![]() |
الحُـبّ والعـدل
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لرجل: والله لا يحبّك قلبي أبداً. قال الرجل: أوَ يحرمني ذلك من عدلك؟ قال: لا. قال: لا ضَيْرَ إذن، إنما يأسف على الحب النساء. من كتاب "الفخري" لابن طباطبا. |
الحجّـاج في النـار
حَلَف رجلٌ بالطّلاق أن الحجّاج بن يوسف في النّار. فقيل له: "سَلْ عن يمينك وعمّا إذا كانت امرأتُك تجوزُ لك". فأتى أيوب السِّخْتِيَاني الزّاهد، فأخبره. فقال له: لستُ أُفتى في هذا بشيء، يغفرُ الله لمن يشاء. فأتى شيخَ المعتزلة عمرو بن عُبيد، فأخبره ـ فقال: تمسَّك بامرأتِك، فإن الحجّاجَ إن لم يكن من أهل النار فليس يضُرُّكَ أن تَزْنِي! من كتاب "نثر الدّرّ" لمنصور بن الحسين الآبي. |
الحدأة وصرة المال
من أخبار المنصور بن أبي عامر مؤسس الدولة العامرية بالأندلس أن رجلاً من تجار المشرق قصد المنصور من مدينة عدن بجوهر كثير وأحجار نفيسة. فأخذ المنصور من ذلك ما استحسنه، ودفع إلى الجوهري التاجر صرّة مال. وأخذ التاجر في انصرافه طريق الرّملة على شط النهر، فلما توسطها، واليوم قائظ وعرقه منصبّ، دَعَته نفسُه إلى التبرُّد في النهر. فوضع ثيابه وتلك الصرة على الشط، فمرّت حدأة فاختطفت الصرة تحسبها لحماً، وصاعدت في الأفق بها ذاهبة. ورآها التاجر فقامت قيامته، وعلم أنه لا يقدر أن يستدفع ذلك بدعوى ولا بحيلة، واشتد به الحزن. وعاد إلى المنصور فأعلمه بقصته. فقال المنصور له: هل تذكر الناحية التي طارت الحدأة إليها؟ قال: نعم، مرّت مشرّقة عل سمت هذا الجنان الذي يلي قصرك (يعني الرّملة). فدعا المنصور شرطيّه الخاصّ به فقال له: جئني بمشيخة أهل الرملة. فمضى وجاء بهم. فأمرهم بالبحث عمن تغيّر حاله من الفقر سريعاً وانتقل عن الإضاقة دون تدريج. فولّوا ثم عادوا فقالوا: يا مولانا، ما نعلم إلا رجلاً من ضعفائنا كان يعمل هو وأولاده بأيديهم، ويعجز عن شراء دابة، رأيناه قد اكتسى هو وولده كسوة متوسطة. فأمر المنصور بإحضاره. فلما أُتي به، قال له: شيء ضاع منا وسقط إليك، ما فعلت به؟ فقال: هو ذا يا مولاي. وضرب بيده إلى حجزة سراويله فأخرج الصرة بعينها. فصاح التاجر طرباً وكاد يطير فرحاً. قال المنصور للرجل: خبِّرني بما حدث. قال: بينما أنا أعمل في بستان تحت نخلة، إذ سقطت أمامي، فأخذتها وراقني منظرها، وقلت في نفسي: إن الطائر اختلسها من قصرك لقرب الجوار، فاحترزت بها ودعتني فاقتي إلى أخذ عشرة دنانير منها وقلت: أقلُّ ما يكون من كرم مولاي أنه يسمح لي بها. فقال المنصور للتاجر: خذ صرّتك وانظرها واصدقني عن عددها. ففعل، وقال: وحق رأسك يا مولاي ما ضاع منها سوى الدنانير العشرة التي ذكرها، وقد وهبتها له. فقال المنصور له: نحن أولى بذلك منك، ولا ننغص عليك فرحتك. ثم أمر للتاجر بعشرة دنانير عوضاً عن دنانيره، وللرجل بعشرة دنانير أخرى، وقال له: لو جئتنا قبل البحث عنك لكان ثوابك موفوراً! فأخذ التاجر في الثناء على المنصور وقد عاوده نشاطه، وقال: والله لأبُثَّنَّ في الأقطار عظيمَ مُلكك، وَلأقولَنّ إنك تملك طير بلادك كما تملك إنْسَها! من كتاب "البيان المغْرب في أخبار المغرب" لابن عذارى المراكشي. |
الحمـد لله
قال سرّي السقطي، وكان أوحد زمانه في الورع وعلوم التوحيد: منذ ثلاثين سنة وأنا في الاستغفار من قولي مرة: الحمد للّه. قيل له: وكيف ذلك ؟ قال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني واحد وقال: نجا حانوتُك! فقلت: الحمد للّه! فأنا نادم من ذلك الوقت حيث أردتُ لنفسي خيراً من دون الناس. من كتاب "الوافي بالوفيات" للصفدي |
الخـائن
وَفَدَ الحجاج بن يوسف الثّقفي على عبد الملك بن مروان، ومعه إبراهيم بن طلحة. وكان الحجاج لما وَلِي الحرمين بعد قتل عبد الله بن الزبير، استحضر إبراهيم بن طلحة فقرّ به وأعظم منزلتَه رغم صلته بابن الزبير، فلم تزل تلك حالة عنده حتى خرج به إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، فخرج معه مُعادِلا له، لا يقصّر له في برّ ولا إكرام. فلما حضرا باب عبد الملك، دخل الحجاج، فما ألقى السلام حتى قال: قدمتُ عليك يا أمير المؤمنين برجل الحجاز وأسده، لم أر له بالحجاز نظيرا في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب، مع قرابة الرحم، ووجوب الحق، وما بلوتُ منه من الطاعة والنصيحة، وهو إبراهيم بن طلحة، وقد أحضرتُه ببابك ليَسْهُلَ عليه إذنُك. قال عبد الملك: أَذْكَرْتَنا رحما قريبةً وحقا واجبا. يا غلام! ائذن له. فلما دخل إبراهيم أدناه الخليفةُ حتى أجلسه على فراشه، ثم قال له: يا ابن طلحة، إن أبا محمد (الحجاج) أذكرنا ما لم نزل نعرفك به من الفضل والأدب وحسن المؤازرة. فلا تدعنّ حاجة في خاصتك وعامتك إلا ذكرتَها. فقال ابن طلحة: يا أمير المؤمنين، إن أولى الحوائج ما كان لك ولجماعة المسلمين فيه نصيحة. وعندي نصيحة لا أجد بُدّا من ذكرها، ولا أقدر على ذلك إلا ونحن بمفردنا. فقال عبد الملك: دون أبي محمد؟! قال: دون أبي محمد. فقال عبد الملك للحجاج: قُم يا أبا محمد. فلما خرج الحجاج، قال الخليفة: قل نصيحتك يا ابن طلحة. فقال: يا أمير المؤمنين، عمدت إلى الحجاج في تغطرسه وتعجرفه وبُعْده عن الحق وقُربه من الباطل. فولّيته الحرمين، وهما ما هما، وبهما من بهما من المهاجرين والأنصار، والموالي البررة الأخيار، يطأهم بالعسف، ويسومهم بالظلم والخسف، ويحكم فيهم بغير السُّنّة، بعد الذي كان من سفك دمائهم، وما انتهك من حُرمهم. فاعزِله يا أمير المؤمنين حتى لا تكون بينك وبين نبيك يوم القيامة خصومة. فبُهِت عبدُ الملك لكلامه، ثم قال: كذبت! وقد ظنّ الحجاجُ بك الخير وأطنب في مدحك والثناء عليك وقد يُظَنُّ الخير بغير أهله. قم عني فإنك أنت الكاذب المائن الخائن! فقام ابن طلحة لا يعرف لنفسه طريقا. فما خرج من الباب حتى لحقه رجلٌ صاح بالحرس: احبسوا هذا! وقيل للحجاج: أمير المؤمنين يطلبك. ومكث ابن طلحة مليّا من النهار لا يشك أن الخليفة والحجاج في أمره. ثم خرج الآذن فقال له: ادخل يا ابن طلحة. فلما أراد الدخول على عبد الملك، إذا بالحجاج يلقاه عند الباب وهو خارج من عنده. فما رآه الحجاج حتى عانقه وقبّل ما بين عينيه، وقال له: قد جزى الله المتواخين بفضل تواصلهم، فجزاك الله عني أفضل الجزاء، ولن أنسى لك هذا الجميل ما حييت. ثم مضى وطلحة يقول في نفسه: يهزأ بي وربّ الكعبة. فلما دخل على عبد الملك، بدأه الخليفة بقوله: قد عزلتُ الحجاج عن الحرمين وولّيتُه العراق وفارس معا. ولم أشأ أن أفْسِدَ مودّتَه لك وأخيب ظنَّه فيك، فأخبرته أنك أنت الذي دعوتني إلى توليته عليهما لفضله وحزمه وحكمته. فاخرج معه إن شئت وأخلِصْ له الودّ والنصيحة فإنك غيرُ ذامٍّ لصحبته. من كتاب "بدائع السلك في طبائع الملك" لابن الأزرق. |
الخـادم الفصيــح
حدّث أبو العيناء قال: كان سبب خروجي من البصرة وانتقالي عنها أنني مررت يومـاً بسوق النخـّاسين، فرأيتُ غلامـاً يـُنادَى عليه وقد بلغ ثلاثين ديناراً، فاشتريته. وكنت أبني داراً، فدفعتُ إليه عشرين ديناراً على أن ينفقها على الصناع، فجاءني بعد أيام يسيرة فقال: قد نفدت النفقة. فقلت: هاتِ حسابك! فرفع حسابـاً بعشرة دنانير. قلت: أين الباقي؟ قال: قد اشتريت به لنفسي ثوبـاً. قلت: من أمرك بهذا؟ قال: لا تعجل يا مولاي، فإن أهل المروءة لا يعيبون على غلمانهم إذا فعلوا فعلاً يعود بالزَّين على مواليهم! فقلت في نفسي: أنا اشتريت الأصمعيّ ولـَمْ أَعلم! وكانت هناك امرأة أردت أن أتزوجها سرّا من ابنة عمي. فقلت له يومـاً: أفيك خير؟ قال: إي لعمري. فأطلعته على الخبر. فقال: أنا نـِعم العـَون لك. فتزوجتُ المرأة ودفعتُ إليه ديناراً، وقلت له: اشترِ لنا به بعض السمك الهازبي. فمضى ورجع وقد اشترى سمكـاً من صنف آخر. فغاظني ذلك وقلت: ألم آمرك أن تشتري من السمك الهازبي؟ قال: بلى، ولكن الطبيب أبقراط كتب يقول إن الهازبي يولـِّد السوداء، وهذا سمك أقل غائلة! فقلت: يا ابن الفاعلة! أنا لم أعلم أني اشتريت جالينوس! وقمتُ عليه فضربته عشر مقارع. فلما فرغتُ من ضربه أخذني وأخذ المقرعة وضربني سبع مقارع، وقال: يا مولاي، الأدب ثلاث، والسـَّبـْع فضل، وذلك قصاص، فضربتك هذه السـَّبع خوفـاً من القصاص يوم القيامة! فغاظني هذا، فرميته فشججته، فمضى من وقته إلى ابنة عمي، فقال لها: يا مولاتي، إن الدّين النصيحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: مـَنْ غـَشـَّنا فليس منا. وأنا أُعـْلمك أن مولاي قد تزوج فاستكتمني، فلما قلت له لا بدّ من تعريف مولاتي الخبر ضربني وشجـّني. فمنعتني بنت عمي من دخول الدار، وحالت بيني وبين ما فيها، فلم أر الأمر يصلح إلا بأن طلقت المرأة التي تزوجتها. وقلت في نفسي: أعتقه وأستريح، فلعله يمضي عني. فلما أعتقته لزمني وقال: الآن وجب حقـُّك عليّ. ثم إنه أراد الحج، فجهـّزته وزوّدته وخرج. فغاب عني عشرين يومـاً ورجع. فقلت له: لـِمَ رجعت؟ فقال: فكرت وأنا في الطريق فإذا الله تعالى يقول: (ولله على الناس حـِجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً)، وكنتُ غير مستطيع، وفكرت فإذا حقك أوجب، فرجعت! ثم إنه أراد الغزو، فجهـّزته، فلما غاب عني بعتُ كل ما أملك بالبصرة من عقار وغيره، وخرجت عنها خوفـاً من أن يرجع! من كتاب "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" لابن الجوزي |
الخَلَف الطالـح
قال محمد بن جرير الطبري: حدثنا وكيع عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تنشد بيت لبيد بن ربيعة: ذَهَبَ الذين يُعَاشُ في أكْنافِهِم وبَقَيْتُ في خَلَفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ ثم تقول: رحم الله لبيدا! كيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم! قال عروة: رحم الله عائشة! فكيف بها لو أدركتْ من نحن بين ظهرانيهم! قال هشام بن عروة: رحم الله أبي! فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم! قال الطبري: رحم الله هشاماً! فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم! من كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني. |
الخليفة وصاحب الشرطة
كان موسى الهادي بن الخليفة المهدي متيقّظا غيورا كريما شهما شديد البطش جريء القلب، ذا إقدام وعزم وحزم. حدّث عبد الله بن مالك، (وكان يتولّى شرطة المهديّ)، قال: كان الخليفة المهدي يأمرني بضرب ندماء الهادي ومغنّيه وحبسهم صيانة له عنهم، فكنت أفعل ما يأمرني به المهدي. وكان الهادي يرسل إليّ في التخفيف عنهم فلا أفعل. فلما مات المهدي ووليَ الهادي الخلافة أَيْقَنْتُ بالتلف. فاستحضرني يوما فدخلتُ عليه وهو جالس على كرسي، والسيف والنّطع بين يديه. فلما سَلَّمتُ قال: لا سَلَّم الله عليك! أتَذْكُرُ يوم بعثتُ إليك في أمر الحرّاني وضرْبه فلم تقبل قولي؟ وكذلك فعلتَ في فلان وفلان (وعدَّدَ ندماءه) فلم تلتفت إلى قولي. قلت: نعم. أفتأذن في ذكر الحُجَّة؟ قال: نعم. قلت: ناشدتك الله، لو أنك قَلَّدْتني ما قلّدني المهدي، وأمرتني بما أمر، فبعث إليَّ بعضُ بنيك بما يخالف أمرَك، فاتّبعتُ قولَه وتركتُ قولك، أكان يسرُّك ذلك؟ قال: لا. قلت: فكذلك أنا لك، وكذلك كنتُ لأبيك. فاستَدْناني فقبّلتُ يدَه، ثم أمر لي بالخِلَع وقال: ولّيتُك ما كنتَ تتولاه، فامضِ راشدا. فمضيتُ مفكّرا في أمري وأمره، وقلت في نفسي: شابٌّ يشرب، والقوم الذين عصيتُه في أمرهم هم ندماؤه ووزراؤه وكُتّابه. وكأني بهم حين يغلب الشرابُ عليه يغلبون على رأيه، ويحسّنون له هلاكي. فإني لجالس وعندي بُنَيَّةٌ لي، والكانون بين يديّ، وقُدَّامي رُقاق أسخِّنه بالنار وآكل وأُطعم الصغيرة، وإذا بوقع حوافر الخيل. فظننتُ أن الدنيا قد زُلزِلت. فقلت: هذا ما كنت أخافه. وإذا الباب قد فُتح، وإذا الخدم قد دخلوا والهادي في وسطهم على دابّته. فلما رأيتُه وثبتُ فقبّلتُ يده ورجله وحافرَ فرسه. فقال لي: يا عبد الله، إني فكّرت في أمرك فقلت: ربما خطر بذهنك أني إذا شربتُ وحولي أعداؤك، أزالوا حسنَ رأيي فيك، فيُقْلِقُكَ ذلك. فصرت إلى منزلك لأؤنسك وأُعْلمك أن ما كان عندي من الحقد عليك قد زال جميعه. فهات وأطعِمني مما كنتَ تأكل، لتعلم أني قد تَحَرَّمْتُ بطعامك، فيزول خوفُك. فأدنيتُ إليه من الرّقاق فأكل. ثم قال: هاتوا ما صحبناه لعبد الله. فدخل أربعمائة بغل محمّلة بالدراهم وغيرها. وقال: هذه لك، فاستعين بها على أمرك. ثم انصرف. من كتاب "الفَخْرِي" لابن طَباطَبا. |
الخيـزران والهـادي
كانت الخيزران، كثيراً ما تكلم ابنها الهادي، في الحوائج، فكان يجيبها إلى كل ما تسأله، حتى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته، وانهال الناس عليها، وطمعوا فيها، فكلمته يوما في أمر لم يجد إلى إجابتها إليه سبيلاً، واعتلّ بعلة، فقالت الخيزران: لا بد من إجابتي، قال: لا أفعل، قالت: قد تضمـّنـْتُ هذه الحاجة لعبد الله بن مالك، فغضب الهادي وقال: ويل لابن الفاعلة، قد علمت أنه صاحبها، والله لأقضيتها له، قالت: وإذن والله لا أسالك حاجة أبداً، قال: إذن والله لا أبالي، وحمي وغضب، فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعبي كلامي، والله لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي، أو أحد من خاصتي، أو أحد من خدمي، لأضربت عنقه، ولأقبضنّ ماله، فمن شاء فليلزم ذلك، ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك كل يوم؟ أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك؟ إياك ثم إياك ما فتحت بابك لملي أو ذمي، فانصرفت الخيزران ما تفعل ما تطأ، فلم تنطق عنده بحلوة ولا بمرة بعدها. وجمع الهادي رءوس دولته، وقال لهم: أيما خير، أنا أم أنتم؟ قالوا: بل أنت يا أمير المؤمنين، قال: فأيما خير، أمي أم أمهاتكم، قالوا: بل أمك يا أمير المؤمنين، قال: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه، فيقولوا: فعلت أم فلان وصنعت أم فلان؟ قالوا: ما أحد منا يحب ذلك، قال: فما بال الرجال يأتون أمي فيتحدثون بحديثها؟ فما سمعوا ذلك حتى انقطعوا عنها، وزاد هذا في همّ الخيزران ووجدها على ابنها، ولما حضرت الهادي العلة، وكان على سفر، وأيقن بالهلاك، استدعى أمه، فلما قدمت قال لها: أنا هالك في هذه اليلة، وقد كنت أمرتك بأشياء ونهيتك عن أخرى، مما أوجبته سياسة الملك، وسياسة الشرع من برّك، ولم أكن بك عاقاً، بل كنت لك صائناً، وبرّا واصلاً، ثم قضـَى قابضاً على يدها، واضعاً لها على صدره، وهو يقول: يا ليت أم الهادي ما ولدت الهادي، والله لو أن أم الهادي أذنبت ما عفا الهادي عنها. |
الدّليل على قوة النفس
مِمَّا يُكرَهُ للملوك المبالغةُ في الميل إلى النّساء، والانهماك في محبّتهن، وقطع الزمان بالخلوة معهن. فأما مشاورتهن في الأمور فمجلبةٌ للعجز، ومدْعاة إلى الفساد، ومَنْبهة على ضعف الرأي، اللهم إلا أن تكون مشاورتهن يراد بها مخالفتهن، كما قال عليه السلام: "شاوروهنّ وخالفوهن"! فإذا أشكل عليكم الصواب فشاوروهنّ، فإذا مِلْنَ إلى شيء فاعلموا أن الصواب في خلافه. وقد حَدَثَ أن عضدَ الدولة فَنّاخُسْرَوْ بن بُوَيْه شغفته امرأة من جواريه حباً، وغلب عليه، فاشتغل بها عن تدبير المملكة حتى ظهر الخلل في مملكته، فخلا به وزيرُه وقال له: أيها الملك، إن هذه الجارية قد شغلتك عن مصالح دولتك حتى لقد تطرّق النقص عليها من عدّة جهات. وما سبب ذلك إلا اشتغالك عن إصلاح دولتك بهذه المرأة. والصواب أن تتركها وتلتفت إلى إصلاح ما فسد. وبعد أيام جلس عضد الدولة على مُشْتَرَف له على دجلة، واستدعى الجارية فحضرت. فشاغلها ساعة حتى غفلت عن نفسها ثم دفعها إلى النهر فغرقت. وتفرّغ خاطرُه من حبها واشتغل بإصلاح أمور دولته. وقد نسب الناس هذا الفعل من عضد الدولة إلى قوة النفس حين قويتْ نفسه على قتل محبوبته. وأنا أستدلّ بهذا الفعل على ضعف نفس عضد الدولة لا على قوّتها، فلو أنه تركها حيّة ثم أعرض عنها لكان ذلك هو الدليل على قوّة نفسه. من كتاب "الفخري" لابن طباطبا. |
الساعة الآن 10:34 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |