أضغاث أحلام، فإنما هو من تخليط الشيطان على روح الإنسان، وتشويشه عليها وإفزاعها، وجلب الأمور التي تكسبها الهم والغم، أو توجب لها الفرح والمرح والبطر، أو تزعجها للشر والفساد والحرص الضار‏.‏
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك أن يأخذ العبد في الأسباب التي تدفع شره بأن لا يحدث به أحداً‏.‏ فإن ذلك سبب لبطلانه واضمحلاله، وأن يَتْفُل عن شماله ثلاث مرات‏.‏ وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الذي هو سبب هذا الحلم والدافع له، وليطمئن قلبه عند ذلك أنه لا يضره، مصداقاً لقول رسوله، وثقة بنجاح الأسباب الدافعة له‏.‏
وأما الرؤيا الصالحة، فينبغي أن يحمد الله عليها، ويسأله تحقيقها، ويحدث بها من يحب ويعلم منه المودة، ليُسرّ لسروره، ويدعو له في ذلك‏.‏ ولا يحدث بها من لا يحب، لئلا يشوش عليه بتأويل يوافق هواه، أو يسعى – حسداً منه – في إزالة النعمة عنه‏.‏
ولهذا لما رأى يوسف الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر ساجدين له‏.‏ وحدث بها أباه قال له‏:‏ ‏{‏يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}
ولهذا كان كَتْم النعم عن الأعداء – مع الإمكان – أولى، إلا إذا كان في ذلك مصلحة راجحة‏.‏
واعلم أن الرؤيا الصادقة تارة يراها العبد على صورتها الخارجية، كما في رؤيا الأذان وغيرها، وتارة يضرب له فيها أمثال محسوسة، ليعتبر بها الأمور المعقولة، أو المحسوسة التي تشبهها، كرؤيا ملك مصر ونحوها‏.‏ وهي تختلف باختلاف الرائي والوقت والعادة، وتنوع الأحوال‏.‏


الحديث السادس والستون
عن علي بن الحسين رحمه الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حُسْن إسلام المرء تَرْكُه ما لا يَعنيه‏)‏ رواه مالك وأحمد‏.‏ ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه الترمذي عن علي بن الحسين وعن أبي هريرة‏.‏
الإسلام – عند الإطلاق – يدخل فيه الإيمان، والإحسان‏.‏ وهو شرائع الدين الظاهرة والباطنة‏.‏ والمسلمون منقسمون في الإسلام إلى قسمين، كما دلّ عليه فحوى هذا الحديث‏.‏
فمنهم‏:‏ المحسن في إسلامه‏.‏ ومنهم ‏:‏المسيء‏.‏
فمن قام بالإسلام ظاهراً وباطناً فهو المحسن ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ ‏.‏
فيشتغل هذا المحسن بما يعنيه، مما يجب عليه تركه من المعاصي والسيئات، ومما ينبغي له تركه، المكروهات وفضول المباحات التي لا مصلحة له فيها، بل تفوت عليه الخير‏.‏
فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه‏)‏ يعم ما ذكرنا‏.‏
ومفهوم الحديث‏:‏ أن من لم يترك ما لا يعنيه‏:‏ فإنه مسيء في إسلامه‏.‏ وذلك شامل للأقوال والأفعال، المنهي عنها نهي تحريم أو نهي كراهة‏.‏
فهذا الحديث يُعدّ من الكلمات الجامعة‏.‏ لأنها قسمت هذا التقسيم الحاصر، وبينت الأسباب التي يتم بها حسن الإسلام، وهو الاشتغال بما يعني، وترك ما لا يعني من قول وفعل‏.‏ والأسباب التي يكون بها العبد مسيئاً‏.‏ وهي ضد هذه الحال‏.‏ والله أعلم‏.‏


الساعة الآن 05:24 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى