![]() |
ابن حمدون النديم ووزير المعتضد
قال عبد اللّه بن حمدون: قلتُ للخليفة المعتضد: إِلامَ أُضْحِكُكَ ولا تضحكُني؟ قال: خـُذ! وأعطاني دينارًا. قلت: خليفة يُجيز نديمَه بدينار واحد؟! قال: لا أجد لك في بيت المال حقـّا أكثر من هذا. ولكني أحتال لك بحيلة تأخذ فيها خمسة آلاف دينار. فقبَّلتُ يده. فقال: إذا كان غذًا وجاء القاسم بن عبيد اللّه، أسارّك حين تقع عيني عليه سرارًا طويلاً وألتفتُ إليه كالمُغضَب، وانظُرْ أنت إليه في خلال ذلك نظر المشفق. فإذا انقطع السرار فاخرجْ ولا تبرح الدهليز حتى يخرج. فإذا خرج خاطبك بجميل وسألك عن حالك، فاشك الفقر والحاجة وثقل ظهرك بالدَّين والعيال، وخذ ما يعطيك. فإذا أخذتَها فسيسألك عما جرى فحدّثه بالحديث كله وإيّاك أن تكذبه. وليكن إخبارك إيّاه بذلك بعد امتناع شديد، وبعد أن تأخذ كل ما يعطيك إيّاه. فلما كان من غد حضر القاسم. فحين رآه المعتضد بدأ يسارني، وجرت القصة على ما وصفني. فخرجت، فإذا القاسم في الدهليز ينتظرني. فقال لي: يا أبا محمد، ما هذا الجفاء؟ ما تجيئني ولا تزورني ولا تسألني حاجة؟ فاعتذرتُ إليه باتصال الخدمة عليّ، فقال: ما تقنعني إلا أن تزورني اليوم. فقلت: أنا خادم الوزير. ومضيت معه وجعل يسألني عن حالي وأخباري وأشكو إليه الدَّين والبنات، فيتوجَّع ويقول: مالي لك، ولو عرَّفتني لعاونتك على إزالة هذا كله عنك. وبلغنا داره فصعدنا، وخلا بي في دار الخلوة، وجعل يحادثني ويبسطني. وقـُدّمت الفاكهة فجعل يلقمني بيده. ثم وقّع لي بثلاثة آلاف دينار فأخذتها، وأحضرني ثيابًا وطيبًا، .وكانت بين يديّ صينية فضّة وقدح بلور فأمر بحملهما إلى داري وقال: هذا للبنات. فلما انفرط المجلس قال: يا أبا محمد. أنت عالم بحقوق أبي عليك، ومودتي لك. فقلت: أنا خادم الوزير. فقال: أريد أن أسألك عن شيء وتحلف أنك تصدقني عنه. فقلت: السمع والطاعة. قال: بأي شيء سارك الخليفة اليوم في أمري؟ فأخبرته بكل ما جرى، وشكرتُه وانصرفت! من كتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي. |
ابـن سـُرَيـج والغنــاء
قال ابن سـُريج: دعاني فتية من بني مروان، فدخلتُ إليهم وأنا في ثياب الحجاز الغلاظ الجافية، وهم يرفـُلون في الوَشـْي كأنهم الدنانير الهـِرَقـْليـّة. فغنـّيتهم - وأنا محتقر لنفسي عندهم - لحنـاً لي. فلما رأيت إعظامهم لي تضاءلوا في عيني حتى ساويتـُهم في نفسي. ثم غنيتهم لحنـاً آخر، فطربوا وعظـّموني وتواضعوا لي حتى صرتُ في نفسي بمنزلتهم، وصاروا في عيني بمنزلتي. ثم غنيتهم لحنـاً ثالثـاً، فمثلوا بين يديّ ورمـَوْا بحـُللهم كلها عليّ حتى غـَطـَّوْني بها، وحتى حسبت أني الخليفة وأنهم لي عبيد، فما رفعتُ طرْفي إليهم بعد ذلك تـِيهـاً. وقال مالك بن أبي السـَّمـْح: سألتُ ابن سريج عن قول الناس في المغنين: فلان يـُحسن وفلان يسيء. فقال: المصيب المحسن من المغنين هو الذي يـُشبع الألحان، ويملأ الأنفاس ويـُعدّل الأوزان، ويـُفخـّم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويـُقيم الإعراب، ويستوفي النغمَ الطـِّوال، ويـُحسـِّن مقاطيع النغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواقع النـَّبـَرات، ويستوفي ما يشاكلها في الضرب من النـّقرات. فعرضتُ ما قال ابن سريج على مـَعـْبـَد، فقال: لو جاء في الغناء قرآن ما جاء إلا هكذا. من كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني |
ابن صبيح والفضل بن يحيى
اعتلّ الفضلُ بن يحيى. فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا أتاه عائداً لم يـَزد على السلام عليه والدُّعاء له. ويخفـّف في الجلوس، ثم يلـْقـَى حاجبـَه فيسأله عن حاله ومأكله ومشربه ونومه. وكان غيره يـُطيل الجلوس. فلما أفاق من علـَّته، قال: ما عادني في علـّتي هذه إلا إسماعيل بن صبيح. |
ادفعوهن إلى الطبـّاخ
كتب أَسد بن جهور، وكان ممن تصرّف في الأعمال الجليلة، إلى بعض العمال، أن احمل لنا مائتي جوانبيرة (وهي كلمة فارسية المراد بها النـّصـَف من النساء التي بين الشابـّة والمسنـّة). فقال العامل: ما يصنع بهؤلاء العجائز!! ثم حصـَّل منهن ما أمكن، وأنفذهنّ طـَوْعـًا أو كرهـًا. فلما وصلن إلى بابه، وقرأ كتاب العامل بإنفاذهن، قال: ادفعوهنّ إلى الطبـّاخ، وتقدَّموا إليه بأن يذبح لنا في كل يوم ما نحتاج إليه! فقيل له: إنهن نساء! فقال: إنـّا للّه! إنما أردت الجوامركات (وهو نوع من الدّجاج طيب اللحم) فغلطت! من كتاب "الهفوات النادرة" لمحمد بن هلال الصابئ. |
استـمرُّوا!
ضاع لرجلٍ ولدُ، فجاءوا بالنوائح ولطموا عليه، وبقوا على ذلك أياماً. فصعد أبوه يوماً غرفةً بسطح البيت فرأى ولده جالساً في زاوية من زواياها. فصاح به: ولدي؟! أنت بالحياةِ! ماذا تصنع هنا؟ أما ترى ما نحن فيه؟! قال الغلام: قد علمتُ وسمعت. ولكن هاهنا بيض قد قعدتُ مثلَ الدجاجة عليه، وما يمكنني أن أتركه حتى يفقس، فأنا أريد فُرَيخاتٍ لأني أحبّها! فأشرف أبوه من السطح على النوائح وصاح بهم: قد وجدتُ ابني حياً، ولكن لا تقطعوا اللّطمَ عليه. أُلطُموا كما كنتم! من كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي. |
الإخلاص في السـر والعلن
كان أحد الخلفاء يجول ليلاً بالمدينة، ومعه خادمه، فأعياه التعب، فاتكأ إلى جدار بيت، وإذا امرأة تقول لابنتها: قومي إلى اللبن فامزجيه بالماء، فقالت: يا أماه، أو ما سمعت منادي الخليفة ينادي: لا يشاب اللبن. فقالت: إنك بموضع لا يراك الخليفة ولا مناديه. فقالت الصبية: والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء. فلما سمع الخليفة كلامها، قال لخادمه: اعرف الموضع، ثم مضى في جولاته. فلما أصبح قال للخادم: امض إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها؟ وهل لها من عائل؟ قال: فأتيت الموضع فعلمت أن ليس لها من يعولها، فعدت إليه، فأخبرته الخبر فجمع أولاده وقال لهم: هل فيكم من يحتاج إلى الزواج فأزوجه، إذ لو كان لأبيكم حاجة إليه لما سبقه أحد منكم إلى هذه الصبية، فتزوجها واحد من أولاده. |
الأخـوان والحيـّة
حجّ الخليفة عبد الملك بن مروان في بعض أعوامه، فخطب في أهل المدينة وقال: مَثَلـُنَا ومَثـَلُكم أنّ أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين، فنزلا في ظلّ شجرة. فلما دنا الرّواح خرجت إليهما حيـّة تحمل دينارًا فألقته إليهما، فقالا: إن هذا لَمِنْ كنز. فأقاما عليها ثلاثة أيام، كل يوم تُخرج إليهما دينارًا. فقال أحدهما لصاحبه: إلى متى ننتظر هذه الحية؟ ألا نقتلها ونحفر هذا الكنز فنأخذه؟ فنهاه أخوه وقال له: ما تدري لعلك تعطب ولا تدرك المال. فأبى عليه، وأخذ فأسًا معه، ورَصَد الحية حتى خرجت فضربها ضربة جرحت رأسها ولم تقتلها. فثارت الحية فقتلته، ورجعت إلى حجرها. فقام أخوه فدفنه، وأقام حتى إذا كان من الغد، خرجت الحية معصوبًا رأسها ليس معها شيء. فقال لها: يا هذه، إني واللّه ما رضيتُ ما أصابك، ولقد نهيتُ أخي عن ذلك. فهل لكِ أن نجعل اللّه بيننا أن لا تضرّيني ولا أضرّك، وترجعين إلى ما كنتِ عليه؟ قالت الحيّة: لا. قال: ولم ذلك؟ قالت: إني لأعلم أن نفسك لا تطيب لي أبدًا وأنت ترى قبر أخيك، ونفسي لا تطيب لك أبدًا وأنا أذكر هذه الشَّجَّة. فيا أهل المدينة، وَلِيَكُم عمر بن الخطاب فكان فظـّا غليظًا مُضَيِّقـًا عليكم، فسمعتم له وأطعتم. ثم وليكم عثمان فكان سهلاً ليّنـًا كريمًا فَعَدَوْتم عليه فقتلتموه. وبعثْنا عليكم مُسْلمًا يوم الحَرَّة فَقَتل منكم مَنْ قتل. فنحن نعلم أنكم لا تحبوننا أبدًا وأنتم تذكرون يوم الحَرَّة، ونحن لا نحبّكم أبدًا ونحن نذكر مقتل عثمان. من كتاب "مروج الذهب" للمسعودي. |
الأسـد والخنزيـر
لما حاصر أبو جعفر المنصورُ ابنَ هبيرة، قال: إن ابن هبيرة يُخَنْدِقُ على نفسه مثل النساء! فبلغ ذلك ابن هبيرة، فأرسل إلى المنصور: "أنت القائلُ كذا وكذا؟ فاخرج إليّ لتبارزني حتى ترى." فكتب إليه المنصور: "ما أجد لي ولك مثلاً في ذلك إلا كأسد لقى خنزيراً، فقال له الخنزير: بارِزْني! فقال الأسد: ما أنت لي بكفء، فإن نالني منك سوء كان ذلك عاراً عليّ وإن قتلتُك قَتَلْتُ خنزيراً فلم أحصل على حَمْد ولا في قتلي لك فخر. فقال له الخنزير: إن لم تبارزني لأعَرِّفَنَّ السباعَ أنك جَبُنْتَ عني. فقال الأسد: احتمالُ عارِ كَذِبِك أيسرُ من تلويث راحتي بدمك. من كتاب "حياة الحيوان الكبرى" للدميري. |
الأصمعي والبقّـال
عن الأصمعي قال: كنت بالبصرة أطلب العلم، وأنا فقير. وكان على باب زقاقنا بقّال، إذا خرجتُ باكرا يقول لي إلى أين؟ فأقول إلى فلان المحدّث. وإذا عدت مساء يقول لي: من أين؟ فأقول من عند فلان الإخباريّ أو اللغويّ. فيقول البقال: يا هذا، اقبل وصيّتي، أنت شاب فلا تضيّع نفسك في هذا الهراء، واطلب عملا يعود عليك نفعه وأعطني جميع ما عندك من الكتب فأحرقها. فوالله لو طلبت مني بجميع كتبك جزرة، ما أعطيتُك! فلما ضاق صدري بمداومته هذا الكلام، صرت أخرج من بيتي ليلا وأدخله ليلا، وحالي، في خلال ذلك، تزداد ضيقا، حتى اضطررت إلى بيع ثياب لي، وبقيت لا أهتدي إلى نفقة يومي، وطال شعري، وأخلق ثوبي، واتّسخ بدني. فأنا كذلك، متحيّرا في أمري، إذ جاءني خادم للأمير محمد بن سليمان الهاشمي فقال لي: أجب الأمير. فقلت: ما يصنع الأمير برجل بلغ به الفقر إلى ما ترى؟ فلما رأى سوء حالي وقبح منظري، رجع فأخبر محمد بن سليمان بخبري، ثم عاد إليّ ومعه تخوت ثياب، ودرج فيه بخور، وكيس فيه ألف دينار، وقال: قد أمرني الأمير أن أُدخلك الحمام، وأُلبِسك من هذه الثياب وأدع باقيها عندك، وأطعِمك من هذا الطعام، وأبخّرك، لترجع إليك نفسك، ثم أحملك إليه. فسررت سرورا شديدا، ودعوتُ له، وعملتُ ما قال، ومضيت معه حتى دخلت على محمد بن سليمان. فلما سلّمتُ عليه، قرّبني ورفعني ثم قال: يا عبد الملك، قد سمعت عنك، واخترتك لتأديب ابن أمير المؤمنين، فتجهّز للخروج إلى بغداد. فشكرته ودعوت له، وقلت: سمعا وطاعة. سآخذ شيئا من كتبي وأتوجّه إليه غدا. وعدت إلى داري فأخذت ما احتجت إليه من الكتب، وجعلتُ باقيها في حجرة سددتُ بابها، وأقعدت في الدار عجوزا من أهلنا تحفظها. فلما وصلت إلى بغداد دخلت على أمير المؤمنين هارون الرشيد. قال: أنت عبد الملك الأصمعي؟ قلت: نعم، أنا عبد أمير المؤمنين الأصمعي. قال أعلم أن ولد الرجل مهجة قلبه. وها أنا أسلم إليك ابني محمدا بأمانة الله. فلا تعلمه ما يُفسد عليه دينه، فلعله أن يكون للمسلمين إماما. قلت: السمع والطاعة. فأخرجه إليّ، وحُوِّلْتُ معه إلى دار قد أُخليت لتأديبه، وأجرى عليّ في كل شهر عشرة آلاف درهم. فأقمت معه حتى قرأ القرآن، وتفقّه في الدين، وروي الشعر واللغة، وعلم أيام الناس وأخبارهم. واستعرضه الرشيد فأُعجب به وقال: أريد أن يصلي بالناس في يوم الجمعة، فاختر له خطبة فحفِّظْه إياها. فحفّظتُه عشرا، وخرج فصلى بالناس وأنا معه، فأعجب الرشيد به وأتتني الجوائز والصلات من كل ناحية، فجمعت مالا عظيما اشتريت به عقارا وضياعا وبنيت لنفسي دارا بالبصرة. فلما عمرت الدار وكثرت الضياع، استأذنتُ الرشيد في الانحدار إلى البصرة، فأذن لي. فلما جئتها أقبل عليّ أهلها للتحية وقد فَشَتْ فيهم أخبار نعمتي. وتأمّلت من جاءني، فإذا بينهما البقال وعليه عمامة وسخة، وجبّة قصيرة. فلما رآني صاح: عبد الملك! فضحكت من حماقته ومخاطبته إيّاي بما كان يخاطبني به الرشيد ثم قلت له: يا هذا! قد والله جاءتني كتبي بما هو خير من الجَزَرَة! من كتاب "الفرج بعد الشدة" للتنوخي. |
الأعمش وإمام المسجد
خرج الأعمش ذات يوم من منزله بسحر، فمرَّ بمسجد بني أسد وقد أقام المؤذّن الصلاة، فدخل يصلّي، فافتتح الإمام الركعة الأولى بسورة البقرة، ثم في الركعة الثانية سورة آل عمران. فلما انصرف قال له الأعمش: أما تتقي الله؟ أما سمعت حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أَمَّ الناسَ فَلْيُخَفِّف، فإن خلفه الكبير والضعيف وذا الحاجة"؟ فقال الإمام: قال الله عزَّ وجَلّ: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين". فقال الأعمش: فأنا رسول الخاشعين إليك بأنك رجل ثقيل الظل! من كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي. |
الساعة الآن 06:20 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |