![]() |
وفي سنة سبعين
انتقض بازمان الخادم بطَرْسوس وقبض على نائبه وسار إليه طولون في العساكـر وحاصـروه فامتنـع عليـه فرجع إلى إنطاكية فمرض هنالك لست وعشرين سنة من ولايته على مِصْرَ ووليَ بعده ابنه خَمارَوَيْه وانتقضت عليه دمشق فبعث إليها العساكر وعادت إلى طاعته. وكان يومئذ بالموصل والجزيرة إسحاق بن كنداج وعلى الأنبار والرَحَبَة وطريق الفرات محمد بن أبي الساج فكاتبا المُوَفّقَ في المسير إلى الشام واستمدّاه فأذِنَ لهما ووعدهما بالمَدَد فسارا وملكا ما يجاورهما من بلاده واستولى إسحاق على أنطاكية وحلب وحِمص وكاتبه نائب دِمَشْق واجتمع على خمارويه فسار إِليه فهرب إلى شَيْزَر وهي في طاعـة خمارويـه ودمشق. وجـاء أبـو العبَّـاس بـن المُوَفَّـقِ وهـو الْمُعْتَضِـدُ من بغداد بالعساكر فكبس شَيْزَر وقتل من جند ابن طولـون مقتلـةً عظيمـةً ولحـق فلُّهُـم بدمشـق وأبـو العبّـاس فـي اتِّباعهـم فجلَوْا عنها ومَلَكَها في شَعْبًانَ سنة إحدى وسبعين. ورجعت عساكر خَمَارَوَيْه إلى الرَمْلَة فأقاموا بها وزحف إسحاق بن كنـداج إلـى الرَقَـةِ وعليهـا وعلـى الثغـور والعواصم ابن دعاصٍ من قِبَل خمارويه فقاتله وكان الظهور لإسحاق. ثم زحف أبو العبّاس المُعْتَضِدُ من دمشق إلى الرملة وسـار خمارويـه مـن مِـصْرَ واجتمـع بعساكـره فـي الرملـة علـى مـاء الطواحيـن. وكـان المعتضـد قـد استفسـد لابـن كنـداج وابـن أبـي الساج ونسبهما إلى الجُبْنِ في انتظارهما إياه في محاربة خمّارويه. وعبّـى المُعْتَضِـدُ عساكـره ولقـيَ خمـارَوَيْه وقـد أكمَـن لـه فانهـزم خمّارويـه أوّلاً وملك المعتضد خيامه وشُغِلَ أصحابه بالنَّهْبِ فخرج عليهم الكميِن فانهزم المعتضد إلى دمشق فلم يفتح له أهلها فراح إلى طرسوس وأقام العسكران يقتتلان دون أمير وأقام أصحاب خمّارويه عليهم أخاه سعداً مكانه وذهبوا إلى الشام فملكوه أجمع وأذهبوا منه دعوة المُوَفَّق وابنه. وبلغ الخبر إلى خمّارَوَيْه فسرّ وأطلق الأسرى الذين كانوا معه. ثم سار أَهل طرسوس بأبي العبَّاس فأخرجوه وسـار إلى بغداد وولّوا عليهم مازيار فاستبدّ بها. ثم دعا لخمّارَوَيه بعد أن وصله بمال جليل يقال أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مِطْرَف وسلاحاً كثيراً فدعا له ثم بعث إليه بخمسين ألف دينار. ثم تُوُفِّي الحسن بن زيد العَلَوِي صاحب طَبَرسَتَان في رجب سنة سبعين لعشرين سنة من ولايته ووليَ مكانه أخوه وكان على قزوين أتكوتكين فسار إلى الريّ في أربعة آلاف فارس وسـار إليـه محمـد بـن زيـد فـي عالـم كثير من الدّيْلَم والخراسانِيَّة والتقوا فانهزم محمد بن زيد وقُتِل من عسكره نحوٌ من ستة آلاف واسر ألفان وغنم أتكوتكين عسكراً وملك الريّ وأغرم أهلها مائـة ألـف دينـار وفـرّق عُمُّاله عليها. وسار محمد بن زيدٍ إلى جَرْجَان ثم عزل عمرو بن الليث عن خُراسان وولّى عليها محمد بن طاهر واستخلف محمد بن رافع بن هَرْثَمَةَ وسار سنة خمس وسبعين إلى جَرْجان وهرب عنها ليلاً إلى استراباد فحاصره رافع فيها سنتين حتى أجهده الحصار ففز عنها ليكلاً إلى سارية فاتبعه فهرب عن طبرستان سنة سبع وسبعين واستأمـن رستـم بـن قـارِن إلـى رافـع بطبرستـان فأمنـه وبعـث إلـى سالـوس محمـد بـن هـارون نائبـاً عنـه وأتـاه بابـا علـي بن كاني مستأمناً. ثم جاءه محمد وحاصرهما بسالوس وانقطعت أخبارهما عن نافع. ثم جاءه الخبر بحصارهما فسار إليهما فارتحل محمد بن زيد إلى أرض الدَيْلَم فدخل رافـع خلفـه وأثخـن فيهـا نهبَاً وتخريباً إلى حدود قزوين وعاد إلى الريّ إلى أن توفي المعتمد سنة تسع وتسعين. كـان ابـن أبـي السـاج فـي أعمالـه بِقِنَسْرين والفُرات والرحَبَة ينافِسُ إسحاق وهو على الجزيرة ويريِد التقدم عليه فحدثت لذلك منهما فتنة. فخطب ابن أبي الساج لمخمارَوَيْه بن طولون. وبعث ابنـه ديـوداد رهينـة إليـه فبعـث إليه خمارويه أموالاً جمَّة وسار إلى الشام واجتمع بابن أبي الساج ببالـس. ثـم عبـر ابـن أبـي السـاج الفُـرات إلى الرقَّة وهزم إسحاق بن كنداج واستولى على أعماله وعبر خمّارويه ونزل الرقَّة. ومضى إسحاق إلى قلعة ماردين وحاصره ابن أبي الساج بها ثم أفرج عنها وسار إلى سنجار لقتال بعض الأعراب فسار ابن كِنْداج من ماردين إلى الموصل فاعترضه ابن أبي الساج وهزمه فعاد إلى ماردين. واستولى ابـن أبـي السـاج علـى الجزيـرة والموصل وخطب لخمّارويه ثـم لنفسـه بعـده وبعـث غلامـه فتحـاً إلـى أعمـال الموصـل لجبايـة الخراج. وكان اليَعْقُوبِيةُ من السراةِ قريباً منه فهادنهم ثم غدر بهم فكبسهم وجاءهم أصحابهم من غير شعور بالواقعة فحملوا على أصحاب فتح فاستلحموهم. ثم انتقض ابن أبي الساج واستبيح عسكـره. وكـان له بحمْصَ مخلف من أثقاله فقَدِمَ خمّارويه طائفة من العسكرٍ إليها فاستولوا على ما فيها ومنعوا أبن أبي الساج من دخولها فسار إلى حلب ثم إلى الرًقَةِ وخمارويه في اتّباعه فعبـر الفُـرات إلـى الموصـل. وجـاء خمارويه إلى بلد وأقام بها وسار ابن أبي الساج إلى الحُدَيْثَةِ. وكان إسحاق بن كِنْداج قد لحق بخمارويه من ماردين فبعث معه جيشاً وجماعة من القواد وسار في طلب ابن أبي الساج وقد عبر دجلة فجمع ابن كِنْداج السُفُن ليوطئ جسراً للعبور. وبينما هو في ذلك أسرى ابن أبي الساج من تكريت إلى الموصل فوصلها الرابعة وسار ابن كنـداج فـي اتّباعـه. فاقتتلـوا بظاهـر الموصـل وابـن أبي الساج في ألفين فصبر واشتد القتال وانهزم ابـن كنـداج وهـو فـي عشريـن ألفـاً. فخلـص إلـى الرقـة ومحمـد ابـن أبـي السـاج فـي اتباعـه. وكتب إلى الموفّق يستأذنه في عبور الفُرات إلى بلاد خَمارَويه بالشام فأمره بالتوقُّف إلى وصول المدَدِ من عنده ومضى ابن كنداج إلى خمّارويه فجاء بجيوشه إلى الفُرات وتوافق مع ابن أبي الساج والفُـرات بينهمـا. ثـم عبـرت طائفـة مـن عسكـر ابـن كنـداج فأوقعـوا بطائفـة مـن عسكر ابن أبي الساج فانهزمـوا إلـى الرقّـة فسـار ابـن أبـي الساج عن الرقّة إلى بغداد سنة ست وسبعين في ربيع منها فأكرمه المُوَفّق ووصله واستولى ابن كِنْداج على ديار ربيعة من أعمال الجزيرة وأقام بها وولى الموفـق محمـد بـن أبـي السـاج علـى أذربيِجـان فسـار إليها فخرج إليه عبد اللَّه بن الحُسَيْن الهَمَذاني عامل مراغة ليصده فهزمه ابن أبي الساج فحاصره وأخذ منه مراغة سنة ثمان وسبعين وقتله واستقرّ ابن أبي الساج في عمله بأذرَبيجَان. كان عمرو بن الليث بعد مهلك أخيه يعقوب قد ولّاه الموَفَّقُ خراسانَ وأصبهانَ وسجستتان والسنـد وكرمان والشرطة ببغداد كما كان أخوه وقد ذكرنا ذلك قبل. وكان عامله على فارس ابن الليث فانتقض عليه سنة ثمانٍ وستّين فسار عمرو لحربه فهزمه واستباح عسكره ونهب اصطخـر ثـم ظفِـرَت جيوشُـهُ بمحمـد وأسـره وحبسـه بكرمـان فأقـام بهـا ثـم بعث إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلف وهو بأصبهان يطلبه بالمال. فبعث إليه بالأموال وبعث عمرو إلى الموفّق بثلثمائـة ألـف دينـار وبخمسيـن مَنّاً من المِسْكِ ومثلها من العَنْبَر ومائتين من العود وثلثمائة ثوب من الـوَشْي ومن آنية الذِّهَب والفِضَةِ والدوابّ والغلمان. قيمة مائة ألف دينار. واستأذنه في غزو محمد بن عُبَيْد الكُرْديّ وامهرْمُز فأذِنَ له فبعث قائداً من جيشه إليه فأسره وجاء به إلى عمرو. ثـم عـزل المعتمـد سنـة إحـدى وستّيـن عمـرو بـن الليـث عمّـا كـان قلّـده من الأعمال وأدخل إليه الحاجّ من أهلها عند مُنْصَرِفِهِم من مكَّة فأعلمهم بعزله وأنه قد ولّى على خُراسان محمد بن طاهر وأمـر بلعـن عمـرو علـى المنابـر. وجهّـز مُخلِـد بـن صاعد إلى فارِسَ لحرب عمرو واستخلف محمد بـن طاهـر علـى خُراسـان رافـع بـن هَرْثَمَـةَ. وكتـب المعتمد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَف يأمره بقتاله وبعث إليه الجيوش فاقتتلوا مع عمرو وكان في خمسة عشر ألف مُقاتـل فانهـزم عمرو وخرج قائده الديلمي وقتل مائة من أعيانهم وأسر ثلاثة آلاف فاستأمن منهم وغنموا من عسكـره مـا لا يُحصـى. ثـم زحـف للموَفـق سنـة أربـع وسبعيـن إلـى فـارس لحـرب عمـرو فأنفـذ عمرو ابنـه محمـداً إلـى أرًجـان فـي العساكـر وعلـى مقدمتـه أبـو طلحـة بن شركب وعباس بن إسحاق إلى سيـراف واستأمـن أبـو طلحـة إلى المُوَفق ففت ذلك في عَضُدِ عمرو وعاد إلى كَرْمان واستراب الموفـق بأبـي طلحـة فقبـض عليـه قريبـاً مـن شيـراز وجعـل مالـه لابنـه أبـي العباس المعتضد وسار في طلب عمرو فخرج من كرمان إلى سِجسْتان. ومات ابنه محمد بالمفازة ورجع عنه الموفـق وسار رافع بن الليث من خراسان وغلب محمد بن زَيْدٍ على طبَرسَتان كما قدمناه وقـدِم عليه هنالك عليُ بـن الليـث هـو وابنـاه المعـدل والليـث " بـن حسـن أخيـه علـي " بكرمـان ثـم قتلـه رافـع سنة ثمانَ وستين. مسيرة الموفق إلى أصبهان والجبل كـان كاتـب أتكوتكيـن أنهـى إلـى المُعْتَضِـد أنَّ لـه مـالاً عظيمـاً ببلاد الجبل فتوجه فلم يجد شيئاً. ثم سـار إلـى الكـرخ ثـم إلـى أصبهـان يريـد أحمـد بـن عبد العزيز بن أبي دلف فتنخى أحمد عن البلد بعسكره وترك داره بفرشها لنُزُل المُوَفَق عند قدومه ثم رجع الموفق إلى بغداد. قبض الموفق على ابنه أبي العباس ثم وفاته وقيام ابنه أبي العباس بالأمر بعده كـان المُوَفق بعد رجوعه من أصبهان نزل واسِطَ ثم عاد إلى بَغْدادَ وترك المُعْتَمَدُ وأمر ابنه أبا العبَّاس وهو المعتضد بالمسير إلى بعض الوجوه فأبى فأمر بحبسه ركب القواد من أصحابه واضطربت بغدادُ فركب المُوَفًق إلى المَيْدان وسكَّن الناس وقال: إني احتجت إلى تقويم ابني فقوّمته فانصرف الناس وذلك سنة ست وسبعين. كان عند منصَرَفه من الجبل قد اشتدّ به وجـع النـقْرِس ولـم يقـدر علـى الركوب فكان يحمل في المِحَفًةِ ووصل إلى داره في صفر من سنة سبع وطال مرضه وبعث كاتبه أبا الصَّقْرِ بن بُلْبُل إلى الميْدان فجاء بالمعتمد وأولاده وأنزله بداره ولم يأت دار الموفّق فارتاب الأولياء لذلك وعمد غِلْمَانُ أبي العبّاس فكسروا الأقفال المغلقة عليه وأخرجوه وأقعدوه عند رأس أبيه وهو يجود بنفسه فلما فتح عينه قرّبه وأدناه وجمع أبو الصقر عنده القوّاد والجند. ثـم تسامـع النـاس أن الموفّـق حـيّ فتسلّلـوا عن أبي الصفر وأوّلهم محمد بن أبي الساج فلم يَسَعْ أبا الصقـر إلا الحضـور بدار الموفٌق فحضر هو وابنه وأشاع أعداءُ أبي الصقر أنه هرب بمال الموفّق إلـى المعتمـد فنهبـوا داره وأخرِجَـت نسـاؤه حُفـاةً عُـراةً ونُهِـبَ مـا يجـاوره من الدُور وفتقت السجـون ثـم خلـع المُوَفَّـقُ علـى ابنه أبي العبَّاس وأبي الصقر وركب إلى منزلهما وولّى أبو العباس غلامـه بـدار الشرطـة. ثـم مات لثمانٍ بقين من صفر سنة ثمانٍ وسبعين ودفِنَ بالرصافة واجتمع القـوّاد فبايعوا ابنه أبا العبّاس المُعْتَضِد باللّه واجتمع عليه أصحاب أبيه ثم قبض المعتضد على أبي الصقر ابن بلبل وأصحابه وانْتُهِبَت منازلهم وولّى عبد اللًه بن سُليمان بن وهب الوِزَارَةَ وبعـث محمـد بـن أبـي السـاج إلى واسط ليردِّ غلامه وصيفاً إلى بغداد فأبى وصيف وسار إلى السُّوس فأقام بها. القرامِطَة ابتداء أمر القرامطة كان ابتداء أمرهم فيما زعموا أن رجلاً ظهر بسواد الكوفة سنة ثمانٍ وسبعين ومائتين يتسم بالزُهد وكان يدعى قُرْمُط يقال لركوبه على ثور كان صاحبه يدعى كَرْمَيْطة فعُرِّب وقيل بل اسمه حمدان ولقبه قرمط. يقال وزعم أنه داعيةٌ لأهل البيت للمنتظر منهم. واتَّبَعه العبَّاس فقبـض عليه الهَيْصَم عامل الكوفة وحبسه ففرّ من حبسه وزعم أن الإغلاق لا يمنعه. ثم زعم أنـه الـذي بشَـر بـه أحمـد بـن محمـد بـن الحَنَفِيَّـة وجاء بكتاب تناقله القرامِطَة فيه بعد البسملة: يقول الفرح بن عُثمانَ من قرية نَصرانة أنه داعِيَةُ المسيح وهو عيسى وهو الكلمة وهو المَهْدِيّ وهو أحمد بن محمَّد بن الحَنَفِيَّة وهو جِبريل. وإن المسيح تصوّر له في جسم إنسان فقال له إنك الداعية وإنك الحُجَّةِ وإنك الناقة وإنك الدابَّة وإنك يحيى بن زكريّا وإنك روح القدس وعرفه أن الصلاة أربعُ ركعات قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها وأن الأذان بالتكبير في افتتاحه وشهـادة التوحيـد مرّتيـن ثم شهادة بالرسالة لآدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم عيسى ثم محمد صلوات اللـه عليهـم ثـم لأحمـد محمـد بـن الحَنَفِيّـة ويقـرأ الاستفتـاح فـي كـل ركعَـةٍ وهـو مـن المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية والقبلة بيتُ المَقْدِس والجُمعة يوم الاثنين ولا يعمل فيه شيء. والسورة التي تقرأ فيها: الحمد لله بكلمته وتعالى لاسمه المُنْجد لأوليائه بأوليائه قل إن الأهلة مواقيت للناس ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام وباطنها أوليائـي الذيـن عرفوا عبادي سبيلي اتقوني يا أولي الألباب وأنا الذي لا أسأل عما أفعل وأنا العليم الحكيم وأنا الذي أبلو عبادي وأمتحن خلقي فمن صبر علـى بلائـي ومحنتـي واختبـاري ألقيتـه فـي جنتـي وفـي نعمتـي ومـن زال عـن أمري وكذب رسلي أخلدته مهاناً في عذابي وأتممت أجلي وأظهرت على ألسنة رسلي. فأنا الذي لم يعل جبار إلا وضعته وأذللته فبئس الذي على أمره ودام جهالته. وقـال: لـن نَـبْرَح عليـه عاكفيـنَ وبـه موقنيـن أولئك هُمُ الكافرون. ثم يركعُ ويقول في ركوعه مرتين: سبحـان رَبّـي وربّ العِـزة وتعالى عمّا يَصِفُ الظالمون وفي سجوده: الله أعلى مرتين الله أعظم مرة والصوم مشروع يوم المِهْرَجان والنَّيْرُوز. والنبيذ حـرام والخمـر حلـال والغُـسْل مـن الجنابـة كالوضوء. ولا يؤكل ذو ناب ولا ذو مخالب. ومَن خالفهم وحارب وجب قتله وإن لم يحارب أخِـذت منـه الجزيـة وانتهـى. إلـى غيـر ذلـك من شنيعة متعارضة يهدم بعضُها بعضاً وتشهد عليهم بالكَذِب. وهذا الفَرَحُ بن يحيى الذي ذكر هذا أول الكتاب أنه داعِيَةُ القَرَامِطَةِ يُلقَب عندهم ذِكْرَوَيْه بن مَهْرَوَيْه. ويقال: إن ظهور هذا الرجل كان قبل مقتل صاحب الزنج وإنه سار إليه علـى الأمـان وقـال لـه: إن ورئـي مائـة سيـف فتعـالَ نتناظَـرْ فلعلنا نتّفق ونتعاون. ثم تناظرا فاختلفا وانصرف قُرمط عنه. وكان يسمي نفسه القائم بالحق. ويزعم بعض الناس أنه كان يرى رأي الأزارِقَةِ من الخوارج. فتنة طرسوس قد تقدم لنا انتقاض بازمان بطرسوس على مولاه أحمد بن طولون وأنه حاصـره عليـه وأنـه راجـع بعـد طاعـة ابنـه خَمـارَوَيْه ممـا حمـل إليـه مـن الأمـوال والأمتعـة والسلـاح فاستقـام أمره بطرسـوس مدّةً وغزا سنة ثمانٍ وسبعين بالصائفة مع أحمد الجُعْفِيّ وحاصروا اسْكَنْدا فأصيب بحجر مَنْجَنيق فرجع وهلك في طريقه ودُفِنَ بطرسوس. وكان استخلف ابن عَجيف فأقَره خمارويـه وأمـده بالخيـل والسلـاح والمـال. ثـم عزلـه واستعمـل عليهـا ابن عمّه ابن محمد بن موسى بن طولون. ولما تُوُفِّي المُوَفًقُ نزعَ خادم من خواصِّه اسمه راغب إلى الشكِّ وطلب المُقَامَ بالثّغْرِ للجهـاد فـأذِنَ له المُعْتَضِدُ فسار إلى طرسوس وحطً أثقاله بها وسار إلي لقاء خمّارويه بدِمَشْقِ فأكرمـه واستجلـب أنسَـهُ فطـال مُقامه وألهم أصحابه بطرسوس أنه قبض عليه فأوصوا أهل البلد فـي ذلـك فوثبـوا بأميرهـم محمـد بـن موسـى حتـى يُطْلِقَ لهم راغبَ وبلغ الخبر إلى خمارويه فأطلقه فجـاء إليهـم ووبخهـم علـى فعلهـم فأطلقوا محمد بن موسى وسار عنهم إلى بيت المقدس فأعادوا ابن عجيف إلى وِلايَتِهِ. فتنة أهل الموصل مع الخوارج قد تقمّ لنا أن هارون بن سليمان كان على الشَرَاةِ من الخوارج وكان بنـو شَيْبـانَ يقاتلونهـم ويَغيـرون علـى الموصـل. فلمـا كانـت سنـة تسـعٍ وسبعيـن جـاء بنـو شيبـان لذلـك وأغاروا على سُوى وغيرها من الأعمال فاجتمع هارونُ الشاري في الخوارج وحَمْدان بن حَمْدون الثعلبي على مدافعتهـم. وكـان مـع بنـي شيبـان هـارون بـن سيمـا مولـى أحمـد بـن عيسـى بـن الشيـخ الشَيْبَانِـيّ بعثـه محمد بن إسحاق بن كِنْدَاجق والياً على الموصل عندما مات أبوه إسحاق ووليَ مكانه على أعماله بالموصل وديار ربيعَةَ فلم يَرْضَهُ أهل الموصل وطردوه فسار إلى بني شيبان مُسْتَنْجِداً بهم فلما التقى الجمعان انهزم بنو شيبان أولاً واشتغل أصحاب حمدان والخوارج بالنهب فكرّ عليهم بنو شيبان وظفروا بهم. وكتب هارونُ بن سيما إلى محمَّدٍ بن إسحاق بن كِنْداجُق يستمدّه فسار بنفسه وخَشِيَهُ أهل الموصل فسار بعضهم إلى بغداد يطلبون عاملاً يكفيهم أمر ابـن كِنْداجُـق ومـرّوا فـي طريقهـم بمحمَّـد بـن يحيـى المجـروح الموكَـل بحفـظ الطريـق فألفـوه وقد وصل إليه بولاية العهد بالموصل فبادر ملكها وتواثق ابن كنداجق في مكانه وبعث إلى خمارويه بالهدية وشمـال إمارة الموصل كما كان من قبل فلم يُجِبْهُ إلى ذلك ثم عزل المجروح وولى بعده علي بن داود الكردي. الصّوائف الصوائف أيام المعتمد وصـل الخبـر فـي سنـة سبـع وخمسيـن بـأنّ ملـك الـروم بالقسْطَنْطينيّـة ميخائيـل بـن روفائيل وثب عليه قريبه مسك ويعرف بالصقلي فقتله لأربع وعشرين سنة من ملكه وملك مكانه. وفي سنة تسع وخمسين خرجت عساكر الروم فنازلوا سمسياط ثم نازلوا مليطة وقاتلهم أهلها فانهزموا وقتـل بطريـق مـن بطارقتهـم وفي سنة ثلـاث وستين استولى الروم على قلعة الصقالبة وكانت ثغراً لطرسـوس وتسمَّـى قلعـة كَرْكَـرَةَ فـرد المعتمـد ولايـة ثـغْر طرسـوس لابـن طولـون. وكـان أحمـد بـن طولون قد خطب ولايتها من الموفَّق يريد أن يجعلها ركاباً لجهاده لخبرته بأحوالها. وكان يردد الغزو من طرسوس إلى بلاد الروم قبل ولاية مِصْرَ فلم يُجِبْه الموفّق وولّى عليها المُوَفَّق محمد بن هارون الثعلبـي واعترضه السَراة أصحاب مساور وهو مسافر في دجْلةَ فقتلوه فولّى مكانه أماجور بن أولغ بن طُرخان من التُرْكِ فسار إليها وكان غِرّاً جاهلاً فأساء السيرة ومنع أقران أهل كركره ميرتهـم وكتبـوا إلـى أهل طرسوس يشكون فجمعوا لهم خمسة عشر ألف دينار فأخذها أماجور لنفسه وأبطأ على أهل القلعة شأنها. فنزلوا عنها وأعطوها الروم وكثر أسف أهل طرسوس لذلـك بمـا كانـت ثغرَهُـم وعينـاً لهـم علـى العدوّ وبلغ ذلك المعتمَدُ لأحمد بن طولون بولايتها وفوّض إليهم أمر الثغور فولِيَها واستعمل فيها مَن يحفظ الثغر ويقيم الجِهاد وقارن ذلك وفاة أماجور عامل دمشق وملك ابن طولون الشام جميعها كما ذكرناه قبل. وفي سنة أربـع وستّيـن غـزا بالصائفـة عبـد اللـه بـن رشيـد بـن كـاوُس فـي أربعيـن ألفـاً مـن أهـل الثغـور الشامية فأثخن فيهم وغنم ورجع. فلما رحل عن البَدْبَدون خرج عليه بطريق سلوقية وقرة كوكب وحرسية وأحاطوا بالمسلمين فاستمات المسلمون واستَلْحَمَهم الروم بالقتل ونجا فلُّهم إلى الثغـر وأسـر عبـد اللَّـه بـن كـاوس وحمـل إلـى القُسْطَنْطِيييـةِ وفي سنة خمس وستين خرج خمسة من بطارقـة الـروم إلىِ أدَنة فقتلوا وأسروا والي الثغور أوخرد فعزل عنها وأقام مرابطاً. وبعث ملك الروم بعبد اللَه بـن كـاوس ومَـن معـه مـن الأسـرى إلـى أحمـد بـن طولـون وأهـدى إليـه عـدة مصاحف. وفي سنة سـت وستيـن لقـي أسطـول المسلميـن أسطـول الـروم عنـد صقليـة فظفـر الـروم بهـم ولحـق مَن سَلِـمَ منهـم بصقليـة وفيهـا خرجـت الروم على ديار ربيعَةَ واستنفر الناس ففرّوا ولم يطيقوا دخول الدرب لشدة البرد فيها. وغزا عامل ابن طولون على الغور الشامِية فـي ثلثمائـة مـن أهـل طرسـوس واعترضهـم أربعـة آلـاف مـن الـروم مـن بلاد هِرقل فنال المسلمون منهم أعظم النَيل. وفي سنة ثمانٍ وستين خرج ملك الروم. وفيها غزا بالصائفة خَلفُ الفَرغانيّ عامل ابن طولون على الثغور الشامِية فأثخن ورجع. وفي سنة سبعيـن زحـف الـروم فـي مائـة ألـف ونزلـوا قلميـة علـى ستـة أميال من طرسوس فخرج إليهم بازيار فهزمهم وقتل منهم سبعين ألفاً وجماعة من البطارقة وقتل مقدَّمهم بطريق البطارقة وغنم منهـم سبـع صلبـان ذهبـاً وفِضَّـةً وكـان أعظمهـا مكلَّـلاً بالجواهر. وغنم خمسة عشر ألف دابّة ومن السروج والسيوف مثل ذلك وأربع كـراسٍ مـن ذهب ومائتين من فِضة وعشرين علماً من الديباج وآنية كثيرة. وفي سنة ثلاث وسبعين غزا بالصائفة بازيار وتوغَّل في أرض الروم وقتل وغنم وأسر وسبى وعاد إلى طرسوس. وفي سنة ثمانٍ وسبعين دخل أحمد الجُعفي طرسوس وغزا مع بازيار بالصائفة ونازلوا إسكندا فأصيب بازيار عليها بحجر منجنيق فرجع ومات في طريقه ودُفِنَ بطرسوس. الولايات في النواحي الولايات بالنواحي أيام المعتز كانت الفتنة قد ملأت نواحي الدولة من أطرافها وأوساطها واستولى بنو سامان على ما وراء النهر والصفّار على سجستان وكرمان وملك فارسَ من يد عمال الخليفة وانتزع خراسان من بنـي طاهـر وكلهـم مـع ذلـك يقيمـون دعـوة الخليفـة. وغلب الحسن بن زيد على طبرستان وجرحان مُنازعـاً بالدعـوة ومحاربـاً بالديلـم لابـن سامـان والصفّـار وعساكـر الخليفـة بأصبهـان واستولى صاحـب الزِنْج على البصرة والأبَلّة إلى واسط وكور دجلة منازعاً للدعوة ومُشاققاً وأضرم تلك النواحـي فتنـة. ولـم يـزل الموفّـق فـي محاربتـه حتى حسم علَّته وقطع أثره واضطرمت بلاد الموصل والجزيـرة فتنةً بخوارج السراةِ وبالقرب من بني شَيْبان وتغلْب بالأكراد واستولى ابن طولون على مصر والشام مقيماً لدعوة الخلافة العباسية وابن الأغلب بإفريقية كذلك. وأما المغرب الأقصى والأندلس فاقتطعا عن المملكة العبّاسيّة منذ أزمان كما قلنا ولم يكن لِلْمُعتَمَدِ مدة خلافته كلها حكم ولا أمر ونهي إنما كان مغلباً لأخيه الموفق وتحت استبداده ولم يكـن لهمـا جميعـاً كبيـر ولايـة فـي النواحـي باستيـلاء مَن استولى عليها ممّن ذكرناه إلا بعض الأجناس فلنذكـر مـا وصـل إلينـا مـن هذه الولايات أيام المعتمد فلأول ولايته استوزر عُبَيْدَ الله بن يحيى بن خاقـان وبعـث جعلـان لحرب الزنج بالبصرة فكان أمره معهم كما مرّ. ثم ولّي عيسى ابن الشيخ مـن بنـي شيبـان علـى دمشـق فاستأثـر بهـا ومنـع الخـراج وجاءه حسين الخادم من بغداد يطلب المال فاعتـذر بأنـه أنفقـه علـى الجنـد فكتـب لـه المعتمـد عهـده فـي أرمينيَّة ليقيم بها دعوته وقلّد أماجور دمشـق وأعمالهـا فسـار إليهـا وأنفـذ عيسى ابن الشيخ ابنه منصوراً لقتال أماجور في عشرين ألفاً فانهزموا وقتل منصور وسار عيسى إلى أرمينية على طريق الساحل ودخل أماجور دمشق. |
وفي سنة سـت وخمسيـن
سـار موسـى بـن بغـا لحـرب مُسَـاوِرٍ الخارجـيّ فلقيه ساحة جائعين فنال الخـوارج منهـم. وفيهـا كـان وثـوب محمـد بـن واصـل بـن إبراهيـم التميمـي علـى الحـارث بـن سيمـا عامـل فارس فقتله وغلب عليها كما مرّ. وفيها غلب الحسن بن زيد الطالبي على الري فسار إليها موسى بن بغا وغلب على عساكر الحسن وظهر علي بن زيد بالكوفة وملكها وبعث المعتمد لمحاربة كيجور التركي فخرج عنها إلى القادسية ثم إلى ختان ثمّ إلى بلاد بني أسد. وغزاه وفي سنة سبـع وخمسيـن عقـد المعتَمَـدُ لأخيـه المُوَفَـق علـى الكوفة والحَرَمَيْن واليمن ثم على بغداد والسـواد إلـى البصـرة والأهـواز وأمـره أن يعقـد ليارجـوج على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد الحاجب. وعقد يارجوج على ذلك لمنصور بن جعفر والخياط ونزل الأهواز. ثم عقد المعتمد حرب الزنج بالبصرة لأحمد بن المُوَلّد فسار إليه وقاتل الزنج. وكان بالبطائح سعيد بن أحمد الباهليّ متغلِّباً عليها فأخذه ابن المولد وبعث به إلى سامرّا. وفيها تغلّـب يعقـوب الصفّـار علـى فـارس وبعـض أعمـال خُراسـان وولـاه المعتمد ما غلب عليها وفيها غلب الحَسَنُ بن زيد على خُراسان وانتقضت على ابن طاهر أعمال خُراسان. وفيها اقتطـع المعتمـد مصر وأعمالها ليارجوج التُركْيّ فولَى عليها أحمد بن طولون ومات يارجوج لسنة بعدهـا فاستبـدّ ابـن طولـون بهـا وكان عبد العزيز بن أبي دلف على الريّ فخرج عليها خوفاً من جيـوش ابـن زيد صاحب طبرستان فبعث الحسن من قرابته القاسم بن علي بن القاسم فأساء فيها السيرة. وفي سنة ثمـانٍ وخمسيـن قُتِـلَ منصـور بـن جعفـر الخَيّـاط فـي حـرب الزنـج وولـى يارجـوج علـىِ أعمال منصور فولى عليها اصطيخور وهلك في حرب الزنج وعقد المُعتَمَدُ للمُوَفَقِ على ديار مصر وقِنْسريـن والعواصـم. وبعثـه لحرب الزِنْج ومعه مُفْلِح فهلك في تلك الحرب. وعقد المعتمد على الموصل والجزيرة لمسرورٍ البلخيّ فكانت بينه وبين مساوِر الشيباني حروب وكذلك بين الأكراد واليعقوبية وأوقع بهم كما مر وفيها رجع أحمد بن واصل إلى طاعة السُلطان وسلَم فارس للحسن بن الفياض. وفي سنة تسع وخمسين كان مهلك اصطيخور بالأهواز فأمر المعتمد موسى بن بغا بالمسير لحرب الزنج كما مر وفيها ملك يعقوب الصفار خُراسان وقبض على محمـد بـن طاهـر وكـان لمنكجـور علـى الكوفـة فسار عنها إلى سامرا بغير إذن وأمر بالرجوع فأبى وبعث المعتمد عدة من القواد فلقوه بَعكبرا فقتلوه وحملوا رأسه. وفيهـا غلـب الحسـن بـن زيـد علـى قَوْمِـسَ وملكهـا وكانـت وقعـة بيـن محمَـد بن الفضل بن نيسان وبين دهشودان بن حسًان الدَيْلمِي فهزمه محمد. وفيها غلب شركب الحمَال على مرو ونواحيها. وفي سنة ستين قام يعقوب بن الصفار على الحسن بن زيد فهزمه وملك طبرستان كما مر وأخـرج أهـل الموصـل عامِلهـم أتكوتكيـن بـن أساتكيـن فبعث عليهم أساتكين إسحاق بن أيوب في عشرين ألفاً ومعه حمدان بن حمدون الثعلبيّ فامتنع أهل الموصل منهم وولّوا عليهم يحيى بن سليمان فاستولى عليها. وفيها قتلت الأعراب منكجور والي حِمْص فولّى بكتر. وولى على أذرَبيجَـان الرذَيَنـي عُمَـرَ بـن علـي لمـا بلغـه أن عاملهمـا العـلاء بـن أحمـد الـأزديّ فُلِـج. فلمـا أتـى الرذينـي حاربه العلاء فانهزم وقتل واستولى الرذيني على مخلفه قريباً من ألفيّ ألف وسبعمائـة ألـف درهم. وفيها سار علي بن زيد القائد بالكوفة إلى صاحب الزنج فقتله. وفي سنة إحدى وستين عقد المعتمد لموسى بن بغا على الأهواز والبصرة والبحرين واليمامة مضافاً لما بيده. فولّاها عبد الرحمن بن مُفْلِح وبعثه لحرب ابن واصل فهزمه ابن واصل وأسره كما مر. ورأى موسى بن بَغا اضْطِراب تلك الناحية فاستعفى منها ووليهَا أبو الساج ومَلَكَ الزِنْجُ الأهوَازَ من يده فصُرِفَ عن ولايتها ووليها إبراهيم بن سيما وولي محمد بن أوْس البَلْخِي طريـق خُراسـان. ثـم جـاء الصفـار إلـى فارِسَ فغلب عليها ابن واصل كما مر فجهز المعتمد أخاه المُوَفَّقُ إلى البصرة بعد أن ولاه المعتمد عهده بعد ابنه جعفر كما ذكرناه. وبعت المُوَفَقُ ابنه أبا العبـاس لحـرب الزنـج فتقدمـا بيـن يديـه. وفيهـا فـارق محمد بن زيد ولاية يعقوب الصفّار وسار ابن أبـي السـاج إلى الأهواز وطلب أن يوجه الحسين بن طاهر بن عبد اللًه بن طاهر إلى خُراسان وفيهـا استبـدّ نَصـرُ بـن أحمـد بـن لجهيـن بسَمرْقَنْد وما وراء النهر وولى أخاه إسماعيل بُخارا وفيها ولى المُعْتَمَد على الموصل الخُضر بن أحمد بن عُمَرَ بن الخَطاب. وفيها رجع الحسَيْنُ بن زَيْد إلى طَبَرْسَتان وأخرج منها أصحاب الصفَّار وأحرق سالوس لممالأة أهلها الصفار وأقطع ضياعهم للدَيْلم وفيها نادى المعتمد في حاج خراسان والري وطَبَرسَتان وجَرْجـان بالنَّكيـر علـى مـا فعلـه الصفَار في خُراسان وابن طاهر وأنه لم يكن عن أمره ولا ولاه. وفيها قتل مساور الشاربي يحيى بن جعفر من ولاة خراسان فسار مسرور البَلخيّ في طلبه والموفّق من ورائه. وفي سنة اثنيـن وستيـن كانـت الحـرب بيـن الموفـق والصفـار واستولـى الزنـج علـى البطيحـة ودسميسـان وولـى علـى الأهـواز كمـا ذكرنا وبعث مسرور البلخي أحمد بن ليتونة لحربهم كما مر. وفيها ثار أحمد بن عبد اللـه الخُجِسْتانـي فـي خراسـان بدعـوة بنـي طاهـر وغلـب عيهـا الصفـار إلـى أن قتـل كمـا مـرِّ ذكره. وفيها وقعت مغاضَبَة بين الموفق وابن طولون فبعث إليه الموفّق موسى بن بَغا فأقام بالرّقة حولاً وعجز عن المسير لقلة الأموال إلى العراق. وفيهـا انصـرف عامـل الموصـل وهـو القطان صاحب مفلح فقتله بالبرية. وفي سنة ثلاث وستين استولى الصفار على الأهواز ومات مساور الشاربي وهو قاصد لقاء العساكر السُلطانيّة بالبواريخ فولى الخوارج مكانه هارون بن عبد الله البَلْخِي فاستولى على الموصل. وفيها ظفر أصحاب الصفار بابن واصل. وفيها هزم ابن أوس من طريق خُراسان وعـاد إلـى الموصل. وفيها ظفر أصحاب الصفّار بابن واصل وأسروه ومات عُبَيْدُ اللَّه بن يحيى بن خاقان وزيرُ المُعْتَمدِ فاستوزر مكانه الحسن بن مُخلِد وكان موسى بن بَغا غائباً في غزو العرب فلما قَدِمَ خافه الحسين وتغيبَ فاستوزر مكانه سليمان بن وهب. وفيها غلب أخو شَرْكَب الحمَّال على نيسابور وخرج عنها الحسين بن طاهر إلى مرو وبها خوارزم شاه يدعو لأخيه محمد. وفيها ملك الزِنْجُ مدينة واسط وقاتله دونها محمد بن المُوَلّد فهزمه ودخلها واستباحها. وفيها قبـض المعتمـد علـى وزيره سليمان بن وَهْب وولّى مكانه الحسن بن مُخْلِد وجاء المُوَفَقُ مع عبد اللَّـه بـن سليمـان شفيعـاً فلـم يُشْفِعـهُ فتحـوّل إلـى الجانب الغربي مُغاضباً واختلفت الرّسل بينه وبين المعتمد وكان مع الموفّق مسرور كيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا. ثم أطلق سليمان ودعا إلى الجوسـق وهـرب محمـد بـن صالـح بـن شيـرزا والقـواد الذيـن كانوا بسامُرّا مع المعتمد خوفاً من المُوَفَّق فوصلـوا إلـى الموصـل. وكتـب الموفـق لأحمـد بـن أبـي الأصبـغ فـي قبـض أموالهم. وفيها مات أماجور عامل دمشق وملك ابن طولون الشام وطرسوس وقتل عاملها سيما. وفي سنة خمس وستين وليَ مسرور البلخي على الأهواز وهزم الزنج. وفيها مات يعقوب الصفًار وقام بأمره أخوه عمر ولاه الموفّق مكان أخيه بخراسان وأصبهان وسجستان والسند وكرمان والشُّرطة ببغداد. وفيها وثب القاسم بن مهان بدُلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بأصبهان فقتله فوثب جماعة من أصحاب دلف بالقاسم فقتلوه فولِيَ أصبهان أحمد بن عبد العزيز أخو دلف. وفيها لحق محمد بن المولد بيعقوب الصفّار وقبضت أمواله وعِقاره ببغداد. وفيها حبس الموفًق سليمان بن وهب وابنه عبد الله وصادرهما على تسعمائة ألف دينار - وفيها ذهب موسى بن أتامش وإسحاق بن كنداجق والفضل بن موسى بن بغا مُغاضبين. وبعث الموفّق في أثرهم صاعد بن مخلد فردهم من صرصر. وفيهـا استـوزر المُوَفّـق أبا الصقر إسماعيل بن بُلْبُل. وفي سنة ستٍّ وستّين ملك الزنجُ رامَهُرْمُز وغلـب أساتكين على الريّ وأخرج عنها عاملَها فُطْلَقْت. ثم مضى إلى قزوين وبها أخوه كيغلغ فصالحه وملكها. وفيها ولّى عليّ بن الليثِ على الشرطة ببغداد عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن طاهر وعلى أصبهان أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلف وعلى الحرَمَيْن وطريق مكة محمد بن أبـي الساج. وولّى الموفّق على الجزيرة أحمد بن موسى بن بَغا فولّى من قِبَلِه على ديار ربيعَةَ موسى بن أتامش فغضب لذلك إسحاق بن كنداجق وفارق عسكر موسى وسار إلى بلد وأوقع بالأتراك اليَعقوبِيَّةِ. ثم لقي ابن مساور الخارجيّ فقاتله. وسار إلى الموصل وطلب من أهلها المال وخرج عليّ بن داود لقتاله مع إسحاق بن أيوب وحَمْدان بن حمدون وكانت بينهم حروب آخرها المعتمد وعقد لإسحاق بن كنداجق على الموصل وقد مرّ ذلك من قبل. وفيها قتل أهلُ حِمْصَ عاملها عيسى الكرخيّ. وفيها كانت بين لؤلؤ غلام ابن طولون وبين موسى بن أتامش وقعةً برأس عين وأسره لؤلؤ وبعث به إلى الرقّة. ثم لقيه أحمد بن موسى فاقتتلـوا وغلـب أحمـد أولاً ثـم كـر لؤلـؤ فغلبهم وانتهوا إلى قرقيسيا ثم ساروا إلى بغداد وسامرّا. وفيها أوقع أحمد بن عبد العزيز ببكتم فانهزم ولحق ببغداد وأوقع الخجستاني بالحسن بن زيد بجرجان فلحق بآمد وملك الخجستاني جرجان وأقطعه من طبرستان واستخلف على سارية الحسـنَ بـن محمَّد بن جعفر بن عبد الله العقيقي بن حسين الأصفر بن زين العابدين. فلما انهزم الحسن بن زيد أظهر الحسن بن محمد أنه قتل ودعا لنفسه وحاربه الحسن بن زيد فظفر به وقتله. وفيهـا ملـك الخُجِسْتَانِـيّ نيسابـور مـن يد عامل ابن عمرو بن الليث وفيها في صَفَر زحف الموفق لقتال صاحب الزنج فلم يزل يحاصره حتى اقتحم عليه مدينته وقتله منتصف سنة سبعين. وفيها كانت الحرب بالمدينة بين بني حسن وبني جعفر. وفي سنة سبع وستين كانت الفتنة بالموصـل بيـن الخـوارج. وفيهـا حبـس السلطـان محمـد بـن عبـد اللَّـه بن طاهر وجماعة من بيته اتّهمه عمـرو بـن الليـث بممالـأة الخُجستانيّ والحسين بن طاهر أخيه فكتب إلى المعتمد وحبسه. وفيها كانت بين كيغلغ التركي وأحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وانهزم أحمد وملك كيغلغ همذان وفيهـا أزال الخُجستاني ذكر محمد بن طاهر من المنابر ودعا لنفسه بعد المعتمد وضرب السكَّة باسمـه وجـاء يريـد العـراق فانتهـى إلى الريّ ثم رجع. وفيها أوقع أصحاب الساج بالهيثم العجلي صاحـب الكوفـة وغنموا عسكره. وفيها أوقع أبو العباس بن الموفق بالأعراب الذين كانوا يجلبون الميرة بالزنج من بني تميم وغيرهم. وفي سنة ثمـان وستيـن كـان مقتـل الخجستانـي. وأصحابـه بعـده. علـى رافـع بـن هَرْثَمـة مـن قـوَّاد بني طاهر وملك بلاد خُراسان وخوارَزْم. وفيها انتقض محمد بن الليث بفارِس على أخيه عمـرو فسار إليه وهزمه واستباح عسكره وملك أصطيخور وشيراز وظفر به فحبسه كما مرّ وفيها كانت وقعة بين أتكوتكين بن أساتكين وبين أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَف فهزمه أتكوتكيـن وغلبـه علـى قُـمّ. وفيهـا بعـث عمـرو بـن الليـث عسكـراً إلـى محمد بن عبد اللّه الكردي. وفيها انتقض لؤلؤ على مولاه أحمد بن طولون وسار إلى المُوَفق وقاتل معه الزِنْج وفيها سار المعتمد إلى ابن طولون بمصْرَ مُغاضباً لأخيه المُوَفّق. وكتب المُوَفّق إلى إسحاق بن كِنداجُق بالموصـل بـردة فسـار معـه إلـى آخـر عملـه. ثـم قبـض علـى القـوّاد الذين معه ورده إلى سامرا. وفيها وثـب العامـة ببغـداد بأميرهـم الخَلَنْجِـيّ وكـان كاتـب عُبَـيْدِ اللـه بـن طاهر. وقتل غلام له امرأة بسهم فلم يعدِهم عليه فوثبوا به وقتلوا من أصحابه ونهبوا منزله وخرج هارباً فركب محمد بن عبد وفيهـا وثـب بطرسـوس خلـق من أصحاب ابن طولون وعامله على الثغور الشاميَّة فاستنقذه أهل طرسـوس مـن يـده وزحـف إليهـم ابـن طولـون فامتنعـوا عليـه ورجـع إلـى حمـصَ ثـم إِلى دمشق. وفيها كانت وقعة بين العَلَوِيّين والجعفريّين بالحجاز فقتل ثمانية من الجعفريين وخلصوا عامل المدينة من أيديهم. وفيها عقد هارون بن الموفق لأبي الساج على الأنبار والرَحَبَةَ وطريق الفرات. وولى محمـد بـن أحمـد علـى الكوفة وسوادها ودافعه عنها محمد بن الهيثم فهزمه محمد ودخلها. وفيها مـات عيسـى بـن الشـيْخ عامـل الشَيْبَانِـيّ عامـل أرمينيـة وديـار بكـر. وفيهـا عَظُمَت الفتنة بين المُوَفّق وابـن طولـون فحمـل المُعْتَمـد على لعنه وعزله وولى إسحاق بن كنداجق على أعماله إلى إفريقية وعلى شرطة الخاصة. وقطع ابن طولون الخطبة للْمُوَفّق واسمه من الطِرَازِ. وفيها ملك ابن طولون الرَحَبَةِ بعد مقاتلة أهلِها وَهَرَب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشام. ثم سار إلى ابن الشمَّاخ بقَرْقيسيا. وفي سنة سبعيـن كـان مقتـل صاحـب الـزنْج وانقـراض دعوتـه ووفـاة الحسـن بـن زَيْدٍ العَلَـوِيِّ صاحب طَبَرْسَتَان وقيام أخيه محمد بأمره ووفاة أحمد بن طولون صاحب مِصْر وولاية ابنه خَمَارَوَيْه ومسير إسحاق بن كِنْداجُق بابن دعامس عامل الرقَّة والثُغور والعواصم لابن طولون. وفي سنة إحـدى وسبعيـن ثـار بالمدينـة محمـد وعلـي ابنـا الحسـن بـن جعفـر بـن موسـى الكاظـم وقتـلا جماعـة مـن أهلهـا ونهبـا أمـوال النـاس ومنعـا الجُمعة بمسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شهراً وفيهـا عـزل المُعْتَمِـد عَـمْرو بـن الليـث مـن خُراسـان فقاتلـه أحمد بن عبد اللّه بن أبي دلف بأصْبَهان وهزمـه. وفيهـا استعـاد خمارويـه الشـام مـن يـد أبـي العبَّـاس بـن الموفـق وفـرّ إلى طرسوس كما تقدمّ. وفيهـا عقـد المعتمـد لأحمـد بـن محمـد الطائـي علـى المدينة وطريق مكَة وكان يوسف بن أبي الساج والي مكة وجاء بَدر غُلامُ الطائي أميراً على الحاج فحاربه يوسف على باب المسجد الحرام وَأسره فسار الجند والحاج بيوسف وأطلقوا بدراً من يده وحملوا يوسف أسيراً إلى بغداد. وفـي منتصـف سنـة اثنتيـن وسبعيـن غلـب اتكوتكيـن علـى الـريّ مـن يد محمد بن زيد العَلَوِيّ سار هو من قَزْوين في أربعة آلاف ومحمد بن زَيْدٍ من طَبَرْسَتان في الدَيْلم وأهل خُراسان فانهزموا وقتـل منهـم ستـة آلـاف. وفيهـا ثـار أهـل طرسـوس بأبـي العبـاس بـن المُوَفّـق وأخرجـوه إلـى بغـداد وولـوا عليهـم بازيـار. وفيهـا توفـي سُلَيْمـان بـن وَهْبِ فـي حبـس الموفـق. وفيهـا دخل حَمْدان بن حَمدون وهارون مدينة الموصل. وفيها قدم صَاعد بن مخلد الوزير من فارس وقد كان بعثه الموفق إليها لحرب فرجع إلى واسط وركب القوّاد لاستقباله فترجلوا إليه وقبلوا يده ولم يكلمهم. ثم قبـض الموفـق علـى جميـع أصحابـه وأهله ونهب منازلهم وكتب إلى بغداد بقبض ابنه أبي عيسى وصالح وأخيه عَبْدون واستكتب مكانه أبا الصَّقْر إسماعيل بن بلبل واقتصر به على الكتابة. وفيها جاء بنو شَيْبان إلى الموصل فعاثوا في نواحيها واجمع هارون الشَارِبِيّ وأصحابه على قصدهـم وكتـب إلـى أحمـد بـن حمـدون الثَعْلبـي فجـاءَه وسـاروا إلـى الموصـل وعبـروا الجانـب الشرقي مـن دجلـة. ثم ساروا إلى نهر الحادر فلما تراءى الجمعان انهزم هارون وأصحابه وانجلى سوى عنها. وفي سنة ثلـاث وسبعيـن وقعـت الفتنـة بيـن ابـن كِنْداجُـق وبيـن ابـن أبـي السـاج وسـار ابـن أبـي السـاج إلى ابن طولون واستولى على الجزيرة والموصل وخطب له فيها وقاتل الشراة كما ذكرنا. وفيها قبـض المُوَفّـقُ علـى لؤلـؤ غلـام ابـن طولـون وصـادره علـى أربعمائـة ألـف دينـار. وبقـي فـي إدبـار إلـى أن عاد إلى مِصرَ أيام هارون بن خَمَارَوَيْه. وفي سنة أربع وسبعين سار الموفق إلى فارس فاستولى عليها من يد عمرو بن الليث ورجع عمرو إلى كرمان وسِجِسْتان وعاد الموفق. إلى بغداد. وفي سنة خمس وسبعين نقض. ابن أبي الساج طاعة خمارويه وقاتله خمارويه فهزمه وملك الشـامِ مـن يـده وسـار. إلـى الموصـل وخمارويـه فـي اتباعـه إلى بغداد ولحق ابن أبي الساج بالحُديْثةِ فأقام بها إلى أن رجع خمارويه. وكان إسحاق بن كنداجق قد جاء إلى خمارَويه فبعث معه جيشاً وقواداً في طلب ابن أبي الساج واشتغل بعمل السفن للعبور إليه فسار ابن أبي الساج عنها إلى الموصل واتّبعه ابن كنداج وسار إلى الرقَة فاتّبعه ابن أبي الساج وكتب إلى الموفّق يستأذنـه في اتباعه إلى الشام. وجاء ابن كنداج بالعساكر من عند خمارويه وأقام على حدود الشـام. ثـم هـزم ابـن أبـي الساج فسار إلى الموفّق وملك ابن كنداج ديار ربيعة وديار مُضَر وقد تقدّم ذكر ذلك. وفيها خرج أحمد بن محمد الطائي من الكوفة لحرب فارس العبدي كان يخيف السابلة فهزمه العبدي وكان الطائي على الكوفة وسوادها وطريق خُراسان وسامرا وشرطة بغداد وخراج بادردبـاد قطربـل. وفيهـا قبـض الموفـق علـى ابنـه أبـي العباس وحبسه. وفيها ملك رافع بن هَرْثَمَةَ جَرْجان من يد محمد بن زيْدٍ وحاصره في استراباذ نحواً من سنتين ثم فارقها الجيش لحربه فسـار عـن ساريـة وعـن طبرستـان سنـة سبـع وسبعيـن. وأستأمـن رستـم بـن قارِن إلى رافع وقدم عليـه علـيّ بـن الليـث مـن حبـس أخيـه بكرمـان هـو وابنـاه العدل والليث. وبعث رافع على سالوس محمد بن هارون وجاء إليه علي بن كاني مستأمِناً فحصرهما محمد بن زيد وسار إليه رافع ففرّ إلى أرض الدَيْلم ورافِع في اتباعه إلى حدود قزوين فسار فيها وأحرقها وعاد إلى الريّ. وفي سنة ست وسبعين رضي المُعْتَمِدُ عن عمرو بن الليث وولاه وكتب اسمه على الأعلام وولـى علـى الشُرْطـة ببغـداد مـن قِبَلِـه عُبَيْد اللّه بن عبد الله بن طاهر. ثم انتقض فأزيل. وفيها كان مسير الموفق إلى الجبل لأتكوتكين ومحاربة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وقد تقدمّ ذلـك. وفيها ولّى الموفّقُ ابن أبي الساج على أذرَبَيجَان فسار إليها ودافعه عبد الله بن حسن الهمذانـي صاحـب مراغـة فهزمـه ابـن أبـي السـاج واستقر في عمله. وفيها زحف هارون الشاري من الحديثة إلى الموصل يريد حربها ثم صانعه أهل الموصل ورحل عنهم. وفي سنة سبع وسبعين دعا مازيار بطرسوس لخمارَوَيْه بن أحمد بن طولون وكان أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مطرف وسلاحاً كثيراً. وبعث إليه بعد الدعاء بخمسين ألف دينار. وفي سنة ثمان وسبعين كانت وفاة المُوَفق وبيعة المُعْتَضِد بالعهد كما مرّ وفيها كان ابتداء أمر القَرامِطَـةِ وقـد تقـدّم. وفي سنة تسـع وسبعيـن خلـع جَعْفَر بن المعتمد وقدم عليه المعتضد وكانت الحـرب بيـن الخـوارج وأهـل الموصـل وبيـن بنـي شَيْبَـان. وعلـى بنـي شيبـان هـارون بـن سيمـا مـن قبل محمَـد بـن إسحـاق بـن كِـنْداج ولـاه عليهـا فطـرده أهلهـا فزحف إليهم مع بني شيبانْ ودافع عن أهل الموصل هارون الشاري وحمدان بن حمدون فهزمهم بنو شيبان وخاف أهل الموصل من ابن سيما وبعثوا إلى بغداد يطلبون والياً فولَّى المعتمد عليهم محمد بن يحيى المجروح الموكل بحفظ الطريق وكان ينزل الحُدَيْثة فأقام بها أياماً ثم استبدل منه بعلي بن داود الكردي. توفي المُعْتَمِد على الله أبو العبَّاس أحمد بن المُتَوَكِل لعشر بقين من رَجَب سنة تسع وسبعين ومائتين لثلاث وعشرين سنة من ولايته ودُفِنَ بسامُرا وهو أوّل من انتقل إلى بغداد وكان في خلافته مغلباً عاجزاً وكان أخوه الموفق مستَبِداً عليه ولم يكن له معه حكم في شيء. ولما مات المُوَفق سنة ثمان وسبعين كما قدّمناه أقام مكانه ابنه أبا العباس أحمد المعتضد وحَجَرَ المُعْتَمِـدَ كمـا كـان أبـوه يَحجُـرُهُ وولّاه عهده كما كان أبوه. ثم قسمه في العهد على ابنه جعفر ثم هلك فبايع الناس لِلْمُعْتَضِد بالخلافة صبيحة موته فولَّى غلامه بدراً الشرْطة وعُبَيْدَ اللّه بن سُلَيْمـانَ بـن وَهْب الوزارة ومحمد بن الشاري بن مالك الحرس. ووفد عليه لأوّل خلافته رسول عمرو بن الليث بالهدايا وسأل ولاية خُراسان فعقد له عليها وبعث إليه بالخِلع والْلِواء ولأوَّل خلافته مات نصر بن أحمد السامانيّ ملك ما وراء النهر وقام مكانه أخوه إسماعيل. مقتل رافع بن الليث كـان رافـع بن الليث قد وضع يده على قرى السلطان بالريِّ وكتب إليه المُعْتَضِد برفع يده عنها فكتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَف بإخراجه عن الريّ فقاتله وأخرجه وسار إلى جَرْجان ودخل نيسابور سنة ثلاث وثمانين فوقعت بينه وبين عمـر حـرب وانهـزم رافـع إلـى أسْوَرْد وخلص عمرو وابني أخيه من حبسه وهما العَدْلي واللَيْثُ ابنا علي بن الليث وقد تقـدّم خبرهمـا. ثـم سـار رافـع إلـى هَـراة ورصـده عمـر بسرخـس فشعـر بـه ورجع إلى نيسابور في مسالك صعبة وطرق ضيقة واتبعه عمر فحاصره في نيسابور. ثم تلاقيا وهرب عن رافع بعض قُوّاده إلى عمرو فانهزم رافع وبعث أخاه محمد بن هَرْثَمَةَ إلى محمد بن زيد يستمده كما شـرط لـه فلم يفعل. وافترق عن رافع أصحابه وغلمانه وفارقه محمد بن هارون إلى أحمد بن إسماعيل في بخارى ولحق رافع بخَوارَزْم في فَلٌ من العسكر ومعه بقية أمواله وآلته ومرَّ في طريقه بأبي سعيد المرداني ببلد. فاستغفلَه وغدر به وحمل رأسه إلى عمرو بن الليث بنيسابور وذلك في شوال سنة ثلاث وثمانين. خبر الخوارج بالموصل قد تقدَّم لنا أنَ خوارِجَ الموصل من الشراه استقدر عليهم بعد مُساوِر هارون الشاري وذكرنا شيئـاً مـن أخبارهـم. ثـم خـرج عليـه سنـة ثمانيـن محمَّـد بـن عَبـادة ويعـرف بأبـي جـوزة من بني زهير من البقعاء وكان فقيراً ومعاشه ومعاش بنيه في التقاط الكمأة وغيرها وأمثال ذلك وكان يتدَيَّن ويُظهر الزُهد ثم جمع الجموع وحكم واستجمع إليه الأعراب من تلك النواحي وقبض الزَكَوات والأعشـار مـن تلـك الأعمال وبنى عند سنجار حِصْناً ووضع فيه أمتعته وماعونه وأنزل به ابنه أبا هلال في مائة وخمسين فجمع هارون الشاري أصحابه وبدأ بحصار الحِصْن فأحاط به ومحمد بـن عبـادة فـي داخلـه. وجَـدّ فـي حصـاره حتـى أشـرف علـى فتحـه وقيـد أبـا هلـال ابنـه ونفـراً معـه وبعـث بنـو ثعلـب وهـم مـع هـارون إلـى مـن كـان بالحصـن مـن بنـي زهير فأمنوهم وملك هارون الحِصنَ. ثم ساروا إلى محمد فلقيهم وهزمهم أولاً ثم كرّوا عليه مستميتين فهزموه وقتلوا من أصحابه ألفاً وأربعمائة. وقسم هارون ماله ولحـق محمـد بآمـد فحاربـه صاحبهـا أحمـد بـن عيسى بن الشيخ فظفر به وبعثه إلى المُعتَضِدِ فسلخه حياً. إيقاع المعتضد ببني شيبان واستيلاؤه علي ماردين وفي سنة ثمانيـن سـار المُعْتَضـدُ إلـى بنـي شيبـان بـأرض الجزيـرة ففـروا أمامـه وأثـار علي طوائفَ من العرب عند السِّند فاستباحهم وسار إلى الموصل فجاءه بنو شَيْبَانَ وأعطوه رهنهـم علـى الطاعـة فغلبهـم وعـاد إلـى بغـداد. وبعـث إلـى أحمـد بـن عيسـى بـن الشيـخ فـي أمـوال ابـن كنـداج التي أخذها بأحمد فبعث بها وبهل أياماً كثيرة معها. ثم بلغه أن أحمد بن حمدون ممالئ لهارون الشـاري وداخل في دعوته فسار المعتضد إليه سنة إحدى وثمانين. واجتمع الأعراب من بني ثعلب وغيرهم للقائه وقتل منهم وغرق في الزاب كثيراً وسار إلى الموصل. ثم بلغه أن أحمد هرب عن ماردين وخلَّف بها ابنه فسار المعتضد إليه ونازله وقاتله يوماً ثم صعد من الغد إلى باب القلعة وصاح بابن حمدان واستفتح الباب ففتح له دَهَشاً وأمر بنقل ما في القلعة وهدمها وبعث في طلب حمدان وأخذ أمواله. الولاية علي الجبل وأصبهان عقد المُعتَضدُ سنة إحدى وثمانين لابنه عليّ وهو المكتفي على الريّ وقَزْوين وزَنْجان وأبهَر وقدم وهَمَذَان والدّيْنور فاستأمن إليه عامل الريّ لرافع بن الليث وهو الحسن بن علي كوره فأمنه وبعث به إلى أبيه. عود حمدان إلى الطاعة وفي سنة اثنتين وثمانين سار المُعتَضدُ إلى الموصل واستقدم إسحاق بن أيوب وحَمْدان بن حمدون فبادر إسحاق بقلاعه وأودع حرمه وأمواله فبعث إليه المعتضد العساكر مع وصيف ونصر القَسوري فمرّوا بذيل الزعفران من أرض الموصل وبه الحَسَنُ بن علي كوره ومعه الحسين بـن حمـدان. فاستأمـن الحُسَـيْنُ وبعثـوا بـه إلـى المعتضـد فأمـر بهـدم القلعـة. وسار وصيف في اتباع حمدان فواقعه وهزمه وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة وسار في ديار ربيعة وعبرت إليه العساكر وحبسوه فأخذوا ماله وهرب وضاقت عليه الأرض فقصد خيمة إسحاق بن أيوب في عسكر المعتضد مستجيراً به فأحضره عند المعتضد فوكل به وحبسه. هزيمة هارون الشاري ومهلكه كان المعتضدُ قد ترك بالموصل نصراً القسرويّ لإعادته العمال على الجباية وخرج بعض العمال لذلك فأغارت عليهم طائفة من أصحاب هارون الشاري وقتل بعضهم فكثر عَيْث الخوارج. وكتـب نصـر القسـروي إلـى هـارون يهـدده فأجابـه وأسـاء في الرد وعرض بذكر الخليفة فبعث نصر بالكتاب إلى المعتضد فأمره بالجدّ في طلب هارون وكان على الموصل يكتم طاتشمر من مواليهم فقبض عليه وقيده وولى على الموصل الحسن كوره وأمر وُلاة الأعمال بطاعته فجمعهم وعسكـر بالموصـل وخنـدق علـى عسكـره إلـى أن أوقـع بالنـاس غلاتهـم. ثـم سـار إلى الخوارج وعبر الزّاب إليهم فقاتلهم قتالاً شديداً فهزمهم وقتل منهم وافترقوا وسار الكثير منهم إلى أذرَبَيْجَان ودخل هارون البرية واستأمن وجوه أصحابه إلى المعتضد فأمٌنهم. ثم سار المُعتضدُ سنة ثلاثٍ وثمانين في طلب هارون فانتهى إلى تكريت وبعث الحسين بن حمـدون فـي عسكـر نحو من ثلثمائة فارس واشترط أن جاء به إطلاق ابنه حمدان وسار جمعه وصيف وانتهى إلى بعض مخايِض دجلة فأرصد بها وصيفاً وقال: لا تفارقوها حتى تروني! ومضى في طلبه فواقعه وهزمه وقتل من أصحابه. وأقام وصيف ثلاثة أيام فأبطأ عليه الأمر فسـار فـي اتبـاع ابـن حمـدان وجاء هارون منهزماً إلى تلك والمخاضة فعبر وابن حمدانَ في أثره إلـى حـي مـن أحيـاء العـرب قـد اجتـاز لهـم هارون فدلوا ابن حمدان عليه فلحقه وأسره وجاء به إلـى المعتضـد. فرجـع المعتضـد آخـر ربيـع الـأول وخلـع على الحسين وأخوته وطوقه وأدخل هارون على الفيل وهو ينادي: لا حكمَ إلا لله ولو كَرِهَ المشركون وكان صُغْديًّا. ثم أمر المُعْتَضِدُ بحلّ القُّيود عن حَمْدان بن حَمْدون والإحسان إليه وِبإطلاقه. وفي سنة اثنتيـن وثمانين سار المعتضد من الموصل إلى الجبل فبلغ الكَرْخ فهرب عمرو بن عبد العزيـز بـن أبـي دُلَـف بيـن يديـه فأخـذ أمواله وبعث إليه في طلب جدّ كان عنده فوجهه إليه. ثم بعث المُعْتَضِدُ وزيره عُبَـيْدَ اللـه بـن سليمـان إلـى ابنـه بالـري ليسيـر مـن هنالـك إلـى عُمَـرَ بـن عبـد العزيـز بالأمان فسار وأمنه ورجع إلى الطاعة فخلع عليه وعلى أهل بيته وكان أخوه بكر بن عبد العزيـز قـد استأمـن قبـل ذلـك إلـى عُبَـيْد اللّـه بـن سليمـان وبـدر فولـاه عملـه علـى أن يسير إلى حربه. فلما وصل عمر في الأمان قال لبكر: إِنَّما وليناك وأخوك عاص فامضيا إلـى أميـر المؤمنيـن وسـار عُبَـيْدُ اللّـه بـن سليمـان الوزيـر إلـى علـيّ بـن المعتضد بالري ولما بلغ الخبر إلى المعتضد بعث وصيفـاً مُوسَكيـن إلـى بكـر بـن عبـد العزيـز بالأهـواز فلحقـه بحـدود فـارس. فمضـى بكـر إلـى أصبهـان ليلاً ورجع وصيف إلى بغداد وكتب المعتضد إلى بدر مولاه بطلب بكـر بـن عبـد العزيـز وحربه. فأمر بذلك عيسى النوشري فقام به ولقي بكراً بنواحي أصْبَهان فهزمه بكر ثم عاد النوشري لقتاله سنة أربع وثمانين فهزمه بنواحي أصبهان واستباح عسكره. ولجأ بكر إلى محمد بن زَيْد العَلَوِيّ بطَبَرْسَتَان وهلك بها سنة خمس وثمانين. وكان عمَرُ لما مات أبوه قبض على أخيه الحارث ويكنّى أبا ليلى وحبسه في قلعةِ ردّ ووكـل بـه شفيعـاً الخادم. فلما جاء المعتضد وأستأمن من عًمَرَ وهرب بكر وبقيت القلعة بيد شفيع بأموالها رغب إليه الحارث في إطلاقه فلم يفعل وكان شفيع يسامره كل ليلة وينصرف فحادثه ليلة ونادمه وقام شفيع لبعض حاجته فجعل الحارث في فراشه تمثالاً وغطَّاه وقال لجاريته قولي لشفيـع إذا عـاد هـو نائـم ومضـى. فاختفـى في الدار وفك القيد عن رجله بمبرد ادخل إليه وبرد به مسماره. ولما أخبِرَ شفيع بنومه مضى إلى مرقده وقصده أبو ليلى على فراشه فقتله وأمر أهل الدار واجتمِع عليه الناس فاستحلفهم ووعدهم وجمع الأكراد وغيرهم وخرج من القلعة ناقضـاً للطاعـة. فسـار إلى عيسى النوشري وحاربه فأصاب أبا ليلى منْهم فمات وحُملَ رأسُهُ خبر ابن الشيخ بآمد وفي سنة خمـس وثمانيـن توفـي أحمـد بـن عيسـى بـن الشيـخ وقـام بأمـره فـي آمد وأعمالها ابنه محمد فسـار المعتضـد إليـه فـي العساكـر ومعـه ابنـه أبـو محمد علي المكتفي ومر بالموصل وحاصر المعتمد إلى ربيع الآخر من سنة ست وثمانين ونصب عليها المجانيق حتى استأمن لنفسه ولأهل آمد وخرج إلى المعتمد فخلع عليه وهدم سورها. ثمّ بلغه أنه يروم الهرب فقبض عليه وعلى أهله. خبر ابن أبي الساج قـد تقـدم لنـا وِلايـة محمَـد بـن أبـي السـاج علـى أذرَبَيْجَـان ومدافعـة الحسين إياه عن مراغة ثم فتحها واستيلـاؤه علـى أعمـال أذربيجـان. وبعـث المعتضـد سنـة اثنتيـن وثمانيـن أخـاه يوسـف بن أبي الساج إلى الصُدرَة مدداً لفتح القلانسيّ غلام الموفق فخرج يوسف فيمن أطاعه فولاه المعتضد على أعماله وبعث إليه بالخِلَع وأعطاه الرهن لما ضمن من الطاعة والمناصحة وبعث بالهدايا. القرامِطَة ابتداء أمر القرامطة بالبحرين والشام كـان فـي سنـة إحـدى وثمانيـن قـد جـاء إلـى القَطيـف بالبَـحْرَيْن رجـل تسمَـى بيحيـى بـن المهـدي وزعـم أنه رسول من المَهدِيّ وأنه قد ترب خروجه وتصد من أهـل القطيـف علـي بـن المُعَلـى بـن حَـمْدان الربادينـي وكـان متغالياً في التشَيع فجمع الشيعة وأقرأهم كتاب المهدِيّ ليشيع الخبر في سائر قرى البَحْرَيْن فأجابوا كلهم وفيهم أبو سعيد الجنابي وكان من عظمائهم. ثم غاب عنهم يحيى بن المهديّ مدّةً ورجع بكتاب المهدي يشكرهم على إجابتهم وأمرهم أن يدفعوا ليحيى ستة دنانير وثلاثين عن كل رجل منهم ففعلوا. ثم غاب وجاء بكتاب آخر بأن يدفعوا إليه خُـمْسَ أموالهـم فدفعـوا وقـام يتـردد فـي قبائـل قَيْس. ثم أظهر أبو سعيد الجنابي الدعوة بالبَحْرَيْن سنة ست وثمانين واجتمع إليه القَرَامِطَة والأعراب وقتل واستباح وسار إلى القطيف طالباً البصرة وبلغت النفقة فيه أربعة عشر ألف دينار. ثم قرب أبو سعيد من نواحي البصرة وبعث المعتضد إليهم المدد مع عبًاس بن الغَنَوِيّ وعزله عن فارس وأقطعه اليَمَامَة والبحرين وضمّ إليه ألفين من المُقاتِلَة وسار إلى البصرة وأكثر من الحشـد جنـداً ومُتَطَوعَـة. فسـار ولقي أبا سعيد الجنابي ورجع من كان معه من بني ضَبِّةَ إلى البصرة. ثم كان اللقاء فهزمه الجنابي وأسره واحتوى على معسكـره وحـرق الأسـرى بالنـار وذلـك فـي شعبان من هذه السنة. وسار إلى هجر فملكها وأذن أهلها ورجع إلى أهل البصرة وبعثوا إليهم بالرواحل عليها الطعام والماء فاعترضهم بنو أسد وأخذوا الرواحـل وقتلـوا الفـلَّ واضطربت البصرة وتشوّف أهلها إلى الانتقال فمنعهم الواثقي ثم أطلق الجنابي العباس الغَنَوِيّ فركب إلى الأبُلَّة وسار منها إلى بغداد فخلع عليه المعتضد. وأمّا ظهورهم بالشام فإن داعِيَتَهم ذَكْرَوَيْه بن مَهْرَوَيْه الَّذي جاء بكتاب المَهْدِيّ إلى العراق لما رأى الجيوش متتابعةً إلى القَرامِطة بالسواد وأبادهم القتل لحق بأعراب أسَد وطيئ فلم يجبه. فبعث أولاده في كلب بن وَبْرَة فلم يجبه منهم إلاّ بنو القَلِيظِيٌ بنْ ضمْضم بن عديّ بن جناب فبايعوا ذكرويه ويسمى بيحيى ويكنى بأبي القاسم ولقبوه الشيخ وأنه من ولد إسماعيل الإمام بـن جعفـر الصـادق وأنـه يحيـى بـن عبـد اللـه بن يحيى بن إسماعيل. فزعم أن له مائة ألف تابع وان ناقتـه التـي يركبهـا مأمـورة فمـن تبعهـا كـان منصـوراً. فقصدهـم شبـل مولى المعتضدِ في العساكر من ناحية الرصافَةِ فقتلوه. فسار إليهم شبل مولى أحمد بن محمد الطائي فأوقع بهم. وجاء ببعض رؤسائهم أسيراً فأحضره المعتضد وقال له: هل تَزْعُمون أنَّ روح الله وأنبيائه تحل في أجسادكم فتعصمكم من الزلل وتوفِّقكم لصالح العمل. فقال له: يا هذا أرأيت إن حفت روح إبليس فما ينفعك فاترك ما لا يعنيك إلى ما يعنيك. قال له فقل فيما يعنيني فقال له: قبـض رسـول اللـه صلـى اللـه عليه وسلم وأبوكم العبَّاس حي فلم يطلب الأمر ولا بايعه. ثم مات أبـو بكـر واستخلـف عمـر وهو يرى العباس ولم يعهد إليه عمر ولا جعله من أهل الشورى وكانوا ستة وفيهم الأقرب والأبعد وهذا إجماع منهم على دفع جدك عنها. فبماذا تستحقون أنتم الخلافة فأمر به المُعْتَضد فَعُذِّب وخُلِعَتْ عظامه ثم قطِّع مرتين ثم قتل. ولمـا أوقـع شبـل بالقرامطـة بسـواد الكوفة ساروا إلى الشام فانتهوا إلى دمشق وعليها طُغْج بن جَف مولى أحمد بـن طولـون مـن قِبَـل ابنـه هـارون فخـرج إليهـم فقاتلهم مراراً هزموه في كلها. هذه أخبار بدايتهم. ونقبـض العنـان عنهـا إلى أن نذكر سياقتها عندما نعدّ أخبارهم على شريطتنا في هذا الكتاب كما تقدّم. |
استيلاء ابن سامان علي خراسان من يد عمرو بن الليث وأسره ثم مقتله
لمـا تغَلّـب عمـرو بن الليث الصفَّار على خراسان من يد رافع بن الليث وقتله وبعث برأسه إلى المُعْتَضد وطلب منه أن يوليه ما وراء النهر مضافاً إلى ولاية خراسان كتب له بذلك فجهز الجيـوش لمحاربـة إسماعيـل بـن أحمـد صاحـب مـا وراء النهر وجعل عليهم محمد بن بشير من أخصّ أصحابه. وبعث معه القوَّاد فانتهوا إلى آمد من شط جَيْحون وعبر إليهم إسماعيل فهزمهم وقتـل محمـد بـن بشيـر فـي ستـة آلـاف ولحـق الفَـلّ بعمـرو في نيسابور فتجَهّز وسار إلى بلخ وكتب إليه إسماعيل يستعطافه ويقول: أنا في ثغر وأنت في دنيا عريضة فاتركني واستفد ألفتي فأبى. وصعب على أصحابه عبور النهر لشدّته فعبر إسماعيل وأخذ الطرق على بلخ وصار عمرو محصـوراً. ثـم اقتتلـوا وانهـزم عمـرو وتسـرَّب مـن بعـض المسالـك عـن أصحابـه فوجـد في أجَمَةٍ وأخذ أسيراً. وبعـث بـه إسماعيـل إلـى سَمَرْقَـنْد ومـن هنـاك إلـى المعتضـد سنـة ثمـان وثمانيـن فحبسـه إلـى أن مـات المعتضد سنة تسع بعدها فقتله ابنه المُكْتَفِي. وعقد لإسماعيل على خراسان كما كانت لعمرو وكان عمرو عظيم السياسة وكان يستكثر من المماليك ويجري عليهم الأرزاق ويفرقهم علـى قـوَّاده ليطالعـوه بأخبارهم. وكان شديد الهيبة ولم يكن أحد يتجاسر أن يعاقب غلاماً ولا خادماً إلّا أن يرفعه إلى حُجَّابه. استيلاء ابن سامان علي طبرستان من يد العلوي ومقتله ولمـا بلـغ محمـد بـن زَيْدٍ العَلَوي صاحب طَبَرْسَتَان والديلم ما وقع بعمرو بن الليث وأنه أسر طمع هـو فـي خُراسـان وظـنّ أن ابـن إسماعيل لا يتجاوز عمله فسار إلى جرجان وبعث إليه إسماعيل بالكـف فأبـى فجهَـز لحربه محمد بن هارون وكان من قوًاد رافع بن الليث. واستأمن إلى عمرو ثـم إلـى إسماعيـل فنظمـه فـي قـوَّاده وندبـه الـآن لحـرب محمـد بـن زيد فسار لذلك. ولقيه على باب خُراسان. فاقتتلوا قتالاً شديداً وانهزم محمد بن هارون أولاً وافترقت عساكر محمد بن زيد على النهب ثم رجع هو وأصحابه وانهزم محمد بن زيد وجرح جراحات فاحشة هلك منها لأيـام وأسـر ابنـه زيـد وبعـث بـه إسماعيـل إلـى بخـارى واجتـرأ عليـه وغنـم ابن هارون معسكرهم ثم سار إلى طبرستان فملكها وصار خراسان وطبرستان لبني سامان واتصلت لهم دولة نذكر سياقة أخبارها عند أفراد دولتهم بالذكر كما شرطناه في تأليفنا. ولاية علي بن المعتضد علي الجزيرة والثغور ولما ملك المعتضد آمد من يد ابن الشيخ كما قدَمناه سار إلى الرقة وتسلم قَنِسْرين والعواصم من يد عمال هارون بن خمارَويه لأنه كان كتب إليه أن يقاطعه على الشام ومِصرَ وتسلم إليه أعمال قنسرين ويحمل إليه أربعمائة ألف دينار وخمسين ألفاً. فأجابوه وسار من آمد إلى الرقة فأنزل ابنه علياً الذي لقبه بعد ذلك بالمكتفي وعقد له على الجزيرة وقنسرين والعواصم سنة سـت وثمانيـن. واستكتـب لـه الحسـن بـن عمـر النصرانـي واستقـدم وهـو بالرقّـة راغبَـاً مولـى الموفـق مـن طرسـوس فقدم عليه وحبسه وحبس ملنون غلامه واستصفى أموالهما. ومات راغب لأيام من حبسه وقد كان راغب استبدْ بطرسوس وترك الدعاء لهارون بن خمارويه ودعا لبدر مولى المعتضد. ولما جاء أحمد بن طبان للغز سنة ثلاث وثمانين تنازع معه راغب فركب أحمد البحـر فـي رجوعـه ولـم يُعَـرج علـى طرسـوس وتـرك بهـا دميانة غلام بازيار وأمدّه فقوي وأنكر على راغـب أفعاله بحمل دميانة إلى بغداد واستبد راغب وبادر إلى استدعاء المعتضد ونكبه كما قلناه وولى ابن الأخشاء على طرسوس فمات لسنة. واستخلف أبا ثابت وخرج سنة سبع وثمانين غازياً فأسر وولى الناس عليهم مكانه علي بن الأعرابـي ولحـق بَمَلطِيَّـة فـي هـذه السنـة وصيـف مولـى محمـد بن أبي الساج صاحب بردعة وكتب إلى المعتمد يسأله ولاية الثغور وقد وطأ صاحبه أن يسير إليه إذا وليها فيقصدان ابن طولون ويملكـان مصـر مـن يـده وظهـر المعتضـد على ذلك فسار لاعتراضه وقدم العساكر بين يديه فأخفوه بعيـن زربـة وجـاؤوا بـه إلـى المعتضـد فحبسـه وأمـن عسكـره ورحل إلى قرب طرسوس واستدعى رؤساءهـا وقبـض عليهـم بمكاتبتهـم وصيفـاً وأمـر بإحـراق مراكب طرسوس بإشارة دميانة واستعمـل علـى أهـل الثغـور الحسـن بـن علـي كـوره وسـار إلـى أنطاكيـة وحلـب ورجـع منهـا إلى بغداد وقتل وصيفاً وصلبه. واستقدم المكتفي بعد وفاة المعتضد الحسن بن علي وولى على الثغور مظفر بن حاج. ثم شكا أهل الثغر منه فعزله وولى أبا العشائر بن أحمد بن نصر سنة تسعين. حرب الأعراب وفي سنة ست وثمانين اعترضت طيئ ركب الحاج بالأجيعر وقاتلوه ونهبوا أموال التجار ما قيمته ألف ألف دينار ثم اعترضوا الحاج كذلك سنة تسع وثمانين بالقرن فهزمهم الحاج وسلموا. تغلب ابن الليث على فارس وإخراج بدر إياه وفي فاتح ثمان وثمانين جاء طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث في العساكر إلى بلاد فارس وأخرج منها عامل المعتضد وهو عيسى النَوْشَرِيّ كان على أصْبَهَـان فولـاه المعتَضِـد فـارس فسـار إليهـا فجـاءه طاهر وملكها. وكتب إليه إسماعيل صاحب ما وراء النهر بأن المعتضد ولاه سجستان لذلك وعقد المعتضد لبدر مولاه على فارس وهرب عمال طاهر عنها وملكها بحر وجبى خراجها. ثم مات المعتضد وسار مغرباً عن فارس فقتل بواسط وقاطع طاهِرُ بلاد فارس على مال يحمله فقلَّده المُكْتَفي ولايتها سنة تسعين. الولايات في النواحي كـان أكثـر النواحـي فـي دولـة المعتضـد مغلبـاً عليهـا كخُراسـان ومـا وراء النهـر لابن شامان والبَحْرَيْن لِلْقَرَامِطَة ومِصْر لابن طولون وإفريقية لابن الأغلَب وقد ذكرنا من وَليَ الموصل. وفي سنة خمس وثمانين ولي المعتضد عليها وعلى الجزيرة والثغور الشامية. مولاه. ثم ملك آمد مـن يـد ابن الشيْخ وجعلها لابنه علي المُكْتَفي وأنزله الرقَة كما ذكرناه وعقد له على الثغور. ثم عقـد بعـده للحسـن بـن علـي كـوره وولـى علـى فـارس بـدراً مولـاه. ومات إسحاق بن أيوب بن عمر بـن الخطـاب الثعلبـي العَـدَوي أميـر ديـار ربيعـة فولـى المعتضـد مكانـه عبـد اللـه بـن الهَيْثَـم بـن عبد الله بن المَعْمَر. وفي سنة ثمـان وثمانيـن ظهر باليمن بعض العلويين وتغلب على صنعاء فجمع له بنو يعفر وقاتلوه فهزموه وأسروا ابنه وتجافى نحو خمسين فارساً وملك بنو يعفر صنعاء وخطبوا فيها للمُعْتَضِد وهلـك ابـن أبـي السـاج فـي هـذه السنة فولي أصحابه ابنه ديوداد. ونازعه عمه يوسف بن رافع بابن أخيه وهزمه ومضى إلى بغداد علـى طريـق الموصـل واستقـل يوسـف بملـك أذرَبَيْجَـان وعـرض علـى ابـن أخيـه المقـام عنـده فأبـى وقلَـد المعتضـد لأول خلافته ديوان المشرق لمحمد بن داود بن الجرَّاح عوضاً عن أحمد بن محمد بن الفرات وديوان المغرب عليّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح ومات وزيره عبيد اللّه بن سليمان بن وَهْب فولى ابنه أبا القاسم مكانه. الصّوائِف وفي سنة خمـس وثمانيـن غـزا راغـب مولـى المُوَفّـق مـن طَرْسـوس في البحر فغنم مراكب الروم قتل فيهـا نحـواً مـن ثلاثـة آلـاف وأحرقهـا. وخـرج الـروم سنـة سبـع وثمانيـن ونازلـوا طرسوس فقاتلهم أميرها واتبعهم إلى نهـر الرحـال فأسـروه. وفي سنة ثمـان وثمانيـن بعـث الحسـن بـن علـي كـوره صاحـب الثغـور بالصائفـة فغـزا وفتـح حصوناً كثيرة وعاد بالأسرى فخرجِ الروم في أثره براً وبحراً إلى كيسوم من نواحي حلب فأسروا نحواً من خمسة عشر ألفاً ورجعوا. وفاة المعتضد وبيعة ابنه كـان بَـدْرٌ مولـى المعتَضِـد عظيـم دولتـه وكـان القاسِـمُ بـن عُبَـيْدِ اللّه الوزير يروم نقل الخلافة في غير بني المعتضد وفاوض في ذلك بدراً أيّام المعتضد فأبى ولم يمكن القاسم مخالفته. فلما مات المعتضـد كـان بـدر بفـارس بعثـه إليهـا المعتضـد لمـا بلغـه أن طاهِـرَ بـن محمـد بـن عمـرو بن الليث غلب عليهـا فبعـث بـدراً وولـاّه. فلمـا مـات عقـد الوزير البيعة لابنه المُكْتَفي وخشي من بدر فيما اطلع عليـه منـه فأعمـل الحيلـة فـي أمـره. وكـان المكتفي أيضاً يحقد لبدر كثيراً من منازعة معه أيام أبيه فـدس الوزيـر إلـى القـوّاد الذيـن مـع بـدر بمفارقتـه ففارقه العباس بن عمر الغَنَوي ومحمد بن إسحاق بـن كنـداج وخاقـان العِلْجِـي وغيرهـم فأحسـن الملتقـى إليهـم وسـار بـدر إلـى واسـط فوكل المكتفـي بـداره وقبـض علـى أصحابـه وأمـر بمحـو اسمـه مـن الفـراش والأعلـام. وبعث الحسن بن علي كـوره في جيش إلى واسط وعرض على بدر ما شاء من النواحي فقال: لا بدّ لي أن أشافه مولاي بالقول فخوف الوزير المكتفي خائنته ومنعه من ذلك وشعر أن بدراً بعث عن ابنه هلال فوكل به. ثم بعث الوزير عن القاضي أبي عُمَر المالِكيّ وحمَله الأمان إلى بدر فجاء بأمانه وبعث الوزير من اعترضه بالطريق فقتله لست خلون من رمضان وحمل أهله شلوه إلى مكة فدفن بها لوصيته بذلك وحزن القاضي أبو عمر لاخفار ذمّته. استيلاء محمد بن هارون علي الري ثم أسره وقتله قد تقدّم لنا ذكر محمد بن هارون وانه كان من قوّاد رافع بن هرثمة ونظمه إسماعيل بن أحمد صاحـب مـا وراء النهـر فـي قـوّاده وبعثـه لحـرب محمـد بـن زيـد فهزمه واستولى على طبرستان وولاه إسماعيل عليها. ثم انتقض ودعا بدعوة العلويَّة وبَيض وساعده ابن حسان الديْلَمِيّ. وبعث إسماعيل العساكر لقتال ابن حسان فهزموه. وكان على الريّ من قبل المُكْتَفي اغرتمش التركي فأساء السيرة فبعث أهل الري إلى محمد بن هارون أن يسيـر إليهـم ويولـوه فسـار وحـارب اغرتمـش فهزمـه وقتلـه وقتـل ابنيه وأخاه كيغلغ من القواد واستولى على الري وبعث المكتفي مولاه خاقان المفلحي لولاية الريّ في جيش كثيف فلم يصلها وبث المكتفي إلى إسماعيل بولايته ومحاربة محمد بن هارون فسار إسماعيل إليه وهزمه فخرج عن الريّ إلى قَزوين وزَنْجان. ثم لحـق بطَبَرْسَتـان واستقـرّ مـع ابنـه مستجيـزاً ولمـا ملك إسماعيل الريّ ولّى على جَرْجان مولاه نارس الكبير وألزمه إحضار محمد بن هارون فكاتبه نارس وضمن له صلاح الحال فقبل وانصرف عن الديْلَم إلى بُخارى فبعث إسماعيل من اعترضه وحمل إلى بخارى مقيداً فمات في الحبس بعد شهر وذلك في شعبان سنة تسعين. استيلاء المكتفي علي مصر وانقراض دولة ابن طولون كان محمد بن سليمان من قوّاد بني طولون وكاتب جيشهم واستوحش منهم فلحق بالمعتضد وصرفوه في الخدم وكانت القرامطة عاثوا في بلاد الشام وحاصروا عامل بني طولون بدمشق وهو طغج بن جفّ وقتلوا قوِّاده. وسار المكتفي إليهم فنزل الرَقًة وبعث محمد بن سُلَيْمان لحربهم ومعه الحسن بن حَمْدان والعساكر وبنو شيبان فلقيهم قرب حماة فهزمهم واتبعهم إلى الكوفـة. وقبـض فـي طريقـه علـى أميرهـم صاحـب الشامـة فبعث به إلى المكتفي فرجع إلى بغداد وخلَّف محمد بـن سُلَيْمَـانَ فـي العساكـر فتبعهـم وأسـر جماعـة منهـم. وبينمـا هـو يـروم العـود إلـى بَـغْداد جـاءه كتـاب بَـدْر الحمامِـيّ مولـى هارون بن خَمَارَوَيْه ومحمد فائق صاحب دمشق يستقدمانه إلى البلاد لعجز هارون عنها فأنهى ذلك محمد بن سليمان عند عوده إلى المُكْتَفي فأعاده وأمدهّ بالجنود والأموال وبعث دميانة غلام بازيار في الأسطول ليدخل من فوهة النيل ويحاصر مِصر ولما وصل ودنا من مصر كاتب القواد وخرج إليه رئيسهم بدر الحمامي وتتابع منهم جماعة وبرز هارون لقتاله فحاربه أياماً. ثم وقعت بعض الأيام في عسكره هيعة ركب لها ليسكنها فأصابته حربة مات منها واجتمع أصحابـه علـى عمِـه شَيْبـان وبـذل الأمـوال فقاتلـوا معـه. ثـم جاءهـم كتاب محمد بن سليمان بالأمان فأجابـوه وخالـف شيبـان إلـى مِصـرَ فاستولـى عليهـا وأستأمـن إليه شيبان سرّاً فأمَّنه ولحق به. ثم قبـض علـى بنـي طولون وحبسهم واستصفى أموالهم وذلك في صفر سنة اثنتين وتسعين وأمره المكتفـي بإزالة آل طولون وأشياعهم من مِصر والشام ففعل وسار بهم إلى بغداد وولّى المكتفي على مصر عيسى النوشـري وخـرج عليـه إبراهيـم الخليجـي مـن قـوّاد بنـي طولـون يخلـف عـن محمـد بـن سليمان فخلفه وكثر جمعه وسار النوشري إلى الإسْكَنْدَريِـة عجـزاً عـن مدافعتـه واستولـى الخليجِي على مصر وبعث المكتفي بالجنود مع فاتك مولى المعتضد وأحمد بن كيغلغ وبدر الحمامي من قواد بني طولون فوصلوا سنة ثلاث وتسعين وتقدم أحمد بن كيغلغ وجماعة من القوّاد فلقيهم قرب العريش فهزمهم وقوي الأمر وبلغ الخبر إلى المُكْتَفي فعسكر ظاهر بغداد وانتهى مدة إلى تكريت فلقيه كتاب فاتك في شعبان يذكر أنهم هزموا الخليجي بعد حروب متصلة وغنموا عسكره. ثم هرب واختفى بفسطاط مصر وجاء من دلّ عليه فأمر المُكْتَفي بحمله ومن معه إلى بغداد فبعثوا بهم وحُبِسوا. دولة بني حَمْدَان ابتداء دولة بني حمدان وفي سنة اثنتيـن وتسعيـن عقـد المُكْتفـي علـى الموصـل وأعمالهـا لأبـي الهيجـاء عبد اللهّ بن حَمْدان بن حَمْدون العَدْوِيِّ الثعْلَبِيّ فقلمها أول المحرِّم وجاء الصريخ مـن نينـوى بـأن الأكـراد الهَدْبانِيـة ومقدمهم محمد بن سلال قد أغاروا على البلاد وعاثوا فخرج في العساكر وعبر الجسر إلى الجانب الشرقي. ولقيهم على الحارد فقاتلهم وقتل من قواد سليمان الحمداني ورجع عنهم وبعـث إلـى الخليفـة يستمده فأبطأ عليه المدد إلى ربيع من سنة أربع فلما جاءه المدد سار إلى الهَدبانِيَّـة وهـم مجتمعـون فـي خمسـة آلـاف بيـت فارتحلـوا أمامـه واعتصمـوا بجبـل السَلَقِ المشرف على الزاب فحاصرهم وعرفوا حقه فخذله أميرهم محمد بن سلال بالمراسلة فيِ الطاعة والرهـن وحـث أصحابـه خلـال ذلك المسير إلى أذرَبَيْجان وأتبعهم أبو الهيجاء فلحقهم صاعداً إلى جبل القِنْديل فنال منهم وامتنعوا بفروته. ورجع أبو الهيجاء عنهم فلحقوا بأذْرَبَيْجان ووفد أبو الهَيْجاء على المُكْتَفي فأنجده بالعسكر وعـاد إلـى الموصـل. ثـم سـار إلـى الأكراد بجبل السلف فدخله وحاصرهم بقنته وطال حصارهم واشتد البرد وعدمت الأقوات وطلب محمد بن سلال النجاة بأهله وولده فنجا واستولى ابن حمدان على أموالهم وأهليهم وأمنهم. ثم استأمن محمد بن سلال فأمنه وحضر عنده وأقام بالموصل وتتابع الأكراد الحميديًة مستأمنين واستقام أمر أبي الهيجاء بالموصل. ثمِ انتقض سنة إحدى وثلثمائة فبعث إليه المقتدر مؤنساً الخادم فجاء بنفسه مستأمناً ورجع به إلى بغداد فقبلـه المقتـدر وأكرمـه. وبقـي ببغـداد إلـى أن انتقض أخوه الحسَيْن بديار ربيعة سنة ثلاث وثلثمائة وسـارت العساكـر فجـاؤوا بـه أسيراً. فحبس المقتدر عند ذلك أبا الهيجاء وأولاده وجمع أخوته بداره ثم أطلقهم سنة وثلثمائة. أخبار ابن الليث بفارس قـد تقـم لنـا استقلـال طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث ببلاد فارس وأن المكتفي عقد له عليها سنـة تسعيـن ثـم إنـه تشاغـل باللهـو والصيد وأعرض عن أمور ملكه. ومضى في بعض الأيام إلى سِجِسْتَانَ فوثب على فـارِس الليـث بـن علـي بـن الليـث وسيكـرى مولـى عمـرو بـن الليـث فاستوحش منهما أحد قوادهما يعرف بأبي قابوس وفارقهما إلى بغداد. المُكْتَفي إليه. ثم كتـب إليـه طاهـر فـي ردّ أبـي قابـوس إليـه ويحتسـب لـه مـا معـه مـن أمـوال الجباية فأعرض الخليفة عن ذلك. الصوائف وفي سنة إحـدى وتسعيـن خـرج الـروم إلـى الثغـور في مائة ألف وقصد جماعة منهم الحدث. ثم غزا بالصائفة من طرسوس القائد المعروف غلام زرافة ففتح مدينة أنطاكية وفتحها عنوة فقتل خمسة آلاف من مُقَاتِلَتِهِم وأسر مثلها. واستنقذ من أسرى المسلمين مثلها وغنم ستين مـن مراكب الروم بما فيها من المال والمتاع والرقيق فقسمها مع غنائم أنطاكية فكـان السهـم ألـف دينار وفي سنة اثنتين وتسعين أغار الروم على مرعش ونواحيها فخرج أهل المصيصة وأهل طرسوس فأصيب منهم جماعة فعزل المكتفي أبا العشائر على الثغور وولى رستم بن بُرْد فكان على يديه الفداء وفودي ألف من المسلمين. ثم أغارت الروم سنة ثلاث وتسعين على موارس من أعمال حلب وقاتلهم أهلها فانهزموا وقتل منهم خلق ودخلها الروم فأحرقوا جامعها وأخذوا من بقي فيها. وفي سنة أربع وتسعين غزا ابن كيغلغ من طرسوس فأصاب من الروم أربعة آلـاف سبيَـاً واستأمن بطريق من الروم فأسلم. ثم عاود ابن كيغلغ الغزو وبلغ سَكَنْد وافتتحها وسار إلى الليس فبلغ خمسين ألف رأس وقتل من الروم خلقاً ثم استأمن البطريق المتولي الثغور من جهة الـروم إلـى المكتفي وخرج بمائتي أسير من المسلمين. وكان ملك الروم قد شعر بأمره وبعث من يقبـض عليـه فقتـل الأسـرى المسلمـون من جاء للقبض عليه وغنموا عسكرهم. واجتمع الروم على محاربة البطريق انذوقس وزحف المسلمون لخلاصه وخلاص من معه من الأسرى فبلغوا قونية وخربوهـا وانصـرف الـروم ومرَّ المسلمون في طريقهم بحصن أندوس فخرج معهم بأهله وسار إلى بغـداد. وفي سنة إحـدى وتسعيـن خـرِج التـرك إلـى مـا وراء النهـر فـي خلق لا يحصون فبعث إليهم إسماعيـل عسكـراً عظيمـاً مـن الجنـد والمتطوِّعـة فكبسوهـم واستباحوهـم. وفي سنة ثلاث وتسعين افتتح إسماعيل مدائن كثيرة من بلاد الترك والديلم. الولايات بالنواحي قد ذكرنا ولايات خاقان المفلحي على الريّ ثم إسماعيل بن أحمد بـن سامـان بعـده وولايـة عيسـى النَوْشـرِيّ علـى مصـرَ بعـد انتزاعهـا مـن بنـي طولون وولاية أبي العشائر أحمد بن نصر على طرسوس وعزل مُظَفَّر بن حاج عنها سنة تسعين ثم عزل أبي العشائر وولاية رستم بن برد سنـة اثنتيـن وتسعيـن. وانتـزاع الليث بن علي بن الليث بلاد فارس من يد طاهر بن محمد سنة ثلـاث وتسعيـن بعـد أن كان المُكْتفي عقد له عليها سنة تسعين وولاية أبي الهَيجاء عبد الله بن حمـدان علـى الموصـل سنـة ثلـاث وتسعيـن. وفـي هـذه السنـة ثـار داعيَـةُ القَرامطَـة باليمن إلى صنعاء فملكهـا واستباحهـا وتغلَـب علـى كثيـر مـن مدن اليمن. وبعث المُكْتَفي المُظَفَّر بن الحاج في شوّال مـن هـذه السنـة إلـى عملـه باليمـن فأقـام بـه. وفي سنة إحدى وتسعين توفي الوزير أبو القاسم بن عبيد الله واستوزر مكانه العباس بن الحسن. وفاة المكتفي وبيعة المقتدر ثـم توفـي المكتفـي باللهّ أبو محمد علي بن المعتضد في شهر جمادى سنة خمس وتسعين لست سنيـن ونصـف مـن ولايتـه ودفـن بـدار محمـد بـن طاهر بعد أن عهد بالأمر إلى أخيه جعفر. وكان الوزيـر العبـاس بـن الحسـن قـد استشـار أصحابه فيمن يوليه فأشار محمد بن داود بن الجرَّاح بعبد اللّـه بـن المُعْتَزَّ ووصفه بالعقل والرأي والأدب وأبو الحُسَيْن بن محمد بن الفُرات بجعفر بن المُعْتَضِد بعـد أن أطـال فـي مفاوضتـه وقـال له: اتق اللّه ولا تولّ إِلَّا من خبرته ولا توَلّ البخيل فيضيِّق على الناس في الأرزاق ولا الطمَاع فيشره إلى أموال الناس ولا المُتَهاون بالدين فلا يجتنب المآثم ولا يطلب الثواب. ولا تُوَلِ من خبر الناس وعاملِهم واطلع على أحوالهم فيستكثـر علـى النـاس نِعمهُم وأصلح الموجودين مع ذلك جَعْفرُ بن المعتضد. قال ويحك وهو صبي فقال وما حاجتنا بمـن لا يحتـاج إلينـا ويستبد علينا! ثم استشار علي بن عيسى فقال اتق الله وانظر من يصلح. فمالت نفس الوزير إلى جعفر كما أشار ابن الفرات وكما أوصى أخوه فبعث صائفاً الخدمي فأتى به من داره بالجانب الغربي ثم خشي عليه غائلة الوزير فتركه في الحراقة وجاء إلى دار الخلافة فأخذ له البيعة على الحاشية. ثم جاء الحراقة وأقعده على الأريكة. وجاء الوزير والقُـواد فبايعـوه ولقـب المُقْتَدر بالله وأطلق يد الوزير في المال وكان خمسة عشر ألف ألف دينار فأخرج منه حق البيعة واستقام الأمر. |
خلع المقتدر بابن المعتز وإعادته
ولمـا بويع المقتدر وكان عمره ثلاث عشرة سنة استصغره الناس واجمع الوزير خلعه والبيعة لأبي عبد الله محمد بن المُعْتَزّ وراسله في ذلك فأجاب وانتظر قدوم نارس حاجب إسماعيل بن سامان كان قد انتقض إلى مولاه وسار عنه فاستأذن في القدوم إلى بغداد وأذن له. وقصد الاستعانـة بـه علـى موالـي المعتضـد. وأبطـأ نـارس عليه وهلك أبو عبد الله بن المقتدر خلال ذلك فصـرف الوزيـر وجهه لأبي الحسين بن الموكل فمات فأقرّ المقتدر ثم بدا له وأجمع عزله واجتمع لذلك مع القواد والقضاة والكتّاب فراسلوا عبد الله بن المُعْتَز فأجابهم على أن لا يكون قتال. فأخبروه باتفاقهم وأن لا منازع لهم. وكان المتولون لذلك الوزير العباس بن الحُسَيْن ومحمد بن داود بن الجرّاح وأبا المثنى أحمد بن يعقـوب القاضـي ومـن القـواد الحسيـن بـن حَـمْدان وبحـر الأعْجَمِي ووصيف بن صوارتكين. ثـم رأى الوزيـر أمـره صالحـاً مـع المقتـدر فبدا له في ذلك فأجمع الآخرون أمرهم واعترضه الحسين بـن حمـدان وبـدر الأعجمـي ووصيـف فـي طريـق لستانـة فقتلـوه لعشـر بقيـن مـن ربيـع الـأول سنـة سـت وتسعين وخلعوا المقتدر من الغد وبايعوا لابن المعتز. وكان المقتدر في الحلبة يلعب الأكْرَةَ فلما بلغه قتل الوزير دخل الدار وأغلق الأبواب وجاء الحسين بن حمدان إلى الحلبة ليفتك به فلم يجده فقدم وأحضروا ابن المعتزّ فبايعـوه وحضـر النـاس والقُـوّاد وأربـاب الدواويـن سـوى أبـي الحسن بن الفرات وخواص المقتدر فلم يحضروا. ولُقِبَ ابنُ المُعْتَزِّ المُرْتَضَى بالله واستـوزر محمـد بـن داود بـن الجَـراح وقَلـدَ علـي بـن موسـى الدواوين وبعث إلى المُقْتَدر بالخروج من دار الخلافة فطلب الإمهال إلى الليـل. وفـال مؤنـس الخادم ومؤنس الخازن وعربت الحال وسائر الحاشية لا بد أن يبدي عذراً فيما أصابنا. وباكر الحُسَيْنُ بن حَمْدان من الغَدِ دار الخلاقة فقاتله الغلمان والخدم من وراء السور وانصرف. فلما جاء الليل سار إلى الموصل بأهله وأجمع رأي أصحاب المُقْتَدِرِ على قصد ابن المعتز في داره فتسلَّحـوا وركبوا في دجلة فلما رآهم أصحاب ابن المعتز اضطربوا وهربوا واتهموا الحسين بن حمدان أنه قد واطأ المقتدر عليهم وركب ابن المعتز وزيره محمد بن داود بن الجَرَّاح وخرجوا إلى الصحراء ظناً منهم أن الجند الذين بايعوهم يخرجون معهم وانهم يلحقون بسامرا فيمتنعون فلمـا تفـردوا بالصحـراء رجعـوا إلـى البلد وتسربوا في الدصر واختفى ابن الجرَاح في داره ودخل ابن المعتز ومولاه دار أبي عبد الله بن الجصَّاص مستجيراً به. وثار العيارون والسُفْلُ ينتهبون. وفشا القتل وركب ابن عَمْرَوَيْه صاحب الشرطة وكان ممـن بايع ابن المُعْتَز فنادى بثأر المقتدر مغالطاً فقاتله فهرب واستتر وأمر المقتدر مؤنساً الخـازن فزحـف فـي العسكـر وقبـض علـى وصيـف بـن صوارتكيـن فقتلـه وقبـض علـى أبـي القاضـي أبـي عمـر علـي بـن عيسـى والقاضـي محمـد بـن خَلَـف. ثـم أطلقهـم وقبـض على القاضي أبي المُثنى أحمد بن يعقـوب قـال لـه بايع المقتدر! قال هو صبيّ فقتله وبعث المقتدر إِلى أبي الحسن بن الفرات كان مختفياً فأحضره واستوزره. وجاء سَوْسَنُ خادم ابن الجصاص فأخبر صافيـاً الخُرمـي مولـى المقتدر بمكانه عندهم فكبست الدار وأخذ ابن المعتز وحبس إلى الليل ثم خصيت خصيتاه فمات وسُلِم إلى أهله وأخذ ابن الجصاص وصودر على مال كثير وأخذ محمد بن داود وزير ابن المُعْتز وكان مستتراً فقتل. ونفـي علـي بـن عيسى بن عليّ إلى واسط واستأذن من ابن الفرات في المسير إلى مكة فسار إِليها على طريق البصرة وأقام بها وصودر القاضي أبو عمر على مائة ألف دينار وسارت العساكـر فـي طلـب الحُسَـيْن بـن حَـمْدان إلـى الموصـل فلـم يظفـروا به وشفع وزير ابن الفرات في ابن عمرويـه صاحـب الشرطـة وإبراهيـم بـن كيغلـغ وغيرهم. وبسط ابن الفرات الإحسان وأدر الأرزاق للعباسيين والطالبيين وأرضى القواد بالأموال ففرق معظم ما كان في بيت المال وبعث المقتدر القاسم بن سيما وجماعة من القواد في طلب الحسين بن حمدان فبلغوا قَرْقيسيا والرَحْبَةِ ولم يظفـروا بـه وكتب المقتدر إلى أخيه أبي الهيجاء وهو عامل الموصل بطلبه فسار مع القاسم بن سيما والقواد ولقوه عند تكريت فهزموه وبعث مع أخيه إبراهيم يستامن فأمنوه وجاؤوا به إلى بغـداد فخلـع عليـه المقتـدر وعقـد لـه علـى قـم وقاشان وعزل عنها العباس بن عمر الغَنَوِفي فسار إليها الحسين ووصل نارس مولى إسماعيل بن سامان فقلده المقتدر ديار ربيعة. نسبة هؤلاء العُبَيْدِين إلى أول خُلفائهم وهو عُبَيْدُ الله المهدي بن محمد بن جعفر المُصَدق ابن محمد المكتوم ابن إسماعيل الإمام ابن جعفر الصادق ولا يلتفت لإنكار هذا النسب فكتـاب المعتضـد إلـى ابـن الأغلـب بالقَـيْرَوَان وابن مدرار يغريهم بالقبض عليه لما سار إلى المغرب شاهد بصحًة نسبهم وشعر الشريف الرضي: ألبـس الـذُلَّ فـي بلـاد الأعـادي وَبِمِصْرَ الخَليفَـةُ العَلَـوِيُ مَنْ أبوهُ أبي وَمَوْلاه مَـوْلا ي إِذَا ضَامَني البَعِيـدُ القصـي لـفً عِرقـي بِعِرْقِه سَيِّدُ النَّا س جَمِيعاً محمَّدٌ وَعَلي وأمّا المحضر الذي ثبت ببغداد أيام القـادر بالقـدح فـي نسبهـم وشـد فيـه أعلـام الأئمـة مثـل القُدوري والصهَيْريّ وأبي العباس الأبيوردي وأبي حامد الأسفَراينيّ وأبي الفَضْل النسَوِيٌ وأبي جعفـر النًسْفـيّ ومن العَلَوِّيَةِ المُرْتَضى وابن البَطْخاوي وابن الأزرق زعيم الشيعة أبو عبد اللّه بن النعْمـان فهـي شهادة على السماع. وكان ذلك متَصلاً في دولة العباسِيِّةِ منذ مائتين من السنين فاشيـاً فـي أمصارهـم وأعصارهـم. والشهـادة علـى السمـاع فـيِ مثلـه جائـزة علـى أنَّها شهادة نفي ولا تُعارضُ ما ثبت في كتاب المُعتَضِد مع أن طبيعة الوجود في الانقياد لهم وظهور كلمتهم أدل شيء على صدق نسبهم. وأمّا من جعل نسبهم في اليَهودية أو النصْرَانِية كميمون القَدّاح وغيره فكفاه إِثماً تَعَرُّضُه لذلك. وأما دعوتهم التي كانوا يدعون لها فقد تقدم ذكرها في مذاهب الشيعة من مقدمة الكتاب. وانقسمـت مذاهـب الشيعة مع اتفاقهم على تفضيّل عليّ على جميع الصحابة إلى الزَيْديةِ القائلين بِصِحةِ إمامَةِ الشَيْخَيْنِ مـع فضـل علـيّ ويجـوِّزون إمامـة المفضـول وهـو مذهـب زيـد الشهيـد وأتباعـه والرافضـة ويدعـون بالإماميـة المتبرئين من الشيْخَيْن بإهمالهما وصيَّة النبي صلى الله عليه وسلـم بخلافـة علـيّ. مـع أنّ هـذه الوصيَّـة لـم تنقـل مـن طريـق صحيـح قـال بهـا أحـد من السلف الذين يقتدي بهم وإنما هي من أوضاع الرافِضَةِ. وانقسم الرافِضَـة بعـد ذلـك إلـى اثنـي عَشَرِيـة نقلـوا الخلافـة مـن جعفـر بعـد الحسـن والحسيـن وعلـي زيـن العابديـن ومحمـد الباقـر وجعفـر الصـادق إلـى ابنـه موسـى الكاظـم وولـده علـى سلسلـة واحدة إلى تمام الاثني عشر وهو محمد المهدي وزعموا أنه دخل سردا. وهم في انتظاره إلى الآن. وإلى الإِسماعيلية نقلوا الخلافة من جَعْفر الصادق إلى ابنه إسماعيل ثم ساقوها في عقبه فمنهم من انتهـى بهـا إلـى عبيـد اللـه هـذا المهـدي وهـم العُبَيْدِيُّـون ومنهـم مـن ساقها إلى يحيى بن عبيد اللّه بن محمد المكتوم. وهؤلاء طائفة من القرامِطَة وهي من كذباتهم ولا يعرف لمحمد بن إسماعيل ولد اسمـه عبيد اللّه. وكان شيعة هؤلاء العُبَيْدِيين بالمشرق واليمن وإفريقية. وسار بها إلى إفريقية رجلان يعرف أحدهما بالحُلْوَانِي والآخر بالسفيَاني أنفذهما الشيعة إلى هنالك وقالوا لهما إن العرب أرض بور فاذهبا واحرثاها في يحيا صاحب البذر وسارا لذلك ونـزلا أرض كتامـة أحدهما ببلد يسمى سوق حمار. وفشـت هـذه الدعـوة منهمـا فـي أهـل تلـك النواحـي من البربر وخصوصاً في كتَامة. وكانوا يزعمون أن النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم أوصى إلى عليّ بالخلافة بالنصوص الجليُّةِ وعدل عنها الصحابة إلـى غيره فوجب البراءة ممن عدل عنها. ثم أوصى علي إلى ابنه الحسن ثم الحسن إلى أخيه الحسيـن ثـم الحسيـن إلى ابنه عليّ زَيْنِ العابدين ثم زين العابدين إلى محمد الباقر ثم محمد الباقر إلـى ابنـه جعفـر الصـادق ثم جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل الإمام ومنه إلى ابنه محمد ويسمونه المكتوم لأنهم كانوا يكتمون اسمه حذراً عليه ثم أوصى محمد المكتوم إلى ابنه جعفر المصدق وجعفـر المصـدق إلـى ابنـه محمـد الحبيـب ومحمـد الحبيـب إلـى ابنـه عُبَـيْدِ اللّـه المهـديّ الني دعا له أبو عبد الله الشيعي وكانت شيعهم منتشرين في الأرض من اليمن إلى الحجاز والبَحْرَيْن والطرق وخراسان والكوفة والبصرة والطالقان. وكان محمد الحبيب ينزل سَلَمْيَةَ من أرض حمص وكان عادتهم في كل ناحية يدعون للرضا من آل محمد ويرومون إظهار الدعوة بحسب ما عليهم. وكان الشيعة من النواحي يعلمون مكيهم فىِ أكبر الأوقات لزيارة قبر الحسين ثم يعرجون على سلميـة لزيـارة الأئمـة مـن ولـد إسماعيـل - وكان باليمن - من شيعتهم - ثم بعده لأئمة قوم يعرفون ببنـي موسـى ورجـل آخـر يعـرف بمحمـد بـن الفضل أصله من جَند. وجاء محمد إلى زيارة الإمام محمد الحبيب فبعث معه أصحابه رستم بن الحسين بن حوشب بن داود النجار وهو كوفي الأصل وأمره بإقامة الدعوة وأن المهدي خارج في هذا الوقت فسار إلى اليمن ونزل على بني موسى وأظهر الدعوة هنالك للمهدي من آل محمد الذي ينعتونه بالنعوت المعروفة عندهم فاتبعه واستولى على كثير من نواحي اليمن. وكان أبو عبد اللّه الحسن بن أحمد بن محمد بن زَكَريا المعـروف بالمُحْتَسِـب وكـان محتسبـاً بالبصرة. وقيل إنما المحتسب أخوه أبو العباس المخطوم وأبو عبد الله يعرف بالعلم لأنه كان يعرف مذهب الإمامية الباطنية قَد اتصل بالإمام محمد الحبيب وخبر أهليته فأرسله إلى أبي حوشـب! لـزم مجالستـه وأفـاد علمـه. ثـم بعثه مع الحاج اليمني إلى مكة وبعث معه عبد الله بن أبي ملا فأتى الموسم ولقي به رجالات كتامة مثل حريث الحميلي وموسى بن مكاد فاختلط بهـم وعكفـوا عليـه لمـا رأوا عنـده مـن العبـادة والزهـد ووجـه إليهـم بـدراً مـن ذلـك المذهـب فاغتبـط واغتبطـوا وارتحـل معهـم إلـى بلدهـم ونـزل بهـا منتصف ربيع سنة ثمان وثلاثين وعين لهم مكان منزله بفتح الأحار وأن النص عنده من المهدي بذلك ولجهره بالمهدي وأن أنصاره الأخيار من أهل زمانه وان اسم أنصاره مشتق من الكتمان ولم يعينه واجتمع لمناظرته كثير من أهل كتامة فأبى ثم أطاعوه بعد فِتَنٍ وحروب. واجتمعوا على دعوته وكانوا يسمونه أبا عبد الله المشرفـي والشيعـي. ولمـا اختلـف كتامـة عليـه واجتمـع كثير منهم على قتله قام بنصرته الحسن بن هـارون وسـار بـه إلـى جبـل ايكجان وأنزله مدينة تاصروت من بلد زرارَة وقاتل من لم يتبعه بمن تبعـه حتـى استقامـوا جميعاً على طاعته. وبلغ خبره إبراهيم بن أحمد بن الأغلب عامل إفريقية بالقيروان فأرسل إلى عامل ميلة يسأله عن أمره فحقره وذكر أنه رجل يلبـس الخشـن ويأمـر بالعبـادة والخيـر فأعـرض عنـه حتـى إذا اجتمـع لأبـي عبـد الله أمره زحف في قبائل كتامة إلى بلد ميلة فملكها على الأمان بعد الحصار فبعث إبراهيم بن أحمد بن الأغلب ابنه الأحول في عسكرهم يجاوز عشرين ألفاً فهزم كتامة وامتنع أبو عبد الله بجبل ايكجان وأحرق الأحـول مدينة تاصروت ومدينة ميلة وعاد إلى إفريقية وبنى أبو عبد الله بجبل ايكجان مدينة سماها دار الهجـرة. ثـم توفي إبراهيم ابن الأغلب صاحب إفريقية وولى ابنه أبو العباس وقتل واستقرّ الأمر لزيادة الله وكان الأحول حمل العساكر لحضوره فاستقدمه زيادة الله وقتله. وفاة الحبيب وإيصاؤه لابنه عبيد الله ولما توفي محمد الحبيب وأوصى لابنه عبيد الله وقال له أنت المهدي وتهاجر بعدي هجرةً بعيدة وترى مِحَناً شديدةً. فقام عُبَيْدُ الله بالأمر وانتشرت دعوته. وأرسل إليه أبو عبد الله الشيعي رجالاً من كتامة يخبرونه بما فتح الله عليهم وأنهم في انتظاره. وشاع خبره وطلبه المكتفـي فهرب هو وولده نزار الذي ولي بعده وتلقب بالقائم. وخرج معه خاصته ومواليه يريد المغـرب. وانتهـى إلـى مِـصْرَ وعليهـا يومئـذ عيسـى النَوْشَـرِي فلبـس عُبَـيْد اللـه زي التجار يتستر به. وجـاء كتـاب المكتفـي للنوشري بالقبض عليه وفيه صفته وحليته فبعث العيون في طلبه. ونمي الخبر بذلك إلى عبيد الله من بعض خواص النوشري فخرج في رفقة ورآه النوشري وأحضره ودعاه للمؤاكلة فاعتذر بالصوم. ثم امتحنه فلم تشهد له أحواله بشيء مما ذكر له عنه. وقارن ذلك رجوع ابنه أبي القاسم يسأل عن كلب للصيد ضاع له فلما رآه النوشري وأخبر أنـه ولـد عبـد اللـه علـم أنَّ هـذه الدالـة في طلب الضائع منافية للرقْبَةِ والخوف فخلى سبيله وجد المهدي في السير وكان له كتب من الملاحم ورثها منقولة عن أبيه سرقت من رحله في تلك الطريـق. ويقـال: إن ابنـه أبـا القاسـم لمـا زحف إلى مصر أخذها من بلاد برقة. ولما انتهى المهدي وابنه إلى طرابلـس وفارقـه التجـار أهـل الرفقـة قـدم أبـا العبـاس أخـا أبـي عبيـد اللـه الشيعـي إلـى أخيـه بكتامة ومر بالقيروان وقد سبق خبرهم إلى زيادة الله وهو يسأل عنهـم فقبـض علـى أبـي العبـاس وسألـه فأنكـر فحبسـه وكتـب إلـى طرابلـس بالقبـض علـى المهدي ففاته وسار إلى قسَنْطِينَةَ فعـدل عنهـا خشيـة علـى أبـي العباس أخي الشيعيّ المعتقل بالقيروان وذهب إلى سجلماسة وبها إليشع بن مدرار فأكرمه. ثـم جـاءه كتـاب زيـادة اللـه ويقال كتاب المكتفي بأنه المهدي الذي داعيه في كتامة فحبسه وبعث زيـادة اللـه العساكـر إلـى كتامـة مع قريبه إبراهيم بن حيش وكانوا أربعين ألفاً فانتهى إلى قسَنْطِينَةَ فأقـام بهـا وهـم متحصِّنـون بخيلهم ستة أشهر. ثم زحف إليهم ودافعهم عند مدينة بلزمة فانهزم إلـى القيـروان. وكتـب أبـو عبـد اللـه بالفتـح إلـى المهـدي وهـو فـي محبسـه. ثـم زحـف إلـى مدينـة طبنـة فحاصرهـا وملكهـا بالأمـان ثـم إلـى مدينة بلزمة عنوَةً فبعث زيادة الله العساكر مع هارون الطبني فانتهوا إلى مدينة دار ملوك وكانوا قد أطاعوا الشيعي فهدمها هارون وقتل أهلها وسار إلى الشيعي فانهزم من غير قتال وقتل. وفتـح الشيعـي مدينـة عيسـى فزحـف - زيـادة اللـه في العساكر سنة خمس وتسعين ونزل الأربس ثـم أشـار عليـه أصحابـه بالرجـوع إلـى القيـروان ليكـون ردءاً للعساكـر. فبعـث الجيـوش مـع إبراهيم بن أبي الأغلب من قرابته. ورجع وزحف أبو عبد الله إلى باغاية فهرب عاملها وملكها ثم إلى مدينة مرماجنة فافتتحها عنوة وقتل عاملها ثم إلى مدينة تيفاش فملكها على الأمان واستأمن إليه القبائل من كل جهة فأمنهم وسار بنفسه إلى مسلبابة ثم إلى تبسة ثم إلى مجانة ففتحها على الأمان. ثم سار إلى القصرين من قمودة وأمن أهلها وسار يريد رقادة. وبلغ الخبر إلى إبراهيم بن أبي الأغلب وهو بالأربس أميراً على الجيش فخشي على زيادة الله برقادة لقلة عسكـره وارتحـل ذاهبـاً إليـه. وسـار أبـو عبـد اللـه إلـى قسنطينـة فحاصرهـا وافتتحها على الأمان. ورجـع إلـى باغايـة فأنـزل بهـا عسكـراً. وعـاد إلـى أيكجـان فسـار إبراهيـم بـن أبـي الأغلـب إلى باغاية وحاصـر أصحـاب أبـي عبـد اللـه بهـا. فبعـث أبـو عبـد اللـه عساكـره إلـى مـرج العرعـار فألفوا إبراهيم قد عاد عنهـا إلـى الأربـس. ثـم زحـف أبـو عبـد اللـه إلـى إبراهيـم سنـة سـت وتسعيـن فـي مائـة ألـف مقاتل. وبعث من عسكره من يأتي إبراهيم من خلفه وسار إليه فانهزم وأثخن فيهم أبو عبد الله بالقتل والأسر وغنم أموالهم وخيلهم وظهرهم. ودخل الأريس فاستباحها ثم سار فنزل قمودة وبلغ الخبر إلى زيادة الله فهرب إلى مصر. وافتـرق أهـل مدينـة رقـادة إلـى القيـروان وسوسـة ونهـب قصـور بنـي الأغلـب ووصل إبراهيم بن أبي الأغلـب إلـى القيـروان فنزل قصر الإمارة وجمع الناس ووعدهم الحماية وطلب المساعدة بطاعتهم وأموالهم فاعتذروا وخرجوا إلى الناس فأخبروهم فثاروا به وأخرجـوه. وبلـغ أبـا عبـد اللـه الشيعـي هـربُ زيـادة اللـه وهـو يشبـه فدخـل إلـى رقـادة وقـدم بيـن يديـه عروبـة بـن يوسف وحسن بن أبي خنزير فساروا وأمنوا الناس. وخرج أهل القيروان للقاء أبي عبد اللّه فأكرمهـم وأمنهـم ودخل رقادة في رجب سنة ست وتسعين ونزل قصورها وفرّق دورها على كتامة وناس بالأمان. وتراجع الناس فأخرج العمال وطلب أهل الشر فهربوا وجمع أموال زيادة اللّه وسلاحه وأمر بحفظها وبحفظ جواريه واستأذنه الخطباء لمن يخطبون فلم يعين لهم أحد ونقـش علـى السِكَّة من أحد الوجهين بلغت حجة اللّه ومن الآخر تفرق أعداء الله وعلى السلاح عدّة في سبيل الله ووسم أفخاذ الخيل بالملك لله. |
بيعة المهدي بسجلماسة
ولما ملك أبو عبد اللّه إفريقية لقيه أخوه أبو العباس منطلقاً من اعتقاله فاستخلفه عليها وترك معـه أبـا زاكـي تمـام بـن معـارك مـن قوّاد كَتامة. وسار إلى المغرب ففرق القبائل من طريقه وخافته زَناتـة فدخلـوا فـي طاعتـه. ولمـا قـرب مـن سجلماسـة إلـى المهـدي بمحبسـه يسألـه عـن خالـه فأنكـر ثم سأل ولده كذلك فأنكر وضرب رجاله فأنكروا ونمي الخبر إلى أبي عبد اللهّ فخشي عليهم وأرسـل إلـى اليسـع يتلطفـه فقتـل الرسل فأغذ آبو عبد الله السير وحاصره يوماً وهرب أليسع من الليل هو وأصحابه وبنو عمه. وخرج أهل البلد إلى أبي عبد اللهّ فجاء إلى مجلس المهدي فأخرجه هو وابنه أبا القاسم واركبهما ومشى مع رؤساء القبائل بين يديهما وهو يقول: هذا مولاكم ويبكي من شدة الفرح ثمِ أنزله بالمُخَيم وبعث في أثر اليسع فجيء به فجلد ثم قتل وأقام بسجلماسة أربعين يوماً ورجع إلى إفريقية ووصل إلى رقادة في ربيع من سنة ست وتسعيـن وجـدّد البيعـة للمهـدي واستولـى علـى ملـك بنـي الأغلـب بإفريقيـة. وملـك مدرار سجلماسة ونزل برقادة وتلقب بالمهدي أمير المؤمنين. وبعث دعاته في الناس فحملوهم على مذهبهم فأجابوا إلا قليلاً عـرض عليهـم السيـف وقسـم الأمـوال والجـواري فـي رجـال كتامـة وأقطعهم الأموال والأعمال ودوّن الدواوين وجبى الأموال وبعث العمال على البلاد. فبعث على صقيلية الحسن بن أحمـد بـن أبـي خنزيـر فوصـل إلـى مـازر فـي عيـد الأضحـى مـن سنـة تسـع وتسعيـن فاستقضى بها إسحاق بن المنهال وأجاز البحر سنة ثمان وتسعين إلى بسط قلورية فأثخن فيهـا وعـاد وثـار به أهل صقلية سنة تسع وتسعين فحبسوه واعتذروا إلى المهدي لسوء سيرته فعذرهم وولى عليهم علي بن عمر البلوي فوصل إليهم خاتمة السنة المذكورة. أخبار ابن الليث بفارس قـد ذكرنـا مـن قبـل استيـلاء الليث بن علي بن الليث وسيكري مولى عمر بن الليث على فارس مـن يـد طاهـر بـن محمـد. ثـم أخـرج سيكـري بعـد ذلـك الليث وانفرد بها وسار بن محمد بن عمرو فواقعه وانهزم طاهر وأسر سيكرى وأسر أخاه يعقوب وبعث بهًما إلى المقتدر مع كاتبه عبد الرحمـن بن جعفر الشيرازي وقد أمّره على ما يحمله وذلك سنة ست وتسعين - ثم سار إليه الليـث بـن علـي مـن سجستـان سنـة سبـع وتسعيـن فغلبـه وملـك فارس وهرب سيكرى إلى أرَّجان وأملَّـى المقتـدر بمؤنـس الخـادم فـي العساكـر فجـاء إلى أرجان وجاء الحسين بن حمدان من قُم إلى البيضـاء فـي إعانتـه لملاقاتـه وأضـل الطريق إلى مسالك صعبة أشرف على عسكر مؤنس. وكان سيكري قد بعث أخاه إلى شيراز ليحفظها فلما أشرف على العسكر ظنه عسكر أخيه فثاروا إليه وانهزم عسكر الليث وأخذ أسيراً. وأشار عليه أصحابه أن يقبض على سيكري ويطلب من المقتدر ولاية فارس مكانه فوافقهم طاهر ودس إليه فلحق بشيراز وعاد مؤنـس إلى بغداد بالليث أسيراً والحسين بن حمدان إلى عمله بقم. ثـم أن عبـد الرحمـن بـن جعفر كاتب سيكري استولى على أمره وحسد أصحابه وأكثروا السعاية فيه عند سيكري فحبسه واستكتب مكانه إسماعيل بن إبراهيم اليمن فحمله على العصيان ومنع الحمل ودس عبد الرحمن بن جعفر من محبسه إلى الوزير ابن الفرات بذلك فكتب إلى مؤنـس وهـو بواسـط يأمـره بالعـود إلـى فـارس فسـار وأرسلـه سيكـري أنسه وسأل منه الوساطة في أمـره وشعـر ابـن الفرات بميل مؤنس إلى بغداد وسار محمد بن جعفر فهزم سيكري على شيراز فخلص إلى قم وتحصن بها وحاصره محمد بن جعفر. ثم خرج إليه فهزمه ثانية ودخل مغارة خراسـان فلقيتـه عساكـر إسماعيـل إلـى بغـداد فحبسـا هنالك. واستولى محمد بن جعفر من القواد علـى فارس وولى عليها قبيحاً خادم الأفشين. ثم صارت ولايتها لبدر ابن عبد الله الحمامي وفي آخر سنة تسع وتسعين ومائتين قبض حرمه وقامت الهيعة ببغداد ثلاثة أيام ثم سكنت وذلـك لثلـاث سنيـن وثلاثـة أشهـر مـن وزارتـه. فاستوزر مكانه أبا علي محمد بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى فرتب الأمور وولي على الدواوين. ثم زاد قرشه لضيق صدره وطيشه وعدوله عن مذاهب الرياسة إلى الوضاعة ومراجعة أصحاب الحاجات والحقوق إلى ما يريد قضاءه منها وكثرة التولية والعزل وتبجـح أصحابـه عليـه فـي إطلـاق الأمـوال وانبسـاط الجـاه بإفسـاد الأحوال. واعتزم المقتدر على عزله بأبي الحسين بن أبي الفضل فاستدعاه من أصبهان. ثم قبض عليه وعلى أبي الحسن ببغداد وأهمل رأي الوزراء وصار يرجع إلى قول النساء والخدم فطمـع العمـال فـي الأطـراف ثـم أخـرج ابن الفرات من محبسه وجعله في بعض الحجر وأحسن إليه وصار يعرض عليه مطالعات العمال وأراد أن يستوزره. ثم بدا له واستدير علي بن عيسى مـن مكـة فاستـوزره لـأول سنـة إحـدى وثلثمائـة وقبـض علـى الخاقاني وحبسه وعين حرسياً عليه. وقام علي بن عيسى بالوزارة وأصلح ما أفسده الخاقاني واستقامت الأمور. قيام أهل صقلية بدعوة المقتدر ثم رجوعهم إلي طاعة المهدي قد ذكرنا ولاية علي بن عمر على صقلية من عبد الله المهدي سنة تسع وتسعين. ثم أن أهل صقلية انتقضوا عليه وولوا عليهم أحمد بن وهب. ثم انتقضوا عليه وأرادوا قتله فدعا إلى طاعة المقتدر وخطب له بصقلية وقطع خطبة المهدي وبعث اسطولاً إلى ناحية ساحـل إفريقيـة فلقـوا أسطـول المهـدي وعليـه الحسـن بـن أبـي خنزيـر فأحرقـوه وقتلـوا الحسـن ووصلـت خلـع السـواد وألويتـه لابـن وهـب مـن بغـداد. ثـم جاءت أساطيل المهدي في البحر وفسد أمـر ابـن وهـب. ثـم ثـارت أهـل صقليـة بـه سنـة ثلثمائـة وأسـروه وبعثـوا بـه إلـى المهدي مع جماعة من أصحابه فأمرهم بقتلهم على قبر ابن أبي خنزير. ولاية العهد وفي سنة إحـدى وثلثمائـة ولـى المقتـدر ابنه أبا العباس العهد وهو الذي ولي الخلافة بعد القاهر وسمي بالرافضي فولاه أبوه المقتدر العهد وهو ابن سنين وقلده مصر والمغرب واستخف له ظهور الأطروش وملكه خراسان كـان هـذا الأطـروش مـن ولـد عمـر بـن علـي زيـن العابديـن وهو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بـن عمـر وكـان قـد دخـل إلـى الديلـم بعـد قتـل محمـد بـن زيد ولبث فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ويأخذ منهم العشر ويدافع عنهم ملكهم ابن حسان فأسلم على يديه منهم خلق كثير وبنى لهم المساجد وزحف بهم إلى ثغور المسلمين أراهم مثل قزوين وسالوس فأطاعوه وهـدم حصـن سالـوس. ثـم دعاهـم إلـى غـزو طبرستـان وهـي فـي طاعـة ابـن سامـان وكان إسماعيل بـن أحمـد لمـا انتقـض بهـا محمـد بـن هـارون وقبـض عليـه إسماعيـل ولـى عليها أبا العباس عبد الله بن محمد بن نوح فأحسن السيرة وأظهر العدل وبالغ في الإحسان إلى العلوية الذين بها واستمال الديلم بالمهاداة والإحسان فاشتمل الناس عليه. فمـا دعاهـم الحسن إلى غزو طبرستان. لم يجيبوه من أجل ابن نوح. ثم إن أحمد بن إسماعيل عزل ابن نوح عنها وولى عليها سلاماً فأساء السيرة ولم يحسن سياسة الديلم فهاجوا عليه فقاتلهم وهزمهم واستعفى من ولايتها. فعاد إليها ابن نوح وصلحت الحال كما كانت إلى أن مـات فولـى عليهـا محمد بن إبراهيم بن صعلوك فأساء السيرة وتنكر للديلم فصادف الحسن منها الغرة ودعاهم إلى غزو طبرستان فأجابوه وسار إليه ابن صعلوك على من يرحله من سالوس بشاطئ البحر فانهزم وقتل من أصحابه أربعة آلـاف ولجـأ الباقـون إلـى سالـوس فحاصرهـم الأطروش حتى استأمنوا ورجع عنهم إلى آمد. ثـم جـاء الحسـن بـن القاسـم العلوي الداعي صهر الأطروش إلى أولئك المستأمنين فقتلهم واستولى الأطـروش علـى طبرستـان ولحق ابن صعلوك بالري سنة إحدى وثلثمائة وسار منها إلى بغداد. وكـان الأطـروش زيـدي المذهـب وجميـع الذيـن أسلمـوا علـى يـده فيما وراء اسعيد " ولى " إلى آمد كلهم على مذهب الشيعة. ثم أن الأطروش العلوي تنحى عن آمد إلى سالوس بعد أن غلب عليها فبعث إليه صعلوك الري من قبل ابن سامان جيشاً فهزمهم وعاد إلى آمد. ثم زحفت إليه عساكر السعيد صاحب خراسان سنة أربع وثلثمائة فقتلوه. وكـان هـذا الأطـروش عـادلاً حسـن السيـرة لـم يـر مثلـه فـي أيامـه وأصابـه الصمـم من ضربة في رأسه بالسيف فـي الحـرب. وقـال ابـن مسكويـه فـي كتـاب تجـارب الأمـم ويقـال فيـه الحسـن بـن علـي الداعـي وليس به وإنما الداعي الحسن بن القاسم صهره وسنذكره فيما بعد. وكان له من الولد أبو الحسن وكان قواده من الديلم جماعة منهم ابن النعمان وكانت له ولاية جرجان وما كان بن كالـي وكـان علـى استرابـاذ ومعـرا. ثـم كـان مـن قـواد ولـده من الديلم جماعة آخرون منهم أسفار بن شيرويه من أصحاب ما كان ابن كالي ومرداويج بن زياد من أصحاب أسفار وأسكري من أصحابه أيضاً وبنو بويه من أصحاب مرداوشج وسيأتي الخبر عن جميعهم إن شاء الله تعالى. غلب المهدي علي الإسكندرية ومسير مؤنس إلي مصر وفي سنة اثنتيـن وثلاثمائـة بعث عبيد الله المهدي عساكره من إفريقية إلى الإسكندرية مع قائمه خفاشة الكتابي فغلب عليها وسار إلى مصر وبلغ المقتدر فبعث مؤنساً الخادم في العساكر لمحاربته وأمده بالأموال والسلاح. وسار إليهم وقاتلهم فهزمهم بعد وقائع متعددة قتل فيها من الفريقين وبلغ القتل والأسر من المغاربة سبعة آلاف ورجعوا إلى المغرب. انتقاض الحسين على ابن حمدان بديار ربيعة وأسره كان الحسين بن حمدان والياً على ديار ربيعة وطالبه الوزير علي بن عيسى بالمال فدافعه وأمره بتسليم البلاد إلى عمال السلطان فامتنع وكان مؤنس الخادم بمصر في محاربة عساكر المهدي صاحب إفريقية فجهز الوزير إلـى ابـن حمـدان رائقـاً الكبيـر فـي عسكـر سنـة ثلـاث وثلاثمائـة وكتـب إلـى مؤنـس أن يسيـر إلـى الجزيـرة لقتالـه بعـد فراغه من أصحاب العلوي بمصر فسار رائـق أولاً وهزمـه الحسيـن ولحـق بمؤنـس فأمره بالمقام بالموصل. وسار نحو الحسين وتبعه أحمد بن كيغلـغ وانتهـى إلـى جزيـرة ابن عمر والحسين بأرمينية. ورجع الكثير من عسكره إلى مؤنس. ثم بعـث مؤنـس عسكـراً في أثره عليهم بليق ومعه سيما الجزري. وجاء الصفواني واتبعوه فأدركوه وقاتلـوه فهزمـوه وجـاؤوا بـه أسيـراً ومعـه ابنه عبد الوهاب وأهله وكثير من أصحابه. وعاد مؤنس إلى بغداد على الموصل فحبسه المقتدر وأغار على أبي الهيجاء بن حمدان وجميع أخوته وحبسهـم. ثـم أطلـق أبـا الهيجـاء سنـة خمـس وقتـل الحسيـن سنـة سـت تقريبـاً كمـا نذكـر إن شـاء الله تعالى. وزارة ابن الفران الثانية كان الوزير أبو الحسن بن الفرات محبوساً كما ذكرنا وكـان المقتـدر يشـاوره ويرجـع إلـى رأيـه ويبغي بعض أصحاب المقتدر إعادته. وبلغ ذلك الوزير علي بـن عيسـى فاستغفـى ومنعـه المقتدر. ثم جاءت في بعض الأيام قهرمانة القصر تناظره في نفقات الحرم والحاشية وكسوتهم فألفتـه نائمـاً فلـم يوقظـه لهـا أحد. فرجعت وشكت إلى المقتدر وأمه فقبض عليه في ذي القعدة من سنة أربع وثلاثمائة وأعاد ابن الفرات على أن يحمل إلى بيت المال ألف دينار وخمسمائة دينـار فـي كـل يـوم. وقبـض علـى الوزيـر مـن قبلـه علـي بن عيسى والخاقاني وأصحابهما وصادرهم خبر ابن أبي الساج بأذربيجان قـد ذكرنـا استقرار يوسف بن أبي الساج على أرمينية وأذربيجان منذ مهلك أخيه محمد سنة ثمان وثمانين ومائتين وكان على الحرب والصلاة والأحكام وكان عليـه مـال يؤذيـه. فلمـا ولـي الخاقاني وعلي بن عيسى الوزارة والتأمـت أمـور يوسـف فـي الاستبـداد وأخـر بعـض المـال واجتمع له ما يريده لذلك وبلغته نكبة الوزير علي بن عيسى فأظهر أن العهد وصل إليه بولاية الرقـي علـى يـد علـي بـن عيسـى. وكـان حميـد بـن صعلـوك مـن قـواد بـن سامان قد بعث على الري وما يليها وقاطع عليها بمال يحمله فسار إليه يوسف سنة أربع وثلاثمائة فهرب إلى خراسان واستولى يوسف على الري وقزوين وزنجان وكتب إلى الوزير ابن الفرات بالفتح ويعتذر بأنه طرد المتغلبين ويذكر كثرة ما أنفق من ذلك وأنه كان بأمر الوزير علي بن عيسى وعهده إليه بذلك فاستعظم المقتدر ذلك وسئل علي بن عيسى فأنكر وقال سلموا الكتاب والحاشيـة والعهد واللواء اللذين كان يسير بهما مع بعض القواد والخدام. فكتب ابن الفرات بالنكير على يوسف وجهز العساكر لحربه مع خاقان المفلحي ومعه أحمد بـن مسـرور البلخـي وسيمـا الخـزري ونحريـر الصغيـر وسـاروا سنـة خمـس وثلاثمائة فهزمهم يوسف وأسر منهم جماعة. فبعث المقتدر مؤنساً الخادم في جيش كثيف لمحاربته. وعزل خاقان المفلحي عن أعمال الجبل وولاها نحريراً الصغير. وسار مؤنس واستأمن له أحمد بن علي أخو صعلوك فأمنه وأكرمه وبعث ابن أبي الساج في المقاطعة على أعمال الري بسبعمائة ألـف دينـار سـوى أرزاق الجنـد والخـدم فأبـى له المقتدر من ذلك عقوبة على ما أقدم عليه وولي علـى ذلـك العمل وصيفاً البهتمري وطلب ابن أبي الساج أن يقاطعه على ما كان بيده قبل الري من أذربيجان وأرمينية فأبى المقتدر إلا أن يحضر في خدمته. فلما يئس ابن أبي الساج إلى مؤنس وقاتله فانهزم مؤنس إلى زنجان وقتل من قواده جماعة وأسر هلال بن بدر وغيره فحبسهم يوسف في أردبيل وأقام مؤنس بزنجان بجميع العساكر يستمد من المقتدر وابن أبي الساج يراسله في الصلح والمقتدر لا يجيب إلى ذلك. ثم قاتله مؤنـس فـي فاتـح سنـة سبـع وثلاثمائـة عنـد أردبيـل فهزمـه وأسـره وعـاد بـه إلى بغداد أسيراً فحبسه المقتـدر وولـى مؤنس على الري ودنباوند وقزوين وأبهر وزنجان علي بن وهشودان وجعل أموالها لرجاله وولى مؤنس على أصبهان وقم وقاشان أحمد بن علي بن صعلوك وسارعن أذربيجان فوثـب سبـك مولـى يوسـف بـن أبـي الساج فملكها واجتمع عليه عسكر فولى مؤنس بن محمد بن عبيد الفارقي وسار بمحاربة سبك فانهزم وعاد إلى بغداد. وتمكـن سبك في أذربيجان وسأل المقاطعة على مائتي ألف وعشرين ألف دينار في كل سنة فأجيب وعقد له عليها وكان مقيماً بقزوين فقتله على مراسة ولحق ببلده فولى المقتدر وصيفاً البكتمـري مكانـه علـى أعمال الري وولى محمد بن سليمان صاحب الجيش على الخوارج بها ثم وثب أحمد بن علي بن صعلوك صاحب أصبهان وقم على الري فملكها وكتب إليه المقتدر بالنكير وأن يعـود إلـى قـم فعـاد ثـم أظهـر الخلـاف وأجمـع المسيـر إلـى الـري وسـار وصيـف البكتمري لحربه. وأمر نحرير الصغير أن يسير مدداً لبكتمري فسبقهم أحمد بن صعلوك إلى الري. وملكها وقتل محمد بن سليمان صاحب الخوارج وبعث إلى نصر الحاجب ليصلح أمره بالمقاطعة على أعمال الري بمائة وستين ألف دينار وينزل عن قم فكتب له بذلك وولى غيره على قم. خبر سجستان وكرمان وكانـت سجستـان قـد صـارت لابن سامان منذ سنة ثمان وتسعين ومائتين ثم تغلب عليها كثير بـن أحمـد بـن صهفـود مـن يـده فكتـب المقتدر إلى عامل فارس وهو بدر بن عبد الله الحمامي أن يرسل العساكر لمحاربته ويؤمر عليهم دركاً ويجعل على الخراج بها زيد بن إبراهيم. فسارت العساكر وحاربوا أهل سجستان فهزموهم وأسروا زيد بن إبراهيم وكتب كثير إلى المقتدر بالبراءة من ذلك وطوية أهل سجستان. وأرسل المقتدر أن يسير لقتاله بنفسه فخاف كثير وطلـب المقاطعـة علـى خمسمائـة ألـف دينـار فـي كـل سنـة فأجيـب وقررت البلاد عليه. وذلك سنة أربع وثلاثمائة. وانتقض في هذه السنة بكرمان صاحب الخوارج بها أبو زيد خالد بن محمد المارداني وسار منها إلى شيراز يروم التغلب على فارس فسار إليه بـدر الحمامـي العامـل وحاربه فقتله وحمل رأسه إلى بغداد. وزارة حامد بن العباس وفي سنة سـت وثلاثمائـة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسن بن الفرات بسبب شكوى الجند بمطله أرزاقهم واعتذر بضيق الأموال للنفقة في حروب ابن أبي الساج ونقص الارتياع بخروج الري عن ملكه. فشغب الجند وركبوا وطلب ابن الفرات من الخليفة إطلاق مائتي ألف دينار من خاصته يستعين بها فنكر ذلك عليه لأنه كان ضمن القيام بأرزاق الأحشاد وجميع النفقات المرتبة: فاحتج بنقص الارتياع وبالنفقة في الحرب كما تقدم فلم يقبل. ويقال: سعى فيه عند المقتـدر بأنـه يـروم إرسـال الحسين بن حمدان إلى أبي الساج فيحاربه وإذا سار عنده اتفقا على المقتدر فقتل المقتدر ابن حمدان وقبض على ابن الفرات في جمادى الآخرة وكان حامد بن العباس على الأعمال بواسط وكان منافراً لابن الفرات وسعى به عنده بزيادة ارتياعه على ضمانه فخشيه حامد على نفسه. وكتب إلى نصر الحاجب والي والده المقتدر سعة نفسه وكثرة أتباعه وذلك عند استيحاشه مـن ابـن الفـرات. فاستقدمـه مـن واسـط وقبـض على ابن الفرات وابنه المحسن وأتباعهما واستـوزر حامـداً فلـم يصـف حقـوق الـوزارة ولا سياستهـا وتحاشـى عليه الدواوين فأطلق المقتـدر علـي بـن عيسـى وأقامـه علـى الدواويـن كالنائب عن حامد. فكان يزاحمه واستبد بالأمور دونه ولم يبق لحامد أمر عليه. فأجابه ابن الفرات بأسفه منه. وقال لشفيع اللؤلؤي: قل لأمير المؤمنين حامد إنما حمله على طلب الوزارة أني طالبته بأكثر من ألفي ألف دينار من فضل ضمانه فاستشاط حامد وزاد في السفه فأنفذ المقتدر من رد ابن الفرات إلـى محبسـه شـم صودر وضرب ابنه المحسن وأصحابه وأخذت منهم الأموال. ثم إن حامداً لما رأى استطالة علي بن عيسى عليه وكثرة تصرفه في الوزارة دونه ضمن للمقتدر أعمال الخوارج والضياع الخاصـة والمستحدثـة والقراريـة بسـواد بغـداد والكوفـة وواسط والبصرة والأهواز وأصبهان واستأذنه في الانحدار إلى واسط لاستخراج ذلك فانحدر واسم الوزارة له وأقام علي بن عيسـى يدبـر الأمـور فأظهـر حامـد سـوء تصرف في الأموال وبسط المقتدر يده حتى خافه علي بن عيسى. ثم تحرك السعر ببغداد فشغبت العامة ونهبوا الغلال لأن حامداً وغيره من القواد كان يخزنون الغلال. وأحضر حامد لمنعهم خضر فقاتلوه وفتقوا السجون ونهبوا دار الشرطة. وأنفذ المقتـدر غريـب الحـال فـي العسكـر فسكـن الفتنـة وعاقـب المتصديـن للشـر وأمـر بفتـح المخازن التي للحنطة وببيعها فرخص السعر وسكن إلى منع الناس من بيع الغلال في البيادر وخزنها فرفع الضمان عن حامد وصرف عماله عن السواد ورد ذلك لعلي بن عيسى وسكن الناس. |
وصول ابن المهدي وهو أبو القاسم إلى ابنه
وفي سنة سبـع وثلاثمائـة بعث المهدي صاحب إفريقية أبا القاسم في العساكر إلى مصر فوصل إلـى الإسكندريـة فـي ربيـع الآخـر وملكهـا ثم سار إلى مصر ونزل بالجيزة واستولى على الصعيد وكتب إلى أهل مكة في طاعته فلم يجيبوا. وبعث المقتدر مؤنساً الخادم إلى مصر لمدافعته فكانت بينهم حروب كثر فيها القتلى من الجانبين وكان الظهور لمؤنس ولقب يومئذ بالمظفر. ووصل من إفريقية أسطول من ثمانين مركباً للقائهم وعليهم سليمان الخادم ويعقوب الكتامي وأمر المقتدر بأن يسير إليهم أسطول طرسوس فسار في خمسة وعشرين مركباً وعليهم أبو اليمن ومعهـم المـدد والأنفـاط فغلبـوا أسطـول إفريقية وأحرقوا أكثر مراكبه. وأسر سليمان الخادم ويعقوب الكتامـي فـي جماعـة قتـل أكثرهـم وحبـس سليمـان بمصـر وحمـل يعقـوب إلـى بغداد. ثم هرب وعاد إلى إفريقية وانقطع المدد عن عسكر المغاربة فوقع الغـلاء عندهـم وكثـر الموتـان فـي النـاس والخيل فارتحلوا راجعين إلى بلادهم وسار عساكر مصر في أثرهم حتى أبعدوا. بقية خبر ابن أبي الساج قد تقدم لنا أن مؤنساً حارب يوسف بن أبي الساج عامل أذربيجان فأسره وحمله إلى بغداد فحبس بها واستقر بعده في عمله سبك مولاه. ثم إن مؤنساً شفع فيه سنة عشر فأطلقه المقتدر وخلع عليه. ثم عقد له على أذربيجان وعلى الـري وقزويـن وأبهـر وزنجـان وعلـى خمسمائة ألف دينار في كل سنة سوى أرزاق العساكر. وسار يوسف إلى أذربيجان ومعه وصيف البكتمري في العساكر ومر بالموصل فنظر في أعمالها وأعمال ديار ربيعة. وقد كان المقتـدر تقـدم إليـه بذلـك. ثـم سـار إلـى أذربيجان وقد مات مولاه سبك فاستولى عليها. وسار سنـة إحـدى عشـرة إلى الري وكان عليها أحمد بن علي أخو صعلوك وقد اقتطعها كما قدمنا. ثـم انتقـض علـى المقتـدر وهـادن ما كان بن كالي من قواد الديلم القائم بدعوة أولاد الأطروش في طبرستان وجرجان. فلما جاء يوسف إلى الري حاربه أحمد فقتله يوسف وأنفذ رأسه إلى بغداد واستولى على الري في ذي الحجة وأقام بها مدة ثم سار عنها إلى همذان فاتح ثلاث عشرة واستخلف بها مولاه مفلحاً وأخرجه أهل الري عنهم فعاد يوسف إليهم في جمادى من سنته واستولى عليها ثانية. ثم قلده المقتدر سنة أربع عشرة نواحي المشرق وأذن له في صرف أموالها في قواده وأجنـاده وأمره بالمسير إلى واسط ثم منها إلى هجر لمحاربة أبي طاهر القرمطي فسار يوسف إلـى أبي طاهر وكان بها مؤنس المظفر فرجع إلى بغداد وجعل له أموال الخراج بنواحي همذان وساوة وقم وقاشان وماه البصرة وماه الكوفة وماسبذان لينفقها في عسكره وتسعين بها على حرب القرامطة. ولما سار من الري كتب المقتدر إلى السعيد نصر بن سامان بولاية الري وأمره بالمسير إليها وأخذها من فاتك مولى يوسف فسار إليها فاتح أربع عشرة فلما انتهى إلى جبل قارن منعه أبـو نصـر الطبـري من العبور وبذل له ثلاثين ألف دينار فترك سبيله وسار إلى الري فملكها من يد فاتك وأقام بها شهرين وولى عليها سيمجور الدواني وعاد إلى بخارى. ثم استعمل على الـري محمـد بـن أبـي صعلـوك فأقـام بهـا إلـى شعبان سنة ست عشرة وأصابه مرض وكاتب الحسن بن القاسم الداعي وما كان بن كالي أميري الديلم في تسليم الري إليهما فقدما وسار عنها ومات في طريقه واستولى الداعي والديلم عليها. بقية الخبران وزراء المقتدر قـد تقـدم الكلـام فـي وزارة حامد بن العباس وان علي بن عيسى كان مستبداً عليه في وزارته وكـان كثيـراً مـا يطـرح جانبـه وشـيء فـي توقعاتـه علـى عمالـه. وإذا اشتكـى إليه أحد من نوابه يوقع علـى القصـة إنمـا عقـد الضمان على الحقوق الواجبة فليكف الظالم عن الرعية. فأنف حامد من ذلك واستأذن في المسير إلى واسط للنظر في ضمانة فأذن له. ثم كثرت استغاثة الخدم والحاشية في تأخر أرزاقهم وفسادها فإن علي بن عيسى كان يؤخرها وإذا اجتمعت عدة شهور أسقطوا بعضها وكثرت السعاية واستغاث العمال وجميع أصحاب الأرزاق بأنه حط من أرزاقهم شهرين من كل سنة فكثرت الفتنة على حامد. وكان الحسن ابن الوزير ابن الفرات متعلقـاً بمفلـح الأسـود خالصة الخليفة المقتدر وكان شقيقه لأبيه وجرى بينه وبين حامد يوماً كلام فأساء عليه حامد وحقد له. وكتب ابن الفرات إلى المقتدر وضمن له أموالاً فأطلقه واستوزره وقبض على علي بن عيسى وحبسه في مكانه وذلك سنة إحدى عشرة وجاء حامد من واسط فبعث ابن الفرات من يقبـض عليـه فهـرب مـن طريقـه واختفـى ببغـداد. ثـم مضـى إلـى نصـر بـن الحاجب سراً وسأل إيصاله إلى المقتدر وأن يحبسه بدار الخلافة ولا يمكـن ابـن الفـرات منـه. فاستدعـى نصـر الحاجـب مفلحـاً الخـادم حتى وقفه على أمره وشفع له في رفع المؤاخذة بما كان منه فمضى إلى المقتدر وفاوضه بما أحب وأمر المقتدر بإسلامه لابن الفـرات فحبسـه مـدة ثـم أحضـره وأحضـر لـه القضاة والعمال وناظره فيما وصل إليه من الجهات فأقر بنحو ألف ألف دينار. وضمنه المحسن بن الفرات بخمسمائة ألف دينار فسلم إليه وعذبه أنواعاً من العذاب وبعثه إلى واسط ليبيع أمواله هناك فهلك في طريقه بإسهال أصابه. ثـم صـودر علـي بـن عيسـى علـى ثلثمائة ألف دينار وعذبه المحسن بعد ذلك عليها فلم يستخرج منـه شيئـاً وسيره ابن الفرات أيام عطلته وحبسه بعد أن كان رباه وأحس إليه فقبض عليه مدة ثـم أطلقـه وقبـض علـى ابـن الجـوزي وسلمـه إلـى ابنـه المحسـن فعذبـه ثم بعثه إلى الأهواز لاستخراج الأمـوال فضربـه الموكـل بـه حتـى مـات. وقبـض ابنـه على الحسين بن أحمد وكان تولى مصر والشام وعلى محمد بن علي المارداني وصادرهما علـى ألـف ألـف وسبعمائـة ألـف دينـار وصـادر جماعة من الكتاب سواهم ونكبهم. وجاء مؤنس من غزاته فأنهى إليه أفعال ابن الفرات وما يعتمده من المصادرات والنكايات وتعذيب ابنه للناس فخافه ابن الفرات وخوف المقتدر منه. وأشار بسيره إلى الشام ليقيم هنالك بالثغر فبعثه المقتدر وأبعده. ثـم سعـى ابـن الفـرات بنصـر الحاجب وأغراه به وأطمعه في ماله وكان مكثراً واستجار نصر بأم المقتدر. ثم كثر الأرجاف بابن الفرات فخاف وأنهى إلى المقتدر بأن الناس عادوه لنصحه للسلطـان واستيفـاء حقوقـه وركـب هـو وابنـه المحسـن إلـى المقتـدر فأوصلهمـا إليـه وأسهمهمـا وخرجا من عنده فمنعهما نصر الحاجب ودخل مفلح على المقتدر وأشار إليه بعزله فأسر إليه وفاقه على ذلك وأمر بتخلية سبيلهما. واختفى المحسن من يومه. وجاء نازوك وبليق من الغـد فـي جماعـة مـن الجنـد إلـى دار ابن الفرات فأخرجوه حافياً حاسراً. وحمل إلى مؤنس المظفر ومعه هلال بن بدر ثم سلم إلى شفيع اللؤلؤي فحبس عنده وصودر على ألف ألف دينار وذلك سنة اثنتي عشرة. وكـان عبـد اللـه أبـو القاسـم بـن علـي بـن محمـد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان لما تغير حال ابن الفـرات سعـى فـي الـوزارة وضمـن فـي ابـن الفـرات وأصحابـه ألفـي ألف دينار على يد مؤنس الخادم وهارون بن غريب الحال ونصر الحاجب فاستوزره المقتدر على كراهية فيه ومات أبوه علي علـى وزارتـه. وشفـع إليـه مؤنـس الخـادم فـي إعـادة علـي بـن عيسـى مـن صنعـاء فكتـب لـه في العود وبمشارفة أعمال مصر والشام وأقام المحسن بن الفرات مختفياً مدة. ثم جاءت امرأة إلى دار المقتـدر تنادي بالنصيحة فأحضرها نصر الحاجب فدلت على المحسن فأحضره نازوك صاحب الشرطة فسلم للوزير وعذب بأنواع العذاب فلم يستخرج منه شيء فأمـر المقتـدر بحمله إلى أبيه بدار الخلافة وجـاء الوزيـر أبـو القاسـم الخاقانـي إلـى مؤنـس وهـارون ونصـر فحذرهـم شـأن ابـن الفـرات وعائلتـه بدار الخلافة وأغراهم به فوضعوا القواد والجند وقالوا لا بد من قتل ابن الفرات وولده. ووافق هؤلاء على ذلك فأمر نازوك بقتلهما فذبحهما. وجاء هارون إلى الوزير الخاقاني يهنئه بذلك فأغمي عليه ثم أفاق وأخذ منه ألفي دينار وشفـع مؤنـس المظفـر فـي أبنيـه عبـد اللـه وأبـي نصـر فأطلقهمـا ووصلهمـا بعشريـن ألـف دينـار. ثـم عـزل الخاقانـي سنـة ثلـاث عشـرة لأنـه أصابـه المرض وطال به وشغب الجند في طلب أرزاقهم فوقفت بـه الأحـوال وعزلـه المقتـدر وولى مكانه أبا العباس الخصي وكان كاتباً لأمه فقام بالأمر وأقر علي بـن عيسـى على أعمال مصر والشام فكان يتردد إليهما من مكة ثم إن الخصي اضطربت أموره وضاقـت الجبايـة وكـان مدمنـاً للسكـر مهمـلاً للأمـور ووكل من يقوم عنه فآثروا مصالحهم وأضاعوا مصلحته. وأشار مؤنس المظفر بعزله وولاية ابن عيسى فعزل لسنة وشهرين. واستقـدم علـي بن عيسى من دمشق وأبو القاسم عبد الله بن محمد الكلواذي بالنيابة عنه إلى أن يحضـر فحضـر أول سنـة خمـس عشرة واستقل بأمر الوزارة وطلب كفالات المصادرين والعمال وما ضمن من الأمـوال بالسـواد والأهـواز وفـارس والمغـرب فاستحضرهـا شيئـاً بعـد شـيء وأدر الـأرزاق وبسـط العطـاء وأسقـط أرزاق المغنيـن والمسامـرة والندمـان والصفاعنة. وأسقط من الجند أصاغر الأولاد ومن ليس له سلاح والهرمى والزمني وباشر الأمور بنفسه واستعمل الكفاة. وطلب أبا العباس الخصي في المناظرة واحضر له الفقهاء والقضاة والكتاب وسأله عن أموال الخوارج والنواحي والمصادرات وكفالاتها وما حصـل مـن ذلـك ومـا الواصـل والبواقـي فقـال لا أعلـم. فسألـه عـن المـال الـذي سلمه لابن أبي الساج كيف سلمه بلا مصرف ولا منفق وكيف سلم إليه أعمال المشرق وكيف بعثه لبلاد الصحراء بهجر هو وأصحابه من أهل الغلول والخصب فقال ظننت منهم القدرة على ذلك. وامتنع ابن أبي الساج من المنفق فقال: وكيف استجزت ضرب حرم المصادرين فسكت ثم سئـل عـن الخـراج فخلـط فقـال أنـت غـررت أميـر المؤمنيـن من نفسك فهلا استعذرت بعدم المعرفة. ثـم أعيـد إلـى محبسـه واستمـر علـي بن عيسى في ولايته. ثم اضطربت عليه الأحوال واختلفت الأعمـال ونقـص الارتيـاع نقصـاً فاحشاً وزادت النفقات وزاد المقتدر تلك الأيام في نفقات الخدم والحرم ما لا يحصى وعاد الجند من الأنبار فزادهم في أرزاقهم مائتين وأربعين ألف دينار. فلما رأى ذلك علي بن عيسى ويئس من انقطاعه أو توقفه وخشي من نصر الحاجب فقـد كـان انحـرف عنـه لميـل مؤنـس إليـه ومـا بينهمـا مـن المنافرة في الدولة فاستعفى من الوزارة وألح في ذلك وسكنه مؤنس فقال له أنت سائر إلى الرقة وأخشى على نفسي بعدك. ثـم فـاوض المقتـدر نصراً الحاجب بعد مسير مؤنس فأشار بوزارة أبي علي بن مقلة فاستوزره المقتدر سنة ست عشرة وقبض على علي بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وأقام ابن مقلة بالوزارة وأعانه فيها أبو عبد الله البريدي لمودة كانت بينهما واستمرت حاله على ذلك. ثم عزله المقتدر ونكبه بعد سنتين وأربعة أشهر حين استوحش من مؤنس كما نذكره وكان ابن مقلـة متهمـا بالميـل إليـه فاتفـق مغيبه في بعض الوجوه فقبض عليه المقتدر. فلما جاء مؤنس سأل فـي إعادتـه فلـم يجبـه المقتـدر أراد قتلـه فمنعـه واستوزر المقتدر سليمان بن الحسن وأمر علي بن عيسى بمشاركته في الاطلاع على الدواوين وصودر ابن مقلة على مائتي ألف دينار وأقام سليمـان فـي وزارتـه سنـة وشهريـن وعلـي بـن عيسـى يشاركـه فـي الدواويـن. وضاقـت عليـه الأحوال إضاقة شديدة وكثرت المطالبات ووقفت وظائف السلطان. ثم أفرد السواد بالولايـة فانقطعـت مـواد الوزيـر لأنـه كـان يقيـم مـن قبلـه مـن يشتـري توقعـات الأرزاق ممن لا يقدر على السعي في تحصيلها من العمال والفقهـاء وأربـاب البيـوت فيشتريهـا بنصـف المبلـغ فيتعـرض بعـض من كان ينتمي لمفلح الخادم لتحصيل ذلك للخليفة وتوسط له مفلح فدافع لذلك وجاهر في تحصيله من العمال فاختلت الأحوال بذلك وفضح الديوان ودفعـت الأحوال لقطع منافع الوزراء والعمال التي كانوا يرتفقون بها وإهمالهم أمور الناس بسبب ذلك. وعاد الخلل على الدولة وتحرك المرشحون للوزارة في السعاية وضمان القيام بالوظائف وأرزاق الجنـد. وأشـار مؤنـس بـوزارة أبي القاسم الكلواذي فاستوزره المقتدر في رجب من سنة تسع عشرة وأقام في وزارته شهرين. وكان ببغداد رجل من المخرفين يسمى الدانيالي وكان وراقاً ذكياً محتالاً يكتب الخطوط في الورق ويداويها حتى تتم بالبلى وقد أودعها ذكر من يراه من أهل الدولة برمـوز وإشـارات ويقسم له فيها من حظوظ الملك والجاه والتمكين قسمة من عالم الغيب يوهم أنها من الحدثان القديم المأثور عن دانيال وغيره وأنها من الملاحم المتوارثة عن آبائه ففعل مثـل ذلـك بمفلـح. وكتب له في الأوراق م م م بأن يكون له كذا وكذا وسأله مفلح عن الميم فقال هو كناية عنك لأنـك مفلـح مولـى المقتـدر. وناسـب بينـه وبيـن علامـات مذكـورة فـي تلـك الأوراق حتى طبقها عليه فشغـف بـه مؤنـس وأغنـاه. وكـان يداخـل الحسيـن بـن القاسـم بـن عبـد اللـه بن وهب فرمز اسمه في كتـاب وذكـر بعض علاماته المنطبقة عليه وذكر انه يستوزره الخليفة الثامن عشر من بني العباس وتستقيـم الأمـور علـى يديـه ويقهـر الأعـادي وتعمـر الدنيـا فـي أيامـه. وخلـط ذلـك في الكتاب بحدثان كثير وقع بعضه ولم يقع الآخر. وقرأ الكتاب على مفلح فأعجبه وجاء بالكتاب إلى المقتدر فأعجب به الآخر وقال لمفلح من تعلم بهذه القصة فقال لا أراه إلا الحسين بن القاسم. قال صدقت وإني لأميل إليه وقد كان المقتـدر أراد ولايتـه قبل ابن مقلة وقبل الكلواذي فامتنع مؤنس. ثم قال المقتدر لمفلح إن جاءتك رقعـة منـه بالسعـي في الوزارة فأعرضها علي. ثم سأل مفلح الدانيالي من أين لك الكتاب قال وراثة من آبائي وهو من ملاحم دانيال. فأنهى ذلك إلى المقتدر واغتبطوا بالحسين وبلغ الخبر إليه فكتب إلى مفلح بالسعي في الوزارة فعرض كتابه على المقتدر فأمره بإصلاح مؤنس. واتفـق أن الكلـواذي عمـل حسابـاً بمـا يحتـاج إليـه مـن النفقـات الزائدة على الحاصل فكانت سبعمائة ألف دينار وكتب عليه أهل الديوان خطوطهم وقال: ليس لهذه جهة إلا ما يطلقـه أمير المؤمنين. فعظم ذلك على المقتدر وأمر الحسين بن القاسم أن يضمن جميع النفقات وزيادة ألف ألف دينار لبيت المال. وعرض كتابه على الكلواذي فاستقال وأذن للكلواذي لشهرين من وزارته وولى الحسين بن القاسم واشترط أن لا يشاركه علي بن عيسى في شيء من أموره وإخراجه الصافية. واختص به الحسين بن اليزيدي وابن الفرات. ولما ولي واطلع على نقصان الارتياع وكثره الإنفاق وضاف عليه الأمر فتعجل الجباية المستقبلة وصرفها في الماضية. وبلغ ذلـك هـارون بـن غريـب الحـال فأنهاه إلى المقتدر فرتب معه الخصي واطلع على حسابه فألقى له حسبة ليس فيها رمزه. فأظهـر ذلـك المقتـدر وجميـع الكتـاب واطلعـوا عليهـا وقابلـوا الوزيـر بتصديـق الخصـي فيمـا قالـه وقبـض علـى الحسيـن بـن القاسـم فـي شهـر ربيـع مـن سنة عشرين لسبعة أشهـر مـن ولايتـه. واستـوزر أبـا الـروح الفضـل بـن جعفـر وسلـم إليـه الحسيـن فلـم يؤاخـذه بإساءته ولم يزل على وزارته. |
أخبار القرامطة في البصرة والكوفة
كـان القرامطـة قـد استبـد طائفة منهم بالبحرين وعليهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجناني ورث ذلك عن أبيه واقتطعوا ذلك العمل بأسره عن الدولة كما يذكر في أخبار دولتهم عند إفرادها بالذكر. فقد أبو طاهر البصرة سنة إحدى عشرة ومائتين وبها سبط مفلح فكبسها ليلاً في ألفين وسبعمائة وتسنموا الأسوار بالحبال وركب سبك فقتلوه ووضعوا السيف في الناس فأفحشوا في القتل وغرق كثير في الماء وأقام أبو طاهر بها سبعة عشر يوماً وحمل ما قدر عليه من الأموال والأمتعة والنساء والصبيان وعاد إلى هجر. وولى المقتدر على البصرة محمـد بـن عبـد اللـه الفارقـي فانحـدر إليهـا بعد انصرافهم عنها. ثم سار أبو طاهر القرمطي سنة اثنتـي عشـرة معترضـاً للحـاج فـي رجوعهـم مـن مكـة فاعتـرض أوائلهم ونهبهم وجاء الخبر إلى الحاج وهـم بعيـد وقد فنيت أزوادهم وكان معهم أبو الهيجاء بن حمدان صاحب طريق الكوفة. ثم أغار عليهم أبو طاهر فأوقع بهم وأسر أبا الهيجاء أحمد بن بدر من أخوال المقتدر ونهب الأمتعة وسبي النساء والصبيان ورجع إلى هجر. وبقـي الحجـاج ضاهيـن فـي الفقـر إلـى أن هلكوا ورجع كثير من الحرم إلى بغداد وأشغبوا واجتمع معهـم حـرم المنكوبيـن أيـام ابن الفرات فكان ذلك من أسباب نكبته. ثم أطلق أبو طاهر الأسرى الذي عنده ابن حمدان وأصحابه وأرسل إلى المقتدر يطلب البصرة والأهواز فلم يجبه وسار من هجر لاعتراض الحاج وقد سار بين أيديهم جعفر بن ورقاء الشيباني في ألف رجل من قومه وكان صاحب أعمال الكوفة وعلى الحاج بمثل صاحب البحر وجنا الصفواني وطريف اليشكري وغيرهم في ستة آلاف رجل فقاتل جعفر الشيباني أولاً وهزمه. ثم اتبع الحاج إلى الكوفة فهزم عسكرهم وفتك فيهم وأسرجنا الصفواني وهرب الباقون. وملك الكوفة وأقام بظاهرها ستة أيـام يقيـم فـي المسجـد إلـى الليـل ويبيـت فـي عسكـره. وحمـل مـا قـدر عليـه مـن الأمـوال والمتاع ورجع إلى هجر. ووصل المنهزمون إلى بغداد فتقدم المقتدر إلى مؤنس بالخروج إلى الكوفة فسار إليهـا بعـد خروجهـم عنهـا واستخلـف عليها ياقوتاً ومضى إلى واسط ليمانع أبا طاهر دونها ولم يحج أحد هـذه السنـة وبعـث المقتـدر سنـة أربـع عشـرة عن يوسف بن أبي الساج من أذربيجان وسيره إلى واسـط لحـرب أبـي طاهـر. ورجع مؤنس إلى بغداد وخرج أبو طاهر سنة خمس عشرة وقصد الكوفة وجاء الخبر إلى ابن أبي الساج فخرج من واسط آخر رمضان يسابق أبا طاهر إليها فسبقـه أبـو طاهـر وهرب العمال عنها واستولى على الأتراك والعلوفات التي أعدت بها. ووصل ابـن أبـي السـاج ثامـن شـوال بعـد وصـول أبـي طاهر بيوم وبعث يدعوه إلى الطاعة للمقتدر فقال لا طاعة إلا لله فآذنه بالحرب وتزاحفوا يوماً إلى الليل. ثـم انهـزم أصحـاب ابـن أبـي السـاج وأسروا ووكل أبو طاهر طبيباً يعالج جراحته ووصل المنهزمون ببغداد فأرجفوا بالهرب وبرز مؤنس المظفر لقصد الكوفة. وقد سار القرامطة إلى عين التمر فبعث مؤنس من بغداد خمسمائة سرية ليمنعهم من عبور الفرات. ثم قصد القرامطة الأنبار ونزلوا غربـي الفـرات وجـاؤوا بالسفـن مـن الحديثـة فأجـاز فيهـم ثلثمائـة منهـم وقاتلـوا عسكـر الخليفـة فهزموهـم واستولـوا علـى مدينـة الأنبـار. وجـاء الخبـر إلـى بغـداد فخـرج الحاجـب فـي العساكر ولحـق بمؤنـس المظفـر واجتمعـوا فـي نيـف وأربعيـن ألـف مقاتـل إلـى عسكـر القرامطـة ليخلصـوا ابن أبي السـاج فقاتلهـم القرامطة وهزموهم. وكان أبو طاهر قد نظر إلى ابن أبي الساج وهو يستشرف إلى الخلاص وأصحابه يشيرونه فأحضره وقتله وقتل جميع الأسرى من أصحابـه وكثـر الهـرج ببغداد واتخذوا السفن بالانحدار إلى واسط ومنهم من نقل متاعه إلى حلوان. وكان نازوك صاحب الشرطة فأكثر التطواف بالليل والنهار وقتل بعض الدعار فاقصروا عن.ثـم سـار القرامطـة عـن الأنبار فاتحة سنة ست عشرة ورجع مؤنس إلى بغداد وسار أبو طاهر إلى الرحبة فملكها واستباحها واستأمن إليه أهل قرقيسيا فأمنهم وبعث السرايا إلى الأعراب بالجزيـرة فنهبوهـم وهربـوا بيـن يديـه وقـدر إليهـم الأتـاوة فـي كـل سنـة يحملونهـا إلـى هجـر. ثـم سـار أبـو طاهر إلى الرقة وقاتلها ثلاثاً وبعث السرايا إلى رأس عين وكفر توثا وسنجار فاستأمنوا إليهم وخرج مؤنس المظفر من بغداد في العسكر وقصد الرقة فسار أبو طاهر عنها إلى الرحبة ووصلها مؤنس وسار القرامطة إلى هيت فامتنعت عليهم فساروا إلى الكوفة. وخـرج مـن بغـداد نصـر الحاجـب وهـارون بـن غريـب وبنـي بـن قيـس فـي العساكر إليها ووصلت جند القرامطة إلى قصر ابن هبيرة. ثم مرض نصر الحاجب واستخلف على عسكره أحمد بن كيغلغ وعاد فمـات فـي طريقـه وولـى مكانـه علـى عسكـره هـارون بـن غريـب وولـى مكانـه فـي الحجة ابنه أحمد. ثم انصرف القرامطة إلـى بلادهـم ورجـع هـارون إلـى بغـداد فـي شـوال مـن السنـة. ثـم اجتمـع بالسـواد جماعات من أهل هذا المذهب بواسط وعين التمر وولى كل جماعة عليهم رجلاً منهم فولى جماعـة واسـط حريث بن مسعود وجماعة عين التمر عيسى بن موسى وسار إلى الكوفة ونزل بظاهرها وصرف العمال عن السواد وجبي الخراج. وسار حريث إلى أعمال الموفق وبنى بها داراً سماها دار الهجرة واستولى على تلك الناحية وكان صاحـب الحـرب بواسـط بنـي بـن قيس فهزموه فبعث إليه المقتدر هارون بن غريب في العساكر وإلى قرامطة الكوفة صافيا البصري فهزموهم من كل جانب وجاؤوا بأعلامهم بيضاء عليها مكتوب: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فـي الـأرض " الآيـة وأدخلـت إلـى بغـداد منكوسـة واضمحـل أمـر القرامطـة بالسواد. استيلاء القرامطة على مكة وقلعهم الحجر الأسود ثـم سار أبو طاهر القرمطي سنة تسع عشرة إلى مكة وحج بالناس منصور الديلمي فلما كان يوم التروية نهب أبو طاهر أموال الحجاج وفتك فيهم بالقتل حتى في المسجد والكعبة واقتلع الحجـر الأسـود وحملـه إلـى هجـر وخـرج إليه أبو مخلب أمير مكة في جماعة من الأشراف وسألوه فلم يسعفهم وقاتلوه فقتلهم وقلع باب البيت وأصعد رجلاً يقتلع الميزاب فسقط فمات وطرح القتلى في زمزم ودفن الباقين في المسجد حيث قتلوا ولم يغسلوا ولا صلي عليهم ولا كفنوا. وقسم كسوة البيت على أصحابه ونهب بيوت أهل مكة وبلغ الخبر إلى المهدي عبيـد اللـه بإفريقية وكانوا يظهرون الدعاء له فكتب إليه بالنكير واللعن ويتهدده على الحجر الأسود فرده وما أمكنه من أموال الناس واعتذر عن بقية ما أخذوه بافتراقه في الناس. خلع المقتدر وعوده كـان مـن أول الأسبـاب الداعيـة لذلـك أن فتنـة وقعـت بين ماجوريه هارون الحال ونازوك صاحب الشرطة في بعض مذاهب الفواحش فحبس نازوك ماجوريه هارون وجاء أصحابه إلـى محبس الشرطة ووثبوا بنائبه وأخذوا أصحابهم من الحبس. ورفع نازوك الأمر إلى المقتدر فلم يعد أحداً منهما لمكانهما منه فعاد الأمر بينهما إلى المقاتلة. وبعث المقتدر إليهما بالنكير فاقصـرا واستوحـش هـارون وخرج بأصحابه ونزل البستان النجمي وبعث إليه المقتدر يسترضيه فأرجف الناس أن المقتدر جعله أمير الأمـراء فشـق ذلـك علـى أصحـاب مؤنـس. وكـان بالرقـة فكتبـوا إليـه فأسـرع العـود إلى بغداد ونزل بالشماسية مستوحشاً من المقتدر ولم يلقه وبعث ابنه أبا العباس ووزيره ابن مقلة لتلقيـه وإيناسـه فلـم يقبـل وتمكنـت الوحشـة وأسكـن المقتدر ابن خاله هارون معه في داره فازداد نفور مؤنس. وجاء أبو العباس بن حمدان من بلاده في عسكر كبير فنزل عند مؤنس وتردد الأمراء بين المقتدر ومؤنس وسار إليه نازوك صاحب الشرطة وجاءه بني بن قيس. وكان المقتدر قد أخـذ منه الدينور وأعادها إليه مؤنس واشتمل عليه. وجمع المقتدر في داره هارون بن غريب وأحمد بن كيغلغ والغلمان الحجرية والرجال المصافية. ثم انتقض أصحاب المقتدر وجاؤوا إلى مؤنـس وذلـك فـي فتـح سنـة سبـع عشـرة. فكتـب مؤنـس إلـى المقتـدر بـأن النـاس ينكـرون سرقـه فيما أقطع الحرم والخدم من الأموال والضياع ورجوعه إليهم في تدبير ملكه ويطالبه بإخراجهم من الدار وإخراج هارون بن غريب معهم وانتزاع ما في أيديهـم مـن الأمـوال والأملـاك. فأجـاب المقتـدر إلـى ذلـك وكتـب يستعطفـه ويذكره البيعة ويخوفه عاقبة النكث وأخرج هارون إلى الثغور الشامية والجزرية فسكن مؤنس ودخل إلى بغداد ومعه ابن حمدان ونازوك والناس يرجفون بأنه خلع المقتدر. فلمـا كـان عشـر محـرم مـن هـذه السنة ركب مؤنس إلى باب الشماسية وتشاور مع أصحابه قليلاً ثم رجعوا إلى دار الخليفة بأسرهم وكان المقتدر قد صرف أحمد بن نصـر القسـوري عـن الحجابة وقلدها ياقوتاً وكان على حرب فارس فاستخلف مكانه ابنه أبا الفتح المظفر. فلما جاء مؤنس إلى الدار هرب ابن ياقوت وسائر الحجبة والخدم والوزير وكل من بالدار ودخل مؤنس فأخرج المقتدر وأمه وولده وخواص جواريه فنقلهم إلى داره واعتقلهم بهـا وبلـغ الخبـر هارون بن غريب بقطربل فدخل إلى بغداد واستتر ومضى ابن حمدان إلى دار ابن طاهر فأحضر محمد بن المعتضد وبايعوه ولقبوه القاهر بالله. وأحضروا القاضي أبا عمر المالكي عند المقتـدر للشهـادة عليـه بالخلـع وقـام ابـن حمـدان يتأسـف لـه ويبكـي ويقول: " كنت أخشى عليك مثل هذا ونصحتك فلم تقبـل وآثـرت قـول الخـدم والنسـاء علـى قولـي ومـع هـذا فنحـن عبيـدك وخدمك ". وأودع كتاب الخلع عند القاضي أبي عمر ولم يظهر عليه أحداً حتى سلمه إلى المقتـدر بعـد عـوده فحسـن موقـع ذلك منه وولاه القضاء ولما تم الخلع عمد مؤنس إلى دار الخليفة فنهبها ومضى ابن نفيس إلى تربة أم المقتدر فاستخرج من بعض قبورها ستمائة ألف دينار وحملها إلى القاهر. وأخـرج مؤنـس علـي بـن عيسـى الوزيـر من الحبس وولى علي بن مقلة الوزارة وأضاف إلى نازوك الحجابة مع الشرطة وأقطع ابن حمدان حلوان والدينور وهمـذان وكرمـان والصيـدرة ونهاونـد وشيراز وماسبذان مضافاً إلى ما بيده من أعمال طريق خراسان وكان ذلك منتصف المحرم. ولما تقلد نازوك الحجابة أمر الرجالة بتقويض خيامهم من الدار وأدالهم ابن جالة من أصحابه فأسفهم بذلك وتقدموا إلى خلفاء الحجاب بأن يمنعوا الناس من الدخول إلا أصحاب المراتب فاضطربت الحجرية لذلك فلما كان سابع عشر المحرم وهو يوم الاثنين بكر الناس إلى الخليفة لحضور الموكب وامتلأت الرحاب وشاطئ دجلة بالناس وجاء الرجالة المصافية شاكي السلاح يطالبون بحق البيعة ورزق سنة وقد بلغ منهم الحنق على نازوك مبالغه. وقعد مؤنس عن الحضور ذلك اليوم وزعق الرجالة المصافية فنهى نازوك أصحابه أن يعرضوا لهم فزاد شغبهم وهجموا على الصحن المنيعي ودخل معهم من كان على الشط من العامة بالسلـاح والقاهـر جالس وعنده علي بن مقلة الوزير ونازوك. فقال لنازوك: اخرج إليهم فسكنهم فخرج وهو متحامل من الخمار فتقدم إلى الرجالة للشكوى بحالهم ورأى السيوف في أيديهم فهرب فحدث لهم الطمع فيه وفي الدولة واتبعوه فقتلوه وخادمه عجيفاً ونادوا بشعار المقتدر. وهرب كل من في الديار من سائر الطبقات وصلبوا نازوك وعجيفاً على شاطىء دجلة. ثم ساروا إلى دار مؤنـس يطلبـون المقتـدر وأغلـق الخـادم أبـواب دار الخليفـة وكانـوا كلهـم صنائـع المقتـدر. وقصـد أبـو الهيجـاء حمـدان الفـرات فتعلـق بـه القاهـر واستقـدم به فقال له اخرج معي إلى عشيرتـي أقتـل دونـك فوجـد الأبـواب مغلقـة فقال له ابن حمدان: قف حتى أعود إليك ونزع ثيابه ولبس بعض الخلقان وجاء إلى الباب فوجده مغلقاً والناس من ورائه فرجع إلى القاهر وتمالأ بعض الخدام على قتله فقاتلهم حتى كشفهم ودخل في بعض مسارب البستان فجاؤوه فخرج إليهم فقتلوه وحملوا رأسه. وانتهى الرجالة إلى دار مؤنس يطلبون المقتدر فسلمه إليهم وحملوه على رقابهم إلى دار الخلافة فلما توسط الصحن المنيعي اطمأن وسأل عن أخيه القاهر وابن حمدان وكتب لهما الأمان بخطه وبعث فيهما فقيل له أن ابن حمدان قد قتل فعظم عليه وقال واللـه مـا كـان أحمد بسيف في هذه الأيام غيره وأحضر القاهر فاستدناه وقبل رأسه وقال له لا ذنـب لـك ولـو لقبـوك المقهـور لكـان أولى من القاهر وهو يبكي ويتطارح عليه حتى حلف له على الأمان فانبسط وسكن. وطيف برأس نازوك وابن حمدان وخرج أبو نفيس هارباً من مكان استتاره إلى الموصل ثم إلى أرمينية ولحق بالقسطنطينية فتنصر وهرب أبو السرايا أخو أبي الهيجاء إلى الموصل وأعـاد المقتـدر أبـا علـي بـن مقلـة إلـى الـوزارة وأطلـق للجنـد أرزاقهـم وزادهـم. وبيـع مـا فـي الخزائـن بأرخـص الأثمـان وأذن فـي بيع الأملاك لتتمة الأعطيات وأعاد مؤنساً إلـى محلـه مـن تدبيـر الدولـة والتعويـل عليـه فـي أمـوره. ويقال إنه كان مقاطعاً للمقتدر وإنه الذي دس إلـى المصافيـة والحجريـة بمـا فعلـوه ولذلـك قعـد عـن الحضور إلى القاهر. ثم إن المقتدر حبس أخاه أخبار قواد الديلم وتغلبهم على أعمال الخليفة قـد تقـدم لنـا الخبـر عـن الديلـم فـي غيـر موضع من الكتاب وخبر افتتاح بلادهم بالجبال والأمصار التي تليها أمثل طبرستان وجرجان وسارية وآمد واستراباذ وخبر إسلامهم على يد الأطروش وأنه جمعهم وملك بهم بلاد طبرستان سنة إحدى وثلثمائة وملك من بعده أولاد والحسن بن القاسم الداعي صهره واستعمل منهم القواد على ثغورها. فكان منهم ليلى بن النعمان كانت إليـه ولايـة جرجـان عـن الحسـن بـن القاسـم الداعـي سنـة ثمـان وثلاثيـن. وكانـت بيـن بنـي سامـان وبين بنـي الأطـروش والحسـن بـن القاسم الداعي وقواد الديلم حروب هلك فيها ليلى بن النعمان سنة تسـع وثلاثمائـة لـأن أمر الخلفاء كان قد انقطع عن خراسان وولوها لبني سامان. فكانت بسبب ذلك بينهم وبين أهل طبرستان من الحروب ما أشرنا إليه. ثـم كانـت بعـد ذلك حرب مع بني سامان فولاها من قواد الديلم شرخاب بن بهبودان وهو ابن عـم ماكـان بـن كالـي وصاحـب جيـش أبي الحسن الأطروش وقاتله سيمجور صاحب جيش بني سامـان فهزمـه وهلـك شرخـاب وولـى ابـن الأطـروش ما كان ابن كالي على استراباذ. فاجتمع إليه الديلـم وقدمـوه علـى أنفسهم واستولى على جرجان كما يذكر ذلك كله في أخبار العلوية. وكان مـن أصحـاب مـا كـان هـذا أسفـار ابـن شيرويـه من قواد الديلم عن ما كان إلى قواد بني سامان. فاتصـل ببكـر بـن محمـد بـن اليسع بنيسابور وبعثه في الجنود لافتتاح جرجان وبها أبو الحسن بن كالـي نائبـاً عـن أخيـه ماكـان وهـو بطبرستـان. فقتـل أبـو الحسـن وقـام بأمـر جرجـان علـي بـن خرشيـد. وعلى أسفار ابن شيرويه إلى حمايتها من ما كان فزحف إليهم من طبرستان فهزموه وغلبوه عليها ونصبوا أبا الحسن وعلي بن خرشيد. فزحف ماكان إلى أسفار وهزمه وغلبه على طبرستان ورجع إلى بكر بن محمد بن اليسع بجرجان. ثـم توفـي بكـر سنة خمس عشرة فولى نصر بن أحمد بن سامان أسفار بن شيرويه مكانه على جرجان وبعث أسفار عن مرداوبج بن زيار الجبلي وقدمه على جيشه وقصدوا طبرستان فملكوها. وكان الحسن بن القاسم الداعي قد استولى على الري وأعمالها من يد نصر بن سامان ومعه قائده ماكان بن كالي. فلما غلب أسفار على طبرستان زحف إليه الداعـي وقائـده ماكـان فانهزمـا وقتـل الداعـي ورجـع ماكـان الـري واستولـى أسفـار بـن شيرويـه على طبرستان وجرجان. ودعا لنصر بن أحمد بن سامان ونزل سارية واستعمل على آمد هارون بـن بهـرام. ثـم سـار أسفـار إلـى الري فأخذها من يد ماكان بن كالي وسار ماكان إلى طبرستان واستولى أسفار على سائر أعمال الري وقزوين وزنجان وأبهروقم والكرخ وعظمت جيوشـه وحدثته نفسه بالملك فانتقض على نصـر بـن سامـان صاحـب خراسـان واعتـزم علـى حربـه وحرب الخليفة. وبعـث المقتـدر هـارون بـن غريـب الحـال في عسكر إلى قزوين فحاربه أسفار وهزمه وقتل كثيراً مـن أصحابـه. ثـم زحـف إليـه نصـر بـن سامـان مـن بخـارى فراسله في الصلح وضمان أموال الجباية فأجابه وولاه ورجع إلى بخارى فعظـم أمـر أسفـار وكثـر عيثـه وعسـف جنـده وكـان قائـده مرداويج من أكبر قواده قد بعثه أسفار إلى سلار صاحب سميرم والطرم يدعوه إلى طاعته. فاتفـق مـع سلار على الوثوب بأسفار وقد باطن في ذلك جماعة من قواد أسفار ووزيره محمد بـن مطـرف الجرجانـي. ونمـي الخبـر إلـى أسفـار وثـار بـه الجنـد فهـرب إلى بيهق. وبراء مرداويج من قزويـن إلى الري وكتب إلى ماكان بن كالي يستدعيه من طبرستان ليظاهره على أسفار فقصد ما كان أسفار فهرب أسفار إلى الري ليتصل بأهله وماله وقد كان أنزلهم بقلعة المرت وركب المفازة إليها ونمي الخبر إلى مرداويج فسار لاعتراضه. وقدم بعض قواده أمامه فلحقه القائد وجـاء بـه إلـى مرداويـح فقتلـه ورجع إلى الري ثم إلى قزوين وتمكن في الملك وافتتح البلاد وأخذ همـذان والدينـور وقـم وقاشـان وأصبهـان وأساء السيرة في أهل أصبهان وصنع سريراً من ذهب لجلوسه. فلما قوي أمره نازع ماكان في طبرستان فغلبه عليها. ثم سار إلى جرجان فملكها وسار ما كان على الديلم مستنجداً بأبي الفضل الثائر بها وسار معه إلى طبرستان فقاتلهم عاملها من قبل مرداويح بالقسم ابن بايحين وهزمهم ورجع الثائر إلى الديلم وسار ماكان إلى نيسابور ثم سار إلى الدامغان فصده عنها القسم فعاد إلى خراسان. وعظم أمر مرداويج واستولـى علـى بلـد الـري والجبـل واجتمع إليه الديلم وكثرت جموعه وعظم خرجه. فلم يكف ما في يده من الأعمال فسما إلى التغلب على النواحي فبث إلى همذان الجيوش مع ابن أخته وكانت بها عساكر الخليفة مع محمد بن خلف فحاربهم وهزمهم وقتل ابن أخت مرداويـج. فسار من الري إلى همذان وهرب عسكر الخليفة عنها وملكها مرداويج عنوة واستباحها. ثم أمن بقيتهم. وأنفذ المقتدر هارون بن غريب الحال في العساكر فلقيه مرداويج وهزمهم واستولى على بلاد الجبل وما وراء همذان وبعث قائده إلى الدينور ففتحها عنـوة وانتهـت عساكـره إلـى حلـوان فقتل وسبى. وسار هارون إلى قرقيسيا فأقام بها واستمد المقتدر وكان معه اليشكري من قـواد أسفـار وكـان قـد استأمن بعد أسفار إلى الخليفة وسار في جملته. وجاء مع هارون في هـذه الغـزاة إلـى نهاونـد لحمـل المـال إليـه منهـا. فلمـا دخلها استمدت عينه إلى ثروة أهلها فصادرهم علـى ثلاثـة آلاف ألف دينار واستخرجها في مدة أسبوع وجند بها جنداً ومضى إلى أصبهان وبها يومئذ ابن كيغلغ قبل استيلاء مرداويج عليها فقاتله أحمد وانهزم وملك اليشكري أصبهان ودخل إليها أصحابه وقام بظاهرها. وسـار أحمـد بـن كيغلـغ فـي ثلاثيـن فارسـاً إلـى بعـض قـرى أصبهان وركب اليشكري ليتطوف على السـور فنظـر إليهم فسار نحوهم فقاتلوه وضربه أحمد بن كيغلغ على رأسه بالسيف فقد المغفر وتجـاوزه إلـى دماغـه فسقـط ميتاً. وقصد أحمد المدينة ففر أصحاب اليشكري ودخل أحمد إلى أصبهـان وذلـك قبـل استيـلاء عسكـر مرداويـج عليها فاستولى عليها وجمدوا له فيها مساكن أحمد بـن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي وبساتينه وجاء مرداويح في أربعين أو خمسين ألفاً فنزلها وبعث جمعاً إلى الأهواز فاستولوا عليها والي خوزستان كذلك وجبى أموالها وقسم الكثير منها في أصحابه وادخر الباقي وبعث إلى المقتدر يطلب ولاية هذه الأعمال وإضافة همذان وماه الكوفة إليها على مائتي ألف دينار كل سنـة فأجابـه وقاطعـه وولـاه وذلـك سنـة تسـع عشـرة. ثم دعا مرداويح سنة عشرين أخاه وشكمير من بلاد كيلان فجاء إليه بدوياً حافياً بما كـان يعانـي مـن أحـوال البـداوة والتبـذل فـي المعـاش ينكـر كل ما يراه من أحوال الترف ورقة العيش. ثـم صـار إلـى ترف الملك وأحوال الرياسة فرقت حاشيته وعظم ترفه وأصبح من عظماء الملوك وأعرفهم بالتدبير والسياسة. كان بداية أمره عاملاً على الأهواز وضبط ابن ماكرلان هذا الاسم بالموحـدة والـراء المهملـة نسبـة إلـى البريـد. وضبطـه ابـن مسكويـه باليـاء المثنـاة التحتانيـة والـزاي نسبـة إلـى يزيـد بـن عبـد اللـه بـن المنصور الحميري كان جده يخدمه ولما ولي علي بن عيسى الوزارة واستعمل العمال وكان أبو عبد الله قد ضمن الخاصة بالأهواز وأخوه أبو يوسف على سوق فائق من الاقتصارية وأخوه على هذا. فلما وزر أبو علي بن مقلة بذل له عشرين ألف دينار على أن يقلده أعمالاً فائقة فقلده الأهواز جميعها غيـر السـوس وجناسبـور وقلـد أخـاه أبـا الحسـن القرآنيـة وأخاهمـا أبـا يوسف الخاصة والأسافل وضمن المال أبا يوسف السمسار وجعل الحسين بن محمد المارداني مشرفـاً علـى أبي عبد الله فلم يلتفت إليه وكتب إليه الوزير ابن مقلة بالقبض على بعض العمال ومصادرته. فأخذ منه عشرة آلاف دينار واستأثر بها على الوزير فلما نكب ابن مقلة كتب المقتـدر بخطه إلى الحاجب أحمد بن نصر القسوري بالقبض على أولاد البريدي وأن لا يطلقهم إلا بكتابـه فقبـض عليهـم وجـاء أبـو عبـد اللـه بكتـاب المقتـدر بخطـه بإطلاقهـم. وظهـر تزويره فأحضرهم إلى بغداد وصودروا على أربعمائة ألف دينار فأعطوها. |
الصوائف أيام المقتدر
سار مؤنس المظفر سنة ست وتسعين في العساكر من بغداد إلى الفرات ودخل من ناحية ملطيـة ومعـه أبـو الأغـر السلمـي فظفـر وغنـم وأسـر جماعـة. وفي سنة سبع وتسعين بعث المقتدر أبا القاسم بن سيما لغـزو الصائفـة سنـة ثمـان وتسعيـن. وفي سنة تسـع وتسعيـن غـزا بالصائفـة رستـم أمير الثغور ودخل من ناحية طرسـوس ومعـه دميانـة وحاصـر حصـن مليـح الأرمنـي ففتحـه وأحرقـه. وفي سنة ثلاثمائـة مـات اسكنـدروس بـن لـاور ملـك الـروم وملـك بعـده ابنه قسطنطين ابن اثنتـي عشـرة سنـة. وفي سنة اثنتيـن وثلاثمائـة سـار علـي بـن عيسى الوزير في ألف فارس لغزو الصائفـة لبسـر الخـادم عامـل طرسـوس ولـم يتيسـر لهـم الدخـول فـي المصيـف فدخلـوا شاتية في كلب البرد وشدته وغنموا وسبوا. وفي سنة اثنتيـن وثلاثمائـة غـزا بسـر الخـادم والـي طرسـوس بلـاد الـروم ففتـح وغنـم وسبـى وأسـر مائـة وخمسين وكان السبي نحواً من ألفي راس. وفي سنة ثلاث وثلاثمائة أغارت الروم على ثغور الجزيرة ونهبوا حصن منصور وسبوا أهله بتشاغل عسكر الجزيرة بطلب الحسين بن حمدان مع مؤنس حتى قبض عليه كما مر. وفي هذه السنة خرج الروم إلى ناحية طرسوس والفرات. فقاتلـوا وقتلـوا نحـواً مـن ستمائـة فـارس. وجاء مليح الأرمني إلى مرعش فعاث في نواحيها. ولم يكن للمسلمين في هذه السنة صائفة. وفي سنة أربع بعدها سار مؤنس المظفر بالصائفة ومر بالموصل فقلد سبكا المفلحي باريدي وقردي من أعمال الفرات وقلد عثمان العبودي مدينة بلد وسنجار ووصيفاً البكتمري باقي بلاد ربيعة وسار إلى ملطية فدخل منها وكتب إلى أبي القاسم علي بن أحمد بن بسطام أن يدخـل مـن طرسـوس فـي أهلها ففتح مؤنس حصوناً كثيرة وغنم وسبى ورجع إلى بغداد فأكرمه المعتضد وخلع عليه. وفي سنة خمس وثلاثمائة وصل رسولان من ملك الروم إلى المقتدر في المهادنة والفداء فتلقيا بالإكرام وجلس لهما الوزير في الأبهة وصف الأجناد بالسلاح العظيم الشأن والزينـة الكاملـة فأديـا إليـه الرسالـة وأدخلهمـا مـن الغـد على المقتدر وقد احتفل في الأبهة ما شاء. فأجابهما إلى مـا طلـب ملكهـم. وبعـث مؤنسـاً الخـادم للفداء وجعله أميراً على كل بلد يدخله إلى أن ينصرف. وأطلق الأرزاق الواسعة لمن سار معه من الجنود وأنفذ معه مائة وعشرين ألف دينار للفدية. وفيهـا غـزا الصائفـة جنـا الصفوانـي فغنـم وغـزا وسيـر نمالـي الخادم في الأسطول فغنم. وفي السنة بعدها غزا نمالي في البحر كذلك وجنا الصفواني فظفر وفتح وعاد وغزا بشر الأفشين بلاد الروم ففتح عدة حصون وغنم وسبى. وفي سنة سبع غزا نمالي في البحر فلقي مراكب المهدي صاحب إفريقية فغلبهم وقتل جماعة منهم وأسر خادماً للمهدي. وفي سنة عشر وثلاثمائة غزا محمد بن نصر الحاجب من الموصل على قاليقلا فأصاب من الروم. وسار أهل طرسوس من ملطية فظفروا واستباحوا وعاثوا. وفي سنة إحـدى عشـرة غـزا مؤنـس المظفـر بلـاد الروم فغنم وفتح حصوناً. وغزا نمالي في البحر فغنـم ألـف رأس مـن السبي وثمانية آلاف من الظهر ومائة ألف من الغنم وشيئاً كثيراً من الذهب والفضة. وفي سنة اثنتي عشرة جاء رسول ملك الروم بالهدايا ومعه أبو عمر بن عبد الباقي يطلبان الهدنة وتقرير الفداء فأجيبا إلى ذلك. ثم غدروا بالصائفة فدخل المسلمون بلاد الروم فأثخنوا ورجعـوا. وفي سنة أربـع عشـرة خرجـت الروم إلى ملطية ونواحيها من الدمستق ومليح الأرمني صاحـب الـدروب وحاصـروا ملطيـة وهربـوا إلـى بغـداد واستغاثـوا فلم يغاثوا. وغزا أهل طرسوس بالصائفة فغنموا ورجعوا. وفي سنة خمس عشرة دخلت سرية من طرسوس إلى بلاد الروم فأوقـع بهـم الـروم وقتلـوا أربعمائة رجل صبراً وجاء الدمستق في عساكر من الروم إلى مدينة دبيل وبها نصر السبكي فحاصرها وضيق مخنقها واشتد في قتالها حتى نقـب سورهـا ودخـل الـروم إليهـا ودفعهـم المسلمـون فأخرجوهـم وقتلـوا منهـم بعـد أن غنمـوا مـا لا يحصـى وعاثوا في أنعامهم فغنموا من الغنم ثلاثمائـة ألـف رأس فأكلوهـا. وكـان رجـل مـن رؤساء الأكراد يعرف بالضحاك في حصن له يعرف بالجعبـري فتنصـر وخـدم ملـك الـروم فلعيـه المسلمون في سنة الغزاة فأسروه وقتلوا من معه. وفي سنة ست عشرة وثلاثمائة خرج الدمستق في عساكر الروم فحاصر خلاط وملكها صلحـاً وجعل الصليب في جامعها ورحل إلى تدنيس ففعل بها كذلك. وهرب أهل أردن إلى بغداد واستغاثوا فلم يغاثوا. وفيهـا ظهـر أهل ملطية على سبعمائة رجل من الروم والأرمن دخلوا بلدهم خفية وقدمهم مليح الأرمنـي ليكونـوا لهـم عونـاً إذا حاصروهـا فقاتلهـم أهل ملطية عن آخرهم. وفي سنة سبع عشرة بعث أهل الثغور الجزرية مثل ملطية وفارقين وآمد وارزا يستمدون المقتدر في العساكر وإلا فيعطوا الأتاوة للروم فلم يمدهم فصالحوا الروم وملكوا البلاد. وفيها دخل مفلح الساجي بلاد الـروم. وفي سنة عشريـن غـزا نمالـي بلـاد الـروم مـن طرسـوس ولقي الروم فهزمهم وقتل منهم ثلثمائة وأسـر ثلاثـة آلـاف وغنـم مـن الفضـة والذهـب شيئـاً كثيـراً وعـاد بالصائفـة فـي سنته في حشد كثير وبلغ عمورية فهرب عنها من كان تجمع إليها من الروم ودخلها المسلمون فوجدوا من الأمتعة والأطعمة كثيراً فغنموا وأحرقوا وتوغلوا في بلاد الروم يقتلون ويكتسحون ويخربون حتى بلغوا انكموريـة التـي مصرهـا أهـده وعادوا سالمين. وبلغت قيمة السبي مائة ألف وستة وثلاثين ألف دينار. وفي هذه السنة راسل ابن الريداني وغيره من الأرمن في نواحي أرمينية وحثوا الروم على قصد بلاد الإسلام فساروا وخربوا نواحي خلاط وقتلوا وأسروا فسار إليهم مفلح غلام يوسـف بـن أبـي السـاج من أذربيجان في جموع من الجند والمتطوعة فأثخن في بلاد الروم حتى يقـال إن القتلـى بلغـوا مائـة ألف وخرب بلاد ابن الريداني ومن وافقه وقتل ونهب. ثم جاءت الروم إلى سميساط فحصروها وأمدهم سعيد بن حمدان وكان المقتدر ولاه الموصل وديار ربيعة على أن يسترجع ملطية من الروم. فلما جاء. رسول أهل سميساط إليهم فأجفل الروم عنها فسار إلى ملطية وبها عساكر الروم ومليح الأرمني صاحب الثغور الرومية وبني ابن قيس صاحب المقتدر الذي تنصر. فلما أحسوا بإقبال سعيد هربوا وتركوها خشية أن يثب بهم أهلها وملكها سعيد فاستخلف عليها وعاد إلى الموصل. الولايات على النواحي أيام المقتدر كان بأصبهان عبد الله بن إبراهيم السمعي عاملاً عليها خالف لأول ولاية المقتدر وجمع من الأكـراد عشـرة آلـاف وأمـر المقتـدر بمـرا الحمامـي عامل أصبهان بالمسير إليه. فسار إليه في خمسة آلاف من الجند وأرسل من يخوفه عاقبة المعصية فراجع الطاعة وسار إلى بغداد واستخلف علـى أصبهـان. وكـان علـى اليمـن المظفر بن هاج. ففتح ما كان غلب عليه الحرثي باليمن وأخذ الحاتمـي مـن أصحابـه. وكـان علـى الموصـل أبو الهيجاء بن حمدان وسار أخوه الحسين بن حمدان وأوقـع بأعـراب كلـب وطـيء وأسـر سنـة أربـع وتسعيـن. ثـم سـار إلـى الأكراد المتغلبين على نواحي الموصـل سنـة خمـس وتسعيـن فاستباحهـم وهربـوا إلـى رؤوس الجبـال. وخرج بالحاج في سنة أربع وتسعين رصيف بن سوارتكين فحصره أعراب طيء بالقتال وأوقعهم فهزمهـم ومضـى إلـى وجهه. ثم أوقع بهم هنالك الحسن بن موسى فأثخن فيهم. وكان على فارس سنة ست وتسعين اليشكري غلام عمرو بن الليث فلما تغلب وكان على الثغور الشامية أحمد بن كيغلغ في سنة سبع وتسعين ملك الليث فارس من يد اليشكري ثم جـاءه مؤنـس فغلبـه وأسـره ورجـع اليشكـري إلـى عملـه كمـا مـر فـي خبـره. وفي سنة ست وتسعين وصـل ناسـر موسى بن سامان وقلد ديار ربيعة وقد مر ذكره. وفيها رجع الحسين بن حمدان من الخلاف وعقد له على قم وقاشان فسار إليها ونزل عنها العباس بن عمر الغنوي. وفي سنة سبـع وتسعيـن توفـي عيسـى النوشـري عامـل مصـر وولـى المقتـدر مكانـه تكيـن الخـادم. وفي سنة ثمـان وتسعيـن توفـي منيـح خـادم الأفشيـن وهـو علـى فـارس وكـان معـه محمد بن جعفر الفريابي فماتـا معـاً وولـى علـى فـارس عبـد اللـه بن إبراهيم المسمعي وأضيفت إليه كرمان. وفيها وليت أم موسى الهاشمية قهرمة دار المقتدر وكانت تؤدي الرسائل عن المقتدر وأمه إلى الوزراء وعن الوزراء إليهما. وفي سنه تسع وتسعين كان على البصرة محمد بن إسحاق بن كنداج وجاء إليه القرامطة فقاتلهم فهربـوا. |
وفي سنة ثلاثمائـة
عـزل إبراهيـم بـن عبـد اللـه المسمعـي عـن فـارس وكرمـان ونقـل إليهـا بـدر الحمامـي عامـل أصبهان وولى على أصبهان علي بن وهشودان. وفيها ولي بشير الأفشين طرسوس وفيها قلد أبو العباس بن المقتدر مصر والمغرب وهو ابن أربع سنين واستخلف له على مصر مؤنس المظفر وقلد معين الطولوني المعونة بالموصل. ثم عزل واستعمل مكانه نحرير الصغيـر. وفيهـا خالـف أبـو الهيجـاء عبـد اللـه بـن حمـدان بالموصل فسار إليه مؤنس وجاء به على الأمان. ثم قلد الموصل سنة اثنتين وثلاثمائة فاستخلف عليها وهو ببغداد. ثم خالف أخوه الحسيـن سنـة ثلثمائـة وسـار إليـه مؤنـس وجـاء بـه أسيـراً فحبـس. وقبـض المقتـدر علـى أبي الهيجاء وأخوته جميعاً فحبسـوا. وفيهـا ولـى الحسيـن بـن محمـد بـن عينونـة عامـل الخـراج والضيـاع بديـار ربيعـة بعد وفاة أبيه محمد بن أبي بكر. وفي سنة أربـع عـزل علـي بـن وهشـودان صاحـب الحـرب بأصبهـان بمنافـرة وقعت بينه وبين أحمد بن شاه صاحب الخراج وولى مكانه أحمد بن مسرور البلخي. وأقام ابن وهشودان بنواحي الجبل. ثم تغلب يوسف بن أبي الساج عليها كما مر وسار إليه مؤنس سنة سبع فهزمه وأسره وولى على أصبهان وقم وقاشان وساوة أحمد بن علي بل صعلوك وعلى الري ودنباوند وقزوين وأبهر وزنجان علي بن وهشودان اسمط عاه من الجبل فولـاه ووثـب بـه عمـه أحمـد بن مسافر صاحب الكرم فقتله بقزوين. فاستعمل مكانه على الحرب وصيفاً البكتمري وعلى الخراج محمد بن سليمان. ثـم سـار أحمـد بـن صعلـوك إليهـا فقتـل محمـد بـن سليمـان وطرد وصيفاً ثم قاطع على الأعمال بمال معلوم كما مر. وكان على أعمال سجستان كثير بن أحمد مقهور متغلباً عليها فسار إليه أبو الحمامي عامل فارس فخافه كثيراً وقاطع على البلاد وعقد له عليها. وكان على كرمان سنة أربـع وثلاثمائة أبو زيد خالد بن محمد المارداني فانتقض وسار إلى شيراز فقاتله بدر الحمامي وقتلـه. وفـي هـذه السنـة قتـل مؤنـس المظفـر عنـد مسيـره إلـى الصائفـة وانتهائـه إلـى الموصل فولوا على بلـد باريـدي وقردى سبكاً المفلحي وعلى مدينة بلد وسنجار وباكري عثمان العبودي صاحب الحرب بديار مصر فولى مكانه وصيف البكتمري فعجز عن القيام بها فعزل وولى مكانه جنا الصفواني. وكان علـى البصـرة فـي هـذه السنـة الحسـن بـن الخليـل تولاهـا منـذ سنيـن ووقعـت فتـن بينـه وبين العامة في مضر وربيعة واتصلت وقتل منهم خلق. ثم اضطروه إلى الالتحاق بواسط فاستعمـل عليهـا أبـا دلـف هاشـم بـن محمـد الخزاعي ثم عزل لسنة وولى سبكاً المفلحي نيابة عن وفي سنة ست وثلاثمائة عزل عن الشرطة نزار وجعل فيها نجيح الطولوني فأقام في الأرباع فقهاء يعمل أهل الشرطة بفتواهم فضعفت الهيبـة بذلـك وكثـر اللصـوص والعيـارون وكبسـت دور التجار واختطفت ثياب الناس. وفي سنة سبع وثلثمائة ولي إبراهيم بن حمدان ديار ربيعة وولي بني بن قيس بلاد شهرزور واتسعت عليه فاستمد المقتدر وحاصرها. ثم قلد الحرب بالموصل وأعمالها وكان على الموصل قبله محمد بن إسحاق بن كنداج وكان قد سار لإصلاح البلاد فوقعت فتنة بالموصل فرجع إليها فمنعوه الدخول فحاصرهم. وعزلـه المقتـدر سنة ثلاث وثلاثمائة وولي مكانه عبد الله بن محمد الغساني. وفي سنة ثمان وثلاثمائة ولى المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان على طريق خراسان والدينور وفيها ولى على دقوقا وعكبرا وطريق الموصل بدراً الشرابي. وفي سنة تسع ولى المقتدر على حرب الموصل ومعونتها محمد بن نصر الحاجب فسار إليها وأوقع بالمخالفين من الأكراد المادرانيـة. وفيهـا ولـى داود بـن حمـدان علـى ديـار ربيعـة. وفي سنة عشـر عقـد ليوسـف بـن أبـي السـاج على الري وقزوين وأبهر وزنجان وأذربيجان على تقدير العلوية كما مر. وفيها قبض المقتدر على أم موسى القهرمانة لأنها كانت كثيرة المال وزوجت بنت أختهـا مـن بعـض ولـد المتوكـل كـان مرشحـاً للخلافـة وكـان محسنـاً. فلمـا صاهرتـه أوسعـت في الشوار واليسار والعرس وسعى بها إلى المقتدر أنها استخلصت كالقواد فقبض عليها وصادرها على أموال عظيمة وجواهر نفيسة. وفيها قتل خليفة نصر بن محمد الحاجب بالموصل قتله العامة فجهز العساكر من بغداد وسار إليها. وفي سنة إحدى عشرة ملك يوسف بن أبي الساج الري من يد أحمد بن علي صعلوك وقتله المقتدر وقد مر خبره. وفيها ولى المقتدر بنى بن قيس على حرب أصبهان وولى محمد بن بدر المعتضدي على فارس مكان ابنه بدر عندما هلك. وفي سنة اثنتي عشرة ولى على أصبهـان يحيـى الطولونـي وعلـى المعاون والحرب بنهاوند سعيد بن حمدان. وفيها توفي محمد بن نصـر الحاجـب صاحـب الموصـل وتوفـي شفيع اللؤلؤي صاحب البريد فولى مكانه شفيع المقتدري. وفي سنة ثلـاث عشـرة فتـح إبراهيم المسمعي عامل فارس ناحية القفص من حدود كرمان وأسر منهـم خمسـة آلـاف. وكـان فـي هـذه السنـة ولـي علـى الموصـل أبـا الهيجـاء عبـد الله بن حمدان وابنه ناصر الدولة خليفة فيها فأفسد الأكراد والعرب بأرض الموصل وطريق خراسان وكانت إليه فكتب إليه ابنه ناصر الدولة سنة أربع عشرة بالانحدار إلى تكريت للقائه فجاءه في الحشد وأوقـع بالعرب والأكراد الخلالية وحسم علتهم. وفيها قلد المقتدر يوسف بن أبي الساج أعمال الشرق وعزله عن أذربيجان وولاه واسط وأمده بالسير إليها لحرب القرامطة وأقطعه همذان وساوة وقم وقاشان وماه البصرة وماه الكوفة. للنفقة في الحرب وجعل على الري من أعماله نصر بن سامان فوليها وصار من عماله كما مر. وفيها ولى أعمال الجزيرة والضياع بالموصل أبـا الهيجـاء عبـد اللـه بـن حمـدان وأضيـف إليـه باريدي وقردي وما إليهما. وفيها قتل ابن أبي الساج كما مر. وفي سنة خمس عشرة مات إبراهيـم المسمعـي بالنوبندجـان وولى المقتدر على مكانه ياقوت وعلى كرمان أبا طاهر محمد بن عبد الصمد. وفي سنة ست عشرة عزل أحمد بن نصر القسوري عن حجبة الخليفة ووليها ياقـوت وهـو علـى الحـرب بفـارس واستخلـف عليهـا ابنه أبا الفتح المظفر. وفيها ولى على الموصل وأعمالها يونس المؤنسي وكان على الحرب بالموصل ابن عبد الله بن حمدان وهو ناصر الدولة فغضب وعاد إلى الخلافة. وقتل في تلك الفتنة نازوك وأقر على أعمال قرس وباريدى التي كانت بيد أبي الهيجاء ابنه ناصر الدولة الحسن وعلى أعمال الموصل نحريراً الصغير. ثـم ولـى عليهـا سعيـداً ونصـراً ابنـي حمـدان وهمـا أخـوا أبـي الهيجـاء. وولـى ناصـر الدولة على ديار ربيعة ونصيبين وسنجار والخابور ورأس عين وميافارقين من ديار بكر وأرزن على مقاطعة معلومـة. وفي سنة ثمـان عشـرة صـرف ابنـا رائـق عـن الشرطـة ووليهـا أبو بكر محمد بن ياقوت عن الحجبة وقلد أعمال فارس وكرمان. وقلد ابنه المظفر أصبهان وابنه أبا بكر محمداً سجستان وجعل مكان ياقوت وولده في الحجبة والشرطة إبراهيم ومحمد ابنا رائق فأقام ياقوت بشيراز وكـان علـي بـن خلـف ابـن طيان على الخوارج فتعاقدا على قطع الحمل عن المقتدر إلى أن ملك علي ابن بوبه بلاد فارس سنة ثلاث وعشرين وفي هذه السنة غلب مرداويح على أصبهان وهمذان والري وحلوان وقاطع عليها بمال معلوم وصارت في ولايته. استيحاش مؤنس من المقتدر ومسيره إلى الموصل كان الحسين بن القاسم بن عبد الله بن وهب وزيراً للمقتدر وكان مؤنس منحرفاً عنه قبل الوزارة حتى أصلح بليق حاله عند مؤنس فوزر واختص به بنو البريدي وابن الفرات. ثم بلغ مؤنساً أن الحسين قد واطأ جماعة من القواد في التدبير عليه فتنكر له مؤنس وضاقت الدنيا علـى الحسيـن وبلغـه أن مؤنسـاً يكبسـه فانتقـل إلـى دار الخلافـة وكتـب الحسيـن إلى هارون بن غريب الحال يستقدمه وكان مقيماً بدير العاقول بعد انهزامه من مرداويح كتب إلى محمد بن ياقوت يستقدمه من الأهواز فاستوحش مؤنس. ثم جمع الحسين الرجال والغلمان الحجرية فـي دار الخلافة وأنفـق فيهـم فعظمـت نفـرة مؤنـس وقـدم هـارون مـن الأهـواز فخـرج مؤنـس مغاضبـاً للمقتدر وقصد الموصل وكتب الحسين إلى القواد الذين معه بالرجوع فرجع منهم جماعة وسار مؤنس في أصحابه ومواليه ومعه من الساجية ثمانمائة من رجالهم وتقدم الوزير بقبض أملاكه وأملاك من معه وأقطاعهم فحصل منه مال كثير واغتبط المقتدر به لذلك ولقبه عميد الدولة ورسم اسمه في السكة وأطلق يده في الولاية والعزل فولى على البصرة وأعمالها أبا يوسف يعقوب بن محمد البريدي على مبلغ ضمنه وكتب إلى سعيد وداود ابني حمدان وابن أخيهما ناصر الدولة الحسين بن عبد الله بمحاربة مؤنس فاجتمعوا على حربه إلا داود فإنـه توقـف لإحسان مؤنس إليه وتربيته إياه. ثم غلبوا عليه فوافقهم على حربه وجمع مؤنس في طريقه رؤساء العرب وأوهمهم أن الخليفة ولـاه الموصـل وديار ربيعة فنفر معه بعضهم واجتمع له من العسكر وزحف إليه بنو حمدان في ثلاثين ألفا فهزمهم وملك مؤنس الموصل في صفر عشرين وجاءته العساكر من بغداد والشام ومصـر رغبة في إحسانه. وعاد ناصر الدولة بن حمدان إلى خدمته وأقام معه بالموصل ولحق سعد ببغداد. مقتل المقتدر وبيعة القاهر ولما ملك مؤنس الموصل أقام بها تسعة واجتمعت العساكر فانحدر إلى بغداد لقتال المقتدر وبعـث المقتدر الجنود مع أبي بكر محمد بن ياقوت وسعد بن حمدان فرجع عنهم العسكر إلى بغداد ورجعوا. وجاء مؤنس فنزل بباب الشماسية والقواد قبالته وندب المقتدر ابـن خالـه هارون بن غريب إلى الخوارج لقتاله فاعتذر ثم خرج وطالبوا المقتدر بالمال لنفقات الجنـد فاعتذر وأراد أن ينحدر إلى واسط ويستدعي العساكر من البصرة والأهواز وفارس وكرمان فرفه ابن ياقوت عن ذلك وأخرجه للحرب وبين يديه الفقهاء والقواد والمصاحف مشهورة وعليه البـردة والنـاس يحدقـون بـه فانهزم أصحابه ولقيه علي بن بليق من أصحاب مؤنس فعظمه وأشار عليه بالرجوع ولحقه قوم من المغاربة والبربر فقتلوه وحملوا رأسه وتركوه بالعراء فدفن هنالك. ويقـال: إن علـي بـن بليق أشار إليهم بقتله. ولما رأى مؤنس ذلك ندم وسقط في يده وقال والله لنقتلن جميعاً وتقدم إلى الشماسيـة وبعـث مـن يحتـاط علـى دار الخلافـة وكـان ذلـك لخمـس وعشرين سنة من خلافة المقتدر. فاتسع الخرق وطمع أهل القاصية في الاستبداد وكان مهملاً لأمـور خلافتـه محكمـاً للنسـاء والخـدم فـي دولتـه مبـذراً لأموالـه. ولمـا قتـل لحـق ابنـه عبد الواحد بالمدائن ومعه هارون بن غريب الحـال ومحمـد بن ياقوت وإبراهيم بن رائق. ثم اعتزم مؤنس على البيعة لولده أبي العباس وكان صغيـراً فعزلـه وزيـره أبـو يعقـوب إسماعيـل النويحـي فـي ولايـة صغيـر فـي حجـر أمـه وأشـار بأخيه أبي منصور محمد بن المعتضد فأجاب مؤنس إلى ذلك على كره وأحضروه وبويع آخر شوال من سنـة عشريـن ولقبـوه القاهـر بالله. واستحلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه بليق وابنه علي واستقدم أبا علي بن مقلة من فارس فاستوزره واستحجب علي بن بليق. ثـم قبـض علـى أم المقتـدر وضربها على الأموال فحلفت فأمرها بحل أوقافها فامتنعت فأحضر هو القضاة وأشهد بحل أوقافهـا ووكل في بيعها فاشتراها الجند من أرزاقهم وصادر جميع حاشية المقتدر واشتد في البحث عن ولده وكبس عليهم المنازل إلى أن ظفر بأبي العباس الراضي وجماعة من أخوته وصادرهـم وسلمهـم علـي ابـن بليـق إلـى كاتبه الحسين بن هارون فأحسن صحبتهم وقبض الوزير ابن مقلة على البريدي واخوته وأصحابه وصادرهم على جملة من المال. خبر ابن المقتدر وأصحابه قـد ذكرنا أن عبد الواحد بن المقتدر لحق بعد مقتل أبيه بالمدائن ومعه هارون بن غريب الحال ومفلح ومحمد بن ياقوت وابنا رائق ثم انحدروا منها إلى واسط وأقاموا بها وخشيهم القاهر على أمره واستأمن هارون بن غريب على أن يبذل ثلاثمائة ألف دينار وتطلق له أملاكه فأمنه القاهـر ومؤنـس وكتـب له بذلك وعقد له على أعمال ماه الكوفة وماسبذان ومهروبان وسار إلى بغداد وسار عبد الواحد بن المقتدر فيمن معه من واسط ثم إلى السوس وسوق الأهواز وطردوا العمال وجبوا الأموال. وبعـث مؤنـس إليهـم بليقـاً في العساكر وبذل أبو عبد الله البريدي في ولاية الأهواز خمسين ألف دينـار فأنفقـت فـي العساكر. وسار معهم وانتهوا إلى واسط ثم إلى السوس فجاز عبد الواحد ومـن معـه مـن الأهواز إلى تستر ثم فارقه جميع القواد واستأمنوا إلى بليق إلا ابن ياقوت ومفلحا ومسـرورا الخـادم وكـان محمـد بن ياقوت مستبدا على جميعهم في الأموال والتصرف فنفروا لذلك واستأمنوا لأنفسهم ولابن المقتدر إلى بليق فأمنهم بعد أن استأمنوا محمد بن ياقوت وأذن لهم. ثـم استأمـن هـو علـى بليق إلى أمان القاهر ومؤنس وساروا إلى بغداد جميعهم فوفى لهم القاهر وأطلق لعبد الواحد أملاكه وترك لامه المصادرة التي صادرها واستولى أبو عبد الله البريدي على أعمال فارس وأعاد أخوته إلى أعمالهم. مقتل مؤنس وبليق وابنه لما رجع محمد بن ياقوت من الأهواز واستخلصه القاهر واختصه لخلواته وشوراه وكانت بينه وبين الوزير ابن علي بن مقلة عداوة فاستوحش لذلك ودس إلى مؤنس أن محمد بن ياقوت يسعـى بـه عنـد القاهـر وأن عيسـى الطبيـب سفيره في ذلك فبعث مؤنس علي بن بليق لإحضار عيسـى وتقـدم علـي بـن بليـق بالاحتياط على القاهر فوكل به أحمد بن زيرك وضيق على القاهر وكشـف وجـوه النسـاء المختلفـات إلـى القصر خشية إيصالهم الرقاع إلى القاهر حتى كشفت أواني الطعام ونقل بليق المحابيس من دار الخلافة إلى داره وفيهم أم المقتدر فأكرمها علـي بـن بليـق وأنزلها عند أمه فماتت في جمادى من سنة إحدى وعشرين. وعلم القاهر أن ذلك من مؤنس وابن مقلة فشرع في التدبير عليهم. وكان طريف السيكمري ونشرى من خـدم مؤنـس قـد استوحشـا مؤنس لتقدم بليق وابنه عليهما. وكان اعتماد مؤنس على الساجية وقد جاؤوا معه مـن الموصـل ولـم يـوف لهـم فاستوحشـوا لذلـك فداخلهـم القاهر جميعاً وأغراهم بمؤنس وبليق وبعث إلى أبي جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله وكان مختصاً بابن مقلة وصاحب رأيه فوعده بالوزارة فكان يطالعه بالأخبار. وشعر ابن مقلة بذلك فأبلغوا إلى مؤنس وبليق واجمعوا على خلع القاهر واتفق بليق وابنه علي وابن مقلة والحسن بن هارون على البيعة لأبي أحمد بن المكتفي فبايعوه وحلفوا له وأطلعوا مؤنساً على ذلك فأشار بالمهل وتأنيس القاهر حتى يعرفوا من واطأه من القواد والساجية والحجرية فأبوا وهونوا عليه الأمر في استعجال خلعه فأذن لهم فأشاعوا أن أبا طاهر القرمطي ورد الكوفة وندبوا علي بن بليق للمسير إليه ليدخـل للـوداع ويقبض على القاهر وابن مقلة كان نائماً فلما استيقظ أعاد الكتاب إلى القاهر فاستراب. ثم جاءه طريف السيكري غلام مؤنس في زي امرأة مستنصحاً فأحضره وأطلعه على تدبيرهم وبيعتهم لأبي أحمد بن المكتفي فأخذ القاهر حذره وأكمن الساجية في دهاليز القصر وممراته وجاء علي بن بليق في خف من أصحابه واستأذن فلم يؤذن لـه وكـان ذا خمـار فغضـب وأفحـش فـي القـول فأخـرج الساجيـة فـي السلـاح وشتمـوه وردوه وفـر عنـه أصحابـه وألقـى بنفسه في الطيار وعبر إلى الجانب الغربي. واختفى الوزير ابن مقلة والحسن بن هارون وركب طريـف إلـى دار القاهـر فأنكـر بليـق مـا جـرى لابنـه وشتم الساجية وقال: لا بد أن أستعدي الخليفة عليهم وجاء إلى القاهر ومعه قواد مؤنس فلم يأذن له وقبض عليه وحبسه وعلى أحمد بن زيرك صاحب الشرطة وجاء العسكر منكرين لذلك فاسترضاهم ووعدهم بالزيادة وبإطلـاق هـؤلاء المحبوسيـن فافترقـوا وبعـث إلـى مؤنس بالحضور عنده ليطالعه برأيه فأبى فعزله وولى طريف السيكري مكانه وأعطاه خاتمه وقـال: قـد فوضـت إلـى ابنـي عبـد الصمـد ما كان المقتدر فوضه إلي ابنه محمد وقلدتك خلافته ورياسـة الجيـش وإمارة الأمراء وبيوت الأموال كما كان مؤنس وامض إليه وأحمله إلى دار الخلافة مرفهاً عليه لئلا يجتمع إليه أهل الشر ويفسد ما بيننا وبينه. فسار طريف إلى مؤنس وأخبره بأمـان القاهر له ولأصحابه وحمله على الحضور عنده وهون عليه أمره وأن القاهر لا يقدر على مكروهة. فركب وحضر فقبض عليه القاهر وحبسه قبل أن يراه وندم طريف على ما فعل واستوحش. واستوزر القاهر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله ووكل بدور مؤنس وبليق وابنه علي وابن مقلة وابن زيرك وابن هارون ونقل ما فيها وأحرقت دار ابن مقلة وجاء محمـد بـن ياقـوت وقـام بالحجبة فتنكر له طريف السيكري والساجية فاختفى ولحق بابنه بانارس وكتب إليه القاهر بالعتـب علـي ذلـك وولـاه الأهـواز وكـان الـذي دعـا طريفـاً السيكـري إلـى الانحراف عن مؤنس وبليق أن مؤنساً رفع رتبة بليق وابنه عليه بعد أن كانا يخدمانه فأهملا جانبـه. ثـم اعتـزم بليـق علـى أن يوليـه مصر وفاوض في ذلك الوزير ابن مقلة فوافق عليه ثم أراد علي بن بليق عمل مصر لنفسه ومنع من إرسال طريف فتربص بهم. وأما الساجية فكانوا مع مؤنس بالموصل وكان يعدهم ويمنيهم. ولما ولي القاهر واستبد بأمره لم يف لهم. وكان من أعيانهم الخادم صندل وكان له بدار القاهر خادم اسمه مؤتمن باعه واتصل بالقاهر قبل الخلافة فلما شـرع فـي التدبيـر علـى مؤنـس وبليـق بعـث مؤنسـاً هـذا إلـى صنـدل يمـت إليـه تقديمـه ويدخلـه فـي أمـر القاهـر وإزالـة الحجـر عنـه. فقصد إلى صندل وزوجته وتلطف ووصف القاهر بما شاء من محاسن الأخلاق وحمل زوجته على الدخول إلى دار القاهر حتى شافهها بما أراد إبلاغه إلى صنـدل وداخل صندل في ذلك سيما من قواد الساجية واتفقوا على مداخلة طريف السيكري فـي ذلـك لعلمهـم باستيحاشـه مـن مؤنـس فأجابهـم علـى شريطـة الإبقاء على مؤنس وبليق وابنه وأن لا يزال مؤنس من مرتبته وتحالفوا على ذلك من الجانبين. وطلب طريف عهد القاهر بخطه فكتب وزاد فيه أنه يصلي بالناس ويخطب لهم ويحج بهم ويغزو معهم ويتئد لكشف المظالم وغير ذلك من حسن السيرة وكان جماعة من الحجرية قد أبعدهـم ابـن بليـق وأدال منهـم بأصحابـه فداخلهـم طريـف فـي أمـر القاهـر فأجابـوه. ونمـي الخبـر بذلك إلى ابن مقلة وإلى بليق وأرادوا القبض على قواد الساجية والحجرية. ثم خشوا الفتنة ودبروا على القاهر فلم يصلوا إليه لاحتجابه عنهم بالمرض. فوضعوا أخبار القرامطة كما قدمناه. ولما قبض القاهر على مؤنس ولي الحجابة سلامة الطولوني. وعلى الشرطة أحمد بن خاقان واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم ابن عبد الله مكان ابن مقلة وأمر بالنداء على المتسترين والوعيـد لمـن أخفـى وطلـب أبـا احمـد بـن المكتفـي فظفـر بـه وبنـي عليـه حائطـاً فمـات. ثم ظفر بعلي فقتلـه. ثـم شغـب الجنـد فـي شعبـان ومعهـم أصحـاب مؤنـس وثـاروا ونادوا بشعاره وطلبوا إطلاقه وأحرقـوا روشن دار الوزير أبي جعفر. فعمد القاهر إلى بليق في محبسه وأمر به فذبح وحمل الرأسيـن إلـى مؤنـس. فلمـا رآهمـا مؤنـس استرجـع ولعـن قاتلهمـا فأمـر بـه فذبـح وطيـف بالرؤوس. ثم أودعت بالخزانة. وقيل إن قتل علي بن بليق تأخر عن قتل أبيه ومؤنس لأنه كان مختفياً فلما ظفـر بـه بعدهمـا قتلـه. ثـم بعـث القاهـر إلـى أبـي يعقـوب إسحـاق بـن إسماعيـل اليوصحي فأخذ من محبس الوزير محمد بن القاسم وحبسه وارتاب الناس من شدة القاهر وندم الساجية والحجرية علـى مداخلته في ذلك الأمر. ثم قبض القاهر على وزيره أبي جعفر وأولاده وأخيه عبيد الله وخدمه لثلاثة أشهر ونصف من ولايته ومات لثمان عشرة ليلة من حبسه واستوزر مكانه أبا العباس أحمد بن عبيد الله بن سليمان الحصيبي. ثم استبد القاهر على طريف السيكري واستخـف بـه فخافـه وتنكـر ثـم أحضـره بعـد أن قبـض علـى الوزير أبي جعفر فقبض عليه وأودعه السجن إلى أن خلع القاهر. |
دولة بني بويه
ابتداء دولة بني بويه كان أبوهم أبو شجاع بويه من رجالات الديلم وكان له أولاد علي والحسن وأحمد فعلي أبو الحسن عماد الدولة والحسن أبو علي ركن الدولة وأحمد أبو الحسن معز الدولة. ونسبهم ابن ماكـولا فـي الساسانيـة إلـى بهرامجـور بن يزدجرد وابن مسكويه إلى يزدجرد بن شهريار وهو نسب مدخول لأن الرياسة على قوم لا تكون في غير أهل بلدهم كما ذكرنا في مقدمة الكتاب. ولما أسلم الديلم على يد الأطروش وملك بهم طبرستان وجرجان وكان من قواده ماكان بن كالـي وليلـى بـن النعمـان وأسفـار بـن شيروبـه ومرداويج بن وزيار وكانوا ملوكاً عظاماً وازدحموا في طبرستان فساروا لملك الأرض عند اختلـاط الدولـة العباسيـة وضعفهـا وقصـدوا الاستيـلاء على الأعمال والأطراف. وكان بنـو بويـه مـن جملـة قـواد ماكـان بـن كالـي. فلمـا وقـع بينـه وبيـن مرداويـج مـن الفتنة والخلاف ما تقدم وغلبه مرداويج على طبرستان وجرجان عادوا إلى مرداويج لتخف عنه مونتهم على أن يرجعوا إليه إذا صلح أمره فساروا إلى مرداويج فقبلهم وأكرمهم. واستأمن إليـه جماعـة مـن قـواد مـا كـان فقتلهم وأولادهم وولى علي بن بويه على الكرج وكان أكبر أخوته. وسار جميعهم إلى الري وعليها وشمكير بن وزيار أخو مرداويج ومعه وزيره الحسين بن محمد الملقب بالعميد فاتصل به علي بن بويه وأهدى إليه بغلة كانت عنده ومتاعاً وندم مرداويج علـى ولايـة هـؤلاء المستأمنـة من قواد ماكان فكتب إلى أخيه وشمكير بالقبض على الباقين وأراد أن يبعث في أثر علي بن بويه فخشي الفتنة وتركه. واستولـى ابـن بويـه علـى أرجـان وخالفـه وشمكيـر أخـو مرداويـح إلـى أصبهـان فملكهـا. وأرسل القاهر إلـى مرداويـح بـأن يسلـم أصبهـان لمحمـد بـن ياقـوت ففعـل. وكتـب أبـو طالـب يستدعيـه ويهـون عليه أمر ابن ياقوت ويغريه به فخشي ابن بويه من كثرة عساكر ياقوت وأمواله وأن يحصل بينه وبين ابنه تأهبات فتوقف فأعدى عليه أبو طالب وأراه أن مرداويج طلب الصلح من ابن ياقوت وخوفه اجتماعهما عليـه. فسـار ابـن بويـه إلـى أرجـان فـي ربيـع سنـة إحـدى وعشريـن ولقيتهـم هنالـك مقدمـة ابن ياقوت فانهزمت فزحف ابن ياقوت إليهم وبعث عماد الدولة أخاه ركن الدولة الحسن إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس فجبى أموالها ولقي عسكر ابن ياقوت هنالك فهزمهم ورجع إلـى أخيـه. وخشـي عمـاد الدولـة مـن اتفـاق مرداويـج مع ابن ياقوت فسار إلى اصطخر واتبعه ابن ياقوت وشيعه إلى قنطرة بطريق كرمان اضطروا إلى الحرب عليها. فتزاحفوا هنالك واستأمن بعض قواده إلى ابن ياقوت فقتلهم فاستأمن أصحابه وانهزم ابن ياقوت واتبعه ابن بويه واستباح معسكره وذلك في جمادى سنة اثنتين وعشرين. وأبلى أخوه معز الدولة أحمد في ذلك اليوم بلاء حسناً ولحق ابن ياقوت بواسط وسار عماد الدولة إلى شيراز فملكها وأمن الناس واستولى على بلاد فارس وطلب الجند أرزاقهم فعجز عنها وعثر على صناديق من مخلف ابن ياقوت وذخائر بني الصفار فيها خمسمائة ألف دينار فامتلـأت خزائنـه وثبـت ملكـه. واستقـر ابن ياقوت بواسط وكاتبه أبو عبد الله اليزيدي حتى قتل مرداويـج. عـاد إلـى الأهواز ووصل عسكر مكرم وكانت عساكر ابن بويه سبقته فالتقوا بنواحي أرجـان. وانهـزم ابـن ياقـوت فأرسل أبو عبد الله اليزيدي في الصلح فأجابه ابن بويه واستقر ابن ياقـوت بالأهـواز ومعـه ابـن اليزيـدي وابـن بويـه ببلـاد فـارس. ثم زحف مرداويح إلى الأهواز وملكها من يد ابن ياقوت ورجع إلى واسط وكتب إلى الراضي. وكان بعد القاهر كما نذكره والي وزيره أبي علي بن مقلة بالطاعة والمقاطعة فيما بيده من البلاد بأعمال فارس على ألف ألف درهم فأجيب إلى ذلك وبعث إليه باللواء والخلع وعظم شأنه في فارس وبلغ مرداويح شأنه فخاف غائلته وكان أخوه وشمكير قد رجع إلى أصبهان بعد خلع القاهر وصرف محمد بن ياقوت عنها فسار إليها مرداويح للتدبير على عماد الدولة وبعث أخاه وشمكير علـى الـري وأعمالها. خلع القاهر وبيعة الراضي ولما قتل القاهر مؤنساً وأصحابه أقام يتطلب الوزير أبا علي بن مقلة والحسن بن هارون وهما مستتـران وكانا يراسلان قواد الساجية والحجرية ويغريانهم بالقاهر فإنهم غروه كما فعل بأصحابه قبلهم. وكان ابن مقلة يجتمع بالقواد ويراسلهم ويجيء إليهم متنكراً ويغريهم ووضعوا على سيما أن منجماً أخبره أنه ينكب القاهر ويقتله ودسوا إلى معبر كان عنده أموال على أن يحذره من القاهر فنفـر واستوحـش وحفـر القاهـر مطاميـر فـي داره فقيـل لسيمـا والقـواد إنمـا صنعت لكـم فـازدادوا نفـرة. وكـان سيمـا رئيـس الساجيـة فارتـاب بالقاهـر وجمـع أصحابـه وأعطاهم السلاح وبعث إلى الحجرية فجمعهم عنده وتحالفوا على خلع القاهر وزحفـوا إلـى الدور وهجموا عليه فقام من النوم ووجد الأبواب مشحونة بالرجال فهرب إلى السطح ودلهم عليـه خـادم فجـاؤوه واستدعـوه للنـزول فأبى فتهددوه بالرشق بالسهام فنزل وجاؤوا به إلى محبس طريـف السيكـري فحبسـوه مكانـه وأطلقـوه حتـى سمـل بعـد ذلـك وذلـك لسنـة ونصـف من خلافته. وهـرب الحصيبـي وزيـره وسلامـة حاجبـه. وقد قيل في خلعه غير هذا وهو أن القاهر لما تمكن مـن الخلافـة اشتـد علـى الساجيـة والحجريـة واستهـان بهـم فتشاكـوا ثـم خافـه حاجبـه سلامـة لأنـه كان يطالبه بالأموال ووزيره الحصيبي كذلك وحفر المطامير في داره فارتابوا به كما ذكرنا. وأسر جماعة من القرامطة فحبسهـم بتلـك المطاميـر وأراد أن يستظهـر بهـم علـى الحجريـة والساجيـة فتنكـروا ذلـك وقالـوا فيـه للوزيـر وللحاجـب فأخرجهـم مـن الـدار وسلمهـم لمحمـد بـن ياقوت صاحب الشرطة وأوصاه إليهم فازداد الساجية والحجرية ريبة. ثم تنكر لهم القاهر وصار يعلن بذمهم وكراهتهم فاجتمعوا لخلعه كما ذكرنا. ولما قبض القاهر بعثوا عن أبي العباس بن المقتدر وكان محبوساً مع أمه فأخرجوه وبايعوه في جمادى سنة اثنتين وعشرين وبايعه القواد والناس وأحضر علي بن عيسى وأخاه عبد الرحمن وصدر عن رأيهما وأراد علي بن عيسى على الوزارة فامتنع واعتذر بالنكير وأشار بابن مقلة فأمنه واستوزره. وبعث القضاة إلى القاهر ليخلع نفسه. فأبى فسمل وأمـن ابـن مقلـة الحصيبي وولاه وولى الفضل بن جعفر بن الفرات نائباً عنه من أعمال الموصل وقردي وباريدي وماردين وديار الجزيرة وديار بكر وطريق الفرات والثغور الجزرية والشامية وأجناد الشام وديار مصر يعزل ويولي من يراه في الخراج والمعادن والنفقات والبريد وغير ذلك. وولى الراضي على الشرطة بدراً الحمامي وأرسل إلى محمد بن رائق يستدعيه وكان قـد استولـى على الأهواز ودفع عنها ابن ياقوت من تلك الولاية إلى السوس وجنديسابور وقد ولى على أصبهان وهو يروم المسير إليها. فلما ولي الراضي استدعاه للحجابة فسار إلى واسط وطلـب محمـد بـن ياقـوت الحجابـة فأجيـب إليهـا فسـار في إثر ابن رائق وبلغ ابن رائق الخبر فسار مـن واسـط مسابقـاً لابـن ياقـوت بالمدائـن توقيع الراضي بالحرب والمعادن في واسط مضافاً إلى ما بيـده مـن البصـرة والمعـادن. فعـاد منحدراً في دجلة ولقيه ابن ياقوت مصعداً ودخل بغداد وولي الحجبـة وصارت إليه رياسة الجيش ونظر في أمر الدواوين وأمرهم بحضور مجلسه وأن لا ينفقوا توقيعاً في ولاية أو عزل أو إطلاق إلا في الإيثار والمجلس فقط. مقتل هارون كان هارون بن غريب الحال على ماه الكوفة والدينور وماسبذان وسائر الأعمال التي ولاها القاهر إياه فلما خلع القاهر واستخلف الراضي رأى هارون أنه أحق بالدولة من غيره لأنه ابن خـال المقتـدر فكاتـب القـواد ووعدهم وسار من الدينور إلى خانقين وشكا ابن مقلة وابن ياقوت والحجريـة والساجيـة إلـى الراضـي فـأذن لهـم فـي منعـه فراسلـوه أولاً بالممانعـة والزيـادة علـى ما في يده مـن الأعمال فلم يلتفت إليهم وشرع في الجباية فقويت شوكته. فسار إليه محمد بن ياقوت في العساكـر وهـرب عنـه بعـض أصحابـه إلـى هـارون وكتـب إلـى هـارون يستميله فلم يجب وقال لا بد من دخول بغداد. ثم تزاحفوا لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين فانهزم أولاً أصحاب ابن ياقوت ونهب سوادهم. وسار محمـد حتـى قطـع قنطـرة تبريـز وسـار هـارون منفرداً لاعتراضه فدخل في بعض المياه وسقط عن فرسه ولحقه غلام لمحمد بن ياقوت فقطع نكبة ابن ياقوت قد ذكرنا أنه كان نظر في أمر الدواوين وصير ابن مقلة كالعاطل فسعى بـه عنـد القاضـي وأوهمه خلافه حتى أجمع القبض عليه في جمادى سنة ثلاث وعشرين فجلس الخليفة على عادتـه وحضـر الوزيـر وسائـر النـاس علـى طبقاتهم يريد تقليد جماعة من القواد للأعمال واستدعـى ابـن ياقـوت للخدمـة في الحجبة على عادته فبادر وعذل به إلى حجرة فحبس فيها وخفـار. وبعـث الوزيـر ابـن مقلة إلى دار محمد من يحفظها من النهب وأطلق يده في أمور الدولة واستبـد بهـا وكـان ياقـوت مقيمـاً بواسـط فلمـا بلغـط القبض على ابنه انحدر إلى فارس لمحاربة ابن بويـه وكتـب يستعطـف الراضـي ويسألـه إبقـاء ابنـه ليساعـده علـى شأنه. ولم يزل محمد محبوساً إلى أن هلك سنة أربع عشرة في محبسه. خبر البريدي كان أبو عبد الله البريدي أيام ابن ياقوت ضامناً للأهواز فلما استولى عليها مرداويج وانهزم ابن ياقـوت كمـا مـر رجـع البريـدي إلـى البصرة وصار يتصرف في أسافل الأهواز مع كنانة ياقوت. ثم سـار إلـى ياقوت فأقام معه بواسط فلما قبض على ابن ياقوت وكتب ابن مقلة إليه وإلى ياقوت يعتذر عن قبض ابن ياقوت ويأمرهما بالمسير لفتح فارس فسار ياقوت على السوس والبريدي على طريق الماء حتى انتهيا إلى الأهواز. وكان إلى أخويه أبي الحسن وأبي يوسف ضمان السوس وجنديسابور وادعيا أن دخل البلاد أخذه مرداويج. وبعث ابن مقلة ثانياً لتحقق ذلك فوافاهم وكتب بصدقهم فاستولى ابن البريدي ما بين ذلك على أربعة آلاف ألف دينار. ثم أشـار أبـو عبـد الله بن علي بن ياقوت بالمسير لفتح فارس وأقام هو لجباية الأموال فحصل منها بغيتـه. وسـار ياقـوت فلقيـه ابـن بويـه علـى أزجـان فهزمـه وسـار إلـى عسكـر مكرم. واتبعه ابن بويه إلى رامهرمز وأقام بها إلى أن اصطلحا. مقتل ياقوت قـد تقدم لنا انهزام ياقوت من فارس أمام عماد الدولة ابن بويه إلى عسكر مكرم واستيلاء ابن بويه على فارس. وكان أبو عبد الله البريدي بالأهواز ضامناً كما تقدم. وكان مع ذلك كاتبا لياقـوت. وكـان ياقـوت يستنيـم إليـه ويثـق بـه. وكـان مغفلاً ضعيف السياسة فخادعه أبو عبد الله البريـدي وأشـار عليه بالمقام بعسكر مكرم وأن يبعث إليه بعض جنده الواصلين من بغداد تخفيفاً للمؤنـة وتحذيراً من شغبهم. وبعث إليه أخاه بذلك أبا يوسف ودفع له من مال الأهواز خمسين ألـف دينـار. ثـم قطـع عنـه فضـاق الحـال عليـه وعلـى جنـده وكـان قـد نـزع إليـه من أصحاب ابن بويه طاهر الحمل وكاتبه أبو جعفر الصهيري ثم انصرف عنه لضيق حاله إلى غربي تستر ليتغلب على ماه البصرة فكبسه ابن بويه وغنـم عسكـره وأسـر الصهيـري فشفـع فيـه وزيـره وأطلقـه فلحق بكرمان واتصل بعد ذلك بمعز الدولة ابن بويه واستكتبه. ولما انصرف طاهر عن ياقوت كتب إلى البريدي يشكو ضعفه واستطالة أصحابه فأشار عليه بإرسالهـم إلـى الأهـواز متعرفيـن لقومهـم. فلمـا وصلـوا إليه انتقى خيارهم ورد الباقين وأحسن إلى مـن عنـده. وبعـث ياقـوت إليـه فـي طلـب المعـز فلـم يبعـث إليـه فجـاءه بنفسـه فتلقاه وترجل إليه وقبل يده وأنزله بداره وقام في خدمته أحسن مقام ووضع الجند على الباب يشغبون ويرومون قتله فأشـار إليـه بالنجـاة. فعاد إلى عسكر مكرم فكتب إليه يحذره اتباعهم وأن عسكر مكرم على ثمانية فراسخ من الأهواز وأرى أن تتأخر بتستر فتتحصن بها. وكتب له على عامل تستر بخمسين ألف دينار وعذله خادمه مؤنس في شأن ابن البريدي وأراه خديعته. وأشار إليـه باللحـاق ببغـداد وأنـه شيـخ الحجريـة وقد كاتبوك فسر إلى رياسة بغداد وإلا فتعاجل إلى البريدي وتخرجه عن الأهواز فصم عن نصيحته وأبى من قبول السعاية فيه وتسايل أصحابه إلى ابن البريدي حتى لم يبق معه إلا نحو الثمانمائة. وجاءه ابنه المظفر ناجياً من حبس الراضي بعد أسبوع فأطلقه وبعثه إلى أبيه فأشار عليه بالمسيـر إلى بغداد فإن حصل على ما يريد وإلا فإلى الموصل وديار ربيعة ويتملكها فأبى عليه أبـوه ففارقـه إلـى ابـن البريـدي فأكرمـه ووكل به. ثم حذر ابن البريدي غائله ياقوت فبعث إليه بأن الخليفة أمره بإزعاجه من البلاد إما إلى بغداد وإما إلى بلاد الجبل ليوليه بعض أعمالها فكتب يستمهلـه فأبى من المهلة وبعث العساكر من الأهواز وسار ياقوت إلى عسكر مكرم ليكبس ابن البريدي هنالك فصبح البلد ولم يجده وجاءت عساكر ابن البريدي مع قائد أبي جعفر الجمال فقاتلـه مـن أمامـه وأكمـن آخرين من خلفه فانهزم وافترق أصحابه وحسا إلى حائط متنكراً فمر به قوم ابن البريدي فكشفوا وجهه وعرفوه فقتلوه وحملوا رأسه إلى العسكر فدفنه الجمال وبعث البريـدي إلـى تستـر فحمـل مـا كـان لياقـوت هنالـك وقبـض علـى ابنـه المظفـر وبعثه إلى بغداد واستبد بتلك الأعمال وذلك سنة أربع وعشرين. |
الساعة الآن 08:12 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |