![]() |
11 ـ السمات العامة لحركات الخوارج في خلافة معاوية رضي الله عنه كالتالي:
أ ـ اتسمت بالعشوائية والارتجال وقلة التنظيم . ب ـ كانت أشبه ما تكون بعمليات انتحار جماعي، لأنهم يخرجون بفئات قليلة لا تلبث أن تستأصل. جـ ـ افتقارهم إلى قيادة واعية ومحنكة تستطيع استثمار شجاعتهم وفروسيتهم لتحقيق أهدافهم . ح ـ تكرارهم لأخطاء بعضهم وعدم استفادة كل حركة من تجربة سابقتها. خ ـ استبعادهم لأسلوب الحوار والمناظرة في عودتهم، ومحاولة فرض فكرهم على المجتمع المسلم بالقوة. س ـ اختلاط الدوافع الدينية التي دعتهم للخروج ـ بزعمهم ـ مع دوافع العصبية الجاهلية في حركاتهم، والمتمثلة بخروج بعضهم ثأراً لمن قتل من أصحابهم. ع ـ شعورهم بالغربة داخل المجتمع المسلم، ونفورهم منه، واقتناعهم أن قتال أهل القبلة أولى من جهاد الكفار. ل ـ عدم بحثهم عن أرض جديدة لنشر دعوتهم، واقتصارهم على بعض مدن العراق، وخاصة الكوفة والبصرة. ك ـ سلوكهم طريقة منكرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي طريقة الاستعراض، ومرد ذلك إلى الجهل بالدين وقلة العلم، لأن كثرة العبادة ليست دليلاً على فقه الرجل، وإلا لكان الخوارج أفقه أهل زمانهم[1]، ولكنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، بمروق من الدين كما يمرق السهم من الرمية[2] و ـ وافتقارهم لطول النفس والصبر في مشروعهم التغييري. 12 ـ شفاعة أبي بكرة الثقفي لبعض الخوارج عند معاوية ونصيحته له: في عام 41هـ وثب حمران بن ابان على البصرة، فأخذها وتغلب عليها، فبعث معاوية إليه جيشاً ليقتلوه ومن معه، فجاء أبو بكرة الثقفي إلى معاوية، فسأله في الصفح عنهم والعفو، فعفا عنهم وأطلقهم وولّى على البصرة بسر بن أبي أرطأة[3].. وقد قال معاوية لأبي بكرة: هل من عهد تعهده إلينا؟ قال: نعم، أعهد إليك يا أمير المؤمنين أن تنظر لنفسك ورعيّتك وتعمل صالحاً، فإنك قد تقلَّدت عظيماً، خلافة الله في خلقه، فاتق الله، فإن لك غاية لا تعدوها، ومن ورائك طالب حثيث، وأوشك أن تبلغ المدى، فيلحق الطالب، فتصير إلى من يسألك عمّا كنت فيه، وهو أعلم به منك، وإنما هي محاسبة وتوقيف، فلا تُوثرن على رضا الله شيئاً[4] 13 ـ استخدام العواطف في حرب الخوارج: خرج حوثرة بن وداع بن مسعود الأسدي على الدولة الأموية، فدعا معاوية أبا حوثرة فقال له: اخرج إلى ابنك فلعله يرق إذا رآك فخرج إليه وكلمه وناشده وقال: ألا أجيئك بابنك فلعلّك إذا رأيته كرهت فراقه؟ فقال: أنا إلى طعنة بيد كافر برمح أتقلّب فيه ساعة أشوق مني إلى ابني. فرجع أبوه فأخبر معاوية بقوله، فسير معاوية إليهم عبد الله بن عوف الأحمر في ألفين، وخرج أبو حوثرة فيمن خرج فدعا ابنه إلى البراز، فقال: يا أبة لك في غيري سعة. وقاتلهم ابن عوف وصبروا، وبارز حوثرة عبد الله بن عوف فطعنه ابن عوف فقتله وقتل أصحابه إلا خمسين رجلاً دخلوا الكوفة، وذلك في جمادي الأخرة سنة إحدى وأربعين، ورأى ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود، وكان صاحب عبادة، فندم على قتله، وقال: قتلت أخا بني أسدٍ سفاهاً لعمرُ أبي فما لُقّيتُ رُشدي قتلـت مصلياً محِيـاءَ لَيْلٍ طـويل الحزن ذابرٍ وقصد قتلت أخا تُقىً لأنال دنيـا وذاك لشِقوَتي وعِثارِ جَدّي فهب لي توبة يا رب واغفر لما قارفت من خطاءٍ وعمد[5] رابعاً : من قصائد الخوارج في عهد معاوية رضي الله عنه: 1 ـ ما قاله معاذ بن جوين بن الحصين في سجن المغيرة بن شعبة: ألا أيها الشارون قد حان لأمريء شرى نفسه لله أن يترحلا أقمتم بدار الخاطئين جهالة وكل امرىءٍ منكم يُصادُ لُيقَلاَ فشدوا على القوم العُداة فإنما أقامتكم للذبح رأياً مضَلَّلا ألا فاقصدوا يا قوم للغاية التي إذا ذكرت كانت أبرّ وأعدلا فيا ياليتني فيكم على ظهر سابح شديد القصيرى دارعاً غير أعزلا ويا ليتني فيكم أُعادي عدوّكم فيسقيني كأس المنية أوّلا يعزّ عليّ أن تخافوا وتُطردوا ولما أُجرِّد في المُحِلِّين مُنصُلا ولما يفرق جمعهم كلُّ ماجد إذا قلت ولىَّ وأدبر أقبَلا مُشيحاً بنصل السيف في حمس الوغى يرى العبر في بعض المواطن أمثلا وعّز عليّ أن تصابوا وتُنقصوا وأُصبح ذا بتٍّ أسيراً مكبلاً ولو أنني فيكم وقصدوا لكم أثرت إذا بين الفريقين قَسْطَلا فيا رُبّ جمعٍ قد فَللتُ وغارة شهدت وقرْنٍ قد تركت مُجدَّلا[6] 2ـ ماقال رجل من بني تيم الله بن ثعلبة عندما انتصر مرداس أبو بلال بن أدية من بني ربيعة وكان في اربعين رجلاً على جيش لعبيد الله بن زياد حيث قال : أألفا مؤمن منكم زعمتم ويقتلهم بآسَكَ[7] أربعونا كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ولكنّ الخوارج مؤمنونا هي الفئة القليلة قد علمتم على الفئة الكثيرة ينصرونا[8] وفي رواية أخرى نسبت قصيدة إلى عيس بن فاتك قال فيها : فلما أصبحوا صلوا وقاموا إلى الجُرْد العِتاق مسوَّمينا[9] فلما استجمعوا حملوا عليهم فظل ذوو الجعائل يقتلونا[10] بقية يومهم حتى أتاهم سوادُ الليل فيه يراوغونا يقول بصيرهم لما أتاهم بأن القوم ولوا هاربينا أألفاً مؤمن فيما زعمتم ويهزمهم بآسك أربعونا[11] |
المبحث الخامس : النظام المالي في عهد معاوية رضي الله عنه :
أولا : مصادر دخل الدولة : 1ـ الزكاة : وهي أهم مكونات النظام المالي الإسلامي وذلك لكونها ثابتة بالكتابة والسنة, إذ يقول عنها سبحانه: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" (البينة, اية 5), كما أجمع المسلمون على وجوبها باعتبارها أحد أركان الإسلام الخمسة, ومن ذلك اتفاق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال ما نعيها في عهد أبي بكر الصديق[1], وقد أسند إلى السلطان مهمة تحصيلها وإنفاقها, فقد كان رسول الله يجمعها ويقوم على تفريقها, وكذلك فعل أبو بكر وعمر أما في عهد عثمان لما كثرت الأموال فقد رأى أن يفوض الممولين فيما يتعلق بالأموال الباطنة كالوكلاء عن الإمام[2], أما الأموال الظاهرة كالزروع والمواشي ونحوها، فقد استمرت الدولة في جبايتها وإنفاقها، وقد ورد عن أبي أبكر وعثمان بن عفان أنهما كانا يأخذان زكاة المال من عطاء الرجل[3]. ثم اختلف بعد مقتل عثمان هل تدفع الزكاة إلى الولاة أم لا[4]، وهذا الخلاف بشأن الأموال الباطنة أما الأموال الظاهرة ظلت تحصلها الدولة، وهذا يدل على سبب نقص حصيلة الزكاة بشكل عام في العصر الأموي، لامتناع جماعة من الناس عن دفعها للولاة، وتفريقها بمعرفتهم، عدا عهد عمر بن عبد العزيز الذي ما إن سمع الناس بولايته حتى سارعوا إلى دفعها للدولة[5]. كما أعاد كذلك أخذ الزكاة من العطاء[6]، أي بالخصم عند المنبع، وهكذا يعكس تعاظم دور الزكاة كأحد المكونات الإيرادات العامة إبان عهد عمر بن عبد العزيز، ولا يعني هذا إغفال دورها الهام طيلة العصر الأموي، فبالرغم من عدم توافر أرقام عنه إلا أن الدلائل تشير إلى كبر أهميتها وذلك لأنها كانت تحصل من قطاعين رئيسيين من قطاعات الاقتصاد الأموي، هما الزراعة وقطاع التجارة خاصة في ظل نظام العشور[7]، ومنها أيضاً وجود ديوان خاص يسمى ديوان الصدقات[8]، وهو الديوان الذي يتولى النظر في أمور الزكاة والصدقات التي تجبي من القادرين والمتمكنين مالياً ليتم توزيعها على مستحقيها في الوجوه الشرعية التي ذكرها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة[9]، وأشار إليه الجهشياري أول مرة في خلافة هشام بن عبد الملك، ويذكر أن: إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب كان يتقلد ديوان الصدقة للخليفة هشام بن عبد الملك، وقد يعود عدم وجود أرقام عن حصيلة الزكاة لعدم تسجيل مقادير تلك الصدقات، إذ كانت تدفع جميعها أو معظمها في الحال إلى مستحقيها[10]، وبصفة عامة يمكن القول إن نظام الزكاة كان مطبقاً في العهد الأموي وفقاً للأسس الشرعية الخاصة به، وأن قمة التطور بالنسبة لحصيلة الزكاة كان في عهد عمر بن عبد العزيز حيث وثق الشعب في الدولة نتيجة حرصها على تطبيق الإسلام كواقع عملي ـ فسارع إلى دفع الزكاة إليها وكذلك أخذ الزكاة من العطاء فيه تخفيف لتكاليف جباية الزكاة فزيادة الموارد مع قلة التكاليف أحدثت نمواً ملحوظاً في حصيلة الزكاة[11]. 2 ـ الجزية: ما يؤخذ من أهل الذمة، وهي ضريبة على الذمي المستوفي لشروطها مقابل الدفاع عنه، وكانت تمثل أحد الموارد الثابتة للدولة الأموية، عملاً بقوله تعالى: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة ، الآية : 29). وهي ثابتة في السنة لما قاله المغيرة بن شعبة لترجمان عامل كسرى:.. فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤتوا الجزية[12]. وهي ثابتة أيضاً بالإجماع[13]، ولم يضف الأمويون شيئاً يذكر بالنسبة لتنظيم الجزية، ويمكن القول بأن جبايتها خضعت لما استقر عليه تنظيمها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمن حيث ضوابطها تمثلت في أربعة هي: تحديد الشريحة التي تؤخذ منها الجزية متمثلة في الذكور العقلاء البالغين[14]، ثم تحديد الفئات المعفاة منها: وهم: الصبيان والنساء، المرضى المزمنون، العبيد، المجانين، العميان، الشيوخ، الرهبان الذين لا مورد لهم[15]، وكذلك مراعاة مستوى دخل الممول يساراً وإعساراً، حيث كانت تفرض على الفرد الغني (48) درهماً سنوياً، وعلى المتوسط (24) درهماً سنوياً وعلى ما دون ذلك (12) درهماً سنوياً بشرط أن يكون ذا حرفة[16]، وأما عن تصنيفها فيمكن تقسيم الجزية وفق المعيارين التاليين: أ ـ معيار المسؤولية : وطبقاً له تنقسم الجزية إلى فردية وجماعية، فالجزية الفردية هي التي تفرض على كل ذمي مستوف لشروطها في صورة مبلغ محدد يسقط عنه حالة إسلامه، أما الجماعية أو المشتركة فكانت تتم بوضع مبلغ إجمالي معين على أهل القرية أو المدينة، ثم يتولون هم توزيعه بين أفرادهم، ومثالها من عهد النبي صلى الله عليه وسلم صلحه صلى الله عليه وسلم لأهل أذرح على مائة دينار في كل رجب[17]، وكان غالب الجزية في العصر الأموي من هذا النوع[18]. ب ـ معيار النقدية والعينية: وطبقاً له انقسمت الجزية إلى ثلاثة أقسام: جزية نقدية، جزية عينية، جزية مشتركة، وكانت جميع أصناف الجزية معمولاً بها في العصر الأموي، ولم يوجد ما يشير إلى الخروج عن ذلك، وخاصة وأن الشريعة الإسلامية تقتضي بالالتزام بعقود الصلح، والوفاء بها، لكن هذا لم يمنع من خروج بعض الولاة أحياناً عن الضوابط الشرعية[19]، وبالنسبة لحجم غلة الجزية ونسبتها إلى إجمالي الإيراد الكلي للدولة فهذا مما يصعب تحديده، لكن هناك مؤثرات تدل على عظم حجم إيراد الجزية وما يتضح من الدور الكبير الذي قامت به الدولة الأموية في نشر الإسلام في بلدان كثيرة تم فتحها وفرض الجزية على من لم يسلم من أهلها[20]. 3 ـ الخراج : كبقية المصادر المالية للدولة التي كان لعمر بن الخطاب الريادة في تنظيمها، فقد استفادت الدولة الأموية من تنظيم عمر له، إذ سارت في أغلب أقاليمها عليه، إلا ما طرأ من تعديلات سوف يتم التعرض لها[21]، وللخراج معنى خاص: وهو إيراد الأراضي التي افتتحها المسلمون عنوة وأوقفها الإمام لمصالح المسلمين على الدوام كما فعل عمر بأرض السواد من العراق والشام[22]، والخراج كما قال ابن رجب الحنبلي: لا يقاس بإجارة ولا ثمن، بل هو أصل ثابت بنفسه لا يقاس بغيره[23]، وكان للخراج أهمية كبرى بالنسبة للدولة الأموية وكانت غلة الخراج في منطقة السواد على سبيل المثال في عهد ابنه عبيد الله سنة 54هـ ـ 66هـ بلغ 135 مليون درهماً[24]، وأما منطقة الجزيرة والشام: فقد استمر الخراج في هذه المنطقة وفقاً لما وضعه معاوية بن أبي سفيان، الذي فرض ضرائب على أهل المدن ذات شقين، شق منه جزية والآخر خراج وهو كما يلي: أ ـ على أهل قنسرين حوالي مليون وخمسمائة ألف درهماً . ب ـ على الأردن ستمائة ألف درهماً . جـ ـ على فلسطين حوالي ستمائة ألف درهماً[25]. وقد حدثت بعض الانحرافات في تحصيل الخراج في عدة صور أهمها: ـ فرض الخراج على أرض مستثناة منه بنص عقود الصلح[26]، فقد حدث ذلك في عهد يزيد بن معاوية(60 ـ 64) حيث فرض الخراج على أرض السامرة[27]، بالأردن وفلسطين. ـ استخدام العنف في تحصيل الخراج، في بعض الأقاليم ـ باستثناء عهد عمر بن عبد العزيز ، حيث استخدمت الشدة في تحصيل الإيرادات بأنواعها[28]. ـ تحميل نفقات جباية الخراج على الممول، ومن تلك النفقات قيمة الورق الذي يكتب عليه مقادير الخراج، قيمة إيجار المستودعات التي يتم تخزين حصيلة الخراج العينية فيها، أجرة الجابي الذي يقوم بالجباية وبقية نفقات تحصيل الخراج[29]، وقد حدث ذلك خاصة في إقليم العراق وكان قبل عهد عمر بن عبد العزيز، فلما ولي الخلافة أبطلها ثم عادت بعد موته[30]، وكان للخراج في عهد الدولة الأموية ديوان خاص به، يسمى ديوان الخراج: وهو الذي يتولى النظر في جباية ضريبة الخراج، ويقوم بجمعها وتسجيلها، ووضع تقديرات لها، لأنها أعظم واردات الدولة[31]، وكان الأمويون قد فصلوا بين الولاية والجباية وعينوا مسؤولين عنها لكي يحصروا المسؤولية، وقد ذكرت المصادر قائمة بأسماء الذين أسندت إليهم مهمة الجباية والإشراف على أعمال الديوان، فمعاوية رضي الله عنه عين على خراج دمشق ـ سرجون بن منصور[32]، وعلى خراج فلسطين: سليمان المشجعي[33]، وعلى خراج حمص بن أثال النصراني[34]، وفي خلافة يزيد بن معاوية استمر على الديوان: سرجون بن منصور، كما بقي عليه طوال حكم معاوية الثاني، ومروان بن الحكم، وعبد الملك، حتى عزله[35]، وقد أولى معاوية رضي الله عنه ولاته في الأقاليم الأرض ومن عليها عناية متزايدة فاستصلح البطائح وهي أرض واسعة مغمورة بالمياه، بقطع القصب وعلب الماء بالمسنيات مما أدّى إلى عمارة البلاد وزيادة الوارد العام بمقدار خمسة آلاف ألف درهم وراعى معاوية حالة السكان وسعى لتطمينهم والتخفيف عن كاهلهم بمجموعة من الإجراءات يتعلق بعضها بضريبة الخراج ذاتها، وبعضها الآخر يتعلق بالقائمين على الضريبة [36]. ومن ناحية أخرى، فقد عمل معاوية على إنصاف دافعي الضريبة باختيار عماله ومتابعته لهم، وإن كانوا من المقربين، فقد عزل ابن أم الحكم وهو عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي ـ وهو ابن اخته ـ لأنه اشتد في أمر الخراج ولم يقبل من عامل خراجه جباية الخراج قبل موعده الموجود[37]. وفي الفترة الأموية تكثر الإشارة إلى استعمال الأعاجم في الخراج، وصلاحهم لذلك لأسباب عبر عنها زياد بن أبيه بوضوح منها معرفتهم بأمور الخراج ودورهم في إعمار الأرض[38]، حيث يقول: وينبغي أن يكون كتاب الخراج من رؤساء الأعاجم العالمين بأمور الخراج[39]، ودعا زياد إلى مراعاة الدهاقين والإحسان إليهم: أحسنوا إلى الدهاقين[40]، فإنكم لن تزالوا سماناً ما سمنوا[41] 4 ـ العشور : هي الأموال التي يتم تحصيلها على التجارة التي تمر عبر حدود الدولة الإسلامية سواء داخلة أو خارجة من أرض الدولة وهي أشبه ما تكون بالرسوم الجمركية في العصر الحاضر، ويقوم بتحصيلها موظف يقال له العاشر أي الذي يأخذ العشور[42]، وأول من وضعها في الإسلام هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد فرضها على الحربي بنسبة العشر، وعلى الذمي نصف العشر، وعلى المسلم ربع العشر[43]، وقد استمر هذا النظام في العهد الأموي وفق القواعد التالية: أ ـ إعفاء الحد الأدنى لرأس المال، والذي قدر بالنسبة للمسلم بمائتي درهماً[44]، أما بالنسبة للحربي والذمي فقد اختلف فيه[45]. ب ـ لا تحصل العشور إلا مرة واحدة في السنة . جـ ـ يشترط لتحصيل العشر من النعم التي للمسلم أن تكون سائمة. ح ـ لا تؤخذ العشور من عبد ولا مكاتب ولا مضارب ولا بضاعة، وإنما من رب المال نفسه[46]. خ ـ أن يكتب للتاجر سند بالمبلغ الذي دفعه، وبمقتضاه لا تأخذ منه العشور إلا في السنة التالية[47]. س ـ أن لا يتم تفتيش التاجر ولا تعنيفه[48]. ش ـ أن من ادعى ديناً يستغرق ما معه من التجارة، صدق إن كان مسلماً، وإن ارتاب في أمره استحلفه (على خلاف ذلك)[49]، وأما الذمي فأقرب الأقوال فيه أن يشهد له شاهدان من المسلمين حتى يعفى[50]. ع ـ أن العشور التي تأخذ من المسلمين هي الزكاة فلا يجمع على المال زكاة وعشور[51]. غ ـ أن غير المسلم إذا مر بما يوصف بالمالية عندهم وليس بمال عند المسلمين كالخمر والخنزير ونحوها، يقومه أناس من غير المسلمين، ويضاف إلى قيمة ما معه من تجارة ويؤخذ منه العشور[52]. وهناك من الدلائل ما يشير إلى أن العشور كانت تشكل جزءاً مهماً في إيرادات الدولة، من ذلك ما لمسه ابن الزبير من نقص في مواد الدولة حينما منع تحصيل العشور لمدة عام واحد مما حمله على التراجع على ذلك القرار[53]. 5 ـ الصوافي : هو ما اصطفاه الإمام لبيت المال من أرض الفيء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من البلاد المفتوحة عنوة بحق الخمس أو باستطابة نفوس الغانمين، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه[54].. ثم أقطعت أجزاء منها إلى بعض من كان يتولى إستثمارها، على أن يؤدي لبيت المال ما عليها، وأول من أقطع عثمان بن عفان رضي الله عنه[55]، وذلك بدافع زيادة غلتها، وقد اشترط على من يقطعه إياها حق الفيء[56]، فبلغت غلتها آنذاك خمسين مليون درهماً[57]، وانتبه معاوية بن أبي سفيان للصوافي في وقت مبكر، وكتب إلى الخليفة عثمان سأله أن يقطعه إياها، ليقوى بها على ما وصف في كتابه يقول ابن عساكر: حتى كتب معاوية في إمرته على الشام إلى عثمان أن الذي أجراه عليه من الرزق في عمله ليس يقوم بمؤن من يقدم عليه من وفود الأجناد ورسل أمرائهم، ومن يقدم عليه من رسل الروم ووفودها. ووصف في كتابه هذه المزارع الصافية وسماها له، وسأله أن يقطعه إياها ليقوى بها على ما وصف له وأنها ليست من قرى أهل الذمة ولا الخراج، فكتب إليه عثمان بذلك كتاباً[58]، يضاف إلى تلك المزارع، مزارع وأراضي بني فوقا الذين لا وراث لهم، فأخذ معاوية ما يليهم[59]. ولما أفضى الأمر إليه، جعل هذه الأراضي حبساً[60] على فقراء أهل بيته والمسلمين[61]، وأشار المؤرخ الشيعي اليعقوبي إلى أن معاوية جعل هذه الأراضي، وضياع الملوك في الشام والجزيرة واليمن والعراق خالصة لنفسه عندما أفضى الأمر إليه[62] . فاقطع منها فقراء أهل بيته وخاصته، واعتبر بذلك: أول من كانت له الصوافي في جميع أرجاء الدنيا[63]، وهذه الإشارة من اليعقوبي تلفت الإنتباه نظر إلى الالتباس الواضح في لغتها، فقد ذكرت صوافي في الجزيرة واليمن علماً بأن عمر بن الخطاب كان قد أصفى مجموعات خاصة في أراضي السواد وأراضي الشام لم يدخل فيها صوافي الجزيرة واليمن[64]. كما أشار اليعقوبي إلى أن معاوية جعل هذه الأراضي خالصة لنفسه، فأقطع منها فقراء أهل بيته وخاصته، وبمقارنة هذا النص، بنص ابن عساكر عن الموضوع نفسه، يظهر مدى المبالغة في تلك الرواية يقول ابن عساكر عن تلك الأراضي: فلم تزل بيد معاوية حتى قتل عثمان وأفضى إلى معاوية الأمر، فأقرّها على حالها ثم جعل من بعده حبساً على فقراء أهل بيته والمسلمين إي أن معاوية لم يتصرف فيها ابتداء بل تركها على حالها[65] ولكن يبدو أن هناك ضرورات سياسية نشأت في الشام دفعت الدولة إلى اتخاذ ضرب جديد من التنظيم والسعي لخدمة مصالح الدولة، ومن هذه الضرورات محاولة إقامة توازن قبلي في بلاد الشام بين اليمانية وبين القيسية ولذلك أقطع معاوية اقطاعات واسعة في هذا المجال[66]، ولقد أسي فهم هذا الإجراء وفسر بعض المؤرخين كاليعقوبي، موضوع مصالح الدولة بأنه يعني مصالح الأسرة الأموية وبالتحديد معاوية[67]، ولا شك أن معاوية استخدم هذه الأموال في تثبيت دعائم الدولة، وحفظ وحدة الأمة، فكان يتصرف وفق ما يراه مناسباً للصالح العام[68]، ولا يمنع ذلك الإحسان إلى أسرته والمقربين إليه بالمعروف،وقد أمر معاوية بإعادة مسح للصوافي في أمصار الدولة الأموية وأضاف أراضي واسعة بعد العثور على سجل الضياع الساسانية[69] أصبحت تحت تصرف معاوية المباشر فكان يسد منها بعض حالات العجز في النفقات العامة، فقد بلغ غلة صوافيه بالعراق وما يتبعه مائة مليون درهماً[70] وكذلك فعل بصوافي أرض الشام والجزيرة واليمن حتى فدك اصطفاها لنفسه ثم أقطعها لمروان بن الحكم[71]، وظلت كذلك طيلة العهد الأموي، باستثناء عصر عمر بن عبد العزيز الذي أعادها للملكية العامة وشجع القطاع الخاص على استثمارها[72]، كما رد فدك لبيت المال ووضع ما يأتي منها في أبناء السبيل، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده[73]، كما أمر باستثمار أراضي الصوافي حين كتب إلى واليه على العراق: انظر ما قبلكم من أرض الصافية، فاعطوه حتى تبلغ العشر فإن لم يزرعها أحد فامنحها فإن لم تزرع فانفق عليها من بيت مال المسلمين، ولا تبتزن قبلك أرضاً[74]، ونلاحظ من هذا النص اهتمام عمر بن عبد العزيز بأمر الصوافي مما يدل على أهميته في موارد الدولة.. لكن أمر الصوافي عاد إلى ما كان عليه الأمر بعد عهد عمر بن عبد العزيز[75]، 6 ـ خمس الغنائم : تعرّف الغنيمة : ما غلب عليه المسلمون بالقتال حتى يأخذوه عنوة[76]، وقد نص عليها القرآن الكريم، وفي العصر الأموي ازدادت حركة الفتوحات وبالتالي زادت الغنائم كأحد موارد بيت المال، وقد اتبع الأمويون نفس النهج العمري بالنسبة للغنائم والأراضي المفتوحة، فكان تخميس الغنائم وتقسيمها بين الفاتحين وترك الأرض فيئاً لمجموع المسلمين مع ضرب الخراج عليها[77]، هذه أهم المصادر المالية للدولة مع وجود مصادر أخرى كنظام خمس الركاز، ومال من لا ورث له إذ ظل في العصر الأموي على ما كان عليه عهد رسول الله والخلفاء الراشدين إضافة إلى أن نسبة هذين العنصرين بسيطة جداً بالنسبة لغيرها من المصادر[78]. |
[align=justify]
ثانياً : النفقات العامة: 1 ـ النفقات العسكرية: حملت الدولة الأموية على عاتقها مهمة مواصلة نشر الإسلام في أرجاء المعمورة، ولذلك اتسعت الدولة الإسلامية في العصر الأموي اتساعاً كبيراً، وقد تم لها ذلك على الرغم مما كانت تعانيه من فتن وقلاقل داخلية تتطلب أموالاً طائلة لإخمادها، وتتضح معالم النفقات العسكرية في العصر الأموي من خلال نفقات الجند والصناعات الحربية[1] . أ ـ رواتب الجند : ويشرف عليها ديوان الجند، وتجمع المصادر على أن أول من وضعه ورتبه هو الخليفة عمر بن الخطاب سنة 20هـ[2]، وقد بقي هذا الديوان على الأساس نفسه من حيث تحفظ سجلات بأسماء المقاتلين وأوصافهم، وأنسابهم ومقدار أعطياتهم[3]، وقد عمل معاوية بن أبي سفيان على تحسين حالة الجند المعاشية فزاد في أعطياتهم، بسبب الظروف المستجدة وتحسن الأحوال الاقتصادية في الدولة، وكان أمير المؤمنين معاوية: يتفقد أحوال القبائل، كجزء من سياسته في حفظ التوازن بين قبائل اليمن والقبائل القيسية، وكان قد جعل على كل قبيلة من قبائل العرب بمصر رجلاً يصبح كل يوم فيدور على المجالس فيقول هل ولد الليلة فيكم مولود وهل نزل بكم نازل فيقال ولد لفلان غلام ولفلان جارية، فيقال سموهم فيكتب ويقال نزل بنا رجل من أهل اليمن بعياله فيسمونه وعياله فإذا فرغ من القبائل كلها أتى الديوان[4]، وكان للجند ديوان مركزي في دمشق في حين وجدت دواوين فرعية في مراكز الولايات: كالكوفة والبصرة والفسطاط[5]، وكان سلم رواتب الجند في عهد معاوية كالآتي: على درجات: شرف العطاء والمرتب 2000 درهم، عطاء العرب فئة(أ) 300 درهم، فئة (ب) 1000 درهم، فئة (جـ) 1500 درهم، وأدخل الموالي في العطاء[6]، وكانت نفقات رواتب الجند في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كالآتي: ـ في منطقة مصر : كان عدد المسجلين في الديوان 40000 ألف جندي منهم أربعة آلاف مسجلين بشرف العطاء[7]، وبالتلي يكون مجمل عطاؤهم 8000000 درهماً، أما بقية المسجلين في الديوان فكان عددهم 36000 جندياً وعلى فرض أن عطاء الجندي سنوياً هو 300 درهماً يصبح إجمالي عطاؤهم 10800000 درهماً[8] ـ في منطقة الشام: كان عدد الجند المسجلين في ديوان الشام ستون ألف جندي، كان الدخل السنوي لكل جندي ألف درهماً، أما إجمالي نفقات جند الشام فبلغ ستين مليون درهم[9]. ـ في العراق نأخذ مثالاً ديوان البصرة: حيث بلغ عدد المسجلين به ثمانين ألف مقاتل[10]، وبلغت مرتباتهم في عهد زياد 36000000 درهماً ، فإذا أخرجنا منهم نسبة 10% مسجلين في شرف العطاء، (قياساً على ديوان مصر) يكون المتبقي20000000 درهماً، وعليه يكون متوسط الدخل للجندي في ديوان البصرة حوالي 278 درهماً ويمكن قياس بقية منطقة العراق على هذا[11]. وقامت الدولة الأموية بتطوير ديوان الجند، وهو الجهة المسؤولة عن نفقات ورواتب الجند وكان من أبرز صور هذا التطوير ما يلي: * ـ فقد قام مندوب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه المكلف بتوزيع عطاء المدينة بدفع عطاء كل رجل في يده مباشرة وكان النظام السابق هو أن يدفع العطاء إلى العرفاء. لكن هؤلاء العرفاء لم يكونوا يغيبون غائباً ولا يميتون ميتاً[12]. * ـ وفي عهد معاوية قام واليه على العراق زياد بن أبيه، بتخفيض النفقات الإدارية لديوان الجند، حيث اختصر عدد العرافاء المسئولين عن توزيع العطاء ليصبح لكل قبيلة عريف واحد[13] . ب ـ نفقات الصناعات الحربية: على الرغم من عدم وجود أرقام محددة في نفقات الدولة على الصناعات الحربية، إلا أن هناك ما يدل على اتجاه هذه النفقة نحو التزايد، فقد كان اهتمام الدولة الأموية منصباً على تطوير سلاح البحرية، وقد بلغ عدد قطع الأسطول البحري الإسلامي في بداية تكوينه مائتي مركب[14]، ثم تطور على يد الدولة الأموية ليبلغ في عهد سليمان بن عبد الملك ألف وثمانمئة سفينة كبيرة[15]. 2 ـ النفقات الإدارية : تقسم هذه النفقات إلى قسمين، رواتب الموظفين ونفقات المستلزمات الإدارية، وكانت هذه الأخيرة ضئيلة للغاية، ومتمثلة في الشموع وأوراق الكتابة، وغيرها من الأدوات البسيطة التي لا تشكل شيئاً يذكر بالنسبة لما هو عليه الأمر اليوم ومع ذلك فقد تميز عهد عمر بن عبد العزيز بالحساسية للمال العام، فكانت هذه النفقات في عهده أقل من غيره من العهود[16]، وسنركز الحديث عن رواتب الموظفين، ويبدو أن رواتب الموظفين كان متروكاً إلى والي الإقليم، يحدد لنفسه ولعماله رواتبهم حسب ما يرى، وقد ساعدت هذه اللامركزية على ظهور مرتبات كبيرة نسبياً ـ إذا ما قورنت بالمرتبات في عهد عمر بن الخطاب وبمتوسط مستوى المعيشة المتواضع نسبياً في الدولة الأموية ـ حيث بلغ مرتب والي العراق زياد بن أبيه خمسة وعشرين ألف درهماً شهرياً[17]، وظهرت أيضاً إلى جانب المرتبات الكبيرة مخصصات إضافية، فهذا زياد بن أبيه يجعل لأحد الولاة التابعين لإدارته مائة ألف درهم سنوياً عدا مرتبه[18] وهذه بعض النماذج من رواتب الموظفين خلال فترات من العصر الأموي، يمكن اعتبارها مؤثراً على مستوى رواتب ومكافآت موظفي الدولة، وذلك لعدم العثور على معلومات تفصيلية عنها. أ ـ كان الحد الأقصى لرواتب الكتاب طوال العصر الأموي وطرفاً من العباسي حتى عهد المأمون هو 3600 درهماًَ سنوياً، وكان حدها الأدني 720 درهماً سنوياً[19]. ب ـ يرجح أن أكبر مرتب لصاحب الشرطة في العصر الأموي بلغت مائة ألف درهماً سنوياً[20]. جـ ـ مرتبات القضاة كانت عبارة عن رزق يجري عليهم من بيت المال ليتفرغوا للقضاء[21]، وكان حده الأدنى ألف ومائتي درهماً سنوياً[22]، وأما الحد الأقصى فقد بلغ ثلاثة آلاف درهماً سنوياً[23]. 3 ـ مصارف الزكاة : حيث يقول الله سبحانه وتعالى: ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) (التوبة ، الآية :60) . 4 ـ مصارف الفي : قال سبحانه وتعالى: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... )) (الحشر ، الآية : 7) . 5 ـ معظم مصارف العشور: التي تأخذ من المسلمين هي نفقات تحويلية لأنها تعتبر في حقهم زكاة فتصرف في مصارف الزكاة . 6 ـ نفقات الضمان الاجتماعي: تطورت نفقات الضمان الاجتماعي في الدولة الأموية كانت في صورة عينية، وكمثال على ذلك ما ورد من أن الفقراء في إقليمي الحجاز والعراق خلال الفترة (45هـ ـ 53هـ) كانوا يحملون بطاقات محدد لهم فيها الكمية المخصصة لكل فرد منهم من المعونة العينية[24] ثم أصبحت في عهد عمر بن عبد العزيز (99هـ ـ 101هـ) مزيجاً من النفقات النقدية والعينية، وكمثال على المعونات النقدية قضاء دين من أدان في غير سفه، ولا سرف، وتزويج الرجل الذي ليس له مال وله رغبة في الزواج[25]، ومثال النفقات العينية، أنه أمر لكل أعمى بقائد، ولكل خمسة من اليتامى بخادم[26]، وشملت في عهده نفقات الضمان الاجتماعي إلى غير المسلمين[27]، ثم تطور الأمر حتى مثلت نفقات الضمان الاجتماعي بنداً محدداً من بنود النفقات العامة للدولة، ومثال ذلك يوجد ضمن بنود النفقات العامة السنوية في إقليم العراق خلال الفترة (120 ـ 126هـ) مبلغ عشرة آلاف درهم[28]، مخصصاً لبيوت رعاية الأحداث[29]، والعواتق[30]. [/align] |
ثالثاً : اهتمام الدولة بالزراعة :
مع بداية الدولة الأموية ظهرت الملكيات الزراعية الكبيرة وذلك نتيجة لدخول الولاة والخلفاء في هذا الميدان، ولذلك اهتموا بإحياء الأرض الموات من أراضي الصوافي وغيرها، من الأراضي المفتوحة الخصبة، وبالذات إقليم العراق وما شابهه، وقد ساعدهم في ذلك حجم السيولة التي يملكونها، فقد أحيا والي معاوية رضي الله عنه على خراج العراق أرضين من البطائح لمعاوية، حيث قام بقطع الماء عنها وتجفيفها وزراعتها، وقد بلغت غلتها خمسة ملايين درهم[1]، وهذا مما يدل على عظم مساحتها، ولم يكن معاوية رضي الله عنه يجعل ريعها كله داخلاً في نفقاته الخاصة، وإنما كان يتدارك منها شيء من النقص في النفقات العامة[2]، ولم يدخل تلك الأرضين في ملكه يتوارثها من بعده، بدلالة أن الأرض التي أحياها الحجاج فيما بعد لعبد الملك هي نفس الأرض التي أحياها معاوية رضي الله عنه، إلا أنها عادت مواتاً لغلبة الماء عليها[3]. ومن الناحية الشرعية فإن أحياء الأرض بصفة عامة مباح، بل هو سبب من أسباب الملك لها وذلك استناداً على الأحاديث الواردة في ذلك، وهي إباحة عامة يستوي فيها الحاكم، والمحكوم، إلا أنه في حق الحاكم ينبغي أن تكون هناك قيود إضافية لعل من أبرزها: ـ عدم استغلال الحاكم لسلطته ومكانته، وإنما يدخل في عملية الاحياء كأي فرد من أفراد الشعب. ـ عدم استخدام أموال المسلمين في عملية الاحياء، بل يقوم بإحيائها من ماله الخاص. ـ ألا يترتب على تملكه للأرض بطريق الإحياء ضرر على المسلمين، الأفراد أو جماعة المسلمين، وكذا من له ذمة[4]، وقد ساهم الاقطاع ـ أي الاقطاع يقصد الإحياء والإعمار ـ في تكوين الملكيات الزراعية الكبيرة، فقد أقطع معاوية رضي الله عنه بعض أخوته الجزيرة التي بين النهرين، فأرسل زياد بن أبيه الماء، فلما نظر إليها المقطوعة له ظن أنها بطيحة، فاشتراها منه زياد بمائتي درهم، وقد أقطع زياد بعد ذلك من تلك الأرض غيره، مما يدل على عظم حجمها، حتى أنه أيضاً حفر لها أنهاراً وليس نهراً واحداً[5]، وأقطع زياد بن أبيه مرّة مائة جيب[6] على نهر الأبلة فحفر لها نهراً فسمي باسمه، كما أقطع أيضاً كل بنت من بناته ـ أي بنات زياد ـ ستين جريباً[7] واستمرت الملكيات الزراعية بالتوسع مع مجيء الخلفاء الأمويين بعد معاوية رضي الله عنه، ولم ينحصر الإقطاع للأراضي على الأسرة الأموية وبعض وجهاء قريش، وإن كان هو الغالب[8]، إذ كانت هناك إقطاعات لعامة الشعب، ومثال ذلك أن زياداً كان يقطع الرجل القطعية ويتركه سنتين فإن لم يعمرها أخذها منه[9]، وقد كانت تقدر مساحات تلك الاقطاعات بين (60 ـ 100) جريب[10]، وقد كانت إقطاعات الدولة الأموية من الصوافي أو من الأراضي الموات ولكن بصفة عامة يؤخذ على القطاع في العصر الأموي عنصر المحاباة، إذ أن أصحاب الملكيات الكبيرة كانوا إما من الأسرة الأموية أو من أشراف قريش، وبحثت الدولة عن أصحاب السيولة النقدية القادرين على استثمار تلك الأراضي، لكن ترتب على ذلك السلوك تركز الثروة الكبيرة في أيدي قلة من أفراد المجتمع[11]، كانت الزراعة في العصر الأموي تعتمد بصفة رئيسية على مياه الأنهار، ولذا نجد أن مراكز الإنتاج الزراعي الرئيسية كانت هي العراق ومصر والشام، وبالذات حول الأنهار[12]، وكان للقطاع الخاص دوره في تطوير الزراعة في العهد الأموي، وقد قام القطاع الخاص باستصلاح أراضي زراعية جديدة بمساحات واسعة ومثال ذلك أراضي البطائح التي كانت منذ عهد الفرس وحتى عهد الدولة الأموية أراضي مغمورة بالمياه، فبدأت من بداية الدولة الأموية حركة استصلاحها بحجز المياه عنها وتجفيفها، وقد خرجت منها أراضي واسعة وخصبة وفيرة الإنتاج[13]، وقد توسعت الملكيات الزراعية الخاصة، وترتب عليها زيادة في الإنتاج الزراعي، مما أدى إلى وجود أراضي بعيدة عن مصدر الري وهو النهر الأساسي، فحدث تطور في تقنية الري حيث ظهرت حركة حفر الأنهار والقنوات الفرعية وفق طرق هندسية تسمح لتلك الأراضي بالاستفادة من ماء النهر دون أن يؤدي ذلك إلى إغراقها، وقد توسع القطاع الخاص في حفر هذه الأنهار والقنوات، فحدثت تنمية زراعية نتيجة استفادة الأراضي التي كانت تمر بجوارها تلك الأنهار والقنوات الفرعية[14]، وقد تمّ نقل التقنية الزراعية من البلاد المفتوحة حديثة إلى مراكز الإنتاج الزراعي الرئيسية في الدولة الأموية[15]إلا أن القطاع الزراعي تعرض للتدهور في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية بسبب عوامل متعددة منها: 1 ـ الاضطراب السياسي ، وفقدان الأمن بالمنطقة، فانعكس ذلك على مستوى الإنتاجية الزراعية، ويبدأ هذا الاضطراب مع مجيئ يزيد بن معاوية، ومعاوية الثاني، ومروان بن الحكم.. الخ. 2 ـ تركز الثروة في يد قلة من سكان المنطقة، حيث كانت معظم التركيبة السكانية من الموالي[16]، مما ترتب عليه ضعف حركة النقود داخل المنطقة، فضعفت حركة تبادل السلع، أي حدوث كساد اقتصادي بالمنطقة. 3 ـ إعادة ضريبة النيروز والمهرجان التي روي أنها بدأت مع عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه[17]، وكان السبب في إعادتها أن الناس اعتادوا دفعها على الرغم من منع الإسلام لها[18]، فأراد معاوية رضي الله عنه سحب مبالغها من غير المسلمين من الدهاقنة المسئولين عن الجباية، حتى لا يكونوا مراكز ثروة يتقوون بها ضد الدولة الإسلامية، وكان ينفقها رضي الله عنه في مصالح الأمة الإسلامية، لكن الدهاقنة والأمراء المحليين أخذوا فيما بعد في إبتكار ضرائب إضافية عديدة[19]، أرهقت كاهل المزارعين، بالإضافة إلى ما صاحب تلك الضرائب من عنف في الجباية[20]. 4 ـ إخضاع المشاريع الزراعية للضغوط السياسية، فقد أدت محاربة الدولة لخصومها السياسيين إلى تخرب أو تحجيم مشاريعهم الزراعية، فانعكس ذلك بنتائج سلبية على اقتصاد الدولة ككل، ومن صور ذلك ما حدث في عهد الحجاج من أن بثوق انبثقت على الأرض المحيا من أرض البطائح فلم يعمل الحجاج ـ بوصفه والي المنطقة ـ على سد تلك البثوق مضارة لأهلها (لاتهامهم بمساعدة ابن الأشعث في الخروج عليه). فغرقت أراضيهم الزراعية وتحولت إلى موات[21]. 5 ـ معاناة الدولة الأموية في بداية نشأتها من مجموعة من المهاجرين الذين قدموا إلى إقليم العراق، وكانوا يعانون من البطالة، حيث لم يكونوا مسجلين بالعطاء، وليس لديهم أراضي يقومون بزراعتها، فبدلاً من أن يقوموا بالعمل في مجال من المجالات الأخرى قامت فئة منهم بإحداث بثوق في نظام الري، فأدى ذلك إلى تخريب المزارع وإغراقها، فلما ولي زياد العراق قام بالقضاء على مثل تلك الأعمال[22]. 6 ـ حدوث مواجهة عسكرية بين المزارعين المهاجرين من الأرياف إلى المدن من الموالي والدولة الأموية، وذلك حينما حاول والي العراق ـ الحجاج بن يوسف ـ إعادتهم إلى أراضيهم بالقوة وإعادة فرض الجزيرة عليهم، وقد وافق ذلك خروج ابن الأشعث على الدولة الأموية، فانضموا تحت لوائه[23]. ونتيجة لتلك العوامل وغيرها، فقد بدت علامات تدهور القطاع الزراعي العام في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية[24]. ومع ذلك فقد كانت خلال تلك الفترة مجموعة من الإجراءات والمشاريع التي خففت من حدة التدهور الزراعي بالمنطقة خلال هذه الفترة، وكان من أبرزها ما يلي: أ ـ إنشاء زياد بن أبيه جسراً يمنع طغيان الماء على الكوفة[25] مما وفر الفرصة لاستغلال أراضي كانت تعطل فترة من السنة نتيجة فيضان الماء عليها، وينتظر حتى تنتهي فترة الفيضان، وتجف الأرض حتى يمكن إعادة زراعتها مرة أخرى، كما أعطى هذا المشروع فرصة إدخال زراعة النباتات المعمرة إلى تلك الأراضي بدلاً من افتقار الزراعة فيها على المحاصيل الموسمية، وبلغ من أهمية هذا الجسر أن الولاة ظلوا يتعاهدونه طيلة فترة العصر الأموي[26]. ب ـ عملية نقل الأيدي العاملة الزراعية من منطقة إلى منطقة أخرى، بهدف إحداث تنمية زراعية في الجهة المنقول إليها ومن أمثلة ذلك ما يلي: ـ نقل زياد خمسين ألف أسرة من البصرة والكوفة من ذوي الخبرة الزراعية المشهورة إلى خراسان لتعميرها[27]. هذا وقد كانت الدولة الأموية تتولى مسؤولية إقامة منشآت الري الكبرى والعمل على صيانتها وتطهيرها، كحفر الآبار ومجاري الأنهار، وسد البثوق (التصدع)، وفتح البريدات (مفاتيح الماء)، وإقامة المسنيات (السدود)، أما أصحاب الأراضي فكانوا يشاركون أحياناً في نقطة تطهير الأقنية الكبيرة، وكذلك الأمر فإنه كان يقع على عاتقهم، بطبيعة الحال مسؤولية إقامة الأقنية ووسائل الري داخل ممتلكاتهم الخاصة[28]، وقد حاول الحكام الأمويون استغلال ما أمكنهم من الأراضي، فعملوا على توسيع نطاق الأراضي الزراعية، وبخاصة تجاه بداية الشام، عن طريق استصلاحها وتأمين المياه، ووسائل الري لها[29]، حتى أن قصور الأمويين في الصحراء كانت مراكز مهمة للاستثمار الزراعي حيث أقيمت حولها منشآت الري، من قنوات وصهاريج، ومجاري وتوسعوا بذلك في استصلاح الأراضي بواسطة توفير الري لها[30]، وكان الخليفة معاوية بن أبي سفيان يبدي اهتماماً كبيراً بتنمية الزراعة ورفع مستوى إنتاجها، فكان يولي عنايته لتطوير وسائل الري، وإخصاب الأراضي عن طريق الاستعانة بأصحاب الخبرة والاختصاص من السكان المحليين[31]، كما أن يزيد بن معاوية كان يلقب بالمهندس نظراً لخبرته الهامة في الشؤون الزراعية، وإبداء اهتمامه بإصلاح أنظمة الري والعناية بها، فقد أمر بحفر قناة سميت باسمه بنهر يزيد، وكانت هذه القناة في الأساس رافداً صغيراً بالكاد يروي ضيعتين بالغوطة، فقام يزيد بتوسيعها وتعميقها حتى أصبحت بعرض ستة أشبار، وبعمق ستة أشبار كذلك، الأمر الذي أدى إلى زيادة تدفق المياه وغزارتها، بحيث أصبحت تكفي لري أراضي واسعة في الغوطة[32] ، وبذلك أتيح المجال أمام المزارعين للقيام باستصلاح بعض أراضيهم المتروكة والعمل على استغلالها[33]، وكانت غالبية الأراضي في بلاد الشام تعتمد في ريها على مياه الأمطار التي تتساقط عليها خلال الفترة الممتدة بين تشرين الأول ونيسان، إلا أن أراضي واسعة[34] كانت تروي سيحاً، أي من المياه الجارية على سطح الأرض حيث تأتي من مياه بعض الأنهار ومن مياه العيون في الجداول والقنوات وكذلك فإن قسماً آخر من الأراضي كانت تروى بواسطة الآلات التي ترفع المياه من منخفضات بعض الأنهر إلى سواقي أعلى لري الأراضي التي يعلو مستواها عن مجاري الأنهر، أو التي ترفع المياه من الآبار والخزانات[35]، وتعتبر مياه العيون مهمة في ري المزروعات، حيث كانت تروي قسماً كبيراً من الأراضي في أنحاء الشام[36]وكانت الغلات والمزروعات المتوفرة، القمح والشعير والرز والزيتون، والنخيل والعنب والتين والفواكه والقطن، وقصب السكر، والبقول، والسمسم، والرياحين، وغير ذلك[37]. |
رابعاً : اهتمام الدولة بالتجارة الداخلية والخارجية :
يتوسط موقع الدولة الأموية بين دول الشرق الأقصى من ناحية مثل الصين والهند ونحوهما وبين الدولة البيزنطية من ناحية أخرى، ومعنى ذلك بالضرورة وطبقاً لمعايير ذلك العصر ـ أن أهم علاقاتها التجارية ارتبطت بهاتين الدولتين[1]، وبعد تولي معاوية الخلافة استقرت الأمور وبدأت حركة التجارة الداخلية تزدهر كما كانت عليه قبل ذلك، واهتم معاوية بمصالح التجار وعمل على توسيع نطاق التجارة، وتميز أهل الشام في حرفة التجارة وفتحوا علاقات تجارية مع غربي أوربا واستفادوا من الأسطول الإسلامي ومن بين العوامل التي ساعدت على نشاط حركة التجارة الثراء العريض الذي نعمت به طبقة الحكم وحاشيتهم، حيث نمّا في نفوسهم حب البذخ والرفاهية، وبالتالي توفر عندهم الميل والحاجة إلى اقتناء المنتوجات الكمالية، فأقبلوا على شراء السلع التجارية الباهظة الثمن، مما زاد في فعالية التجار وازدهار التجارة[2]، وكان الأمويون يقومون بدور كبير في عالم التجارة وخصوصاً أن الخليفة معاوية رضي الله عنه والده كان من كبار تجار قريش، كما أن معاوية نفسه لما كان والياً في عهد عثمان بن عفان على بلاد الشام كان يرسل بقوافله التجارية من الشام إلى حاضرة الجزيرة العربية[3]، وكان التجار يحتلون مكانة اجتماعية عالية في العصر الأموي وكانوا يقومون بتأسيس الشركات في سبيل زيادة فعالية التجارة، حيث كانوا يساهمون في الشركة بتقديم المال وممارسة العمل كذلك، أو بواحد منهما، فإذا أقدم صاحب المال على تقديم ماله لآخر ليتاجر به لقاء حصة من الربح يتفق عليها، فيسمى ذلك الاتفاق بالمضاربة[4]. وقد ازدهرت شركات المضاربة وأصبحت وسيلة مهمة في مجال العمل التجاري[5]، وكانت تجارة الأسواق المحلية مليئة بالحركة والنشاط، وقد أصبحت عاصمة الدولة دمشق مركزاً تجارياً مهماً يعود إلى الظروف السياسية الجديدة التي نشأت، فغيرت من سبل واتجاهات حركة التجارة عما كانت عليه سابقاً في العصر البيزنطي، حيث أصبحت دمشق عاصمة للخلافة الأموية، ومحط للتجارة الشرقية[6]، وبالتالي مركزاً لتوزيع البضائع إلى الجهات المختلفة، بعد أن كانت القوافل المحملة بالبضائع الشرقية تتجه مباشرة إلى إنطاكية على ساحل الشام الشمالي، وهكذا كان لأهمية تجارة دمشق التي تتكدّس في أسواقها البضائع المتنوعة، المنتجة محلياً والمستوردة أن قال ياقوت بأنه يستحيل أن يطلب شيء في الأسواق دمشق غير موجود، حتى إن السلع الغالية الثمن التي تستورد من جميع أنحاء العالم المتمدن موجودة فيها[7]. ثم إن دمشق كانت بحكم موقعها الجغرافي المتاخم للبادية المركز التجاري الهام الذي يقصده البدو والمقيمين في الصحراء[8]، وقد اشتهرت مدن الشام كحلب والرصافة، وحمص، والرملة والقدس وإنطاكية بأهميتها التجارية، ونشاط أسواقها[9] وكانت عاصمة الشام، محط رحال القوافل التجارية الآتية من الشرق، ولا شك أن الكوفة والبصرة والموصل، ومدن الحجاز، ونجد وغيرها قد ازدهرت حركة التجارة فيها أيضاً إلا أن مدن الشام كانت تزدهر فيها التجارة أكثر من غيرها، حيث أنها تعتبر مراكز تجارية كبرى وأسواقاً هامة، كما أن الأسواق الموسمية التي كانت تقام في بعض المدن، تعرض فيها البضائع المتنوعة بكثرة، كانت توفر مجالاً أوسع لتأمين كافة متطلبات واحتياجات سكان المدن والقرى كذلك، بالإضافة إلى أن هذه الأسواق كانت مناسبة هامة للتجار الذين يأتون إليها من أماكن مختلفة تستفيد من كل ذلك. وقد كان من هذه الأسواق التي كانت قائمة في العصر البيزنطي واستمر قيامها في العصر الأموي سوق بصري الذي كانت تطول مدة إقامته، حيث كان يستمر من ثلاثين إلى أربعين يوماً وكذلك فقد كان هناك سوق أذرعات الذي استمر قيامه حتى ما بعد العصر الأموي[10]. وأما بالنسبة للتجارة الخارجية في عهد معاوية رضي الله عنه وابنه، فقد ازدهرت التجارة مع الدولة البيزنطية، وازدادت نمواً وقوة، وقد ساهمت عدة عوامل في هذا الازدهار منها : 1 ـ كثرة الاضطرابات والحروب في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية، مما خفض من حجم المبادلات التجارية بينها وبين دول المشرق ولو بشكل جزئي، وبالتالي زيادة حجم المبادلات التجارية مع دولة بيزنطة بالغرب. 2 ـ الاستقرار الأمني من الدولة الأموية، دفع بكثير من رؤوس الأموال للهجرة من مناطق التوتر في الشرق إلى إقليم الشام، بحثاً عن فرص استثمار تجارية آمنة. 3 ـ الاعتماد الكلي لكل من الدولتين على الأخرى في مجال هام وحيوي بالنسبة لها، فكما كانت الدولة البيزنطية تعتمد كلياً على أوراق البردي، كانت الدولة الأموية تعتمد كلياً في حجم النقد الذهبي داخلها على ما يردها من الدولة البيزنطية. ومن العلامات التي تدل على ازدهار التجارة بين الطرفين في عهد معاوية ومن بعده ما يلي: أ ـ كمية الدنانير الذهبية البيزنطية التي كانت موجودة في داخل الدولة الأموية تتم بها عمليات التداول الداخلية . ب ـ استمرار مصانع إنتاج البردي في مصر في إنتاجه على النهج البيزنطي للتصدير حتى عهد عبد الملك بن مروان[11]. خامساً : الحرف والصناعات : تأثرت الحرف والصناعات في العصر الأموي بالبيئة الاقتصادية المحيطة بها، كما تأثرت الصناعات والحرف بطبيعة الاقتصادي الأموي، حيث كان النشاط الزراعي هو النشاط الرئيسي فيه، فظهرت وتطورت صناعات تعتمد في موادها الخام على القطاع الزراعي، مثل صناعة النسيج وصناعة المعاصر والمطاحن، كما واكبت الصناعة حركة التطور العمراني بالدولة الأموية، فظهرت وتطورت صناعة مستلزمات البناء، إضافة إلى تأثر الصناعة بالجو العسكري السائد في معظم فترات العصر الأموي، حيث تطورت صناعة السفن التجارية[12]، وقد اهتمت الدولة الأموية ببناء أسطول حربي، ليقف في وجه الأسطول الحربي البحري البيزنطي، والذي كان يهدد سلامة الشواطئ الغربية للدولة الإسلامية، فتطورت صناعة السفن الحربية في العصر الأموي بشكل كبير ومتلاحق، فقد كان الإنتاج في بداية العصر الأموي مقتصراً على السفن، التي كانت تنفرد مصر بصنعها حتى عام 49هـ، حيث أمر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، بإنشاء دار لصناعة السفن بالشام بمدينة عكا، وقد استقدم من مصر الخبراء للاستفادة منهم في دار الصناعة الجديدة، والتي تميزت بسهولة حصولها على الأخشاب من جبال لبنان[13]. ثم تطورت هذه الصناعة، فأنشأت في مصر منطقة صناعية جديدة، خاصة بصناعة السفن الحربية، وذلك عام (54هـ)[14]واستمرت الدولة الأموية في تطوير صناعة السفن فيما بعد عهد معاوية رضي الله عنه وقد أصبحت مناطق دور صناعة السفن الحربية مناطق جذب سكاني، كما أصبحت مناطق جذب وتوطن صناعي، فأصبحت أماكن استثمار خصبة، حيث أنشأت فيها الفنادق، والمطاحن، ونحوها من الأنشطة الأخرى وساعد على نمو وتطور هذه الصناعة، ما اتسمت به منذ بداية نشأتها، من دقة التنظيم، ومن صورة هذه الدقة ابتكار وظيفة المشرف العام على دار الصناعة ويسمى متولي الصناعة، ومن أبرز مهامه جمع الطاقات البشرية الفنية العاملة في هذا المجال من نجارين وحدادين وعمال ونحوهما، سواء من الأقاليم المجاورة للصناعة، أو من مختلف أقاليم الدولة، ومن مهامه أيضاً توفير الأدوات الخام، مثل الأخشاب والمسامير وغيره من مستلزمات دار الصناعة، وعليه يمكن القول أن التنظيم كعنصر من عناصر الإنتاج في العصر الحديث ترجع جذوره إلى القطاع العام الصناعي في العصر الأموي، أو ((متولي الصناعة))، ومن صور دقة تنظيم هذه الصناعة، الاهتمام بتحديد أجور العمال، وتوفير الكميات الغذائية اللازمة لهم، كما حرصت الدولة على توفير سبل الراحة للعاملين في هذه الصناعة، وكان من بين ذلك رفعها كل ظلم يقع على العامل، وتوفير وحدات سكنية للعمال، والمشرفين على هذه الصناعة بداخل دور الصناعة، وكذا وحدات لتموين السفن الحربية بالسرعة والدقة المطلوبة[15]، ونتج عن ذلك كله تطور هائل في حجم الأسطول البحري إبان العهد الأموي[16]: لقد كانت الدولة البيزنطية متفوقة على الدولة الإسلامية الأموية في ميادين البحر، فاتخذ معاوية الوسائل المناسبة لإضعافها ثم القضاء عليها فيما بعد وفي هذا الفقه درس عظيم لقادة الأمة في معرفة عوامل قوة العدو، وجوانب تفوقه ثم السعي للوصول لنقطة تساوي ثم تفوق على الخصوم، سواء في الميادين العسكرية، أو السياسية، أو الاقتصادية أو الإعلامية، ومما نلاحظه الآن القوى العسكرية الهائلة التي تميز بها عدونا سواء على مستوى السلاح الجوي أو النووي والذري، فواجب على الأمة أن تسعى لإيجاد حلول حتى تستطيع أن تقاوم أعداءها وعلى علماء الأمة ومفكريها ألا يخضعوا للضغوط النفسية والسياسية والإعلامية التي يمارسها الأعداء علينا، وعليهم أن يبينوا أحكام الله في امتلاك لما يسمى بأسلحة الدمار الشامل. إن استمرار الأعداء في امتلاك الأسلحة الرادعة والتي لها قدرة بإذن الله على حسم المعارك العسكرية، جعلهم يتجبرون ويتغطرسون ويعملون على إفساد عقائدنا وثقافتنا وديننا، ويستولون على خيراتنا وثرواتنا وديننا يوجب علينا أن نعد لأعدائنا ما استطعنا من قوة، فلذلك وجب علينا أن نسعى لامتلاك الأسلحة الرادعة لكي نحمي بها أمننا وديننا ونقيم العدل وندفع الظلم عن البشرية. ومن الصناعات التي اشتهرت في العهد الأموي، صناعة السفن التجارية، ولم تكن السفن الحربية تختلف كثيراً عن السفن التجارية، ومع ذلك كانت مناطق تصنيعها مختلفة، فقد اختصت منطقة البحرين أكثر من غيرها بإنتاج السفن التجارية، في حين كانت مصر، وعكا، وتونس مواطن تصنيع السفن الحربية، وساعد البحرين على ذلك وقوعها على الخليج العربي، والذي كان يعد من أهم طرق المواصلات التجارية البحرية بين الشرق والغرب وكذا ما اكتسبه أهلها من خبرة ملاحية نتيجة احتكاكهم بشعوب لديها خبرات ملاحية كشعوب الهند، والصين[17]. ولم تقتصر صناعة السفن على البحرين، بل امتدت إلى مدينة واسط بالعراق وقد تطورت هذه الصناعة في عهد ولاية الحجاج بصفة خاصة[18]، فقد أدخل تحسينات على صناعة السفن التجارية لتستطيع السير في عرض البحر، فأمر بتكبير حجمها، واستخدام المسامير لتقويتها، والاهتمام بهيكلها العظمي[19]، وكانت السفن التي تصنع في واسط تسمى الواسطية، وكانت تنتج مدينة واسط القوارب الصغيرة، والتي كانت تستخدم للنزهة والسفر ونقل السلع التجارية بين واسط والبصرة لضحالة الطريق النهري بينهما وعدم قدرة السفن على السير فيه[20]، ولم تكن مراكز إنتاج السفن الشرقية بالدولة الأموية متخصصة في إنتاج السفن التجارية فقط وإن كان هو الغالب عليها، بل كان لديها القدرة المزدوجة، فقد قام الحجاج أيضاً ببناء قوة عسكرية بحرية بالخليج العربي وبحر الهند[21]. |
سادسا : شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية :
أثار بعض المؤرخين شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية رضي الله عنه، وذكروا عدة مصارف وسموها بأنها جائرة وغير شرعية منها: 1 ـ التفريط في خراج بعض الأقاليم والتفرقة في العطاء: أ ـ إعطاء مصر طعمة لعمرو بن العاص: تتعدد الروايات التي تنص على أن معاوية أعطى مصر طعمة لعمرو بن العاص لقاء تأييد الأخير له في حربه ضد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجل هذه الأخبار تحوي روحاً عدائية لعمرو ومعاوية وتصور اتفاقهما على حرب علي كما لو كانت مؤامرة دَنيئة أو صفقة مريبة، خان فيها الرجلان ربهما ودينهما، وتاريخهما مقابل عرض زائل أو نصر سريع، وكأنه من المستحيل أن يبذل ابن العاص نصره لقضية اجتمع حولها آلاف الرجال في الشام وغيرها ـ وهي الطلب بدم عثمان ـ إلا إذ نال ولاية مصر وخراجها لنفسه، وبعض هذه الروايات تحوي سباباً لهذين الصحابيين، كأن تزعم أن عمرو فضل ولاية مصر على حسنى الآخرة وصرح بذلك فقال: إنما أردنا هذه الدنيا[1]، أو أنه قال لمعاوية: لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك[2]، أو قوله: إنما أبايعك بها ديني ((أي بمصر[3]، أو قوله لمعاوية: ولولا مصر وولايتها لركبت المنجاة منها، فإني أُعلم أن علي بن أبي طالب على الحق وأنت على ضده[4]، إلى غير ذلك من الروايات[5]، وهكذا روايات باطلة وموضوعة عند المسعودي وكتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة وغيرها تمسخ عمرو بن العاص إلى رجل مصالح، وصاحب مطامع وراغب دنيا، وقد تأثر بالروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة مجموعة من الكتّاب والمؤرَّخين، فأهووا بعمرو إلى الحضيض، كالذي كتبه محمود شيت خطاب[6]وعبد الخالق سيِّد أبو رابية[7]، وعباس محمود العقَّاد الذي يتعالى عن النَّظر في الإسناد، ويستخفُّ بقارئه، ويظهر له صورة معاوية وعمرو رضي الله عنهما بأنَّهما: انتهازيَّان، صاحبا مصالح، ولو أجمع الناَّقدون التاريخيون على بطلان الرِّوايات التي استند إليها في تحليله فهذا لا يعني للعقَّاد شيئاً، فقد قال بعد أن ذكر روايات ضعيفة، واهية، لا تقوم بها حجة:... وليقل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار، وصحَّة هذه الكلمات، وما ثبت نقلة، ولم يثبت منه سنده، ولا نصُّه فالذي لا ريب فيه، ولو أجمعت التواريخ قاطبة على نقضه: أن الاتفاق بين الرجلين، كان اتفاق مساومة، ومعاونة على الملك، والولاية، وأن المساومة بينهما كانت على النصَّيب الذي آل على كلِّ منهما، ولولاه لما كان بينهما اتفاق[8]. وهناك عدة دلائل ترد على الروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة التي لاقت رواجاً واستقرار في تشويه عمرو بن العاص ومعاوية بالظلم والبهتان منها ما عرف من صحة إسلام وتقوى معاوية وعمرو، وتاريخهما المضيء في خدمة دين الله منذ أسلما[9]، ففي معاوية يكفي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: اللهم اجعله هادياً مهدياً، واهد به[10]، وقوله صلى الله عليه وسلم اللّهمّ علِّم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب[11]، وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه فقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان حيث قال: أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص[12] وفي حديث آخر قال: ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام[13]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :.. وصدق عمرو، إن لعمرو عند الله لخيراً كثيراً[14]. ـ كانت بيعة عمرو لمعاوية في عهد علي على الطلب بدم عثمان، فقد كان تأثر عمرو بمقتل عثمان عظيماً، فعندما سمع خبر مقتل عثمان... ارتحل راجلاً يبكي، ويقول: يا عثماناه: أنعي الحياء والدين... حتَّى قدم دمشق[15]، فقد كان من أقرب أصحابه، وخلانه، ومستشاريه، وكان يدخل في الشُّورى ـ في عهد عثمان ـ من غير ولاية، ومضى إلى معاوية رضي الله عنهما ليتعاونا معاً على الاقتصاص من قتلة عثمان والثأر للخليفة الشهيد[16]، لقد كان مقتل عثمان كافياً لأن يحرِّك كلَّ غضبه على أولئك المجرمين السَّفَّاكين، وكان لابدَّ من اختيار مكان غير المدينة للثأر من هؤلاء الذين تجرَّؤوا على حرم رسول الله، وقتلوا خليفته على أعين النَّاس، وأيُّ غرابة أن يغضب عمرو لعثمان؟ وإن كان هناك من يشك في هذا الموضوع، فمداره على الرِّوايات المكذوبة التي تصوِّر عمراً: كلُّ همه السُّلطة والحكم[17]. ـ ومن الدلائل على بطلان فرية إعطاء مصر طعمة لعمرو بن العاص ، ما ذكره أبو مخنف أحد رواة الفرية السابقة، أن دفع معاوية جيشه إلى فتح مصر وأخذها من يد أنصار علي بن أبي طالب سنة 38هـ ـ وكان عمرو قائده في هذه الحملة ـ أنه كان: يرجو أن يكون إذا ظهر عليها ظهر على حرب علي لعظم خراجها[18]... فكيف يهب معاوية ذلك الخراج كله لعمرو وهو في مسيس الحاجة إليه؟ ـ ومن الدلائل أيضاً: أن معاوية كتب بعد استخلافه إلى عامله على خراج مصر ـ وردان ـ أن زد على كل امرئ من القبط قيراطاً، فرد عليه: كيف وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم[19]؟ ولم يل وردان خراج مصر لمعاوية إلا في ولاية عمرو بن العاص لأن من ولوا مصر بعد موت عمرو ـ وهم عتبة بن أبي سفيان وعقبة بن عامر ومسلمة بن خالد ـ كانوا يتولون صلاتها وخراجها، وهذه الرواية صريحة قاطعة في الدلالة على اهتمام معاوية بزيادة حصيلة الخراج في مصر، وفي ولاية عمرو بن العاص عليها، وهذا الاهتمام لا معنى له إلا إذا كان فائض الخراج في مصر يحمل إلى معاوية في دمشق ليواجه به وجوه الإنفاق المتنوعة[20]. كما أن معاوية لم يكن يستحل أن يتنازل عن خراج مصر ـ وهي من أغنى أقاليم الدولة الإسلامية آنذاك ـ لفرد واحد وهو يعلم أنه حق الأمة كلها، وأنه لا يملك التنازل عنه، وقد روى ابن تيمية عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: إن في بيت مالكم فضلاً بعد أعطياتكم وإني قاسمه بينكم، فإن كان يأتينا فضل عاماً قابلاً قسمناه عليكم، وإلا فلا عتبة علي، فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاءه عليكم[21]، وإذا أضفنا إلى ذلك ما نعرفه من تنافس الأمصار الإسلامية مع بعضها، ووجود معارضة للأمويين في مصر كانت حديثة العهد منذ تبعية مصر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى ـ دخلها ـ عمرو بن العاص سنة 38هـ، لازددنا يقيناً أن أهلها لم يكونوا يقبلون ما يزعمه الرواة حول إعطائها طعمة لابن العاص وعلى ذات السبيل نذكر أن من رجال مصر من بذل في سبيل نصرة معاوية مثلما بذل عمرو بن العاص، إن لم يفقه، كمعاوية بن حديج وأصحابه من العثمانية، وهؤلاء لا يقبلون بحال أن يمتاز عمرو عليهم كل هذا الامتياز، قد مر بنا فيما مضى أن معاوية بن حديج هذا قد أرجع ابن أخت معاوية ـ عبد الرحمن بن أم الحكم ـ الذي ولاه معاوية مصر، من قبل أن يدخلها، ورفض أن يتولى إمارتهم ورده إلى الشام على نحو غير كريم، فما استطاع معاوية أن يغضب بن حديج[22]. ب ـ التنازل عن خراج ((دارابجرد)) للحسن بن علي: زعم بعض المؤرخون أن معاوية تنازل للحسن بن علي رضي الله عنهما عن خراج ((دارابجرد)) وأن يعطيه مما في بيت مال الكوفة مبلغ خمسة آلاف ألف درهم مقابل تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية، وأن الحسن قد أخذ ما في بيت مال الكوفة ولكنه لم يستطع الحصول على خراج ((دارابجرد)) إذ إن أهل البصرة قد منعوه منه، ويزعمون أن ذلك كان بتحريض معاوية أو بمبادرة من البصريين على أن هذه الرواية تغض من شأن الحسن ومعاوية معاً وتجعلهما في موقف التواطؤ على أكل أموال المسلمين بالباطل[23]وهذا باطل ولا يصح والصحيح مثبت في البخاري بأن الحسن قال لوفد معاوية عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال.. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به[24]، فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب، يريد الحسن أن لا يطالبهم معاوية، ولا ذكر لأموال يطلب من معاوية أن يدفعها إليه قادم[25]، وذكر ابن أعثم أن الحسن قال: أما المال فليس لمعاوية أن يشترط لي فيء المسلمين[26]، والمعلوم أن جباية الخراج من مهام الدولة، ولا علاقة مباشرة بين الحسن وأهل البصرة في هذا الجانب، ولكن الرواية أشارت إلى أن خراج دار بجرد لم يكن في الأموال التي صيرت إلى الحسن[27]، ورُوي أن الحسن قال لمعاوية: إن عليَّ عِدَّات ودُيوناً، فأطلق له من بيت المال نحو أربعمائة ألف أو أكثر[28]، وذكر ابن عساكر: يُسلَّم له بيت المال فيقضي منه ديونه ومواعيده التي عليه، ويتحمل منه هو ومن معه عيال أهل أبيه وولده وأهل بيته[29]، وذهب بعض المؤرخين إلى أن إبقاءه ما في بيت المال معه (خمسة ملايين درهم)، استبقاه لأولئك المحاربين الذين كانوا معه، يوزِّعه بينهم، ويبقى لمعيشته له ولأهل بيته ولأصحابه[30]. ولا شك أن توزيع الأموال على بعض الجنود يساعد في تخفيف شدة التوتر . إن الذي جاء في رواية البخاري هو الذي أميل إليه فالأمر لا يكون تجاوز طلب العفو عن الأموال التي أصابها الحسن وآله في الأيام الخالية. وأما الروايات التي تشير بأن يجري معاوية للحسن كل عام مليون درهم وأن يحمل إلى أخيه الحسين مليوني درهم في كل عام ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس[31]، وكأن الحسن باع الخلافة لمعاوية، فهذه الروايات وما قيل حولها من تحليل وتفسير لا تقبل ولا يعتمد عليها، لأنها تصور إحساس الحسن بمصالح الأمة يبدو ضعيفاً أمام مصالحه الخاصة[32]. وأما حقه في العطاء فليس الحسن فيه بواحد من دون المسلمين، ولا يمنع أن يكون حظه منه أكثر من غيره، ولكنه لا يصل إلى عشرة معشار ما ذكرته الروايات[33]. جـ ـ التفرقة في العطاء: أول من سن ديوان العطاء في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أما قبل ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت غنائم الحرب توزع على المسلمين فور إنتهاء المعارك[34]، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين، وكان شيئاً كثيراً[35]، فتقرر بذلك أن تفضيل بعض الناس في توزيع الغنائم أمر مباح وقد يكون مستحباً إذا اقتضت مصلحة المسلمين ذلك[36]، وإن كان ذلك يزيد في غنائمهم عن بقية المسلمين، ثم كثرت بعد ذلك الغنائم المجلوبة إلى حاضرة المسلمين نتيجة اتساع نطاق الغزو زمن عمر بن الخطاب فاستشار أصحابه وانتهى أمره إلى تدوين ديوان العطاء ليكفل توزيعه على نحو معروف، وفضل أصحاب السابقة والقرابة من النبي صلى الله عليه وسلم على من عداهم[37]،.. ولما جاء الأمويون فضلوا أهل الشام على من عداهم، فقد كانوا أنصارهم المخلصين، وهم عماد الجيوش المجاهدة سواء في الشمال في جهاد الروم أو في الغرب في فتوح إفريقية والأندلس، وهم المحافظون على سلامة الدولة وقمع مخالفيها، وكم استنجد بهم ولاة الأمصار حين خرج عليهم خارجون وعجز جند المصر في الدفاع عن أنفسهم ونظامهم كما حدث في قتال ابن الأشعث[38]، ومواجهة ثورة يزيد بن المهلب زمن يزيد بن عبد الملك[39]، وكما حدث في انتقاض البربر الخوارج بإفريقية في عهد هشام[40]. |
2 ـ التوسع في إنفاق الأموال لتأليف القلوب واكتساب الأنصار:
أنفق معاوية رضي الله عنه أموال كبيرة ليتألف بها قلوب الزعماء والأشراف ويوطد أركان الدولة الإسلامية التي قامت بعد فترات من الصراع والتطاحن، فقد رأى معاوية رضي الله عنه أن إراقة بعض المال خير من إراقة كثير من دماء المسلمين.. فأعطى هؤلاء الرجال المال يستميل به قلوبهم، قلوب أتباعهم وأنصارهم، ويعلي به مكانتهم ويسد خلة من وراءهم، ولعله قد فهم من إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم بعد فتح مكة ليستميلهم نحو الدين ويسيل سخائم نفوسهم، أنه يجوز أن يعطي أمثال هؤلاء الرجال ليتألف قلوبهم ويضمن ولاءهم، والولاء للدين والدولة يختلطان في فهم معاوية وبني أمية حيث قامت دولتهم فيما اعتقدوا لنصرة الدين وجمع شمل أهله[1]، وأخيراً فإن كان معاوية مخطئاً في ذلك فما القول في هؤلاء السادة الذين قبلوا عطاياه وجوائزه وفيهم من اشتهر بالتقوى والورع والخوف من الله تعالى؟ إن من الحق أن نقول إن المجتمع الإسلامي في ذلك العهد كان يشهد تغيراً كبيراً عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين حتى صارت بعض فعالياته السياسية ترى أن من حقها التميز في العطاء[2]. 3 ـ مظاهر النزف عند الأمويين: هذا ويحتل الحديث عن ترف الأمويين وبذخهم مكانة واسعة عند مؤرخينا، والحق أنه كان عندهم لون من ألوان البذخ في سكناهم وفي لباسهم وفي عطائهم ونفقاتهم، وقد لفت معاوية نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنهم إليه وهو بعد أحد ولاة الشام، يغدو في موكب ويروح في آخر، ولكن من الحق أيضاً ألا ننظر إلى حياة الأمويين بمعزل عن حياة المجتمع العربي والإسلامي آنذاك، فهي جزء منه، تتأثر به، كما تؤثر فيه، وفي ذلك العصر كان التطور الاجتماعي يتلاحق، ومظاهر الغنى وانثيال الأموال والرغبة في التمتع الحلال به تصبح أمراً ظاهراً يدفع الذوق العام والقيم الاجتماعية الحاكمة آنذاك إلى مزيد من التفتح والاتساع.. وأن هذه السمة الظاهرة لا تنفيها ورود أخبار مؤكدة في زهد معاوية ورقة ثيابه[3]، أو زهد عامله زياد ولباسه المرقوع[4]، فلا تناقض بين هذه الروايات وما عرف من التلبس بمظاهر الملك، بل هي دليل على نفوس عالية لا ترى الزهادة نقصاً ولا ترى التنعم حراماً[5]، وهكذا إذا نظرنا نظرة شاملة في وجوه الإنفاق المالي في ذلك العصر لا نجد مظاهر الترف والبذخ قصراً على بني أمية، خلفائهم وولاتهم، فبعض بني هاشم وبني الزبير وغيرهم من معارضي الأمويين لم يكونوا أقل سماحة بالمال من بني أمية ولا أكثر حرصاً عليه[6]، وإذا كان بنو أمية قد ابتنوا القصور فقد بنى رجال من أشراف العرب قصوراً كان لها ذكر وبهاء وكان العرب يعدون ذلك كرماً، ويتفاخرون به، ويتوقعون مثله من كل شريف من أشرافهم وإن لم يكن حاكماً[7]، والترف في المجتمعات الإسلامية ظاهرة سلبية لها ما بعدها، إن بحبحة الأمويين في الإنفاقات المالية أدت إلى ظهور الترف ثم تعمق وتجذر في الأمة حتى أصبح ترفاً مدمراً، ظهرت معالمه وآثاره في سقوط بلاد الشام في الصليبيين ثم سقوط بغداد في يد المغول وزوال الدولة العباسية، لذلك يكره الإسلام الترف ويحذر منه أشد التحذير: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) (الإسراء ، الآية : 16). إنه كالحمض الأكال الذي ينخر في جسم المادة فيذهب بصلابتها، فتصبح هشة سهلة القصف، أو تصبح لينة لا قوام لها في الصدام، وقد كانت وفرة المال في أيدي الناس هي الباب المؤدي إلى الترف بطبيعة الحال ـ ولكن هذا ـ يفسر ولا يبرر، فإنه لا يوجد تبرير لمعصية الله، وقد جاء المال بوفرة نسبية على أيام عمر رضي الله عنه ولكنه تصرف بشأنه بمنع الفساد، فمنع الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ من الخروج من المدينة ـ للضياع والتجارة ـ حتى لا تتكون منهم طبقة تملك المال في أيديها وتملك السلطان ((الأدبي)) على الناس، فيحدث التميز وتفسد الأحوال، فضلاً عن احتمال إصابتهم هم أنفسهم بالترف وهم هيئة المشورة إلى جانب الخليفة، فتفسد مشورتهم حين تترهل نفوسهم ـ وإلى جانب ذلك ـ وقبل ذلك، أخذ عمر رضي الله عنه نفسه وأهل بيته بالشدة الحازمة، حتى لا يكونوا قدوة سيئة أمام الناس، فيفسد الناس، أما حين يترك المال بدون تصرف معين من ولي الأمر، يسمح بالنفع ويمنع الضرر، فإنه لا بد أن يؤدي إلى نتائجه المحتومة حسب السنة الإلهية، لا لأن المال في ذاته هكذا يضع، ولكن لأن الجهد البشري المطلوب لإصلاح الآفة لم يبذل فتنفرد الآفة وحدها بالسلطان، وآفة المال الترف، وعلاجها في يد ولي الأمر... بنشر روح الجد في المجتمع وبإعطاء القدوة من نفسه لبقية الناس. أما حين يترك في أيدي الناس بلا ضابط ـ مع وجود فئة تعمل جاهدة في إفساد أخلاق المجتمع وروحه كما فعل الفرس، فالنتيجة هي ما قررته السنة الربانية التي جاء بيانها في كتاب الله: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (الروم ، الآية : 41). والترف مُعْد ككل آفة.. فحين لا يعالج، ولا يوقف فإنه ينتشر ولا بد.. وحين يكون مبتدؤه في قصور الخلافة فأمهر أسوأ، لأن الحكام دائماً قدوة، وقد كان الأمويون ـ برغم وجود الترف بينهم ـ أقل فساداً بالمال من العباسيين، لأنهم كانوا أكثر انشغالاً بتثبيت دولتهم من ناحية، وبالجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى، فأما العباسيون فبعد أن استتب لهم الملك أخذ الترف يسري بينهم سريعاً، خاصة بفعل الحاشية الفارسية المفسدة المتعمدة للفساد ومن قصور الخلافة انتقل الترف بالعدوى إلى قصور الأمراء والوزراء، ثم قصور التجار الذين وصل دخلهم في التجارة العالمية إلى ملايين الدنانير، وشيئاً فشيئاً غلب الفساد على عاصمة الخلافة بغداد ثم العواصم الإسلامية الأخرى[8]. |
المبحث السادس : القضاء في عهد معاوية رضي الله عنه والدولة الأموية :
يعتبر القضاء في العهد الأموي من الدرجة الثالثة بعد القضاء في العهد النبوي والقضاء في العهد الراشدي، لأن العصر الأموي كان زاهياً وفيه كثير من آثار العهد الراشدي، وكانت كثير من الأعمال امتداداً للعهد الراشدي، وخاصة في جانب الفتوحات الإسلامية، وانتشار الدعوة في المشارق والمغارب ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وازدهار الحضارة الإسلامية[1]. أولاً : صلة العهد الأموي بالعهد الراشدي : كان العهد الأموي وخصوصاًَ عهد معاوية امتداداً للعهد الراشدي في عدة جوانب، فبقي كثير من الصحابة إلى العهد الأموي، وشاركهم في العلم والفقه والقضاء وغيرها كبار التابعين، ثم صغار التابعين، كما بقي بعض قضاة العهد الراشدي يمارسون القضاء في العهد الأموي، وبعدهم طال قضاؤهم كشريح بن الحارث رحمه الله، وبقيت في العهد الأموي آثار التربية الدينية وسمو العقيدة، وآثار الإيمان، والالتزام بأهداب الدين، والتقيد بالأحكام الشرعية، وظهر في العهد الأموي عدد كبير من المجتهدين الذين كانوا صلة الوصل بين الصحابة والمذاهب الفقهية، وكان العلماء والمجتهدون في العهد الأموي أساتذة لأئمة المذاهب التي ظهرت في العهد العباسي، وكان لهذه الصورة الفقهية الزاهية أثرها الكبير والمحمود على حسن سير القضاء والعدالة في العهد الأموي، وزهر التوسع بالاجتهاد، كما بدأت حركة تدوين العلوم الإسلامية، والانفتاح على الحضارات الأخرى، وترجمة الثقافات والعلوم من الأمم المجاورة[2]. ثانياً : تخلي الخلفاء عن ممارسة القضاء، وفصل السلطات: كان الخلفاء الراشدون يتولون القضاء بأنفسهم، ويفصلون في القضايا والدعاوى والمنازعات، وصدرت عنهم أقضية كثيرة، وكان الولاة في الأمصار يتمتعون بنفس السلطات والصلاحيات الممنوحة للخليفة لأنهم نواب عنه، إلا إذا قيدت سلطتهم ومنعوا من القضاء، وعين معهم القضاة للفضل بين الناس، ومن هؤلاء الولاة معاوية بن أبي سفيان الذي بقي والياً على الشام عشرين سنة، وكان يتولى القضاء والحكم بنفسه[3]، ولما تولى معاوية الخلافة تخلى عن ممارسة القضاء، وعين القضاة في حاضرة الدولة الإسلامية بدمشق وفوَّض إليهم السلطة القضائية، وخولهم الصلاحيات الكاملة في الدعاوى، وسار ولاته في الأمصار على هذا النهج، وابتعد الولاة عن أعمال القضاء، وسار خلفاء بني أمية على هذه الخطة طوال العهد الأموي، سواء في عاصمة الدولة الأموية، أم في سائر الأمصار والمدن والولايات وانقطعت صلة خلفاء بني أمية عن القضاء الإسلامي إلا في ثلاثة أمور: 1 ـ تعيين القضاة مباشرة بالعاصمة دمشق. 2 ـ الإشراف على أعمال القضاة وأحكامهم، ومتابعة شؤونهم الخاصة في التعيين والعزل، والرزق، وحسن السيرة، ومراقبة الأحكام القضائية التي تصدر عنهم، للتأكد من مطابقتها للحق والعدل، والشرع والدين، والالتزام بالسلوك القضائي القويم. 3 ـ ممارسة قضاء المظالم، وقضاء الحسبة. وقد أولى خلفاء بني أمية أهمية خاصة ورعاية كاملة لقضاء المظالم حتى وقف على قدميه، وأصبح له جهاز كامل مستقل. ومن ذلك نرى أن القضاء في العهد الأموي كان مستقلاً عن أي سلطة أخرى حتى سلطة الخليفة أو الوالي الذي كانت سلطته تنتهي عند تولية القاضي أو عزله، دون أن يكون لهم تدخل في أعمال القاضي واجتهاده وحكمه، وما على الخلفاء والولاة إلا تنفيذ الأحكام التي يصدرها القضاة[4]. قال النُباهي: ولما أفضى الأمر إلى معاوية بن صخر جرى بجهده على سنن من تقدّمه من ملاحظة القضاة، وبقي الرسم على حذو ترتُّبه زماناً[5]. فقد كان معاوية رضي الله عنه أول خليفة امتنع من القضاء تماماً، ودفعه إلى غيره، فكان له قضاة في قاعدة ملكه، فضلاً عن قضاته في الأمصار[6]. ثالثاً : رزق القضاة : من المعلوم أن عمر بن الخطاب هو الذي فصل القضاء عن الولاية، وهو أول من رتب أرزاق القضاة، وأمَّا أمير المؤمنين علي وهو المعروف بالزهد والقناعة فقد قال لعامله على مصر في شأن القضاة:... وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس[7]، واستمر الحال على ذلك في العهد الأموي، فكانت تجري على القضاة أرزاقهم من بيت المال[8]، مع التوسع عليهم، واختلاف المقدار بحسب البلدان والظروف[9]، وروى الشعبي عن شريح أنه كان يأخذ على القضاء خمسمائة درهم كل شهر ويقول: استوفي لهم، وأوفيهم ويقول أيضاً: أجلس لهم على القضاء وأحبس نفسي ولا أرزق؟؟ ولما قدم عبد الملك بن مروان النخيلة سنة 72هـ، وسأل عن شريح، فعلم أنه امتنع عن القضاء في ـ عهده ـ ابن الزبير، فاستدعاه وقال له: وفقك الله، عُدْ إلى قضائك، فقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم، وثلاثمائة جريب، فأخذهما وقضى إلى سنة ثمان وسبعين[10]، وكان بعض القضاة لا يأخذون على القضاء أجراً ويحتسبون أجرهم عند الله تعالى في إقامة شرعه، منهم مسروق بن الأجدع القاضي والمفتي ت 63هـ وكان أعلم بالفتيا من شريح، وشريح أبصر منه في القضاء، وقالت امرأة مسروق: كان مسروق لا يأخذ على القضاء رزقاً، وقال القاسم: كان مسروق يقول: لأن أقضي يوماً فأقول فيه الحق أحب إلي من أن أرابط سنة في سبيل الله[11]. رابعاً : تسجيل الأحكام والإشهاد عليها : ظهر في العهد الأموي لأول مرة تسجيل الأحكام القضائية التي يصدرها القاضي في سجله، وديوان المحكمة ليرجع إليه القاضي عند الحاجة، وأول من سجل الأحكام سُليَم بن عنز التجيبي قاضي مصر في عهد معاوية، لما تخاصم إليه أشخاص في توزيع ميراث، فحكم بينهم، فغابوا مدة، واختلفوا وتناكروا وتجاحدوا الحكم، وعادوا يطلبون فصل الخلاف ثانية، فتذكر القاضي قصتهم، وكاشفهم بها، فاعترفوا، فأعادوا الحكم بينهم، وطلب من كاتبه أن يُسجل الأحكام القضائية وكتب لهم كتاباً بقضائه، وأشهد عليه[12]. وقال الكندي: فكان سليم أول القضاة بمصر سجّل سجلاً بقضائه[13] وكان سُليم ـ فيما وصل إلينا ـ أول من أشهد على الأحكام القضائية لتوثيقها، ومنع جحودها أو إنكارها، ثم توسع الأمر في العهد العباسي[14]. خامساً : أعوان القضاة : يحتاج القضاة عادة إلى أعوان يساعدونهم في حسن التقاضي وسير القضاء، منهم كاتب القاضي أو كاتب المحكمة، أو كاتب الضبط، وأول ما ظهر في العهد الراشدي[15] ثم شاع استعماله فيما بعد، وظهر أعوان جدد في العهد الأموي بحسب الحاجة، وتطور الحياة، واتساع أعمال القاضي، وكثرة الدعاوي، ونذكر أهمهم: 1 ـ المنادي : وهو الذي يجلس عند القاضي، لبيان مكانة القاضي، ومعرفته، والمناداة على الخصوم، وكان يطلق عليه ((الذي على رأس القاضي)) أو ((صاحب المجلس)) وأول ما ظهر ذلك في عهد شريح، قال وكيع: عن عمرو بن قيس الماضي، قال: رأيت رجلاً كان يقوم على رأس شريح، وكان إذا تقدم إليه خصمان، فيقول: أيكما المدعي فليتكلم))، وروى وكيع أيضاً ((كان شريح إذا جلس للقضاء لم يقم حتى: يُنادي: هل من خصم أو مستثبت؟ أو مستفت[16]؟ 2 ـ الحاجب : وهو الذي يقف على باب القاضي، ليحجب عنه الناس أثناء النظر في الدعاوي، ويرتب دخول المتداعين عليه عند تزاحمهم وتعددهم، وقد يكون الحاجب هو المنادي الذي يقف على رأس القاضي، ويقوم بالعملين معاً، وقد يكون هو نفسه الجلواز ((التابع للشرطي ، أو أحد الشرطة القضائية))، وقد يكلفه القاضي القيام ببعض الأعمال في المحكمة، أو أداء بعض المهمات خارجها[17]، وذكر وكيع أن إبراهيم النخعي كان جلواذاً للقاضي شريح[18]، وكان على رأس شريح شرطي بيده سوط[19]. 3 ـ الترجمان أو المترجم : اتخذ القضاة الترجمان لكثرة الشعوب غير العربية التي دخلت في الإسلام، وتعارفت هذه الشعوب واختلطت مع بعضها، تحقيقاً لقوله تعالى: ((وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)) (الحجرات ، الآية : ) فإذا حصل نزاع أو اختلاف، أو دعوى، استعان القاضي بالترجمان الثقة المقبول لينقل أقوال الخصوم له[20]. سادساً : المراقبة والمتابعة : إن تخلي الخلفاء والولاة عن ممارسة القضاء، والاقتصار على التعيين والعزل لم يمنع الخلفاء من مراقبة أعمال القضاة ومراجعة أحكامهم ومتابعة الدعاوة والأقضية التي تصدر عنهم، لأن الخليفة هو المسؤول عن القضاء، وجميع ما يخص الأمة والأفراد في سياسة الدين والدنيا، وتفويض القضاء للقضاة لا ينجي الخليفة من المسؤولية في الدنيا والآخرة، لذلك كان الخلفاء يراقبون أعمال القضاة، ويتابعون ما يصدر عنهم، فإن وجدوا فيه خللاً أو انحرافاً، أو تقصيراً، تصدوا للتقويم والتصحيح[21]، وهذا ما نقلناه سابقاً عن النباهي قال: ((ولما أفضى الأمر إلى معاوية بن صخر جرى بجهده على سنن من تقدَّمه من ملاحظة القضاة، وبقي الرسم حذو ترتبه زماناً[22]. سابعاً : مصادر الأحكام القضائية في العهد الأموي : اعتمد القضاة على المصادر نفسها التي جرى عليها القضاة في العهد الراشدي، وذلك بالالتزام بالكتاب والسنة، والإجماع، والسوابق القضائية والاجتهاد مع الاستشارة، وكان الالتزام بالقرآن والسنة هو الأساس، وهو ما تلتزم به الخلافة، وتتم عليه البيعة، وتطور الأمر في السوابق القضائية على الإشادة بقول الصحابة رضوان الله عليهم والتقيد غالباً بما صدر عنهم، لأنهم أقرب عهداً وصلة بمدرسة النبوة، ونزول الوحي، وخصوصاً أقضية الخلفاء الراشدين، كما بدأ يظهر في هذا العهد أثر العرف والعادة على أقضية الحكام، نظراً لاختلاف الأعراف والعادات في أصقاع الخلافة الأموية المترامية الأطراف، فكان القضاة ينظرون في الأقوال والدعاوى والأيمان والتهم بحسب الأعراق التي تظلهم وتحدد المراد من الألفاظ والمصطلحات[23]، وكان الفقهاء والقضاة والخلفاء يحرصون على التثبت من نقل النصوص، وصحة الأحاديث للاعتماد عليها، وحذر معاوية رضي الله عنه من الاعتماد على الأحاديث المكذوبة، فخطب في وفد من قريش، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد، فإنه قد بلغني أن رجالاً فيكم يتحدثون بأحاديث ليست في كتاب الله، ولا تُؤْثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولئكم جهالكم[24]، وكان القضاة يعينون من الخلفاء والولاة، وتطلق يد القضاة يتقيدون برأي اجتهادي معين من أحكامهم، إلا ما ورد في النصوص والإجماع، وإلى حد ما إلى السوابق القضائية وقول الصحابة، ولم تكن المذاهب الفقهية قد ظهرت، ولم تدن الأحكام، فكان الأمر راجعاً إلى القضاة أنفسهم، وبما يصلون إليه مع استشارة الفقهاء والعلماء والمجتهدين في كل مصر على حده[25]. ثامناً: اختصاص القضاة، وتخصيص القضاء: كان لاتساع الدولة الإسلامية في العهد الأموي، وكثرة الناس، وانشغال الخلفاء بالفتوحات، وإدارة الدولة، وإخماد الفتن الداخلية أن انصرفوا عن القضاء، وفوضوا جميع اختصاصاته إلى القضاة، وتنازلوا عن النظر في الجنيات والحدود، وكلفوا القضاة النظر فيها، وكان معاوية بن أبي سفيان أول من تنازل عن النظر في الجراح والقتل والقصاص إلى القضاة، فكتب إلى القاضي سُلَيم بن عِتر ((قاضية على مصر)) يأمره بالنظر في الجراح، وأن يرفع ذلك إلى صاحب الديوان، وكان سُليم أول قاض نظر في الجراح، وحكم بها، فكان الرجل إذا أصيب فجرح أتى إلى القاضي، وأحضر بينته على الذي جرحه، فيكتب القاضي بذلك الجُرح قصته علىعاقلة الجارح ويرفعها إلى صاحب الديوان، فإذا حضر العطاء اقتص من أعطيات عشيرة الجارح ما وجب للمجروح، وينجَّم ((يقسَّط)) ذلك في ثلاث سنين، فكان الأمر على ذلك[26]، وكان القاضي في العهد الأموي عام النظر في الحقوق والأموال، وأحكام الأسرة، والمواريث والقصاص والحدود، ويظهر ذلك جلياً في من سيرة القضاة وأقضيتهم التي ذكرها وكيع في كتابه، أخبار القضاة، والكندي في كتابةه((الولاة والقضاة))[27] وفي العهد الأموي ضُم إلى القاضي أعمال أخرى بعضها شبه قضائية، وبعضها إدارية، فمن أهم هذه الأعمال في ذلك العصر، النظر في أموال الأيتام، الإشراف على الأوقاف، الإفتاء[28]. تاسعاً : القضاة والأعمال المختلفة : نظراً لما يتمتع به القضاة من الثقة، وما يتصفون به من العدل والنزاهة، والورع والتقوى، فقد أسند لهم الخلفاء في العهد الأموي عدة أعمال هي: 1 ـ الشرطة : تولى القضاة رئاسة الشرطة بالإضافة إلى أعمالهم القضائية، فجمعوا بين ولاية القضاء وولاية الشرطة وذلك في عدة مدن إسلامية، فقد روى وكيع أن معاوية عزل سعيد بن العاص عن المدينة سنة ثلاث وخمسين، ويقال سنة أربع وخمسين في شهر ربيع، وأعاده مروان بن الحكم، فعزل مروان أبا سلمة، واستقضى أخاه مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وضم إليه الشُرَط مع القضاء أخذ الناس بالشدة[29]، وقال الكندي عن مسلمة بن الحكم، فعزل مروان أبا سلمة، واستقضى أخاه مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وضم إليه الشُرَط مع القضاء، وكان شديداً صلباً في ولايته، ولما ولي الشُرَط أخذ الناس بالشدة[30]، قال الكندي عن مسلمة بن مخلَّدَ أنه: قدم مسلمة الفُسطاط، فعزل السائب بن هشام بن كنانة العامري عن شُرطَه، وولّى عليها عابس بن سعيد، وعزل سُليمان بن عنز عن القضاء وجعله إلى عابس، فجمع له القضاء والشّرط، وهو أول من جمع له سنة ستين[31]، ولما تولى مسلمة سنة 62هـ، بعد أن مكث والياً على مصر أكثر من 15 سنة وليها سعيد بن يزيد الأزدي في رمضان سنة 62هـ،فاقر عابس بن سعيد على القضاء والشُرط جميعاً، ولما جاء عبد الرحمن بن عتبة بن جَحْدم الفهري أميراً على مصر أقر عابساً على الشُرط والقضاء وذكر الكندي أن مسلمة بن مخلِّد والي مصر عين عابس بن سعيد على شُرطته، ثم جمع له الشُرط والقضاء[32]، وذلك في أول سنة إحدى وستين[33]. 2 ـ الإمارة : استعمل بعض القضاة ولاة في بعض الأحيان، كما كان الخليفة أحياناً ينيب القاضي مكانه في الإمارة إذا خرج عن دمشق، وكان كثير من الولاة يستخلفون القاضي على إدارة الأمور، وتصريف شؤون المصر أثناء غيابهم، أو خروجهم لمهمة، قال أبو زرعة: لما خرج معاوية إلى صفين استخلف القاضي فضالة بن عُبيد على دمشق[34]. يتبع |
|
[align=justify]عاشراً : أسماء القضاة في عهد معاوية :
1 ـ أشهر قضاة دمشق : أ ـ فضالة بن عُبيد الذي ولاه معاوية القضاء في الشام بترشيح أبي الدرداء رضي اله عنه، وبقي فضالة على القضاء حتى مات في خلافة معاوية سنة 53هـ وحضر معاوية جنازته وحمل بجانب السرير، وكان معاوية يستخلفه على دمشق عندما يخرج منها[1]، وقضى فضالة بدر الحد عندما أتاه رجل بسارق يحمل سرقته، فقال له فضالة: لعلك وجدتها، لعلك التقطتها، فقال له الرجل: إنّا لله وإنا إليه راجعون، إنه ليلقنه، قال: إي والله، أصلحك الله، وجدتها، فخلا سبيله، وأجاز الفقهاء تلقين المتهم في الحدود، كما فعل رسول الله صلى اله عليه وسلم مع ماعز[2]. ب ـ النعمان بن بشير بن سعد ، أبو إدريس الأنصاري الخزرجي، الصحابي الذي ولي القضاء بالشام بعد فضالة وتوفي سنة 64هـ قتلاً بقرب حمص[3]. 2 ـ قضاة المدينة : أ ـ أبو هريرة الصحابي المشهور رضي الله عنه : قضى بالمدينة، لما رواه وكيع عن نعيم قال: شهدت أبا هريرة يقضي.. وأمر بالتسوية بين الخصوم، ورفض حبس مدين معسر، وحكم على قاذف بثمانين جلدة، وكان أبو هريرة يسكن المدينة حتى توفي فيها سنة 59هـ[4]، ولعله استقضى قبل عبد الله بن الحارث ب ـ عبد الله بن الحارث بن نوفل ، أبو عبد الله بن نوفل بن الحارث: وهو أول قاض في المدينة لواليها مروان بن الحكم في خلافة معاوية، وكان أول ما قضى حقاً على آل مروان، فزاده ذلك عند مروان بن الحكم خيراً، وكان يقضي باليمين مع الشاهد، وتوفي سنة 84هـ، وكان من صلحاء المسلمين وفقهائهم[5]. جـ ـ أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف (94هـ ت) وهو من كبار التابعين، وكان يزعم عن نفسه أنه أفقه الناس، واستعمله سعيد بن العاص والي معاوية على قضاء المدينة، وكان يستحلف صاحب الحق مع الشاهد الواحد[6]. س ـ مصعب بن عبد الرحمن بن عوف (64هـ) توفي استقضاه مروان بن الحكم سنة 53هـ أو 54هـ وضمَّ إليه الشُرط مع القضاء، وكان شديداً صلباً في ولايته، ولما ولي الشُرط أخذ الناس بالشدة في جرائم القتل التي انتشرت في المدينة[7]، ولما مات معاوية واستخلف يزيد استعمل على المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان، فاستقضى طلحة بن عبد الله بن عوف، وهو أحد الأجواد، ويقال له طلحة الجواد[8]. 3 ـ قضاة البصرة: تولى القضاة في البصرة كثيرون، نذكر منهم:عُميرة بن يثربي الضِّبي الذي استقضاه عبد الله بن عامر بن كُريز عامل معاوية على البصرة، وكان عميرة يحكم بضمان العارية، وبقي في القضاء حتى سنة 45هـ، فعزله زياد الذي ولي إمارة البصرة، وولي القضاء عمران بن حصين فاستعفاه بطلبه، وولي عبد الله بن فضالة ثم أخاه عاصم بن فضالة، ثم زرارة بن أوفى[9] . 4 ـ قضاة الكوفة: كانت الكوفة من أنشط المدن العلمية وكانت مركز النشاط والحركة والعلم منذ أسست في عهد عمر رضي الله عنه واتخذها علي رضي الله عنه عاصمة وكان من أشهر قضاة الكوفة شريح القاضي فقد كان من عهد عمر واستمر في القضاء طوال العهد الراشدي، ومدة طويلة في العهد الأموي تزيد عن خمس وثلاثين سنة وتوقف (في عهد بن الزبير) ثم عاد إلى القضاء حتى استعفى من الحجاج فأعفاه سنة 78هـ[10]، ومن قضاة الكوفة في عهد معاوية رضي الله عنه، مسروق بن الأجدع الهمداني، ولي لمعاوية في إمرة زياد القضاء، وكان من الفضلاء[11]. 5 ـ قضاة مصر : ومن اشهر قضاة مصر في عهد معاوية سُلَيْم بن عنز التجيبي وهو أول من ولي القضاء بمصر في أيام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سنة أربعين هـ[12]، وعابس بن سعيد المرادي الذي عينه مسلمة بن مخلد على الشرطة، ثم عزل سُليم بن عنز عن القضاء، وجعله إلى عابس فجمع له القضاء والشُّرط[13]، هؤلاء هم أشهر القضاة في عهد معاوية رضي الله عنه. [/align] |
[align=justify]الحادي عشر : ميزات القضاء في عهد معاوية والأموي عموماً :
من أهم ميزات وخصائص القضاء في العهد الأموي الآتي: 1 ـ بقي القضاء في العهد الأموي، كما كان في العهد النبوي والعهد الراشدي، في معالمه الأساسية، وتنظيمه الجوهري، ووسائله وأهدافه، وكان استمراراً لما سبق في إقامة الحق والعدل، والنزاهة والموضوعية، مع مراعاة التطور والتوسع في الخلافة الأموية. 2 ـ استعمل القضاة في العهد الأموي وسائل الإثبات الشرعية نفسها المعمول بها في العهد الراشدي، مع التوسع في الفراسة، واستعمال الحيل على المتهم، لكشف الحق، والوصول إلى الصواب والعدل[1]. 3 ـ ظهرت في العهد الأموي مصادر جديدة للأحكام القضائية وهي العرف، وقول الصحابي، وإجماع أهل المدينة إحياناً بالإضافة إلى المصادر الأصلية في العهد النبوي وهي القرآن الكريم والسنة الشريفة، والمصادر الاجتهادية في العهد الراشدي وهي: الإجماع، والقياس، والسوابق القضائية، والرأي[2]. 4 ـ كان الخلفاء يعينون القضاة في الشام، وقد يرشحون بعض القضاة للأقاليم، وكان الولاة في الأمصار يعينون القضاة، ويعزلونهم. 5 ـ حرص الخلفاء والولاة على إختبار أحسن الناس لولاية القضاء، من العلماء والفقهاء والشرفاء وخيرة القوم، الذين تتوفر فيهم صفات القاضي الشرعية ، ويخشون الله تعالى، ويلتزمون بالحق والشرع، ويقيمون العدل بين الناس. 6 ـ طرأت تغييرات بارزة على القضاء في العهد الأموي، وأضيفت لأول مرة، وهي: أ ـ تسجيل الأحكام خوفاً من النسيان، ومنعاً للتجاحد،ووضعها في ديوان خاص. ب ـ الإشراف على الأوقاف من أجل حسن تطبيقها . جـ ـ النظر في أموال اليتامى ومراقبة الأوصياء . د ـ ترتيب الدعاوي، واستعمال الرقعة لادخال الخصوم والمناداة على الناس بالترتيب. هـ ـ وجود المساعدين للقضاة، وهم الأعوان، والحاجب والشرطي في مجلس القضاة . و ـ الاستعانة بالشرطة لتنفيذ الأحكام القضائية، وإجراءات الخصومة. 7 ـ كان القضاة مجتهدين في إصدار الأحكام القضائية، ولهم الحرية المطلقة في استنباط الأحكام من القرآن والسنة ومقاصد الشريعة، وبقية المصادر، ولم يتقيدوا برأي الخلفاء، ولم يلتزموا بمذهب فقهي، ولكن هذا لم يمنعهم من مشاورة العلماء والفقهاء، ومشاركتهم في المجالس القضائية[3]. 8 ـ لم يتأثر القضاة بسياسة الحكام والخلفاء، وكان القضاة مستقلين في عملهم، ولم تؤثر عليهم الميول السياسية، والحركات الثورية، والخلافات الفكرية، والفتن الداخلية[4]. هذا هي أهم ميزات القضاء في العهد الأموي. الثاني عشر : خطاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية في القضاء: كتب عمر إلى معاوية رضي الله عنهما: أما بعد فإنني كتبت في القضاء كتاباً لم آلك. ونفسي. فيه خيراً، .. ثم إن عمر قال: 1 ـ الزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتأخذ فيه بأفضل حظك، إذا تقدم إليك الخصمان، فعليك بالبينة العادلة، واليمين القاطعة فهو الطريق للقاضي الذي لا يعلم الغيب. فمن تمسك به سلم له دينه، ونال أفضل الحظ والثواب في الآخرة[5]. فمعنى اليمين. القاطعة للخصومة والمنازعة[6]. 2 ـ وأدنِ الضعيف حتى يشتد قلبه، وينبسط لسانه[7]، ولم يرد بهذا الأمر تقديم الضعيف على القوي، وإنما أراد الأمر بالمساواة، لأن القوي يدنو بنفسه لقوته، والضعيف لا يتجاسر على ذلك، والقوي يتكلم بحجته، وربما يعجز الضعيف عن ذلك. فعلى القاضي أن يدني الضعيف ليساويه بخصمه حتى يقوى قلبه، وينبسط لسانه، فيتكلم بحجته[8]. 3 ـ وتعاهد الغريب، فإنك إن لم تعاهده ترك حقه، ورجع إلى أهله، فربما ضيع حقه من لم يرفع به رأسه[9]. قيل هذا أمر بتقديم الغرباء عند الازدحام في مجلس القضاء، فإن الغريب قلبه مع أهله، فينبغي للقاضي أن يقدمه في سماع الخصومة، ليرجع إلى أهله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد الغرباء. وقيل: مراده أن الغريب منكسر القلب، فإذا لم يخصه القاضي بالتعاهد عجز عن أظهار حجته، فيترك حقه، ويرجع إلى أهله، والقاضي هو السبب، لتضييع حقه، حين لم يرفع به رأسه ثم قال: 4 ـ وعليك بالصلح بين الناس، ما لم يستبين لك فصل القضاء[10]. وفيه دليل أن القاضي مندوب إليه أن يدعو الخصم إلى الصلح، خصوصاً في موضع اشتباه الأمر[11]. [/align] |
[align=justify]المبحث السابع : الشرطة في عهد معاوية :
شهد عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تطوراً كبيراً في نظام الشرطة من جهة نموها وترسخها كمؤسسة رسمية على مستوى الدولة وبصورة لم تُعرف من قبل، لقد أصبحت مؤسسة الشرطة مسئولة مسئولية كاملة ومباشرة عن توفير الأمن وإقرار النظام في جميع الأمصار الإسلامية، لقد أصبحت أهم قوة أمن يعتمد عليها معاوية وولاته لتحقيق الأمن الشخصي من جهة، وحفظ الأمن والنظام في الداخل من جهة أخرى، يضاف إلى هذا كله، أن أصبحت الشرطة المدافع الأول عن نظام الأمن الأموي وحمايته من اعتداءات الفرق الأخرى المعارضة له كالخوارج والشيعة وغيرهما التي كانت تعمل على إسقاطه بشتى السبل، وقد استعمل معاوية رضي الله عنه الشرطة كحرس خاص لحمايته شخصياً ودونما شك أن المحاولة الفاشلة التي قام بها الخوارج لاغتيال معاوية كان لها دور كبير في دفع معاوية لاتخاذ قراره بالاعتماد على الشرطة كحرس خاص لضمان عدم تكرار المحاولة، وخصوصاً أن علياً وعمرو بن العاص قد تعرضا للمحاولة نفسها، قُتل على أثرها أمير المؤمنين عليّ، وكان ذلك عام 40هـ، ومنذ ذلك ومعاوية لا يخرج بدون حماية خاصة، وحتى أوقات الصلوات، كان يأمر حراسه بالوقوف عند رأسه حماية له من الاعتداءات المحتملة من مناوئيه[1]. أولاً : الشرطة في العراق : يعتبر المغيرة أول والٍ يعينه معاوية في الكوفة وقد استعان برجال الشرطة لغرض بسط الأمن، وعين صاحب الشرطة عُرف بشراسته وقسوته وكان يُدعى قبيصة بن دمّون[2]، ومن الحوادث التي تبين مدى فعالية الشرطة في حفظ الأمن والنظام ما أورده الطبري حول صراع المغيرة مع الخوارج، وذلك حين أخبره صاحب الشرطة باجتماعهم في الكوفة لإثارة القلاقل والاضطرابات، فأصدر المغيرة أوامره إلى صاحب الشرطة لمحاصرة مكان الاجتماع، وبعد أن ألقى القبض عليهم أودعهم السجن. وفي البصرة، عين معاوية عبد الله بن عامر والياً عليها ثم عزله في عام 45هـ وعين زياد بن أبيه والياً على البصرة. وقد تبين لزياد عند وصوله البصرة مدى التدهور الحاصل في الأمن، فذكره وشدّد عليه في خطبه التي افتتح بها ولايته، جرياً على العادة في ذلك الوقت فألقى خطبة طويلة سيأتي الحديث عنها بإذن الله، بين فيها أسلوبه الذي سوف يتبعه في معالجة التدهور الأمني، ومن قراءة تلك الخطبة تبين أن زياد كان مصمماً على إقامة الأمن والنظام بغض النظر عن الوسيلة التي تحقق ذلك الهدف[3]، ولو كانت بالعسف وخصوصاً حين يقول: وإني أقسم بالله لأخذنّ الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج يا سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم[4]، ويروي البلاذري كيف استتب الأمن في البصرة في عهد زياد، وذلك في حادثة مفادها أن زياداً سمع جلباً وأصواتاً بين العامة، فسأل عن السبب فقيل له إنّ قد استأجر من يحمي له بيته، وذلك نظراً لعدم وجود الشرطة، وانتشار السَّراق[5]، وفي اليوم التالي أمر زياد صاحب الشرطة بأن يقوم الشرطة بحراسة الطرقات بعد صلاة العشاء[6]، ويضيف البلاذري أنّ الشرطة قد قتلت ما يقارب الخمسمائة نفر من لص ومنتهب للبيوت[7]، ويعتبر زياد أول من منع التجول وذلك بمنع العامة من الخروج من منزلهم ليلاً[8]، وكان يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج ولا يرى إنساناً إلا قتله. فأخذ ليلة أعرابياً، فأتى به زياداً فقال: هل سمعت النداء؟ ـ يقصد نداء منع التجاول ليلاً ـ قال: لا والله، قدمت بحلوبة[9] لي وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع، فأقمت لأصبح، ولا علم لي بما كان من الأمير: قال: أظنك والله صادقاً، ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة، ثم أمر به فضربت عنقه[10]. ومثل هذا الفعل الظالم لا تقرّه الشريعة مهما كانت التبريرات[11]. وعلى ما يبدو أن قتل البدو لم يكن لمجرد الرغبة في القتل ذاته، بل تمّ لإقناع أهل البصرة بجدية الوالي في تنفيذ أوامره، وأن لا أحد منجى من العقوبة إذا خرق القانون، حتى لو كان بريئاً لا ذنب له، كما سبق وهدّد في خطبته البتراء، لقد كان الهدف النهائي عند زياد، إقرار هيبة الدولة والحصول على طاعة العامة، ولو عن طريق الإرهاب، وبذلك تستقيم الأمور في البصرة حيث ترى العامة أن الأمر لا هزل فيه ولا هوان في تطبيق العقاب[12]، ولم يكن خافياً على زياد بن أبيه ضرورة إعادة تنظيم جهاز الشرطة حتى يتمكن من تحقيق سيطرة فعالة على الأوضاع الأمنية، لذلك عمل زياد على اتخاذ بعض الإجراءات التي تسمح له بفرض هيمنته، منها زيادة عدد الأفراد العاملين في الشرطة فصعّد عددهم[13] حتى وصل أربعة آلاف فرد، وعين اثنين في منصب صاحب الشرطة بدلاً من واحد[14] إن ارتفاع عدد رجال الشرطة إلى أربعة آلاف يدل على أمرين: أولهما: ـ شدة الاضطراب الداخلي. الثاني: ـ أن الشرطة كانت ترفد الجيش في كثير من الأحيان[15]. وبلغ من دقته في عهده أنه قال: لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه[16]، وترتب على ذلك ما قاله الطبري:... وكان زياد أول من شد أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وألزم الناس الطاعة، وتقدم في العقوبة، وجرد السيف، وأخذ بالظنَّة، وعاقب على الشبهة وخافه الناس في سلطانه، خوفاً شديداً، حتى أمن الناس بعضهم بعضاً، حتى كان الشيء يسقط من الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه، وتبيت المرأة فلا تغلق عليها بابها، وساس الناس سياسة لم ير مثلها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها أحداً قبله، وأدرّ العطاء، وبنى مدينة الرزق[17]، وعندها ضمّ معاوية الكوفة إلى ولاية زياد واستطاع أن يفرض النظام الأمني حيث حقق للأمويين رغبتهم في استقرار النظام والأمن في كل من البصرة والكوفة، وحيث أصبحت الشرطة أهم قوة داخلية وأكثرها فاعلية[18]. ثانياً : الشرطة في الأقاليم الأخرى : عند مقارنة مثلاً مصر بغيرها من الأمصار الإسلامية كالبصرة مثلاً، نجد أن الشرطة لم تلعب الدور نفسه وذلك لبعد مصر عن الاضطرابات التي يحدثها عادة الخوارج وكذلك تذكر المصادر في العادة حرص الولاة عند اختيار صاحب الشرطة، وقد عين مروان بن الحكم والي المدينة مصعب بن عبد الرحمن بن عوف في منصبي صاحب الشرطة والقضاء في آن واحد ـ كما مرّ معنا وكان ذلك في عهد معاوية[19]. ويروي ابن سعد أن مصعباً كان شديداً على المذنبين والخارجين على القانون[20]، وقد طلب مصعب من الوالي مروان بن الحكم أن يزوده بعدد كبير من أفراد الشرطة، إذا كان يريد الحفاظ على الأمن في المدينة، حيث لم يكن عدد الشرطة المتوفر كافياً لهذه المهمة[21]، وأجابه مروان إلى طبه وأرسل إليه مائتي شرطي، وظل مصعب في منصب صاحب الشرطة حتى وفاة معاوية[22]. ثالثاً : واجبات الشرطة : كان للشرطة في الدولة الأموية مكانة مميزة بسبب الواجبات المهمة التي كانت تقوم بها هذه المؤسسة تجاه السلطة والمجتمع ومن هذه الواجبات: 1 ـ حماية الخليفة وولاة الأمصار ضد مناوئيهم في الداخل : أول من استخدم الشرطة لحمايته الشخصية من الاغتيال، الخليفة معاوية مؤسس الدولة الأموية، الذي خاض صراعاً سياسياً ـ عسكرياً عنيفاً مع معارضيه من الخوارج وغيرهم وكان الشرطة يحرسون معاوية بشكل دائم في حله وترحاله، بل حتى وقت الصلاة كان هناك حارس يقف عند رأسه وهو يصلى في المحراب، وعلى ما يبدو أن الخليفة كان يسير بين يديه صاحب الشرطة متقلداً كامل سلاحه، وكذلك تقوم الشرطة بتوفير الحماة للولاة في الأمصار المختلفة، بالطريقة السابقة نفسها، وكما ذُكر سابقاً أن زياد بن أبيه كان يستخدم الشرطة لأمنه الشخصي وكان صاحب الشرطة هو المسئول الأول عن سلامة الوالي[23]. إن ظهور صاحب الشرطة في مقدمة موكب الخليفة أو الوالي في الأماكن العامة ليس دليلاً فقط على الحماية، بل لإشعار العامة أيضاً بالهيمنة والسلطة، إلى جانب ذلك كانت الشرطة أداة بيد الخليفة والولاة لفرض سلطة الدولة على الذين يحاولون التمرد عليها أو معارضتها[24]، وكانت تعين الخليفة على جمع المعلومات، فقد كان معاوية رضي الله عنه قد بلغ من اهتمامه في الحصول على أخبار عماله ورعيته أن بثَّ عيونه في كل قطر وكل ناحية، فكانت تصله الأخبار أولاً بأول فأنتظم له أمره، وطالت في الملك مدته[25]، وحذا زياد بن أبيه حذو معاوية، ومما يحكي عنه: أن رجلاً كلمه في حاجه له فتعرف عليه وهو يظنّ أنّه لا يعرفه فقال: أصلح الله الأمير أنا فلان بن فلان. فتبسم زياد وقال: أتتعرّف إليّ وأنا أعرف منك بنفسك، والله إني لأعرفك وأعرف أباك وأمك وجدك وجدتك، وأعرف هذا البُرد[26] الذي عليك وهو لفلان.. فبُهت الرجل وأرعد حتى كاد يغشى عليه[27]. 2 ـ معاقبة المذنبين والخارجين عن القانون: الشرطة بحكم كونها القوة الرئيسية المسئولة عن حفظ الأمن، والنظام داخل المدن، إضافة إلى واجبها فرض القانون ولكن الأحوال الاجتماعية في المدن الكبرى كانت تدفع الشرطة إلى اتخاذ إجراءات مشددة تجاه العامة وقد بين زياد بن أبيه في خطبته البتراء خطورة التجاوزات التي حدثت من الناس فقال:... من بُيّت منكم فأنا ضامن لما ذهب له، إياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه،... وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرّق قوماً، غرقناه، ومن حرّق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنته فيه حياً[28]... من هذه الخطبة يتبين مدى التدهور الحاصل في البصرة، من خلال طبيعة الجرائم التي كان يرتكبها بعض المنحرفين من أهلها قبل قدوم زياد، وحين انتهى من خطبته أمر صاحب الشرطة بحراسة الطرقات وقتل كل من يوجد خارج منزله ليلاً[29] ويروي البلاذري أن زياداً لم يتردد في تنفيذ ما توعّد به[30]حرفياً. 3 ـ تنفيذ العقوبات الشرعية: من الواجبات التي كانت الشرطة تقوم بها، تنفيذ الحدود الشرعية، التي يأمر بها القضاة، ضد كل من يظهر منه فساد في المجتمع الإسلامي، والحدود الشرعية كما هو معروف، مذكورة في القرآن الكريم والسنة النبوية بينت ذلك وكان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لديهم غيرة وحرص على أوامر الدين وتنفيذها، ومن ذلك ما رواه الإمام مالك أنّ عبداً سرق وديّا[31]فوجدوه، فاستعدى على العبد مروان بن الحكم[32]، فسجن مروان العبد، وأراد قطع يده، فانطلق سيد العبد إلى رافع بن خديج رضي الله عنه، فسأله عن ذلك، فأخبره: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا قطع في ثمر ولا كثر[33]، فقال الرجل: فإنَّ مروان بن الحكم أخذ غلاماً لي وهو يريد قطع يده، وأنا أحبّ أن تمشي معي إليه فتخبره بالذي سمعت من رسول الله، فمشى معه رافع إلى مروان بن الحكم، فقال: أخذت غلاماً لهذا، فقال: نعم، فقال: ماأنت صانع به؟ قال: أردت قطع يده، فقال له رافع: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا قطع في ثمر ولا كثر، فأمر مروان بالعبد فأرسل[34]، ويستفاد من هذه اللمحة كذلك، احترام الولاة والعمال للصحابة الكرام، وعدم التعرّض لتصرّفاتهم ما دامت منبثقة من الحرص على تنفيذ أمر الله ورسوله حتى وإن كانت داخلة ضمن مهام الوالي[35]، ومن مظاهر الغيرة على أوامر الدين وتغليب أمر الله على ما سواه، امتناع والي شرطة المدينة مصعب بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من هدم دور بني هاشم، ومن كان في حيّزهم، ودور بني أسد بن العزّي، والشدّة عليهم، وذلك لموالاتهم الحسين بن علي وابن الزبير، وامتناعهم عن بيعة يزيد، إذ قال مصعب لأمير المدينة عمرو سعيد[36]: أيها الأمير إنّه لا ذنب لهؤلاء ولست أفعل، فقال له الأمير: انتفخ سحرك يا ابن أم حريث، إليّ سيفنا، فرمى إليه بالسيف وخرج عنه[37]. وهذا الفعل يدل على قوة إيمان مصعب ، وأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق[38]، ومن واجبات الشرطة، مساعدة الجيش ضد أعداء الدولة[39]، وتنفيذ أحكام الإعدام والتعذيب للمناوئين السياسيين وكل ما يتصل بالسجناء عند صاحب السجن[40]، وإن كانت الواجبات الأخيرة تتضح ملامحها في عهد الخلفاء الذين بعد معاوية أكثر. رابعاً قوات ومؤسسات أخرى وعلاقتها بالشرطة : تعتبر الشرطة العمود الفقري للجهاز الأمني في الدولة الأموية، وكانت المهمة الرئيسية لهم حفظ الأمن الداخلي بالدرجة الأولى، ومع ذلك عرف العصر الأموي مؤسسات أخرى لعبت دوراً مشابهاً ومكملاً نفسه للشرطة وهذه المؤسسات هي: 1 ـ الحرس : استخدمت كلمة حرس في بدايات العصر الأموي لوصف كل من يقوم بمهمة الحراسة بغض النظر عن المكان أو الشخص الذي يحرسه، وفي العصر الأموي كان الحرس يمثلون تلك الفئة التي تقوم بمهمة حماية الخلفاء والولاة وعلى ما يظهر أن معاوية كان أول خلفاء بني أمية يتخذ الحرس لحمايته الشخصية من احتمال الاعتداء عليه من قبل الخوارج وغيرهم، وفي خلافة معاوية استخدم الولاة الحرس، كقوة أمنية داخلية إلى جانب الشرطة،، وقد استخدم زياد بن أبيه، خمسمائة رجل في قوات الحرس الخاصة به، وعين عليهم رجلاً من بني سعد أطلق عليه صاحب الحرس[41]، ومنذ ذلك الحين وخلفاء بني أمية يعينون من يثقون به[42]، وخلاصة القول: أن مفهوم الشرطة يتسع إلى الدرجة التي يضم فيها نشاط الحرس تحت سلطته، في حين أن الحرس لا يدخلون ضمن الشرطة[43]، ويورد الجاحظ شطر بيت من الشعر: كأنه شرطي بات في حرس. للدلالة على التفرقة بين المؤسستين[44]. 2 ـ الحرس من غير العرب : عرف العرب، قبل قيام الدولة الأموية، بعض الألفاظ الأجنبية التي تطلق على الحرس الذين كانوا يحرسون بيت المال في البصرة[45]. وهذه الألفاظ هي الأساورة والسيابجة والزطّ، ويشرح البلاذري هذه الألفاظ فيقول إنّ الأساورة من الفرس، أما السيابجة والزطّ فينحدرون على ما يظهر من الهند[46]، ويتضح من تاريخ الخلافة الأموية أن الولاة كانوا يستخدمون لضرب الثورات التي تقوم بها المعارضة، بين حين وآخر، وكان يُطلق على هذه العناصر لفظ البخارية تبعاً لرواية البلاذري أيضاً، أن والي خراسان عبيد الله بن زياد، اسر في احدي المعارك عدداً كبيراً من أهل بخاري وجعل من البصرة مستقراً لهم، وأجرى لهم من الأعطيات ما كان يدفعه نفسه للقبائل العربية، وذلك حين أصبح والياً على العراق[47]، وقد استخدم عبيد الله هذه القوة الجديدة لمساندة قوة الشرطة للقضاء على ثورة الخوارج في العراق[48]، وأما ابن سعد، فيذكر أن البخارية قد استعملوا أول الأمر كقوة أمنية، على يد والد عبيد الله حين كان والياً على العراق، ويضيف ابن سعد أن زياداً استخدم البخارية لمساعدة الشرطة في محاولتهم للقبض على حجر بن عدي[49] رضي الله عنه. ويشيد البلاذري بمهارة البخارية في الرمي يالقوس[50]، ويظهر من مراجعة المصادر التاريخية أن استعمال هذه الفرقة كقوة بشرية لم يكن مقتصراً على الولاة، بل وجد أنهم كانوا يقومون بخدمة الأشراف، ففي مدينة البصرة مثلاً، كان أبناء عبد الله بن عامر والي العراق في السابق، يستخدمون البخارية كحرس خاص لحمايتهم الشخصية[51]. 3 ـ العرفاء : ونظراً لما يتمتع به العرفاء من مكانة لدى الولاة فإن بعضهم يستطيع من الأمور ما لا يقدر عليه غيره، ونظراً لكون العريف مسئولاً عن مراقبة العامة وتبليغ السلطات عن الحركات المشبوهة أو عن الأفراد الذين يُشك في ولائهم للسلطة... ولذلك لم يكك لهذا المنصب شعبية، إلاّ أن ذلك لم يمنع كبار القوم من توليه، إذ يورد ابن سعد في طبقاته أسماء كثيرة تولت مهام هذا المنصب[52]. 4 ـ صاحب الاستخراج أو العذاب : شهد العهد الأموي قيام جهة خاصة مهمتها استخراج الأموال من الذين يختلسونها بحكم مناصبهم الرسمية، وكان يطلق على الشخص المكلف بمهمة تعذيب المختلسين لكي يقروا بمكان وجودها، لقب ((صاحب الاستخراج)) ويروي ابن قتيبة أن هذه المهنة ظهرت في عهد زياد بن أبيه، الذي كان دائم التحذير لمن يعينهم لمساعدته في الإدارة، وكان لا يتردد في إعفائهم من مناصبهم إذا ظهرت منهم خيانة، ويكون العزل بعد إيقاع العقوبة بهم[53]، ويورد كثير من المؤرخين حوادث تتصل بالولاة الذين استخدموا صاحب الاستخراج لاسترداد الأموال المختلسة من المختلسين أو ممن ظهرت عليهم إمارات الخيانة أو ما شابه ذلك من أمور. من ذلك أن والي العراق عبيد الله بن زياد عزل من مساعديه رجلاً يدعى عبد الرحمن واستخلص منه مائتي ألف درهم[54]، كما استخلص مبلغ مئة ألف درهم اختلسها أحد العاملين في إدارته[55]. 5 ـ جهاز الحسبة: والمقصود هنا بالحسبة: المعنى الضيق، أي عملية الأشراف على تنظيم الأسواق والعمليات التجارية فيها، وقد كان من مهام المحتسب في الدولة الأموية جباية ضرائب المبيعات وتحصيل أجرة الدكاكين التابعة للدولة[56]، إضافة إلى مسؤليات السوق والتي من أبرزها[57]. أ ـ التأكد من دقة الأوزان، والمكاييل، والمقاييس المستعملة في عمليات السوق، منعاً لحدوث غبن في التعامل. ب ـ التفقد المفاجئ لعيار الحبات، والمثاقيل لضمان عدم الإخلال بها. جـ ـ منع الارتفاع الفاحش لأسعار السلع الأساسية . د ـ منع حالات الاحتكار إن وجدت وإجبار المحتكر على بيع ما احتكره. ووفق هذا المفهوم نجد أن الحياة الاقتصادية في بداية الدولة الأموية كانت بسيطة، وعليه فقد سار ولاة الأقاليم على نهج الخلافة الراشدة فكان الولاة ـ كل في إقليمه ـ يباشر الحسبة بنفسه[58]. لكن هذا لم يمنع من ظهور وظيفة العامل على السوق في مدينة البصرة في عهد ولاية زياد بن أبيه (45 ـ 53هـ)[59] ويمكن القول ـ من خلال التتبع ـ بأن نظام الحسبة كان موجوداً منذ بداية العصر الأموي، وإن لم يكن يحمل لفظ الحسبة، إنما دور المحتسب في تنظيم السوق كان متواجداً طوال العصر الأموي، وقد نما النظام وتطور بما يوافق تطور قطاع التجارة، والأسواق، فيلاحظ أنه في بداية الأمر كان الوالي يتولى بنفسه أعمال الحسبة ثم تطور الأمر لأن يكون هناك شخص معين وظيفته الأشراف على السوق، ثم تطور الأمر ليكون لهذا المعين أعوان يعينونه في عمله[60]. 6 ـ نظام المراقبة: ظهر هذا النظام في دمشق في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، في عدة صور . أ ـ إلزام بعض مناوئيه السياسيين بأداء الصلاة في الجماعة في مساجد معينة[61]. ويشبه هذا الإجراء ما هو معمول به في بعض الدول المعاصرة من إلزام المشبوهين بالتردد على مراكز الشرطة في أوقات محددة[62]. ب ـ إسكان بعض مناوئيه في مساكن خاصة أعدّها لهم في دمشق ـ وغيرها لتسهل عليه مراقبتهم . جـ ـ إحكام المراقبة الشخصية على الأجانب الذين يدخلون دار الإسلام[63] 7 ـ مؤسسة الدرك : والدرك في الإصطلاح: مؤسسة تضم قوى الدولة العاملة في سبيل الأمن خارج حدود المدن الكبير[64]، وفي الطبري نص يفيد اهتمام زياد عام 45، أي أيام معاوية بالسُّبلُ ـ أي الطرق ـ جاء فيه: قيل لزياد: إن السبل مخوفة. فقال: لا أعاني شيئاً سوى المصر، حتى أغلب على المصر وأصلحه، فإن غلبني المصر، فغيره أشد غلبة، فلما ضبط المصر تكفل ما سوى ذلك، فأحكمه[65]. وكان يقول: لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه[66]. وهذا لا يكون إلا إذا كان رجاله متمكنين من الطرق والسبل[67]. وقد طرح زياد نظرية أمنية مفادها التمكن أولاً من داخل الأمصار ثم التوسع لما حولها من طرق وسبل. هذه بعض الملامح والمعالم الكبيرة عن نظام الشرطة في عهد معاوية رضي الله عنه. [/align] |
المبحث الثامن: الولاة والإدارة في عهد معاوية رضي الله عنه:
حاول معاوية رضي الله عنه طيلة فترة خلافته أن يجعل أسلوب حكمه في وضع بين المركزية واللامركزية. فقد اتخذ من دمشق عاصمة للدولة، وغدت المركز الرئيسي الذي تصدر منه الأوامر السياسية والاقتصادية والإدارية للدولة، أما ترتيب أمور الولايات داخلياً فقد ترك معاوية رضي الله عنه للولاة ليقوموا به كل حسب خبرته وجدارته على أن يكونوا جميعاً مسئولين أمام معاوية رضي الله عنه مسئولية مباشرة ومحاسبين على كل عمل يقوموا به، ولعل من ضمن الأسباب التي حدت بمعاوية لأن يتخذ من دمشق عاصمة للدولة الأموية هو معرفته الجيدة بأهل الشام وثقته التامة فيهم وفي ولائهم له، فقد أمضى معاوية رضي الله عنه هناك قرابة عشرين عاماً أميراً على بلاد الشام، كان خلالها يتمتع خلالها بشعبية كبيرة بينهم، ولعلّ معاوية رضي الله عنه كذلك كان يشعر أن استمرار دولة الأمويين يعتمد في درجة كبيرة على مدى المساعدة التي يقدمها إليه أهل الشام خاصة، كان معاوية رضي الله عنه يعي هذه المسائل جيداً ويعيرها جلّ انتباهه، لذلك حاول جهده منذ البداية أن يعمل على حفظ التوازن بين رجالات القبائل العربية المختلفة في بلاد الشام وعلى درجة الخصوص القبائل اليمانية والقبائل القيسية[1]، وقد عمل معاوية رضي الله عنه كل ما في استطاعته لإبعاد التوازن بين مصالح الطرفين في بلاد الشام، فقد كان في خدمة معاوية رضي الله عنه رجالات من القيسية أمثال الضحاك بين قيس الفهري وحبيب بن مسلمة الفهري، مثلما كان هناك رجالات من اليمانية أمثال مالك بن هبيرة السكوني، وشرحبيل بن سمط الكندي وحسان بن بحدل الكلبي وغيرهم، كما أن معاوية رضي الله عنه حصل على مساعدات من كلا الطرفين إبان فترتي ولايته وخلافته وكانوا يحاربون إلى جانبه في جيش واحد وتحت إمرة واحدة[2]، وكانت سياسة معاوية تقوم على الاستعانة بأفراد من أقاربه أبناء البيت الأموي مثل: عنبسة بن أبي سفيان، وعتبة بن أبي سفيان، والواليد بن عتبة بن أبي سفيان وسعيد بن العاص بن أمية، ومروان بن الحكم وابنه عبد الملك[3]، وعمرو بن سعيد بن العاص[4]، وغيرهم. كما حرص معاوية رضي الله عنه على اختيار أعوانه وولاته من ذوي التجارب الواسعة من المسلمين، كعبد الله بن عامر بن كريز، والمغيرة بن شعبة، والنعمان بن بشير الأنصاري، ومسلمة بن مخلد الأنصاري[5]، وغيرهم. ولم تكن المحاباة هي الأساس الأهم والأوحد في انتقاء معاوية لهؤلاء الرجال دون غيرهم وإنما كان كثير منهم ممن خدم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ورأى أن يستفيد بجهودهم ومواهبهم ولاسيما أولئك الذين أظهرتهم أحداث الفتوحات الإسلامية بالشام[6]. ونلاحظ أن معاوية استعان بأهل الصحبة والكفاية والولاء ولاة على الأمصار، ومع أن معاوية رضي الله عنه اختار بعض أعوانه من أهل بيته، يوليّهم الولايات إلاّ أنه كان يعاملهم بحذر شديد إلى أن يطمئن لهم، ويقتنع بمقدرتهم الإدارية فقد كان يختارهم أول الأمر لولاية مدن صغيرة كالطائف[7] مثلاً، فإذا ما أظهر أحدهم مقدرة، إدارية، فإن معاوية ((رضي الله عنه)) يضم إليه مكة لتكون تحت إشرافه ثم يتبعها بالمدينة وعند ذلك يقال: هو قد حذق[8]. وغني عن البيان أن الطائف كانت مدينة مهمة في ذلك الوقت حيث تتمركز فيها قبيلة ثقيف[9]، القوية وأن من يستطيع من الولاة أن يسيطر على الطائف ـ سياسياً واقتصادياً ـ فإن بقية المدن تسهل السيطرة عليها بعد ذلك. وتشير نجدة خمَّاش إلى أن معاوية رضي الله عنه جعل من مدن الحجاز مدرسة يدّرب فيها أبناء البيت الأموي على إدارة تلك الولاية والسماح لهم بالتدرّج في تلك الإدارة وفق خطوات مقررة[10]. وقد اتبع معاوية رضي الله عنه أسلوباً مميزاً في معاملته لبني أهله ممن يستعين بهم. فقد كان يحاول أن يجعلهم متفرقين عن بعضهم البعض وذلك كي يتجنب أي تحالف ضده[11]. وفي خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تمتع رعايا الدولة من غير المسلمين بمنتهى التسامح والرفق، وحصلوا على امتيازاتهم بسهولة ويسر. فقد كانوا يعملون في مختلف الوظائف الحكومية، ذلك أن معاوية رضي الله عنه أبقى على النظم البيزنطية والقبطية التي كان معمولاً بها في الشام ومصر والمغرب. كما أبقى على النظم الفارسية في العراق وخراسان. وكان ترك معاوية رضي الله عنه هذه النظم على حالتها بسبب نقص من كانوا يعرفون لغات ونظم إدارة البلاد المفتوحة من المسلمين في أوائل العهد الأموي، وعلاوة على ذلك فقد كان طبيب معاوية رضي الله عنه الخاص، ويدعى ابن أُثال[12]، غير مسلم، وكذلك سريج(سرجون) بن منصور الرومي مستشاره المالي[13]، وابن مينا[14]، وابن النضير[15]، مولاه من عماله على الصوافي، كانوا أيضاً من سلالة غير المسلمين وأسلم بعضهم فيما بعد. وفضلاً عن ذلك ترك معاوية لرعايا الدولة من غير المسلمين أيضاً حرية تامة هي ممارسة طقوسهم الدينية: فاستجاب لطلب نصارى دمشق بعدم زيادة كنيسة يوحنا في مسجد دمشق[16]. كما: رممّ لهم كنيسة الرَّها(أُديسَّا) والتي كانت قد تهدمت من جراء الزلازل[17]. كما بنيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم في ولاية مسلمة بن مخلد الأنصاري على مصر ما بين عامي47هـ، 68هـ[18]. كما استعان معاوية رضي الله عنه بمهندسين وفنّيين من غير المسلمين في بناء قصر الخضراء بدمشق الذي اتخذه معاوية مقراً لإقامته في فترة إمارته على بلاد الشام ثم في فترة خلافته بعد ذلك ويروي البلاذري أنهم بنوه لمعاوية رضي الله عنه من الحجارة بعد أن كان قبل مبنياً باللِّبن والطين[19]. وكما كانت سياسة التسامح مع الرعايا غير المسلمين هي الطابع المميز لفترة خلافة معاوية رضي الله عنه كذلك نرى سياسة التعاطف والإهتمام المتزايد وحسن المعاملة تجاه الموالي من المميزات الأخرى في عصر معاوية. فنجد معاوية رضي الله عنه استعان بكثير من الموالي في إدارة بعض شؤون الدولة: فعين مولاه عبد الله بن درّاج على خراج الكوفة ومعونتها في ولاية المغيرة بن شعبة[20]. وكان وردْان مولاه على خراج مصر في ولاية عتبة بن أبي سفيان[21]، وكان على حرسه رجل من الموالي يقال له المختار وقيل رجل يقال له مالك ويكن أبا المخارق مولى لحمير وكان على حجابه سعد مولاه[22]. وكان يلي أمواله بالحجاز أيضاً. وهو الذي قال فيه: معاوية: أغبط الناس عيشاً مولاي سعد، كان يتربع جدَّة، ويتقيَّظ الطائف، ويشتو بمكة[23]. واتخذ زياد بن أبي سفيان من مهران مولاه، حاجباً له وكاتبه على الخراج في العراق[24]. وكان أبو المهاجر دينار مولى لمسلمة بن مخلد الأنصاري فتولى له إدارة شؤون المغرب[25] في سنة 55هـ وبالرغم من هذه الأمثلة نجد أن عباس محمود العقاد يشير إلى أن معاوية كان لا يلتفت إلى الموالي، وردّد ما سبقه إليه المستشرقون في طعنهم في تسامح معاوية رضي الله عنه مع الموالي، رغم ما تزخر به المؤلفات العربية القديمة من أمثلة على هذا التسامح[26]، ومن ناحية أخرى، فقد ترك معاوية رضي الله عنه الإصلاحات الضرورية لعماله على الأقاليم ليقوم كل واحد منهم بواجبه تجاه الإقليم الذي يرى شؤونه[27]، وقد أصبح التقسيم الإداري للدولة في عهده كالآتي: دمشق عاصمة للدولة، وقسم البلاد إلى ولايات يحكم كل ولاية منها وال من قبل الخليفة، وكان لكلِّ سلطة غير محدودة في الولاية التي يحكمها، وفي بعض الأحيان أطلقت الدولة للوالي سلطة التصرف كما يشاء، حتى كان بعضهم يقتل وينفي، ويسجن، ويشرد،... وقد لاحظنا أن هذا الحكم المطلق لم يتكرر، بل كان دائماً محصوراً في ولاية العراق، وذلك لما كان يحدث فيها من اضطرابات وفتن أكثر من غيرها، وكان الخليفة يختار لهذه الولاية ولاة مشهورين بالحزم والشدة، فكان زياد بن أبيه من أشهر ولاة معاوية، أما بقية الولايات فكانت تحكم بطابع الدولة المألوف، فالوالي مقيد بأوامر الخليفة، لا يقضي إلا بعد رأيه، ولا يفصل إلا بعد مشاورته، وكان الوالي يرجع إلى الخليفة في كل ما يتصل بالمصالح العامة، فإذا كان الأمر خاصاً بولايته له أن يتصرف فيه بحسب ما يحقق المصلحة العامة، وإلا فهو مسؤول أمام الخليفة عن كل تصرفاته وكان ولايات الدولة الكبرى في عهد معاوية[28]، دمشق العاصمة، والبصرة، والكوفة، والمدينة ومكة، ومصر وغيرها وأما ولاة الأمصار في عهد معاوية فسوف نتحدث عنهم في حديثنا عن كل إقليم بإذن الله تعالى: أولاً : البصرة: ومن أشهر ولاتها في عهد معاوية فهم: 1 ـ بسر بن أرطأة رضي الله عنه تولى الولاية عام 41هـ وجاءت روايات لم تصل إلى درجة الصحة تشير إلى تعرض بسر لأبنا زياد بن أبيه[29] ثم عزل وعين بدله عبد الله بن عامر: 2 ـ عبد الله بن عامر رضي الله عنه : 41 ـ 44هـ : ففي هذه السنة أي 41هـ ولى معاوية عبد الله بن عامر البصرة، وحرب سجستان[30]، وخراسان[31]. ولم يكن تعيين عبد الله بن عامر على البصرة لأسباب شخصية، لأنه لم ترد رواية صحيحة تؤكد ذلك ولكن اختيار معاوية رضي الله عنه له كان نتيجة خبرته السابقة في ولاية البصرة وحرب سجستان وخراسان أيام عثمان، فما كان من معاوية إلا أن أسند الأمن إلى أهله، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب[32]، وبعد أن مضى ابن عامر ثلاث سنوات تمكن فيها من تثبيت الفتح في سجستان وخراسان واستفاد المسلمون من خبرته العسكرية، ثم دعت الحاجة إلى تغييره، فعزله معاوية وولى الحارث بن عبد الله الأزدي البصرة في أول سنة خمس وأربعين، فأقام بالبصرة أربعة أشهر، ثم عزله وولاها زياداً[33]. 3 ـ زياد بن أبيه 45هـ إلى 53هـ: أ ـ نسبه: يعتبر نسب زياد المكنى بأبي المغيرة، من أكثر القضايا غموضاً في حياته، فقد كانت أمه أمة اسمها سمية[34]، ولم يتفق المؤرخون من هو أبوه وبالتالي هم مختلفون في ذكر نسبه فقد ذُكر اسمه في المصادر، تارة زيادة بن سمية[35]، وتارة زياد بن عبيد[36]، ومرة زياد الأمير[37]، وأخرى زياد بن أبي سفيان[38]، وفي أغلب الأحيان عرف بابن أبيه[39]، وذلك لما وقع فيه أبيه من الشك[40]. ب ـ صلح زياد مع معاوية: كان زياد بن أبيه والياً على خراسان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وكان مخلصاً له غاية الإخلاص وحاول معاوية أن يكسب زياد ويضمه إلى صفه في عهد علي رضي الله عنه إلا أنه فشل في ذلك وبعد مقتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وجد معاوية فرصة طيبة لإعادة النظر في مساعيه الهادفة إلى استمالة زياد بأقل التكاليف، واستخدم معاوية لغة التهديد والترغيب مع زياد بقلعة عرفت باسمه فخافه معاوية وهو من أكثر الناس معرفة بصلابته، ولا شك أن اعتصام زياد بفارس مع علمه بأنه الوحيد الذي لم ينزل على حكم معاوية، ويدخل فيما دخل فيه الناس، إنما يدل على ثقته بنفسه أولاً وبإمكانيات إقليم فارس الاقتصادية والبشرية ثانياً، إلا أن هذه الأمور وحدها ليس كافية لمواجهة معاوية إذا ما لجأ إلى استخدام القوة، الأمر الذي دفع زياد في المرحلة التالية في علاقته بمعاوية إلى تبديل موقفه الرافض بموقف أكثر إيجابية، وبعد صلح الحسن حاول معاوية الاتصال بزياد وسمح للمغيرة بن شعبة أن يتدخل لحل هذا المشكل واستطاع المغيرة بن شعبة أن ينجح في إقناع زياد ببيعة معاوية والدخول في طاعته وكان هذا النجاح من المغيرة من أعظم ما قدمه لمعاوية من خدمات، فقد كان من الصعب على معاوية أن يصل إلى زياد أو يوفق في إخضاعه إلا بعد قتال عنيف، لا يدري أحد من سيكون الرابح في مثل ذلك الموقف الخطير[41]، وقد تمّ لمعاوية احتواء حركة اعتصام زياد بفارس، ولم يستعجل في الأمر، وابتعد عن استخدام القوة، وأعطى للزمن فرصته، واستعان بداهية من دهاة العرب في اقناع زياد وهذا من حكمته[42] رضي الله عنه. جـ ـ حول استلحاق معاوية زياد بن أبيه : قال الطبري في عام 44هـ: في هذه السنة استلحق معاوية نسب زياد بن سمية بأبيه أبي سفيان فيما قيل[43]، وقال الطبري:... زعموا أن رجلاً من عبد القيس كان مع زياد لما وفد على معاوية فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يداً، فإن أذنت لي أتيته، قال: على أن تحدثني ما يجري بينك وبينه، قال: نعم، فإذن له فأتاه، فقال له ابن عامر: هيه هيه أو ابن سمية يقبح آثاري، ويعرض بعمالي، لقد هممت أن آتي بقسامه[44] من قريش يحلفون أن أبا سفيان لم ير سمية، قال: فلما رجع سأله زياد، فأبى أن يخبره، فلم يدعه حتى أخبره فأخبر ذلك زياد معاوية، فقال معاوية لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب، ففعل ذلك به، فأتى ابن عامر يزيداً، فشكا إليه ذلك، فقال له: هل ذكرت زياداً؟ قال: نعم، فركب معه يزيد حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: أجلس فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه فلما أطال خرج معاوية، وفي يده قضيب يضرب به الأبواب، ويتمثل: لنا سياق[45] ولكم سياق قد علمت ذلكم الرفاق[46] ثم قعد فقال: يا ابن عامر، أنت القائل في زياد ما قلت: أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية، وإن الإسلام لم يزدني إلا عزاً، وإني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه[47]، وقد اتهم معاوية رضي الله عنه عندما استلحق زياد بن أبيه إلى أبيه بأنه خالف أحكام الإسلام لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش[48]، وللعاهر الحجر[49]. وقد ردّ على هذا الاتهام الدكتور خالد الغيث في رسالته مرويات خلافة معاوية بقوله:.. أما اتهام معاوية رضي الله عنه باستلحاق نسب زياد، فإني لم أقف على رواية صحيحة صريحة العبارة تؤكد ذلك، هذا فضلاً عن أن صحبة معاوية رضي الله عنه، وعدالته ودينه وفقهه تمنعه من أن يرد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لاسيما وأن معاوية أحد رواة حديث: الولد للفراش وللعاهر الحجر[50]. ووجه التهمة إلى زياد بن أبيه بأنه هو الذي ألحق نسبه بنسب أبي سفيان واستدل برواية أخرجها مسلم في صحيحه من طريق أبي عثمان[51] قال: لما إدعى زياد لقيت أبا بكر فقلت له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمع أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من ادعى أباً في الإسلام غير أبيه، يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام. فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم[52]. قال النووي رحمه الله معلقاً على هذا الخبر:... فمعنى هذا الكلام الإنكار على أبي بكرة، وذلك أن زياداً هذا المذكور هو المعروف بزياد بن أبي سفيان، ويقال فيه: زياد بن أبيه، ويقال: زياد بن أمه، وهو أخو أبي بكرة لأمه... فلهذا قال ابو عثمان لأبي بكرة: ما هذا الذي صنعتم؟ وكان أبو بكرة رضي الله عنه ممن أنكر ذلك وهجر بسببه زياداً وحلف أن لا يكلمه أبداً، ولعل أبا عثمان لم يبلغه إنكار أبي بكرة حيث قال هذا الكلام، أو يكون مراده بقوله ما هذا الذي صنعتم؟ أي هذا الذي جرى من أخيك ما أقبحه وأعظم عقوبته فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على فاعله الجنة[53]. وبذلك يكون زيادا هو المدِّعي، وفي حقيقة الأمر فإن مسألة استلحاق معاوية زياد هي مسألة اجتهادية ويذهب الكثير من المؤرخين بأن هناك دلائل عديدة تثبت أن أبا سفيان قد باشر سمية ـ جارية الحارث بن كلدة الثقفي ـ وكانت من البغايا ذوات الرايات ـ في الجاهلية ، فعلقت منه بزياد ، وذكروا بأن أبا سفيان اعترف بنفسه بذلك أمام علي بن طالب رضي الله عنه وآخرين بعدما شب ونبغ في عهد عمر بن الخطاب[54]، وقال ابن تيمية بأن أبا سفيان كان يقول زياد من نطفته[55]، فلما كانت خلافة معاوية شهد لزياد بذلك النسب أبو مريم السلولي وهو صحابي كان يعمل في الجاهلية خماراً بالطائف، وهو الذي جمع بين أبي سفيان وسمية، وكان ذلك أمراً مألوفاً آنذاك[56]، ويبدو أن هذا النسب قد شاع أمره حتى لقد شهد بذلك أحد رجال البصرة لزياد قبل استلحاق معاوية أياه[57]، فهي دعوة قديمة إذن ولم تكن كما يزعم الرواة نتيجة مشورة المغيرة بن شعبة على معاوية كجزء من صفقة متبادلة بين معاوية وزياد أو غير ذلك من التفاصيل التي اخترعها الرواة[58]. وبعد عقود من السنين نجد الإمام مالك بن أنس ـ إمام أهل المدينة ـ يذكر زياداً في كتابه الموطأ بأنه زياد بن أبي سفيان، ولم يقل زياد بن أبيه، وذلك في عصر بني العباس[59]، والدولة لهم والحكم بأيديهم فما غيروا عليه، ولا أنكروا ذلك منه، لفضل علومهم ومعرفتهم بأن مسألة زياد قد اختلف الناس فيها، فمنهم من جوزها، ومنهم من منعها، فلم يكن لاعتراضهم عليها سبيل[60]، وفي نسبة الإمام مالك لزياد إلى أبي سفيان فقه بديع لم يفطن له أحد ، وهو أنها لما كانت مسألة خلاف ونقد الحكم فيها بأحد الوجهين لم يكن لها رجوع فإن حكم القاضي في مسائل الخلاف بأحد القولين يمضيها ويرفع الخلاف فيها والله أعلم[61]. وأما تعارض هذا الاستلحاق مع نص الحديث الشريف، فمن اعتذر لمعاوية قال: إنما استلحق معاوية زياداً لأن أنكحت الجاهلية كانت أنواعاً ، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي، فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلمّا جاء الإسلام حرّم هذا النكاح، إلا أنّه أقر كل ولد كان يُنسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرّق بين شيء منها، فتوهم معاوية أنّ ذلك جائز له ولم يفرّق بين استلحاق في الجاهلية، والإسلام[62] وأجاز الإمام مالك أن يستلحق الأخ أخا له ويقول: هو ابن أبي، ما دام ليس له منازع في ذلك النسب. فالحارث بن كلدة (الذي كانت سمية جارية له) لم ينازع زياداً ، ولا كان إليه منسوباً ، وإنما كان ابن أمة بغي ولد على فراشه ـ أي في داره ـ فكل من ادعاه فهو له، إلا أن يعارضه من هو أولى به منه، فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز، بل فعل الحق على مذهب مالك، فإن قيل: فلم أنكر عليه الصحابة؟ قلنا: لأنها مسألة اجتهاد[63]....................... والحوادث تثبت أن معاوية كان مقتنعاً بحق زياد في ذلك، ولابد أنه كان قد سمع من أبيه ولهذا فإن معاوية كان مؤمناً بأن عمله لم يكن عملاً موضوعياً وواجباً ضرورياً من باب وضع الشيء في محله، ولا ريب أن هذا كان معروفاً عند الناس غير أن معاوية أراد أن يثبته[64]. |
[align=justify]س ـ خطبة زياد المعروفة بالبتراء بالبصرة:
لما تولى زياد ولاية البصرة، عام 45هـ، خطب خطبة بتراء[1]، لم يحمد الله فيها وقيل: بل حمد الله فقال: الحمد لله على أفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه، اللهم كما رزقتنا نعماً، فألهمنا شكراً على نعمتك علينا. أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والفَجر[2] الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها، ما يأتي سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا ينحاش منها الكبير، كأن لم تسمعوا بأي الله، ولم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمد[3]الذي لا يزول. أتكونون كمن طرفت[4] عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكروا أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به، من ترككم هذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، في النهار المبصر، والعدد غير قليل: ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج[5] الليل وغاره النهار اقربتم القرابة، وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتغطون على المختلس[6] كل امرى منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عقاباً، ولا يرجو معاداً، ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب[7]، حُرِّم عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً، إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح أوله، لين في غير ضعف، وشدة في غير جبرية وعنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي[8]، والمقيم بالظاعن[9]، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج سعد فقد هلك سعيد[10]، أو تستقيم لي قناتكم، إن كذبة المنبر تبقى مشهورة، فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي[11] من بُيِّت[12] منكم، فأنا ضامن لما ذهب له، إياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إلي، وإياي ودعوى الجاهلية[13]، فإني لا أجد أحد دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غُرَّق قوماً غرقته، ومن حرَّق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنته[14]، حياً، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف يدي وأذاي، لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضرب عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام إحن[15]، فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره، فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم، فرب مبئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس[16]. ايها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة[17]، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء[18] الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا[19]بمناصحتكم واعلموا أني مهما قصرت ولو أتاني طارقاً بليل، وحابساً رزقاً ولا عطاءً عن إبانة[20]، ولا مُجمَّراً[21] لكم بعثاً، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنها ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا يصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم كان شراً لكم، أسأل الله أن يعين كلاً على كل، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فليحذر كل امريء منكم أن يكون من صرعاي: فقام عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد ايها الأمير أنك قد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال كذبت، ذاك نبي الله داود عليه السلام[22]. قال الأحنف: قد قلت فأحسنت أيها الأمير، والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء وإنا لن نُثني حتى نُبتلي، فقال زياد: صدقت[23]. وهذه الخطبة تعتبر من الخطب المشهورة في التاريخ ومع الرغم من كثرتها وكثرة المصادر التي أوردتها إلا أنها لم تأت بإسناد صحيح يجعل القاريء يطمئن إلى صحة ما ورد فيها، لاسيما أنها تحتوي على مآخذ عديدة، وتناقضات واضحة تقلل من صحة نسبة جميع ما جاء فيها إلى زياد وقد نبه إلى هذه المآخذ والتناقضات الدكتور[24] خالد الغيث حفظه الله منها . ـ تحدثت الخطبة عن انتشار الفجور في البصرة وكثرة بيوت الدعارة فيها ، ويستفاد ذلك من قول زياد: .. من ترككم هذه المواخير المنصوبة، قوله: ... حُرِّم عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً[25]. وهذا الكلام المنكر عن حال البصرة عند قدوم زياد، يرده حقيقة ما كانت عليه البصرة منذ تأسيسها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث بنيت لتكون قاعدة تنطلق منها الجيوش الإسلامية لمواصلة الفتح ونشر الإسلام في ربوع البلاد المفتوحة، ومن أجل هذه الغاية استوطن البصرة أكثر من خمسين ومائة صحابي، حملوا على عواتقهم مهمة الدعوة إلى الله وتعليم الناس أمور دينهم، فأنَّى لهذه المنكرات أن تنبت وتنتشر في مجتمع عماده الصحابة والتابعون دون أن ينكروه ويلزموه، كذلك فإن وجود الخوارج في البصرة وما عرف عنهم من الاستعجال والاندفاع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل آخر على انتفاء وجود هذه المنكرات في مجتمع البصرة وبالحجم الذي ورد في خطبة زياد[26]. ـ ومن التناقضات الواردة في الخطبة: ورد قول زياد: وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه[27] مع أنه ذكر في موضع آخر من الخطبة نقيض ذلك وهو قوله: وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم[28]. وورد في الخطبة قول زياد: إياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه[29]. لكنه عاد في موضع آخر من الخطبة لينقض ما ذكره آنفاً فقال: لست محتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقاً بليل[30]. وهذه التناقضات الواردة في الخطبة يستغرب صدورها من زياد مع ما عرف عنه من البلاغة والفصاحة، وهذا يقودنا إلى قضية أخرى وهي احتمال كون النص الذي بين أيدينا عن خطبة زياد عند مجيئة إلى البصرة عبارة عن أكثر من خطبة تم دمجها في سياق واحد ويؤيد ذلك ثناء عبد الله بن الأهتم والأحنف بن قيس على زياد بعد انتهاء الخطبة من أن الخطبة تستوجب النقد وليس الثناء، لما فيها من تقديم حكم الجاهلية على حكم الله[31]. وعن الشعبي، قال: ما سمعت متكلماً قد تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفاً أن يسيء إلا زياداً، فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلاماً[32]. وهذا الثناء من الشعبي على زياد يقوي الشك حول خطبة زياد البتراء التي سبق الحديث عنها في الرواية السابقة[33]. ش ـ استعانة زياد بصحابة رسول الله: استعان زياد بعدةٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمران بن الحصين الخزاعي[34]، ولاه قضاء البصرة، والحكم بن عمرو الغفاري[35]، ولاه خراسان، وسمرة بن جندب، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، فاستعفاه عمران فأعفاه، واستقضى عبد الله بن فضالة الليثي[36] ثم أخاه عاصم بن فضالة[37]، ثم زرارة بن أوفى الحرشي[38]، وكانت أخته لبابة عند زياد[39]. ل ـ من سياسة زياد في العراق : يعتبر زياد بن أبي سفيان عامل معاوية على البصرة والكوفة بعد عبد الله بن عامر والمغيرة بن شعبة، هو الذي قام بمعظم الإصلاحات الضرورية في ذلك الجناح الشرقي من الدولة الأموية وكان هذا الرجل يتمتع بقدرة إدارية فائقة[40]. وقد استن زياد عدة قوانين وتنظيمات وقام بكثير من الإصلاحات في البصرة أولاً (45 ـ 50هـ) ثم في الكوفة بعد أن جُمعت المدينتان تحت إمرته في ولاية واحدة وذلك منذ سنة 50هـ، وحتى سنة 53هـ. فبنى دار الرزق في البصرة[41]، وهي شبيهة بمخزن المؤن في أيامنا هذه، فكان الأهالي يتمونون منها وعين أشخاصاً يشرفون عليها منهم، عبد الله بن الحارث بن نوفل، وروَّاد بن أبي بكرة. كما عين الجَعْد بن قيس النّمري مشرفاً على السوق ومراقباً على أسعار المواد الغذائية فيه[42]. وكان يعطي قروضاً للتجار إذا ما ارتفعت الأسعار كي يحثهم على المحافظة على سعر السلعة أو بزيادة بسيطة. وإذا ما تحقق ذلك وتوفرت الحاجات: ارتجع ماله[43]. وترك زياد الناس في البصرة أخماساً أما الكوفة فقد قسمهم إلى أرباع[44]، بدل الأسباع. واختار عريفاً لكل قسم يقوم بمهمة توزيع الإعطيات عل أفراد عشيرته، كما أنه كان مسئولاً أمام زياد عما يحدث في ناحيته، فيقوم بإرسال التقارير بما حصل فيها أولاً بأول إلى زياد واستطاع أن يضبط الأمور في المدينتين برجال من أهلها، وأصدر زياد أوامره بألاَّ يدخل أو يخرج أحد من الكوفة أو البصرة بعد صلاة العشاء وأوقع القصاص بالسارق وقاطع الطريق فعمَّ الأمن والطمأنينة بحيث أن المرأة كانت تنام وباب بيتها مفتوحاً، وأن الشيء ليسقط على الأرض فيظل ملقى دون أن يحركه أحد[45]. ونظم العطاء من الديوان فحذف منه أسماء الذين توفوا ومن كان غائباً عن قطره ومن كان عابثاً بالأمن، فكان: إذا جاء شعبان أخرج أعطية المقاتلة فملأوا بيوتهم من كل حُلْو وحامض واستقبلوا رمضان بذلك، وإذا كان ذو الحجة أخرج أعطية الذرية[46]،ويشير البلاذري إلى أنه: كان لكل عيِّل جريبان ومائة درهم، ومعونة الفطر خمسين، ومعونة الأضحى خمسين[47]، واختار زياد حوالي خمسمائة رجل من أهل البصرة ليعملوا كحرس خاص له وكذلك حماية الأماكن الهامة وأعطى لكل واحد منهم ما بين ثلاثمائة إلى خمسمائة درهم، وأسند قيادتهم إلى شيبان بن عبد الله السعدي فكانوا يبرحون المسجد[48]، وبنى زياد مساجد عديدة، منها: مسجد بني عدي، ومسجد بني مجاشع، ومسجد الأساورة. وكان لا يدع أحداً يبني بقرب مسجد الجماعة مسجداً، فكان مسجد بني عدي أقربها منه[49]. ويذكر ابن الفقيه: إن زياداً بنى سبعة مساجد فلم يُنسب إليه شيء منها، وأن كل مسجد بالبصرة كانت رحبته مستديرة فإنه من بناء زياد[50].وزاد زياد في مسجد البصرة زيادة كثيرة، وبناه بالآجر والجص، وسقفه بالساج، وبنى منارته بالحجارة[51]. وكان يهتم بنظافة المدينة ويعتبر الأفراد مسئولين على نظافة بيوتهم ويعاقب من يهمل ذلك، فقد كان يأخذ صاحب كل دار بعد المطر إذا أضحت برفع ما بين يدي فنائه من الطين، فمن لم يفعل أمر ذلك الطين فألقي في مجلسه، وكان يأخذ الناس بتنظيف طرقهم من القذر والكناسات، ثم أنه اشترى عبيداً ووكلهم فكانوا يلمونه[52] فهذه الرواية تشير إلى وجود موظفين مهمتهم مراقبة النظافة من ناحية، كما تشير إلى أن زياداً تنبه إلى أن نظافة الطرق أمر يجب أن يتولاه أشخاص معينون فاشترى عبيداً وكل إليهم تنظيف الطرق من القذر والكناسات[53] واهتم زياد بتقدم الزراعة وتنظيم طرق الري: فبنى السدود[54]، وحفر القنوات[55]، كما أنه كان يمنح المزارع قطعة من الأرض الزراعية، مساحتها 60 جريباً ثم يدعه عامين فإن عمّرها أصبحت له، وإلا استردها منه، وأعطاها آخرين ينتظرونها[56]، ولكي يسهل الاتصال بين ضفتي نهر الفرات، فقد أصلح زياد قنطرة الكوفة وأعاد بناءها باللبِّن والطوب المقوّى، بعد أن كانت من أخشاب القوارب المتهالكة. وأصبحت تعرف بعد ذلك بجسر الكوفة[57]. وأما عن كيفية تصرف زياد في موارد بيت مال الولاية فيشير البلاذري إلى: أن زياداً كان يجبي من كُوَر البصرة ستين ألف ألف، فيعطي المقاتلة من ذلك ستة وثلاثين ألف ألف، ويعطي الذرية ستة عشرة ألف ألف درهم، وينفق من نفقات السلطان ألفي ألف، ويجعل في بيت المال للبوائق والنوائب ألفي ألف درهم، ويحمل إلى معاوية أربع آلاف (ألف) درهم، وكان يجبي من الكوفة أربعين ألف ألف، ويحمل إلى معاوية ثُلثي الأربعة الآلاف ألف لأن جباية الكوفة ثلثا جباية البصرة. كما أن عبيد الله زياد، والذي خلف أباه على ولاية العراق حمل إلى معاوية ستة آلاف درهم فقال معاوية: اللهم أرض عن ابن أخي[58]. [/align] |
4[align=justify]
ـ ولاية سمرة بن جندب رضي الله عنه: عن جعفر بن سليمان الضبعي، قال: أقر معاوية سمرة بعد زياد ستة اشهر، ثم عزله فكذبوا على سمرة وزعموا أنه قال: لعن الله معاوية: والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبداً[1]. هذا الخبر المنسوب إلى سمرة بأنه شتم معاوية خبر مكذوب على هذه الصحابي الكريم، وفي ذلك يقول ابن كثير وهذا لا يصح عنه[2]، كما أن معرفة ميول مصدر الخبر جعفر بن السليمان الضبعي، والذي قال عنه ابن حجر: صدوق زاهد لكنه يتشيع[3]، تبين أثر التشيع في تشويه التاريخ الإسلامي[4]. 5 ـ ولاية عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي : قال الطبري وفي هذه السنة ـ 54هـ كان عزل معاوية بن أبي سفيان لسمرة بن جندب عن البصرة، واستعمل عبد الله بن غيلان[5]. 6 ـ ولاية عبيد الله بن زياد خراسان ثم البصرة : قال الطبري: وفي هذه السنة ولى معاوية عبد الله بن زياد خراسان[6]، وفي عام 55هـ عزل معاوية بن عمرو بن غيلان عن البصرة وولاها عبد الله بن زياد[7]وأوصى معاوية عبد الله بن زياد بهذه الوصية: إني قد عهدت إليك مثل عهدي إلى عمالي، ثم أوصيك وصية القرابة لخاصتك عندي، لا تبيعن كثيراً بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، واكتف فيما بينك وبين عدوك بالوفاء تخفّ عليك المؤونة وعلينا منك، وافتح بابك للناس تكن في العلم منهم أنت وهم سواء، وإذا عزمت على أمر فأخرجه إلى الناس، ولا يكن لأحد فيه مطمع، ولا يرجعن عليك وأنت تستطيع، وإذا لقيت عدوك فغلبوك على ظهر الأرض فلا يغلبونك على بطنها، وإن أحتاج أصحابك إلى أن تواسيهم بنفسك فآسيهم[8]. وفي رواية قال له: اتق الله ولا تؤثرن علىتقوى الله شيء، فإن في تقواه عوضاً، وقِ عرضك من أن تندسه، وإذا أعطيت عهداً فوف به، ولا تبيعنَّ كثيراً بقليل، ولا تخرجن منك أمراً حتى تُبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك، وإذا لقيت عدوك فكن أكثر من معك، وقاسمهم على كتاب الله، ولا تطمعن أحداً في غير حقه، ولا تؤيسن أحداً من حق له. ثم ودعه[9]. ثانياً : الكوفة : 41هـ : 1 ـ المغيرة بن شعبة رضي الله عنه : الأمير أبو عيسى، ويقال أبو عبد الله، وقيل: أبو محمد. من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة. شهد بيعة الرضوان، كان رجلاً طوالاً مهيباً، ذهبت عينه يوم اليرموك وقيل يوم القادسية[10]. وكان يقول أنا آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، فألقيت خاتمي، فقلت يا أبا الحسن، خاتمي قال: انزل فخذه، قال: فمسحت يدي على الكفن ثم خرجت[11]. وله مواقف في الدهاء والمكر والكيد منهما، عن زيد بن أسلم، عن أبيه،، أن عمر استعمل المغيرة بن شعبة على البحرين، فكرهوه، فعزله عمر، فخافوا أن يردّه، فقال دهقانهم[12]: إن فعلتم ما آمركم لم يردَّه علينا. قالوا: مُرْنا. قال: تجمعون مائة ألف حتى أذهب بها إلى عمر، وأقول: إن المغيرة اختان هذا، فدفعه إليَّ. قال: فجمعوا له مائة ألف، وأتى عمر، فقال ذلك، فدعا المغيرة، فسأله، قال: كذب أصلحك الله، إنما كانت مائتي ألف، قال: ما حملك على هذا؟ قال: العيال والحاجة. فقال عمر للعِلْج: ما تقول؟ قال: لا والله لأصَدُقنَّك ما دفع إليَّ قليلاً ولا كثيراً فقال عمر للمغيرة: ما أردت إلى هذا؟ قال: الخبيث كذب عليَّ، فأحببت أن أخزيه[13]. وعن الشعبي: سمعت قبيصة بن جابر يقول: صحبت المغيرة بن شعبة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يخرج من باب إلا بمكر، لخرج من أبوابها كلها[14]، وقال الشعبي:.. والدهاة أربعة: معاوية وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد[15]. وكان المغيرة بن شعبة من أنصار التعدد فكان يقول: صاحب المرأة الواحدة يحيض معها ويمرض معها، وصاحب المرأتين بين نارين تشتعلان[16]. فهو يدعو للزواج من ثلاث أو أربع. وقد استعمل معاوية المغيرة على الكوفة عام 41هـ[17]، وقام بجهود عظيمة في قتال الخوارج ووجد وقتاً كافياً قام فيه بتوسيع مسجد الكوفة فجعله يتسع لأربعين ألفاً من المصلين[18]. وبقى في الولاية إلى عام 49هـ وقيل 50هـ، وهو الراجح وعندما مات ضم معاوية الكوفة إلىزياد، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة[19]. 2 ـ ولاية زياد بن أبيه على الكوفة: كان زياد على البصرة وأعمالها إلى سنة خمسين، فمات المغيرة بن شعبة بالكوفة وهو أميرها، فكتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة والبصرة، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة، فاستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة وستة أشهر بالبصرة[20]. وقد تحدثنا عن سياسة زياد فيما سبق بالعراق وقد وصفه الذهبي فقال فيه:.. كان من نُبلاء الرجال، رأيا، وعقلاً وحزماً ودهاءً، وفطنة وكان يضرب به المثل في النُّبل والسؤدد وكان كاتبا بليغاً كتب للمغيرة، ولابن عباس وناب عنه بالبصرة[21]. وقال الشعبي: ما رأيت أحداً أخطب من زياد[22]. وقال فيه ابن حزم: لقد امتنع زياد وهو فِقَعَةُ القاع[23]، لا نسب له ولا سابقة، فما أطاقة معاوية إلا بالمداراة، ثم استرضاه وولاّه[24] وقال أبو الشعشاء: كان زياد أفتك من الحجَّاج لمن يخاف هواه[25] وعندما استقر أمره بالعراق وتمكن منها ، كتب زياد إلى معاوية: قد ضبطت لك العراق بشمالي ويميني فارغة، فاشغلها بالحجاز... فلما بلغ ذلك أهل الحجاز أتى نفر منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، فذكروا ذلك له، فقال: ادعوا الله عليه فيكفيكموه، فاستقبل القبلة، واستقبلوها فدعوا ودعا، فخرجت طاعونة[26] على أصبعيه، فأرسل إلى شريح[27] ـ وكان قاضيه ـ فقال: حدث بي ما ترى، وقد أمرت بقطعها، فأشر علي، فقال له شريح: إني أخشى أن يكون الجراح على يدك، والألم على قلبك، وأن يكون الأجل قد دنا، فتلقى الله عز وجل أجذم[28] وقد قطعت يدك كراهية للقائه، أو أن يكون في الأجل تأخير، وقد قطعت يدك فتعيش أجذم وتعير ولدك، فتتركها وخرج شريح فسألوه، فأخبرهم بما أشار به، فلاموه وقالوا: هل أشرت عليه بقطعها، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المستشار مؤتمن[29]. وقد مات زياد سنة ثلاث وخمسين[30] . 3 ـ ولاية عبد الله بن خالد بن أسيد : عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص، ولي فارس لزياد، ثم[31] استخلفه زياد على الكوفة عند مماته، وهو الذي صلى على زياد . 4 ـ ولاية الضحاك بن قيس الفهري : وفي سنة 55هـ عزل معاوية عبد الله بن خالد بن أسيد عن الكوفة، وولاها الضحاك بن قيس الفهري[32]. 5 ـ ولاية عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي : 58هـ : وفي سنة 58هـ ولي معاوية الكوفة عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان، وعزل عنها الضحاك بن قيس[33]. هذا وقد قام معاوية رضي الله عنه بعزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الكوفة بسبب إقدامه على قتل أحد أهل الذمة، ودليل ذلك ما أخرجه أحمد بن حنبل، بإسناد صحيح، قال: حدثني هارون بن معروف قال: حدثنا سفيان، عن مطرف، قال: أخبرني بن سعيد قال:.. ثم إن ابن الحكم عزل حين قتل ابن صلوبا[34]. 6 ـ ولاية النعمان بن بشير رضي الله عنه : 59 ـ 60هـ : وفي سنة 59هـ عزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الكوفة، واستعمل عليها النعمان بن بشير الأنصاري[35]. فهولاء هم ولاة الكوفة في عهد معاوية رضي الله عنه. [/align] |
[align=justify]ثالثاً : المدينة النبوية :
تعتبر المدينة من أهم الولايات للنفوذ الروحي والديني على الدولة الأموية بسبب وجود الصحابة وأبناؤهم من المهاجرين والأنصار، ولا تكاد تنعقد البيعة إن لم يبايع أهل المدينة إذ فيها عدد من أهل الحل والعقد، ومن يطيعه الناس ويسيرون برأيهم[1]، وقد دخلت المدينة في سلطان معاوية رضي الله عنه بعد عام الجماعة سنة 41هـ وقد حرص معاوية على زيارتها منذ بيعته فقدم المدينة وتلقته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعزّ نصرك وأعلى أمرك، فما رَدَّ عليهم جواباً حتى دخل المدينة، فقصد المسجد، وعلا المنبر، فحمد الله وأثنى عليه فقال:... ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي فخافه فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه، وأردتها على عمل ابن الخطاب، فكانت أشد نفوراً وأعظم هرباً من ذلك، وحاولتها على مثل سنيّان عثمان، فأبت علي، وأين مثل هؤلاء ومن يقدر علىأعمالهم، هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم.. غير أني سلكت بها طريقاً لي منفعة ولكم فيه مثل ذلك، ولكم فيه مؤاكلة حسنة ومشاربه جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم، فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه ومهما تقدم مما قد علمتموه قد جعلته دُبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله، فارضوا مني ببعضه، وإياكم والفتنة، فلا تهموا بها، فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة[2]، ونلاحظ في هذه الخطبة حرص معاوية رضي الله عنه على أن يكسب ودهم ويحافظ على عهده لهم، ما حافظوا على بيعتهم له[3]. وقد هدأت المدينة بعد بيعة معاوية وأخلدت إلى السكينة، وانصرف أهلها إلى أعمالهم وانقطع أهل العلم إلى رواية ما حفظوه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغدق معاوية الأموال على سراة الناس لاستمالتهم وكان كرم هؤلاء يسع الكثير من أجل المدينة[4] وكان معاوية عند عهده لأهل المدينة وفياً بالسياسة التي رسمها في خطبته عند زيارة المدينة، وكان يقدم من الترغيب أكثر مما يعلن من الترهيب وكان أكرامه لرجالات المدينة إكراماً يفوق كل وصف، وما قصده أحد في طلب إلا أعطاه. لقد كان يخص وجهاء القوم، ولكن هؤلاء كانوا موزعين لعطايا معاوية، كلما كثرت عطايا معاوية كثر إنفاقهم على أهل المدينة[5]، فقد روي أن معاوية قضى عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار، وما كان عليها من الدَّين الذي كانت تعطيه الناس[6]، وبعث معاوية إلى أم المؤمنين عائشة بمائة ألف، ففرقتها من يومها، فلم يبق منها درهم، فقالت لها خادمتها: لو اشتريت لنا من ذلك بدرهم لحماً؟ فقالت ألا ذكّرتني[7]وأما ولاة المدينة فهم: 1 ـ مروان بن الحكم 42 ـ 49هـ: في عام 42هـ ولى معاوية مروان بن الحكم المدينة، فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث بن نوفل[8]. 2 ـ ولاية سعيد بن العاص رضي الله عنه 49 ـ 54هـ : في سنة 49هـ عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة في شهر ربيع الأول، وأمَّر فيها سعيد بن العاص على المدينة في شهر ربيع الآخر وقيل في شهر ربيع الأول[9]. 3 ـ ولاية مروان بن الحكم الثانية: 54 ـ 57هـ: في عام 54هـ عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة، واستعمل عليها مروان بن الحكم[10]. 4 ـ ولاية الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: استعمل معاوية على المدينة حين صرف عنها مروان، الوليد بن عتيبة بن أبي سفيان[11]وكان ذلك عام 57هـ[12] · وفاة أبي هريرة رضي الله عنه بالمدينة 58هـ وقيل 59هـ: توفي أبو هريرة رضي الله عنه في عهد معاوية وقد تعرّض للهجوم الشرس من قبل أعداء السنة النبوية بسبب خدمته لها، فرأيت من المناسب أن أترجم لأبي هريرة وأتعرض للشبهات المثارة حوله وبيان بطلانها وزيفها. أ ـ التعريف به : هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن واشتهر أبو هريرة بكنيته، حتى غلبت على اسمه فكاد ينسى، وسئل أبو هريرة: لم كنيت بذلك؟ قال كنيت أبا هريرة لأني وجدت هرة فحملتها في كمي، فقيل لي: أبو هريرة: وكان يرعى غنم أهله في صغره، ويداعب هرته وكان يقول: لا تكنوني أبا هريرة، فإن النبي الله صلى الله عليه وسلم كناني أبا هر، والذكر خير من الأنثى[13]. ب ـ إسلامه: هاجر أبو هريرة من اليمن إلى المدينة ليالي فتح خيبر، وكان ذلك سنة سبع من الهجرة، وكان قد أسلم على يد الطفيل بن عمرو في اليمن، ووصل المدينة وصلى الصبح خلف سباع بن عرفظة الذي كان قد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أثناء غزوة خيبر[14]. وقد لازم أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر حياته، وقصر نفسه على خدمته، وتلقى العلم الشريف منه، فكان يدور معه ويدخل بيته، ويصاحبه في حجه وغزوه، ويرافقه في حله وترحاله، في ليله ونهاره،حتى حمل عنه العلم الغزير الطيب، فكانت صحبته أربع سنوات، وقد اتخذ الصُّفة مقاماً له، وخدم الرسول صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، وجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عريف أهل الصفة، فقد كان أعرف الناس بهم وبمراتبهم[15]. ت ـ دعوته لأمه للإسلام : قال أبو هريرة رضي الله عنه كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبو هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهم أهد أم أبي هريرة ، فخرجت مستبشراً بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثم قالت: أبا هريرة أشهد أن لا إليه إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت يا رسول الله أبشر، قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة: فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً. قالت: يا رسول الله ادعو الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهم حبب عُّبيدك هذا ـ يعني أبا هريرة ـ وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين. فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني [16]. ت ـ عبادة أبي هريرة رضي الله عنه وأسرته: كان أبو هريرة رضي الله عنه ورعاً، ملتزماً سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، يحذر الناس في الانغماس في ملذات الدنيا، وشهواتها، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يفرق في ذلك بين غني ولا فقير، أو بين أمير وحقير وأخباره في هذا الصدد كثيرة، وكان يخشى الله كثيراً في السر والعلن، ويذكر الناس به، ويحثهم على طاعته[17]، وكان عابداً، يصوم النهار ويقوم الليل، ويتناوب قيامه هو وزوجته، وابنته[18]، وكان يهتم بعمران بيته بعبادة الله تعالى فعن أبي عثمان النهدي قال: تضيَّفت ابا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً: يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا ثم يوقظ هذا[19] فبيت أبي هريرة أشراقة مضيئة تبين لنا بيوت المسلمين في ذلك العهد، فهو بيت عامر بالصلاة طوال الليل، فأين تجد الشياطين لها مكاناً في هذا البيت؟ إنها تربية عالية على التقوى والعمل الصالح من الحافظ الكبير والعالم الرباني أبي هريرة رضي الله عنه، واستجابة كريمة من امرأة طاهرة زكية وخادم صالح مطيع. إن أبناء الدنيا حينما يكلفون خدمهم، بعمل كبير، فإنما يكلفونهم بأعمال الدنيا، ويرون أنه لا مصلحة لهم بتكليفهم بعمل الآخرة، أما أبناء الآخرة فإنه من كمال سرورهم أن يروا خدمهم يجتهدون في أعمال الآخرة، لأنهم يكسبون بذلك أجراً على حسن توجيههم[20]. ث ـ فقره وعفافه : كان أبو هريرة أحد أعلام الفقراء والمساكين، صبر على الفقر الشديد حتى أنه كان يلصق بطنه بالحصى من الجوع، يطوي نهاره وليله من غير أن يجد ما يقيم صلبه[21]، قال سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ: رأيت أبا هريرة يطوف بالسوق، ثم يأتي أهله فيقول: هل عندكم من شيء؟ فإن قالوا: لا قال: فإني صائم[22]، وكان قنوعاً راضياً بنعم الله، فإذا أصبح لديه خمس عشرة تمرة أفطر على خمس، وتسحر على خمس، وأبقى خمس لفطره[23]، وكان كثير الشكر لله، كثير الحمد والتسبيح والتكبيرعلى ما أتاه الله من فضل وخير[24] . جـ ـ حلمه وعفوه : كانت عند أبي هريرة زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع يوماً السوط ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشينك به، ولكن سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوج ما أكون إليه، أذهبي فأنت حرة لله عز وجل[25]، وهكذا يوازن أبو هريرة رضي الله عنه بين قدرته على تلك الخادمة وقدرة الله تعالى عليه، فيفضل اتقاء سخط الله سبحانه وتعالي وعذابه على تنفيذ مقتضى سخطه هو، فيتورع عن عقوبة تلك الخادمة ويحسن إليها بدلاً من إساءتها بإعتاقها لوجه الله عز وجل، وبهذا يكون قد جمع بين عدد من الأعمال الصالحة،.. خشية الله تعالى، والعفو عن المسيء، والإحسان إليه، وهذا يبين لنا عمق تصور الصحابة رضي الله عنهم للحياة الآخرة واستحضارهم رقابة الله تعالى وسعيهم الحثيث لبلوغ رضاه[26]. ح ـ ولايته على البحرين في عهد عمر رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل أبا هريرة مع العلاء الحضرمي إلى البحرين، لينشر الإسلام، ويفقه المسلمين، ويعلمهم أمور دينهم، فحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفتى الناس، وفي عهد عمر رضي الله عنه استعمله على البحرين فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه؟ فقال أبو هريرة: لست بعدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما، قال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل نتجت، وغلة رقيق لي، وأعطية تتابعت عليّ. فنظروا فوجدوا كما قال[27]، وقد قاسمه عمر رضي الله عنه مع جملة من قاسمهم من العمال، وكان أبو هريرة يقول: اللَّهم اغفر لأمير المؤمنين[28]، وبعد ذلك دعاه عمر ليوليه، فأبى، فقال: تكره العمل وقد طلب العمل من كان خير منك، يوسف عليه السلام، فقال: يوسف نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة ابن أميمة وأخشى عملكم ثلاثاً واثنتين، فقال: فهل قلت خمساً، قال: لا. أخاف أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي[29]. خ ـ اعتزاله الفتن : كان أبو هريرة يوم حصار عثمان رضي الله عنه عنده في الدار مع بعض الصحابة وأبناءهم، الذين جاءوا ليدفعوا الغوغاء عنه، وقد حفظ ولد عثمان له يده واحترموه حتى أنه لما مات أبو هريرة كان يحملون سريره حتى بلغوا البقيع[30]، وقد اعتزل أبو هريرة رضي الله عنه الفتن بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه[31]. ر ـ مرحه ومزاحه : كان أبو هريرة رضي الله عنه حسن المعشر، طيب النفس، صافي السريرة، كان يحب الفكاهة والمزاح ومع هذا كان يعطي كل شيء حقه، فقد نظر إلى الدنيا بعين الراحل عنها، فلم تدفعه الإمارة إلى الكبرياء، بل أظهرت تواضعه، وحسن خلقه، فربما استخلفه مروان على المدينة، فيركب حماراً قد شدَّ عليه بَرْذعه وفي رأسه خلبة من ليف، يسير فيلقى الرجل، فيقول: الطريق قد جاء الأمير[32]. ويمر أبو هريرة في السوق، يحمل الحطب على ظهره ـ وهو يومئذ أمير لمروان ـ فيقول لثعلبة بن أبي مالك القرظي: أوسع الطريق للأمير يا ابن مالك، فيقول: يرحمك الله يكفي هذا!! فيقول أبو هريرة: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه[33]. وكان يحب إدخال السرور إلى نفوس الأطفال، فقد يراهم يلعبون بالليل لعبة الإعراب، فلا يشعرون به حتى يلقي نفسه بينهم ويضرب برجليه كأنه مجنون فيفزع الصبيان منه ويفرون[34]، هاهنا وهاهنا يتضاحكون[35]. قال أبو رافع: وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه في الليل، فيقول: دع العُراق للأمير ـ يعني قطع اللحم ـ فانظروا فإذا ثريد بزيت[36]. ز ـ حياته العلمية: صحب أبو هريرة رسول اله صلى الله عليه وسلم أربع سنوات، وسمع منه كثيراً، وشاهد دقائق السنة، ووعى تطبيق الشريعة، وكان همه طلب العلم وأمله التفقه في الدين[37]، وكان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة[38]، فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا تسألني من الغنائم التي يسألني أصحابك؟ قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله، فنزع نمرة كانت على ظهري، فبسطها بيني وبينه، حتى كأني انظر إلى النمل يدب عليها، فحدَّثني حتى إذا استوعبت حديثه، قال: اجمعها فصُرْها إليك. فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدّثني[39]، وكان يقول رضي الله عنه: إنّكم تقولون: إنَّ أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يُحدِّثون مثله وإن إخواني من المهاجرين يشغلهم الصَّفق في الأسواق، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم، وكنت أمرأ مسكيناً من مساكين الصفة، ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه يوماً: إنَّه إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي، ثم يجمع إليه ثوبه، إلا وعى ما أقول. فبسطت نمرة عليَّ، حتى إذا قضي مقالته، جمعتها إلى صدري. فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك شيئاً[40]، وفي رواية: إنه حدثنا يوماً فقال: من يبسط ثوبه حتى أقضي مقالتي، ثم قبضه إليه، لم ينس شيئاً سمع مني أبداً. ففعلت فوالذي بعثه بالحق، ما نسيت شيئاً سمعته منه[41]. وعن أبي هريرة، قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: لقد ظننت يا أبا هريرة لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّل منك، لما رأيت من حرصك على الحديث: إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من نفسه[42]. وكان أبو هريرة حافظاً متقناً، ضابطاً لما يروي، دقيقاً في أخباره، فقد اجتمعت فيه صفتان عظيمتان تتم إحداهما الأخرى، الأولى: سعة علمه وكثرة مروياته، والثانية: قوة ذاكرته وحسن ضبطه وهذا غاية ما يتمناه أولو العلم[43]، ويذكر لنا أبو الزعيزعة كاتب مروان ما يثبت اتقانه وحفظه فيقول: دعا مروان أبا هريرة فجعل يسأله، واجلسني خلف السرير، وجعلت أكتب عنه، حتى إذا كان رأس الحول، دعابه، فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر[44]. ولم يكن أبو هريرة راوية للحديث فقط، بل كان من رؤوس العلم في زمانه، في القرآن والسنة والاجتهاد، فإن صحبته وملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتاحت له أن يتفقه في الدين، ويشاهد السنة العملية، عظيمها ودقيقها فتكونت عنده حصيلة كثيرة من الحديث الشريف كل ذلك هيأ أبو هريرة لأن يفتي المسلمين في دينهم نيفاً وعشرين سنة والصحابة كثيرون آنذاك[45]. ص ـ أصح الطرق عن أبي هريرة في الحديث عن رسول الله: حكى عن ابن المديني أن من أصح الأسانيد إطلاقاً حماد بن يزيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة[46]، وأصح ما روي من الحديث عن أبي هريرة ما جاء عن: ـ الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. ـ أبو الزناد عن الأعرج ـ عبد الرحمن بن هرمز ـ عن أبي هريرة. ـ مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. ـ سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. ـ معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. ـ معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة[47]. * الرد على الشبه التي أثيرت حول أبي هريرة رضي الله عنه: كتب بعض أهل الأهواء قديماً في الطعن في أبي هريرة وتابعهم في هذا العصر بعض المستشرقين أمثال (جولد تسهير) وشبرنجر) في الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه بالظلم والبهتان، وكتب عبد الحسين شرف الدين العاملي الشيعي كتاب تحت عنوان (أبو هريرة) وافترى فيه على أبي هريرة افتراءات يندي لها جبين العلم وتخز ضمير العلماء، وتجرح الحق، ولا تلتقي معه، حتى انتهى إلى تكفير أبي هريرة[48]، وقد استقى من هذا الكتاب أبو رية صاحب كتاب أضواء على السنة المحمدية. فكان أشد على أبي هريرة من أستاذه وأكثر ضلالاً وزيفاً، وأهم هذه الشبهات التي ألصقت بأبي هريرة رضي الله عنه: أ ـ عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما: اتهم عبد الحسين شرف الدين وأبو رية[49] أبا هريرة بأنه سرق عشرة آلاف دينار حينما ولي البحرين لعمر، فعزله وضربه بالدرة حتى أدماه، لقد ذكرت جميع الروايات المعتمدة أن عمر رضي الله عنه قاسمه ماله، كما قاسم غيره من الولاة[50] ، وليس فيها أنه ضربه حتى أدماه، وكان أبو هريرة يقول: اللَّهم اغفر لأمير المؤمنين فلم يحقد على عمر رضي الله عنه مع أنه يعلم أن ما قاسمه إياه إنما هو عطاياه وأسهمه وغلة رقيقة ولو أن عمر شك في أمانة أبي هريرة بعض الشك لحاكمه وعاقبه العقوبة الشرعية، ولكنه عرف فيه الأمانة والإخلاص فعاد إليه بعد حين يطلبه للولاية فأبى أبو هريرة قبولها كما أسلفنا. هذا وجه الحق الذي أخفاه عبد الحسين وأبو ريه، فعبد الحسين نقل رواية واحدة عن العقد الفريد لابن عبد ربه[51]، حيث وجد فيها ما يوافق هواه واكتفى أبو رية بالنقل عن عبد الحسين من غير أن يشير إلى المصدر ومن غير بحث أو مقارنة وتمحيص[52]. وهذا يدل على حرصهم على التزوير والإخلال بالأمانة العلمية.[/align] |
[align=justify]ب ـ هل تشيع أبو هريرة للأمويين؟ ووضع أحاديث في ذم علي وأبنائه؟
وقد اتهمه عبد الحسين بأنه دعاية الأمويين في سياستهم فتارة يفتئت الأحاديث في فضائلهم.. وتارة يلفق أحاديث في فضائل الخليفتين نزولاً على رغائب معاوية وفئته الباغية[1]وجمع أبو رية في هذا الموضوع كل شتائم كتب الشيعة في أبي هريرة ونبش الأكاذيب والافتراءات على صحابة رسول الله واعتمد الكتب التي لم يعرف مؤلفوها بالصدق ولا بالتمحيص في الرواية أو التي عرف مؤلفوها بالبغض القاتل لأبي هريرة، والعقيدة التي ندين بها أن أبا هريرة رضي الله عنه كان محباً لآل بيت رسول الله صلى عليه وسلم روى في فضائل الحسن والحسين أكثر من حديث[2] ولم يناصب أهل البيت العداء قط ومشهور عنه أنه تمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يحب من أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العجيب أن يدعي إنسان نهل عن العلم بعضه أن أبا هريرة يكره علياً وأهله رضي الله عنهم[3]، وقد كتب الأستاذ عبد المنعم صالح العزي كتابه القيم في الدفاع عن أبي هريرة، وبين حبه لعلي وفاطمة رضي اله عنهما وبين بأنه يروي منقبة علي يوم خيبر، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال يوم خيبر: لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ـ ثم روى إعطاءه إياها[4]، أفهذه رواية كاره لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه[5] وفي مناقب فاطمة رضي الله عنها يروي أبو هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن فاطمة سيدة نساء أمتي[6]، وروى أبو هريرة أحاديث في حب الحسن بن علي وله معه وقائع وأخبار تدل على حب عظيم كان يكنه للحسن[7]. ويروي لنا أبو هريرة صورة لحبه للحسن رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: لا أزال أحب هذا الرجل بعد ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدخل أصابعه في لحية النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي يدخل لسانه في فمه، ثم قال: اللّهم إني أحبه فأحبه[8]. فلا غرابة بعد هذا الحب أن رأينا أبا هريرة يبكي يوم يموت الحسن ويدعو الناس إلى البكاء[9]، يقول من حضر ذاك اليوم: رأيت أبا هريرة قائماً على المسجد يوم مات الحسن يبكي وينادي بأعلى صوته: يا أيها الناس: مات اليوم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فابكوا[10]، ولم يكن حب الحسين بن علي أقل ظهوراً عند أبي هريرة من حب الحسن، إذ ينقل لنا حادثة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ما رأيت الحسين بن علي إلا فاضت عيني دموعاً، وذاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فوجدني في المسجد، فأخذ بيدي واتكأ علي، فانطلقت معه حتى جاء سوق بني قينقاع، قال: وما كلمني فطاف ونظر، ثم رجع ورجعت معه فجلس في المسجد واحتبى، وقال لي: ادع لي لكاع، فأتى حسين يشتد حتى وقع في حجره ثم أدخل يده في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح فم الحسين فيدخل فاه فيه ويقول: اللَّهم إني أحبه فأحبه[11]. والقصة هذه رواها البخاري وفيها أن الحسن لا الحسين، لكن الحاكم أشار إلى أن كلاً الروايتين محفوظة واردة، وذلك محتمل، لأن فيها ذكر الرجوع إلى المسجد[12]، ولقد أثبت عبد المنعم العزي في كتابه أقباس من مناقب أبي هريرة بالدلائل القطعية الكافية اعتداد أبناء علي رضي الله عنهم بحديث أبي هريرة، وروايتهم عنه، ورواية كبار فرسان علي وأمراء جنده، الذين قاتلوا معه في معارك الجمل وصفين والنهروان عن أبي هريرة، ورواية جمهرة من التابعين عنه ممن لاقوا علياً رضي الله عنه ورووا عنه، ورواية عدد كبير آخر من جماهير الشيعة والكوفيين ومحبي ذرية علي من طبقة أتباع التابعين والطبقة التي تليهم لحديث أبي هريرة، واستعماله له، واستدلالهم به، وتدوينه في كتبهم[13]. إن الحقيقة العلمية التاريخية تقول لا يوجد أي دليل يعتمد عليه في تشيع أبي هريرة للأمويين، أو محاربته وعداوته لعلي وأبنائه وإنما ظلم وافتراء واختلاق على الحقيقة، وإنما ما نسب إليه من أحاديث في مدح الأمويين، إنما هي ضعيفة وموضوعة عليه وأهل الخبرة في هذا الشأن بينوا الكذابين والواضعين لها[14]. وأما دعوى كون الدولة الأموية وضعت أحاديث لتعمم بها رأياً من آرائها، فهذه دعوى لا وجود لها إلا في خيال الكذّابين، فما روى لنا التاريخ أن الحكومة الأموية وضعت أحاديث، ونحن نسأل من زعم ذلك أين هي تلك الأحاديث التي وضعتها الحكومة؟ إن علماءنا اعتادوا ألا ينقلوا حديثاً إلا بسنده، وها هي أسانيد الأحاديث الصحيحة محفوظة في كتب السنة، ولا نجد حديثاً واحداً من آلافها الكثيرة في سنده عبد الملك أو يزيد أو الوليد أو أحد عمالهم كالحجاج وخالد القسري وأمثالهم، فأين ضاع ذلك في زوايا التاريخ لو كان له وجود؟ وإذا كانت الحكومة الأموية لم تضع بل دعت إلى الوضع، فما الدليل على ذلك[15]؟ وأما ما زعمه عبد الحسين وأبو رية بأن أبا هريرة كذب على رسول الله إرضاء للأمويين ونكاية بالعلويين[16]، فأبو هريرة من كل هذا براء ولكنهما أوردا أخباراً ضعيفة وموضوعة لا أصل لها[17]، وكل ما كان في هذا الشأن وما جاءنا من هذه الأخبار الباطلة إنما كان عن طريق أهل الأهواء الداعين إلى أهوائهم، المتعصبين لمذاهبهم، فتجرؤوا على الحق، ولم يعرفوا للصحبة حرمتها، فتكلموا في خيار الصحابة واتهموا بعضهم بالضلال والفسق، وقذفوا بعضهم بالكفر وافتروا على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم[18]. ولقد كشف أهل الحديث عن هؤلاء الكذبة، وكشف الله بهم أمر هذه الفرق وأماط اللثام عن وجوه المتسترين وراءها فكان أصحاب الحديث هم جنود الله عز وجل، بينوا حقيقة هؤلاء، وأظهروا نواياهم وميولهم، فما من حديث أو خبر يطعن في صحابي أو يشكك في عقيدة، أو يخالف مبادئ الدين الحنيف إلا بين جهابذة هذا الفن يد صانعه، وكشفوا عن علته، فادعاء هؤلاء مردود حتى يثبت زعمهم بحجة صحيحة مقبولة، وكيف نتصور معاوية يحرض الصحابة على وضع الحديث كذباً وبهتاناً وزوراً، ليطعنوا في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه[19]، وقد شهد علماء الأمة من الصحابة والتابعين على عدالة معاوية، وقد بين مواقفه من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ولم يذكر في مصدر موثوق به ما يدل على أن علياً رضي الله عنه كذّب أبا هريرة أو نهاه عن الحديث، ولكن بعض أعداء أبو هريرة يستشهدون برواية مكذوبة عن أبي جعفر الاسكافي، وهي أن علياً لما بلغه أبي هريرة قال: ألا إن أكذب الناس ـ أو قال أكذب الأحياء على رسول الله ـ أبو هريرة الدوسي[20]. فهذه رواية مردودة لا نقبلها عن الإسكافي، لأنه شيعي محترف، ومعتزلي ناصب أهل الحديث العداء[21]، وقد رد ابن قتيبة على جميع ما ألصقوه بالإمام علي طعناً في أبي هريرة[22]. [/align] |
[align=justify]جـ ـ كثرة حديثه :
أخذ النظام المعتزلي على أبي هريرة كثرة حديثه وتابعه بعض المعتزلة قديماً ومنهم بشر المريسي، وأبو القاسم البلخي، وقد ردّ ابن قتيبة على النظام في كتابه (تأويل مختلف الحديث) ولقيت هذه الشبهة صدى في نفوس بعض المتأخرين كعبد الحسين شرف الدين الشيعي الذي سود صفحات كثيرة من كتابه (أبو هريرة)[1]، يشك في مروياته ويستكثرها، ويوهم القاريء أن ما رواه أبو هريرة مما رواه الصحابة الذين اشتغلوا بأمور الدولة وسياستها، ويثير هذه الشبهة نفسها أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية[2]، ويستشهد هؤلاء جميعاً بأخبار ضعيفة أو موضوعة أحياناً، وبتأويلات وموازنات باطلة أحياناً أخرى، وتلتقي أهواء هؤلاء بأهواء بعض المستشرقين أمثال ((جولد تسيهر)) الذي استكثر أيضاً مرويات أبي هريرة[3]، وخلاصة أقوالهم، أن أبا هريرة تأخر إسلامه، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (5374) حديثاً، وهي أكثر كثيراً مما رواه الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة الذين سبقوه إلى الإسلام[4]، ومن الخطأ الفاحش أن يقارن الخلفاء الراشدون وأبو هريرة في مجال الحفظ وكثرة الرواية لأسباب عديدة منها: ـ صحيح أن الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم سبقوا أبا هريرة في صحبتهم وإسلامهم، ولم يرو عنهم مثل ما روي عنه، إلا أن هؤلاء اهتموا بأمور الدولة، وسياسة الحكم، وأنفذوا العلماء والقراء والقضاة إلى البلدان فأدوا الأمانة التي حملوها، كما أدى هؤلاء الأمانة في توجيه شئون الأمة فكما لا نلوم خالد بن الوليد على قلة حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم لانشغاله بالفتوحات، لا نلوم أبا هريرة على كثرة حديثه لانشغاله بالعلم[5] ـ انصراف أبي هريرة إلى العلم والتعليم، واحتياج الناس إليه لامتداد عمره، يجعل الموازنة بينه وبين غيره من الصحابة السابقين أو الخلفاء الراشدين غير صحيحة، بل هي خطأ كبير[6]، وكون أبي هريرة رضي الله عنه أكثر رواية من السيدة عائشة رضي الله عنها لأنها كانت تفتي الناس في دارها، وأما أبو هريرة، فقد اتخذ حلقة له في المسجد النبوي، كما كان أكثر احتكاكاً بالناس من السيدة أم المؤمنين عائشة بصفته رجلاً، كثير الغدو والرواح، وأضيف إلى هذا أن السيدة عائشة كان جل همها موجهاً نحو نساء المؤمنين، وكان يتعذر دخول كل إنسان عليها[7]. إن نظرة مجردة عن الهوى تدرك أن ما روي عن أبي هريرة من الأحاديث لا يثير العجب والدهشة، ولا يحتاج إلى هذا الشغب الذي اصطنعه أهل الأهواء وأعداء السنن، وإن ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء أسمعه منه أم من الصحابة لا يشك فيه لقصر صحبته، بل إن صحبته تحتمل أكثر من هذا، لأنها كانت في أعظم سنوات دولة الإسلام دعوة ونشاطاً، وتعليماً وتوجيهاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم[8] ـ كثرة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم فقد صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين، فعن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله، ما حدثت حديث ثم يتلوا: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) (البقرة ، آية : 159) . إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن أخواننا الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون[9]. ـ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له في الحفظ : فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه، قال: أبسط رداءك. فبسطه، قال: فغرف بيديه ثم قال: ضمه. فضممته فما نسيت شيئاً بعده[10] ـ كثرة تلامذته والناقلين عنه، فكان عدد تلامذته قريباً من ثمانمائة[11] ـ تأخر وفاته، فقد قيل 58هـ وقيل 59هـ. ثم إن هذه الأحاديث المنقولة عنه تنقسم إلى ما يلي *ـ ما كان ضعيف السند لا يصح عن أبي هريرة *ـ ما كان مكرراً *ـ ما كان له أكثر من اسناد *ـ ما رواه عن أكابر الصحابة كالعشرة وأمهات المؤمنين وغيرهم *ـ ما كان موقوفاً عليه من كلامه[12]. وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج ثلاثمائة وستة وعشرين حديثاً، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين، وانفرد مسلم بثمانية وتسعين، ثم إن جُلَّ الأحاديث التي رواها أبي هريرة لم ينفد بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شاركه في روايتها غيره من الصحابة[13]، وأما اعتراض الشيعة على مروياته، فإن جابر بن يزيد الجعفي روى عن محمد الباقر رضي الله عنه سبعين ألف حديث وعن باقي مائة وأربعين ألف حديث[14]، وروى أبان بن تغلب عن جعفر الصادق رضي الله عنه ثلاثين ألف حديث[15]، وروى محمد بن مسلم عن الباقر ثلاثين ألف حديث، وعن الصادق ستة عشرة ألف حديث[16]. وهذا يبين تناقضهم . وقد شهد لأبي هريرة. الصحابة والتابعون وجهابذة العلم بقوة الحفظ وحضور الذاكرة[17]. فقد قال ابن عمر: يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه[18]، وقال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره[19]. وقال الذهبي:.. سيد الحفاط الأثبات[20]، وقال أيضاً: وأبو هريرة إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدائه بحروفه[21]. وقد دافع الكثير من العلماء عن أبي هريرة وردوا الشبهات التي ألصقت به ومن الكتب المعاصرة التي نسفت الأباطيل التي اتهم به ابو هريرة، العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب[22]، وموقف المدرسة العقلية من السنة النبوية[23]. ك ـ بكاء أبي هريرة في مرض موته ووصية معاوية بورثته : لما حضر أبو هريرة الموت بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ما أبكي دنياكم هذه، ولكن أبكي على بعد سفري وقلَّة زادي، وإني أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار، لا أدري إلى أيُّهما يُؤخذ بي[24]. وجاء في رواية: وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة وفي القوم ابن عمر وأبو سعيد الخدري وخلق، وكانت وفاته في داره بالعقيق، فٌحمل إلى المدينة، فصُلِّيَ عليه ثم دفن بالبقيع ـ رحمه الله ورضي الله عنه ـ وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة، وكتب إليه معاوية أن أنظر ورثته فأحسن إليهم، وأصرف إليهم عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، وأعمل إليهم معروفاً، فإنه كان ممن نصر عثمان، وكان معه في الدار[25]. [/align] |
[align=justify]
· ـ هل أراد معاوية أن ينقل منبر رسول الله من المدينة إلى الشام؟ ذكر الطبري في تاريخه في أحاديث عام 50هـ بأن معاوية أمر بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يحمل إلى الشام فحُرِّك فكسفت الشمس حتى رُئيت النجوم بادية يومئذ فأعظم الناس ذلك، فقال: لم أرد حمله، إنما خفت أن يكون قد أرِضْ[1]، فنظرت إليه، ثم كساه يومئذٍ[2]، وجاء في رواية أخرى: قال معاوية: أني رأيت أن منبر رسول الله وعصاه[3]، لا يتركان بالمدينة، وهم قتلة أمير المؤمنين عثمان وأعداؤه، فلما قدم طلب العصاه وهي عند سعد القرظ، فجاء أبو هريرة وجابر بن عبد الله، فقالا: يا أمير المؤمنين، نذكرك الله عز وجل أن تفعل هذا، فإن هذا لا يصح، تُخرج منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع وضعه، وتخرج عصاه من المدينة. فترك، ذلك معاوية، ولكن زاد في المنبر ستَّ درجات، واعتذر إلى الناس[4]، تحدثت الروايات السابقة عن القضايا التالية: 1 ـ عزم معاوية رضي الله عنه على نقل منبر رسول الله، وعصاه إلى الشام، فقد ذكره الزبير بن بكار[5]، واليعقوبي وابن الجوزي[6]، دون أن يشيروا إلى خبر العصا، أما ابن الأثير[7]، وابن كثير[8]، فقد أورد خبر المنبر والعصا، هذا وقال الدكتور خالد الغيث: ولم أقف على رواية صحيحة تؤكد مزاعم الواقدي هذا فضلاً عن أن دين معاوية، وعدالته، وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمنعه من حمل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى الشام وهو يعلم قوله صلى الله عليه وسلم: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة[9]. هذا وقد أورد عبد الرزاق[10]، خبر قدوم معاوية رضي الله عنه المدينة وزيادته درجات المنبر دون الإشارة إلى إرادة معاوية نقل المنبر إلى الشام، أو أخذ العصا، وزيادة معاوية رضي الله عنه للمنبر وكسوته تعد من مناقب معاوية التي حاول بعض الأخباريين طمسها وتشويهها[11] 2ـ خبر ربط كسوف الشمس بتحريك المنبر فقد ذكره عبد الرزاق والزبير بن بكار[12]، وابن الجوزي[13]، وابن الأثير[14]، وابن كثير[15]، بينما ذهب اليعقوبي[16]، الشيعي إلى حدوث زلزلة عن تحريك المنبر، وهذا الخبر لم يرد بإسناد صحيح، هذا فضلاً عن أن كسوف الشمس على افتراض حدوثه. فإنه لم يكن نتيجة لتحريك المنبر ليس إلا، وقد حصل ما يشبه ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أخرج البخاري من طريق المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رايتم فصلوا، وادعوا الله، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده[17] 3 ـ اتهام معاوية رضي الله عنه ببغض أهل المدينة (الأنصار) لكونهم قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، هذا الخبر أورده ابن الأثير[18]، وهو خبر ضعيف الإسناد[19]. وقد بينت موقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان، وكيف أن كعب بن مالك الانصاري حث الأنصار على نصرة عثمان رضي الله عنه، وقال لهم يا معشر الأنصار: كونوا أنصار الله مرتين، فجاءت الأنصار عثمان، ووقفوا ببابه ودخل زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وقال له: هؤلاء الأنصار بالباب، إن شئت كنّا أنصار الله مرتين[20]. فرفض القتال، وقال: لا حاجة لي في ذلك، كفُّوا[21]. وأما زعمهم أن معاوية يبغض الأنصار رضي الله عنهم لكونهم قتلة عثمان رضي الله عنه، فمردود بما ورد من حقيقة موقف الأنصار من عثمان رضي الله عنه، كما أن تقريب معاوية للأنصار وتوليته إياهم في مناصب هامة وحساسة يرد هذه الفرية، ومن الشواهد على ذلك: 1ـ توليته فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قضاء دمشق[22]، وتوليته إياه منصب أمير البحرية الإسلامية في مصر[23] 2ـ تعيينه النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه أميراً على الكوفة[24] 3ـ تعيينه مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه أميراً على مصر والمغرب معا[25] 4ـ تعيينه رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أميراً على طرابلس[26] [/align] |
[align=justify]رابعاً: مكة
1ـ ولاية خالد بن العاص بن هشام رضي الله عنه: ولى معاوية في سنة 42هـ.. مكة خالد بن العاص بن هشام[1]، وبعد أن سمى الطبري من ولى مكة في سنة 42هـ وسنة 43هـ نجده بعد ذلك يسكت عن تسمية عمال مكة[2]، ويكتفي بعبارة وكانت الولاة والعمال على الأمصار في هذه السنة من تقدم ذكره قبل[3]، أو عبارة نحوها وقد تابعه كل من ابن الجوزي[4]، وابن الأثير[5]. خامساً: ولاة الطائف: لم يذكر الطبري أسماء ولاة الطائف، لكن وردت عنده رواية تفيد تولي بعض بني حرب الطائف، وفيما يلي نص هذه الرواية: وكان معاوية إذا أراد أن يولي رجلاً من بني حرب ولاه الطائف فإن رأى منه خيراً وما يعجبه ولاه مكة معها، فإن أحسن الولاية وقام بما ولى قياماً حسناً جمع له معهما المدينة، فكان إذا ولى الطائف رجلاً قيل: هو أبي جاد[6]، فإذا ولاه مكة قيل: هو في القرآن، فإذا أولاه المدينة قيل: هو قد حذق[7]. أما بالنسبة لمن ولى الطائف من بني حرب فإن رواية الطبري تسكت عن تسميتهم، لكن ورد عند البلاذري ما يفيد تولية عنبسة بن أبي سفيان بن حرب وعتبة بن أبي سفيان بن حرب على الطائف[8]. سادساً: مصر: 1ـ ولاية عمرو بن العاص رضي الله عنه: ولى معاوية عمرو بن العاص على مصر عام 41هـ[9].وهذا من باب وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فعمرو فاتح مصر وواليها على عهد عمر وعثمان رضوان الله عليهم، وهو أقرب الناس لتولي هذه الولاية الهامة[10] وقد تكاثرت الروايات الموضوعة والضعيفة في العلاقة بين عمرو ومعاوية رضي الله عنهما واشتمل على مغامز خفية ومعلنة على الرجلين، وتشير بعضها إلى أن معاوية قد أعطى ولاية مصر لعمرو بن العاص مكافأة له نظير وقوفه إلى جانبه أثناء الفتنة التي أعقبت استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه وهذا الأمر قد بينته في كتابي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن وقوف عمرو بن العاص مع معاوية في المطالبة بالتعجيل بتطبيق القصاص على قتلة عثمان لم يكن تضامناً من عمرو على شخص معاوية بل كان نابعاً من اجتهاد عمرو الشخصي في هذه المسألة، حيث رأى رضي الله عنه الأخذ بالقَودَ من قتلة عثمان على الفور، فكان هذا الاجتهاد من عمرو بن العاص متطابقاً مع اجتهاد معاوية في القضية نفسها[11]. وقد كانت ولاية عمرو بن العاص على مصر ذات صلاحيات واسعة بسبب ما كان يتمتع به من مقدرة إدارية فائقة، وقابليات سياسية وعسكرية متميزة، فقد واصل فتوحات الشمال الأفريقي ونظم أمر العطاء والأعمار والبناء والزراعة والري بمصر[12]وقد بقي عمرو في ولاية مصر حتى وفاته عام43هـ. *ـ وصيته عند موته: يروي ابن شماسة المهري وصية عمرو بن العاص لحظة احتضاره فيقول: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت[13]، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إني كنت على أطباق ثلاث[14]. لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، لو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال فقبضت يدي، قال مالك يا عمرو؟ قال قلت: أردت أن اشترط، قال تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله[15]، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه، ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة[16]. وجاء في رواية: ثم تلبست بعد ذلك بالسلطان وأشياء، فلا أدري عليّ أم لي، فإذا مت فلا تبكينَّ عليّ باكية، ولا تتبعني مادحاً ولا ناراً وشُدُّوا عليّ إزاري فإني مخاصم وشُنُّوا عليّ التراب شَنَّا فإن جنبي الأيمن ليس بأحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلُنَّ في قبري خشبة ولا حجراً، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جذور وتقطيعها، أستأنس بكم[17]. وقد روى مسلم هذا الحديث في صحيحه: كي أستأنس بكم لأنظر ماذا أراجع به رسل ربي عز وجلّ[18]، وفي رواية: أنه بعد هذا حوّل وجهه إلى الجدار وجعل يقول: اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا، ولا يسعنا إلا عفوك. وفي رواية: أنه وضع يده على موضع الغُلِّ من عنقه، ورفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم لا قويُّ فأنتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا اله إلا أنت، فلم يزل يُردّدها حتى مات رضي الله عنه[19]. 2 ـ ولاية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: كانت وفاة عمرو ليلة الفطر سنة ثلاث وأربعين، واستخلف ابنه عبد الله على صلاتها وخراجها[20]وبعد وصول خبر وفاة عمرو بن العاص إلى معاوية قام بتعيين أخيه عتبة على مصر وذلك في شهر ذي القعدة من سنة ثلاث وأربعين[21]. أي أن ولاية عبد الله بن عمرو على مصر لم تزد على شهرين وهي الفترة التي استغرقها وصول خبر وفاة عمرو إلى معاوية، واتخاذه لقرار تعيين الوالي الجديد[22]. وقد وصف الذهبي عبد الله بن عمرو بقوله: الإمام الحبر العابد، صاحب رسول الله وابن صاحبه أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن ... وليس أبوه أكبر منه إلا بإحدى عشرة سنة أو نحوها، وقد أسلم قبل أبيه فيما بلغنا ويقال: كان اسمه العاص، فلما أسلم، غيره النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله[23]، وقد ورث عبد الله من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب فكان من ملوك الصحابة[24]. 3 ـ ولاية عتبة بن أبي سفيان: ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الطائف وصدقاتها ثم ولاه معاوية مصر حين مات عمرو بن العاص، وكان فصيحاً خطيباً، يقال: إنه لم يكن في بني أمية أخطب منه. خطب أهل مصر يوماً وهو والٍ عليها فقال: يا أهل مصر خفّ على ألسنتكم مدح الحق ولا تأتونه، وذم الباطل وأنتم تفعلونه، كالحمار يحمل أسفاراً يثقُله حملها، ولا ينفعه علمها وإني لا أُداوي داءكم إلاّ بالسيف، ولا أُبلغ السيف ما كفاني السوط، وأبلغ السوط ما صلحتم بالدّرة، وأبطيء عن الأولى إن لم تسرعوا إلى الآخرة، فألزموا ما ألزمكم الله لنا تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا. وهذا يوم ليس فيه عقاب، ولا بعده عتاب[25]وجاء في رواية: ... لنا عليكم السمع ولكم علينا العدل واتينا عذر فلا ذمة له عند صاحبه، فناداه المصريون من حنيات المسجد سمعاً، سمعاً، فناداهم عدلا عدلا[26]، وقد قام عقبة ببناء دار الإمارة بعد أن خرج مرابطاً في الاسكندرية[27]، وكان عتبة قد اتخذ لأولاده مؤدباً، يعلمهم ويربيهم، فقد عهد لعبد الصمد بن عبد الأعلى ليكون مؤدباً لولده[28]، ووجه مؤدب أولاده بتتبع أساليب التشويق وتحبيب دراسة كتاب إلى نفوسهم فقال له: علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه[29]، وجاء في رواية: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاحك بني إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينيك فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روهم من الشعر اعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم وعلمهم سير الحكماء وأخلاق الأدباء وجنبهم محادثة النساء، وتهددهم بي، وأدبهم دوني وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء، ولا تتكل على عذري، فإني قد اتكلت على كفايتك، وزد في تأديبهم ازدك في بري أن شاء الله[30]، يتضح من هذه الوصية حرص الولاة الأمويين على تعليم أبناءهم القرآن الكريم والحديث والشعر وغيرها إضافة إلى التأكيد على الجانب التربوي وتزويدهم بالآداب والأخلاق الحسنة، كما أنهم يمنحونهم المؤدبين صلاحيات واسعة، ويكرمونهم[31]. 4 ـ ولاية عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه: 45هـ ـ 47هـ أغفل الطبري ذكر ولاية عقبة بن عامر الجهني على مصر، وتابعه ابن الجوزي، وأبن الأثير وأبن كثير، مع أن ولايته على مصر قد أثبتتها المصادر التاريخية المختصة بالديار المصرية[32]، وهي مقدمة على غيرها في هذا المقام[33]، كما أثبتها له أبن عبد البر[34]، وأبن حجر[35]، وكان عالماً مقرئاً، فصيحاً فقيهاً فرضياً، شاعراً كبير الشأن، وكان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن فقال له عمر بن الخطاب: اعرض عليّ فقرأ. فبكى عمر وكانت له صحبة وبايع رسول الله على الهجرة وأقام معه وكان من أهل الصفة وكان من الرماة المذكورين، مات سنة 58هـ[36] 5 ـ ولاية مسلمة بن مُخلدّ الأنصاري 47هـ ـ62هـ: هو مسلمة بن مُخلدّ الأنصاري الخزرجي، الأمير، نائب مصر لمعاوية يكنى أبا معن وقيل أبو سعيد، وقيل أبو معاوية له صحبة ولا صحبة لأبيه[1]. قال مجاهد: صليت خلف مسلمة بن مُخلدّ، فقرأ سورة البقرة، فما ترك واواً ولا ألفاً[2]. قال الليث: عزل عقبة بن عامر عن مصر في سنة سبع وأربعين فوليها مسلمة حتى مات زمن يزيد[3]وقد توفي سنة 62هـ في ذي القعدة بالأسكندرية[4]، وكانت له جهود في الفتوحات بالشمال الأفريقي يأتي ذكرها بإذن الله تعالى، وكان المغرب كله تابعاً له[5]. هذه هي أهم الولايات والولاة في عهد معاوية رضي الله عنه، ويمكن تلخيص صلاحيات الولاة بالولايات على الإجمال، كتعيين الموظفين، وتشكيل مجالس شورى، إنشاء الجيوش وتجهيزها بالنسبة للولايات التي قريبة من حركة الفتح الإسلامي، كمصر والبصرة، والحفاظ على الأمن الداخلي، والإشراف على الجهاز القضائي بالولاية، والنفقات المالية، ومراقبة الأوضاع بالولاية وغير ذلك من الصلاحيات. [/align] |
[align=justify]
الفصل الرابع الفتوحات في عهد معاوية رضي الله عنه [/align] |
[align=justify]المبحث الأول: حركة الجهاد ضد الدولة البيزنطية :
كان معاوية رضي الله عنه يرى أن الخطر الأكبر من وجهة نظره الدولة البيزنطية، وإن كانت قد خسرت أهم أقاليمها في الشرق ـ الشام ومصر ـ إلا أن جسم الدولة لا زال سليماً لم يمس، فعاصمتها باقية، وممتلكاتها في آسيا الصغرى وأوربا وشمال إفريقيا لا زالت شاسعة وإمكانياتها كبيرة، وقدرتها على المقاومة هائلة، وهي لم تكف بعد عن مناوأة المسلمين، وباختصار فهي العدو الرئيسي والخطر الأكبر الماثل أمام المسلمين، وكان معاوية رجل المرحلة وقادراً على فهم وتقدير هذا الخطر، وعلى مواجهته، أيضا، فقد كان موجوداً بالشام منذ مطلع الفتوحات في عهد أبي بكر الصديق، وأصبح والياً عليه ولمدة عشرين سنة تقريباً، وهو يشكل مع مصر خط المواجهة الرئيسي مع الدولة البيزنطية، فطول إقامة معاوية رضي الله عنه بالشام، أكسبته خبرة واسعة بأحوال البيزنطيين وسياستهم وأهدافهم مما أعانه على أن يعرف كيف يتعامل معهم، لكل ذلك فليس غريباً أن نرى معاوية يولي حدوده مع الدولة البيزنطية وعلاقاته معها جل اهتمامه ويرسم لنفسه نحوها سياسة واضحة ثابتة سار عليها هو وخلفاؤه من الأمويين إلى نهاية دولتهم، وقد كان من أهدافه الرئيسة الاستيلاء على عاصمتهم القسطنطينية[1]. أولاً : معاوية والقسطنطينية: بعد أن أستقر الأمر لمعاوية بن أبي سفيان سنة 41هـ خليفة للمسلمين باشر في تطوير الأسطول البحري ليكون قادراً على دك معاقل القسطنطينية عاصمة الروم ومبعث العدوان والخطر الدائم ضد المسلمين، فبعد أن قضى معاوية على حركات المردة أو الجراجمة الذين أستخدمهم الروم وسيلة لرصد حركات الدولة الإسلامية ونقاط ضعفها وإبلاغ الروم عنها متخذين من مرتفعات طوروس وجبل اللكام مقراً لهم[2]، بدأ الخليفة نشاطه البحري بإرسال حملات بحرية استطلاعية منها حملة فضالة بن عبيد الأنصاري[3]، للوقوف على تحركات الروم وجلب المعلومات الدقيقة عنهم لمنعهم من استخدام جزر قبرص، وأرواد[4]، ورودس ذوات الخدمة التعبوية والعسكرية في عملياتهم ضد الأسطول الإسلامي وقد باشر أعماله الاستطلاعية بإحدى الشواتي وهي شاتية بسر بن أبي أرطأة في البحر عام 43هـ[5] وأعقبها بشاتية مالك بن عبد الله بأرض الروم سنة 46هـ وصائفة عبد الله بن قيس الفزاري بحراً وحملة عقبة بن عامر الجهني بأهل مصر في البحر سنة 48هـ، وصائفة بن عبد الله بن كرز البجلي، وحملة بن عبد الله بن يزيد بن شجر الرهاوي، وشاتيته بأهل الشام في سنة 49هـ[6]، وكان نظام الشواتي والصوائف مستمراً. فقد وضع معاوية أمامه هدفاً واضحاً وهو محاولة الضغط على الدولة البيزنطية من خلال الضغط على عاصمتها القسطنطينية تمهيداً للاستيلاء عليها، ولعل معاوية رضي الله عنه كان يرمي إلى إسقاط الدولة البيزنطية ذاتها بالاستيلاء على عاصمتها فهو يعلم أن هذه العاصمة العتيدة هي مركز أعصاب الدولة ومستقر الأموال والرجال، وفيها العقول المفكرة، فإذا سقطت في يده فإن هذا سيؤدي إلى شلل كامل في الدولة كلها، وأمامه تجربة المسلمين مع الفرس، فبعد سقوط المدائن عاصمتهم في أيديهم أصابهم الارتباك ولاحقهم الفشل، ولم تقم لهم قائمة وزالت دولتهم، فإذا استطاع إسقاط عاصمة البيزنطيين فسيكون ذلك نذيراً بإسقاط الدولة، ويستريح من خصم عنيد وعدو رئيسي، لذلك واصل ضغطه ومحاولاته لتحقيق هدفه، وليس من المبالغة القول إن الدولة البيزنطية ظلت على قيد الحياة مدة تقرب من ثمانية قرون، وهي مدينة ببقائها لعاصمتها القسطنطينية، فمناعة المدينة وصمودها أمام محولات الأمويين المستمرة لفتحها، حال دون ذلك وبالتالي حال دون سقوط الدولة والدليل على هذا أنه عندما استطاع السلطان العثماني محمد الفاتح فتح القسطنطينية والاستيلاء عليها في سنة 857هـ التاسع والعشرين من مايو سنة 1453م كان إيذاناً بسقوط الدولة البيزنطية وزوالها من الوجود[7]. ثانياً: التخطيط الاستراتيجي عند معاوية للاستيلاء على القسطنطينية: حرص معاوية رضي الله عنه أن يكون زمام المبادرة دائماً في يده، لأنها هي التي تمد جزر شرق البحر المتوسط بالقوات والعتاد وتشجع أهلها على شن الغارات على ساحل مصر والشام، وقد سار في تحقيق هذا الهدف في عدة اتجاهات: 1 ـ الاهتمام بدور صناعة السفن في مصر والشام ، واختيار أمهر الصناع للعمل فيها والإغداق عليهم بالأجور والهبات حتى يبذلوا قصارى جهدهم بالعمل[8]، فقد أدرك معاوية ـ رضي الله عنه ـ بحسه العسكري وفكره العبقري أن معارك المسلمين مع الروم، ستعتمد أساساً على الأسطول البحري، وزاد هذا الإحساس عمقاً في قلب معاوية ونفسه تكتل الروم وإعدادهم أكثر من خمسمائة سفينة في معركة ذات الصواري لقهر الأسطول الإسلامي، ومع أن الروم باءوا بفشل ذريع في هذه المعركة، إلا أنهم لم يكفوا عن الإعداد ولم ينتهوا عن تجميع قواتهم لمواجهة قوة المسلمين في البحر، لقد كانوا يظنون أن قوة المسلمين البحرية يمكن القضاء عليها لأنها لا زالت في دور التكوين، ولكنهم فوجئوا بهزيمتهم المنكرة في ذات الصواري، فتوقعوا بعد ذلك أن تكون المعركة القادمة على أسوار العاصمة القسطنطينية فراحوا يستعدون لذلك[9]، وقد أدى التعاون بين مصر والشام في صناعات السفن إلى الوصول إلى نتائج ممتازة، ففي الشام كانت تتوفر أخشاب الصنوبر القوي والبلوط والعرعر التي تصلح لبناء السفن وفي مصر كانت توجد الأخشاب التي تصلح لعمل الصواري، وضلوع جوانب السفن، وخشب الجميز واللبخ والدوم التي تصلح لصناعة المجاديف[10]، وكذلك استغل معاوية معدن الحديد الذي كان متوافراً في مصر والشام واليمن لعمل المسامير والمراسي والخطاطيف والفؤوس، كما كان يتوافر في مصر مادة القطران اللازمة لقلفطة السفن، ونبات الدقس الذي كانت تصنع منه الحبال، وباختصار فقد أدى التعاون المصري الشامي إلى ازدهار البحرية الإسلامية التي ازدادت أهميتها بعد أن أمر معاوية عامله على مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري ببناء دار لصناعة السفن في جزيرة الروضة عام 54هـ[11]. وذلك على أثر غارة شنها البيزنطيون على مصر[12]. 2ـ تقوية الثغور البحرية في مصر والشام،فقد آثر أن يحصن المدن الساحلية ويزودها بالقوات المجاهدة بما يجعلها قواعد تنقل منها الجنود بحراً إلى أي مكان يشاء ووضع لهذه المدن نظاماً عرف بالرباط، وهو ما يقصد به الأماكن التي تتجمع بها الجند والركبان استعداداً للقيام بحملة على أرض العدو، واعتني بهذا النظام حتى أصبح جزءاً مرتبطاً اشد الارتباط بالجهاد، إذ اجتذب الرباط إليه كل الأتقياء المتحمسين العاملين على إعزاز الإسلام ونصرته[13]، وتدرج معاوية رضي الله عنه في تدعيم هذا النظام على نحو ما اتبعه في كل أعماله التي اتسمت بالدقة والابتعاد عن الارتجال والاندفاع، فأعد الرباط لتكون حصوناً يتجمع فيها الجند للدفاع عن المناطق المعرضة لإغارات الأساطيل البيزنطية، ولتكون ملجأً يحتمي بها الأهالي في المناطق الساحلية بأن يأخذوا حذرهم إذا ما لاح خطر السفن البيزنطية في المياه الإقليمية، فكان الحصن في الرباط يضم حجرات للجند ومساكن لهم، ومخازن للأسلحة والمؤن، وبرج للمراقبة، ثم لم يلبث أن أتسع وازدادت أهميته حتى أصبح قاعدة للهجوم وشن الغارات[14]، وتعتبر سياسة منح الإقطاعات بالسواحل الخطوة الأخيرة في سلم السياسة البحرية الدفاعية التي رسمها معاوية قبل أن يستطيع ركوب البحر في عهد عثمان، إذ أتم بفضل هذه الامتيازات إعداد القواعد البحرية التي أخذ ينشىء فيها أساطيله، وكانت آية ازدهار المدن الساحلية نقل جماعات من أهالي بعلبك وحمص وأنطاكية عام 42هـ إلى صور وعكا وغيرهما من المدن بسواحل الأردن، كذلك أصلح معاوية رضي الله عنه حصون هاتين المدينتين ولاسيما عكا التي خرج منها بأولى حملاته البحرية ضد قبرص، وبسط معاوية رضي الله عنه اهتمامه إلى سائر المدن الساحلية[15]. 3 ـ الاستيلاء على الجزر الواقعة شرقي البحر المتوسط ، وقد بدأ ذلك بالاستيلاء على جزيرة قبرص ـ كما سبق ذكره ـ ثم استولى جزيرة أخرى هامة وهي رودس وأمر ببناء حصن بها وبعث إليها جماعة من المسلمين يتلون الدفاع عنها، وجعلها رباطاً يدفعون منه عن الشام، وآثر معاوية أن يحيط المسلمين في رودس بالجو الإسلامي الديني ويعلي راية الإسلام بين أهاليها، فأرسل إليها فقيهاً يدعى مجاهد بن جبر يقرئ الناس القرآن[16] وأراد معاوية أن يتوج حملاته البحرية بغلق بحر إيجة وسد منافذه الرئيسية في وجه السفن البيزنطية، ومنعها من الوصول إلى بلاد المسلمين وعمل على تحقيق ذلك في الاستيلاء على جزيرة ((كريت)) إذ تسيطر هذه الجزيرة تماماً على بحر إيجة، الذي يشبه طرفه الجنوبي فوهة قربة تمتد جزيرة ((كريت)) عبرها، بامتدادها البالغ 160 ميلاً وتقسم الجزيرة هذه فتحة إلى مدخلين يتحكم في كل منهما، وأرسل معاوية جنده الذي استولى على رودس لفتح هذه الجزيرة الهامة ومنع الأساطيل البيزنطية من التسلل عبر الفتحات البحرية المتاخمة لها لمهاجمة الشام على أن جنادة بن أمية الأزدي لم يستطع الاستيلاء على هذه الجزيرة لضخامتها، واكتفى بالإغارة عليها والبطش بالبيزنطيين وأساطيلهم بها، وهكذا وجه معاوية رضي الله عنه أنظار المسلمين شطر البحر الأبيض المتوسط، وأوقفهم على أهمية جزره، فاستولى على ما استطاعت أساطيله أن تفتحه منها، وطرق باب غيرها ومهد الطريق لمن يأتي بعده من الخلفاء الأمويين، وكفل معاوية للمسلمين قوة بحرية نافست البيزنطيين أنفسهم سيادتهم القديمة على البحر الأبيض المتوسط ثم أخذ يعبئها لأهم عمل في تاريخها، وهو ضرب عاصمة البيزنطيين أنفسهم والاستيلاء عليها، ولكن تريث معاوية في تحقيق الهدف الأخير حتى يمكن لنفسه من التفوق البحري على البيزنطية[17]. 4 ـ كان من الضروري لكي تؤتي هذه الاستعدادات البحرية، ثمارها وتحقق أهدافها أن يصاحبها تحصين أطراف الشام الشمالية، التي تشكل مناطق الحدود بين الدولتين الإسلامية والبيزنطية، ضد غارات البيزنطيين من ناحية ولتكون سنداً للقوات الزاحفة على القسطنطينية من ناحية ثانية ذلك لأن المسلمين في فتوحاتهم الأولى في عهد الخلفاء الراشدين، وصلوا إلى أطراف الشام الشمالية، ثم وقفت أمامهم سلسلة جبال طوروس تحول دون وصولهم إلى آسيا الصغرى البيزنطية، وكان البيزنطيون عند انسحابهم وتقهقرهم أمام المسلمين قد قاموا بتخريب المناطق الواقعة شمال حلب وإنطاكيا لئلا يستفيد منها المسلمون، كما خربوا معظم الحصون فيما بين الأسكندرونة وطورسوس[18]، فرأى معاوية ضرورة الاهتمام بهذه المناطق وتعميرها وتحصينها، فاهتم أولاً بمدينة أنطاكيا التي كانت معرضة دائماً للإغارات البيزنطية المفاجئة، واتبع في تعميرها السياسة التي سار عليها إزاء المدن الساحلية للشام، وأغرى الناس على الإقامة بأنطاكيا، بأن منحهم اقطاعات من الأرض، وقوى الرباط المخصص للدفاع عنهم وأخذ معاوية يوالي تدريجياً تعمير المدن الواقعة بين الأسكندرونة وطرسوس أثناء غاراته على أراضي البيزنطيين حتى أصبحت حدود الشام تتاخم مباشرة جبال طوروس الحد الفاصل بين الشام وآسيا الصغرى ولإحكام سيطرته على المعاقل الهامة الواقعة في مناطق التخوم الإسلامية البيزنطية، استولى على سميساط وملطية، كما جدد حصوناً أخرى مثل مرعش والحدث، ثم استولى على حصن زبطرة البيزنطي الهام وأعاد تحصينه[19]، ولكي تكون الحركة مستمرة وتكون مناطق الحدود ميداناً عملياً لتدريب جند المسلمين، وتعويدهم على الدروب والطرق والممرات الجبلية الوعرة دأب معاوية على الغزو المستمر، وأصبح هذا النشاط العسكري يعرف بغزوات الصوائف والشواتي[20] فلا تكاد تمر سنة وإلا ونجد ذكراً عند الطبري وغيره لغزو في البر أو البحر كأن يقول: وفيها شتى فلان بأرض الروم أو كانت صائفة فلان إلى أرض الروم[21]، وكانت هذه الغزوات تنطلق إلى بلاد الأعداء وتخرب تحصيناتهم وتغنم وتعود، وكان تكرار هذه الغزوات يشكل ضغطاً على الدولة البيزنطية ويرهق أعصابها وينهك قواها[22]، وقد برز في هذه الحملات المستمرة عدد من كبار القادة المسلمين الذين تلقوا تدريباتهم في ميدانها وأتقنوا فن الحرب،، مثل عبد الله بن كرز البجلي، ويزيد بن شجرة الرهاوي، ومالك بن هبيرة السكوني، وجنادة بن أمية الأزدي، وسفيان بن عوف، وفضالة بن عبيد[23]، ومالك بن عبد الله الخثعمي، الذين أطلقوا عليه مالك الصوائف لعلو كعبه في الميدان الحربي في آسيا الصغرى[24]، وهؤلاء القادة ابلوا بلاءً حسناً في الجهاد ضد البيزنطيين لإعلاء كلمة الله[25]. ثالثاً : الحصار الأول للقسطنطينية : بعث معاوية رضي الله عنه سنتي 47 ـ 48هـ سرايا من قواته لتغيرعلى الأراضي البيزنطية لتمهد الطريق في سبيل الوصول إلى القسطنطينية فتمكن مالك بن هبيرة السكوني من قضاء الشتاء في الأراضي البيزنطية[26]، ولقد شهدت سنة 49هـ/669م أول حصار إسلامي لمدينة القسطنطينية ذلك أن نجاح قوات المسلمين في توغلهم في الأراضي البيزنطية بالإضافة إلى الصراعات الداخلية التي واجهها الإمبراطور قُسطانز الثاني نتيجة تمرد اثنين من قادته هما سيليوس وميزيريوس[27]، كل ذلك ساعد معاوية رضي الله عنه على أن يبعث قواته في البر والبحر بقيادة كل من فضالة بن عبيد الليثي وسفيان بن عوف العامري يساعدهم يزيد بن شجرة الرهاوي، تجاه القسطنطينية[28]، ووصل الأسطول الإسلامي إلى خلقيدونيةـ ضاحية من ضواحي القسطنطينية على البر الآسيوي ـ وحاصرها توطئة لاقتحامها في محاولة لاختراق المدينة من تلك الناحية، ولكن انتشار مرض الجدري وفتكه بكثير من جند المسلمين علاوة على حلول الشتاء القارص جعل ظروف الجيش المحاصر صعبة للغاية، فما كان من فضالة بن عبيد الليثي، قائد الجيش البري إلا أن استنجد بمعاوية طالباً منه أن يمده بقوات إضافية، فأرسل معاوية رضي الله عنه مدداً من الجيش يضم بين أفراده مجموعة من الصحابة، أمثال: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد اله بن عمرو بن العاص، وأبو أيوب خالد بن يزيد الأنصاري، رضي الله عنهم[29]، وكان القائد العام لهذه الفرقة هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وعندما وصل يزيد بقواته إلى خلقيدونية انضم إلى الجيش المرابط هناك، وزحفوا جميعهم نحو القسطنطينية وعسكروا خلف أسوارها ضاربين عليها الحصار حوالي ستة أشهر ((من الربيع إلى الصيف)) وكان يتخلل هذا الحصار اشتباكات بين قوات القوتين، وأبلى يزيد في هذا الحصار بلاءً حسناً وأظهر من دروب الشجاعة والنخوة والإقدام ما حمل المؤرخين على أن يلقبوه بـ((فتى العرب))[30]. وكادت القوات الإسلامية أن تحرز انتصاراً لولا أنه واجهوا صعوبات جمة منها: الشتاء الغزير المطر والبرد القارص مما أدى إلى نقص الطعام والأغذية، وتفشي الأمراض بينهم، كما كان لمناعة أسوار القسطنطينية أثرها في تراجع المسلمين وإجبارهم مرة أخرى على العودة إلى بلاد الشام[31]، كما كانت النار التي فتحها المتحصنون بها على جيش المسلمين من أهم الأسباب التي عوقت قدرتهم على فتحها، فقد أحرقت النار كثيراً من سقى المسلمين[32]، ويعد غزو القسطنطينية من دلائل النبوة حيث أخبر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال:... أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم[33]، وقد اشترك في غزو القسطنطينية عدد من كبراء الصحابة رضوان اله عليهم، طلباً للمغفرة التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم[34]. [/align] |
[align=justify]رابعاً : وفاة أبي أيوب الأنصاري في حصار القسطنطينية:
هو خالد بن زيد بن كليب، أبو أيوب الأنصاري الخزرجي، شهد بدراً والعقبة والمشاهد كلها، وشهد مع علي رضي الله عنه قتال الخوارج وفي داره كان نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قدم المدينة مهاجراً من مكة فأقام عنده شهراً حتى بنى المسجد ومساكنه حوله، ثم تحوَّل إليها[1]، وقدوفد أبو أيوب على عبد الله بن عباس لما كان والياً على البصرة في عهد علي، فبالغ في إكرامه، وقال لأجزينَّك على إنزالك النبي صلى الله عليه وسلم عندك، فوصله بكل ما في المنزل فبلغ ذلك أربعين ألفاً[2]، وجاء في رواية لما أراد الانصراف خرج له عن كل شئ بها، وزاده تحفاً وخدماً كثيراً وأعطاه أربعين ألفاً وأربعين عبداً، إكراماً له لما كان أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وقد كان من أكبر الشرف له[3]. وهو القائل لزوجته أم أيوب حين قالت له: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ ـ أي في حديث الافك ـ فقال لها: أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ فقالت: لا والله. فقال: والله لهي خير منك فأنزل الله[4](( لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)) (النور ، الآية : 12) . وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي أيوب ومصعب بن عمير[5] رضي الله عنهما صاحب الفتح السلمي الكبير بالمدينة المنورة. وكانت وفاته ببلاد الروم قريباً من سور قسطنطينية، وكان في جيش يزيد بن معاوية وإليه أوصى وهو الذي صلى عليه[6]. وقد جاء في رواية: أغزى أبو أيوب، فمرض، فقال: إذا متُّ فاحملوني، فإذا صافقتم العدوَّ، فارموني تحت أقدامكم. أما إني سأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة[7]، ودفن أبو أيوب عند سور القسطنطينية، وقالت الروم لمن دفنه: يا معشر العرب قد كان لكم الليلة شأن. قالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبينا، والله لئن نُبش، لاضُرِبَ بناقوس في بلاد العرب[8]، وبعد مجيء الدولة العثمانية وفتح القسطنطينية أصبحت مكانة أبي أيوب الأنصاري عظيمة في الثقافة العثمانية، فقد درج السلاطين العثمانيون يوم يتربعون على الملك أن يقيموا حفلاً دينياً في مسجد أبي أيوب، حيث يتقلدون سيفاً للرمز إلى السلطة، التي أفضت إليهم وكان لأبي أيوب رضي الله عنه عند الترك خواصهم وعوامهم رتبة ولي الله الذي تهوي إليه القلوب المؤمنة وينظرون إليه كونه مضيف رسول الله، فقد أكرمه وأعانه وقت العسرة كما أنه له مكانة مرموقة بين المجاهدين واعتبروها ضيافته لرسول الله وجهاده في سبيل الله أعظم مناقبه وأظهر مآثره[9]. وقد ترك أبو أيوب رضي الله عنه في وصيته بأن يدفن في أقصى نقطة من أرض العدو صورة رائعة تدل علىتعلقه بالجهاد، فيكون بين صفوفهم حتى وهو في نعشه على أعناقهم وأراد أن يتوغل في أرض العدو حياً وميتاً، وكأنما لم يكفه ما حقق في حياته فتمنى مزيد عليه بعد مماته، وهذا ما لا غاية بعده في مفهوم المجاهد الحق بالمعنى الأصح الأدق[10]. ومن الغريب ما نراه في حياتنا من حرص بعض المسلمين إذا مات خارج بلده أن يوصي أهله بأرجاعه ودفنه في أرضه والأرض الأرض الله والبلاد بلاد الله. وقد مدحه شعراء الأتراك في أشعارهم وهذا شيخ الإسلام، أسعد أفندي يشير أشارة لامحة إلى موقعه بقوله: شهد المشاهد جاهداً ومجاهداً ومكابـداً بحروبه مـا كابدا حتى أتـى بصلابة ومهـابة في آخر الغزوات هذا المشهدا قد مات مبطوناً غريباً غازيا فغدا شهيداً قبل أن يستشهدا كان أبو أيوب رضي الله عنه عندما خرج في غزوة الفسطنطينية قد تقدمت به السن وأصبح شيخاً كبير وكان يقول: قال الله تعالى: ((انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا...)) (التوبة ، الآية :41) لأجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً[11]، وكان أبو أيوب رضي الله عنه يعلم الناس الفهم الصحيح لآيات الله ومفاهيم الإسلام فعن أبي عمران التجيبي قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ يعني الجماعة الذين غزو من المدينة ـ والروم ملصقوا ظهورهم بحائط القسطنطينية، فحمل رجل على العدو فقال الناس مه، مه لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة: فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام قلنا: هلمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: ((وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) (البقرة ، الآية : 195) فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد قال أبو عمران، فلم يزال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية[12] فهذا الحديث يبين لنا خطورة الاشتغال بالأموال عن الجهاد في سبيل الله تعالى، وإن الهلاك الحقيقي هو هلاك الآخرة بسبب التهاون في واجبات الإسلام[13]. خامساً : الحصار الثاني للقسطنطينية : استطاع معاوية رضي الله عنه أن يضيق الخناق على الدولة البيزنطية بالحملات المستمرة والاستيلاء على جزر رودس وأرواد اللتين سبقت الإشارة إليهما، وقد كان لجزيرة أرواد والتي تسميها المصادر الأوربية كزيكوس أهمية خاصة لقربها من القسطنطينية، حيث اتخذ منها الأسطول الإسلامي في حصاره الثاني للمدينة أو حرب السنين السبع 54 ـ 60هـ قاعدة لعملياته الحربية، وذلك أن معاوية أعد أسطولاً ضخماً، وأرسله ثانية لحصار القسطنطينية، وظل مرابطاً أمام أسوارها من سنة 54هـ إلى سنة 60هـ[14]، فكانت الأساطيل تنقل الجنود من هذه الجزيرة إلى البر لمحاصرة أسوار القسطنطينية على حين يكمل الأسطول الحصار، واستمر الحصار البري والبحري للقسطنطينية من شهر أبريل إلى سبتمبر، تتخلله مناوشات بين أساطيل المسلمين وجنود البيزنطيين من الصباح إلى المساء، على حين تتراشق القوات البرية الإسلامية مع الجند البيزنطي المرابط على أسوار القسطنطينية بالقذائف والسهام، استمر هذا الوضع طيلة سبع سنوات[15]، حتى أرهقت البيزنطيين، وأذاقتهم ألوان الضنك والخوف وأنزلت بهم خسائر فادحة، وبالرغم من كل ذلك لم تستطع اقتحام المدينة أو التغلب على حراسها المدافعين عن أسوارها[16]، وكانت العوامل التي ساعدت القسطنطينية على الصمود عديدة منها: 1 ـ استعمال البيزنطيين في هذه المعارك ناراً سموها النار البحرية أو النار الأغريقية وهو عبارة عن مركب كيمائي مكون من النفط والكبريت، القار، وكان هذا المركب يشعل بالنار وتقذف به المراكب فيشعل فيه النار والعجيب أنه كان يزداد اشتعالاً إذا لامس الماء ومخترع هذا المركب الكيميائي الفتاك، الذي فتك بالعديد من سفن المسلمين وجنودهم هو مهندس سوري الأصل اسمه كالينكوس، كان في أوائل الأمر في خدمة المسلمين ثم هرب إلى القسطنطينية، ووضع خبرته في خدمة البيزنطيين[17]. وكان هذا السلاح الجديد من أهم العوامل التي ساعدت البيزنطيين على الصمود والاستمرار في الدفاع عن العاصمة وظل هذا السلاح سراً خفياً، لا يعرفه إلا المتخصصون في صناعته، وكان الأباطرة يمدون حلفاءهم بهذا السلاح دون أن يطلعوهم على سره،، ومرت أربعة قرون، وهو سلاح غامض لم يعرف كنهه سوى مخترعه، وفي القرن العاشر المسيحي، الرابع الهجري، عرف الباحثون سر هذه النار، وبينوا العناصر التي تكونت منها، والوسائل التي يمكن إخمادها بها، وتطور هذا السلاح حتى كان منه ما يشبه المفرقعات، وكانت تلقى على الأعداء بواسطة المجانيق، أو أنابيب نحاسية تقذف من السفن، وكان لها صوت مدو يصحبه دخان كثيف مسبوق بلهب خاطف، وشغل هذا الاختراع عقول العلماء المسلمين، فراحوا يبحثون ويفكرون، حتى عرفوا سره في مطلع القرن الحادي عشر المسيحي، الخامس الهجري، وأدخلوا عليه تعديلات جعلته أشد فتكاً، وأقوى أشراً من النار الأغريقية واستخدم المسلمون هذا السلاح الفتاك في حروبهم مع الصليبيين بأرض الشام، وكان وقعه شديداً على الصليبيين، ونشر فيهم الرعب والفزع، ومن ذلك الحين عرفت هذه النار ((بالنار[18] الإسلامية))، يقول الدكتور إبراهيم العدوي: لأن الأعداء عجزوا عن معرفة هذا السلاح الجديد الذي احتضنه المسلمون، وظل استخدام النار الإسلامية سائد حتى القرن الرابع عشر المسيحي،الثامن الهجري حيث دخلت عليها تطورات وتعديلات كثيرة، أدت أخيراً إلى صناعة البارود. ومن ثم تعتبر النار الإسلامية أساس هذا الانقلاب الخطير في أساليب الحرب التي عرفها العالم الحديث وبرهن المسلمون على أنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام أي سلاح جديد يفاجئهم به الأعداء، وأنهم قادرون على استغلاله فيما بعد لما فيه صالحهم ونفعهم[19]. ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لا يجاد حل للتفوق العسكري الأمريكي والغربي عليهم. 2 ـ السلسلة الحديدية الضخمة، الحاجزة ما بين القرن الذهبي ميناء القسطنطينية وبين الشاطئ الآسيوي، حيث كان يتم إقفالها في حالات الحرب أو التهديد بالحصار[20]. 3 ـ الموقع الجغرافي في الفريد الذي وصفه المؤرخ بينز بأنه ((استقر على شبه الجزيرة البارز من أوروبة، والذي يكاد يلاقي الشاطئ الآسيوي وفي وسط الطريق بين الحدود الشمالية والشرقية في بقعة يحميها مدّ مرمرة العنيف من الهجمات البحرية. 4 ـ الأسوار الداخلية والخارجية الضخمة والمزوّدة بعدد كبير من أبراج المراقبة التي كان لها دور في كشف التحركات المعادية وإبطال عنصر المفاجأة فيها . 5 ـ ضعف التجربة الأموية في حرب الحصار للمدن المتداخلة مع مياه البحر، مثل القسطنطينية، حيث تطلب ذلك أسلحة متطورة بأساليب جديدة في القتال، لم تكن في متناول القوات الأموية حتى ذلك الحين[21]. 6 ـ دبلوماسية الدولة البيزنطية والإسلامية: لقد تظاهرت عدة عوامل ساهمت في منع سقوط القسطنطينية منها، مناعة المدينة الطبيعية وقوة تحصيناتها، والنار الإغريقية، ورداءة الطقس وقسوته، والتيارات المائية الشديدة الانحدار الآتية من البحر الأسود لتحول دون استيلاء المسلمين على المدينة، رغم صبرهم وبسالتهم وتحملهم المشاق وفي النهاية دعت الظروف الداخلية في كل من الدولتين إلى إنهاء الحصار، فدخلوا في مفاوضات انتهت بعقد صلح بينهما،عاد بمقتضاه الجيش الإسلامي والأسطول إلى الشام.. ففيما يتعلق بالدولة الأموية أدرك معاوية أن مدة الحصار قد طالت دون أن يتحقق الهدف، ولما كانت سنّه قد كبرت، وأحس بدنو أجله، رأى من المصلحة أن يعود هذا الجيش الكبير المرابط حول المدينة تحسباً لأي مشاكل قد تواجه ابنه وخليفته يزيد بعد موته، فيكون وجود هذا الجيش عنده ضرورياً لضبط الأمور داخلياً، كذلك كانت الدولة البيزنطية تواقة إلى إنهاء هذا الحصار عن عاصمتها، فقد أرهقها وأنهك قواها، ولذلك يقال: إنها أرسلت إلى دمشق رجلاً يدعى يوحنا من أشهر رجالها الدبلوماسيين، وأكثرهم ذكاء وفطنة وحضر هذا الرجل جلسات كثيرة تضم خيرة أبناء البيت الأموي وأبدى فيها من الإجلال للدولة الإسلامية، ما أكسبه تقدير معاوية واحترامه ونجحت مفاوضاته في عقد صلح بين الطرفين، وبعد إبرام المعاهدة أخذت القوات الإسلامية المرابطة براً وبحراً أمام القسطنطينية طريق العودة إلى الشام، وتركت عاصمة البيزنطيين تئن من جراحها المثخنة[22]. [/align] |
[align=justify]سادساً: العلاقات السلمية بين الدولتين:
رغم أن الطابع العام الذي ميز العلاقات بين الدولة الإسلامية والبيزنطية في عصر الخلافة الراشدة والعصر الأموي كان عسكرياً نتيجة لحركة الجهاد واستمرارها في العهد الأموي من حملات الصوائف والشواتي طوال السنة تقريباً، وكذلك الدور الجهادي الذي كانت تؤديه مدن الثغور، إلا أن هذا لا يعني أن الطابع السلمي المتمثل فيما جرى من مفاوضات ومداولات كان مفقوداً فقد اتخذت العلاقات السلمية بين الدولتين، الإسلامية والبيزنطية في العهد الأموي أشكالاً مختلفة منها المراسلات، وتبادل الخبرات، والمناظرات في المجالات الثقافية، وتبادل الأسرى والسفراء[1]. 1ـ المراسلات: فقد تم مراسلة قيصر الروم من قبل معاوية في فترة الفتنة وتوصل معه إلى عقد صلح على أن يؤدي معاوية له مالاً وأن يأخذ كل طرف رهناً من الطرف الآخر[2]، وارتهن معاوية منهم رهناء فوضعهم ببعلبك، ثم إن الروم غدرت فلم يستحل معاوية والمسلمون قتل من في أيديهم من رهنهم، وخلوا سبيلهم وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر[3]،والمهم أن مثل هذه الحوادث يجب أن تُقدَّر بقدرها فلا يجوز للدولة الإسلامية ـفي الأصل ـ أن تتهاون وتتكاسل عن الأخذ بأسباب القوة حتى تصل إلى مرحلة من الضعف تمكّن الأعداء منها أو يطمع فيها الطامعون، بل الأصل في دولة الإسلام أن تكون دولة قوية يهابها الأعداء، فإذا مرت بها فترة ضعف أو احتاجت إلى دفع ضرر عليها بمال أو نحوه فذلك يدخل من باب ((الضرورات)) وليس حكماً عاماً وما (( أبيح للضرورة يُقدّر بقدرها، كما قرر الفقهاء[4]، فلا ينبغي عقد صلح دائم مع العدو بدفع المال إليه، بل يجب أن يكون الصلح والدفع لفترة ضعف المسلمين أو حالة الضرورة، مع العمل الجاد على رفع حالة الضعف وبناء قوة الأمة وقدراتها المطلوبة بكل جدية وعزم، فإذا زالت يجب على المسلمين أن يمتنعوا من عقد أي معاهدة فيها ذلة أو مفسدة لهم، والخلاصة: إنه يجوز للدولة الإسلامية عقد معاهدة اضطرارية تُقدّر بقدرها وتنتهي بانتهاء حالة الضرورة التي عُقدت من أجلها[5]. لم تقتصر المراسلات على الجانب العسكري فقط، ولكن رويت بعض المراسلات التي تتناول المناظرة في الجوانب العلمية والأمور العامة، فقد كتب قيصر الروم إلى معاوية سلام عليك أما بعد: فانبئني بأحب كلمة إلي الله وثانية وثالثة ورابعة وخامسة وعن أربعة أشياء، فيهن روح ولم يرتكضن في رحم، وعن قبر يسير صاحبه، ومكان في الأرض لن تصبه الشمس إلا مرة واحدة وغير ذلك من الأسئلة، فكتب إليه معاوية: أما أحب كلمة إلى الله، فلا إله إلا الله لا يقبل عملاً إلآ بها، وهي المنجية، والثانية سبحان الله صلاة الخلق، والثالثة الحمد لله كلمة الشكر والرابعة الله أكبر، فواتح الصلوات والركوع والسجود، والخامسة لا حول ولا قوة إلا بالله. والأربعة فيهن روح ولم يرتكضن في رحم فآدم، وحواء وعصا موسى والكبش، والموضع الذي لم تصله شمس إلا مرة واحدة، فالبحر حين انفلق لموسى وبني إسرائيل والقبر الذي سار بصاحبه، فبطن الحوت الذي كان فيه يونس[6]. 2 ـ تبادل الخبرات : وهي مجال تبادل الخبرات حاول كل من العرب والروم الاستفادة من خبرات الطرف الثاني في مجالات الحياة كافة، معتمدين على الاقتباس تارة، والإبداع تارة أخرى، على أن ما أخذه المسلمين من الروم في هذا المجال لم يكن مجرد اقتباس، بل طور كثيراً بأن أضيف إليه أحياناً وشذب في أحيان أخرى، حتى أصبح يتماشى مع روح الدين الإسلامي، ويتمثل ذلك في معالم النهضة العمرانية المتمثلة في اهتمام الأمويين بالمساجد والتوسع في إقامتها[7]، وقد استخدم معاوية عدداً من الروم ممن كانوا في الإدارة البيزنطية في بلاد الشام قبل فتحها، كتّاباً في الأمور الإدارية، حيث عين سرجون بن منصور الرومي كاتباً له، كما استخدم بن اثال النصراني طبيباً له[8]، وكان معاوية رضي الله عنه متسامحاً مع النصارى حتى شهد له بروكلمان بهذا التسامح: واختلطوا بالمسيحية اختلاطاً بعيداً... وفي بلاط معاوية لعب سرجون بن منصور النصراني دور المستشار المالي المتنفذ وحفظ النصارى للخليفة معاوية هذا التسامح واخلصوا له، وأعظموه إعظاماً، لاتزال تقع عليه في الروايات النصرانية، وحتى في كتب التاريخ الأسبانية[9]. 3 ـ تأثر الدولة البيزنطية بالتسامح الإسلامي: يذكر العدوي: إن انعكاس التسامح الديني مع النصارى ظهر تأثيره على الدولة البيزنطية، إذ من المعروف، إنها كانت تضظهد رعاياها من أصحاب المذاهب الأخرى وتعاملهم معاملة قاسية وتعتبرهم هراطقة، وبظهور دولة الإسلام ودخول كثير من المسيحيين في التبعية لها، اتجهت الإمبراطورية البيزنطية إلى تجديد أساليبها وسياستها، وجعلت من نفسها صاحبة الحق في رعاية المسيحيين في بلاد الشام[10]، وكان معاوية رضي الله عنه يجلس إلى جماعات المسيحيين من المذاهب المختلفة ويستمع إلى جدلهم الديني ومناقشاتهم المختلفة[11]، وبهذا ضربت الدولة الإسلامية الأموية مثلاً سامياً، يدل على عظمة الرسالة الإسلامية ومدى التسامح الديني تجاه رعاياها من غير المسلمين وابتعادها عن التعنت والتعصب الديني الذي يتهمهم به قسم من المستشرقين[12]. 4 ـ آداب السفراء: لم يكن نظام الموفدين والسفراء مقتصراً على العهد الأموي بل له امتداداته من عهد(رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، فكان السفير يختار وفق مواصفات خاصة تتمثل في قوة شخصيته ونباهته ورجاحة عقله، وكان السفير من كلتا الدولتين، يزود بخطاب يحمل تعريفاً بشخصية الرسول والغرض من رسالته وتخويله حق التحدث رسمياً باسم دولته[13]. ولم يكن الموفدون والسفراء مدار اهتمام الدولة الإسلامية الأموية فقط، بل اهتم الروم كذلك بسفرائهم أيضاً، فكانوا يختارونهم من رجال الدين الدهاة العارفين بأمور دينهم وأصحاب قدرة على النقاش والجدال، فصيحي اللسان، عارفين بالعربية إضافة إلى لغتهم الأصلية[14]، وكان الخلفاء والملوك يهتمون بالسفراء والمبعوثين، ويستقبلون في قصور الخلفاء وتسمع آراؤهم فيها، فحين سأل معاوية رسول البيزنطيين، بعد أن فرغ من بناء قصره المعروف بالخضراء، أبدى عليه ملاحظاته قائلاً: أما أعلاه فللعصافير، وأما أسفله فللفار وعندما أدرك معاوية صحة انتقاد السفير وصواب رأيه جعله يعيد بناء قصره بالحجارة[15]، وأما البيزنطيون فكانوا يستقبلون السفراء العرب في كنيسة أيا صوفيا وقناطير المياه والأديرة حول القسطنطينية[16]، وعند رجوع السفير كانت تقدم له الهدايا والمجوهرات الثمينة إكراماً له ولمن بعثه[17]، ويبدو أن الهدف من وراء ذلك عند كلتا الدولتين، هو إظهار صيغ الاحترام المتبادل والنيات الحسنة في إقامة الصلح وإنابة السلام وكذلك إظهار كل دولة للأخرى مدى قوتها ورخائها، كي تكون محط أنظار السفير ومهابته من أجل وصف ما يشاهده إلى من بعثه عند رجوعه إليه[18]، ورغم ما أشير إليه من الصفات التي يجب توفرها في السفير إلا أنه يبقى محط أنظار الخليفة أو الملك وتراقب تصرفاته وحركاته خشية الوشاية والكيد وإشعال نار الحرب وهذا ما حدث مع سفير معاوية إلى القسطنطينية الذي أرسل لعقد هدنة مع الروم وكان السفير مزود بتعليمات مشددة تقتضي ألا يخفف من شروط الهدنة مع البيزنطيين ولكن لم يستطع هذا السفير تنفيذ وصية معاوية وتهاون في عقد الهدنة حتى جاءت في صالح البيزنطيين[19]، فلما عاد عزله من منصبه[20]. [/align] |
[align=justify]سابعاً: الجراجمة في عهد معاوية رضي الله عنه:
في أثناء الحروب والغارات بين المسلمين والبيزنطيين، في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كان هناك طرف ثالث يشارك في النزاع القائم بينهما، يطلقون على أنفسهم اسم((الجُرَاجمِة)) نسبة إلى مدينة((الجُرَجُومة))[1]، وأصولهم غير معروفة، ويشير البلاذري إلى أنهم كانوا يدينون بالنصرانية وأنهم كانوا لذلك يتبعون((بطريق أنطاكية وواليها))[2]. وعندما فتح المسلمون بلاد الشام أرسل أبو عبيدة عامر بن الجراح حبيب بن مسلمة الفهري: فغزا الجرجومة فلم يقاتلها أهلها ولكنهم بادروا بطلب الأمان والصلح، فصالحوه على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللكام، وأن لا يُؤخَذوا بالجزية، وأن يُنَفَّلوا أسلاب من يقتلون من عدوّ المسلمين إذا حضروا حرباً معهم في مغازيهم[3]. ولكن الجراجمة لم يلبثوا أن نقضوا اتفاقهم هذا، وصنعواً حاجزاً بين المسلمين والبيزنطيين واستطاعوا عرقلة سير الفتوحات الإسلامية في آسيا الصغرى، فكانوا متذبذبين مرّة مع المسلمين وأخرى مع الروم وقد بقيت شوكة في ظهر الجيوش الإسلامية ليس في عهد معاوية لكن حتى عهد عبد الملك، ثم ما لبثت أن تفرقت في بلاد الشام وآسيا الصغرى، فخفَّ خطرها[4]. وعلى أية حال، فلابد من القول بأن الانشاءات والمجهودات التي قام بها معاوية رضي الله عنه في سبيل الوصول إلى القسطنطينية وان كانت لم تثمر خلال حياته إلا أنها لعبت دوراً أساسياً في حفز من جاؤوا بعده من الخلفاء لأن يكملوا المسيرة التي بدأها[5]. ثامناً: أبو مسلم الخولاني من الغزاة في أرض الروم: وهذا مثال من عظماء الرجال في ذلك العصر الذين ساهموا في صياغة نموذج إسلامي في السلوك والتعامل مع الحكام والمشاركة الإيجابية في المجتمع وحركة الفتوحات. قال عنه الذهبي: سِّيد التابعين وزاهد العصر واسمه عبد الله بن ثوب على الأصح[6]قدم المدينة وقد قبض النبي صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر[7]، وكانت له مواقف محموده في ضد الأسود العنسي الذي تنبَّأ باليمن، وثبت أبو مسلم على الإسلام فبعت إليه الأسور، فأتاه بنار عظيمة، ثم إنَّه ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضُرَّه، فقيل للأسود: إن لم تَنْفِ هذا عنك أفسد عليك من اتَّبعك. فأمره بالرحيل، فقدم المدينة فأناخ راحلته ودخل المسجد يُصليِّ، فبصُر به عمر رضي الله عنه، فقام إليه، فقال: ممَّن الرجل؟ قال: من اليمن. قال: ما فعل الذي حَرقُه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب. قال: نشدتك بالله، أنت هو؟ قال: اللهمَّ نعم: فاعتنقه عمر وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصِّدِّيق. فقال: الحمدلله الذي لم يُمتني حتَّى أراني في أمة محمد من صنع به كما بإبراهيم الخليل[8]. وهذا التابعي الكبير كان من أهل الشام في عهد معاوية وقد تأثر به خلق كثير بها وكان رحمه الله كثير العبادة، فعن أبي العاتكة: قال: علَّق أبو مسلم سوْطا في المسجد[9]، فكان يقول: أنا أولى بالسَّوط من البهائم، فإذا فتر مَشَقَ[10]، ساقيه سوطا أو سوطين. وروى أنه كان يقول: لو رأيت الجنة عياناً أو النَّار عياناً ما كان عندي مستزاد[11]، وعن شرحييل، أن رجلين أتيا أبا مسلم، فلم يجداه في منزله، فأتيا المسجد، فوجداه يركع فانتظراه فأحصى أحداهما أنه ركع ثلاث مئة ركعة[12]، وكان أبو مسلم، إذا استسقى سُقي[13]، وكان مستجاب الدعوة فعن محمد بن زياد، عن أبي مسلم، أن امرأة خَبَّبتَ[14]، عليه امرأته،فدعا عليها،فعميت، فأتته فأعرضت وتابت، فقال: اللهُمَّ إن كانت صادقة، فاردُد بصرها، فأبصرت[15]وشارك رحمه الله بالجهاد في أرض الروم وعن أبي مسلم الخولاني، أنَّه كان إذا غزا أرض الروم، فمُّروا بنهر فقال: أجيزوا بسم الله، ويمر بين أيديهم، فيمرون بالنهر الغَمرْ، فربما لم يبلغ الدَّوابِّ إلا الرُّكب، فإذا جازوا قال: هل ذهب لكم شيء؟ فمن ذهب له شيء فأنا ضامن له، فألقى بعضهم مِخْلاته عمداً. فلما جاوزوا قال الرجل: مِخْلاتي وقعت، قال: اتَبعني فاتّبعه، فإذا بها معلَّقةٌ يعود في النهر، قال: خذها[16]، وكان الولاة يتيَّمنون بأبي مسلم، ويؤَمِّرونه على المقدِّمات[17]، وقد توفي رحمه الله بأرض الروم، وكان شتا مع بُسر بن أبي أرطاة فأدركه أجله، فعاده بُسر في مرضه فقال له أبو مسلم: يا بُسر، اعقد لي على من مات في هذه الغزاة فإني أرجو أن آتي بهم يوم القيامة على لوائهم[18]، وعندما سمع معاوية رضي الله عنه بموته قال: إنما المصيبة كل المصيبة بموت أبي مسلم الخولاني وكريب بن سيف الأنصاري[19]، وكان رحمه الله من أهل الحكمة فقد روي عن أبي مسلم الخولاني في مجال الرَّضى التام بقضاء الله وقدره، قوله: لأن يولد لي مولود يحسن الله عز وجل نباته حتى إذا أستوى على شبابه وكان أعجب ما يكون إليّ قبضه منيّ أحب إليّ من أن يكون لي الدنيا وما فيها[20]. وهذا دليل على كمال توحيد أبي مسلم عبد الله بن ثوب الخولاني حيث جاوز مرحلة الصبر على أقدار الله المؤلمة إلى مرحلة الرضى بقضاء الله، فاعتبر المصيبة بفقد ولد قد أحسن الله نباته وكان على خير ما يتمناه المؤمن شباباً صلاحاً أحبّ إليه من الدنيا وما فيها[21]. هذه بعض الملامح العريضة على الجبهة الشامية المتعلقة بالجهاد في عهد معاوية رضي الله عنه. [/align] |
[align=justify]المبحث الثاني: فتوحات الشمال الأفريقي في عهد معاوية رضي الله عنه:
أولاً: حملة معاوية بن حديج رضي الله عنه: معاوية بن حديج الكندي له صحبة ورواية قليلة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد روي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان في شيء شفاء فشربة عسل أو شرطة محجم، أو كية نار، وما أحب أن أكتوي[1]، وكان رضي الله عنه ملكاً مطاعاً من أشراف كندة[2]، وكان من خيرة الأمراء، فعن عبد الرحمن بن شماسة قال: دخلت على عائشة، فقالت: ممن أنت؟ قلت من أهل مصر، قالت: كيف وجدتم ابن حُديج في غزاتكم هذه؟ قلت: خير أمير، ما يقف لرجل منا فرس ولا بعير إلا أبدل مكانه بعيراً، ولا غلاماً إلا أبدل مكانه غلاماً. قالت: إنه لا يمنعني قتله أخي أن أُحدثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم من ولي من أمر أُمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به، ومن شقّ عليهم فأشقق عليه[3]، وبعد أن استتب الأمر لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كانت جبهة شمال أفريقيا، من أولى الجبهات التي وجه إليها اهتمامه، لأنها تتاخم حدود مصر الغربية من ناحية ومن ناحية أخرى فهي تخضع لنفوذ الدولة البيزنطية، العدو اللدود للمسلمين والتي صمم أمير المؤمنين معاوية على تضييق الخناق عليها، وعدم إعطائها فرصة لالتقاط أنفاسها، ففي الوقت الذي واصل فيه ضغطه عليها من الشرق، وزحفه على جزرها في البحر المتوسط تمهيداً للوصول إلى عاصمتها القسطنطينية ـ كما سبق ذكره ـ نراه قد قرر أن يطوقها من الجنوب، من شواطي شمال إفريقيا التي كانت تعتبرها من أملاكها، ففي أول سنة من حكمه 41هـ أرسل معاوية بن حديج على رأس حملة إلى إفريقيا ثم أرسله ثانية سنة 45هـ على رأس حملة من عشرة الآف مقاتل، فمضى حتى دخل إفريقيا وكان معه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، ويحيى بن الحكم بن العاص، وغيرهم من أشراف قريش، فبعث ملك الروم إلى إفريقية بطريقاً يقال له: نقفورا في ثلاثين ألف مقاتل، فنزل الساحل، فأخرج إليه معاوية بن حديج عبد الله بن الزبير في خيل كثيفة، فسار حتى نزل على شرف عال ينظر منه إلى البحر بينه وبين مدينة سوسة[4]، اثنا عشر ميلاً، فلما بلغ ذلك نقفوراً أقلع من في البحر منهزماً من غير قتال، ورجع بن الزبير إلى معاوية بن حديج وهو بجبل القرن، ثم وجه ابن حديج عبد الملك بن مروان في ألف فارس إلى مدينة جلولاء[5]فحاصرها وقتل من أهلها عدداً كثيراً حتى فتحها عنوة، وأغزى معاوية بن حديج جيشاً في البحر إلى صقلية في مائتي مركب، فسبوا وغنموا وأقاموا شهراً، ثم انصرفوا إلى إفريقيا بغنائم كثيرة[6]، وبعد هذه الفتوح عاد معاوية بن حديج إلى مصر دون أن يترك قائداً أو عاملاً، ويفهم من هذا التصرف ومن سلوك معاوية بن حديج أثناء هذه الغزوة أن البربر أهل البلاد كانوا قد أصبحوا حلفاء للمسلمين على الروم، وأن المسلمين كانوا يكتفون إلى ذلك الحين بإبعاد الخطر الرومي من هذه الناحية[7]وعندما استعاد معاوية بن حديج طرابلس الغرب ترك فيها رويفع بن ثابت الأنصاري والياً عليها سنة 46هـ فغزا منها إفريقيا ((تونس)) ودخلها سنة 47هـ ، وفتح جزيرة جربة التي كان يسكنها البربر[8]، وقد تحدثت المراجع عن كثرة السبايا في هذه الغزوة وقام رويفع بن ثابت الأنصاري بتذكير المسلمين في هذه بأحكام وطء السبايا، حيث قال: أما أني لا أقول لكم إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين: لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه زرع غيره[9]، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع[10]على امراة من السبي حتى يستبرئها[11]، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما[12]حتى يُقسم[13]. وقد بقي في ولاية طرابلس الغرب ثم ولاه مسلمة بن مخلد ولاية مصر وبرقة، وبقي عليها أميراً ومات بها سنة 56هـ وقبره معروف في الجبل الأخضر ببرقة في مدينة البيضاء وهو آخر من توفي من الصحابة هناك، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أحاديث، وان فقيهاً من أصحاب الفتيا من الصحابة وكان خطيباً مفوهاً[14] ثانياً: عقبة بن نافع وفتح إفريقية: هو عقبة بن نافع القرشي الفهري، نائب إفريقيا لمعاوية وليزيد، وهو الذي أنشأ القيروان واسكنها الناس[15]، وكان ذا شجاعة، وحزم، وديانة، لم يصحّ له صحبة، شهد فتح مصر، واختطّ بها[16]، فقد اسند معاوية بن أبي سفيان قيادة حركة الفتح في إفريقية إلى هذا القائد الكبير الذي خلد التاريخ اسمه في ميدان الفتوحات، وكان عقبة قد شارك في غزو إفريقية منذ البداية مع عمرو بن العاص واكتسب في هذا الميدان خبرات واسعة، وكان عمرو بن العاص قد خلفه على برقة عند عودته إلى الفسطاط، فظل فيها يدعو الناس إلى الإسلام، وقد جاء إسناد القيادة إلى عقبة بن نافع خطوة موفقة في طريق فتح شمال إفريقيا كله، ذلك أنه لطول إقامته في برقة وزويلة وما حولها، منذ فتحها أيام عمرو بن العاص، أدرك أنه لكي يستقر الأمر للمسلمين في إفريقية ويكف أهلها عن الارتداد، فلا بد من بناء قاعدة ثابتة للمسلمين ينطلقون منها في غزواتهم، ويعودون إليها ويأمنون فيها على أهلهم وأموالهم، فلما أسند إليه معاوية بن أبي سفيان قيادة الفتوحات في إفريقية، أرسل إليه عشرة آلاف فارس وانضم إليه من اسلم من البربر فكثر جمعه[17]، وسار في جموعة حتى نزل بمغمداش من سرت[18]، فبلغه أن أهل ودان[19] قد نقضوا عهدهم مع بسر بن أبي أرطأة الذي كان عقده معهم حين وجهه إليهم عمرو بن العاص ومنعوا ما كانوا اتفقوا عليه من الجزية، فوجه إليهم عقبة قسماً من الجيش عليهم عمر بن علي القرشي وزهير بن قيس البلوي، وسار معهم بالقسم الآخر من الجيش واتجه إلى فزان[20]، فلما دنا منها دعاهم إلى الإسلام فأجابوا[21]، ثم واصل فتوحاته، فتح قصور كُوّار[22]، وخاور[23]، وغدامس[24]، وغيرها[25]، ومما يلاحظ أن عقبة تجنّب في مسيرة المناطق الساحلية، فقصد المناطق الداخلية يفتحها بلداً بلداً، ويبدو أنه فعل ذلك ليأخذ البربر إلى جانبه ويقيم جبهة داخلية تحيط بالبيزنطيين على الساحل وتمدّه بالطاقات البشرية للاستقرار والإطاحة بالوجود البيزنطي[26]. [/align] |
[align=justify]ثالثاً : بناء مدينة القيروان :
في سنة 50هـ بدأت إفريقية الإسلامية عهداً جديداً مع عقبة بن نافع، المتمرس بشؤون إفريقية منذ حداثة سنّه، فقد لاحظ كثرة ارتداد البربر، ونقضهم العهود، وعلم أن السبيل الوحيد للمحافظة على إفريقية ونشر الإسلام بين أهلها هو إنشاء مدينة تكون محط رحال المسلمين، ومنها تنطلق جيوشهم فأسس مدينة القيروان وبنى جامعها[1]، وقد مهد عقبة قبل بناء المدينة لجنوده بقوله: إن إفريقية إذا دخلها إمام أجابوه إلى الإسلام، فإذا خرج منها رجع من كان أجاب منهم لدين الله إلى الكفر، فأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها مدينة تكون عزاً للإسلام إلى آخر الدهر، فاتفق الناس على ذلك وأن يكون أهلها مرابطين، وقالوا: نقرب من البحر ليتم لنا الجهاد والرباط، فقال عقبة إني أخاف أن يطرقها صاحب القسطنطينية بغتة فيملكها، ولكن اجعلوا بينها وبين البحر ما لا يوجب فيه التقصير للصلاة فهم مرابطون[2]، ولم يعجبه موضع القيروان الذي كان بناه معاوية بن حديج قبله، فسار والناس معه حتى أتى موضع القيروان اليوم[3]، وكان موضع غيضة لا يرام من السباع والأفاعي، فدعا عليها، فلم يبق فيها شئ ، وهربوا حتى أن الوحوش لتحمل أولادها[4]، وعن يحي بن عبد الرحمن بن حاطب قال: يا أهل الوادي! إنا حالون إن شاء الله، فظعنوا، ثلاث مرات فما رأينا حجراً ولا شجراً إلا يخرج من تحته دابة حتى هبطنا بطن الوادي: ثم قال للناس: انزلوا بسم الله[5]، وكان عقبة بن نافع مجاب الدعوة[6]، وقد رأى قبيل من البربر كيف أن الدواب تحمل أولادها وتنتقل، فأسلموا ثم شرع الناس في قطع الأشجار وأمر عقبة ببناء المدينة فبنيت وبني المسجد الجامع، وبنى الناس مساجدهم ومساكنهم وتم أمرها سنة 55هـ وسكنها الناس، وكان في الناس، وكان في أثناء عمارة المدينة يغزو ويرسل السرايا، فتغير وتنهب ودخل كثيراً من البربر الإسلام، واتسعت خطة المسلمين وقوي جنان من هناك من الجنود بمدينة القيروان وأمنوا واطمأنوا على المقام فثبت الإسلام فيها[7]، وتم تخطيط مدينة القيروان على النمط الإسلامي، فالمسجد الجامع ودار الإمارة توأمان، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فهما دائماً إلى جوار بعضهما، ويكونان دائماً في قلب المدينة التي يخطتها المسلمون ويرتكزان في وسطها[8]، وبينهما يبدأ الشارع الرئيسي للقيروان، الذي سيسمى باسم السماط الأعظم، ثم ترك عقبة فراغاً حول المسجد ودار الإمارة في هيئة دائرة واسعة، ثم قسمت الأرض خارج الدائرة إلى خطط القبائل، ليكون استمراراً للشارع الرئيسي في الاتجاهين إلى نهاية المدينة، وانجفل البربر من نواحي إفريقية إلى القيروان، وسكنوا حولها وكان الكثير منهم دخل في الإسلام، وشرعوا في تعلم اللغة العربية والقرآن الكريم وأمور دينهم وهكذا نشاهد فيما بين سنتي 50 و55هـ حركة قوية بدأت في تعريب الشمال الأفريقي[9]. 1 ـ الخصائص المتوفرة في موضع القيروان : كانت الدوافع السياسية والعسكرية والإدارية والدعوية دوافع قوية في قرار عقبة في اتخاذ موقع القيروان، فقد تميز موقع القيروان بالآتي : أ ـ بأنه لا يفصله عن مركز القيادة العسكرية في الفسطاط إي بحر أو نهر، فهو يقع على الطريق البري الذي يربط بين الفسطاط (بمصر) وبين المغرب، ويبدو أن عقبة رحمه الله أخذ بنظرية عمر بن الخطاب في بناء الأمصار والمعسكرات بألا يفصلها فاصل من نهر أو بحر أو جسر عن المدينة أو مركز القيادة، وأن تكون على طرف البر أو أقرب إلى البر والصحراء، ب ـ موافقة الموضع لذهنية العرب ومتطلباتهم الضرورية. وتتجلى هذه الخصوصية من خلال قراءة توصية عقبة بن نافع في أن يكون الموضع قريباً من السبخة: فإن أكثر دوابكم الإبل تكون أبلكم على بابها في مراعيها[10]..، وكذلك في الكلمات التي عبر عنها أصحاب عقبة عندما استجمع رأيهم في الموضع المنتخب، إذ قالوا: نحن أصحاب أبل ولا حاجة لنا بمجاورة البحر[11]. جـ ـ بأنه يتمتع ببعض الانتاجات والموارد الذاتية، فالمنطقة التي كان فيها موضع القيروان عبارة غيضة، كما أورد الجغرافيون، وكان مواجهاً لجبال أوراس، معقل قبائل البربر، إذن، فإنه كان في بقعة زراعية تتضمن بعض المحاصيل التي تكفل للمجاهدين المسلمين مورداً غذائياً مهماً[12]. س ـ صحيح أن المشكلة الرئيسية التي جابهتها القيروان بعد اتخاذها كانت متمثلة بالموارد المائية، كما هي الحال في مدينة البصرة، مع وجود فارق بين المصرين، فإن مياه البصرة كانت مع الأنهار غير أنها مالحة. أما مياه القيروان الصالحة للشرب فكانت تعتمد على مصدرين، الأول منهما الأمطار حيث كانت تخزن في صهاريج يطلق عليها اسم (المواجل) ، وثانيها مياه وادي السراويل في قبلة المدينة، لكنه كان مالحاً. لذلك فإن بعض المؤرخين حدد مصدر مياه القيروان قائلاً: وشربهم من ماء المطر. إذا كان الشتاء ووقعت الأمطار والسيول دخل ماء المطر من الأودية إلى برك عظام يقال لها (المؤجل).. ولهم وادٍ يسمى وادي السراويل في قبلة المدينة يأتي فيه ماء مالح.. يستعملونه فيما يحتاجونه[13]، ومع ذلك، فإن هذه المشكلة المعقدة يبدو أنها أخذت تتضاءل تدريجياً إلى حد ما[14]. 2 ـ القيروان مركز الحضارة الإسلامية بالمغرب وعاصمتها العلمية : لم تبدأ الحياة العلمية المركزة إلا بعد تأسيس القيروان سنة 50هـ، فسرعان ما أصبحت القيروان مركز الحضارة الإسلامية بالمغرب وعاصمته العلمية، منها انطلق الدعاة وإليها رحل طلاب العلم من الآفاق ومما رشح القيروان في هذه المكانة ما يلي: أ ـ إن إنشاء مدينة القيروان يعني أن إفريقية أصبحت ولاية إسلامية جديدة وجزءاً لا يتجزأ من العالم الإسلامي الكبير، وبالتالي سيعيش المسلمون فيها حياتهم العادية، على رأسها التعليم وبث الثقافة الإسلامية، فإن القيروان مدينة رسالة وعلى أهلها تلقى مسئولية نشر الإسلام في المغرب، فكما كانت منطلق الجيوش الفاتحة، كانت كذلك منطلق الدعاة إلى الأنحاء لنشر الإسلام، وقد شعر الصحابة بهذه المكانة للقيروان منذ تأسيسها[15]. ب ـ لقد تم بناء الجامع وهو المدرسة الأولى في الإسلام، ولا شك أن الصحابة الذين كانوا في جيش عقبة قد جلسوا للتدريس فيه على النمط الموجود في مدن المشرق آنذاك، فقد كان مع عقبة أثناء تأسيس القيروان ثمانية عشر صحابياً[16]، وقد مكثوا فيها خمس سنوات كاملة كان عملهم فيها، ولا شك، نشر اللغة العربية، وتعليم القرآن والسنة في جامع القيروان، وذلك أثناء بناء مدينة القيروان، حيث لم تكن هناك غزوات كبيرة تتطلب غياباً طويلاً عن القيروان، أما في غزوة عقبة الثانية فقد كان معه خمسة وعشرون صحابياً[17]، وسائر جيشه من التابعين، وقد انتشرت رواية الحديث النبوي الشريف في هذه الفترة مما دعا عقبة أن يوصي أولاده من ورائهم جميع المسلمين بتحري حديث الثقات وعدم كتابة ما يشغلهم عن القرآن[18]. ت ـ لقد استقطبت القيروان أعداداً هائلة من البربر المسلمين الذين جاءوا لتعلم الدين الجديد، قال ابن خلدون عند حديثه عن عقبة: فدخل إفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر، فكبر جمعه ودخل أكثر البربر في الإسلام ورسخ الدين[19]، ولا شك أن الفاتحين قد خصصوا لهم من يقوم بهذه المهمة[20]. ومن القيروان انتشر الإسلام في سائر بلاد المغرب، فقد بنى عقبة بالمغربين الأقصى والأوسط عدة مساجد لنشر الإسلام بين البربر، كما ترك صاحبه شاكراً في بعض مدن المغرب الأوسط لتعليم البربر الإسلام[21]، ولما جاء أبو المهاجر دينار لولاية إفريقية تألف كُسيلة وقومه وأحسن إلى البربر، فدخلوا في دين الله أفواجاً ودعّم حسان بن النعمان ـ فيما بعد جهود عقبة في نشر الإسلام بين البرير حيث خصّص ثلاثة عشر فقيهاً من التابعين لتعليم البربر العربية والفقه ومبادئ الإسلام[22]، وواصل موسى بن نُصير هذه المهمة حيث: أمر العرب أن يعلّموا البربر القرآن وأن يفقّهوهم في الدِّين[23]، وترك في المغرب الأقصى سبعة وعشرين فقيهاً لتعليم أهله[24]. جـ ـ كان كثير من أفراد الجيش قد صحبوا معهم زوجاتهم، ومنهم من اتخذ بإفريقية السراري وأمهات الأولاد، قال أبو العرب[25]: روى بعض المحدثين أن عبد الله بن عمر بن الخطاب لما غزا مع معاوية بن حديج كانت معه أم ولد له، فولدت له صبية من أم الولد وماتت، فدفنها في مقبرة قريش بباب سلم، فاتخذتها قريش مقبرة يدفنون فيها لمكان تلك الصبية[26]. ومن هنا كان لابد من الاهتمام بتعليم النشئ المسلم مبادئ الإسلام واللغة العربية ولذلك فقد نشأت الكتاتيب بالقيروان في وقت مبكر جداً، فقد روي عن غياث بن شبيب أنه قال: كان سفيان بن وهب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بنا ونحن غلمة بالقيروان فيسلم علينا ونحن في الكُتّاب وعليه عمامة قد أرخاها من خلفه[27]، وكان سفيان بن وهب قد دخل القيروان مرتين أولاهما سنة 60هـ أي بعد الانتهاء من تأسيس القيروان بخمس سنوات، والثانية سنة 78هـ[28]. س ـ إن الموقع الجغرافي لمدينة القيروان كان له دور كبير في إثراء الحياة العلمية وإنعاشها، فقد كانت في موقع متوسط بين الشرق والغرب يمرّ بها العلماء والطلبة من أهل المغرب والأندلس في ذهابهم إلى المشرق، فيسمعون من علمائها[29]، وكثير منهم يصبح أهلاً للعطاء عند عودته فيسمع منه أهلها، كما كان يدخلها من يقصد المغرب أو الأندلس من أهل المشرق[30]. ش ـ لقد كانت التجارة في القيروان رابحة والسلع فيها نافقة ولذلك أمّها كبار التجار من المشرق والمغرب وكثير منهم من المحدّثين والفقهاء، فكان ذلك عاملاً مهماً في إزدهار الحياة العلمية بالقيروان[31]. ص ـ وممّا أسهم في شراء الحياة العلمية كون القيروان آنذاك هي العاصمة السياسية، ذلك أنّه كلما جاء أمير جديد اصطحب معه مجموعة من العلماء والأدباء، كما أن كثيراً من المحدثين والفقهاء يفدون إلى العاصمة الإفريقية ضمن الجيوش القادمة من المشرق والتي استمر مجيئها إلى بعض منتصف القرن الثاني، هذا بالإضافة إلى من كان يقصد الأمراء للمدح والتسلية من أهل الشعر والأدب[32]. ل ـ كما أن القيروان اكتسبت نوعاً من الاحترام والتعظيم باعتبارها البلد الذي أسسه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهر بها على أيديهم كثير من الكرامات، واستقر بها بعضهم مدة من الزمن، وهي آخر ما دخله الصحابة من بلاد المغرب[33]، كل هذه الأمور هيأت القيروان لدور الريادة العلمية في إفريقية والمغرب حتى وصفها أبو إسحاق الجبنياني قوله: القيروان رأس وما سواها جسد، وما قام برد الشبه والبدع إلا أهلها ولا قاتل ولا قتل على أحياء السنة إلا أئمتها[34]، وقد لهج المؤلفون القدامى بفضل القيروان على سائر بلاد المغرب في المجال العلمي من ذلك ما وصفها به ماقديشي بأنها: منبع الولاية والعلوم، فهي لأهل المغرب أصل كل خير، والبلاد كلها عيال عليها، فما من غصن من البلاد المغربية إلا منها علا، ولا فرع في جميع نواحيها إلا عليها ابتنى، كيف لا ومنها خرجت علوم المذهب وإلى أئمتها كل علم ينسب ولا ينكر هذا خاص ولا عام، ولا يزاحمها في هذا الفضل أحد على طول الأمد والأيام[35]، وهكذا أصبحت القيروان دار العلم الإفريقية وبرز فيها كبار المحدثين والفقهاء والقراء ورحل إليها أهل المغرب والأندلس لطلب العلم، وقد نافح أهلها عن مذاهب السلف فصارت دار السنة والجماعة بالمغرب[36]، لقد قامت القيروان بدور كبير في فتح شمال إفريقية كله والأندلس ونشر الإسلام في المغرب وأصبحت من أهم مراكز الحضارة الإسلامية[37]. [/align] |
[align=justify]رابعاً : عزل عقبة وتولي أبي المهاجر دينار سنة 55هـ :
بينما كان عقبة يواصل فتوحاته، وينظم مدينته الجديدة، إذ بوالي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري يعزله ويولي مكانه مولاه أبا المهاجر بولاية إفريقية، وقد صرح هو نفسه بذلك حينما قالوا له: لو أقررت عقبة فإن له جزالة وفضلاً فقال: ... إن أبا المهجر صبر علينا في غير ولاية، ولا كبير نيل فنحن نحب أن نكافئه[1]، ولما عزل عقبة ذهب إلى معاوية في دمشق معاتباً، وقال له: فتحت البلاد، وبنيت المنازل، ومسجد الجماعة ودانت لي، ثم أرسلت عبد الأنصار، فأساء عزلي. فاعتذر إليه معاوية، وقال له: عرفت مكان مسلمة بن مخلد من الإمام المظلوم، وتقديمه إياه، وقيامه بدمه وبذله مهجته[2]، ووعد معاوية عقبة برده إلى ولايته، ولكن الأمر تراخي كما يقول ابن عذارى حتى توفي معاوية وأفضى الأمر إلى يزيد، فرد عقبة والياً على إفريقية[3]. وهناك نقطة في هذا الموضوع، وهي الإساءة التي تعرض لها عقبة من أبي المهاجر أثناء عزله فقد ذكرت المصادر أن أبا المهاجر أساء إلى عقبة إساءة بالغة، فقد سجنه وأوقره حديداً[4]، ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ قال الدكتور عبد الشافي محمد عبد اللطيف في كتابه القيم: ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ ويصعب علينا أن نقبل اتهام الدكتور حسين مؤنس لمسلمة بن مخلد، بأنه هو الذي أوعز إلى أبي المهاجر أن يسيء إلى عقبة[5]. فهذا اتهام لا يستند إلى دليل، خصوصاً وأن ابن عبد الحكم يقول عن مسلمة حين ولي أبا المهاجر: وأوصاه حين ولاه أن يعزل عقبة بأن يحسن العزل، فخالفه أبو المهاجر، فأساء عزله وسجنه وأوقره حديداً، حتى أتاه كتاب من الخليفة بتخلية سبيله وإشخاصه إليه[6]. ثم يذكر أن مسلمة ركب إلى عقبة حين مر بمصر وترضاه وأقسم له بالله لقد خالفه ما صنع أبا المهاجر وقال له: ولقد أوصيته بك خاصة[7]، ولكن لماذا خالف أبو المهاجر وصية مولاه مسلمة وأساء إلى عقبة، مع أنه هو شخصياً كان يجل عقبة، ويعرف مقامه، وقد جزع عندما دعا عليه عقبة، وقال هذا رجل لا يرد له دعاء، هذا هو السؤال الذي لا نملك عليه جواباً شافياً .. اللهم إلا الاستنتاج الذي أخذ به محمد علي دبوز، وهو أن أبا المهاجر ربما يكون قد أضطر اضطراراً إلى القبض على عقبة وسجنه، لأن عقبة خاشنه ولم يرضخ للعزل بسهولة لأنه كان يرى نفسه أحق بالولاية والقيادة من أبي المهاجر: ولعل أبا المهاجر قد خاف من خلاف يقع بين المسلمين لعدم رضوخ عقبة له فيستغله أعداؤهم الروم، فاضطر إلى سجنه حتى لا يحدث خلل بين المسلمين[8]. إن كان هذا الاستنتاج صحيحاً وهو على كل حال معقول، فقد يخفف من شدة اللوم الذي يوجهه إلى أبي المهاجر كل مسلم حريص على أن تسود روح الاحترام والإجلال بين القادة المسلمين مهما كانت خلافاتهم، وأن يحاول اللاحق منهم الاستفادة من جهود السابق وخبرته، بدلاً من الإساءة وتبادل الأحقاد وأن يكون السابق منهم حريصاً كذلك على أن يعطي خبرته وتجاربه ونصائحه للاحق، حتى ينجح في مهمته لأن هدفهم واحد وهو الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته ونشر دينه[9]. <!-- /* Font Definitions */ @font-face {font-family:"Cambria Math"; panose-1:2 4 5 3 5 4 6 3 2 4; mso-font-charset:1; mso-generic-font-family:roman; mso-font-format:other; mso-font-pitch:variable; mso-font-signature:0 0 0 0 0 0;} /* Style Definitions */ p.MsoNormal, li.MsoNormal, div.MsoNormal {mso-style-unhide:no; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; margin:0cm; margin-bottom:.0001pt; text-align:right; mso-pagination:widow-orphan; direction:rtl; unicode-bidi:embed; font-size:12.0pt; font-family:"Times New Roman","serif"; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:EN-US; mso-fareast-language:EN-US;} p.MsoFootnoteText, li.MsoFootnoteText, div.MsoFootnoteText {mso-style-noshow:yes; mso-style-unhide:no; mso-style-link:"Note de bas de page Car"; margin:0cm; margin-bottom:.0001pt; text-align:right; mso-pagination:widow-orphan; direction:rtl; unicode-bidi:embed; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman","serif"; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:EN-US; mso-fareast-language:EN-US;} span.MsoFootnoteReference {mso-style-noshow:yes; mso-style-unhide:no; vertical-align:super;} span.NotedebasdepageCar {mso-style-name:"Note de bas de page Car"; mso-style-noshow:yes; mso-style-unhide:no; mso-style-locked:yes; mso-style-link:"Note de bas de page"; mso-ansi-language:EN-US; mso-fareast-language:EN-US;} .MsoChpDefault {mso-style-type:export-only; mso-default-props:yes; font-size:10.0pt; mso-ansi-font-size:10.0pt; mso-bidi-font-size:10.0pt;} /* Page Definitions */ @page {mso-footnote-separator:url("file:///C:/DOCUME~1/ADMINI~1/LOCALS~1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_header.htm") fs; mso-footnote-continuation-separator:url("file:///C:/DOCUME~1/ADMINI~1/LOCALS~1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_header.htm") fcs; mso-endnote-separator:url("file:///C:/DOCUME~1/ADMINI~1/LOCALS~1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_header.htm") es; mso-endnote-continuation-separator:url("file:///C:/DOCUME~1/ADMINI~1/LOCALS~1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_header.htm") ecs;} @page Section1 {size:612.0pt 792.0pt; margin:72.0pt 90.0pt 72.0pt 90.0pt; mso-header-margin:36.0pt; mso-footer-margin:36.0pt; mso-paper-source:0;} div.Section1 {page:Section1;} --> رابعاً : عزل عقبة وتولي أبي المهاجر دينار سنة 55هـ : بينما كان عقبة يواصل فتوحاته، وينظم مدينته الجديدة، إذ بوالي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري يعزله ويولي مكانه مولاه أبا المهاجر بولاية إفريقية، وقد صرح هو نفسه بذلك حينما قالوا له: لو أقررت عقبة فإن له جزالة وفضلاً فقال: ... إن أبا المهجر صبر علينا في غير ولاية، ولا كبير نيل فنحن نحب أن نكافئه[1]، ولما عزل عقبة ذهب إلى معاوية في دمشق معاتباً، وقال له: فتحت البلاد، وبنيت المنازل، ومسجد الجماعة ودانت لي، ثم أرسلت عبد الأنصار، فأساء عزلي. فاعتذر إليه معاوية، وقال له: عرفت مكان مسلمة بن مخلد من الإمام المظلوم، وتقديمه إياه، وقيامه بدمه وبذله مهجته[2]، ووعد معاوية عقبة برده إلى ولايته، ولكن الأمر تراخي كما يقول ابن عذارى حتى توفي معاوية وأفضى الأمر إلى يزيد، فرد عقبة والياً على إفريقية[3]. وهناك نقطة في هذا الموضوع، وهي الإساءة التي تعرض لها عقبة من أبي المهاجر أثناء عزله فقد ذكرت المصادر أن أبا المهاجر أساء إلى عقبة إساءة بالغة، فقد سجنه وأوقره حديداً[4]، ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ قال الدكتور عبد الشافي محمد عبد اللطيف في كتابه القيم: ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ ويصعب علينا أن نقبل اتهام الدكتور حسين مؤنس لمسلمة بن مخلد، بأنه هو الذي أوعز إلى أبي المهاجر أن يسيء إلى عقبة[5]. فهذا اتهام لا يستند إلى دليل، خصوصاً وأن ابن عبد الحكم يقول عن مسلمة حين ولي أبا المهاجر: وأوصاه حين ولاه أن يعزل عقبة بأن يحسن العزل، فخالفه أبو المهاجر، فأساء عزله وسجنه وأوقره حديداً، حتى أتاه كتاب من الخليفة بتخلية سبيله وإشخاصه إليه[6]. ثم يذكر أن مسلمة ركب إلى عقبة حين مر بمصر وترضاه وأقسم له بالله لقد خالفه ما صنع أبا المهاجر وقال له: ولقد أوصيته بك خاصة[7]، ولكن لماذا خالف أبو المهاجر وصية مولاه مسلمة وأساء إلى عقبة، مع أنه هو شخصياً كان يجل عقبة، ويعرف مقامه، وقد جزع عندما دعا عليه عقبة، وقال هذا رجل لا يرد له دعاء، هذا هو السؤال الذي لا نملك عليه جواباً شافياً .. اللهم إلا الاستنتاج الذي أخذ به محمد علي دبوز، وهو أن أبا المهاجر ربما يكون قد أضطر اضطراراً إلى القبض على عقبة وسجنه، لأن عقبة خاشنه ولم يرضخ للعزل بسهولة لأنه كان يرى نفسه أحق بالولاية والقيادة من أبي المهاجر: ولعل أبا المهاجر قد خاف من خلاف يقع بين المسلمين لعدم رضوخ عقبة له فيستغله أعداؤهم الروم، فاضطر إلى سجنه حتى لا يحدث خلل بين المسلمين[8]. إن كان هذا الاستنتاج صحيحاً وهو على كل حال معقول، فقد يخفف من شدة اللوم الذي يوجهه إلى أبي المهاجر كل مسلم حريص على أن تسود روح الاحترام والإجلال بين القادة المسلمين مهما كانت خلافاتهم، وأن يحاول اللاحق منهم الاستفادة من جهود السابق وخبرته، بدلاً من الإساءة وتبادل الأحقاد وأن يكون السابق منهم حريصاً كذلك على أن يعطي خبرته وتجاربه ونصائحه للاحق، حتى ينجح في مهمته لأن هدفهم واحد وهو الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته ونشر دينه[9]. [/align] |
[align=justify]رابعاً : عزل عقبة وتولي أبي المهاجر دينار سنة 55هـ :
بينما كان عقبة يواصل فتوحاته، وينظم مدينته الجديدة، إذ بوالي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري يعزله ويولي مكانه مولاه أبا المهاجر بولاية إفريقية، وقد صرح هو نفسه بذلك حينما قالوا له: لو أقررت عقبة فإن له جزالة وفضلاً فقال: ... إن أبا المهجر صبر علينا في غير ولاية، ولا كبير نيل فنحن نحب أن نكافئه[1]، ولما عزل عقبة ذهب إلى معاوية في دمشق معاتباً، وقال له: فتحت البلاد، وبنيت المنازل، ومسجد الجماعة ودانت لي، ثم أرسلت عبد الأنصار، فأساء عزلي. فاعتذر إليه معاوية، وقال له: عرفت مكان مسلمة بن مخلد من الإمام المظلوم، وتقديمه إياه، وقيامه بدمه وبذله مهجته[2]، ووعد معاوية عقبة برده إلى ولايته، ولكن الأمر تراخي كما يقول ابن عذارى حتى توفي معاوية وأفضى الأمر إلى يزيد، فرد عقبة والياً على إفريقية[3]. وهناك نقطة في هذا الموضوع، وهي الإساءة التي تعرض لها عقبة من أبي المهاجر أثناء عزله فقد ذكرت المصادر أن أبا المهاجر أساء إلى عقبة إساءة بالغة، فقد سجنه وأوقره حديداً[4]، ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ قال الدكتور عبد الشافي محمد عبد اللطيف في كتابه القيم: ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ ويصعب علينا أن نقبل اتهام الدكتور حسين مؤنس لمسلمة بن مخلد، بأنه هو الذي أوعز إلى أبي المهاجر أن يسيء إلى عقبة[5]. فهذا اتهام لا يستند إلى دليل، خصوصاً وأن ابن عبد الحكم يقول عن مسلمة حين ولي أبا المهاجر: وأوصاه حين ولاه أن يعزل عقبة بأن يحسن العزل، فخالفه أبو المهاجر، فأساء عزله وسجنه وأوقره حديداً، حتى أتاه كتاب من الخليفة بتخلية سبيله وإشخاصه إليه[6]. ثم يذكر أن مسلمة ركب إلى عقبة حين مر بمصر وترضاه وأقسم له بالله لقد خالفه ما صنع أبا المهاجر وقال له: ولقد أوصيته بك خاصة[7]، ولكن لماذا خالف أبو المهاجر وصية مولاه مسلمة وأساء إلى عقبة، مع أنه هو شخصياً كان يجل عقبة، ويعرف مقامه، وقد جزع عندما دعا عليه عقبة، وقال هذا رجل لا يرد له دعاء، هذا هو السؤال الذي لا نملك عليه جواباً شافياً .. اللهم إلا الاستنتاج الذي أخذ به محمد علي دبوز، وهو أن أبا المهاجر ربما يكون قد أضطر اضطراراً إلى القبض على عقبة وسجنه، لأن عقبة خاشنه ولم يرضخ للعزل بسهولة لأنه كان يرى نفسه أحق بالولاية والقيادة من أبي المهاجر: ولعل أبا المهاجر قد خاف من خلاف يقع بين المسلمين لعدم رضوخ عقبة له فيستغله أعداؤهم الروم، فاضطر إلى سجنه حتى لا يحدث خلل بين المسلمين[8]. إن كان هذا الاستنتاج صحيحاً وهو على كل حال معقول، فقد يخفف من شدة اللوم الذي يوجهه إلى أبي المهاجر كل مسلم حريص على أن تسود روح الاحترام والإجلال بين القادة المسلمين مهما كانت خلافاتهم، وأن يحاول اللاحق منهم الاستفادة من جهود السابق وخبرته، بدلاً من الإساءة وتبادل الأحقاد وأن يكون السابق منهم حريصاً كذلك على أن يعطي خبرته وتجاربه ونصائحه للاحق، حتى ينجح في مهمته لأن هدفهم واحد وهو الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته ونشر دينه[9]. [/align] |
[align=justify]سادساً : حملة عقبة بن نافع الثانية 62 ـ 63هـ:
وصل عقبة بن نافع إلى إفريقية ورتب أمورها وعامل أبا المهاجر معاملة قاسية، فقد أوثقه في وثاق شديد[1]، ومع هذا فقد كان أبو المهاجر مخلصاً وفياً شهماً غيوراً فلم يبخل بنصائحه لعقبة بالرغم ما حدث بينهما من الجفوة ومن أبرز هذه النصائح إشارته على عقبة بإكرام زعيم البربر كسيلة، ومحاولة تأليفه ليبقى على الإسلام، ولكن عقبة أهان ذلك الزعيم، حيث أمره يوماً أن يسلخ شاة بين يديه، فدفعها كسيلة إلى غلمانه، فأراده عقبة على أن يتولاها بنفسه وانتهره، فقام كسيلة مغضباً وجعل كلما دس يده في الشاة مسح بلحيته، وبلغ ذلك أبا المهاجر فبعث إليه ينهاه ويقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألف جبابرة العرب وأنت تعمد إلى رجل جبَّار في قومه وبدار عزه حديث عهد بالشرك فتفسد قلبه؟ توثَّق من الرجل فإني أخاف فتكه[2] فتهاون به عقبة، وسيأتي الحديث عن غدر كسيلة بالمسلمين وكيف اغتنم فرصة انفراد عقبة في بعض جيشه كما سيأتي بيانه وكيف قال عقبة لأبي المهاجر: الحق بالقيروان وقم بأمر المسلمين وأنا اغتنم الشهادة، فقال أبو المهاجر: وأنا اغتنم الشهادة مثلك، فكسر كل واحد منهما غمد سيفه وكسر المسلمون أغماد سيوفهم وقاتلوا حتى قتلوا[3]. قد لاحظنا أن أبا المهاجر خاض معركة واحدة كبرى دوخ بها الروم والبربر، وخضع له البربر، ودخل بعض زعمائهم في الإسلام وأبرزهم كسيلة، ودخل كثير من قومه في الإسلام ووفر أبو المهاجر بذلك جهوداً كبيرة لابد من بذلها في فتح بلاد المغرب لو بقي أولئك البربر على كفرهم، ولاشك أن عقبة حينما أهان ذلك الزعيم البربري لم يكن يعتقد بصحة إسلامه إذ أن عقبة كان في غاية التواضع للمسلمين وكان اجتهاده يقضي بمحاولة إذلال ذلك الرجل حتى يتحطم طغيانه وتهون مكانته في نفوس قومه فلا يستطيع بعد ذلك أن يستنفرهم لحرب ضد المسلمين، ولكنه أخطأ في اجتهاده لأن قوم ذلك الرجل كانوا حديثي عهد بالإسلام، ومهما كان لظن عقبة فيه من احتمال في عدم الصدق في الولاء فإن كسبه وبقاءه في جيش المسلمين وتحت سلطتهم أولى بكثير من معاداته وإتاحة الفرصة له لضرب المسلمين من مكامن الخطر، وهو الذي صحبهم وحاز على شيء من ثقتهم[4]، ومن موقف عقبة المذكور تظهر لنا نتيجة مهمة من نتائج العمل بسنن الإسلام التي من أهمها العمل بالشورى وأخذ رأي أهل الحل والعقد خاصة في الأمور المهمة، وعلى أي حال فإن كلا القائدين كان مجتهداً في تصرفه ولا يظن بواحد منهما أنه كان يعمل لصالح نفسه أو لصالح عشيرته وإنما كان رائدهما النظر في مصلحة الإسلام والمسلمين، ولكن كان اجتهاد أبي المهاجر أقرب إلى الصواب في هذه القضية[5]. 1 ـ جهاده من القيروان إلى المحيط: بعد اكتمال بناء القيروان عام خمسة وخمسين عُزل عقبة بن نافع عن ولاية إفريقية، ثم أُعيد إليها عام اثنين وستين قام برحلته الجهادية المشهورة التي قطع فيها ما يزيد على ألف ميل من القيروان في تونس إلى ساحل المحيط الأطلسي في المغرب، وقد استخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي ودعا لها قائلاً: يا رب أملأها علماً وفقهاً وأملأها بالمطيعين لك، واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر بك .. وامنعها من جبابرة الأرض[6]، وخرج عقبة بأصحابه الذين قدم بهم من الشام وعددهم عشرة ألف إلى جانب عدد كبير انضم إليهم من القيروان، ودعا بأولاده قبل سفره وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله ثم قال: ـ يا بني أوصيكم بثلاث خصال فاحفظوها ولا تضيعوها: إياكم أن تملئوا صدوركم بالشعر وتتركوا القرآن، فإن القرآن دليل على الله عز وجل، وخذوا من كلام العرب ما يهتدي به اللبيب ويدلكم على مكارم الأخلاق، ثم انتهوا عما وراءه، وأوصيكم أن لا تُداينوا ولو لبستم العباء فإن الدّين ذُلُّ بالنهار وهم بالليل، فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم وتبق لكم الحرمة في الناس ما بقيتم، ولا تقبلوا العلم من المغرورين المرخصين فيجهلوكم دين الله ويفرقوا بينكم وبين الله تعالى، ولا تأخذوا دينكم إلا من أهل الورع والاحتياط فهو أسلم لكم، ومن احتاط سلم ونجا فيمن نجا ـ ثم قال: عليكم سلام الله واُراكم لا ترونني بعد يومكم هذا ـ ثم قال: اللهم تقبّل نفسي في رضاك واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك[7]. وهكذا ما ان وطئت أقدام عقبة أرض القيروان حتى عزم على الخروج للجهاد غير هياب ولا متردد، ومما يدل على مبلغ حبه للجهاد وهيامه به قوله في وصيته لأولاده: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله. فهو قد باع نفسه من الله عز وجل، واشتاق إلى الثمن العظيم الغالي ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) ( التوبة :أية 111) . فجعل عمله الذي نذر حياته لأجله هو الجهاد، ونصب أمام عينيه الهدف السامي، وهو إعلاء كلمة الله في الأرض[8]، وفي وصيته المذكورة لأولاده فوائد جليلة، فقد أوصاهم بثلاث وصايا: أ ـ الوصية الأولى: الاهتمام بانتقاء العلم واختيار أطيبه، وذلك بالاهتمام أولاً بالقرآن الكريم، حيث إنه الكتاب الذي يدل على الله عز وجل، وما ابلغه من وصف يهدي إلى بلوغ الهدف السامي الذي يسعى إليه كل مؤمن، وهو ابتغاء رضوان الله تعالى ونعيمه، ولا شك أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدخل في مقاصد القرآن الكريم لقوله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) (الحشر :أية :7) . ثم انتقاء الطيب من كلام العرب الذي يرشد إليه العقل السليم ويحث على مكارم الأخلاق. بـ ـ الوصية الثانية : البعد عن الاستدانة ولو دفع إليها الفقر لأن الدين ذل بالنهار حيث يدفع المستدين إلى بعض مواقف الذل أمام الدائن ومن لهم علاقة به، وهمُّ بالليل حيث يخلو المستدين إلى نفسه فيتذكر حقوق الناس عليه. جـ ـ الوصية الثالثة: التحري في تلقي العلم، وذلك باختيار العلماء الربانيين أهل الورع والتقوى، والبعد عن العلماء المغرورين أهل الدنيا والجاه، فإنهم يزيدون المتعلم جهلاً حيث يبعدونه عن حقيقة العلم وثمرته وهي تقوى الله عز وجل[9]. ونجد عقبة في نهاية وصيته لأولاده يسلمّ عليهم سلام المودع، مما يدل على استماتته في سبيل الله تعالى، ثم يقول: اللهم تقبل نفسي في رضاك، واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك[10]. وبهذا الاهتمام الكبير نجح عقبة بن نافع رحمه الله في فتوحاته حيث جعل الجهاد قضيته الكبرى في هذه الحياة[11]. سار عقبة في جيش عظيم متجهاً إلى مدينة باغية[12]، حيث واجه مقاومة عنيفة من البيزنطيين الذين انهزموا أمامه ودخلوا مدينتهم وتحصنوا بها، فحاصرهم مدة ثم سار إلى تلمسان وهي من أعظم مدائنهم فانضم إليها من حولها من الروم والبربر فخرجوا إليه في جيش ضخم والتحم القتال، وثبت الفريقان حتى ظن المسلمون أن في تلك المعركة فناءهم ولكن منَّ عليهم بالصبر فكانوا في ذلك أشدَّ وأصبر من أعدائهم فهاجموا الروم هجوماً عنيفاً حتى ألجئوهم إلى حصونهم فقاتلوهم إلى أبوابها وأصابوا منهم غنائم كثيرة[13]، ثم استمر غربا قاصداً بلاد الزاب، فسأل عن أعظم مدنها فقيل له(( أَرَبَه)) وهي دار ملكهم وكان حولها ثلاثمائة وستون قرية كلها عامرة، فامتنع بها من كان هناك من الروم وأهل المدينة وهرب بعضهم إلى الجبال، فاقتتل المسلمون مع أهل تلك المدينة فانهزم أهل تلك البلاد وقُتل كثير من فرسانهم ورحل عقبة إلى(( تاهرت)) فاستغاث الروم بالبربر فأجابوهم ونصروهم، وقام عقبة بن نافع في الناس خطبةً فقال بعدما حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إن أشرافكم وخياركم الذين رضي الله تعالى عنهم وأنزل فيهم كتابه بايعوا رسول الله بيعه الرضوان على من كذب بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرافكم والسابقون منكم إلى البيعة، باعوا أنفسهم من رب العالمين بجنته بيعة رابحة، وأنتم اليوم في دار غربة وإنما بايعتم رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلبا لرضاه وإعزازاً لدينه، فأبشرو فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله تعالى وربكم عز وجل لا يُسلمكم، فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله عز وجل جعلكم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين فقاتلوا عدوكم على بركة الله وعونه والله لا يرد بأسه عن القوم المجرمين[14]. وهذه خطبة عظيمة تدل على أن عقبة بن نافع رضي الله عنه قد اعتمد في حروبه على السلاح الأعظم الذي فيه سر انتصارات المسلمين الباهرة .. ألا وهو التوكل على الله تعالى، واستحضار عظمته وجلاله، ومعيته لأوليائه المؤمنين بالنصر والتأييد، فهو لا يبالي بجيوش الأعداء مهما كثرت، وإنما الذي يهتم به أن يتأكد جيداً من أن هذا السلاح المعنوي الفعال قد توفر في جيشه، وحينما يضمن ذلك فإنه يرحب باجتماع جيوش الأعداء ليكون ذلك أسرع في هلاكهم وتمزيق جمعهم على يد أولياء الله الصالحين وما أعظم شبه عقبة بخالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي كان يُسَرُّ ويداخله شعور بالقوة والتعاظم ـ من غير غرور ولا استهانة ـ كلما تضخم جيش الأعداء وتعددت عناصره، وكأن عقبة قد تأس به واتخذه له قدوة في القيادة والإقدام الذي لا يعرف التردد والسآمة، وهو في إقدامه واندفاعه يدرك أن جنود الإسلام الصادقين هم بأس الله تعالى المسلط على أعدائه الكفار، والله تعالى لا يُردّ بأسه عن القوم المجرمين. إن شعوره الدائم بأن المجاهدين المسلمين هم سيف الله تعالى وبأسه الموجه ضد أعدائه يجعله عظيم الثقة بنصر الله تعالى وحسن الظن به[15].هذا وقد التقى المسلمون بأعدائهم في مدينة ((تاهرت)) وقاتلوهم قتالاً شديداً، فاشتد الأمر على المسلمين لكثرة عدوهم، ولكنهم انتصروا أخيراً، وانهزم أعداؤهم من الروم والبربر، وقتل منهم عدد كبير، وغنم منهم المسلمون أموالهم وسلاحهم[16]، ثم توجه إلى جهات المغرب الأقصى فوصل إلى طنجة، حيث قابل بطريق من الروم اسمه (( جوليان )) الذي: أهدى له هدية حسنة، ونزل على حكمه[17]ولما سأله عقبة عن بحر الأندلس قال عنه: لا إنه محفوظ لا يرام[18]، ثم سأله عن البربر والروم بقوله: دلني على رجال البربر والروم فقال: قد تركت الروم خلفك وليس أمامك إلا البربر وفرسانهم في عدد لا يعلمهم إلا الله تعالى وهم أنجاد البربر وفرسانهم، فقال عقبة: فأين موضعهم؟ قال: في السوس الأدنى، وهم قوم ليس لهم دين[19].. استفاد عقبة من هذه المعلومات واتجه إلى الجنوب الغربي، قاصداً بلاد السوس الأدنى حيث التقى بجموع بربر أطلس الوسطى، فهزمهم وطاردهم نحو صحراء وادي درعا، حيث بنى مسجداً في مدينة درعا ثم غادر صحاري مراكش باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة ((تافللت)) من أجل أن يدور حول جبال أطلس العليا كي يدخل بلاد صنهاجة الذين أطاعوه دون قتال، وكذلك فعلت قبائل هكسورة في مدينة ((اغمات))، بعدها اتجه عقبة نحو الغرب إلى مدينة تفيس[20]، حيث حاصر بها جموعاً من البيزنطيين والبربر، فلم ينفعهم تحصنهم، فدخل المدينة منتصراً وبذلك أتم تحرير بلاد السوس الأقصى ودخل عاصمتها ((ايجلي)) التي بنى فيها مسجداً، ثم دعا القبائل فيها هناك إلى الإسلام فأجابته قبائل جزولة، وبعد ذلك سار إلى مدينة ((ماسة)) ومنها إلى رأس ((ايفران)) على البحر المحيط[21]، وبوصول عقبة بن نافع إلى ساحل المحيط الأطلسي يكون قد أنجز تحرير معظم بلاد المغرب، وتشير مصادرنا التاريخية أن عقبة لما وصل إلى المحيط الأطلسي قال: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك. ثم قال: اللهم أشهد أني قد بلغت الجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بالله حتى لا يعبد أحد من دونك ثم وقف ساعة ثم قال لأصحابه: ارفعوا أيديكم، ففعلوا، فقال: اللهم لم أخرج بطراً ولا أشراً وإنك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين وهو أن تُعبد ولا يُشرك بك شيء، اللهم إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام، ثم انصرف راجعاً[22]. وندرك من قوله المذكور مدى حبه للجهاد وشعوره بالمسئولية الكبرى التي حملها على عاتقه نحو تبليغ الإسلام وتقوية دولته والقضاء على دول الكفر التي حجبت نور الإسلام عن شعوبها، فهو يقف على البحر المحيط ويعلم آنذاك أنه نهاية المعمور من الأرض من ناحية المغرب، ثم نجده يُشهد الله تعالى على أنه قد بلغ المجهود الذي تحت مقدرته، وهذه الشهادة تشعرنا بمدى ارتباط عقبة بالله تعالى، وأنه لم يكن يسير خطوة إلا وهو يستلهم التوفيق منه جل وعلا ويطلب رضوانه، وهذا الكلام يدل على وضوح الهدف من الجهاد عند عقبة حيث بيّن أن الحد الذي يقف عنده الجهاد، أن يزول الشرك من الأرض، وأن لا يعبد إلا الله وحده، ومادام الشرك قائماً فإن الجهاد لا بد أن يكون موجوداً، فالجهاد أذن هو جهاد الدعوة إلى الله تعالى، وذلك بإزالة الطغيان البشري وإخضاع دول العالم لحكم الإسلام لكي يكون فهم الإسلام واعتناقه متيسراً لكل الناس[23]. ولم يقف عمل عقبة على الجهاد بل رافق ذلك بناء المساجد مثل مسجد درعة ومسجد ماسة بالسوس الأقصى[24]، كما كان يترك نفراً من أصحابه يعلمون الناس القرآن وشرائع الإسلام، ومن هؤلاء شاكر الذي بنى رباطاً ما بين بلدتي مراكش وموجادور ولا زال موقعه باقياً إلى اليوم وهو المعروف عند العامة بالمغرب الأقصى بسيدي شاكر[25]، ويظهر أن أغلبية بربر المغرب الأقصى أسلموا على يده طوعاً مثل صنهاجة وهسكورة وجزولة[26]، كما أخضع المصامدة، وحملهم على طاعة الإسلام[27]، وكي يأمن القبائل الكثيرة من الانتقاض عليه، كان عقبة يأخذ منها رهائن ويولي عليها رجلاً منها مثلما فعل مع مصمودة فقد ترك عليها أبا مدرك زرعة بن أبي مدرك، أحد رؤسائها، الذي شارك في فتح الأندلس فيما بعد[28]، ويلاحظ أن الوثنية كانت غالبة على بربر المغرب الأقصى مما يفسر كثرة السبايا والغنائم، وأصاب ((عقبة)) نساء لم يرى الناس مثلهن فقيل أن الجارية كانت تساوي بالمشرق ألف مثقال وأكثر[29]، وكان السبي أحد عوامل انتشار الإسلام بين البربر بحكم اختلاطهم بالبيئة العربية الإسلامية ثم إن الاحتكاك والاختلاط المستمرين بين المقاتلة العرب، والبربر أوجد صلات وروابط تجلت في الحلف والولاء في هذا الوقت المبكر[30]. يذكر السلاوي أن عقبة حين وصل إلى جبل درن: نهضت زناته وكانت خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة[31]وهذا يشعر بأن بعض زناته ومغراوة كانتا قد أسلمتا منذ زمن وكانتا حليفتان للمسلمين فنهضتا للدفاع عن المسلمين[32]. [/align] |
2[align=justify]
ـ استشهاد عقبة بن نافع وأبو المهاجر رحمهما الله تعالى: يبدو أن عقبة المجاهد المخلص، كان يحس إحساس المؤمن الصادق، أنه سيلقى ربه شهيداً في هذه الجولة، فعندما عزم على المسير من القيروان في بداية الغزو دعا أولاده وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل ... إلى أن قال ولست أدري أتروني بعد يومي هذا أم لا، لأن أملي الموت في سبيل الله، وأوصاهم بما أحب، ثم قال: عليكم سلام الله .. اللهم تقبل نفسي في رضاك[1]. نعى عقبة نفسه إلى أولاده، فتقبل الله منه وحقق له أمله في الشهادة، فقد أعد له الروم والبربر كميناً عند تهوذة[2]، وأوقعوا به وقضوا عليه هو ومن معه من جنوده، وترجع المصادر أمر الكارثة التي تعرض لها عقبة عند تهوذة إلى سبب رئيسي وهو سياسته نحو البربر بصفة عامة، وزعيمهم كسيلة بصفة خاصة ذلك الزعيم صاحب النفوذ والمكانة في قومه، والذي كان أبو المهاجر قد تألفه وأحسن إليه، فأسلم وتبعه كثير من قومه، لكن عقبة أساء إلى هذا الرجل إساءة بالغة، فأدرك أبو المهاجر عاقبة الخطأ الذي وقع فيه عقبة ولم يكتم نصيحته عنه ـ رغم أنه كان في حكم المعتقل ـ ولكن عقبة لم يسمع منه، وكان أبو المهاجر من معاشرته للبربر وزعيمهم، قد عرف مدى اعتزازهم بكرامتهم وأدرك أنهم لن يقبلوا هذه الإهانة، وهذا الإذلال الذي لحق بزعيمهم من عقبة فخاف غدرهم، فأشار على عقبة بالتخلص من كسيلة وقال له: عاجله قبل أن يستفحل أمره[3]، ولكن عقبة لم يصغ إلى هذه النصيحة أيضاً وليته احتاط للأمر، بل أقدم على عمل آخر في غاية الخطورة، حيث جعل معظم جيشه يسير أمامه بعد أن رجع من رحلته الطويلة من المغرب الأقصى قاصداً القيروان، ولما صار قريباً من القيروان أرسل غالب جيشه على أفواج إلى القيروان وبقي هو على رأس الفوج الأخير، ومعه ما يقرب من ثلاثمائة من الفرسان من الصحابة والتابعين، وكان من عادة عقبة أنه يكون في مقدمة الجيش عند الغزو ويكون في الساقة عند قفول الجيش، فهو بذلك يعرض نفسه لخطر مواجهة العدو دائماً وإن هذه التضحية الكبيرة جعلته محبوباً لدى أفراد جيشه بحيث لا يعصون له أمراً ويتسابقون على التضحية اقتداء به، وهذه الصفة تعتبر من أهم عوامل نجاح القائد في أي عمل يتوجه إليه ولما علم الروم بانفراد عقبة بهذا العدد القليل من جيشه انتهزوا هذه الفرصة لمحاولة القضاء عليه، وهم يدركون أن وجوده القوي يعتبر أهم العوامل في تماسك المسلمين وبقاء قوتهم، فتآمروا عليه مع كسيلة البربري، فجمعوا لعقبة وأصحابه جمعاً لا قِبَلَ لهم[4] به وإذا بكسيلة يحيط بجيش عقبة في جمع عدته خمسون ألفاً[5]. وكان أبو المهاجر موثقاً في الحديد مع عقبة، فلمّا رأى الجموع تمثل بقول أبي محن الثقفي: كفى حزناً أن تمرغ الخيل بالقنا وأُتـرك مشدوداً علـيّ وثاقيا إذ قمتُ عنّاني الحديـد وأُغلت مصارع من دوني تصمّ المناديا فلما سمع عقبة ذلك أطلقه، فقال له: الحق بالمسلمين وقم بأمرهم وأنا اغتنم الشهادة، فلم يفعل وقال: وأنا أيضاً أريد الشهادة[6]، وهكذا كان أبو المهاجر نموذجاً من تلك النماذج الفريدة من الرجال، الذين هانت عليهم الحياة الدنيا واستولى على قلوبهم حب الآخرة وكسب رضوان الله تعالى، ومن هذا المنطلق أقدم عقبة ومعه عدد قليل على معركة غير متكافئة، وكان بإمكان بعضهم الفرار ولكنهم ثبتوا ثبات الأبطال حتى استشهدوا جميعاً في بلاد ((تهوذة)) من أرض الزاب ويَذكر المؤرخون أن قبور هؤلاء الشهداء معروفة في ذلك المكان وأن المسلمين يزورونها[7]. وهكذا تحقق أمل عقبة في أبو المهاجر ونالا الشهادة في سبيل الله بعد ما قاموا بالواجب الذي عليهم، واستقبلوا الشهادة في سبيل الله بنفس راضية مطمئنة إلى حسن ثواب ربها، وقد استطاع عقبة أن يشق بجهاده للإسلام طريقه في هذا الجزء من العالم الذي سار فيه خلفاؤه من بعده، زهير بن قيس البلوي، وحسان بن النعمان الغساني، وموسى بن نصير، فقد حقق أهدافه من التمهيد لنشر الإسلام والجهاد في سبيل الله[8]، ولقد كان استشهاد عقبة بن نافع ومن معه في عام ثلاثة وستين للهجرة وعمره آنذاك في حدود أربع وستين سنة، وبهذا ندرك مبلغ القوة التي كان يتمتع بها أسلافنا حيث قام بتلك الرحلة الشاقة وخاض المعارك الهائلة وقد جاوز الستين من عمره وهكذا استشهد هذا القائد العظيم بعد جهاد دام أكثر من أربعين عاماً قضاها في فتوح شمال أفريقيا، ابتداء بمصر وإنتهاء بالمغرب الأقصى[9] 3 ـ أثر معركة تهوذة على المسلمين 63هـ : كانت معركة تهوذة مصيبة على المسلمين، فقد استشهد القائد المجاهد عقبة بن نافع وصحبه وكان لاستشهاده وقع أليم على المسلمين، وانتابتهم حالة من الهلع والفزع، فمع أن العدد الذي استشهد مع عقبة كان قليلاً ـ قيل حوالي ثلثمائة جندي ـ وأن معظم الجيش كان قد سار متقدماً ونجا من المعركة، وكان من الممكن أن يتماسك هذا الجيش ويقاوم، حتى يحتفظ بوجوده في القيروان، إلا أن الحالة النفسية للجنود لم تسمح بذلك، وقد حاول زهير بن قيس البلوي خليفة عقبة على القيروان أن ينفخ في الجنود روح المقاومة والتصدي لكسيلة عندما زحف على القيروان، وهتف قائلاً: يا معشر المسلمين إن أصحابكم قد دخلوا الجنة، وقدمنّ الله عليهم بالشهادة، فاسلكوا سبيلهم، أو يفتح الله عليكم دون ذلك[10]، ولكن صيحة زهيرة هذه لم تجد استجابة، بل لقيت معارضة وتثبيطاً، حيث تصدى له حنش الصنعاني وقال له: لا والله ما نقبل قولك ولا لك علينا ولاية، ولا عمل أفضل من النجاة بهذه العصابة من المسلمين إلى مشرقهم، ثم قال يا معشر المسلمين من أراد منكم القفول إلى مشرقة فليتبعني فاتبعه الناس، ولم يبق مع زهير إلا أهل بيته، فنهض في أثره، ولحق بقصره ببرقة وأقام بها مرابطاً إلى دولة عبد الملك بن مروان[11]، وأما كسيلة فاجتمع إليه جميع أهل إفريقية، وقصد القيروان، وبها أصحاب الأثقال والذراري من المسلمين، فطلبوا الأمان من كسيلة فأمنهم، ودخل القيروان، واستولى على إفريقية وأقام بها غير مدافع إلى أن قوى أمر عبد الملك بن مروان[12]، ولئن أخرجت إفريقية من يد المسلمين فإنها لم تخرج عن الإسلام، فقد أسلمت قبائل من البربر وثبتت على إسلامها وكان تعيش بالقيروان وكان كسيلة يحسب حسابها ويتفادها لشدة باسها فقد اعترف كسيلة بذلك حين اقترح على جيشه الخروج من القيروان واختيار موضع آخر لمواجهة جيش زهير الذي أمده به عبد الملك بن مروان قال كسيلة: إني أردت أن أرحل إلى ممس فأنزلها، فإن هذه المدينة ((يعني القيروان)) فيها خلق عظيم من المسلمين ولهم علينا عهد فلا نغدر بهم ونحن نخاف إذا التحم القتال أن يثبتوا علينا[13]. هذا وقد بقيت القيروان بيد كسيلة مدة تقارب خمس سنوات من عام 64هـ ـ 69هـ حتى خلصها زهير البلوي من قبضته بعد أن أمده عبد الملك بن مروان بجيش كبير يأتي الحديث عن زهير بإذن الله في عهد عبد الملك بن مروان . وفي مقتل عقبة رحمه الله درس بليغ وهو أهمية الحذر من العدو فقد أرسل جنوده وبقي في مجموعة قليلة من المقاتلين رغباً في الشهادة وهذا مطلب سامي وكبير إلا أن استشهاده كان له آثار سيئة على الفتوحات في شمال إفريقيا وضاعت القيروان من أيدي المسلمين لمدة خمس سنوات وتأخرت الدعوة الإسلامية لذلك يجب على القادة أن يوازنوا بين مصالح الأمة الكبرى وحرصهم على الشهادة . [/align] |
[align=justify]المبحث الثالث : فتوحات معاوية في الجناح الشرفي للدولة الأموية:
كان المسلمون حتى خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه قد أتموا فتح البلاد التي تقع بين العراق ونهر جيحون، وتضم جرجان وطبرستان وخراسان وفارس وكرمان وسجستان، فلما قتل عثمان تعثرت حركة الفتح، وخرج أكثر أهل هذه البلاد عن الطاعة، حتى إذا جاء عهد معاوية رضي الله عنه أخذت دولته تبذل جهوداً بالغة لإعادة البلاد المفتوحة إلى الطاعة ومد حركة الفتح[1]. أولاً : فتوحات خراسان[2] وسجستان وما وراء النهر : لما استقامت الأمور لمعاوية بن أبي سفيان ولّى عبد الله بن عامر البصرة وحرب سجستان وخراسان[3]، ولقد جاء تعيين عبد الله بن عامر في هذا المنصب نظراً لخبرته السابقة في هذه المنطقة وفي سنة 42هـ ـ 43هـ عين ابن عامر، عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس والياً على سجستان فأتاها وعلى شرطته عبّاد بن الحصين الحبطي ومعه من الأشراف عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعبد الله بن خازم السُّلمي، وقطري بن الفجاءة، والمهلب بن أبي صفرة الأزدي ففتحوا في هذه الحملة مدينة زرنج[4]، صلحا ووافق مرزبانها على دفع ألفي ألف (مليوني) درهم، وألفي وصيف. ثم تقدموا نحو مدن خواش[5]، وبست[6] ، وخُشَّك[7]، وغيرها من البلدان وتمكنوا من فتحها ، كما تمكنوا من فتح مدينة كابل بعد أن ضربوا عليها حصاراً استمر لعدة أشهر[8]. وما لبث أن جعل معاوية رضي الله عنه إقليم سجستان ولاية مستقلة وأمّر عليها عبد الرحمن بن سمرة كمكافأة له على تحقيقه مثل تلك الفتوحات[9]. وظل عبد الرحمن والياً عليها حتى قدم زياد بن أبي سفيان البصرة معيناً عليها بدل عبد الله بن عامر، والذي عزله معاوية سنة 45هـ كما مر معنا وعادت ولاية خراسان وسجستان مرة أخرى تحت إشراف والي البصرة. وعند وصول زياد البصرة سنة 45هـ قسم خراسان أربعة أقسام هي: مرو وعليها أُمَير أحمد اليشكري والذي كان أول من أسكن العرب في مرو[10] ونيسابور وعليها خُلَيد بن عبد الله الحنفي، مرو الرُّود والطالقان والفارياب وعليها قيس بن الهيثم السُّلمي، هَراة وباذغيس وبوشنج وقاديس وعين عليها نافع بن خالد الطاحي الأزدي[11]، وفي سنة 47هـ عمل زياد على جعل السلطة المركزية في خراسان في مدينة مرو ((القاعدة الأساسية فيها)). ثانياً : تعيين الحكم بن عمرو الغفاري : وكان عفيفاً وله صحبة[12]، وفي سنة 47هـ غزا الحكم ((طخارستان))[13]، فغنم غنائم كثيرة ثم سار إلى جبال الغور[14] وغزا أهلها الذين ارتدوا على الإسلام فأخذهم بالسيف عنوة وفتحها وأصاب منها مغانم كثيرة[15]، وكان المهلب بن أبي صفرة مع الحكم بخراسان، فغزا معه بعض جبال الترك وغزا معه جبل ((الأشل))[16] من جبال الترك، إلا أن الترك أخذوا عليهم الشعاب والطرق واحتار الحكم بالأمر، فولى المهلب الحرب، فلم يزل المهلب يحتال حتى أسر عظيماً من عظماء الترك، فقال له: إما أن تخرجنا من هذا الضيق أو لأقتلنك، فقال له: أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق، وسير الأثقال نحوه، فإنهم سيجتمعون فيه ويخلون ما سواه من الطرق، فبادرهم إلى طريق أخرى، فما يدركونكم حتى تخرجوا منه، وفعل ذلك المهلب، فسلم الناس بما معهم من الغنائم[17]، وقطع الحكم نهر جيحون وعبر إلى ما وراء النهر[18] في ولايته ولم يفتح وكان أول من شرب من مائه من المسلمين هو أحد موالي الحكم، فقد اغترف بترسه بماء النهر، فشرب وناول الحكم فشرب وتوضأ وصلى ركعتين، وكان الحكم أول من فعل ذلك[19]. وقد قال عبد الله بن المبارك لرجل من أهل ((الصغانيات)): ((من فتح بلادك؟)) فقال الرجل: لا أدري!! فقال ابن مبارك: فتحها الحكم بن عمرو الغفاري[20]. وقد مات الحكم سنة50هـ[21]، فخلفه الصحابي الجليل غالب بن فضالة الليثي والذي واصل سياسة سلفه في إرسال حملات منظمة في فتح طخارستان ولكنه، رغم كل الجهود التي بذلها لم يحرز إي تقدم يذكر في ولايات طخارستان[22] لذلك عزله زياد وولى مكانه الربيع بن زياد الحارثي ((50 ـ 53هـ[23]))، وقد استطاع الربيع بن زياد إبان فترة ولايته على خراسان أن يغزو بلخ فصالحه أهلها، ثم غزا قوهستان ففتحها عنوة ثم أن ابنه عبد الله، الذي خلفه لبضعة أشهر من عام 53هـ وخلفه خليد بن عبد الله الحنفي في إدارة الإقليم، وظل خليد في منصبه هذا حتى وصل عبيد الله بن زياد بن أبي سفيان عامل معاوية رضي الله عنه المعين على خراسان في سنة 54 ـ 55هـ وكان عبيد الله ابن 25 عاماً[24]. ثالثاً : عبيد الله بن زياد : ما أن وصل عبيد الله إلى مرو حتى قاد حملة مكونة من 24 ألف رجل وقطعوا نهر جيحون على الإبل وفتحوا راميثين[25][26] وبيكندة[27] فأرسلت ((خاتون)) ملكة ((بخارى)) إلى الترك تستمدهم فجاءهم منهم عدد كبير، فلقيهم المسلمون وهزموهم، وعند القتال انتصروا عليهم[28]، فبعثت خاتون تطلب الصلح والأمان وصالحها عبيد الله على ألف ألف درهم فلم يفتح بخارى وفتح بيكندة[29]، وكان قتال عبيد الله الترك من زحوف ((خراسان)) التي تذكر، وقد ظهر منه بأس شديد[30]، فقد ذكر شاهد عيان، فقال: ما رأيت أشجع بأساً من عبيد الله بن زياد لقينا زحف الترك بـ((خراسان)) ، فرأيته يقاتل فيحمل عليهم، فيطعن فيهم ويغيب عنا ثم يرفع رايته تقطر دماً ، وبقي عبيد الله بخراسان سنتين[31]، إذ ولاه معاوية البصرة سنة 55هـ[32]، فقدم معه البصرة بخلق من أهل بخارى[33] وهم ألفان كلهم جيد الرمي بالنشاب[34]، وتولى ابن زياد أرفع المناصب في أيام معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك، وكان موضع ثقة بني أمية وكان يعتمد في حكمه على القسوة القاسية لفرض سيطرته على الناس، وكان لا يبالي من أجل تدعيم سيطرته أن يرتكب كل أنواع الإجراءات الرادعة قتلاً وتعذيباً وحجزاً للممتلكات والأموال[35]، فقد كان ذا شخصية طاغية يحب الإمارة ويحب السيطرة ولقد أساء ابن زياد، فترك تصرفه الأهوج في قتل الحسين رضي الله عنه أثراً بالغاً في أيامه ولا نزال نعاني من نتائج قتله حتى اليوم[36]، وسيأتي بيان تفصيل ذلك بإذن الله عند الحديث عن مقتل الحسين رضي الله عنه. وفي سنة 55 هـ قدم أسلم بن زرعة الكلابي خراسان والياً عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان بدلاً من عبيد الله بن زياد والذي ندبه معاوية لولاية البصرة وظل أسلم في ولايته مدة تقارب السنة[37]. [/align] ونسف |
[align=justify]رابعاً : سعيد بن عثمان بن عفان : 56هـ
تروى المصادر التاريخية أن سعيداً بن عثمان بن عفان قد اصطحب معه إلى خراسان حوالي أربعة آلاف رجل فيهم عدد من مشاهير رجالات القبائل العربية في البصرة والكوفة كما كان من ضمنهم حوالي خمسين عابثاً وقاطعاً للطريق من أمثال مالك بن الرِّيب المازني التميمي وهؤلاء تابوا ورجعوا إلى رشدهم وفضلوا الجهاد في سبيل الله[1] ومالك بن الريب هو القائل: ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا[2] وقدم سعيد خراسان فقطع النهر إلى (سمرقند) وبلغ خاتون ملكة بخاري عبوره النهر، فحملت إليه الصلح الذي صالحت عليه عبيد الله بن زياد وأقبل أهل الصُّغد وكِش ونسف إلى سعيد في مائة ألف وعشرين ألفاً، فالتقوا ببخاري، وقد ندمت خاتون على أدائها الجزية، فنكثت العهد ولكن قسماً من الحشود المجتمعة لقتال سعيد انصرفوا قبل مباشرة القتال، فأثّر انصرافهم في معنويات الآخرين واهتزّت معنوياتهم، فلما رأت خاتون ذلك، أعادت الصلح، فدخل سعيد مدينة بخاري فاتحاً[3]، وطلب سعيد من خاتون أن تبعث إليه بثمانين من أعيان بلادها ممن كانوا على رأس الخارجين عليها، وممن تخشى غدرهم بها وتهديدهم لعرشها، وتخلّصت بذلك من أشدَّ أعدائها خطراً على عرشها وحاضرها، ومستقبلها، وحين تمَّ الصلح بين خاتون وسعيد، زارت خاتون سعيداً بمقرِّه، فطلعت عليه في زينتها الملكية، وكانت نادرة الجمال على ما يقال، فادّعى أهل بخاري أن القائد المسلم أعجب بجمالها أيّما أعجاب، وجرى ذكر إعجاب سعيد بها في الأغاني الشعبية التي لا يزال أهل بخاري يردِّدونها ويتغنون بها حتى اليوم ولكن هذا الإعجاب لا ذكر له في المصادر العربية الإسلامية المعتمدة، ومن الواضح أنه أقرب إلى خيال الأدباء والفنانين منه إلى حقائق المؤرخين. وغزا سعيد سمرقند، فأعانته خاتون بأهل بخاري، فنزل على باب سمرقند، وحلف ألاّ يبرح أو يفتحها وقاتل المسلمون أهل سمرقند ثلاثة أيام، وكان أشدّ قتالهم في اليوم الثالث حيث فُقئت عين سعيد، ولزم أهل سمرقند أن يفتح سعيد ذلك القصر عنوة ويقتل من فيه، فطلبوا الصلح، فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، وعلى أن يعطوه رهناً من أبناء عظمائهم، وعلى أن يدخل المدينة ومن شاء ويخرج من الباب الآخر، فأعطوه خمسة وعشرين من أبناء ملوكهم، ويقال: إنهم أعطوه أربعين من أبناء ملوكهم، ويقال: ثمانين[4] وكان معه من الأمراء المهلب بن أبي صُفرة الأزدي وغيره واستشهد معه يومئذ قثم بن العباس بن عبد المطلب، وكان يُشبَّه بالنبي صلى الله عليه وسلم[5]، وكان أخوه عبد الله بن عباس دفن بالطائف وأخوه معبد استشهد بأفريقية وعبيد الله بالمدينة وكلهم من أب واحد وأم واحدة قال تعالى: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) (لقمان ، الآية : 34) . هذا وانصرف سعيد بن عثمان إلى (تِرْمِذ) ففتحها صلحاً[6] وقد كان سعيد شاعراً ومن شعره في معاوية قوله: ذكـرت أمير المؤمنين وفضله فقلت جزاه الله خيراً بما وصل وقـد سبقت مني إليـه بوادر من القول فيه آفة العقل والزلل فعـاد أميـر المؤمنين بفضـله وقد كان فيه قبـل عودته ميل وقال: خراسان لك اليوم طعمه فجوزي أمير المؤمنين بمـا فعل فلو كان عثمان الغـداة مكانه لما نالني من ملكه فوق ما بذل[7] وعزل معاوية سعيد عام 57هـ، فأخذ سعيد ما لا من خراج خُراسان، فوجّه معاوية من لقبه بـ((حلوان))[8] وأخذ المال منه ومضى سعيد بالرهن الذين أخذهم من أبناء عظماء (سمرقند) حتى ورد بهم المدينة النبوية، فدفع ثيابهم ومناطقهم إلى مواليه، وألبسهم جباب الصوف، وألزمهم السقي والعمل[9]، وألقاهم في أرض يعملون له فيها بالمساحي،فأغلقوا يوماً باب الحائط ووثبوا عليه فقتلوه ثم قتلوا أنفسهم[10]، فقال خالد بن عقبة بن أبي معيط الأموي[11]: ألا إنّ خير الناس نفساً ووالداً سعيد بن عثمان قتيل الأعاجم فإن تكن الأيام أردت صروفها سعيداً فهل حيٌ من الناس سالم؟ وقال أيضتً يرثيه: يا عين جودي بدمع منك تهتاناً وأبكي سعيد بن عثمان بن عفانا لم يف سعيد لأهل ((سمرقند)) بإعادة الرهن لهم، بل جاء بالغلمان معه إلى المدينة النبوية وجعل يستعملهم في النخيل والطين وهم أولاد الدهاقين وأرباب النِّعم، فلم يطيقوا ذلك العمل وسئموا عيشهم فوثبوا عليه في حائط له، وبذلك غدر بهم[12]، فكان هذا الغدر وبالاً عليه، إذ قدم حياته ثمناً لغدره[13]، لقد كان سعيد شهماً غيوراً يعتد بشخصيته، طموحاً، مُتْرَفاً،سخياً وكان من شخصيات قريش البارزة[14] خامساً: فتح سلم بن زياد أخو عبيد الله بن زياد: 57هـ عزل معاوية بن أبي سفيان سعيد بن عثمان بن عفان سنة سبع وخمسين الهجرية، وأُضيفت إلى ولاية عبيد الله بن زياد في رواية[15]، وفي رواية أخرى، أن معاوية بن أبي سفيان ولّى خراسان عبد الرحمن بن زياد، وكان شريفاً، فلم يصنع شيئاً في مجال الفتح، وكان ذلك في سنة 59هـ[16] ومات معاوية وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد ولما سار سلم إلى خراسان، كتب معه يزيد إلى أخيه عبيد الله بن زياد في العراق ينتخب له ستة ألف فارس، وقيل: ألفي فارس، وكان سلم ينتخب الوجوه، فخرج معه عمران بن الفضيل البُرجُميّ والمهلب بن أبي صفرة، وعبد الله بن خازم السُّلمي، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وخلق كثير من رؤساء البصرة وأشرافهم، فأخذ سلم هؤلاء الفرسان معه من البصرة، وتجهز ثم سار إلى خراسان[17]، وبدأ سلم بغزو خوارزم، فصالحوه على أربعمائة درهم وحملوها إليه وقطع سلم النهر (جيحون) ومعه امرأته أم محمد بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكانت أوّل امرأة عربية عُبر بها النهر، فأتى (سمرقند) فصالحه أهلها[18]ووجد (خاتون) ملكة بخارى قد نقضت العهد، واستنجدت بجيرانها من الصُّفد، وأتراك الشمال، فجاء طرخون على جيش الصُّفد، كما جاء ملك الترك في عسكر كثيف ولم تؤثر تلك الحشود الضخمة من القوات المعادية في معنويات المسلمين، فحاصروا بخارى دون أن يهجموا عليها، ليقفوا أولاً على تفاصيل قوات أعدائهم ومواضعها، وهي متربصة بهم في ومواضع ليست بعيدة عن بخارى وأمر سلم المهلب بن أبي صفرة الأذدي أن يستطلع أحوال العدو فاقترح المهلب أن يكلف غيره بهذه المهمة، وحجته أنه معروف المكانة بين قومه والمسلمين وقد يفشي تغيبه عن معسكر المسلمين سرّ الواجب الذي أُلقي على عاتقه، وهذا الواجب ينبغي أن يبقى سرّاً مكتوماً حتى يتم إنجازه بسرية تامة وكتمن شديد وحذر بالغ، لأن إفشاءه يعرّض المسلمين لخطر جسيم ولكنّ سلم بن زياد أصرّ على إيفاء المهلب دون غيره في هذا الواجب الحيوي الذي قد يعجز غيره عن النهوض به كما ينبغي، وأرسل معه ابن عمه ورجلاً من كل لواء من ألوية المسلمين، وأشترط المهلب على سلم إلا يبوح لأحد من الناس كائناً من كان بمهمته، ثم مضى إلى سبيله ليلاً مع جماعته الاستطلاعية، فكمن في موضع مستور، واستطلع قوات العدو دون أن يشعر العدو بموضعه المخفيّ المستور، ويبدو أن قوم المهلب والمسلمين افتقدوا المهلب في صلاة الفجر من تلك الليلة التي تسلل بها المهلب إلى موضع قريب من العدو، فما كان تغيب مثله أن يخفى على أحد وهو ليس مجهول المكان والمكانة يملأ الأعين قدراً وجلالاً، فألحّوا على سلم بالسؤال عن المهلب وألحفوا عليه، فلم يستطع أن يكتم أمره وأخبرهم أنه أرسله في مهمة استطلاعية ليلاً، وفشا الخبر بسرعة خاطفة في العسكر، فأسرع جمع من المسلمين بالركوب وتوجّهوا صوب موضع المهلب المستور، فكشفوا موضعه وموضع رجاله للعدو، وأبصرهم المهلب مقبلين نحوه يتسابقون بدون نظام ولا تنظيم فلامهم أشد اللوم على ما أقدموا عليه، لأنهم كشفوا موضع جماعته الاستطلاعية للعدو دون مسوِّغ، فعرّضهم لخطر محدق أكيد، وأصبح موقف المهلب ومن معه من المسلمين في خطر داهم فبذل المهلب قصارى جهده لمعالجة موقفه الخطير وتدارك ما يمكن تداركه، وأحصى المهلب المسلمين الذين التحقوا به متطوّعين، فكانوا تسعمائة من الفرسان المجاهدين، فقال لهم: والله لتندمُّن على ما فعلتم، وحدث ما توقعه المهلب، فما كاد ينظِّم المسلمين صفوفاً، حتى هاجمهم الترك وأبادوا منهم أربعمائة فارس مجاهد، ولاذ الباقون منهم على قيد الحياة بالفرار وأحيط بالمهلب ومن بقي معه من جماعته الاستطلاعية ذات العدد المحدود، ولكنه ثبت ثباتاً راسخاً لا يتزعزع عن موضعه، فالموت بالنسبة لأمثاله أهون عليهم من الفرار، وصاح المهلب بصوته الجهوريّ القوي مستغيثاً بالمسلمين، فسُمع صوته من معسكر المسلمين القريب، الذي كان على نصف فرسخ من موضعه المواجه للعدو، وبادر فوراً إلى نجدته من قومه الأزد، فشاغلوا الترك ريثما أقبل المسلمون خفافاً لنجدته على عجل بقيادة سَلْم، ونشب القتال بين الجانبين، فقاتل المسلمون الترك حين هزموهم هزيمة نكراء حيث هربوا منساحة المعركة مخلِّفين أموالهم وأثقالهم فغنمها المسلمون حتى أصاب كلّ فارس ألفين وأربعمائة درهم في رواية وعشرة آلاف درهم في رواية أخرى، وطارد المسلمون الترك المنهزمين، فلم ينج منهم إلا الشريد، وكان من بين القتلى (بندون) أو (بيدون) الصُّغدي ملك الصُّغد ,اعادت خاتون الصُّلح من جديد مع سلْم ، فاستعاد فتح بخاري[19]، وبعث سَلْم وهو بالصّغد جيشاً من المسلمين إلى ((خُجَنْدة)) وفيهم الشاعر أعشى همدان، فهزم المسلمون فقال الأعشى: ليت خيلي يوم الخُجَنْدة لهم يهزم وغودرت في المكرِّ سَلِيْبَا تحضُرً الطيرُ مصرعي وتروحت إلى الله في الدماء خصيبا[20] وكان عمّال خراسان قبل سَلْم يغزون، فإذا دخل السِّتاء رجعوا إلى ((مزوا الشَّاهجان))، فإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان بمدينة مما يلي خُوارِزم، فيتعاقدون أن لا يغزو بعضهم بعضاً، ويتشاورون في أمورهم. فلما قدم سَلْم غزا فشتا في تلك السنة، فألحّ عليه المهلّب بن أبي صفرة وسأله التوجه إلى تلك المدينة، فوجّهه في ستة آلاف، وقبل: أربعة آلاف، فحاصرهم، فطلبوا أن يصالحهم على أن يغدو أنفسهم، فأجابهم إلى ذلك وصالحوه على نيِّف وعشرين ألف درهم، وكان في صلحهم أن يأخذ منهم عروضاً، فكان يأخذ الرأس والدّابة بنصف ثمنه، فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف درهم[21]، وعاد سلم إلى( مَرْو) بعد جهاد هذه السنة الذي استمرّ سنتي إحدى وستين الهجرية واثنتين وستين الهجرية، ويبدو أنه قطع النهر ثانية في سنة ثلاث وستين الهجرية[22]، لأنه علم بأنّ الصُّغد قد جمعت له، فقاتلهم وقتل ملكهم[23]، ولكنه عاد مسرعاً إلى (مرو) ليعالج مشاكل المنطقة الداخلية، فقد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم[24]، فقد مات يزيد بن معاوية سنة أربع ستين فبويع بعده معاوية بن يزيد بن معاوية فلم يمكث إلا ثلاثة اشهر حتى هلك، وقيل: بل ملك أربعين يوماً ثمّ مات[25]، وقيل غير ذلك، ولم بلغ سلم موت يزيد بن معاوية كتم ذلك، ولكنّ الخبر انتشر بين الناس في خُراسان انتشار النار في الهشيم، فمثل هذا الخبر يستحيل كتمانه مدة طويلة، ولما علم سلم بانتشار خبر موت يزيد بين الناس، أظهر موت يزيد وابنه معاوية، ودعا الناس إلى البيعة على الرضى حتى يستقيم أمر الناس على خليفة، فبايعوه ثمّ نكثوا بعد شهرين، وكان سلم محسناً إليهم محبوباً فيهم، ولكن قسما من القبائل العربية خلعوه عصبية وتعصباً وفتنة، فلم يجد أهل خُراسان أميراً قد حبهم مثل سَلْم بن زياد[26]، ولكن قائلهم قال: بئس ما ظنّ سَلْم، إن ظنَّ أنه يتأمر علينا في الجماعة والفتنة[27]، ووثب أهل خُراسان بعمالهم فأخرجوهم، وغلب كل قوم على ناحية، ووقعت الفتنة، ووقعت الحرب[28]، ونسب الاقتتال بين القبائل العربية ، وأصبحت خراسان مناطق في كل منطقة قائد وأمير، وتساقطت القتلى بين المسلمين بالسيوف، وتوقف الفتح وتوجه سَلْم إلى عبد الله بن الزبير في مكة المكرمة[29]. [/align] |
[align=justify]سادساً : فتوحات السند في عهد معاوية :
تمكن المسلمون في عهد معاوية رضي الله عنه من بسط نفوذهم إلى ما وراء نهر السند، ففي سنة 44هـ غزا المهلب بن أبي صفرة ثغر السند فأتى بَنَّة[1]، ولاهور، وهما بين المًلتان[2]، وكابل، وأما في مستهل سنة 45هـ فقد أرسل والي البصرة عبد الله بن عامر: عبد الله بن سوّار العبيدي إلى ثغر السند على رأس حملة قوامها أربعة آلاف رجل، ولم وصل ابن سوّار إلى مدينة مكران، بقي هناك أربعة أشهر يعدّ نفسه وجنده للحملة المرتقبة. ثم تقدم وجماعته نحو بلاد القيقان[3]، وفتحها، وكانت هديته إلى معاوية رضي الله عنه خيلاً قيقانية[4]سلّمها بنفسه إليه في الشام، فأصل البرازين القيقانية من نسل تلك الخيول[5]. وعلى أية حال، فلم يدم المقام لابن سوّار طويلاً في ثغر السند فقد قتلته جماعة من الترك هناك في سنة 47هـ[6]، وفي سنة 48هـ اختار زياد بن أبي سفيان سنان بن سلمة بن المُحَبَّق الهذلي ليكون والياً على الاقاليم المفتوحة من ثغر السند وما أن وصل سنان إلى هناك حتى تمكن من فتح مدينة مكران ((عنوّة)) ومصَّرها وأقام بها وضبط البلاد[7]. ولكن سنان لم يمكث هناك سوى سنة أو سنتان ثم عزله زياد. وولى مكانه راشد بن عمرو الأزدي، فأتى مكران ثم تقدم في بلاد القيقان، فظفر، ثم اتجه نحو الميد، فقتل هناك[8]، وبعد ذلك تولَّى عباد بن زياد بن أبي سفيان أمر سجستان فقاد حملة توغل فيها في منطقة حوض نهر السند فنزل كِشْ، ثم سار إلى قُنْدُهار[9]: فقاتل أهلها فهزمهم، وفتحها بعد أن أصيب رجال من المسلمين[10]، وكان آخر الولاة الذين تولوا أمر الفتوحات في هذا الجزء هو المنذر بن الجارود العبدي أبو الأشعث والذي وصل ثغر السند معيناً عليه من قبل عبد الله بن زياد بن أبي سفيان والي البصرة سنة 62هـ فقاد المنذر حملة ضد مدينة قُصدار[11]، وتمكن من فتحها[12]. [/align] |
[align=justify]المبحث الرابع : أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات معاوية رضي الله عنه:
أولاً : أثر الآيات والأحاديث في نفوس المجاهدين : كان للآيات والأحاديث التي تتحدث عن فضل الجهاد أثرها في نفوس المجاهدين، فقد بين المولى عز وجل أن حركات المجاهدين كلها يثاب عليها قال تعالى: ((مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (التوبة ، الآيتان : 120 ـ 121) . وقد تلعموا أن الجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فيه قال تعالى: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) (التوبة ، الآيات : 19 ـ 22) . واعتقدوا أن الجهاد فوز على كل حال قال تعالى: ((قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)) ( التوبة ، الآية : 52)، وأن الشهيد لا تنقطع حياته بل هو حي قال تعالى: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)) (آل عمران ، الآيات : 169 ـ 171)، وكانوا يشعرون بسمو هدفهم الذي يقاتلون من أجله قال تعالى: ((فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)) (النساء ، الآيات : 74 ـ 76). وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين فضل الجهاد فألهبت أحاديثه مشاعرهم وعواطفهم وفجرت طاقاتهم ومن هذه الأحاديث ما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مؤمن يجاهد بنفسه وماله[1]، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم درجات المجاهدين فقال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة[2]. وقد وضح صلى الله عليه وسلم فضل الشهداء وكرامتهم فقال: انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرّية ولوددت أني اقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم اقتل ثم أحيا ثم أقتل[3]وقال صلى الله عليه وسلم: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة[4]. وغير ذلك من الأحاديث وقد تأثر المسلمون الأوائل ومن سار على نهجهم بهذه الآيات والأحاديث، فكان كبار الصحابة رضي الله عنهم يغزون وقد تقدم بهم العمر فيشفق عليهم الناس وينصحونهم بالقعود عن الغزو، لأنهم معذورون فيجيبونهم أن سورة التوبة تأبى عليهم القعود ويخافون على أنفسهم من النفاق إذا ما تخلفوا عن الغزو[5]. كما كان للعلماء والفقهاء والزهاد دور كبير في تربية الناس على هذه الآيات والأحاديث ومن هؤلاء العلماء كبار الصحابة كأبي أيوب الأنصاري، وابن عمر، وغيرهم ومن التابعين كأبي مسلم الخولاني، يرون أن الجهاد في سبيل الله ضرورة من ضرورات بقاء الأمة الإسلامية، فقاموا بهذه الفريضة في فتوحات بلاد الشام والشمال الأفريقي وخراسان وسجستان والسند، وترتب على قيامهم بهذه الفريضة ثمرات كثيرة منها: تأهيل الأمة الإسلامية لقيادة البشرية، القضاء على شوكة الكفار وإذلالهم وإنزال الرعب في قلوبهم، ظهور صدق الدعوة للناس الأمر الذي جعلهم يدخلون في دين الله أفواجا فيزداد المسلمون بذلك عزّاً والكفار ذُلاً وتوحدت صفوف المسلمين ضد أعدائهم وأسعدوا الناس بنور الإسلام وعدله ورحمته[6]. ثالثاً: من سنن الله في فتوحات معاوية: يلاحظ الباحث في دراسته للفتوحات في عهد معاوية بعض سنن الله في المجتمعات والشعوب والدول ومن هذه السنن: 1 ـ سنة الله في الاتحاد والاجتماع: كانت الفتنة التي أدت إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه أكبر معوق أصاب حركة الفتوحات بعد الردة أيام أبي بكر رضي الله عنه، حيث أدى استشهاد عثمان إلى توقف الجهاد، واتجاه سيوف المسلمين إلى بعضهم في فتنة كادت تعصف بالأمة الإسلامية لولا أن تداركتها رحمة الله ـ سبحانه وتعالى بصلح الحسن بن علي مع معاوية رضي الله عنهما وقد امتلأت المصادر بالنصوص التي تبين أثر الفتنة في انحسار حركة الجهاد[7]ومن هذه الآثار: ـ عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه قال: قد رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلي بين معاوية وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء وقطعت فيها الأرحام وقطعت السبل، وعُطلت الفروج ـ يعني الثغور[8]. ـ ما أخرجه أبو زرعة الدمشقي بإسناده قال: لما قتل عثمان، واختلف الناس، لم تكن للناس غازية، ولا صائفة حتى اجتمعت الأمة على معاوية[9]. ـ قول أبي بكر المالكي: فوقعت الفتنة .. واستشهد عثمان رضي الله عنه، وولى بعده علي رضي الله عنه، وبقيت إفريقية على حالها إلى ولاية معاوية رضي الله عنه[10]، ولكن بعد الصلح وما ترتب عليه من الاتحاد والاجتماع عادت حركة الفتوحات إلى ما كانت عليه وأصبحت في عهد معاوية على ثلاث جبهات كما مر معنا . إن الاتحاد والاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله مقصد من مقاصد الشريعة وهذا المقصد من أهم أسباب التمكين لدين الله واستمرار حركة الفتوحات، فالأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين، وتوحيد صفهم من أعظم الجهاد، لأن هذه الخطوة مهمة جداً في إعزاز المسلمين، وإقامة دولتهم، وتحكيم شرع ربهم[11]فحركة الفتوحات بين الانطلاق والتوقف مرهون بتحقيق سنة الاتفاق والاتحاد والاجتماع ونبذ الفرقة والخلاف والشقاق قال تعالى: ((واعتصموا بحبل الله جميعا.. )) 2 ـ سنة الأخذ بالأسباب: قال تعالى: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)) (الأنفال : 60) وقد قام معاوية رضي الله عنه بالعمل بهذه الآية وحث ولاته على العمل بها ويظهر أخذ معاوية رضي الله عنه بسنة الأخذ بالأسباب، في اهتمامه ببناء الأسطول البحري وتطويره، وتقوية الجيش، والقضاء على الفتن الداخلية، ودعم الثغور، وأماكن الرباط والتخطيط الاستراتيجي للدولة في سياستها الداخلية والخارجية، والتكتيك العسكري، في نظام المعسكرات ونظام الرباط والثغور، والصوائف والشواتي، وبناء الحصون، ونظام التعبئة، وتوطين القبائل، لنشر الإسلام وتثبيت الفتوحات والتصدي لحركات التمرد، فبعدما زال خطر الهجوم العسكري من الفرس قام بتوطين عشرات الألوف من الأسر العربية في الجناح الشرقي من الدولة خاصة خراسان وقد نجحت هذه السياسة وأتت ثمارها في هذا الجناح[12]. 3 ـ سنة التدافع: قال تعالى: ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)) (البقرة، أية :251) وقد تحققت هذه السنة في حركة الفتوحات عموماً، وسنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه، وهي من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية، وقد استوعب المسلمون الأوائل هذه السنة وعملوا بها وعلموا: أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضي به وقلوب تحنو عليه وأعصاب ترتبط به. إنه يحتاج إلى جهد بشري، لأن هذه سنة الله في الحياة الدنيا وهي ماضية[13]. 4 ـ سنة الابتلاء: قال تعالى: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) (البقرة، آية: 214) . وقد وقع البلاء في حصار القسطنطينية وتعرض الكثير من المسلمين للقتل وفي فتوحات الشمال الإفريقي، واستشهاد القادة كعقبة بن نافع وأبي المهاجر دينار، وغيرهم، فهذه سنة الله في العقائد والدعوات فلا بد من الأذى في الأموال والأنفس ولا بد من صبر ، واعتزام[14]. 5 ـ سنة الله في الظلم والظالمين: قال تعالى: ((ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)) (هود، الآيات: 100ـ102) . وسنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة، وقد مارست الدولة الفارسية الظلم على رعاياها وتمردت على منهج الله فمضت فيها سنة الله وسلط الله عليها المسلمين فأزالوها من الوجود[15]، وكذلك نفوذ الدولة البيزنطية من الشام ومصر، وتزعزع وجودها في الشمال الإفريقي وما جاء عهد الوليد بن عبد الملك حتى زال نفوذها من الشمال الإفريقي كلياً. 6 ـ سنة الله في المترفين: قال تعالى: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) (الإسراء، آية:16). وجاء في تفسيرها: وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها، أي: متنعميها وجبّاريها وملوكها، ففسقوا فيها فحق عليها القول فأهلكها، وإنما خص الله المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع، لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم إنما وقع باتباعهم وإغوائهم، فكان توجه الأمر إليهم آكد[16]، وقد مضت هذه السنة في زعماء الفرس وأئمتهم في بلاد فارس وزعماء الروم في الشام ومصر والشمال الأفريقي 7ـ سنة الله في الطغيان والطغاة: قال تعالى((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) ((الفجر،آية:14)) والاية وعيد للعصاة مطلقاً، وقيل: وعيد للعصاة ووعيد لغيرهم[17]. وفي تفسير القرطي: أي يرصد كل إنسان حتى يجازيه به[18]، وواضح من أقوال المفسرين في الآيات التي ذكرناها في الفقرة السابقة أن سنة الله في الطغاة إنزال العقاب بهم في الدنيا، فهي سنة ماضية لا تتخلف جرت على الطغاة السابقين وستجري على الحاضرين والقادمين فلن يفلت منهم أحد من عقاب الله[19]. وسنة الله في الطغاة وما ينزله الله بهم من عقاب في الدنيا، إنما يعتبر بها من يخشى الله جلّ جلاله ويخاف عقابه ويعلم أن سنة الله قانون ثابت لا يحابي أحداً، قال تعالى في بيات المعتبرين بسنته في الطغاة ـ بعد أن ذكر ما حلّ بفرعون من سوء عقاب ـ: ((فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى)) (النازعات، الآيتان:26،25)، فهؤلاء الطغاة من زعماء الفرس، وزعماء الروم في في مصر والشام مضت فيهم سنة الله. 8 ـ سنة التدرج خضعت الفتوحات الإسلامية لسنة التدرج ويعتبر الحصار الأول والثاني للقسطنطينية مرحلة مبكرة لفتح القسطنطينية على عهد السلطان العثماني محمد الفاتح، فالأعمال التي قام بها المسلمون ضد الدولة البيزنطية قبل محمد الفاتح ساهمت في عمل تراكمي توّج بفتح القسطنضيه في عهد العثمانيين. 9ـ سنة الله في الذنوب والسيئات: قال تعالى:(( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ)) ( الأنعام، آية:6) وقد أهلك الله تعالى أمة الفرس بسبب ذنوبهم التي اقترفوها وأزال ملك الروم من مصر والشام وليبيا بسببها، وفي هذه الآية حقيقة ثابتة وسنة مطردة: أن الذنوب والمعاصي تهلك أصحابها، وأن الله تعالى هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم[20]، وقد سلط الله أمة الإسلام على الفرس والروم عندما حققت شروط التمكين وعملت بسننه وأخذت بأسبابه وحققت أهدافه 10ـ سنة تغير النفوس: قال تعالى:(( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) (الرعد، آية:11). وقد قام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والتابعون بإحسان في فتوحات الشام ومصر والشمال الأفريقي وبلاد المشرق، بالعمل بهذه السنة الربانية مع الشعوب التي أرادت أن تدخل في دين الله. فشرعوا في تربية الناس على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فغرسوا في نفوسهم العقائد الصحيحة والأفكار السليمة والأخلاق الرفيعة. [/align] |
[align=justify]رابعاً: التخطيط الاستراتيجي للفتوحات عند معاوية رضي الله عنه:
خضعت الفتوحات في عهد معاوية للتخطيط الدقيق والمحكم، فقد كانت سياسته في الفتوحات كالآتي: 1ـ سياسته تجاه الروم: فقد سلك الخطوات التالية: أ ـ التركيز على عمليات الصوائف والشواتي، من أجل تحقيق عدة أهداف منها: ـ استنزاف قوة الروم. ـ انتزاع زمام المبادرة من الروم، وجعلهم في حالة دفاع مستمر[1]. ـ أرغام الروم على توزيع قواتهم بحيث لا يستطيعون القيام بهجمات حاسمة وقوية ضد الدولة الإسلامية[2]. ب ـ مهاجمة الروم في عقر دارهم ومحاصرة عاصمتهم، وما يترتب على ذلك من إضعاف معنوياتهم، وقذف الرعب في قلوبهم. جـ ـ تقليص النفوذ البحري للروم عن طريق فتح الجزر الواقعة في بحر الشام[3]، وما يترتب على ذلك من حرمان سفن الروم من قواعدها البحرية الهامة. 2 ـ سياسته في جبهة الشمال الإفريقي: أ ـ أولى معاوية رضي الله عنه جبهة المغرب اهتماماً خاصاً تمثل بارتباط هذه الجبهة به شخصياً، حيث كان معاوية رضي الله عنه المرجع المباشر لقادة هذه الجبهة إلى سنة 47هـ، وهي السنة التي ضُمت فيها جبهة المغرب إلى والي مصر[4] ب ـ عمل معاوية رضي الله عنه على إقامة قاعدة جهادية متقدمة في قلب بلاد المغرب وقد قام عقبة بن نافع ببناء القيروان لكي تكون عزاً للإسلام والمسلمين. 3 ـ سياسته في جبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر: أ ـ استعانة معاوية رضي الله عنه بفاتح سجستان وخراسان أيام عثمان رضي الله عنه، وهو عبد الله بن عامر رضي الله عنه وتكليفه، بإعادة فتحها مرة أخرى. ب ـ العمل على تثبيت الحكم الإسلامي، ونشر دعوة الإسلام في هذه المنطقة عن طريق إسكان خمسين ألف من العرب بعيالهم في خراسان[5]. خامساً: الشورى في إدارة حركة الفتوحات: عند انتقال الخلافة إلى معاوية رضي الله عنه كان مجلس الشورى لديه يتألف من كبار أعيان عصره وولاته ومعاونيه الذين يتصفون بالبلاغة والسياسة وحسن التدبير في أمور الإدارة العسكرية، وكان من هؤلاء عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي كان مشهوراً بالصفات السابقة، مما جعل الخليفة معاوية يعتمد عليه كالوزير المدبر لدولته والمشير ومنهم أيضاً زياد بن أبيه ولم تكن الوزارة في عهد بني أمية مقننة القواعد ولا مقررة القوانين، وكان ذوو الآراء من مستشاري الخليفة يقومون مقام الوزراء، وكان الواحد منهم يسمى كاتباً أو مشيراً[6] إضافة إلى ذلك كان الخليفة معاوية يعتمد في إدارته العسكرية على مشورة قادة وأمراء القبائل وخصوصاً التي بالشام، فقد كان يقربهم ويدني مجلسهم ويستشيرهم، وسار قادة معاوية بن أبي سفيان سيرته بمبدأ المشورة في إدارتهم العسكرية للمعارك الحربية[7]. سادساً: مركزية القيادة والإمداد في إدارة معاوية: عندما انتقلت الخلافة إلى بني أمية أصبحت دمشق مقر الخلافة ومركز القيادة العليا للإدارة العسكرية، فكان الخليفة بها هو الذي يقرر السياسة الحربية كما كان مسئولاً عن الحرب والسلم فكان التنظيم الإداري العام للجيش أمراً من الأمور المركزية التي يشرف الخليفة مباشرة عليها[8]، وذلك بالرغم من وجود عمال الولايات والأقاليم الذين كان لهم مطلق السلطات والتي منها قيادة الجيوش بأنفسهم أو تعيين القادة المناسبين من قبلهم ووضع الخطط لهم وإمدادهم وتموينهم ومن أمثلة هؤلاء زياد بن أبيه وابنه عبيد الله[9]، فمن مركزية القيادة لإدارة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في تعيين القادة أنه كتب إلى واليه بالبصرة زياد بن أبيه يأمره أن يوجه إلى خراسان رجلاً يقوم بأمرها فولى زياد الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه، وكتب له عهده على خراسان وولاه حربها، وخراجها وسار إليها بمن يريد الجهاد في سبيل الله، من المتطوعة من أهل البصرة، إضافة إلى الجند النظامي أصحاب الديوان، فوضع لهم الأرزاق، وأعطاهم وقواهم وسار لما أمر به[10]. ومن مركزية القيادة العليا في إدارة معاوية العسكرية تسيير الجيوش والإمدادات العسكرية لها، فنرى القائد، علقمة بن يزيد الغطيفي كتب إليه قائلاً: إنك خلفتني بالإسكندرية وليس معي إلا اثنا عشر ألفاً ما يكاد بعضنا يرى بعض من القلة فكتب إليه الخليفة معاوية: إني قد أمددتك بعبد الله بن مطيع في أربعة الآف من أهل المدينة، وأمرت معن بن يزيد السلمي أن يكون بالرملة في أربعة الآف مسكين بأعنة خيولهم متى يبلغهم عنك فزع يعبروا إليك[11]. سابعاً: الألوية والرايات: حين انتقلت الخلافة إلى معاوية تعددت الألوية والرايات في إدارتهم العسكرية، كما تعددت ألوانها كاللون الأخضر والأحمر والأبيض بالرغم من اتخاذهم اللون الأبيض شعاراً ورمزاً لخلافتهم[12]، فمنذ عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لا نرى جيشاً يخرج ويسير نحو العدو إلا ويعقد لقائه لواء أو راية تكون لهم شعاراً ورمزاً يسيرون خلفها ويذودون عنها فنرى الواحد يصرع تلو الآخر وكل همه بقاءها منصوبة[13]، وكان القادة من الشجاعة والإقدام ما جعلهم يكونون أكفاء لحمل هذه الراية مثل عقبة بن نافع والحكم بن عمرو الغفاري وفضالة بن عبيد الله، وقد جعل والي العراق من قبل الخليفة معاوية زياد بن أبيه خروج القبائل على الرايات، ويبدو أن الغاية من ذلك معرفة مدى جدية كل منها في القتال والتزامها بالأوامر[14]. ثامناً: اهتمامه بالعيون والبريد: كان اهتمام معاوية رضي الله عنه بأمر المخابرات وجمع المعلومات على الأعداء قديماً منذ كان أميراً على بلاد الشام وتطور جهاز المخابرات لما تولى الخلافة، وزاد اهتمامه به، ففي عهده أسر رجل من المسلمين بالقسطنطينية وأهين ببلاطهم فاستغاث وا معاوياه: لقد أغفلت أمورنا وأضعتنا فوصل الخبر إليه عن طريق جواسيسه المتواجدين بأرض الروم فقام بفدائه وبأسر من أهانه وجعل المسلم يقتص منه بمثل ما أهانه وأن لا يزيد وهذا دليل على مدى دقة نظام المخابرات في إدارته[15]. ولقد ذكرت القصة فيما مضى بالتفصيل، كما قام الخليفة رضي الله عنه بفرض رقابة دقيقة ومحكمة على أفراد الحاميات وأسرهم وعين موظفاً في كل حامية ليتحرى عن الداخلين والخارجين حتى لا يتسلل عين للعدو إلى أرض المسلمين فتعرفوا على مواقع معسكراتهم ونقاط الضعف بها إن وجدت[16]. وفي إدارته أنشأ ديوان البريد وأعتنى به عناية فائقة وذلك لتسرع إليه أخبار البلاد من جميع أطرافها بما في ذلك أخبار الثغور، ولم يكن للبريد ديوان قبل ذلك[17]،وأما علاقة صاحب البريد بالإدارة العسكرية فقد كان عبارة عن عين الخليفة الباصرة وأذنه السامعة ينقل إليه أخبار عماله وقادته وسائر رجال دولته فكان له عيون يوافونه بكل جديد كما كان البريد واسطة بين الولاة والخلفاء والقادة لنقل الأوامر العسكرية وكان أصحاب البريد رقباء ومفتشين من قبل الدولة يرفعون التقارير عن أحوال الجند في مختلف حالات القتال وفي كل الظروف والأوقات ويخبرونه بحال المال والعطاء وذلك أنه يوكل بمجلس عرض الأولياء وأعطياتهم من يراعيه ويطالع ما يجري فيه ويكتب بما يقف عليه من الحال في وقته، إضافة إلى ذلك كان من واجبات صاحب البريد مساعدة الإدارة العسكرية في التموين والإمداد وحفظ الطرق وصيانتها من الأعداء وانسلال الجواسيس في البر والبحر وإليه كانت ترد كتب أصحاب الثغور وولاة الأطراف فيقوم بتوصيلها بوجه السرعة من اختصار للطرق واختيار المراكب لمعرفته بالطرق والمسالك إلى جميع النواحي وكان الخليفة يجد عنده ما يحتاج إليه من المعرفة عند إنفاذ جيش وغيره وقت الحاجة إلى ما هنالك من مهام قام البريد بتأديتها في الإدارة العسكرية[18]، على الجملة كان يقال للبريد جناح المسلمين لما كان يطير به من الأخبار[19]. تاسعاً: اهتمام معاوية بالحدود البرية للدولة: حين انتقلت الخلافة إلى معاوية زاد الاهتمام والاعتناء بهذه التحصينات لحماية الحدود الإسلامية وبخاصة إذا علمنا أن المؤسس الأول للدولة الأموية معاوية رضي الله عنه قد قام بتولي حملات الصوائف والشواتي بنفسه حين كان قائداً ووالياً للخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما كما أسند إليه في خلافتيهما إنشاء وترميم بعض الحصون الدفاعية على الحدود الإسلامية كما سبق وأشرنا مما جعله ملماً بهذه الثغور والتحصينات، فأستكمل ما بدأه حين استقرت بيده الخلافة، فقام ببناء وتحصين مرعش والحدث من ثغور الجزيرة وأسكنها الجند وكان يتعهدهما باستمرار[20]، واتخذ معاوية رضي الله عنه لتحصين المدن الساحلية سياسة التهجير أو النواقل بنقل قوم من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن وصور وعكا وغيرها، ونقل من الزط وأساورة البصرة والكوفة وفرس وبعلبك وحمص إلى ثغر أنطاكية[21]، وولى القائد عبد العزيز بن حاتم الباهلي أرمينية وأذربيجان فبنى مدينة دبيل[22]، وعمل عدة تحصينات دفاعية كما بنى مدينة النشوي[23]ورم مدينة برذعة[24]، وجدد بناء البيلقان[25]، إلى ما هنالك من تحصينات دفاعية قام بإنشائها[26]، كما قلد الوالي زياد بن أبيه القائد الربيع بن زياد الحارثي[27]، ثغر خراسان وأرسل معه من المصرين ((الكوفة ـ البصرة)) زهاء خمسين ألفا من الجند بعيالاتهم وأسكنهم ما دون النهر لحماية حدود الدولة الإسلامية هنالك[28]، ويظهر لنا اهتمام زياد بأمر الثغور في قوله لحاجبه وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع وذكر منها: ورسول صاحب ثغر فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي وإن كنت في لحافي[29]، وسأل زياد جلساءه عن أنعم الناس عيشاً؟ فأجابوه قائلين أنت أيها الأمير فقال: فأين ما يرد علي من الثغور والخراج[30]. وهذا يبين مدى ما كان يلقاه زياد من عناء الثغور في إدارتها والإشراف على أمرها لحفظها وسدها ومما أثر عن زياد أيضاً قوله: أربعة أعمال لا يليها إلا المسن الذي عض على ناجذه. الثغر والصائفة والشرط والقضاء[31]، وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه في إدارته لثغر مصر من قبل معاوية لا يحمل له من الخراج إلا الشيء اليسير وينفق جل الأموال على التحصينات وعطاء الجند المرابطين بالثغر[32]، واهتم معاوية بأمر الصوائف والشواتي حيث كانت تخرج في كل عام في وقتها المحدد لها لأداء مهمتها المنوطة بها وكان يختار لها كبار القواد والأمراء، وكانوا يتمنون إدارتها ويعدون ذلك شرفاً وفخراً لهم فمن ذلك قول الخليفة معاوية لابنه يزيد: يا بني إن أمير المؤمنين قد بسط أملك فأذكر حاجتك فطلب منه مطالب كان أولها قوله: يجعل أمير المؤمنين غزو الصائفة العام إليّ لأفتح أمري بتجهيز الجيوش في سبيل الله[33]، ومن أبرز الولاة والقادة الذين تولوا إدارة حملات الصوائف والشواتي في عهد معاوية لعدة مرات هم سفيان بن عوف الغامدي الأزدي، ومالك بن هبيرة السكوني[34]، وكان أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه قبل أن يعين القادة على هذه الحملات يجري لهم إختباراً لمعرفة مدى حصافة القائد الإدارية ومن الذين كان يعتمد عليهم من قادته سفيان بن عوف الغامدي لخبرته الإدارية وقد توفي وهو بالصائفة يدير أعمالها وحين بلغ الخبر معاوية تأثر وكتب إلى أمصار وأجناد المسلمين ينعاه، وكان معاوية إذا رأى خللاً في الصوائف قال: واسفياناه ولا سفيان لي[35]، وكان معاوية رضي الله عنه لا يقصر في اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لحماية حدود وأراضي الدولة الإسلامية والدفاع عنها[36]. عاشراً : إهتمام معاوية بالأسطول والحدود البحرية: عندما قامت الدولة الأموية استكمل معاوية رضي الله عنه ما بدأه في بناء القوة البحرية لحماية سواحل الدولة الإسلامية بإقامة المراكب للغزو إلى جانب ترتيب الحفظة في السواحل مما استولى عليه المسلمون من قواعد ومنشآت بحرية، وعندما خرجت الروم في عهده إلى السواحل الشامية أمر بجمع الصناع من النجارين فجمعوا ورتبهم في السواحل الشامية وجعل مقر دار صناعة السفن في جند الأردن بعكا وكما هو معلوم أن بلاد الشام غنية بالأخشاب التي تعتبر من أجزاء السفن الأساسية يومئذ[37]، كما أنشأ الخليفة معاوية أول دار صناعة للأساطيل لإنتاج السفن الحربية المختلفة بمصر سنة 54هـ في عهد واليها مسلمة بن مخلد الأنصاري، وكان مقرها بجزيرة الروضة لذا عرفت بإسم صناعة الروضة[38]، وكان قادة بحرية الخليفة معاوية ذوي خبرة وفن ببناء السفن الحربية فقد كلف أحدهم بمهمة عسكرية نحو الروم وطلب منه قائلاً: أنشيء مركباً يكون له مجاديف في جوفه واستعمله للسفر إلى بلاد الروم[39]، إي بعمل فتحات جانبية للمجاديف[40]، وبلغت السفن الحربية في عهد معاوية رضي الله عنه نحواً من ألف وسبعمائة سفينة شراعية مشحونة بالرجال والسلاح وجميع العتاد، والمستلزمات القتالية البحرية[41]، وبذلك نجد أن معاوية رضي الله عنه قد أدرك بصائب رأيه أن سواحل الشام ومصر لا ينجيها من غزوات الروم إلا إيجاد هذا الأسطول الإسلامي التي يحافظ على الحدود البحرية ويغزو سواحل الروم الحين بعد الحين حتى يرتدع العدو ويحسب لهم ألف حساب[42]، وأخذ الأسطول الإسلامي في عهد معاوية في فتح الجزر الواقعة بالبحر المتوسط الواحدة تلو الأخرى والتي منها جزيرة رودس[43]، بقيادة القائد جنادة بن أمية الزهراني الأزدي[44]، حيث فتحها ـ كما مر معنا ـ عنوة وكانت غيضة في البحر وهي من أخصب الجزائر بالمنطقة وأنزلها قوماً من المسلمين بأمر الإدارة العليا المركزية واتخذ بها حصناً وناطوراً يحذرهم ما في البحر ممن يريدهم بكيد، وكان المسلمون بها على جزر من الروم وكان الخليفة معاوية يعاقب بين الجند فيها ولم يجمرهم وأدر عليهم الأرزاق والعطاء وكان الجند المقيمون بها أشد شيء على الروم يعترضونهم في البحر ويأخذون سفنهم وقد خافهم العدو[45] واستمر في فتح الجزر وشحنها بالجند المرابطين وأصبحت قواعد بحرية لحماية سواحل الدولة الإسلامية[46]، وأخذت حملات الصوائف والشواتي البحرية تجوب البحر وتمخر في عبابه في عهد معاوية رضي الله عنه وتسير جنباً مع جنب مع شقيقتها الحملات البرية حيث كانت تخرج من مصر والشام لتحمي سواحل المنطقة البحرية وتولى قيادتها كبار القادة المشهورين كالقائد يزيد بن شجرة الرهاوي وموسى بن نصير، وبسر بن أبي أرطأة العامري،وجنادة بن أمية الزهراني، وعقبة بن عامر وغيرهم من القادة، وسار خلفاء بني أمية من بعد الخليفة معاوية على سنته وأصبح الأسطول الإسلامي في نمو مطرد وأكثروا من إنشاء سفنه وتفننوا في إتقانه وجهزوه بالأدوات والمعدات الملاحية والقتالية، ورتبوا عليه الجند والقواد وزودوه بالتموين اللازم والأرزاق وظلت صوائفه وشواتيه تقلق الروم في كل عام وتهدد سواحلهم وحدودهم البحرية[47]. [/align] |
[align=justify]الحادي عشر : الاهتمام بديوان الجند والعطاء:
استمر ديوان الجند في أداء مهامه المناطة به وحدث به تطور بسبب كثرة الفتوحات وإتساع رقعة الدولة الإسلامية فقد أصبح ديوان الجند مؤسسة كبيرة حظيت باهتمام الخلفاء وولاتهم ومر بعدة مراحل تطويرية خلال هذه الفترة، فعندما تولى معاوية رضي الله عنه الخلافة تقاعس بعض الجند عن الحرب في بداية إدارته العسكرية إثر الفتن والصراعات الداخلية، فتمكن بحسن إدارته ودهائه بالإغلاق عليهم في العطاء حتى تمكن مرة أخرى من إلزامهم مرة أخرى بالجندية وتأليف القلوب[1]، وقرب إليه زعماء القبائل وقد بلغ عدد الجند النظامي الذين يستلمون العطاء في بداية العصر الأموي نحواً من ثمانين ألف جندي بالبصرة، وستين ألفاً بالكوفة وبمصر أربعون ألفاً وبالشام نحوا من ذلك، هذا سوى من في باقي الأقاليم الأخرى من جند كفارس وما وراء النهر وغيرهما من الأقاليم وأمصار الدولة الإسلامية[2]، كما كان بالكوفة من أبناء العجم زهاء عشرين ألف رجل فرض لهم وكانوا يسمون الحمراء[3]، وبالبصرة ألفا رجل من سبي بخاري كلهم جيد الرمي بالنشاب فقد ألحقهم الخليفة معاوية بالخدمة العسكرية وفرض لهم العطاء، وقد ولي كتابة الجند في إدارة الخليفة معاوية المركزية بدمشق عمرو بن سعيد بن العاص، هذا بالإضافة إلى دواوين الجند المحلية بالأقاليم الإسلامية المحلية الأخرى التي تتحمل مهام الإدارة العسكرية المحلية[4]، وظل دور أمر العرفاء والنقباء سائراً ومستمراً كما كان في السابق، وذلك لاعتماد الإدارة عليهم في الشئون العسكرية والمالية وبخاصة في توزيع العطاء على الجند، فقد كان الخليفة معاوية يدفع إلى العرفاء العطاء وكان لكل قبيلة عريف يأخذ أعطيتهم ويدفعها إليهم[5]، هذا مع ما يقومون به من التعرف على أحوال الجند وأخبارهم ورفع التقارير عنهم للإدارة العليا[6]، وقد طور زياد الهيكل التنظيمي العسكري للعرفاء، فجعل الناس في البصرة أخماساً وجعل على كل خمس رجلاً كما جعل في الكوفة أرباعاً على قيادة عشرة جنود في القتال، بل أصبحوا مسئولين عن النواحي الأمنية ومثيري الشغب والفتن والقلاقل داخل قبائلهم ومعسكراتهم، فكانوا حلقة الاتصال في الإدارة العسكرية بين القبائل العربية في الأمصار الإسلامية وبين السلطات الإدارية للدولة فيما يختص بتثبيت أسماء الجند في الدواوين وتوزيع العطاء عليهم واستدعائهم عند الحاجة، وقد حل أولئك العرفاء في القوة والنفوذ محل رؤساء القبائل والعشائر وكان اختيارهم يتم من بين ذوي النفوذ ليستطيعوا أداء واجباتهم تجاه الإدارة العسكرية[7] ومثال على ذلك ما قام به زياد حيث خطب في أهل البصرة وهددهم بقطع العطاء إذا لم يكفوه الخوارج حيث قال: يا أهل البصرة والله لتكفني هؤلاء أو لأبدأنّ بكم والله لئن أفلت منهم رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهماً، فثار الناس بهم فقتلوهم[8]. كما استخدمت الزيادة في العطاء للقادة والجند المتجاوبين والمنفذين للأوامر تشجيعاً وحث لهم على المضي قدماً في مهامهم ومناصبهم العسكرية المسئولين عنها[9]، كما فعل معاوية مع أشراف أهل الشام. الثاني عشر: الأثر العلمي والاقتصادي الاجتماعي للفتوحات في عهد معاوية رضي الله عنه: ومن الظواهر العلمية التي زادت إزدهاراً في عهد معاوية طائفة القصاص،، وقد كانوا ينتشرون بين الجند كالقراء يقصون عليهم أمجاد أسلافهم ويلقون عليهم الشعر الحماسي فتجيش له همم العسكر فيسارعون للقتال، وقد كان الخطباء والوعاظ يقومون بنفس المهمة كما يقوم بها القراء والقصاص والشعراء لينشروا في الجند روح الفداء ويرفعوا من روحهم المعنوية القتالية[10]، وسلك الخليفة معاوية في وصاياه وتوجيهاته العلمية للأمراء والقادة والجند على منوال من سبقه من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فعندما عين عبيد الله بن زياد على ثغر خراسان كان من نماذج وصاياه قوله: اتق الله ولا تؤثرن على تقوى الله شيئاً[11]... وقد سبق الحديث عن وصيته لعبيد الله، ومن الآثار العلمية للحضارة الإسلامية في عهد معاوية أنه حينما فتح جزيرة رودس كان ممن اشترك في فتحها مجاهد بن جبر المقريء ، فكان مقيماً بها يقريء الناس القرآن ويفقههم في الدين في المسجد الذي بني فيها اثناء الفتح، وهذا أنموذج ومثال من ألوف النماذج والأمثلة حيث أن هذا الأثر العلمي لا يقتصر على جزيرة رودس بل شمل كافة الأمصار والشعوب الإسلامية[12] ومن الآثار الاقتصادية والإجتماعية للفتوحات أن والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه وغيره من الولاة في عهد معاوية رضي الله عنه كانوا يبعثون إليه بأموال الخراج بعد أن يستقطعوا منها ما ينفق على الأراضي الزراعية بمصر لاستصلاحها من الخلجان والقناطر والجسور وحملا القمح إلى الحجاز لتفريقه وتوزيعه على سكان الحرمين الشريفين، كمعونة لهم[13]، وكان بالجزيرة مكان الروضة قبل أن تبنى بها دار صناعة السفن في عهد معاوية خمسمائة عامل مستعد لأي حريق يكون في البلاد أو هدم للإعانة في الكوارث وتقديم الخدمات الاجتماعية لأهل المنطقة[14]، ومن التكافل الاجتماعي في عهد معاوية مراعاته لأبناء الشهداء في إدارته ورعاية شئونهم والفرض لهم[15]، فقد كان يقول لجلسائه: يا هؤلاء، إنما سميتم أشرافاً لأنكم شرفتم على من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا إلينا حوائج من لا يصل إلينا فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول أفرضوا لولده[16]، وعندما أذن معاوية رضي الله عنه لعبد الله بن صفوان بن أمية بالدخول عليه والمثول بين يديه طلب من معاوية أن يفرض للمنقطعين من ديوان العطاء، كما ذكّره بأن لا يغفل عن قواعد قريش والبر إليهم، وأن يقدم لهم الخدمات الاقتصادية والإجتماعية التي تكفل لهم الحياة الرغدة[17]، ومن الآثار الحضارية للفتوحات في النواحي الاقتصادية والاجتماعية استمرارية معاوية في توطين الجند بالثغور وإقطاعهم القطائع والأراضي والمساكن بها وشقه للأنهار وجلبه للمياه. فقد أمر عسكره المقيم بجزيرة رودس بأن يزرعوا ويتخذوا بها أمولاً ومواشي يرعونها حولها[18]. الثالث عشر : كرامات للمجاهدين في عهد معاوية رضي الله عنه: حدثت كرامات للمجاهدين في عهد معاوية رضي الله عنه منها ما كان لأبي مسلم الخولاني والتي مرّ ذكرها وما حدث لعقبة رحمهما الله، حينما نادى الوحوش والدواب وطلب منها الرحيل، فرحلت بإذن الله تعالى حيث قال: فارحلوا عنّا فإنّا نازلون ومن وجدناه بعد هذا قتلناه، فنظر الناس بعد ذلك إلى أمر مُعْجِب ، من أن السباع تخرج من الشَّعْراء[19] وهي تحمل أشبالها سمعاً وطاعة، والذئب جرْوَه، والحية تحمل أولادها. ونادى في الناس: كُفُّوا عنهم، حتى يرحلوا عنها، فخرج ما فيها من الوحش والسباع والهوامّ والناس ينظرون إليها، حتى أوجعهم حرُّ الشمس، فلمَّا لم يروا منها شيئاً، دخلوا، فأمرهم أن يقطعوا الشجر، فأقام أهل أفريقية ـ بالقيروان ـ بعد ذلك أربعين عاماً لا يرون بها حيَّة، ولا عقرباً، ولا سَبُعاً: فاختط عقبة أولاً دار الإمارة، ثم أتى إلى موضع المسجد الأعظم فاختَّطه، ولم يُحدث فيه بناء. وكان يصلي فيه وهو كذلك فاختلف الناس عليه في القبلة وقالوا: إن جميع أهل المغرب يضعون قِبلتهم على قبلة هذا المسجد، فأجهد نفسك في تقويمها، فأقاموا أيّاماً ينظرون إلى مطالع الشتاء والصيف من النجوم ومشارق الشمس، فلمَّا رأى أمرهم قد اختلف بات مغموماً، فدعا الله ـ عز وجل ـ أن يُفرَج عنه، فأتاه آت في منامه فقال له: إذا أصبحت فخذ اللواء في يدك، واجعله على عُنُقك. فإنك تسمع بين يديك تكبيراً لا يسمعه أحد من المسلمين غيرك، فانظر الموضع الذي ينقطع عنك فيه التكبير فهو قبلتك ومحرابك، وقد رضي الله لك أمر هذا العسكر وهذا المسجد وهذه المدينة، وسوف يعز الله بها دينه، ويذل بها من كفر به، فاستيقظ من منامه وهو جزع، فتوضأ للصلاة، وأخذ يصلي وهو في المسجد ومعه أشراف الناس، فلما انفجر الصبح وصلى ركعتي الصبح بالمسلمين إذا بالتكبير بين يديه، فقال لمن حوله: أتسمعون ما أسمع؟ فقالوا: لا، فعلم أنَّ الأمر من عند الله، فأخذ اللواء فوضعه على عُنُقه، وأقبل يتبع التكبير حتى وصل إلى موضع المحراب فانقطع التكبير فركز لواءه وقال: هذا محرابكم فاقتدى به سائر مساجد المدينة ثم أخذ الناس إليها المطايا من كل أُفق وعظم قدرها... وكان عقبة خير والٍ وخير أمير، مستجاب الدعوة[20] وفي هذه القصة عبرة بليغة فيما حدث من عقبة حينما نادى تلك الوحوش والدواب فاستجابت له وغادرت ذلك المكان وهذه كرامة من الله تعالى يكرم بها أولياءه لما يريد بهم نصر الإسلام ونشره في الأرض، حيث أسمع تلك الدواب كلام عقبة وأوقع في قلوبها الخوف منه، وقدَّر لها أن تسمع وتطيع كما لو كانت ذات عقل وإدراك وقد رأى ذلك قبيل كبير من البربر فاسلموا، كما ذكر ابن الأثير في روايته[21]. هذا وقد حمل بعض الباحثين هذا الخبر على أنه من الأساطير التي نسجها الرواة حول عقبة، وعللواهذا الخبر بأن تلك الدواب فزعت لما سمعت ضجيج الجيش الإسلامي فحملت أولادها وولَّت هاربة، وهذا التأويل من عجائب بعض الباحثين حيث يُغفلون تفكيرهم الصحيح من أجل ردِّ مالا يؤمن به العقل المجرد، كما أنهم يستغفلون المؤرخين الذين رووا هذه الحادثة وأمثالها على أنها من الأمور الخارقة للعادة، ويتهمونهم بالسذاجة لتحويلهم الوقائع المعتادة في حياة الناس إلى ما يشبه الأساطير، فإن التفكير الصحيح يرى أن التأويل الذي اعتمدوه لا ينسجم مع العقل السليم، لأن الوحوش والدواب البرية إذا تعرضت للفزع تأوي إلى حجورها الآمنة لتسخفي بها ولا تلجأ إلى الهرب حتى لا تتعرض للأذى مما فزعت منه، ثم إنه لو حصل خلاف الغالب من المعتاد فهربت تلك الدواب من أمر عادي وهو فزعها من الجيش لم يكن هناك ما يدعو إلى عجب البربر وانبهارهم الذي حملهم على الدخول في الإسلام من أجل ذلك، ولم يكن في ذلك ما يحمل طائفة من المؤرخين على رواية هذه الحادثة الغريبة وقد جاء في إحدى روايات ابن عبد الحكم عن الليث بن سعد قال: فحدثني زياد بن العجلان: إن أهل أفريقية اقاموا بعد ذلك أربعين سنة ولو التُمست حية أو عقرب بألف دينار ما وجدت[22]، وعبرة أخرى في تلك الرؤيا التي رآها عقبة بن نافع في أمر تحديد القبلة وما تلا ذلك من سماعة التكبير الذي لم يسمعه من حوله، وهذه كرامة أخرى لهذا الولي الصالح فرج الله تعالى بها عن المسلمين كربة كانوا يعانون منها من عدم مقدرتهم على تحديد القبلة بدقة، وهذا هو أحد المقاصد التي تظهر فيها الكرامات على أيدي أولياء الله الصالحين، وقد كان عقبة مستجاب الدعوة، فاستجاب الله تعالى دعاءه في تفريج همه وهموم المسلمين في هذا الأمر[23]. وأهل السنة والجماعة يثبتون الكرامات للصالحين: فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيفعلون ما أمر الله به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين، وخيار أولياءه كراماتهم لحاجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم كذلك، وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم[24] ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بسبب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج، أتاه منها ما يقوي إيمانه أو يسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية منه مستغنياً عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها، لا لنقص ولايته ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة[25]. ومن عقيدة أهل السُّنة والجماعة الإيمان بكرامات الأولياء[26]. [/align] |
[align=justify]الرابع عشر : قسمة الحكم بن عمرو الغفاري للغنائم في غزو جبل الأسل بخراسان:
عن عبد الرحمن بن صبح، قال: كنت مع الحكم بن عمرو بخراسان، فكتب زياد إلى عمرو، إن أهل جبل الأشل سلاحهم اللبود[1]، وآنيتهم الذهب[2]، فغزاهم حتى تواسطوا، فأخذوا بالشعاب والطرق، فأحدقوا به ، فعيَّ[3] بالأمر فولى المهلب الحرب، فلم يزال المهلب يحتال حتى أخذ عظيماً من عظمائهم، فقال له: اختر بين أن أُقتلك، وبين أن تخرجنا من هذا المضيق، قال له: أوقد النار حيال الطريق لتسلكوه فإنهم يستجمعون لكم، ويعرون ما سواه من الطرق، فبادرهم إلى غيره فإنهم لا يدركونك حتى تخرج منه، ففعلوا ذلك، فنجا وغنموا غنيمة عظيمة[4]، وعن عبد الرحمن بن صبح قال: كتب إليه زياد: والله لئن بقيت لك لأقطعن منك طابقاً سحتاً[5]، وذلك أن زياداً كتب إليه لما ورد بالخبر عليه بما غنم: إن أمير المؤمنين كتب إلى أن أصطفى له صفراء وبيضاء[6]،والروائع[7]، فلا تحركن شيئاً حتى تخرج ذلك[8]، فكتب إليه الحكم: أما بعد، فإن كتابك ورد، تذكر أن أمير المؤمنين كتب إلي أن أصطفي له كل صفراء وبيضاء والروائع، ولا تحركن شيئاً، فإن كتاب الله عز وجل قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو كانت السماوات والأرض رتقاً[9]على عبد اتقى الله عز وجل جعل الله سبحانه وتعالى له مخرجاً، وقال للناس: اغدوا على غنائمكم، فغداً الناس، وقد عزل الخمس، فقسم بينهم تلك الغنائم، قال: فقال الحكم: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني، فمات بخراسان بمرو[10]. إن خبر قسمة الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه الغنائم بين أفراد جيشه ذكره ابن عبد البر[11]، وابن الجوزي[12]، وابن الأثير[13]، وابن كثير[14]، وتتفق هذه المصادر حول طلب معاوية رضي الله عنه اصطفاء الذهب والفضة وعدم قسمتها بين الجيش ـ لكنها لم تورد هذا الخبر بأسانيد صحيحة ـ وزاد بن كثير أن معاوية رضي الله عنه طلب أن يرسل الذهب والفضة إلى بيت المال[15]، وهنا يجدر التذكير بأن مصارف الغنيمة في الإسلام قد بينها الله سبحانه وتعالى في قوله: (( واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القُربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)) (الأنفال: 41). وهذا يعني أن أربعة أخماس الغنيمة يقسم بين الجيش، ويبقى خمس الغنيمة فيقسم كما ورد في الآية السابقة وهذا الحكم لا يخفي على معاوية رضي الله عنه، كما أن دين معاوية وعدالته تمنعه من رد حكم الله سبحانه وتعالى[16]، وبالرجوع إلىرواية الطبري نلاحظ أن الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه لم يبادر إلى قسمة الغنائم بين الجيش على الفور ـ مع وضوح حكم الشرع في ذلك ـ بل دارت بينه وبين زياد مراسلات في شأن الغنائم، وهذا التأخير في قسمة الغنائم يقودنا إلى عدة احتمالات يمكن من خلالها إزالة الغموض الوارد في الرواية وهذه الاحتمالات هي: 1 ـ رغبة معاوية رضي الله عنه في أن يكون خمس الغنيمة ـ الذي يتولى إمام المسلمين قسمته ـ من الذهب والفضة. 2 ـ رغبة معاوية رضي الله عنه في حمل ما غنم المسلمون من ذهب وفضة قبل تخميسه وقسمته ـ إلى الهند وبيعه هناك[17] بقيمة مرتفعة ثم يخمس ثمنه بعد ذلك، وفي ذلك خير للجميع[18]. 3 ـ وجود نقصٍ طارئ في بيت مال المسلمين، فأراد معاوية رضي الله عنه أن يقترض ما غنمه جيش الحكم رضي الله عنه إلى أجل معلوم، وتأخير قسمة الغنائم بين الجيش إلى وقت لاحق[19]. ومن الدروس المهمة إن ثبتت الرواية التزام الحكم بن عمرو الغفاري بمبدأ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وتمسكه بأداء الأمانة في قسمة الغنائم، ولم يغل منها شيئاً ووزعها على العسكر بعد أن عزل الخمس[20]، هذه أهم الدروس والعبر والفوائد من الفتوحات في عهد معاوية. الخامس عشر : استشهاد صلة بن أشيم وابنه بسجستان عام 62هـ: صلة بن أشيم هو الزاهد، العابد، القدوة، أبو الصهباء العدويُّ البصري، زوج العالمة معاذة العدوية، وكان صلة له مواقف في المجتمع الإسلامي مؤثرة ومن هذه المواقف، عن ثابت قال: جاء رجل إلى صلة بنعي أخيه، فقال له: أدن فكل، فقد نُعي إليَّ أخي منذ حين، قال تعالى: ((إنك ميت وإنهم ميتون)) (الزمر ، الآية : 30)، وكان صلة له كرامات منها، عن حمّاد بن جعفر بن زياد أنّ أباه أخبره، قال: خرجنا في غزاة إلى كابل، وفي الجيش صلة، فنزلوا فقلت: لأَرمُقَنَّ عمله، فصلَّى ثم اضطجع، فالتمس غفلة الناس، ثم وثـب، فدخل غَيْضَةً، فدخلتُ فتوضَّأ وصلّى، ثم جاء أسد حتى دنا منه، فصعدت شجرة، أفتراه التفت إليه حتى سجد؟ فقلت: الآن يفترسه فلا شيء، فجلس ثم سلَّم فقال: يا سبع اطلب الرِّزق بمكان آخر، فولىّ وإن له زئيراً أقول: تصدّع منه الجبل فلمّا كان الصبح فجلس، فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللَّهم إني أسألك أن تُجيرني من النار، أو مثلي يَجتَرِئُ أن يسألك الجنَّة[21]، وعن العلاء بن هلال، أن رجلاً قال لصلة: يا ابا الصهباء رأيت أني أعطيت شهدة، وأعطيت شهدتين فقال: تستشهد وأنا وابني، فلما كان يوم يزيد بن زياد، لقيتهم الترك بسجستان، فانهزموا. وقال صلة: يا بُنيَّ ارجع إلى أمك. قال: يا أَبَة، تريد الخير لنفسك، وتأمرني بالرجوع! قال: فتقدَّمْ، فتقدَّم، فقاتل حتى أصيب، فرمى صلةُ عن جسده، وكان رامياً، حتى تفرَّقوا عنه، وأقبل حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قُتل[22]، وعن حمّاد بن سلمة: أخبرنا ثابت أنّ صلة كان في الغزو، ومع ابنه، فقال: أي بني، تقدم فقاتل حتى احتسبك، فحمل، فقاتل، حتى قُتل، ثم تقدَّم صلة فقتل، فاجتمع النساء عند امرأته معاذة، فقالت: مرحباً إن كنتنّ جئتنَّ لتُهنَّئنني، وإن كنتنَّ جئتُنَّ لغير ذلك فارجعنَّ[23] وكانت الملحمة التي استشهد فيها سنة 62هـ[24]. [/align] |
[align=justify]المبحث الخامس : ولاية العهد ووفاة معاوية رضي الله عنه:
أولاً : بداية التفكير ببيعة يزيد: يُحمَّل كثير من الباحثين، المغيرة بن شعبة، المسئولية عن بيعة يزيد بن معاوية، وذلك باعتباره العقل المدبر، وصاحب الفكرة الأولى، حين عرض على معاوية بأن يتولى يزيد الخلافة من بعده، وتكفل بالدعوة ليزيد وتهيئة أهل الكوفة لتقبل خبر اختيار يزيد لولاية العهد وكل من اتهم المغيرة بن شعبة، كان حجته في ذلك تلك الرواية التي أوردتها بعض المصادر القديمة ومفادها: أن المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ دخل على معاوية واستعفاه من ولاية الكوفة فأعفاه، وأراد معاوية أن يولي بدلاً منه سعيد بن العاص، فبلغ ذلك أحد الموالين للمغيرة، وتأثر المغيرة عند ذلك، وتمنى العودة للإمارة، فقام فدخل على يزيد وعرّض له بالبيعة، فأخبر يزيد والده بما قال له المغيرة، فاستدعى معاوية المغيرة بن شعبة وأمره بالرجوع والياً مرة أخرى على الكوفة وأن يعمل في بيعة يزيد[1]، وأسانيد هذه الرواية ضعيفة، فسند هذه الرواية لا يشجع على قبولها أو الاستئناس بها بأي حال من الأحوال، كما أن المغيرة رضي الله عنه صحابي جليل تمّ التعريف به في موضعه من هذا الكتاب وقد توفي عام 50هـ[2] قبل ظهور فكرة ولاية العهد عند معاوية، حيث بدأت هذه الفكرة في الظهور في عهد زياد بن أبيه على العراق وقد صرّح الطبري بأن معاوية إنما دعا إلى بيعة يزيد سنة 56هـ[3]، فلماذا تأخر كل هذه السنين إذا كان المغيرة قد شرع في التمهيد لهذه الفكرة قبل موته[4]. ثانياً : الخطوات التي اتبعها معاوية لبيعة يزيد: 1 ـ المشاورات : لم نعثر في المصادر التاريخية على تحديد دقيق لتلك الفترة التي بدأ فيها معاوية رضي الله عنه يفكر تفكيراً جدياً في تولية ولده يزيد من بعده خليفة المسلمين. ولكنه بالتأكيد لم يفكر إلا بعد سنه الخمسين من الهجرة، وذلك بعد أن خلت الساحة من وجود الصحابة الكبار المبشرين بالجنة من أمثال سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن يزيد بن عمرو، وبعد وفاة الحسن بن علي رضي الله عنهم جميعاً، وبعد أن عرف يزيد عند قيادته لجيش المسلمين الذي حاصر القسطنطينية، وبعدها أصبح معاوية يهيء الأمور لترشيح يزيد للخلافة، وكان من الطبيعي يستشير زياد بن أبيه بعدما أصبح أخاً له، وصار يقال له: زياد بن أبي سفيان، وولاه العراق، ولنسمع إلى رواية الطبري لهذه الاستشارة، وماذا صنع زياد[5]، قال الطبري: لما أراد معاوية أن يبايع ليزيد، كتب إلى زياد يستشيره، فبعث زياد إلى عبيد بن كعب النميري، فقال إن لكل مستشير ثقة، ولكل سر مستودع وإن الناس قد أبدعت[6] بهم خصلتان: إذاعة السر، وإخراج النصيحة إلى غير أهلها وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخره يرجو ثواباً ورجل دينا له شرف في نفسه، وعقل يصون حسبه، وقد عجمتهما[7] منك، فأحمدت الذي قبلك. وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الكتب[8]: إن أمير المؤمنين كتب إليّ يزعم أنه قد عزم على بيعة يزيد، وهو يتخوّف نفرة الناس ويرجو مطابقتهم، ويستشيرني. وعلاقة أمر الإسلام، وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رَسْلة[9]، وتهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين مؤدياً عني، فأخبره عن فعلات يزيد، فقال له: رويدك بالأمر فأقمن أن يتم لك ما تريد، ولا تعجل فإن دركاً في تأخير خير من تعجيل عاقبته الفَوْت. فقال عبيد له: أفلا غير هذا قال: ما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تمقِّت إليه ابنه، وألقى أنا يزيد سراً من معاوية فأخبره عنك أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في بيعته، وأنك تخوَّفُ خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما يُنقَمُ عليه، فيستحكم لأمير المؤمنين الحجة على الناس ويسهل لك ما تريد، فتكون قد نصحت يزيد وأرضيت أمير المؤمنين، فسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة. فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره، أشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغَشّ وأبعد بك إن شاء الله من الخطاءِ قال: أتقول بما ترى، ويقضي الله بغيب ما يعلم. فقدم على يزيد فذاكره ذلك. وكاتب زياد إلى معاوية يأمره[10]،بالتؤدة، وألا يعجل، فقبل ذلك معاوية وكفّ يزيد عن كثير مما كان يضع[11]. إن تحليل هذا النص يكشف لنا عن الحقائق التالية: أ ـ إن بداية الفكرة كانت من معاوية وأنه كان يدرك أنه كان يقدم على أمر خطير، لا بل على حدث لم يسبق إليه، ولهذا اصطفى زياداً للاستشارة وزياد هو الذي قال عنه الأصمعي: الدهاة أربعة: معاوية للروية، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة بن شعبة للمعضلة، وزياد لكل صغيرة وكبيرة. وقد أشار عليه زياد بالتؤدة فقبل. ولهذا لم يُقدم معاوية على الأمر الخطير إلا بعد وفاة زياد[12]. قال الطبري: لما مات زياد، دعا معاوية بكتاب فقرأه على الناس باستخلاف يزيد، إن حدث به حدث الموت، فيزيد ولي عهد، فاستوثق[13]له الناس على البيعة ليزيد غير خمسة[14]. بـ ـ إن معاوية لم يكن يريد حين الاستشارة الاكتفاء بالعهد، وإنما أراد الناس على مبايعة يزيد وهو حي، وهو حدث جديد أيضا لم يعهد من قبل، لأن الناس لم يبايعوا عمر إلا بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه. جـ ـ إن زياداً قد أحس خطورة الأمر، فلم يشأ بادئ الأمر أن يكتب لمعاوية بنصيحته، بل أراد أن يحمّلها لرسول خاص وهو ((عبيد الله بن كعب النميري)) ليؤديها عنه إلى معاوية شفهياً وفي ذلك من الحيطة الشيء الكثير، لئلا يشيع خبر الكتاب، فيحدث ما لا يحمد. ولهذا قال لعبيد: ولهذا دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف. ح ـ إن معاوية كان يتخوف نفرة الناس، فليس العهد لولد الخليفة والخليفة حي ...بالأمر اليسير. خ ـ إن زياداً كان يخشى على الأمة من يزيد، ولذلك يقول: وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد. ولهذا أيضا نرى في جواب عبيد له أن سيلقى يزيد وينقل إليه: أن زياداً يرى ترك ما ينقم عليه وبذلك: يسلم ما تخاف من علاقة. س ـ إن زياداً كتب أخيراً إلى معاوية، ولكن لينصحه بالتؤدة وألا يعجل فقبل ذلك معاوية[15]. ـ وممن شاورهم معاوية رضي الله عنه الأحنف بن قيس، فقد روي أن معاوية لما نصبّ ولده يزيد لولاية العهد، أقعده في قبة حمراء، فجعل الناس يسلمون على معاوية ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجل ففعل ذلك، ثم رجع إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين: اعلم أنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها، والأحنف بن قيس جالس. فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ قال: أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت، فقال له معاوية: جزاك الله عن الطاعة خيراً، وأمر له بألوف فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر أني لأعلم أن شر من خلق الله سبحانه وتعالى هذا وأبنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فليس نطمع في استخراجها إلا بما سمعت، فقال له الأحنف: أمسك عليك، فأن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها[16]. 2 ـ الحملات الإعلامية: ومن التمهيدات الإعلامية الناجحة التي قدمها معاوية رضي الله عنه لابنه توليته أميراً على الجيش الذي وجهه إلى غزو القسطنطينية وبعد أن رجع من الغزو ولاه إمارة الحج، ولكنه كان يتخوف نفرة الناس ويتهيب من بعض المعارضين[17]، ولذلك كان يواصل إعداد العدة للأمر، ويستشير ولاته ورجال دولته ويستعين بهم في تذليل العقبات وتهيئة الأجواء لأخذ البيعة ليزيد ومما يذكر في هذا الجانب، أن الشاعر ربيعة بن عامر الدارمي المعروف ب(( مسكين الدارمي))، وكان مما يؤثره يزيد ويصله، أنشد في مجلس معاوية، وكان المجلس حافلاً ويحضره وجوه بني أمية فقال: ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر ومروان أم ماذا يقول سعيد بني خلفاء الله مهلاً فإنما يبوئها الرحمن حيث يريد إذا المنبر الغربي خلاّه ربُّه فإن أمير المؤمنين يزيد فقال معاوية، ننظر فيما قلت يا مسكين ونستخير الله ولم يتكلم أحد من بني أمية إلا بالإقرار والموافقة[18] 3 ـ قبول أهل الشام لبيعة يزيد: أدرك معاوية رضي الله عنه حرص أهل الشام على بقاء الخلافة فيهم، فقد حسم أهل الشام أمرهم وأصبح خيارهم في ولاية العهد ليزيد ووجدوا فيه ضالتهم لاستمرار صدارتهم في الدولة الإسلامية ولم يكن أهل الشام يستغربون فكرة توريث الخلافة كما كان يستغربها أهل الحجاز، فقد عهدوها من قبل إبان حكم البيزنطيين لهم، بل إن بعض أهل العراق أيضا كانوا فيما يبدو مهيئين لتقبل فكرة توريث الخلافة ولكن من منظور خاص، حيث يرون أحقية أهل البيت بها واستمرارها فيهم وقد تأثروا في ذلك بنظام الحكم الساساني للفرس قبل الفتح الإسلامي لهذه البلاد[19]، إن أهل الشام استجابوا لرغبة معاوية في تولية يزيد ولياً لعهده من بعده وكان ذلك بعد رجوع يزيد من غزوة القسطنطينية، وقد أدى طرح هذه الفكرة إلى قبول وإجماع من أهل الشام بالموافقة على بيعة يزيد، ولم يكن هناك أي معارض[20]، وقد أسهم أهل الشام فيما بعد في أخذ البيعة ليزيد من الأمصار الأخرى مثل الحجاز[21]. 4 ـ بيعة الوفود: عقد معاوية رضي الله عنه اجتماعاً موسعاً في دمشق بعد ما جاءت الوفود من الأقاليم وكانت هذه الوفود تضم مختلف رجالات القبائل العربية، فمثلاً من بلاد الشام: الضحاك بن قيس الفهري، ثور بن معن السلمي[22]، عبد الله بن عضاة الأشعري، عبد الله بن مسعدة الفزاري، عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، حسان بن مالك بن بحدل الكلبي[23] وغيرهم، كما حضر عن أهل المدينة عمرو بن حزم الأنصاري ـ وذلك في وقت متأخر ـ وحضر عن أهل البصرة الأحنف بن قيس التميمي، ثم تكلم كل زعيم من هؤلاء الزعماء ورحبوا بالفكرة وأثنوا عليها وأكدوا أن هذه هي الطريقة الأصوب لحقن الدماء وحفاظ الألفة والجماعة[24]، فحصلت المبايعة ليزيد بولاية العهد على أن الشيء المؤكد أن عمرو بن حزم الأنصاري لم يحضر هذا الاجتماع وذلك لأحد أمرين: الأمر الأول: هو أن أهل المدينة لم يوافقوا في الأصل على البيعة وعارضوها بشدة فلم يرسلوا في موعد الوفود أحد . الأمر الثاني: هو أن معاوية قد رفض الالتقاء بعمرو بن حزم وما ذلك إلا لأنه بلغه معارضة أهل المدينة، وعرف أن عمرو بن حزم مندوب عن أولئك المعارضين، فخشي إن حضر الاجتماع سوف يشتت الآراء، ويحدث بلبلة من خلال معارضته ولهذا استجاب له أخيراً فالتقى به على انفراد وحصل بالفعل ما كان يظن معاوية ولكن معاوية تقبل الانتقاد وأجزل له العطاء[25]وكان ذلك بعدما عزل رأي ابن حزم عن الوفود. 5 ـ طلب البيعة من أهل المدينة: مثلما أرسل معاوية رضي الله عنه إلى الأقاليم يطلب منهم البيعة ليزيد أرسل إلى المدينة يطلب من أميرها أخذ البيعة ليزيد[26] فقام مروان بن الحكم أمير المدينة خطيباً فحض الناس على الطاعة وحذرهم الفتنة ودعاهم إلى بيعة يزيد، وقال مروان سنة أبي بكر الراشدة المهدية واستدل على ذلك بولاية العهد من أبي بكر لعمر، فرد عليه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم[27]، ونفى أن تكون هناك مشابهة بين هذه البيعة وبيعة أبي بكر وقال: فقد ترك أبو بكر الأهل والعشيرة وعمد إلى رجل من بني عدي بن كعب إذ رأى أنه لذلك أهل فبايعه. ثم قال: هذه البيعة شبيهة بيعة هرقل وكسرى ثم حدث بينه وبين مروان نزاع[28]، وجاء في رواية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: يا معشر بني أمية اختاروا منها بين ثلاثة بين سنة رسول الله، أو سنة أبي بكر أو سنة عمر.. ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية كلما مات قيصر كان قيصر[29]، فقال مروان: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه[30]، فقال: إن هذا الذي أنزل الله فيه ((وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي)) (الاحقاف ، الآية : 17) فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري[31]. وقد سبق طلب مروان بن الحكم من أهل المدينة البيعة ليزيد تمهيد من معاوية رضي الله عنه حيث أرسل رسالة لم يذكر فيها يزيد وإنما جاء فيها: إني قد كبرت سني وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بالأمر بعدي، وكرهت أن اقطع أمراً دون مشورة من عندك فاعرض عليهم ذلك، وأعلمني بالذي يردون عليك فقام مروان في الناس فأخبرهم بما أراد معاوية فقال الناس: أصاب معاوية، ووفق وقد أحببنا أن يتخير لنا فلا يألوا[32]،ولكن عندما ذكر في المرة التالية اسم يزيد امتنع أهل المدينة في بداية الأمر وعبَّر عبد الرحمن بن أبي بكر عمّا في نفوسهم[33]. ومما سبق نلاحظ أن مروان بن الحكم لم يوفق في المهمة التي كلفه بها معاوية رضي الله عنه، وعند ذلك قرر معاوية المجيء بنفسه إلىالحجاز ومعرفة موقف الصحابة من هذه القضية المهمة ـ فجاء رضي الله عنه معتمراً في شهر رجب من سنة 56هـ[34]، فلما علم عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير بقدوم معاوية خرجوا من المدينة، واتجهوا من المدينة إلى مكة[35]، فلما قدم معاوية المدينة خطب الناس وحثهم على البيعة وبيّن أن يزيد هو أحق الناس بالخلافة[36]، ثم قال: قد بايعنا يزيد فبايعوه[37]، ويبدو أن معاوية قد ذكر أنه يخشى على ابن عمر وغيره من القتل إن مانعوا، ويقصد بخوفه عليهم من أهل الشام، الذين لا يمكن أن يتصوروا أن أحداً يخالف أمير المؤمنين في أمر اتفق عليه كثير من الناس، فقد ذكر أن معاوية قال: والله ليبايعنَّ ابن عمر أو لاقتلنّه، فلما بلغ الخبر عبد الله بن صفوان[38]، غضب وعزم على مقاتلة معاوية إن ثبت هذا. فلما سأل معاوية أنكر ذلك وقال: أنا اقتل ابن عمر: إني والله لا أقتله[39]. [/align] |
[align=justify]أ ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه في مجلس معاوية رضي الله عنه:
فلما قدم معاوية مكة، وقضى نسكه بعث إلى ابن عمر فقدم عليه فتشهد معاوية وقال: أما بعد يا ابن عمر فإنك قد كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء وليس عليك أمير، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وأن تسعى على فساد ذات بينهم، فرد ابن عمر على معاوية، وبين له كيف كانت طريقة بيعة الخلفاء الراشدين، وذكر له كيف أن لهم أبناء خير من يزيد، فلم يروا في أبنائهم ما يرى معاوية في يزيد ثم بين له أيضاً أنه لا يريد أن يشق عصا المسلمين وأنه موافق على ما تجتمع عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأثلج هذا القول صدر معاوية رضي الله عنه وقال: يرحمك الله[1]. فقد أشترط أبن عمر حدوث الإجماع على بيعة يزيد حتى يعطيه البيعة[2]، وكان معاوية رضي الله عنه قد أرسل بمائة ألف درهم لابن عمر، فلما دعا معاوية لبيعة يزيد قال: أترون هذا أراد، إن ديني إذا عندي لرخيص[3]، وكان ابن عمر رضي الله عنه يرى أنه لا يجوز أن يؤخذ على البيعة الدراهم، لأنها من باب الرشوة فإن كانت البيعة حقاً فلا يجوز له أن يأخذ على الحق أجراً وإن كانت باطلاً، فلا يجوز له أن يبذل البيعة لمن لا يستحقها من أجل المال[4]. موقف ابن عمر رضي الله عنه هو عدم الرضا بالأسلوب الوراثي للحكم أو أخذ البيعة عن طريق المال[5]. بـ ـ عبد الرحمن بن أبي بكر في مجلس معاوية رضي الله عنهم: وخرج ابن عمر ـ من مجلس معاوية ـ واستدعى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، فأخذ معاوية في الكلام، فقاطعه عبد الرحمن ورد عليه بلهجة شديدة، وذكر أنه يمانع بيعة يزيد، وطلب أن يكون الأمر شورى، وتوعد معاوية بالحرب[6]. ثم قام فقال معاوية: اللهم اكفنيه بم شئت، وطلب منه أن يتمهل وأن لا يعلن رفضه أمام أهل الشام فيقتلوه، فإذا جاء العشي وبايع الناس ثم يكن بعد ذلك على ما عنده من رأي[7]. وكان الأولى لمعاوية رضي الله عنه أن يطلب من أهل الشام ألا يتعرضوا لمن خالفه جـ ـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: ثم استدعى ابن الزبير، واتهمه معاوية بأنه السبب في منع البيعة، وأنه وراء ما حدث من ابن عمر وابن أبي بكر، فردّ عليه ابن الزبير وطلب منه أن يتنحى عن الإمارة إن كان ملّها ثم طلب من معاوية أن يضع يزيد خليفة بدلاً منه فيبايعه. ثم استدل على عدم موافقته على المبايعة بما استنبطه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يجوز مبايعة اثنين في آن واحد[8]ن ثم قال: وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا أحدهما[9]. س ـ الحسين بن علي رضي الله عنه: ومن الملاحظ أن الرواية السابقة لم تذكر الحسين بن علي ضمن من استشارهم معاوية في بيعة يزيد، ولعل السبب يعود إلى أن معاوية أدرك العلاقة بين أهل العراق وبين الحسين وأنهم كانوا يكتبون له ويمنونه بالخلافة من بعد معاوية، ثم إن الحسين قد قابل معاوية بمكة فكلمه طويلاً كما يبدو في أمر الخلافة الأمر الذي أغضب يزيد فقال لأبيه: لا يزال رجل قد عرض لك، فأناخ بك، قال: دعه لعله يطلبها من غيري فلا يسوغه فيقتله[10]. ويتبين لنا من خلال الحوار الذي دار بين معاوية وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أنهم يمانعون البيعة لسببين: أ ـ اعتراضهم على تولية يزيد للعلاقة بين الأب والابن وأن هذه لم تكن طريقة الخلفاء الراشدين . بـ ـ الاستدلال على بطلان هذه البيعة ورفضها لمخالفتها النص الصريح الذي ورد في الحديث النبوي والذي لا يجيز البيعة لشخصين في آن واحد. والملاحظ هنا هو أن المعارضين لم يذكروا قدحاً في يزيد وإلا كيف يمكن أن يتجاهلوا صفات يزيد التي اتهم بها فيما بعد، وخاصة في ذلك الموقف الذي يتطلب حشد أي دليل في مقابل الخصم[11]. والحقيقة أنه كان هناك شعور قوي بين بعض الناس خاصة بين أبناء المهاجرين هو كيف أن معاوية الذي أسلم في فتح مكة يتولى خلافة المسلمين، وهناك من هو أقدم إسلاماً وأحق منه[12]، وكان البعض معترضاً على تقديم يزيد خوفاً من القيصرية والهرقلية على حد تعبير عبد الرحمن بن أبي بكر. ولما رأى معاوية أوجه الانتقادات التي انتقد فيها أبناء الصحابة بيعة يزيد، ورأى أنها لا تمس يزيد شخصياً بل أنها وجهات نظر أرتاؤها ورأى معاوية خلافها، فهؤلاء مدفعون بحرصهم على جعل منصب الخلافة لا تتطرق إليه العلاقات الأسرية والرغبات الشخصية، ومن ثم تكون قيمة الخليفة واختياره مبنية على علاقته بالخليفة الذي قبله[13]. قام معاوية بعد اجتماعه مع ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن وجدنا أحاديث الناس ذات عوار زعموا أن ابن عمر وابن الزبير، وابن أبي بكر الصديق لم يبايعوا يزيد، قد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له. فقال أهل الشام: لا والله لا نرضى حتى يبايعوا على رؤوس الناس وإلا ضربنا أعناقهم، فانتهرهم معاوية وقال: مه سبحان الله ما أسرع الناس إلى قريش بالسوء لا أسمع هذه المقالة من أحد بعد اليوم، ثم نزل. فقال الناس بايع ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر ويقولون لا والله ما بايعنا، ويقول الناس: بلى لقد بايعتم، وارتحل معاوية ولحق بالشام[14]. وبهذه الرواية الصحيحة يتبين لنا كذب تلك الرواية التي تتهم معاوية رضي الله عنه بأنه أقام على رأس كل رجل من الصحابة الأربعة وهم عبد الله بن عمر، عبد الله بن الزبير،عبد الرحمن بن أبي بكر، والحسين بن علي رضوان الله عليهم أقام على رأس كل واحد منهم رجلين، وأعطى الإشارة لكل حارس بقتل من يمانع البيعة، فبايع الناس وبايع ابن عمر، وابن الزبير، وابن أبي بكر تحت تهديد السلاح فبالإضافة على ضعف الرواية سنداً، فإن متنها لا يقل عن سندها من حيث الضعف ولا يقف أمام النقد الدقيق[15]، فمثلاً في بداية الرواية: أن معاوية لما كان قريباً من مكة قال لمرقال صاحب حرسه: لا تدع أحداً يسير معي إلا من حملته أنا فخرج يسير وحده حتى إذا كان وسط الأراك لقيه الحسين بن علي فوقف وقال: مرحباً وأهلاً بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد شباب المسلمين دابة لأبي عبد الله يركبها، ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: مرحباً وأهلاً بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الصديق وسيد المسلمين ودعا له بدابة فركبها، ثم طلع ابن الزبير فقال مرحباً وأهلاً بابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الصديق وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا له بدابة فركبها ولم يعرض لهم شيء حتى قضى نسكه[16]. وأما ما يتعلق بباقي الرواية التي تذكر أن معاوية أوقف على رأس كل رجل حارسين وأمرهما بقتل من يحاول الاعتراض على البيعة، إذا بويع يزيد فهذا مستبعد لأمرين أحدهما: أليس من الغريب جداً على معاوية أن يستخدم العنف بهذه الصفة مع أبناء الصحابة، والصحابة أنفسهم ومن ثم يتسبب في توسيع الخلاف ويباعد الشق بينه وبين يزيد من جهة، وبين الصحابة وأبنائهم من جهة أخرى. والأمر الآخر: عندما يقف الحراس على رؤوس الأربعة، ابن عمر، وابن الزبير، وابن أبي بكر والحسين، أليس هذا المنظر أمام الناس يجعل الشك عند الناس يتضاعف حول مكانة يزيد، ويعرف الناس أن أولئك الحراس الذين يقفون على رأس كل شخص إنما يتربصون به ويبغونه شراً، ثم يصبح لدى الناس اقتناعاً كاملاً بأن هذه البيعة بيعة إكراه وخديعة فيمانعوا[17]. ثالثاً: تاريخ ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد: اختلفت المصادر حول تاريخ ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد على النحو التالي: 1 ـ ذكر خليفة بن خياط[18]، والذهبي[19]، أنه كان في سنة 51هـ . 2 ـ ذكر ابن عبد ربه[20]، أن ذلك كان في سنة 55هـ . 3 ـ ذكر الطبري[21]، وابن الجوزي[22]، وابن الأثير[23]، وابن كثير[24]، أن ذلك كان في سنة 56هـ هذا وبعد دراسة التواريخ السابقة اتضح عدم صحة ترشيح يزيد بن معاوية سنة 51هـ[25]للأسباب التالية: أ ـ أن وفاة الحسن بن علي رضي الله عنه كانت في السنة نفسها أي في سنة 51هـ واتخاذ قرار ترشيح يحتاج لوقت من طرف معاوية لكي يدرسه ويستشير فيه، كما أنه ليس من الحكمة إعلان قرار الترشيح بعد وفاة الحسن رضي الله عنه مباشرة. ب ـ قتل حجر بن عدي رضي الله عنه في السنة نفسها، أي في سنة 51هـ، لذا فإنه أيضاً ليس من الحكمة إعلان ترشيح يزيد بن معاوية في هذه السنة، لأن الأنفس لم تكن مهيأة لمثل هذه القرارات الجريئة، التي يعتبر توقيت إعلانها على الناس من أهم عوامل نجاحها. جـ ـ إن ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد كان أثناء ولاية مروان بن الحكم على الحجاز[26]، وهي بلا شك الفترة الثانية من ولاية مروان بن الحكم والتي امتدت من سنة 54هـ ـ 57هـ وذلك أن الفترة الأولى من ولاية مروان بن الحكم كانت من سنة 42ـ 49هـ . بعد ذلك يتبقى تاريخان لإعلان ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد وهما 55هـ وسنة 56هـ وهذان التاريخان يكمل أحدهما الآخر ـ كما سيتضح لاحقاً ـ ولكن يرد في هذا المقام سؤال حول السبب الذي جعل معاوية رضي الله عنه يؤخر ترشيح ابنه يزيد ولياً للعهد على سنة 55هـ أو سنة 56هـ مع أن الحسن بن علي رضي الله عنه توفي سنة 51هـ، وجواب هذا السؤال يكمن في معرفة أهم حدث وقع في سنة 55هـ حيث توفي في هذه السنة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، آخر الستة الذين رضيهم ورشحهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخلافة من بعده[27]. [/align] |
الساعة الآن 03:41 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |