![]() |
انتقاض أبي الغنائم بواسط
كان رئيس الرؤساء سعى لأبي الغنائم بن المجلبان في ولاية واسط وأعمالها فوليها وصادر أعيانها وجند جماعة وتقوى بأهل البطيحة وخندق على واسط وخطب للمستنصر العلوي بمصـر فسـار أبو نصر عميد العراق لحربه فهزمه وأسر من أصحابه ووصل إلى السور فحاصره حتـى تسلـم البلـد. ومـر أبـو الغنائـم ومعـه الوزيـر بن فسانجس ورجع عميد العراق إلى بغداد بعد أن ولـى علـى واسـط منصـور بـن الحسيـن فعـاد ابـن فسانجـس إلـى واسـط وأعـاد خطبـة العلوي وقتل مـن وجـده مـن الغز ومضى منصور بن الحسين إلى المدار وبعث يطلب المدد فكتب إليه عميد العراق ورئيس الرؤساء بحصار واسط فحاصرها وقاتله ابن فسنجس فهزمه وضيق حصاره واستأمـن إليـه جماعـة من أهل واسط فملكها وهرب فسانجس واتبعوه فأدركوه وحمل إلى بغداد في صفر سنة ست وأربعين فشهر وقتل. الوقعة بين البساسيري وقطلمش وفـي سلـخ شـوال مـن سنـة ثمـان وأربعيـن سـار قطلمـش وهـو ابـن عم السلطان طغرلبك وجد بني قليج أرسلان ملوك بلاد الروم فسار ومعه قريش بن بدران صاحب الموصل لقتال البساسيري ودبيـس وسـار بهـم إلى الموصل وخطبوا بها للمستنصر العلوي صاحب مصر وبعث إليهم بالخلع وكـان معهـم جابـر بـن ناشـب وأبـو الحسـن وعبـد الرحيـم وأبو الفتح بن ورائر ونصر بن عمر ومحمد بن حماد. مسير طغرلبك إلى الموصل لما كان السلطان طغرلبك قد ثقلت وطأته على العامة ببغداد وفشى الضرر والأذى فيهم من معسكره فكاتبه القائم يعظه ويذكره ويصف له ما الناس فيه فأجابه السلطان بالاعتذار بكثرة العساكـر. ثـم رأى رؤيـا فـي ليلتـه كأن النبي صلى الله عليه وسلم يوبخه على ذلك فبعث وزيره عميـد الملـك إلـى القائـم بطاعة أمره فيما أمر وأخرج الجند من وراء العامة ورفع المصادرات. ثم بلغه خبر وقعة قطلمش مع البساسيري وانحراف قريش صاحب الموصل إلى العلوية فتجهز وسار عن بغداد ثلاثة عشر شهراً من نزوله عليها ونهبـت عساكـره أوانـا وعكبـرا وحاصـر تكريت حتى رجع صاحبها نصر بن عيسى إلى الدعوة العباسية وقتله السلطان ورجع عنه إلـى البواريـخ فتوفـي نصـر وخافـت أمـه غريبـة بنـت غريـب بن حكن أن يملك البلد أخوه أبو العشام فاستخلفت أبا الغنائم ابن المجلبان ولحقت بالموصل ونزلت على دبيس بن مزيد. وأرسل أبو الغنائم رئيس الرؤساء فأصلح حاله ورجع إلى بغـداد وسلـم لـه تكريـت وأقـام السلطان بالبواريخ إلى سنة تسع وأربعين وجاءه أخوه ياقوتي في العساكر فسار إلى الموصل وأقطع مدينة بلد هزارسب بن شكر الكردي وأراد العسكر نهبها فمنعهم السلطان. ثم أذن لهم في اللحاق إلى الموصل وتوجه إلى نصيبين وبعث هزارشب إلى البرية في ألف فارس ليصيب من العرب فسار حتى قارب رحالهم وأكمن الكمائن وقاتلهم ساعة. ثم استطردهم واتبعـوه فخرجـت عليهـم الكمائـن فانهزموا وأثخن فيهم الغز بالقتل والأسر. وكان فيهم جماعة من بني نمير أصحاب حران والرقة وحمل الأسرى إلى السلطان فقتلهم أجمعين. ثم بعث دبيس وقريش إلى هزارسب يستعطف لهم السلطان فقبل السلطان ذلك منهما وورد أمر البساسيري إلى الخليفة فرحل ومعه الأتراك البغداديون ومقبل ابن المقلـد وجماعـة مـن عقيـل إلـى الرحبـة وأرسل السلطان إليهما أبا الفتح بن ورام يستخبرهما فجاء بطاعتهما وبمسير هزارشب إليهما فأذن له السلطان في المسير وجاء إليهما واستحلفهما وحثهما على الحضور فخافا. وأرسل قريش أبا السيد هبة الله بن جعفر ودبيس ابنه منصوراً فأكرمهما السلطان وكتب لهما بأعمالهما. وكان لقريش نهر الملك وبادرويا والأنبار وهيت ودجيل ونهر بيطر وعكبـرا وأوانا وتكريت والموصل ونصيبين. ثم سار السلطان إلى ديار بكر فحاصر جزيرة ابن عمر وبعث إليه يستعطفه ويبذل له المال وجاء إبراهيم نيال أخو السلطان وهو محاصر ولقيه الأمراء والناس وبعث هزارشب إلى دبيس وقريش يحذرهما فانحدر دبيس إلى بلده بالعراق. وأقام قريش عند البساسيري بالرحبة ومعه ابنه مسلم وشكا قطلمش ما أصاب أهل سنجار منه عند هزيمته أمام قريش ودبيس فبعث العساكر إليها وحاصرها ففتحها عنوة واستباحها وقتل أميرها علي بن مرجي وشفع إبراهيم فـي الباقيـن فتركهـا وسلمهـا اللـه وسلـم معهـا الموصـل وأعمالهـا ورجـع إلى بغداد في سنة تسع وأربعين فخرج رئيس الرؤساء للقائه عن القائم وبلغه سلامه وهديته وهي جام من ذهب فيه جواهر وألبسه لباس الخليفة وعمامته فقبل السلطان ذلك بالشكر والخضوع والدعاء وطلب لقاء الخليفة فأسعف وجلس له جلوساً فخماً. وجاء السلطان في البحر فقرب له لما نزل من السهيرية من مراكب الخليفة والقائم على سرير علوه سبعـة أذرع متوشحـاً البـردة وبيـده القضيـب وقبالتـه كرسـي لجلوس السلطان فقبل الأرض وجلس على الكرسي وقال له رئيس الرؤساء عن القائم: أمير المؤمنين شاكر لسعيك حامد لفعلك مستأنس بقربك ولاك ما ولاه الله من بلاده ورد إليك مراعاة عباده فاتق الله فيما ولاك واعـرف نعمتـه عليـك واجتهـد فـي نشـر العـدل وكـف الظلـم وإصلـاح الرعية فقبل الأرض وأفيضـت عليـه الخلـع وخوطـب بملـك المشـرق والمغرب وقبل يد الخليفة ووضعها على عينيه ودفع إليه كتاب العهد وخرج فبعث إلى القائم خمسين ألف دينار وخمسين مملوكاً من الأتراك منتقين بخيولهم وسلاحهم إلى ما في معنى ذلك من الثياب والطيب وغيرهما. فتنة نيال مع أخيه طغرلبك ومقتله كـان إبراهيـم نيـال قـد ملـك بلـاد الجبـل وهمذان واستولى على الجهات من نواحيها إلى حلوان عام سنـة سبـع وثلاثيـن. ثـم استوحـش مـن السلطـان طغرلبـك بمـا طلـب منـه أن يسلـم إليـه مدينة همذان والقلاع فأبى من ذلك نيال وجمع جموعاً وتلاقيا فانهزم نيال وتحصن بقلعة سرماج فملكها عليه بعـد الحصـار واستنزلـه منهـا وذلـك سنة إحدى وأربعين. وأحسن إليه طغرلبك وخيره بين المقام معه أو إقطاع الأعمال فاختار المقام. ثم لما ملك طغرلبك بغداد وخطب له بها سنة سبع وأربعين خرج إليه البساسيري مع قريش بن بدران صاحب الموصل ودبيس بن مزيد صاحب الحلة وسار طغرلبك إليهم من بغداد ولحقه أخوه إبراهيم نيال فلما ملك الموصل سلمها إليه وجعلهـا لنظـره مـع سنجار والرحبة وسائر تلك الأعمال التي لقريش ورجع إلى بغداد سنة تسع ثـم بلغه سنة خمسين بعدها أنه سار إلى بلاد الجبل فاستراب به وبعث إليه يستقدمه بكتابه وكتـاب القائـم مـع العهـد الكنـدي فقـدم معـه. وفـي خلال ذلك قصد البساسيري وقريش بن بدران الموصل فملكاها وجفلوا عنها فاتبعهم إلى نصيبين وخالفه أخوه إبراهيم نيال إلى همذان في رمضـان سنـة خمسيـن. يقـال إن العلـوي صاحب مصر والبساسيري كاتبوه واستمالوه وأطمعوه في السلطنـة فسـار السلطـان في اتباعه من نصيبين ورد وزيره عميد الملك الكندي وزوجته خاتون إلـى بغـداد ووصـل إلـى همـذان ولحـق بـه مـن كان ببغداد من الأتراك فحاصر همذان في قلعة من العسكر واجتمع لأخيه خلق كثير من الترك وحلف لهم أن لا يصالح طغرلبك ولا يدخل بهم العراق لكثرة نفقاته. وجاءه محمد وأحمد ابنا أخيه أرباش بأمداد من الغز فقوي بهم ووهن طغرلبك فأفرج عنه إلى الري وكاتب إلى أرسلان ابن أخيه داود وقد كان ملك خراسان بعد أبيه سنة إحدى وخمسين كما يذكر في أخبارهم فزحف إليه في العساكر ومعه أخواه ياقوت وقاروت بك ولقيهم إبراهيم فيمن معه فانهزم وجيء به وبابني أخيه محمد وأحمد أسرى إلى طغرلبك فقتلهم جميعاً ورجع إلى بغداد لاسترجاع القائم. دخول البساسيري بغداد وخلع القائم ثم عوده قـد ذكرنا أن طغرلبك سار إلى همذان لقتال أخيه وترك وزيره عميد الملك الكندي ببغداد مع الخليفـة وكان البساسيري وقريش بن بدران فارقا الموصل عند زحف السلطان طغرلبك إليهما فلما سار عن بغداد لقتال أخيه بهمذان خالفه البساسيري وقريش إلى بغداد فكثر الإرجاف بذلك وبعث على دبيس بن مزيد ليكون حاجبه ببغداد ونزلوا بالجانب الشرقي وطلب من القائـم الخـروج معـه إلـى أحيائـه واستدعى هزارسب من واسط للمدافعة واستمهل في ذلك فقال العرب لا نشير فأشيروا بنظركم وجاء البساسيري ثامن ذي القعدة سنة خمسين في أربعمائة غلـام علـى غايـة مـن سـوء الحـال ومعـه أبـو الحسيـن بـن عبـد الرحيـم وجـاء حسيـن بـن بـدران في مائة فـارس وخيمـوا مفترقيـن عـن البلـد واجتمـع العسكـر والقوم إلى عميد العراق وأقاموا إزاء البساسيري وخطب البساسيري ببغداد للمستنصر العلوي صاحب مصر بجامع المنصـور ثـم بالرصافة وأمر بالأذان بحي على خير العمل وخيم بالزاهر وكان هوى البساسيري لمذاهـب الشيعة وترك أهل السنة للانحراف عن الأتراك فرأى الكندي المطاولة لانتظار السلطان ورأى رئيـس الرؤسـاء المناجـزة وكـان غيـر بصيـر بالحـرب فخـرج لقتالهـم فـي غفلة من الكندي فانهزم وقتل من أصحابه خلق ونهب باب الأزج وهو باب الخلافة. وهـرب أهـل الحريـم الخلافـي فاستدعـى القائـم العميـد الكنـدي للمدافعة عن دار الخلافة فلم يرعهم إلا اقتحام العدو عليهم من الباب النوبي فركب الخليفة ولبس السواد والنهب قد وصل باب الفردوس والعميد الكندي قد استأمن إلى قريش فرجع ونادى بقريش من السور فاستأمن إليه على لسان رئيس الرؤساء واستأمن هو أيضاً معه وخرجا إليه وسارا معه ونكر البساسيري على قريش نقضه لما تعاهدا عليه فقال إنما تعاهدنا على الشركة فيما يستولي عليه وهذا رئيس الرؤساء لك والخليفة لي. ولمـا حضـر رئيـس الرؤساء عند البساسيري وبخه وسأله العفو فأبى منه وحمل قريش القائم إلى معسكره على هيئته ووضع خاتون بنت أخي السلطان طغرلبك في يد بعـض الثقـات مـن خواصـه وأمـره بخدمتهـا وبعـث القائـم ابن عمه مهارش فسار به إلى بلده حديثة خان وأنزله بها. وأقام البساسيري ببغداد وصلى عيد النحر بالألوية المصرية وأحسن إلى الناس وأجرى أرزاق الفقهـاء ولـم يتعصـب لمذهـب. وأنـزل أم القائـم بدارهـا وسهل جرايتها. وولى محمود بن الأفرم على الكوفة وسعى الفرات وأخرج رئيس الرؤساء من محبسه آخر ذي الحجة فصلبه عند التجيبي لخمسيـن سنـة مـن تـردده فـي الـوزارة. وكـان ابـن ماكـرلا قد قبل شهادته سنة أربع عشرة. وبعث البساسيـري إلـى المستنصـر العلـوي بالفتـح والخطبـة لـه بالعراق وكان هنالك أبو الفرج ابن أخي أبي القائـم المغربي فاستهان بفعله وخوفه عاقبته وأبطأت أجوبته مدة ثم جاءت بغير ما أمل وسار البساسيـري مـن بغـداد إلـى واسـط والبصـرة فملكهـا وأراد قصر الأهواز فبعث صاحبها هزارشب بـن شكـر فأصلـح أمـره على مال يحمله. ورجع البساسيري إلى واسط في شعبان سنة إحدى وخمسيـن وفارقـه صدقـة بـن منصـور بـن الحسيـن الأسـدي إلـى هزارسـب وقد كان ولى بغداد أباه علـى مـا يذكـر. ثـم جـاء الخبر إلى البساسيري بظفر طغرلبك بأخيه وبعث إليه والي قريش في إعادة الخليفة إلى داره ويقيم طغرلبك وتكون الخطبة والسكة له فأبى البساسيري من ذلـك فسـار طغرلبك إلى العراق وانتهى إلى قصر شيرين وأجفل الناس بين يديه. ورحل أهل الكرخ بأهليهـم وأولادهـم براً وبحراً وكثر عيث بني شيبان في الناس وارتحل البساسيري بأهله وولده سادس ذي القعدة سنة إحدى وخمسين لحول كامل من دخوله وكثر الهرج في المدينة والنهب والاحـراق. ورحـل طغرلبـك إلـى بغـداد بعـد أن أرسـل مـن طريقـه الأستـاذ أحمد بن محمد بن أيوب المعـروف بابـن فورك إلى قريش بن بدران بالشكر على فعله في القائم وفي خاتون بنت أخيه زوجة القائم وأن أبا بكر بن فورك جاء بإحضارهما والقيام بخدمتهما وقد كان قريش بعث إلـى مهـارش بـأن يدخـل معهـم إلـى البريـة بالخليفـة ليصـد ذلك طغرلبك عن العراق ويتحكم عليه بما يريد فأبى مهارش لنقض البساسيري عهوده واعتذر بأنه قد عاهد خليفة القائم بما لا يمكن نقضـه ورحـل بالخليفـة إلـى العـراق وجعـل طريقـه على بدران بن مهلهل. وجاء أبو فورك إلى بدر فحمله معه إلى الخليفة وأبلغه رسالة طغرلبك وهداياه وبعث طغرلبك للقائه وزيره الكنـدي والأمـراء والحجـاب بالخيـام والسرادقات والمقربات بالمراكب الذهبية فلقوه في بلد بدر. ثم خرج السلطـان فلقيـه بالنهـروان واعتـذر عـن تأخـره بوفاة أخيه داود بخراسان وعصيان إبراهيم بهمـذان وأنـه قتلـه علـى عصيـان. وأقـام حتـى رتـب أولـاد داود فـي مملكتـه وقال إنه يسير إلى الشام في اتباع البساسيري. وطلب صاحب مصر فقلده القائم سيفه إذ لم يجد سواه وأبدى وجهه للأمراء فحيوه وانصرفوا. وتقدم طغرلبك إلى بغداد فجلس في الباب النوبي مكان الحاجب وجاء القائم فأخذ طغرلبك بلجام بغلته إلى باب داره وذلك لخمس بقين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وسار السلطان إلى معسكره وأخذ في تدبير أموره. مقتل البساسيري ثـم أرسـل السلطـان طغرلبـك خمارتكيـن فـي ألفيـن إلـى الكوفـة واستقـر معـه سرايا بن منيع في بني خفاجة وسار السلطان طغرلبك في أثرهم فلم يشعر دبيس وقريش والبساسيري وقد كانوا نهبـوا الكوفـة إلا والعساكـر قـد طلعـت عليهـم من طريق الكوفة فأجفلوا نحو البطيحة. وساردبيس ليـرد العـرب إلى القتال فلم يرجعوا ومضى معهم ووقف البساسيري وقريش فقتل من أصحابهما جماعـة وأسـر أبـو الفتح بن ورام ومنصور بن بدران وحماد بن دبيس وأصاب البساسيري سهم فسقط عن فرسه وأخذ رأسه لمتنكيرز وأتى العميد الكندري وحمله إلى السلطان وغنـم العسكر جميع أموالهم وأهليهم وحمل رأس البساسيري إلى دار الخلافة فعلق قبالة النوبي في منتصف ذي الحجة. ولحق دبيس بالبطيحة ومعه زعيم الملك أبو الحسن عبد الرحيم وكان هذا البساسيري من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة اسمه أرسلان وكنيتـه أبـو الحـارث ونسبـه فـي التـرك. وهـذه النسبـة المعروفـة لـه نسبـة إلـى مدينـة بفـارس حرفهـا الـأول متوسـط بين الفاء والباء والنسبة إليها فسوي ومنها أبو علي الفارسي صاحب الإيضاح. وكان أولاً ينسب إليها فلذلك قيل فيه هو بساسيري. مسير السلطان إلى واسط وطاعة دبيس ثـم انحدر السلطان إلى واسط أول سنة اثنتين وخمسين وحضر عنده هزارسب بن شكر من الأهواز وأصلح حال دبيس بن مزيد وصدقة بن منصور بن الحسين أحضرهما عند السلطان وضمـن واسـط أبـو علي بن فضلان بمائتي ألف دينار وضمن البصرة الأغر أبو سعد سابور بن المظفـر وأصعـد السلطـان إلـى بغـداد واجتمـع بالخليفـة ثـم سـار إلـى بلد الجبل في ربيع سنة اثنتين وخمسيـن. وأنـزل ببغـداد الأميـر برسـو شحنـة وضمـن أبو الفتح المظفر بن الحسين في ثلاث سنين بأربعمائة ألف دينار ورد إلى محمود الأخرم إمارة بني خفاجة وولـاه الكوفـة وسقـي الفـرات وخواص السلطان بأربعة آلاف دينار في كل سنة. وزارة القائم ولما عاد القائم إلى بغداد ولى أبا تراب الأشيري على الأنهار وحضور المراكب ولقبه حاجب الحجـاب وكـان خدمه بالحديثة. ثم سعى الشيخ أبو منصور في وزارة أبي الفتح بن أحمد بن دارست على أن يحمل مالاً فأجيب وأحضر من الأهواز في منتصف ربيع من سنة ثلاث وخمسيـن فاستـوزره وكـان مـن قبـل تاجـراً لأبـي كاليجار ثم ظهر عجزه في استيفاء الأموال فعزله وعـاد إلـى الأهـواز. وقـدم أثـر ذلـك أبـو نصـر بـن جهيـر وزير نصير الدولة بن مروان نازعاً منه إلى الخليفة القائم فقبله واستوزره ولقبه فخر الدولة. عقد طغرلبك علي ابنة الخليفة كان السلطان طغرلبك قد خطب من القائم ابنته على يد أبي سعد قاضي الري سنة ثلاث وخمسيـن فاستنكـف مـن ذلـك. ثـم بعـث أبـا محمـد التميمـي فـي الاستعفـاء مـن ذلك وإلا فيشترط. ثلاثمائـة ألـف دينـار وواسـط وأعمالهـا. فلمـا ذكر التميمي ذلك للوزير عميد الملك بني الأمر على الإجابة قال: ولا يحسن الاستعفاء ولا يليق بالخليفة طلب المال وأخبر السلطان بذلك فسر به وأشاعه في الناس ولقب وزيره عميد الملك وأتى أرسلان خاتون زوجة القائم ومعه مائة ألف ألـف دينـار ومـا يناسبها من الجواهر والجوار وبعث معهم قرامرد بن كاكويه وغيره من أمراء الري فلمـا وصلـوا إلـى القائـم استشـاط وهـم بالخـروج مـن بغـداد. وقـال له العميد: ما جمع لك في الأول بيـن الامتنـاع والاقتـراح وخـرج مغضبـاً إلـى النهـروان فاستوقفـه قاضـي القضـاة والشيخ أبو منصور بن يوسف. وكتب من الديوان إلى خمارتكين من أصحاب السلطان بالشكوى من عميد الملك وجـاءه الجـواب بالرفـق ولـم يـزل عميد الملك يريض الخليفة وهو يتمنع إلى أن رحل في جمادى من سنـة أربـع وخمسيـن. ورجـع إلـى السلطان وعرفه بالحال ونسب القضية إلى خمارتكين فتنكر له السلطان وهرب واتبعه أولاد نيال فقتلوه بثأر أبيهم وجعل مكانه سارتكين وبعث للوزير بشأنه. وكتب السلطان إلى قاضي القضاة والشيخ أبي منصور بن يوسف بالعتب وطلب بنت أخي زوجـة القائـم فأجـاب الخليفـة حينئـذ إلـى الأصهـار وفوض إلى الوزير عميد الكندري عقد النكاح علـى ابنتـه للسلطـان وكتـب بذلـك إلـى أبي الغنائم المجلبان فعقد عليها في شعبان من تلك السنة بظاهـر تبريـز. وحمـل السلطان للخليفة أموالاً كثيرة وجواهر لولي العهد وللمخطوبة وأقطع ما كان بالعراق لزوجته خاتون المتوفاة للسيدة بنت الخليفة. وتوجه السلطان في المحرم سنة خمس وخمسين من أرمينية إلى بغداد ومعه من الأمراء أبو علي بن أبي كاليجار وسرخاب بن بدر وهزار وأبو منصور بن قوامرد بن كاكويه وخرج الوزير ابن جهير فتلقاه وترك عسكره بالجانب الغربي ونادى الناس بهم. وجاء الوزير ابـن العميـد لطلـب المخطوبـة فأفـرد لهـم القائـم دوراً لسكنـاه وسكنـى حاشيتـه وانتقلت المخطوبة إليها وجلست علـى سريـر ملبـس بالذهـب ودخـل السلطـان فقبـل الـأرض وحمل لها مالاً كثيراً من الجواهر وأولم أياماً وخلع على جميع أمرائه وأصحابه وعقد ضمان بغداد على أبي سعد الفارسي بمائة وخمسين ألف دينار وأعاد ما كان أطلقه رئيس العراقين من المواريث والمكوس وقبض على الأعرابي سعد ضامن البصرة وعقد ضمان واسط على أبي جعفر بن فضلان بمائتي ألف. |
وفاة السلطان طغرلبك وملك ابن أخيه داود
ثـم سـار السلطـان طغرلبـك مـن بغـداد فـي ربيـع الآخـر إلـى بلـد الجبـل فلمـا وصـل الـري أصابـه المرض وتوفي ثامن رمضان من سنة خمس وخمسين وبلغ خبر وفاته إلى بغداد فاضطربت واستقدم القائـم مسلـم بـن قريـش صاحـب الموصـل ودبيس بن مزيد وهزارسب صاحب الأهواز وبني ورام وبدر بن مهلهل فقدموا وأقام أبو سعد الفارسي ضامن بغداد سوراً على قصر عيسى وجمع الغلـال وخـرج مسلـم بـن قريـش مـن بغـداد فنهب النواحي وسار دبيس بن مزيد وبنو خفاجة وبنو ورام والأكراد لقتاله. ثم استتيب ورجع إلى الطاعة. وتوفي أبو الفتح بن ورام مقدم الأكراد والجاوانية وحمل العامة السلاح لقتال الأعراب فكانت سبباً لكثرة الذعار. ولما مات طغرلبك بايع عميد الدولة الكندري بالسلطنة لسليمان ابن داود وجعفر بك وكان ربيـب السلطـان طغرلبك خلف أخاه جعفر بك داود على أمه وعهد إليه بالملك فلما خطب له اختلف عليه الأمر وسار باغي سيان وأردم إلى قزوين فخطب لأخيه ألـب أرسلـان وهـو محمد بن داود وهو يومئذ صاحب خراسان ووزيره نظام الملك سار إلى المذكور وسال الناس إليه وشعر الكندري باختلال أمره فخطب بالري للسلطان ألب أرسلان وبعده لأخيه سليمان. وزحـف ألـب أرسلـان فـي العساكـر من خراسان إلى الري فلقيه الناس جميعاً ودخلوا في طاعته وجاء عميد الملك الكندري إلـى وزيـره نظـام الملـك فخدمـه وهـاداه فلـم يغـن عنـه وخشـي السلطان غائلته فقبض عليه سنة ست وخمسين وحبسه بمرو الروذ. ثم بعث بعد سنة من محبسه بقتله من ذي الحجة من سنة سبع وخمسين وكان مـن أهـل نيسابـور كاتبـاً بليغـاً. فلمـا ملك طغرلبك نيسابور وطلب كاتباً فدله عليه الموفق والد أبي سهل فاستكتبه واستخلصه وكان خصياً يقال إن طغرلبك خصاه لأنه تزوج بامرأة خطبها له وغطى عليـه فظفـر بـه فحاصره وأقره على خدمته. وقيل أشاع عند أعدائه أنه تزوجها ولم يكن ذلك فخصى نفسه ليأمن غائلته وكان شديد التعصب على الشافعية والأشعرية. واستأذن السلطان في لعن الرافضة على منابر خراسان ثم أضاف إليهم الأشعرية فاستعظم ذلـك أئمـة السنـة. وفـارق خراسـان أبـو القاسـم القشيـري ثـم أبـو المعالـي إلـى مكة فأقام أربعة سنين يترددبيـن الحرميـن يـدرس ويفتـي حتـى لقـب إمـام الحرميـن. فلمـا جـاءت دولة ألب أرسلان أحضرهم نظام الملك وزيره فأحسن إليهم وأعاد السلطان ألب أرسلان السيدة بنت الخليفة التي كانت زوجة طغرلبك إلى بغداد وبعث في خدمتها الأمير ايتكين السليماني وولاه شحنة ببغداد وبعـث معهـا أيضـاً أبـا سهـل محمـد بـن هبـة اللـه المعـروف بابـن الموفـق لطلـب الخطبـة ببغداد فمات في طريقه وكان من رؤساء الشافعية بنيسابور. وبعث السلطان مكانه العميد أبا الفتح المظفر بن الحسيـن فمـات أيضـاً فـي طريقـه فبعـث وزيـره نظـام الملـك وخرج عميد الملك ابن الوزير فخر الدولة بن جهير لتلقيهم وجلس لهم القائم جلوساً فخماً في جمادى الأولى من سنة ست وخمسين وساق الرسل بتقليد ألب أرسلان السلطنة وسلمت إليهم الخلع بمشهد من الناس ولقب ضياء الدولة وأمر بالخطبة له على منابر بغداد وأن يخاطب بالولد المؤيد حسب اقتراحه فأرسل إلى الديـوان لأخـذ البيعـة النقيـب طـراد الزينبـي فأرسل إليه بنقجوان من أذربيجان وبايع وانتقض على السلطان ألب أرسلان من السلجوقية صاحب هراة وصغانيان فسار إليهم وظفر بهم كما نذكر في أخبارهم ودولتهم عن إفرادها بالذكر انتهى. فتنة قطلمش والجهاد بعدها كـان قطلمـش هـذا من كبار السلجوقية وأقربهم نسباً إلى السلطان طغرلبك ومن أهل بيته وكان قد استولى على قومة واقصراي وملطية وهو الذي بعثه السلطان طغرلبك أول ما ملك بغداد سنة تسع وأربعين لقتال البساسيري وقريش بن بدران صاحب الموصل ولقيهم على سنجار الري فجهز ألب أرسلان العساكر من نيسابور في المحرم من سنة سبع وخمسين وساروا على المفارقة فسبقوا قطلمش إلى الري وجاء كتاب السلطان إليه ولقيه فلم يثبت ومضى منهزماً واستبـاح السلطـان عسكـره قتـلاً وأسـراً وأجلت الواقعة عنه قتيلاً فحزن له السلطان ودفنه. ثم سار إلى بلاد الروم معتزماً على الجهاد ومر بأذربيجان ولقيه طغرتكين من أمراء التركمان في عشيـرة وكـان ممارسـاً للجهـاد فحثـه علـى قصـده وسلـك دليلاً بين يديه فوصل إلى نجران على نهر أرس وأمر بعمل السفـن لعبـوره وبعـث عساكـر لقتـال خـوي وسلمـاس مـن حصـون أذربيجـان وسار هو في العساكر فدخل بلاد الكرخ وفتح قلاعها واحدة بعد واحدة كما نذكـر فـي أخبارهـم. ودوخ بلادهـم وأحـرق مدنهـم وحصونهم وسار إلى مدينة آي من بلاد الديلم فافتتحها وأثخن فيها وبعث بالبشائر إلى بغداد وصالحه ملك الكرخ على الجزية ورجع إلى أصبهـان. ثـم سـار منهـا إلـى كرمـان فأطاعه أخوه قاروت بن داود جعفر بك. ثم سار إلى مرو وأصهر إليه خاقان ملك ما وراء النهر بابنته لابنه ملكشاه وصاحب غزنة بابنته لابنه الآخر انتهى. العهد بالسلطنة لملكشاه بن ألب أرسلان وفي سنة ثمان وخمسين عهد ألب أرسلان بالسلطنة لابنه ملكشاه واستخلف له الأمراء وخلع عليهم وأمر بالخطبة في سائر أعماله وأقطع بلخ لأخيه سليمان وخوارزم لأخيه ازعزا ومرو لابنـه أرسلـان شـاه وصغانيـان وطخارستـان لأخيـه إليـاس ومازنـدران للأميـر ابنايخ وبيغوا وجعل ولاية نقشوان ونواحيها لمسعود ابن ازناس. وكان وزيره نظام الملك قد ابتدأ سنة سبع وخمسيـن بنـاء المدرسـة النظاميـة ببغـداد وتمت عمارتها في ذي القعدة سنة تسع وخمسين وعين للتدريس بها الشيخ إسحاق الشيرازي واجتمع الناس لحضور درسه وتخلف لأنه سمع أن في مكانهـا غصبـاً. وبقـي النـاس فـي انتظاره حتى يئسوا منه فقال الشيخ أبو منصور لا ينفصل هذا الجمع إلا عن تدريس وكان أبو منصور الصباغ حاضراً فدرس وأقـام مدرسـاً عشريـن يومـاً حتى سمع أبو إسحاق الشيرازي بالتدريس فاستقر بها. وزراء الخليفة كان فخر الدولة ابن جهير وزير القائم كما ذكرناه ثم عزله سنة ستين وأربعمائة فلحق بنور الدولـة دبيـس بن مزيد بالقلوجة وبعث القائم عن أبي يعلى والد الوزير أبي شجاع وكان يكتب لهزارسب ابن عوض صاحب الأهواز فاستقدمه ليوليه الوزارة فقدم ومات في طريقه وشفع دبيس بن مزيد في فخر الدولة بن جهير فأعيد إلى وزارته سنة إحدى وستين في صفر. الخطبة بمكة وفي سنة اثنتيـن وستيـن خطـب محمـد بـن أبـي هاشـم بمكـة للقائـم وللسلطان ألب أرسلان وأسقط خطبة العلوي صاحب مصر وترك حي على خير العمل من الأذان وبعث ابنه وافداً على السلطان بذلك فأعطاه ثلاثين ألف دينار وخلعاً نفيسة ورتب كل سنة عشرة آلاف دينار. كان مسلم بن قريش منتقضاً على السلطان وكان هزارسب بن شكر بن عوض قد أغرى السلطـان بدبيـس بـن مزيـد ليأخـذ بلـاده فانتقـض. ثـم هلـك هزارشـب سنة اثنتين وستين بأصبهان منصرفاً من وفادته على السلطان بخراسان فوفد دبيس على السلطان ومعه مشرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وخرج نظام الملك لتلقيهمـا وأكرمهمـا السلطـان ورجعـا إلـى الطاعة. الخطة العباسية بحلب واستيلاء السلطان عليها كـان محمود بن صالح بن مراد قد استولى هو وقومه على مدينة حلب وكانت للعلوي صاحب مصـر. فلمـا رأى إقبـال دولـة ألـب أرسلـان وقوتهـا خافـه علـى بلده فحملهم على الدخول في دعوة القائـم وخطب له على منابر حلب سنة ثلاث وستين وكتب بذلك إلى القائم فبعث إليه نقيب النقبـاء طـراد بـن محمـد الزينبـي بالخلـع. ثـم سار السلطان ألب أرسلان إلى حلب ومر بديار بكر فخرج إليه صاحبها ابن مروان وخدمه بمائة ألف دينار. ومر بآمد فامتنعت عليه وبالرهـا كذلك. ثم نزل على حلب وبعث إليه صاحبها محمود مع نقيب النقباء طراد بالاستعفاء من الحضور فالح في ذلك وحاصره فلما اشتد عليه الحصار خرج ليلاً إلى السلطان ومعه أمه واقعة السلطان مع ملك الروم وأسره كـان ملـك الـروم فـي القسطنطينيـة وهـو أرمانـوس قد خرج سنة اثنتين وستين إلى بلاد الشام في عساكر كثيفة ونزل على منبج ونهبها وقتل أهلها وزحف إليه محمود بن صالح بن مرداس وابن حسـان الطائـي فـي بني كلاب وطىء ومن إليهم من جموع العرب فهزمهم وطال عليه المقام على منبج وعزت الأقوات فرجع إلى بلاده واحتشد وسار في مائتي ألف من الزنج والروم والروس والكـرخ وخـرج فـي احتفـال إلـى أعمـال خلاط ووصل إلى ملازجرد. وكان السلطان ألب أرسلان بمدينة خوي من أذربيجان عند عوده من حلب فتشوق إلى الجهاد ولم يتمكن من الاحتشاد فبعث أثقاله وزوجته مع نظام الملك إلى همذان وسار فيمن حضره من العساكر وكانوا خمسة عشر ألفاً. ووطن نفسه على الاستماتة فلقيت مقدمته عند خلاط جموع الروسية في عشرة آلـاف فانهزمـوا وجيء بملكهم إلى السلطان فحبسه وبعث بالأسلاب إلى نظام الملك ليرسلها إلى بغداد. ثم تقارب العسكران وجنح السلطان للمهادنة فأبى ملك الروم فاعتزم السلطان وزحف وأكثر من الدعاء والبكاء وعفر وجهه بالتراب. ثم حمل عليهم فهزمهم وامتلأت الـأرض بأشلائهـم وأسـر الملـك أرمانـوس جـاء بـه بعض الغلمان أسيراً فضربه السلطان على رأسه ثلاثاً ووبخه. ثم فاداه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعلى أن يطلق كل أسير عنده وأن تكون عساكر الروم مدداً للسلطان متى يطلبها. وتم الصلح على ذلك لمدة خمسين سنة. وأعطاه السلطان عشرة آلاف دينار وخلع عليه وأطلقه ووثب ميخائيل على الروم فملك عليهم مكان أرمانوس فجمع ما عنده من الأموال فكان مائتي ألف دينار وجيء بطبق مملوء بجواهر قيمته تسعون ألفاً. ثم استولى أرمانوس بعد ذلك على أعمال الأرمن وبلادهم. شحنة بغداد قد ذكرنا أن السلطان ألب أرسلان ولى لأول ملكه ايتكين السليماني شحنة بغداد سنة ست وخمسين فأقام فيها مدة ثم سار إلى السلطان في بعض مهماته واستخلف ابنه مكانه فأساء السيرة وقتل بعض المماليك الداوية فأنفذ قميصه من الديوان إلى السلطان وخوطب بعزلـه. وكان نظام الملك يعني به فكتب فيه بالشفاعة وورد سنة أربع وستين فقصد دار الخلافة وسأل العفو فلم يحب وبعث إلى تكريت ليسوغها بإقطاع السلطان فبرز المرسوم من ديوان الخلافـة بمنـع ذلك. ولما رأى السلطان ونظام الملك إصرار القائم على عزله بعث السلطان مكانه سعـد الدولـة كوهرابيـن اتباعاً لمرضاه الخليفة. ولما ورد بغداد خرج الناس للقائه وجلس له القائم واستقر شحنة. مقتل السلطان ألب أرسلان وملك ابنه ملكشاه سار السلطان ألب أرسلان محمد إلى ما وراء النهر وصاحبه شمس الملك تكين وذلك سنة خمـس وستيـن وعبـر علـى جسـر عقـده علـى جيحون في نيف وعشرين يوماً وعسكره تزيد على مائتي ألف. وجيء له بمستحفظ القلاع ويعرف بيوسف الخوارزمي فأمر بعقابه على ارتكابه فأفحـش فـي سـب السلطان فغضب وأمر بإطلاقه ورماه بسهم فأخطأه فسير إليه يوسف وقام السلطان عن سريره فعثر ووقع فضربه بسكينة وضرب سعد الدولة ودخل السلطان خيمته جريحـاً. وقتـل الأتراك يوسف هذا ومات السلطان من جراحته عاشر ربيع سنة خمس وستين لتسع سنين ونصف من ملكه ودفن بمرو عند أبيه. وكان كريماً عادلاً كثير الشكر لنعمة الله والصدقة واتسع ملكه حتى قيل فيه سلطان العالم. ولما مات وقد أوصى بالملك لابنه ملكشاه فجلس للملك وأخذ له البيعة وزيره نظام الملـك وأرسـل إلـى بغـداد فخطـب له على منابرها. وكان ألب أرسلان أوصى أن يعطي أخوه قاروت بك أعمال فارس وكرمان وشيأ عينه من المال وكان بكرمان. وأن يعطي ابنه إياس بن ألب أرسلان ما كان لأبيه داود وهو خمسمائة ألف دينار وعهد بقتال من لم يقض بوصيته. وعاد ملكشـاه مـن بلـاد مـا وراء النهر فعبر الجسر في ثلاثة أيام وزاد الجند في أرزاقهم سبعمائة ألف دينار ونزل نيسابور وأرسل إلى ملوك الأطراف بالطاعة والخطبة فأجابوا. وأنزل أخاه إياس بن ألب أرسلان ببلخ وسار إلى الري. ثم فوض إلى نظام الملك وأقطعه مدينة طوس التي هي منشؤه وغيرهـا ولقبـه ألقابـاً منهـا أتابـك ومعناهـا الأميـر الوالـد فحمـل الدولـة بصرامـة وكفايـة وحسـن سيـرة وبعث كوهرابين الشحنة إلى بغداد سنة ست وستين لاقتضاء العهد فجلس له القائـم وعلى رأسه حافده وولي عهده المقتدي بأمر الله وسلم إلى سعد الدولة كوهرابين عهد السلطان ملكشاه بعد أن قرأ الوزير أوله في المحفل وعقد له اللواء بيده ودفعه إليه. وفاة القائم ونصب المقتدي للخلافة ثـم توفـي القائـم بأمـر اللـه أبـو جعفـر بـن القادر افتصد منتصف شعبان من سنة سبع وستين ونام فانفجر فصاده وسقطت قوته. ولما أيقن بالموت أحضر حافده أبا القاسم عبد الله ابن ابنه ذخيرة الدين محمد وأحضر الوزير ابن بهير والنقباء والقضاة وغيرهم وعهد له بالخلافة. ثم مات لخمس وأربعين سنة من خلافته. وصلى عليه المقتدي وبعي بعهد جده وحضر بيعته مؤيد الملك بن نظام الملـك والوزيـر فخـر الدولـة بـن جهـر وابنـه عميـد الدولـة وأبـو إسحـاق الشيرازي وأبو نصر بن الصباغ ونقيب النقباء طراد والنقيب الطاهر المعمر بن محمد وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني وغيرهم من الأعيان والأماثل. ولما فرغوا من البيعة صلى بهم العصـر ولـم يكـن للقائـم عقـب ذكـر غيـره لـأن ابنـه ذخيـرة الديـن أبـا العبـاس محمـداً توفـي فـي حياته ولم يكن له غيره فاعتمد القائم لذلك. ثم جاءت جاريته ارجوان بعد موته لستة أشهر بولد ذكر فعظم سرور القائم به ولما كان حادثـة البساسيـري حملـه أبـو الغنائـم ابـن المجلبـان إلى حران وهو ابن أربع سنين وأعاده عند عود القائم إلى داره. فلما بلغ الحلم عهد له القائم بالخلافة ولما تمت بيعته لقب المقتدي وأقر فخر الدولـة بـن جهير على وزارته بوصية جحه القائم بذلك. وبعث ابن عميد الدولة إلى السلطان ملكشاه لأخذ البيعة في رمضان من سنة سبع وستين وبعث معه من الهدايا ما يجل عن الوصـف. وقـدم سعـد الدولـة كوهرابيـن سنـة ثمـان وستيـن إلـى بغـداد شحنـة ومعـه العميد أبو نصر ناظـراً فـي أعمـال بغـداد وقـدم مؤيـد الملـك ابـن نظام الملك سنة سبعين للإقامة ببغداد ونزل بالدار التي بجوار مدرستهم. كـان أبـو نصـر بن الأستاذ أبي القاسم القشيري قد حج سنة تسع وستين فورد بغداد منصرفاً مـن الحج ووعظ الناس بالنظامية وفي رباط شيخ الشيوخ ونصر مذهب الأشعري فأنكر عليه الحنابلة وكثر التعصب من الجانبين وحدثت الفتنـة والنهـب عنـد المدرسـة النظاميـة فأرسـل مؤيـد الملـك إلـى العميـد والشحنـة فحضـروا فـي الجنـد وعظمـت الفتنـة ونسب ذلك إلى الوزير فخر الدولة بن جهير وعظم ذلك على عضد الدولة فأعاد كوهرابين إلى الشحنة ببغداد. وأوصاه المقتـدي بعـزل فخر الدولة من الوزارة وأمر كوهرابين بالقبض على أصحابه ونمي الخبر إلى بني جهيـر فبـادر عميـد الدولـة ابـن الوزيـر إلـى نظـام الملـك يستعطفـه. ولمـا بلـغ كوهرابيـن رسالة الملك إلى المقتدي أمر فخر الدولة بلزوم منزله. ثم جاء ابنه عميد الدولة وقد استصلح نظام الملك في الشفاعـة لهم فأعيد عميد الملك إلى الوزارة دون أبيه فخر الدولة وذلك في صفر سنة اثنتين وسبعين. استيلاء تتش بن ألب أرسلان على دمشق وابتداء دولته ونفيه فيها كان أتسز بهمزة وسين وزاي ابن أبق الخوارزمي من أمراء السلطان ملك شاه وقد سار سنة ثلاث وستين إلى فلسطين من الشام ففتح مدينة الرملة ثم حاصر بيت المقدس وفتحها من يد العلوييـن أصحاب مصر وملك ما يجاورها ما عدا عسقلان. ثم. حاصر دمشق حتى جهدها الحصـار فرجـع وبقـي يـردد الغـزوات إليهـا كـل سنـة. ثـم حاصرهـا سنـة سبع وستين وبها المعلى بن حمدرة من قبل المنتصر العبيدي فأقام عليها شهراً. ثم أقلع ديار أهل دمشق بالمعلى لسوء سيرته فهرب إلى بانياس ثم إلى صور ثم أخذ إلى مصر وجلس بها ومات محبوساً. واجتمع المصامـدة بعد هربه من دمشق وولوا عليهم انتصار ابن يحيى المصمودي ولقبوه زين الدولة. ثم اختلفوا عليه ووقعت الفتنة وغلت الأسعار ورجع أتسز إلى حصارها فنزل له عنها انتصار على الأمان وعوضه عنها بقلعة بانياس ومدينة يافا من الساحل وخطب فيها أتسز للمقتدي العباسي في ذي القعدة سنة ثمان وستين. وتغلـب علـى أكثـر الشـام ومنع من الأذان بحي على خير العمل. ثم سار سنة تسع وستين إلى مصر وحاصرها حتى أشرف على أخذها. ثم انهزم من غير قتال ورجع إلى دمشق وقد انتقـض عليـه أكثـر بلـاد الشـام فشكر لأهل دمشق صونهم لمخلفه وأمواله ورفع عنهم خراج سنة. وبلغـه أن أهـل القـدس وثبـوا بأصحابـه ومخلفـه وحصروهـم في محراب داود عليه السلام فسار إليهم وقاتلوه فملكهم عنوة وقتلهم في كل مكان إلا من كان عند الصخرة. ثم إن السلطان ملك شاه أقطع أخاه تاج الدولة تتش سنة سبعين وأربعمائة بلاد الشام وما يفتحه من نواحيها فسار إلى حلب سنة إحدى وسبعين وحاصرها وضيق عليها وكانت معه جموع كثيرة من التركمان. وكان صاحب مصر قد بعث عساكره مع قائده نصير الدولة لحصار دمشق فأحاطوا بها وبعث أتسز إلى تتش وهـو علـى حلـب يستمـده فسـار إليـه وأجفلـت العساكـر المصريـة عـن دمشـق وجـاء إليهـا تتش فخرج أتسز للقائه بظاهر البلد فتجني عليه حيث لم يستعد للقائه وقبض عليه وقتله لوقته وملك البلد وأحسن السيرة فيها وذلك سنة إحدى وسبعين فيما قال الهمذاني. وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر أن ذلك كان سنة اثنتين وسبعين. وقال ابن الأثير والشاميون في هذا الاسم افسلس والصحيح أنه أتسز وهو اسم تركي. |
سفارة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي عن الخليفة
كـان عميـد العراق أبو الفتح بن أبي الليث قد أسار السيرة وأساء إلى الرعية وعسفهم واطرح جانب الخليفة المقتدي وحواشيه فاستدعى المقتدي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي وبعثه إلى السلطان ملك شاه والوزير نظام الملك بالشكوى من ابن العميد فسار لذلك ومعه جماعة من أعيـان الشافعيـة منهم أبو بكر الشاشي وغيره وذلك سنة خمس وخمسين. وتنافس أهل البلاد في لقائه والتمسح بأطرافه والتماس البركة في ملبوسه ومركوبه وكان أهل البلاد إذا مر بهـم يتسايلون إليه ويزدحمون على ركابه وينشدون على موكبه كل أحد ما يناسب ذلك وصدر الأمر بإهانة ابن العميد ورفع يده عما يتعلق بحواشي المقتدي وجرى بينه وبين إمام الحرمين مناظرة بحضرة نظام الملك ذكرها الناس في كتبهم انتهى. عزل ابن جهير عن الوزارة وإمارته علي ديار بكر ثم إن عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير عزله الخليفة المقتدي عن الوزارة ووصل يوم عزل رسول من قبل السلطان ونظام الملك يطلب بني جهير فأذن لهم وساروا بأهلهم إلى السلطان فلقاهم كرامةً وبراً وعقد لفخر الدولة على ديار بكر مكان بني مروان وبعث معه العساكر سنة وأعطاه الآلة وأذن له أن يخطب فيها لنفسه ويكتب اسمه في السكة فسار لذلك سنة ست وسبعين. ثـم بعـث إليـه السلطـان سنـة سبـع وسبعيـن بمـدد العساكـر مـع الأميـر ارتـق بـن اكسـب جل أصحاب ماردين لهذا العهد وكان ابن مروان قد استمد فخر الدولة بن جهير بنواحيها وكان معه جماعة من التركمان فتقدموا إلى قتل مشرف الدولة وانهزم أمامهم وغنم التركمان من كـان معـه مـن أحيـاء العـرب ودخـل آمـد فحصره بها فخر الدولة وأرتق فراسل أرتق وبذل له مالاً علـى الخـروج مـن ناحيتـه فـأذن لـه وخـرج. ورجـع ابـن جهيـر إلـى ميافارقيـن ومعـه بهـاء الدولـة منصور بن مزيد صاحب الحلة والنيل والجامعين وابنه سيف الدولة صدقة ففارقوه إلى العراق وسار هو إلى خلاط. وكان السلطان لما بلغه انهزام مشرف الدولة وحصاره بآمد بعث عميد الدولة بن فخر الدولة بـن جهيـر فـي عسكـره إلـى الموصـل ومعـه قسيم الدولة اقسنقر جد نور الدين العادل وكاتب أمراء التركمان بطاعته وساروا إلى الموصـل فملكوهـا. وسـار السلطـان بنفسـه إليهـا وقـارن ذلـك خلوص مشرف الدولة من حصار آمد فراسل مؤيد الدولة بن نظام الملك وهو على الرحبة وأهـدى لـه فسعـى له عند السلطان وأحضره وأهدى للسلطان سوابق خيله وصالحه وأقره على بلـاده وعـاد إلـى خراسـان. ولـم يـزل فخـر الدولـة بـن جهيـر فـي طلـب ديار بكر حتى ملكها. فأنفذ إليـه زعيـم الرؤسـاء القاسـم سنـة ثمـان وسبعيـن وحاصرهـا وضيـق عليهـا حتـى غـدر بهـا بعض أهل العسكر من خارج وملكها وعمد أهل البلد إلى بيوت النصارى بينهم فنهبوها بما كانوا عمال بني مروان وكان لهم جور على الناس. وكان فخر الدولة مقيماً على ميافارقين محاصراً لها وجاءه سعد الدولة كوهرابين في العسكر مـدداً مـن عنـد السلطـان فخـرج فـي حصارهـا وسقـط بعـض الأيـام جانب من سورها فدهش أهل البلد وتنادوا بشعار السلطان ملك شاه واقتحم فخر الدولة البلد واستولى على ما كان لبني مـروان وبعـث بأموالهـم إلـى السلطـان مـع ابنه زعيم الرؤساء فلحقه بأصبهان سنة ثمان وسبعين. ثـم بعـث فخـر الدولـة أيضـا عسكـراً إلـى جزيـرة ابـن عمـر وحاصروها حتى جهدهم الحصار فوثب طائفة من أهل البلد بعاملها وفتحوا الباب ودخل مقدم العسكر فملك البلد ودخل سنة ثمان وسبعين. وانقرضت دولة بني مروان من ديار بكر واستولى عليها فخر الدولة بن جهير ثم أخذها السلطان من يده وسار إلى الموصل فتوفي بها وكان مولده بها واستخدم لبرلة بن مقلة وسفـر عنـه إلـى ملـك الـروم. ثـم سـار إلـى حلـب ووزر لمعـز الدولة أبي هال بن صالح. ثم مضى إلـى ملطيـة ثـم إلـى مـروان بديـار بكـر فوزر له ولولده. ثم سار إلى بغداد ووزر للخليفة كما مر في آخر ما ذكرنا. وتوفي سنة ثلاث وثمانين انتهى. خبر الوزارة لمـا عـزل الخليفـة المقتـدي عميـد الدولـة عـن الـوزارة سنة ست وسبعين رتب في الديوان أبا الفتح المظفـر بـن رئيـس الرؤسـاء. ثـم استـوزر أبـا شجـاع محمـد بـن الحسيـن فلـم يـزل فـي الـوزارة إلى سنة أربع وثمانين فتعرض لأبي سعد بن سمحاء اليهودي وكان وكيلاً للسلطان ونظام الملك. وسار كوهرابيـن الشحنـة إلى السلطان بأصبهان فمضى اليهودي في ركابه وسمع المقتدي بذلك فخرج توقيعـه بإلـزام أهـل الذمـة بالغيـار فأسلـم بعضهم وهرب بعضهم. وكان ممن أسلم أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن موصلايا الكاتب وقرابته ولما وصل كوهرابين وأبو سعد إلى السلطان وعظمت سعايتهما في الوزير أبي شجاع فكتب السلطان ونظام الملك إلى المقتدي في عزله فعزله وأمره بلزوم بيته وولى مكانه أبا سعد ابن موصلايا الكاتب وبعث المقتدي إليهما في عميد الدولة بن جهير فبعثا به إليه واستوزره سنة أربع وثمانين وركب إليه نظام الدولة فهنأه في الوزارة في بيته وتوفي الوزير أبو شجاع سنة ثمان وثمانين. استيلاء السلطان على حلب قد ذكرنا من قبل استيلاء السلطان ألب أرسلان على حلب وخطبـة صاحبهـا محمـود ابـن صالح بن مرداس علـى منابـره باسمـه سنـة ثلـاث وستيـن. ثـم عـاد بعـد ذلـك إلـى طاعـة العلويـة بمصـر. ثم انتقضت دولة بني مرداس بها وعادت رياستها شورى في مشيختها وطاعتهم لمسلم بن قريش صاحب الموصل وكبيرهم ابن الحثيثي. واستقر ملك سليمان ابن قطلمش ببلاد الروم وملك أنطاكية سنة سبع وسبعين. وتنازع مع مشرف الدولة ابن قريش ملك حلب وتزاحفا فقتـل سليمـان بـن قطلمـش مسلـم بـن قريـش سنـة تسـع وسبعيـن. وكتـب إلى أهل حلب يستدعيهم إلـى طاعتـه فاستمهلـوه إلـى أن يكاتبـوا السلطـان ملـك شاه. فإن الكل كانوا في طاعته وكتبوا إلى تتـش أخـي السلطـان وهـو بدمشـق أن يملكـوه فسـار إليهـم ومعـه ارتق. بن أكسب كان قد لحق به عندمـا جـاء السلطـان إلـى الموصـل وفتحهـا خشيـة ممـا فعلـه في خلاص مسلم بن قريش من حصار آمد فأقطعه تتش بيت المقدس. فلمـا جـاء تتـش إلـى حلـب وحاصـر القلعة وبها سالم بن مالك ابن بدران ابن عم مشرف الدولة مسلـم بـن قريـش وكـان ابـن الحثيثـي وأهـل حلـب قد كاتبوا السلطان ملك شاه أن يسلموا إليه البلد فسـار مـن أصبهـان فـي جمـادى سنة تسع وستين ومر بالموصل ثم بحران فتسلمها وأقطعها محمد بن مسلم بن قريش ثم بالرها فملكها من يد الروم ثم بقلعة جعفر فحاصرها وملكها من يد بعض بني قشير ثم بنبج فملكها ثم عبر الفرات إلى حلب فأجفل أخوه تتش إلى البرية ومعه أرتـق. ثـم عـاد إلـى دمشـق وكان سالم بن مالك ممتنعاً بالقلعة فاستنزله منها وأقطعه قلعة جعبر فلم تزل بيده ويد بنيه حتى ملكها منهم نور الدين العادل وبعث إلى السلطان بالطاعة على شيـراز وولـى السلطـان علـى حلـب قسيم الدولة صاحب شيراز نصر بن علي بن منقذ الكناني وسلـم إليـه اللاذقيـة وكفرطـاب وفامية فأقر على شيراز وولى السلطان على حلب قسيم الدولة آقسنقر جد نور الدين العادل ورحل إلى العراق وطلب أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فحمله معه وأنزله بديار بكر فتوفي فيها بحال أملاق. ودخل السلطان بغداد في ذي الحجة من سنة تسع وسبعين وأهدى إلى المقتدي وخلع عليه الخليفة وقد جلس له في مجلس حفل ونظام الملك قائم يقدم أمراء السلطان واحداً بعد واحد آخـر للسلام للخليفة ويعرف بأسمائهم وأنسابهم ومراتبهم. ثم فوض الخليفة المقتدي إلى السلطان أمور الدولة وقبل يده وانصرف. ودخل نظام الملك إلى مدرسته فجلس في خزانة الكتب واسمـع جـزء حديـث وأملـى آخـر وأقـام السلطـان في بغداد شهراً ورحل في صفر من سنة ثمانين إلى أصبهان وجاء إلى بغداد مرة أخرى في رمضان من سنة أربع وثمانين ونزل بدار الملك وقـدم عليـه أخـوه تـاج الدولـة تتـش وقسيـم الدولـة آقسنقـر مـن حلب وغيرهما من أمراء النواحـي. وعمـل ليلـة الميعـاد مـن سنـة خمـس وثمانيـن لـم يـر أهل بغداد مثله وأخذ الأمراء في بناء الدور ببغداد لسكناهم عند قدومهم فلم تمهلهم الأيام لذلك. فتنة بغداد كانت مدينـة بغـداد قـد احتفلـت فـي كثـرة العمـران بمـا لـم تنتـه إليـه مدينـة فـي العالـم منـذ مبـدء الخليقـة فيمـا علمناه واضطربت آخر الدولة العباسية بالفتن وكثر فيها المفسدون والدعار والعيارون من الرهـا وأعيـا علـى الحكام أمرهم وربما أركبوا العساكر لقتالهم ويثخنون فيهم فلم يحسم ذلك من عللهم شيئاً. وربما حدثت الفتن من أهل المذاهب ومن أهل السنة والشيعة من الخلاف في الإمامة ومذاهبها وبمن الحنابلـة والشافعيـة وغيرهـم مـن تصريـح الحنابلـة بالتشبيـه فـي الـذات والصفات ونسبتهم ذلك إلى الإمام أحمد وحاشاه منه فيقـع الجـدال والنكيـر ثـم يفضـي إلـى الفتنـة بيـن العـوام. وتكـرر ذلـك منذ حجر الخلفاء. ولا يقدر بنو بويه ولا السلجوقية على حسم ذلـك منهـا لسكنـى أولئـك بفارس وهؤلاء بأصبهان وبعدهم عن بغداد. والشوكة التي تكون بها حسـم العلـل لاتفاقهـم. وإنمـا تكون ببغداد شحنة تحسم ما خف من العلل ما لم ينته إلى عموم الفتنة ولم يحصل من ملوكهم اهتمام لحسم ذلـك لاشتغالهـم بمـا هـو أعظـم منـه فـي الدولـة والنواحي. وعامة بغداد أهون عليهم من أن يصرفوا همتهم عن العظائم إليهم فاستمرت هذه العلة ببغداد ولم يقلع عنها إلى أن اختلفت جدتها وتلاشى عمرانها وبقي طراز في ردائها لم تذهبه الأيام. مقتل نظام الملك وأخباره كان من أبناء الدهاقين بطوس أبو علي الحسين بن علي بن إسحاق فشب وقرأ بها وسمع الحديث الكبير وتعلق بالأحكام السلطانية وظهرت فيها كفايته وكان يعرف بحسن الطوسي. وكان أميره الذي يستخدمه يصادره كل سنة فهرب منه إلى داود وحفري بك وطلبه مخدومه الأميـر فمنعـه وخدم أبا علي بن شادان متولي الأعمال ببلخ لحفري بك أخي السلطان طغرلبك وهو والد السلطان ألب أرسلان. ولما مات أبو علي وقد صرف نظام الملك هذا بالكفاية والأمانـة أوصـى بـه ألـب أرسلـان فأقام بأمور في دولته ودولة ابنه ملك شاه من بعده وبلغ المبالغ كما مر واستولى على الدولة. وولى أولاده الأعمال وكـان فيمـن ولـاه منهـم ابـن ابنـه عثمـان جمـال وولـى علـى مـرو وبعـث السلطـان إليهـا شحنـة مـن أعظـم أمرائـه ووقـع بينـه وبين عثمان نزاع فحملته الحداثة والادلال بجاهه على أن قبض على الأمير وعاقبه فانطلق إلى السلطان مستغيثاً وامتعض لها السلطان وبعث إلـى نظـام الملـك بالنكيـر مـع خواصـه وثقاتـه فحملتـه الدالة على تحقيق تعديد حقوقه على السلطان وإطلاق القول في العتاب والتهديد بطوارق الزمن. وأرادوا طي ذلك عن السلطان فوشى به بعضهـم. فلمـا كـان رمضـان مـن سنة خمس وثمانين والسلطان على نهاوند عائداً من أصبهان إلى بغـداد وقـد انصـرف الملك يومه ذلك من خيمة السلطان إلى خيمته فاعترضه صبي قيل إنه من الباطنيـة فـي صـورة مستغيـث فطعنه بسكينة فمات وهرب الصبي فأدرك وقتل وجاء السلطان إلى خيمة نظام الملك يومه وسكن أصحابه وعسكره وذلك لثلاثين سنة من وزارته سوى ما وزر لأبيه ألب أرسلان أيام إمارته بخراسان. وفاة السلطان ملك شاه وملك ابنه محمود لما قتل نظام الملك على نهاوند كما ذكرناه سار السلطان لوجهه ودخل بغداد آخر رمضان من سنته ولقيه الوزير عميد الدولة بن جهير واعتزم السلطان أن يولي وزارته تاج الملك وهو الـذي سعـى بنظـام الملـك وكانـت قـد ظهـرت كفايتـه. فلمـا صلى السلطان العيد عاد إلى بيته وقد طرقه المرض وتوفي منتصف شوال فكتمت زوجته تركمان خاتون موته وانزلت أموالها وأموال أهل الدولة بحريم دار الخلافة وارتحلت إلى أصبهان. وسلوا السلطان معها في تابوته وقد بذلت الأموال للأمراء على طاعة ابنها محمود والبيعة له فبايعوه وقدمت من طريق قوام الدولة كربوقـا الـذي ملـك الموصـل من بعد ذلك فسار بخاتم السلطان لنائب القلعة وتسلمها. ولما بايعت لولدها محمود وعمره يومئذ أربع سنين بعثت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة له فأجابها على شرط أن يكون أثر من أمراء أبيه هو القائم بتدبير الملك وأن يصدر عن رأي الوزير تاج الملك ويكـون لـه ترتيب العمال وجباية الأموال فأبت أولاً من قبول هذا الشرط حتى جاءها الإمام أبو حامـد الغزالـي وأخبرهـا أن الشرع لا يجير تصرفاته فأذعنت لذلك فخطبت لابنها آخر شوال من السنة ولقب ناصر الدولة والدين وكتب إلى الحرمين الشريفين فخطب له بهما. ثورة بركيارق بملك شاه كانت تركمان خاتون عند موت السلطان ملك شاه قد كتمت موته وبايعت لابنها محمود كما قلناه وبعثت إلى أصبهان سراً في القبض على بركيارق ابن السلطان ملك شاه خوفاً من أن ينازع ابنها محموداً فحبس. فلما ظهر موت ملك شاه وثب مماليك بركيارق نظام الملك على سلاح كان له بأصبهان وثاروا في البلد وأخرجوا بركيـارق مـن محبسـه وبايعـوه وخطبـوا لـه بأصبهان. وكانت أمه زبيدة بنت عم ملك شاه وهو ياقولي خائفة على ولدها من خاتون أم محمـود وكـان تـاج الملـك قـد تقـدم إلـى أصبهـان وطالبه العسكر بالأموال فطلع إلى بعض القلاع لينزل منها المال وامتنع فيها خوفاً من مماليك نظام الملك. ولما وصلت تركمان خاتون إلى أصبهان جاءها فقبلت عذره. وكان بركيارق لما أقامت خاتون ابنها محموداً بأصبهان خرج فيمن معه من النظامية إلى الري واجتمع معه بعض أمراء أبيه وبعثت خاتون العساكر إلى قتاله وفيهم أمراء ملك شاه. فلما تراءى الجمعان هرب كثير من الأمراء إلى بركيارق واشتد القتال فانهزم عسكر محمود وخاتون وعادوا إلى أصبهان وسار بركيارق في أثرهم فحاصرهم بها. مقتل تاج الملك كـان الوزيـر تـاج الملـك قـد حضـر مع عسكر خاتون وشهد وقعة بركيارق. فلما انهزموا سار إلى قلعة يزدجرد فحبس في طريقه وحمل إلى بركيارق وهو محاصر أصبهان وكان يعرف كفايته فأجمع أن يستوزره وأصلح هو النظامية وبذل لهم مائتي ألف دينار واسترضاهم بها. ونمي ذلك إلى عثمان نائب نظام الملك فوضع الغلمان الأصاغر عليه الطالبين ثار سيدهم وأغراهم فقتلـوه وقطعـوه قطعـاً وذلـك فـي المحـرم سنـة سـت وثمانيـن. ثـم خـرج إلى بركيارق من أصبهان وهو محاصر لها عز الملك أبو عبد الله بن الحسين بن نظام الملك وكان على خوارزم ووفد على السلطـان ملـك شـاه قبـل مقتـل أبيه. ثم كان ملكهما فأقام هو بأصبهان وخرج إلى بركيارق وهو يحاصرها فاستوزره وفوض إليه أمر دولته انتهى. الخطبة لبركيارق ببغداد ثـم قـدم بركيارق بغداد سنة ست وثمانين وطلب من المقتدي الخطبة فخطب له على منابرها ولقـب ركـن الديـن وحمـل الوزيـر عميـد الدولـة بن جهير إليه الخلع فلبسها وتوفي المقتدي وهو مقيم ببغداد. وفاة المقتدي ونصب المستظهر للخلافة ثـم توفـي المقتـدي بأمـر اللـه أبـو القاسـم عبـد اللـه بـن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله في منتصف محرم سنة سبع وثمانين وكان موته فجأة أحضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلم عليه فقرأه ووضعه. ثم قدم إليه طعام فأكل منه ثم غشي عليه فمات وحضر الوزير فجهزوا جنازته وصلى عليه ابنه أبو العباس أحمد ودفن وذلك لتسع عشرة سنة وثمانية أشهر من خلافته. وكانت له قوة وهمة لولا أنه كان مغلباً وعظمت عمارة بغداد في أيامه وأظن ذلك لاستفحال دولـة بنـي طغرلبـك. ولمـا توفـي المقتـدي وحضـر الوزيـر أحضـر ابنـه أبـا العبـاس أحمـد الحاشيـة فبايعوه ولقبوه المستظهر وركب الوزير إلى بركيارق وأخذ بيعته للمستظهر. ثم حضر بركيارق لثالثة مـن وفاتـه ومعـه وزيره عز الملك بن نظام الملك وأخوه بهاء الملك وأمر السلطان بأرباب المناصب فجمعوا وحضر النقيبان طراد العباسي والمعمر العلوي وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني والغزالي والشاشي وغيرهم فحبسوا في العراء وبايعوا. قد ذكرنا فيما تقدم أن تتش ابن السلطان ألب أرسلان استقل بملك دمشق وأعمالها وأنه وفد على السلطان ملك شاه ببغداد قبل موته وانصرف وبلغه خبر وفاته بهيت فملكها وسار إلى دمشق فجمع العساكر وزحف إلى حلب فأطاعه صاحبها قسيم الدولة آقسنقر وسار معه وكتـب إلـى ناعيسـان صاحـب أنطاكيـة وإلـى بـرار صاحب الرها وحران يشير عليهما بطاعة تتش حتـى يصلـح حـال أولـاد ملـك شـاه فقبلـوا منه وخطبوا له في بلادهم وساروا معه فحضر الرحبة وملكها في المحرم سنة ست وثمانين وخطب فيها لنفسه. ثم فتح نصيبين عنوة وعاث فيها وسلمها لمحمد بن مشرف الدولة وسار يريد الموصل ولقيه الكافي فخر الدولة بن جهير وكان فـي جزيـرة ابـن عمـر فاستـوزره وبعـث إلـى إبراهيم بن مشرف الدولة مسلم بن قريش وهو يومئذ ملك الموصل يأمره بالخطبة له وتسهيل طريقه إلى بغداد فأبى من ذلك وزحف إليه تتش وهو في عشرة آلاف وآقسنقر على ميمنته وتوزران على ميسرته وإبراهيم في ستين ألفاً والتقوا فانهـزم إبراهيم وأخذ أسيراً وقتل جماعة من أمراء العرب صبراً وملك تاج الدولة تتش الموصل وولـى عليهـا علـي بـن مشـرف الدولة. وفوض إليه أمر صفية عمة تتش وبعث إلى بغداد يطلب مساعـدة كوهرابيـن الشحنـة فجـاء العـذر بانتظار الرسل من العسكر فسار إلى ديار بكر وملكها ثـم إلـى أذربيجـان وبلـغ خبـره إلى بركيارق وقد استولى على همذان والري فسار لمدافعته فلما التقـى العسكـران جنـح آقسنقـر إلـى بركيارق وفاوض توران في ذلك وأنهما إنما اتبعا تتش حتى يظهر أمر أولاد ملكشاه فوافقه على ذلك وسارا معاً بركيارق فانهزم تتش وعاد إلى دمشق واستفحل بركيارق وجاءه كوهرابين يعتذر عن مساعدته لتتش في الخطبة فلم يقبله وعزله وولى الأمير نكبرد شحنه بغداد مكانه خطب لبركيارق ببغداد كما قدمناه. ومات المقتدي ونصب المستظهر ولما عاد تتش من أذربيجان إلى الشام جمع العساكر وسار إلى حلب لقتال آقسنقر وبعث بركيارق كربوقا الذي صار أمير الموصل مدداً لأقسنقر ولقبهم تتـش قريبـاً مـن حلـب فهزمهم وأسر أقسنقر فقتله صبراً. ولحق توران وكربوقا بحلب وحاصرهما تتش فملكها وأخذهما أسيرين وبعـث إلـى حـران والرهـا الطاعـة وكانتـا لتـوران فامتنعـوا فبعـث برأسـه إليهـم وأطاعـوه وحبس كربوقا في حمص أن أطاعه رضوان بعد قتل أبيه تتش. ثـم سار تتش إلى الجزيرة فملكها ثم ديار بكر ثم خلاط وأرمينية ثم أذربيجان ثم سار إلى همذان فملكها وكان بها فخر الدولة نظام الملك سار من حران لخدمة بركيارق فلقيه الأمير تاج من عسكر محمود بن ملكشاه بأصبهان فنهب ماله ونجا بنفسه إلى همذان وصادف بها تتش وشفع فيه باغسيان وأشار بوزارته فاستوزره وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبـة مـن المستظهر وبعث يوسف بن أبق التركماني شحنته إلى بغداد في جمع من التركمان فمنع من دخولها. وكـان بركيـارق قـد سـار إلـى نصيبيـن وعبـر دجلـة فـوق الموصـل إلى أربل ثم إلى بلد سرخاب بن بـدر حتـى إذا كـان بينـه وبيـن عمـه تسعـة فراسـخ وهـو فـي ألـف رجـل وعمـه فـي خمسيـن ألفاً فبيته بعض الأمراء من عسكر عمه فانهزم إلى أصبهان وبها محمود ابن أخيه وقد ماتت أمه تركمان خاتـون فأدخلـه أمـراء: محمـود واحتاطوا عليه. ثم مات محمود سلخ شوال من سنة سبع وثمانين واستولى بركيارق على الأمر وقصده مؤيد الملك بن نظـام الملـك فاستـوزره فـي ذي الحجـة واستمال الأمراء فرجعوا إليه وكثر جمعه. وكان تتش بعد هزيمة بركيارق قد اختلف عليه الأمراء وراسل أمراء أصبهان يدعوهم إلى طاعته فواعدوه انتظار بركيارق وكان قد أصابه الجدري فلما أبل نبذوا إليه عهده وساروا مع بركيارق من أصبهان وأقبلت إليهم العساكر من كـل مكـان وانتهـوا إلـى ثلاثين ألفاً والتقوا قريباً من الري فانهزم تتش وقتله بعض أصحاب أقسنقر وكان قد حبس وزيره فخر الملك بن نظام الملك فأطلق ذلك اليوم واستفحل أمر بركيـارق وخطب له ببغداد. كان السلطان بركيارق قد ولى على خراسان وأعمالها أخاه لأبيـه سنجـر فاستقـل بأعمـال خراسان كما يذكر في أخبار دولتهم عند انفرادها بالذكر. وإنما نذكر هنا من أخبارهم ما يتعلق بالخلافة والخطبة لهم ببغداد لأن مساق الكلام هنا إنما هو عن أخبار دولة بني العباس ومن وزر لهم أو تغلب خاصة. وكان لسنجر بن ملكشاه أخ شقيق اسمـه محمـد ولمـا هلـك السلطان ملكشاه سار مع أخيه محمود وتركمان خاتون إلى أصبهان. فلما حاصرهم بركيارق لحـق بـه أخـوه محمـد هـذا وسـار معـه إلى بغداد سنة ست وثمانين وأقطعه دجلة وأعمالها وبعث معه قطلغ تكين أتابك. فلما استولى على أمره قتله أنفة من حجره. ثـم لحق به مؤيد الملك بن عبيد الله بن نظام الملك كان مع الأمير أنز وداخله قي الخلاف على السلطـان بركيـارق. فلمـا قتـل أنـز كمـا نذكـر فـي أخبارهـم لحـق مؤيـد الملـك بمحمـد ابـن السلطـان ملك شـاه وأشـار عليـه ففعـل وخطـب لنفسـه. واستـوزره مؤيـد لملـك وقارن ذلك أن السلطان بركيارق قتل خاله مجد الملك البارسلاني فاستوحش منه أمراؤه ولحقوا بأخيه محمد وسار بركيارق إلى الري واجتمع له بها عساكر وجاء عز الملك منصور ابن نظام الملك في عساكر وبينمـا هـو فـي الـري إذ بلغـه مسيـر أخيـه محمـد إليـه فأجفـل راجعـاً إلـى أصبهـان فمنعـه أهلها الدخول فسار إلى خوزستان. وجاء السلطان محمد إلى الري أول ذي القعدة من سنة اثنتين وتسعين ووجد أم بركيارق بها وهي زبيدة خاتون فحبسها مؤيد الملك وقتلها واستفحل ملك محمد وجاءه سعد الدولة كوهرابين شحنة بغداد وكان مستوحشاً من بركيارق وجاء معه كربوقا صاحب الموصل وجكرمش صاحـب جزيـرة ابـن عمـر وسرخـاب ابـن بـدر صاحـب كركـور فلقـوه جميعـاً بقـم. وسـار كربوقـا وجكرمـش معـه إلى أصبهان ورد كوهرابين إلى بغداد في طلب الخطبة من لخليفة وأن يكون شحنة بها فأجابه المستظهر إلى ذلك وخطب له منتصف ذي الحجة منة اثنتين وتسعين ولقب غياث الدنيا والدين. |
إعادة الخطبة لبركيارق
لما سار بركيارق مجفلاً من الري إلى خوزستان أمام أخيه محمد وأمير عسكره يومئذ نيال بن أنـوش تكين الحسامي ومعه جماعة من الأمراء أجمع المسير إلى العراق فسار إلى واسط وجاءه صدقـة بـن مزيـد صاحـب الحلـة. ثـم سـار إلـى بغـداد فخطـب لـه بهـا منتصـف صفر من سنة ثلاث وتسعيـن. ولحـق سعد الدولة كوهرابين ببعض الحصون هنالك ومعه أبو الغازي بن أرتق وغيره من الأمراء وأرسل إلى السلطان محمد ووزيره مؤيد الملك يستحثهما في الوصول فبعث إليه كربوقـا صاحـب الموصـل وجكرمـش صاحب الجزيرة فلم يرضه. وطلب جكرمش العود إلى بلده فأطلقه. ثم نزع كوهرابين ومن معه من الأمراء إلى بركيارق باغزاء كربوقا صاحب الموصل وكاتبوه فخرج إليهم ودخلوا معه بغداد واستوزره الأغر أبو المحاسن عبد الجليل بن علي بن محمد الدهستاني وقبض على عميد الدولة ابن جهير وزير الخليفة وطالبه بأموال ديار بكر والموصـل فـي ولايتـه وولايـة أيـه وصادره على مائة وستين ألف دينار فحملها إليه وخلع المستظهر على السلطان بركيارق واستقر أمره. المصاف الأول بين بركيارق محمد وقتل كوهرابين والخطبة لمحمد ثم سار بركيارق من بغداد إلى شهرزور لقتال أخيه محمد واجتمع إليه عسكر عظيم من التركمـان وكاتبـه رئيـس همـذان بالمسير إليه فعدا عنه ولقي أخاه محمداً على فراسخ من همذان ومحمـد فـي عشريـن ألـف مقاتـل ومعه الأمير سرخو شحنة أصبهان وعلى ميمنته أمير آخر وابنه أياز وعلى ميسرته مؤيد الملك والنظامية. ومع بركيارق في القلب وزيره أبو المحاسن وفـي ميمنتـه كوهرابيـن وصدقـة بـن مزيد وسرخاب بن بدر. وفي ميسرته كربوقا وغيره من الأمراء. فحمـل كوهرابين من ميمنة بركيارق على ميسرة محمد فانهزموا حتى نهبت خيامهم. ثم حملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق فانهزمت وحمل محمد معهم فانهزم بركيارق ورجع كوهرابين للمنهزمين فكبا به فرسه وقتل وافترقت عساكر بركيارق وأسر وزيره أبو المحاسن فأكرمه مؤيد الملـك وأنزلـه وأعـاده إلـى بغـداد ليخاطـب المستظهـر فـي إعـادة الخطبة للسلطان محمد ففعل وخطب له ببغداد منتصف رجب سنة ثلاث وتسعين. وابتداء أمر كوهرابين أنه كان لامرأة نجوزستان وصار خادماً للملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة. وحظي عنده وكان يستعرض حوائج تلك المرأة وأصاب أهلها منه خيراً. وأرسله أبو كاليجـار مـع ولـده أبـي نصر إلى بغداد فلما قبض عليه السلطان طغرلبك مضى معه إلى محبسه بقلعة طبرك. ولما مات أبو نصر سار إلى خدمة السلطان ألب أرسلان فحظي عنده وأقطعه واسط وجعله شحنة بغداد وكان حاضراً معه يوم قتله يوسف الخوارزمي ووقاه بنفسه. ثم بعثـه ابنـه ملك شاه إلى بغداد لاحضار الخلع والتقليد واستقر شحنة ببغداد إلى أن قتل ورأى ما لم يره خادم قبله من نفوذ الكلمة وكمال القدرة وخدمة الأمراء والأعيان وطاعتهم انتهى. مصاف بركيارق مع أخيه سنجر ولما انهزم السلطان بركيارق من أخيه محمد لحق بالري واستدعى شيعته وأنصاره من الأمراء فلحقوا به. ثم ساروا إلى أسفراين وكاتب الأمير داود حبشي بن الترنطاق يستدعيه وهـو صاحب خراسان وطبرستان ومنزله بالدامغان فأشار عليه باللحاق بنيسابور حتـى يأتيـه. فدخل نيسابور وقبض على رؤسائها ثم أطلقهم وأساء التصرف. ثم أعاد الكتاب إلى داود حبشي بالاستدعاء فاعتـذر بـأن السلطـان سنجـر زحـف إليـه فـي عساكـر بلـخ. ثـم سـأل منـه المـدد فسـار بركيارق إليه في ألف فارس وهو في عشرين ألفاً والتقوا بسنجر عند النوشجان وفي ميمنة سنجر الأمير برغش وفي ميسرته كوكر ومعه في القلب رستم. فمحل بركيارق على رستـم فقتلـه وانهـزم أصحابـه ونهب عسكرهم وكادت الهزيمة تتم عليهم. ثم حمل برغش وكوكر على عسكر بركيارق وهم مشتغلون بالنهب فانهزموا وانهزم بركيارق. وجاء بعض التركمان بالأميـر داود حبشـي أسيـراً إلـى برغـش فقتلـه ولحـق بركيـارق بجرجـان ثـم بالدامغـان وقطع البرية إلى أصبهان بمراسلة أهلها فسبقه أخوه محمد إليها فعاد أسيرهم انتهى. عزل الأمير عميد الدولة بن جهير ووفاته قد ذكرنا أن وزير السلطان بركيارق وهو الأغر أبو المحاسن أسر في المصاف الأول بين بركيارق ومحمد وأن مؤيد الملك بن نظام الملك وزير محمد أطلقه واصطنعه وضمنه عمارة بغداد وحمله طلب الخطبة لمحمد ببغداد من المستظهر فخطب له وكان فيما حمله للمستظهر عزل وزيره عميد الدولة بن جهير. وبلغ ذلك عميد الدولة فأرسل من يعترض الأغر ويقتله فامتنـع بعقـر بابـل. ثـم صالحـه ذلـك الذي اعترضه وطلب لقاءه فلقيه ودس الأغر إلى أبي الغازي بن أرتق وكان وصل معه وسبقه إلى بغداد فرجع إليه ليلاً ويئس منه ذلك الذي اعترضه ووصـل الأغـر بغـداد وبلـغ إلـى المستظهـر رسالـة مؤيـد الدولـة فـي عـزل عميـد الدولـة فقبض عليه في رمضان من سنة ثلاث وتسعين وعلى إخوته وصودر على خمسة وعشرين ألف دينار وبقي محبوساً بدار الخلافة إلى أن هلك في محبسه. المصاف الثاني بين بركيارق وأخيه محمد ومقتل مؤيد الملك والخطبة لبركيارق قـد ذكرنـا أن بركيـارق لمـا انهزم أمام أخيه محمد في المصاف الأول سار إلى أصبهان ولم يدخلها فمضـى إلـى عسكـر مكـرم إلـى خوزستـان وجـاءه الأميـران زنكـي وألبكـي ابنـا برسـق. ثـم سـار إلى همـذان فكاتبـه أيـاز من كبار أمراء محمد بما كان استوحش منه فجاءه في خمسة آلاف فارس وأغراه باللقاء فارتحل لذلك. ثم استأمن إليه سرخاب بن كنخسرو صاحب آوة فاجتمع له خمسـون ألفـاً مـن المقاتلـة وبقـي أخـوه فـي خمسـة عشـر ألفـاً. ثم اقتتلوا أول جمادى الآخرة سنة أربع وتسعيـن وأصحـاب محمـد يغـدون على محمد شيئاً فشيئاً مستأمنين. ثم انهزم آخر النهار وأسر وزيره مؤيد الملك وأحضره عنـد بركيـارق غلـام لمجـد الملـك البارسلانـي ثـار منـه مولـاه فلمـا حضر وبخه بركيارق وقتله وبعث الوزير أبو المحاسن من يسلم إليه أمواله وصادر عليها قرابته في بغداد وفـي غيـر بغـداد وفـي بلـاد العجـم. ويقـال كـان فيمـا أخـذ لـه قطعـة مـن البلخـش زنـة إحـدى وأربعين مثقالاً. ثـم سـار بركيـارق إلـى الـري ولقيـه هنـاك كربوقـا صاحـب الموصل ونور الدولة دبيس بن صدقة بن مزيد واجتمعت إليه نحو من مائة ألف فارس حتى ضاقت بهم البلاد ففرق العساكر. وعاد دبيـس إلـى أبيـه وسار كربوقا إلى أذربيجان لقتال مودود بن إسماعيل بن ياقوتا كان خرج على السلطـان هنالـك. وسـار أيـاز إلـى همـذان ليقضـي الصـوم عنـد أهلـه ويعـود فبقـي بركيـارق فـي خـف من الجنود. وكان محمد أخوه لما انهزم لجهات همذان سار إلى شقيقه بخراسان فانتهى إلى جرجـان وبعـث يطلب منه المدد فأمده بالمال أولاً. ثم سار إليه بنفسه إلى جرجان وسار معه إلى الدامغان وخرب عسكر خراسان ما مروا به من البلاد وانتهوا إلى الري واجتمعت إليهم النظاميـة وبلغهـم افتـراق العساكـر عـن بركيـارق فأغذوا إليه السير فرحل إلى همذان فبلغه أن أياز راسـل محمداً فقصد خوزستان وانتهى إلى تستر واستدعى بني برسق فقعدوا عنه لما بلغهم مراسلة أياز للسلطان فسار بركيارق نحو العراق وكان أياز راسل محمداً في الكون معه فلم يقبله فسار من همذان ولحق بركيارق إلى حلوان وساروا جميعاً إلى بغداد. واستولـى محمـد علـى مخلـف أيـاز بهمـذان وحلـوان وكـان شيئاً مما لا يعبر عنه. وصادر جماعة من أصحاب أياز من أهل همذان ووصل بركيـارق إلـى بغـداد منتصـف ذي القعـدة سنـة أربـع وتسعيـن وبعث المستظهر لتلقيه أمين الدولة بن موصلايا في المراكب وكان بركيارق مريضاً فلزم بيتـه وبعـث المستظهـر فـي عيـد الأضحـى إلـى داره منبـراً خطب عليه باسمه وتخلف بركيارق عن شهود العيد لمرضه وضاقت عليه الأموال فطلب الإعانة من المستظهر وحمل إليه خمسين ألف دينـار بعـد المراجعـات ومـد يده إلى أموال الناس وصادرها فضجوا وارتكب خطيئة شنعاء في قاضي جبلة وهو أبو محمد عبد الله بن منصور. وكان من خبره أن أباه منصوراً كان قاضياً بجبلـة فـي ملكـة الروم فلما ملكها المسلمون وصارت في يد أبي الحسن علي بن عمار صاحب طرابلـس أقـره علـى القضـاء بهـا. وتوفـي فقـام ابنـه أبـو محمـد هذا مقامه ولبس شعار الجندية وكان شهماً فهم ابن عمار بالقبض عليه وشعر فانتقض وخطب للخلفاء العباسية. وكان ابن عمار يخطـب للعلويـة بمصر وطالت منازلة الفرنج بحصن جبلة إلى أن ضجر أبو محمد هذا وبعث إلى صاحب دمشق وهو يومئذ طغتكين الأتابك أن يسلم إليه البلد فبعث ابنه تاج الملوك موري وتسلـم منـه البلـد وجـاء بـه إلـى دمشـق وبـذل لهم فيه ابن عمار ثلاثين ألف دينار دون أمواله فلم يرضوا بإخفار ذمتهم وسار عنهم إلى بغداد ولقي بها بركيارق فأحضره الوزير أبو المحاسن وطلبـه فـي ثلاثيـن ألـف دينـار فأجـاب وأحالهم على منزله بالأنبار فبعث الوزير من أتاه بجميع ما فيه وكان لا يعبر فكانت من المنكرات التي أتاها بركيارق. ثم بعث الوزير إلى صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد صاحب حلب يطلب منه ألف ألف دينار متخلفة من مال الجباية وتهدده عليها فغضب وانتقض وخطب لمحمد وبعث إليه بركيارق الأمير أيـاز يستقدمـه فلـم يجب وبعث إلى الكوفة وطرد عنها نائب بركيارق واستضافها إليه. استيلاء محمد على بغداد قد ذكرنا استيلاء محمد على همذان في آخر ذي الحجة من سنة أربع وتسعين ومعه أخوه سنجـر. وذهـب بركيـارق إلـى بغـداد فاستولـى عليهـا وأسـاء السيـرة بهـا وبلـغ الخبـر إلـى محمـد فسار مـن همـذان فـي عشـرة آلـاف فـارس ولقيـه بحلـوان أبـو الغـازي بن أرتق شحنته ببغداد في عساكره وأتباعـه. وكـان بركيـارق فـي شـدة مـن المـرض وقـد أشـرف علـى الهلـاك فاضطـرب أصحابه وعبروا به إلى الجانب الغربي حتى إذا وصل محمد بغداد وترآى الجمعان من عدوتي دجلة ذهب بركيارق وأصحابه إلى واسط ودخل محمد بغداد وجاءه توقيع المستظهر بالانتقاض مما وقع به بركيارق وخطب له على منابر بغداد وجاءه صدقة بن منصور صاحب الحلة فأخرج الناس للقائه ونزل سنجر بدار كوهرابين واستوزر محمد بعد مؤيد الملك خطيب الملك أبا منصور محمد بن الحسين فقدم إليه في المحرم سنة خمس وتسعين انتهى. المصاف الثالث والرابع وما تخلل بينهما من الصلح ولم يتم ثم ارتحل السلطان وأخوه سنجر عن بغداد منتصف المحرم من سنة خمس وتسعين وقصد سنجـر خراسـان ومحمـد همـذان فاعتـرض بركيـارق خـاص الخليفـة المستظهر وأبلغه القبيح فاستدعـى المستظهـر محمـداً لقتـال بركيـارق فجـاء إليه وقال أنا أكفيكه. ورتب أبا المعالي شحنة ببغـداد وكـان بركيارق بواسط كما قلنا فلما أبل من مرضه عبر إلى الجانب الشرقي بعد جهد وصعوبة لفرار الناس من واسط لسوء سيرتهم. ثم سار إلى بلاد بني برسق حتى أطاعوا واستقاموا وساروا معه فاتبع أخاه محمداً إلى نهاوند وتصافوا يومين ومنعهما شدة البرد من القتال. ثم اجتمع أياز والوزير الأغر من عسكر بركيارق وبلد أجي وغيرهم من الأمراء من عسكـر محمـد. وتفاوضـوا فـي شكـوى مـا نـزل بهـم مـن هـذه الفتنـة ثـم اتفقوا على أن تكون السلطنة بالعـراق لبركيـارق ويكـون لمحمـد مـن البلـاد الحيـرة وأعمالهـا وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصـل علـى أن يمـده بركيـارق بالعسكـر متـى احتـاج إليـه على من يمتنع عليه منها. وتحالفا على ذلـك وافترقـا فـي ربيـع الأول سنة خمس وتسعين ثم سار بركيارق إلى ساوة ومحمد إلى قزوين وبـدا لـه فـي الصلـح واتهـم الأمـراء الذيـن سعوا فيه وأسر إلى رئيس قزوين أن يدعوهم إلى صنيع عنـده وغـدر بهـم محمـد فقتل بعضاً وسمل بعضاً وأظهر الفتنة. وكان الأمير نيال بن أنوش تكين قد فارق بركيارق وأقام مجاهداً للباطنية في الجبال والقلاع فلقي محمداً وسار معه إلى الري وبلغ الخبر إلى بركيـارق فأغـذ إليـه السيـر فـي ثمـان ليـال واصطفـوا فـي التاسـع وكـلا الفريقيـن فـي عشـرة آلـاف مقاتـل. وحمـل سرخاب بن كنجسر والديلمي صاحب آوة من أصحاب بركيارق على نيال بن أنوش تكين فهزمه وانهزم معه عسكر محمد وافترقوا فلحق قريق بطبرستان وآخر بقزوين ولحـق محمـد بأصبهـان فـي سبعيـن فارسـاً واتبعـه أيـاز وألبكـي بـن برسق فنجا إلى البلد وبها نوابه فلم ما تشعث من السور وكان من بناء علاء الديـن بـن كاكويـه سنـة تسـع وعشريـن لقتـال طغرلبك وحفر الخنادق وأبعد مهواها وأجرى فيها المياه ونصب المجانيق واستعد للحصار. وجاء بركيارق في جمادى ومعه خمسـة عشـر ألـف فـارس ومائـة ألـف مـن الرجـل والاتبـاع فحاصرها حتى جهدهم الحصار وعدمت الأقوات والعلوفة فخرج محمد عن البلد في عيد الأضحى من سنته في مائة وخمسين فارساً ومعه نيال ونزل في الأمراء وبعث بركيارق في اتباعه الأمير أياز. وكانت خيل محمد ضامرة من الجوع فالتفت إلى أياز يذكره العهود فرجع عنه بعد أن نهب منه خيلاً ومالاً وأخذ علمه وجنده إلى بركيارق. ثم شد بركيارق في حصار أصبهان وزحف بالسلاليم والذبابات وجمع الأيدي على الخندق فطمه وتعلق الناس بالسور فاستمات أهل البلد ودفعوهم. وعلم بركيارق امتناعها فرحل عنها ثامن عشر ذي الحجة. وجمـر عسكـراً مـع ابنـه ملكشـاه وترشـك الصوالـي علـى البلـد القديـم الـذي يسمـى شهرستـان وسـار إلـى همـذان بعـد أن كـان قتـل علـى أصبهـان وزيره الأغر أبو المحاسن عبد الجليل الدهستانـي اعترضـه فـي ركوبـه من خيمته إلى خدمة السلطان متظلم فطعنه وأشواه ورجع إلى خيمته فمات وذهب للتجار الذين كانوا يعاملونه أموال عظيمة لأن الجباية كانت ضاقت بالفتن فاحتـاج إلـى الاستدانـة ونفـر منـه التجار لذلك. ثم عامله بعضهم فذهب مالهم بموته وكان أخوه العميـد المهـذب أبـو محمـد قـد سـار إلى بغداد لينوب عنه حين عقد الأمراء الصلح بين بركيارق ومحمد فقبض عليه الشحنة ببغداد أبو الغازي بن أرتق وكان على طاعة محمد. الشحنة ببغداد والخطبة لبركيارق كـان أبو الغازي بن أرتق شحنة ببغداد وولاه عليها السلطان محمد عند استيلائه في المصاف الأول وكان طريق خراسان إليه فعاد بعض الأيام منها إلى بغداد وضرب فارس من أصحابه بعض الروحين بسهم في ملاحاة وقعت بينهم عند العبور فقتله فثارت بهم العامة وأمسكوا القاتل وجاؤوا به إلى باب النوبة في دار الخلافة ولقيهم ولد أبي الغازي فاستنقذه من أيديهم فرجموه وجاء إلى أبيه مستغيثاً وركب إلى محلة الملاحين فنهبها وعطف عليه العيارون فقتلوا مـن أصحابـه وركبـوا السفين للنجاة فهرب الملاحون وتركوهم فغرقوا. وجمع أبو الغازي التركماني لنهب الجانب الغربي فبعث إليه المستظهـر قاضـي القضـاة والكبـا الهراسـي مـدرس النظاميـة بالامتناع من ذلك فاقتصر أبو الغازي أثناء ذلك متمسكاً بطاعة السلطان محمد. فلما انهزم محمـد وانطلـق مـن حصـار أصبهـان واستولـى بركيـارق علـى الـري بعث في منتصف ربيع الأول من سنة ست وتسعين من همذان كمستكين القيصراني شحنة إلى بغداد. فلما سمع أبو الغازي بعث إلى أخيه سقمان بحصن كيفا يستدعيه للدفاع. وجاءه سقمان ومر بتكريت فنهبها ووصـل كمستكيـن ولقيـه شيعـة بركيـارق وأشـاروا عليـه بالمعاجلة ووصل إلى بغداد منتصف ربيع. وخرج أبو الغازي وأخوه سقمان إلى دجيل ونهبا بعـض قراهـا واتبعهمـا طائفـة من عسكر كمستكين. ثم رجعوا عنهما وخطب للسلطان بركيارق ببغـداد وبعـث كمستكيـن إلـى سيـف الدولـة صدقـة بالحلـة عنـه وعـن المستظهـر بطاعة بركيارق فلم يجـب وكشـف القنـاع وسـار إلـى جسر صرصر فقطعت الخطبة على منابر بغداد فلم يذكر أحد عليها من السلاطين واقتصر على الخليفة فقط. وبعث سيف الدولة صدقة إلى أبي الغازي وسقمان بأنه جاء لنصرتهما فعدوا إلى دجيل وعاثوا في البلاد واجتمع لذلك حشد العرب والأكراد مع سيف الدولة وبعث إليه المستظهر في الإصلاح وخيموا جميعاً بالرملة وقاتلهـم العامـة وبعـث الخليفـة قاضـي القضـاة أبـا الحسـن الدامغاني وتاج رؤساء الرياسة ابن الموصلايا إلـى سيـف الدولـة بكـف الأيـدي عـن الفسـاد فاشترطـوا خروج كمستكين القيصراني شحنة بركيارق وإعادة الخطبة للسلطان محمد فتم الأمر على ذلك وعاد سيف الدولة إلى الحلة وعاد القيصراني إلى واسط وخطب بها لبركيارق فسـار إليـه صدقـة وأبو الغازي وفارقها القيصراني فاتبعه سيف الدولة. ثم استأمن ورجع إليه فأكرمه وخطب للسلطان محمد بواسط وبعده سيف الدولة وأبي الغازي واستناب كل واحد ولده ورجع أبو الغازي إلى بغداد وسيف الدولة إلى الحلة وبعث ولده منصور إلى المستظهر يخطب رضاه بما كان منه في هذه لحادثة فأجيب إلى ذلك. كانت الخطبة بالري للسلطان بركيارق. فلما خرج السلطان محمد من الحصار بأصبهان بعث نيال بن أنوش تكين الحسامي إلى الري ليقيم الخطبة له بها فسار ومعه أخوه علي وعسف الرعايا. ثم بعث السلطان بركيارق إليه برسق بن برسق في العساكر فقاتله على الري وانهزم نيال وأخوه منتصف ربيع من سنة ست وتسعين وذهب علي إلى قزوين وسلك نيال على الجبـال إلـى بغـداد وتقطـع أصحابـه فـي الأوعـار وقتلـوا ووصـل إلـى بغـداد فـي سبعمائـة رجل وأكرمه المستظهـر واجتمـع هـو وأبـو الغازي وسقمان ابنا أرتق بمشهد أبي حنيفة فاستحلفوه على طاعة السلطان محمد وساروا إلى سيف الدولة صدقة واستحلفوه على ذلك. واستقـر نيال ببغداد في طاعة السلطان محمد وتزوج أخت أبي الغازي كانت تحت تاج الدولة تتش. وعسف بالناس وصادر العمال واستطال أصحابه في العامة بالضرب والقتل. وبعث إليه المستظهر مع القاضي الدامغاني بالنهي عن ذلك وتقبيح فعله. ثم مع ابلغاري فأجـاب وحلـف علـى كـف أصحابـه ومنعهـم. واستمـر علـى قبـح السيـرة فبعـث المستظهـر إلى سيف الدولة صدقة يستدعيه لكف عدوانه فجاء إلى بغداد في شوال من سنة ست وتسعين وخيم بالمنجمي ودعا نيالاً للرحلة عن العراق على أن يدفع إليه. وعاد إلى الحلة وسار نيال مستهل ذي القعدة إلـى أوانـا ففعـل مـن النهـب والعسـف أقبـح ممـا فعـل ببغـداد فبعـث المستظهـر إلـى صدقـة فـي ذلـك فأرسـل ألـف فـارس وسـاروا إليـه مـع جماعـة من أصحاب المستظهر وأبي الغازي الشحنة وذهب نيال أمامهم إلـى أذربيجـان قاصـداً إلـى السلطـان محمـد ورجـع أبـو الغـازي والعساكر عنه. المصاف الخامس بين السلطانين كانت كنجة وبلاد أرزن للسلطان محمـد وعسكـره مقيـم بهـا مـع الأميـر غـز علـي فلمـا طـال حصاره بأصبهان جاؤوا لنصرته ومعهم منصور بن نظام الملك ومحمد ابن أخيه مؤيد الملك ووصلـوا إلـى الـري آخـر ذي الحجـة سنـة خمس وتسعين وفارقه عسكر بركيارق. ثم خرج محمد مـن أصبهـان فسـاروا إليـه ولقـوه بهمـذان ومعـه نيـال وعلـي ابنا أنوش تكين فاجتمعوا في ستة آلاف فارس. وسار نيال وأخوه على الري وأزعجتهم عنها عساكر بركيارق كما مر. ثم جاءهم الخبر فـي همـذان بزحـف بركيـارق إليهـم فسـار محمـد إلـى بلـاد شـروان. ولمـا انتهـى إلـى أردبيـل بعـث إليه مودود بن إسماعيل بن ياقوتي وكان أميراً على بيلقان من أذربيجان وكان أبوه إسماعيل خال بركيارق وانتقض عليه أول أمره فقتله فكان مودود يطالبه بثأر أبيه وكانت أخته تحت محمد فبعث إليه وجاءه إلى بيلقان. وتوفي مودود إثر قدومه منتصف ربيع من سنة ست وتسعين فاجتمع عسكره على الطاعة لمحمد وفيهم سقمان القطبي صاحب خلاط وأرمينية ومحمد بن غاغيسا كان أبوه صاحب أنطاكية. وكان ألب أرسلان ابن السبع الأحمر. ولما بلغ بركيارق اجتماعهم لحربه أغذ السير إليهم فوصل وقاتلهم على باب خوي من أذربيجان من المغـرب إلـى العشـاء. ثـم حمل أياز من أصحاب بركيارق على عسكر محمد فانهزموا وسار إلى خلـاط ومعه سقمان القطبي ولقيه الأمير علي صاحب أرزن الروم. ثم سار إلى وبها منوجهر أخـو فضلـون الـروادي. ثم سار إلى تبريز ولحق محمد بن يزيد الملك بديار بكر وسار منها إلى بغـداد. وكان من خبره أنه كان مقيماً ببغداد مجاوراً للمدرسة النظامية فشكا الجيران منه إلى أبيه فكتب إلى كوهرابيـن بالقبـض عليـه فاستجـار بـدار الخلافـة. ثـم سـار سنـة اثنتيـن وتسعيـن إلـى محمـد الملـك الباسلاني وأبوه حينئذ بكنجة عند السلطان محمد قبل أن يدعو لنفسه. ثم سار بعـد أن قتـل محمـد الملـك إلـى والـده مؤيـد الملـك وهـو وزيـر السلطان محمد. ثم قتل أبوه واتصل هو بالسلطان وحضر هذه الحروب كما ذكرنا. وأما السلطان بركيارق بعد هزيمة محمد فإنه نزل جبـلاً بيـن مراغـة وتبريـز وأقـام بـه حـولاً وكـان خليفة المستظهر سديد الملك أبو المعالي كما ذكرناه. ثـم قبـض عليـه منتصـف رجـب سنـة سـت وتسعيـن وحبـس بـدار الخليفة مع أهله كانوا قد وردوا عليه من أصبهان. وسبب عزله جهله بقواعد ديوان الخلافة لأنه كـان يتصـرف فـي أعمـال السلاطين وليست فيها هذه القوانين. ولما قبض عاد أمين الدولة أبو سعد بن الموصلايا إلى النظر في الديوان وبعث المستظهر عن زعيم الرؤساء أبي القاسم بن جهير من الحلة وكان ذهب إليها في السنة قبلها مستجيراً بسيف الدولة صدقة لأن خاله أمين الدولة أبا سعد بن الموصلايا كان الوزير الأعز وزير بركيـارق يشيـع عنـه أنـه الـذي يحمـل المستظهـر علـى موالـاة السلطان محمد والخطبة له دون بركيـارق فاعتـزل أميـن الدولـة الديـوان وسـار ابـن أختـه أبـو القاسـم بـن جهيـر مستجيراً بصاحب الحلة فاستقدمه الخليفة الآن وخرج أرباب الدولة لاستقباله وخلع عليه للوزارة ولقيه قوام الدولة ثم عزله على رأس المائـة الخامسـة. واستجـار سيـف الدولة صدقة بن منصور ببغداد فأجاره وبعث عنه إلى الحلة وذلك لثلاث سنين ونصف من وزارتـه ونـاب فـي مكانـه القاضـي أبـو الحسـن بـن الدامغانـي أياماً. ثم استوزر مكانه أبا المعالي بن محمـد بـن المطلـب فـي المحـرم سنـة إحـدى وخمسمائة. ثم عزله سنة اثنتين بإشارة السلطان محمد وأعاده بإذنه على شرطية العدل وحسن السيرة وأن لا يستعمل أحداً من أهل الذمة. ثم عزل في رجب من سنة اثنتين سين واستوزر أبا القاسم بن جهير سنة تسع وخمسين واستوزر بعده الربيع أبا منصور بن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير السلطان. الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد ولما تطاولت الفتنة بين السلطانين وكثر النهب والهرج وخربت القرى واستطـال الأمـر عليهـم وكـان السلطـان بركيـارق بالـري والخطبـة لـه بها وبالجبل وطبرستان وخوزستان وفارس وديار بكر والجزيـرة والحرميـن. وكـان السلطـان محمـد بأذربيجـان والخطبـة لـه بهـا وببلاد أران وأرمينية وأصبهان والعراق جميعه إلا تكريت. وأما البطائح فبعضها لهذا وبعضها لهذا والخطبة بالبصرة لهما جميعاً. وأما خراسان من جرجان إلى ما وراء النهـر يخطـب فيهـا لسنجـر بعـد أخيـه السلطـان محمد. فلما استبصر بركيارق في ذلك ورأى تحكم الأمراء عليه وقلة المال جنح إلى الصلح وبعث القاضي أبا المظفر الجرجاني الحنفي وأبا الفرج أحمد بن عبد الغفار الهمذاني المعـروف بصاحـب قراتكيـن إلـى أخيـه محمـد فـي الصلـح فوصـلا إليـه بمراغة وذكراه ووعظاه فأجاب إلى الصلح على أن السلطان لبركيارق ولا يمنع محمداً من اتخاذ الآلة ولا يذكر أحد منهما مع صاحبـه فـي الخطبـة فـي البلـاد التـي صـارت إليـه وتكـون المكاتبـة مـن وزيريهمـا فـي الشـؤون لا يكاتب أحدهمـا الآخـر ولا يعارض أحد من العسكر في الذهاب إلى أيهما شاء ويكون للسلطان محمد من نهر اسبندرو إلى الأبواب وديار بكر والجزيرة والموصل والشام وأن يدخل سيف الدولـة صدقة بأعماله في خلفه وبلاده والسلطنة كلها وبقية الأعمال والبلاد كلها للسلطان بركيارق. وبعـث محمـد إلـى أصحابه بأصبهان بالافراج عنها لأصحاب أخيه وجاؤوا بحريم محمد إليه بعد أن دعاهم السلطان بركيارق إلى خدمته فامتنعوا فأكرمهم وحمل حريم أخيه وزودهم بالأموال وبعـث العساكـر فـي خدمتهـم. ثـم بعـث السلطـان بركيـارق إلـى المستظهـر بمـا استقر عليه الحال في الصلح بينهم وحضر أبو الغازي بالديوان وهو شحنة محمد وشيعته إلا أنه وقف مع الصلح فسـأل الخطبـة لبركيـارق فأمـر بهـا المستظهـر وخطـب لـه علـى منابـر بغداد وواسط في جمادى سنة سبع وتسعين ونكر الأمير صدقة صاحب الحلة الخطبة لبركيارق وكان شيعة لمحمد. وكتب إلى الخليفة بالنكير على أبي الغازي وأنه سائر لإخراجه عن بغداد فجمع أبو الغازي التركمان وفارق بغداد إلى عقرقوبا وجاء سيف الدولة صدقة ونزل مقابل التاج وقبل الأرض وخيم بالجانب الغربي. وأرسل إليه أبو الغازي يعتذر عن طاعة بركيارق بالصلح الواقع وأن إقطاعه بحلـوان فـي جملة بلاده التي وقع الصلح عليها وبغداد التي هو شحنه فيها قد صارت له فقبل ورضـى وعـاد إلـى الحلة. وبعث المستظهر في ذي القعدة من سنة سبع وتسعين الخلع للسلطان بركيارق والأمير أياز والخطير وزير بركيارق وبعث معهما العهد له بالسلطنة واستحلفه الرسل على طاعة المستظهر ورجعوا. وفاة السلطان بركيارق وملك ابنه ملك شاه كـان السلطـان بركيـارق بعد الصلح وانعقاده أقام بأصبهان أشهراً وطرقه المرض فسار إلى بغداد فلمـا بلغ بلد يزدجرد اشتد مرضه وأقام بها أربعين يوماً حتى أشفى على الموت فأحضر ولده ملك شاه وجماعة الأمراء وولاه عهده في السلطنة وهو ابن خمس سنين وجعل الأمير أياز أتابكه وأوصاهم بالطاعة لهما واستحلفهم على ذلك وأمرهم بالمسيـر إلـى بغـداد. وتخلـف عنهم ليعود إلى أصبهان فتوفي في شهر ربيـع الآخـر سنـة ثمـان وتسعيـن. وبلـغ الخبـر إلـى ابنـه ملـك شـاه والأمير أياز على اثني عشر فرسخاً من بلد يزدجرد فرجعوا وحضروا لتجهيزه وبعثوا به إلى أصبهان للدفن بها في تربة أعدها وأحضر أياز السرادقات والخيام والخفر والشمسة وجميع آلات السلطنة فجعلها لملك شاه. وكان أبو الغازي شحنة ببغداد وقد حضر عند السلطان بركيـارق بأصبهـان فـي المحـرم وحثـه علـى المسيـر إلى بغداد فلما مات بركيارق سار مع ابنه ملك شـاه والأميـر أياز ووصلوا بغداد منتصف ربيع الآخر في خمسة آلاف فارس وركب الوزير أبو القاسـم علـي بـن جهيـر لتلقيهـم فلقيهم بدبالي وأحضر أبو الغازي والأمير طمايدل بالديوان وطلبوا الخطبة لملك شاه بن بركيارق فأجاب المستظهر إلى ذلك وخطب له ولقب بألقاب جده ملك شاه ونثرت الدنانير عند الخطبة. كان محمد بعد صلحه مع أخيه بركيارق قد اعتزم على المسير إلى الموصل ليتناولها من يد جكرمس لما كانت من البلاد التي عقد عليها وكان بتبريز ينتظر وصول أصحابه من أذربيجان فلمـا وصلـوا استـوزر سعـد الملـك أبـا المحاسـن لحسن أثره في حفظ أصبهان. ثم رحل في صفر سنة ثمان وتسعين يريد الموصل وسمع جكرمس فاستعد للحصار وأمر أهل السواد بدخول البلد. وجاء محمد فحاصره وبعث إليه كتب أخيه بأن الموصل والجزيرة من قسمته وأراه أيمانه بذلك ووعده بأن يقره على ولايتها فقال جكرمس قد جاءتني كتب بركيـارق بعـد الصلـح بخلاف هذا فاشتد محمد في حصاره وقتل بين الفريقين خلق ونقب السور ليلة فأصبحوا وأعادوه ووصل الخبر إلى جكرمس بوفاة بركيارق عاشـر جمـادى فاستشـار أصحابـه ورأى المصلحة في طاعة السلطان محمد فأرسل إليه بالطاعة وأن يدخـل إليـه وزيـره سعـد الملـك فدخل وأشار عليه بالحضور عند السلطان فحضر وأقبل السلطان عليه ورده لجيشه لما توقع من ارتياب أهل البلد بخروجه وأكثر من الهدايا والتحف للسلطان ولوزيره. ولما بلغه وفاة أخيه بركيارق سار إلى بغداد ومعه سقمان القطبي نسبة إلى قطب الدولة إسماعيـل بـن ياقوتـا بـن داود وداود هـو حقربيـك وأبـو ألب أرسلان وسار معه جكرمس وصاحب الموصل وغيرهما من الأمراء. وكان سيف الدولة صاحب الحلة قد جمع عسكراً خمسة عشر ألفاً من الفرسان وعشرة آلاف رجل وبعث ولديه بدران ودبيس إلى السلطان محمـد يستحثـه علـى بغـداد. ولمـا سمـع الأميـر أيـاز بقدومـه خـرج هـو وعسكـره وخيمـوا خارج بغداد واستشار أصحابه فصمموا على الحـرب وأشـار وزيـره أبـو المحاسـن بطاعـة السلطـان محمـد وخوفـه عاقبـة خلافـه وسفه آراءهم في حربه وأطمعه في زيادة الاقطاع. وتردد أياز في أمره وجمع السفن عنده وضبط المثار ووصل السلطان محمد آخر جمادى من سنة ثمان وتسعين ونزل بالجانب الغربي وخطب له هنالك ولملك شاه بالجانب الشرقي. واقتصر خطيب جامع المنصور على الدعاء للمستظهر ولسلطان العالم فقط. وجمع أياز أصحابه لليمين فأبوا مـن المعـاودة وقالوا لا فائدة فيها والوفاء إنما يكون بواحدة فارتاب أياز بهم وبعث وزيره المصفى أبا المحاسن إلى السلطان محمد في الصلح وتسليم الأمر فلقي أولاً وزيره سعد الملك أبا المحاسن سعـد بـن محمـد وأخبـر فأحضره عند السلطان محمد وأدى رسالة أياز والعذر عما كان منه أيام بركيارق فقبله السلطان وأعتبه وأجابه إلى اليمين. وحضر من الغد القاضي والنقيبان واستحلف الكيا الهراسي مدرس النظامية بمحضر القاضي وزير أياز بمحضرهم لملك شاه ولأياز وللأمراء الذين معه فقال: أما ملك شاه فهو ابني وأما أياز والأمراء فأحلف لهم إلا نيال بن أنوش وسار واستحلفه الكيا الهراسي مدرس النظامية بمحضر القاضي والنقيبين. ثـم حضـر أيـاز مـن الغـد ووصـل سيـف الدولـة صدقـة وركـب السلطان للقائهما وأحسن إليهما وعمل أياز دعوة في داره وهي دار كوهرابين وحضـر عنـده السلطان وأتحفه بأشياء كثيرة منها حبل البلخش الذي كان أخذه من تركة مؤيد الملك بن نظام الملـك. وحضـر مـع السلطـان سيـف الدولـة صدقـة بـن مزيـد. وكـان أيـاز قد تقدم إلى غلمانه بلبس السلاح ليعرضهم على السلطان وحضر عندهم بعض الصفاعين فأخذوا معـه فـي السخريـة وألبسوه درعاً تحت قميصه وجعلوا يتناولونه بأيديهم فهـرب منهـم إلـى خـواص السلطـان ورآه السلطان متسلحاً فأمر بعض غلمانه فالتمسوه وقد وجدوا السلاح فارتـاب ونهـض مـن ديـار أياز. ثم استدعاه بعد أيام ومعه جكرمس وسائر الأمراء فلما حضر وقف عليهم بعض قواده وقال لهـم: إن قليـج أرسلـان بـن سليمـان بن قطلمش قصد ديار بكر ليملكها فأشيروا بمن نسيره لقتاله فأشاروا جميعاً بالأمير أيـاز وطلـب هـو مسيـر سيـف الدولـة صدقـة معـه فاستدعـى أيـاز وصدقة ليفوضهم في ذلك فنهضوا إليه وقد أعد جماعة من خواصه لقتل أياز فلما دخلوا ضرب أياز فقطع رأسه ولف شلوه في مشلح وألقي على الطريق وركب عسكره فنهبوا داره وأرسـل السلطـان لحمايتهـا فافترقـوا واختفـى وزيره. ثم حمل إلى دار الوزير سعد الملك وقتل في رمضان من سنته. وكان من بيت رياسة بهمذان وكان أياز من مماليك السلطان مللك شاه وصـار بعـد موتـه فـي جملـة أميـر آخـر فاتخـذه ولداً وكان شجاعاً حسن الرأي في الحرب واستبد السلطـان محمـد بالسلطنة وأحسن السيرة ورفع الضرائب وكتب بها الألواح ونصبت في الأسواق وعظم فساد التركمان بطريق خراسان وهي من أعمال العراق فبعث أبـو الغـازي بـن أرتـق شحنـة بغـداد بـدل ابـن أخيـه بهـرام بـن أرتـق علـى ذلـك البلـد فحمـاه وكـف الفسـاد عنه. وسار إلى حصن من أعمال سرخاب بن بدر فحصره وملكه. ثم ولى السلطان محمد سنقر البرسقي شحنة بالعراق وكان معه في حروبه وأقطع الأمير قاياز الكوفة وأمر صدقة صاحب الحلة أن يحمـي أصحابـه مـن خفاجة. ولما كان شهر رمضان من سنة ثمانية وتسعين عاد السلطان محمد إلى أصبهان وأحسن من فيهم السيرة وكف عنهم الأيدي العادية. الشحنة ببغداد كـان السلطـان قـد قبـض سنـة اثنتيـن وخمسيـن على أبي القاسم الحسين بن عبد الواحد صاحب المخزن وعلى ابن الفرج بن رئيس الرؤساء واعتقلهما وصادرهما على مال يحملانه وأرسل مجاهد الدين لقبض المال وأمره بعمارة دار الملك فاضطلع بعمارتها وأحسن السيرة في الناس وفاة السلطان محمد وملك ابنه محمود ثم توفي السلطان محمد بن ملك. شاه آخر ذي الحجة من سنة إحدى وخمسمائة وقد كان عهد لولده محمود وهو يومئذ غلام محتلم وأمره بالجلوس على التخت بالتاج والسوارين وذلك لاثنتـي عشـرة سنـة ونصـف مـن استبـداده بالملـك واجتمـاع النـاس عليـه بعد أخيه. وولي بعده ابنه محمود وبايعه أمراء السلجوقية ودبر دولته الوزير الرسب أبو منصور ابن الوزير أبي شجاع محمد بـن الحسيـن وزيـر أبيـه وبعـث إلـى المستظهـر فـي الخطبـة فخطـب لـه علـى منابـر بغـداد منتصـف المحـرم سنـة اثنتـي عشرة وكان آقسنقر البرسقي مقيماً بالرحبة استخلف بها ابنه مسعوداً وسار إلى السلطان محمد يطلب الزيادة في الإقطاع والولاية. ولقيه خبر وفاته قريباً من بغداد فمنعه بهروز الشحنة من دخولها وسار إلى أصبهان فلقيه بحلوان توقيع السلطان محمود بأن يكون شحنـة بغـداد لسعـي الأمـراء لـه فـي ذلك تعصباً على مجاهد الدين بهروز وغيره منه لمكانه عند السلطان محمد. ولمـا رجـع آقسنقـر إلـى بغداد هرب مجاهد الدين بهروز إلى تكريت وكانت من أعماله. ثم عزل السلطـان محمـود آقسنقـر وولـى شحنـة بغـداد الأميـر منكبـرس حاكمـاً فـي دولتـه بأصبهان فبعث نائباً عنـه ببغـداد والعـراق الأميـر حسيـن بـن أروبك أحد أمراء الأتراك. ورغب البرسقي من المستظهر بالعدة فلم يتوقف فسار آقسنقر إليه وقاتله وانهزم الأمير حسين وقتل أخوه وعاد إلى عسكر السلطان وذلك في ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة. وفاة المستظهر وخلافة المسترشد ثـم توفـي المستظهـر باللـه أبـو العبـاس أحمـد بـن المقتـدي باللـه أبو القاسم عبد الله بن القائم بالله في منتصـف ربيـع الآخـر سنـة اثنتي عشرة وخمسمائة لأربع وعشرين سنة وثلاثة أشهر من خلافته وبويـع بعـده ابنـه المسترشـد باللـه الفضل وكان ولي عهده منذ ثلاث وعشرين سنة وبايعه أخوه أبو عبد الله محمد وهو المقتدي وأبو طالب العباس وعمومته بنو المقتدي وغيرهـم مـن الأمـراء والقضاة والأئمة والأعيان. وتولى أخذ البيعة القاضي أبـو الحسـن الدامغانـي وكـان نائبـاً عـن الوزارة فأقره المسترشد عليها ولم يأخذ البيعة قاض غير هذا للمسترشد وأحمد بن أبي داود للواثـق والقاضـي أبـو علـي إسماعيـل بن إسحاق للمعتضد. ثم عزل المسترشد قاضي القضاة عن نيابة الوزارة واستوزر أبا شجاع محمد بن الرسب أبي منصور خاطبه أبوه وزير السلطان محمـود وابنـه محمـد فـي شأنـه فاستـوزره. ثـم عزله سنة عشر واستوزر مكانه جلال الدين عميد ولمـا شغـل النـاس ببيعـة المسترشـد ركـب أخـوه الأمير أبو الحسن في السفن مع ثلاثة نفر وانحدروا إلـى المدائـن ومنهـا إلـى الحلـة فأكرمـه دبيـس وأهم ذلك المسترشد وبعث إلى دبيس في إعادته مع النقيب علي بن طراد الرثيني فاعتذر بالذمام وأنه لا يكرهه فخطب النقيب أبا الحسن أخا الخليفة في الرجوع فاعتذر بالخوف وطلب الأمان. ثم حدث مع البرسقي ودبيس ما نذكره فتأخـر ذلـك إلـى صفـر مـن سنتـه وهـي سنـة ثلـاث عشـرة فسـار أبـو الحسـن ابـن المستظهـر إلـى واسـط وملكهـا فبـادر المسترشـد إلى ولاية العهد لابنه جعفر المنصور ابن اثنتي عشرة سنة فخطب له وكتب إلى البلاد بذلك وكتب إلى دبيس بمعاجلة أخيه أبي الحسن فإنه فارق ذمامه فبعث دبيـس العساكـر إلـى واسـط فهـرب منهـا وصادفـوه عنـد الصبح فنهبوا أثقاله وهرب الأكراد والأتراك عنه وقبض عليه بعض الفرق وجاؤوا به إلى دبيس فأكرمه المسترشد وأمنه وأنزله أحسن نزل. انتقاض الملك مسعود على أخيه السلطان محمود ثم مصالحته واستقرار جكرمس شحنة ببغداد كان السلطان محمد قد أنزل ابنه مسعـوداً بالحلـة وجعـل منـه حيـوس بـك أتابـك فلمـا ملـك السلطان محمود بعد وفاة أبيه ثم ولي المسترشد الخلافة بعد أبيه وكان دبيس صاحب الحلة ممرضاً في طاعته وكان آقسنقر البرسقي شحنة بالعراق كما ذكرناه أراد قصد الحلة وأخلى دبيـس عنهـا وجمـع لذلـك جموعـاً مـن العـرب والأكـراد وبـرز مـن بغـداد في جمادى سنة اثنتي عشرة وبلغ الخبر إلى الملك مسعود بالموصل وأن العراق خال من أحامية فأشار عليه أصحابه بقصد العـراق للسلطنـة فـلا مانـع دونهـا فسـار فـي جيـوش كثيـرة ومعه وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس وسيأتي خبره وقسيم الدولة زنكي بن آقسنقر ابن الملك العادل وصاحب سنجار وأبو الهيجاء صاحب أربل وكربادي بن خراسان التركماني صاحب البواريخ. ولمـا قربوا من العراق خافهم آقسنقر البرسقي بمكان حيوس بك من الملك مسعود وأما هو فقد كان أبوه محمد جعله أتابك لابنه مسعود فسار البرسقي لقتالهم وبعثوا إليه الأمير كربادي في الصلح وأنهم إنما جاؤوا بحدة له على دبيس فقبل وتعاهدوا ورجعوا إلى بغداد كما مر خبره وسار البرسقي لقتاله فاجتمع مع دبيس بن صدقة واتفقا على المعاضدة وسار الملك مسعود ومن معه إلى المدائن للقاء دبيس ومنكبـرس. ثـم بلغهـم كثـرة جموعهمـا فعـاد الملـك مسعـود والبرسقي وحيوس بك وعبروا نهر صرصر وحفظ المخاضـات وأفحـش الطائفتـان فـي نهـب السواد واستباحته بنهر الملك ونهر صرصر ونهر عيسى ودجيل. وبعث المسترشد إلى الملك مسعود والبرسقي بالنكير عليهم فأنكر البرسقي وقوع شيء من ذلك واعتزم على العود إلى بغـداد وبلغـه أن دبيـس ومحـرس قـد جهـز العساكر إليها مع منصور أخي دبيس وحسن بن أوربك ربيـب منكبرس فأغذ السير وخلف ابنه عز الدين مسعوداً على العسكر بصرصر. واستصحـب عمـاد الدين زنكي بن آقسنقر وجاؤوا بغداد ليلاً فمنعوا عساكر منكبرس ودبيس من العبور. ثم انعقد الصلح بين منكبرس والملك مسعود وكان سببه أن حيوس بك كاتب السلطان محمود وهـو بالموصـل فـي طلـب الزيـادة لـه وللملـك مسعـود فجـاء كتـاب الرسـول بأنـه أقطعهم أذربيجان. ثم بلغـه قصدهـم بغـداد فاتهمهـم بالانتقـاض وجهـز العساكـر إلـى الموصـل وسقط الكتاب بيد منكبـرس وكـان علـى أم الملـك مسعود فبعث به إلى حيوس بك وداخله في الصلح والرجوع عما هـم فيـه فاصطلحـوا واتفقوا. وبلغ الخبر إلى البرسقي فجاء إلى الملك مسعود وأخذ ماله وتركه وعاد إلى بغداد فخيم بجانب منها. وجاء الملك مسعود وحيوس بك فخيما في جانب آخر وأصعد دبيس ومنكبرس فخيما كذلك وتفـرق عـن البرسقـي أصحابـه وجموعـه وسـار عـن العـراق إلـى الملـك مسعـود فأقـام معـه واستقـر منكبـرس شحنـة ببغـداد وعـاد دبيـس إلى الحلة وأساء منكبرس السرة في بغداد بالظلم والعسف وانطلاق أيدي أصحابه بالفساد حتى ضجر الناس وبعث عنه السلطان محمود فسار إليه وكفى الناس شره. كان الملك طغرل قد أقطعه أبـوه السلطـان محمـد سنـة أربـع وخمسيـن وخمسمائـة سـاوة وآوة وزنجان وجعل أتابكه الأمير شركير وكان قد افتتح كثيراً من قلاع الإسماعيلية فاتسع ملك طغرل بها ولما مات السلطان محمد بعث السلطان محمود الأمير كتبغري أتابك طغرل وأمره أن يحمله إليه وحسن له المخالفة فانتقض سنة ثلاث عشرة فبعث إليه السلطان بثلاثين ألف دينار وتحف وودعه بإقطاع كثيرة وطلبه في الوصول فمنعه كتبغري وأجاب بأننا في الطاعة ومعنا العساكر وإلى أي جهة أراد السلطان قصدنا. فاعتزم السلطان على السيـر إليهـم وسـار مـن همـذان في جمادى سنة ثلاث عشرة في عشرة آلاف غازيأ. وجاء النذير إلى كتبغري بمسيره فأجفـل هـو وطغـرل إلـى قلعـة سرجهـان وجـاء السلطان إلى العسكر بزنجان فنهبه وأخذ من خزانة طغرل ثلثمائة ألف دينار وأقام بزنجان وتوجه منها إلى الري وكتبغري من سرجهان بكنجـة وقصده أصحابه وقويت شوكته وتأكدت الوحشة بينه وبين أخيه السلطان محمود. |
الفتنة بين السلطان محمود وعمه سنجر صاحب خراسان
والخطبة ببغداد لسنجر كـان الملك سنجر أميراً على خراسان وما وراء النهر منذ أيام شقيقه السلطان محمد الأولي مع بركيارق. ولما توفي السلطان محمد جزع له جزعاً شديداً حتى أغلق البلـد للعـزاء وتقـدم للخطبـة بذكـر آثـاره ومحاسـن سيـره مـن قتـال الباطنيـة وإطلـاق المكوس وغير ذلك. وبلغه ملك ابنه محمود مكانه وتغلب الأمراء عليه فنكر ذلك واعتزم على قصد بلد الجبل والعراق وأتى له محمود ابن أخيه وكان يلقب بناصر الدين فتلقب بمعز الدين لقب أبيه ملك شاه. وبعث إليه السلطـان محمـود بالهدايـا والتحـف مـع شرف الدولة أنو شروان بن خالد وفخر الدولة طغايرك بن أكفربن وبذل عن مازندان مائتي ألف دينار كل سنة فتجهز لذلك ونكر على محمود تغلب وزيره أبي منصور وأمير حاجب علي بن عمر عليه وسار وعلى مقدمته الأمير أنز وجهز السلطـان محمـود علـي بـن عمـر حاجبـه وحاجـب أبيه في عشرة آلاف فارس وأقام هو بالري فلما قـارب الحاجـب مقدمـة سنجـر مـع الأميـر أنـز بجرجان راسله باللين والخشونة. وإن السلطان محمداً وصانا بتعظيم أخيه سنجر واستحلفنا على ذلك إلا أنا لا نقضي على زوال ملكنا. ثم تهدده بكثرة العساكر وقوتها فرجع أنز عن جرجان واتبعه بعض العساكر فنالوا منه. وعاد علـي بـن عمـر إلـى السلطـان محمـود فشكـره وأشـار عليـه أصحابـه بالمقـام بالـري فلم يقبل. ثم ضجر وسـار إلـى حرقـان وتوافـت إليـه الأمـداد مـن العـراق منكبـرس شحنـة بغداد في عشرة آلاف فارس ومنصور أخو دبيس وأمراء البلخية وغيرهم. وسار إلى همذان فأقام بها وتوفي بها وزيره الربيـب واستـوزر مكانـه أبـا طالـب السميـري. ثـم جاء السلطان سنجر إلى الري في عشرين ألفاً وثمانية عشر فيلاً ومعه ابن الأمير أبي الفضل صاحب سجستان وخوارزم شاه محمد والأمير أنز والأمير قماج واتصل به علاء الدولة كرساسف بن قرامرد بن كاكوبه صاحب يزد وكان صهـر محمـد وسنجـر علـى أختهما. واختص بمحمد ودعاه محمود فتأخر عنه فأقطع بلده لقراجا الساقي الذي ولي بعد ذلك فارس. وسار علاء الدولة إلى سنجر وعرفه حال السلطان محمود واختلاف أصحابه وفساد بلاده فزحـف إليـه السلطـان محمـود مـن همـذان فـي ثلاثيـن ألفـاً ومعـه علـي بـن عمـر أميـر حاجـب ومنكبرس وأتابكـه غـز غلي وبنو برسق وسنجق البخاري وقراجا الساقي ومعه تسعمائة حمل من السلاح والتقيـا علـى سـاوة فـي جمـادى سنـة ثلاث عشرة فانهزمت عساكر السلطان سنجر أولاً وثبت هو بيـن الفيلـة والسلطـان محمـود واجتمـع أصحابـه إليـه. وبلـغ الخبـر إلـى بغـداد فأرسـل دبيس بن صدقة إلـى المسترشد في الخطبة للسلطان سنجر فخطب له آخر جمادى وقطعت خطبة محمود بعد الهزيمـة إلـى أصبهـان ومعـه وزيـره أبـو طالـب السميـري والأميـر علـي بن عمر وقراجا واجتمعت عليه العساكر وقوي أمره. وسار السلطان سنجر من همذان ورأى قلة عساكره فراسل ابـن أخيـه فـي الصلـح وكانـت والدتـه وهـي جدة محمود تحرضه على ذلك فأجاب إليه. ثم وصل إليه آقسنقر البوسقي الذي كان شحنة ببغداد وكان عند الملك مسعود من يوم انصرافه عنها وجاء رسولـه مـن عنـد السلطـان محمـود بـأن الصلـح إنمـا يوافـق عليـه الأمراء بعد عود السلطان سنجر إلى خراسان فأنف مـن ذلـك وسار من همذان إلى الكرج وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح وأن يكون ولي عهده فأجاب إلى ذلك وتحالفا عليه. وجاء السلطان محمود إلى عمه سنجر ونزل في بيت والدته وهي جدة محمود وحمل إليه هدية حفلة. وكتب السلطان سنجر إلى أعماله بخراسان وغزنة وما وراء النهر وغيرها من الولايات بأن يخطب للسلطان محمود وكتب إلى بغداد بمثل ذلك وأعاد عليه جميع البلاد سوى الري لئلا تحدث محموداً نفسه بالانتقاض. ثم قتل السلطان محمود الأمير منكبرس شحنة بغداد لأنه لما انهزم محمود وسار إلى بغداد ليدخلهـا منعـه دبيـس فعـاث فـي البلـاد ورجـع وقـد استقـر في الصلح فقصد السلطان مستجيراً به فأبـى مـن إجارتـه ومؤاخذتـه وبعثـه إلـى السلطـان محمود فقتله صبراً لما كان يستبد عليه بالأمور. وسار شحنة إلى بغداد على زعمه فحقد له ذلك وأمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الدين بهـروز شحنـة بالعـراق وكـان بهـا نائـب دبيـس بـن صدقـة فعـزل به. ثم قتل السلطان محمود حاجبه علـي بـن عمر وكان قد استخلفه ورفع منزلته فكثرت السعاية فيه فهرب إلى قلعة عند الكرخ كـان بهـا أهلـه وماله. ثم لحق بخوزستان وكان بيد بني برسق فاقتضى عهودهم وسار إليهم. فلما كان على تستر بعثوا من يقبض عليه فقاتلهم فلم يقر عنه وأسروه واستأذنوا السلطان محموداً في أمره فأمر بقتله وحمل رأسه إليه. انتقاض الملك مسعود على أخيه السلطان محمود والفتنة بينهما كـان الملك مسعود قد استقر بالموصل وأذربيجان منذ صالحه السلطان محمود عليها بأول ملكه وكان آقسنقر البرسقي مع الملك مسعود منذ فارق شحنة بغداد وأقطعه مراغة مضافة إلى الرحبـة وكـان دبيـس يكاتـب حيوس بك الأتابك في القبض عليه وبعثه إلى مولاه السلطان محمود ولبـذل لهم المال على ذلك. وشعر بذلك البرسقي ففارقه إلى السلطان محمود وعاد إلى جميل رأيـه فيـه. وكـان دبيـس مـع ذلـك يغـري الأتابك حيوس بك بالخلاف على السلطان محمود ويعدهم من نفسه المناصرة لينال باختلافهم في تمهيد سلطانه ما ناله أبوه باختلاف بركيارق ومحمد. وكان أبو المؤيد محمد بن أبي إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني يكتب للملك محمود ويرسم الطغري وهي العلامة على مراسيمه ومنها هباته. وجاء والده أبو إسماعيل من أصبهان فعزل الملك مسعود وزيره أبا علي بن عمار صاحب طرابلس واستوزره مكانه سنة ثلاث عشرة فحسن له الخلاف الذي كان دبيس يكاتبهم فيه ويحسنه لهم. وبلغ السلطان محموداً خبرهم فكتب يحذرهم فلم يقبلوا وخلعوا وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة وضربوا له النوب الخمس وذلك سنة أربع عشرة. وكانت عساكر السلطان محمود مفترقة فبادروا إليه والتقوا في عقبة استراباذ منتصف ربيع الأول والبرسقـي فـي مقدمـة محمـود وأبلـى يومئـذ واقتتلـوا يومـاً كامـلاً وانهزمـت عساكـر مسعـود فـي عشيتـه وأسـر جماعـة منهـم وفيهـم الوزيـر الأستـاذ أبو إسماعيل الطغرائي فأمر السلطان بقتلـه لسنـة مـن وزارتـه. وقـال هو فاسد العقيدة. وكان حسن الكتابة والشعر وله تصانيف في الكيمياء. وقصد الملك مسعود بعد الهزيمة جبلاً على اثني عشر فرسخاً من مكان الوقعة فاختفى فيه وبعث يطلب الأمان من أخيه فبعث إليه البرسقي يؤمنه ويحضره. وكان بعض الأمراء قد لحق به في الجبل وأشار عليه باللحاق بالموصل واستمد دبيساً فسار لذلك وأدركه البرسقي على ثلاثين فرسخاً من مكانه وأمنه عن أخيـه وأعـاده إليـه فأريـب العساكر للقائه وبالغ في إكرامه وخلطه بنفسه. وأما أتابكه حيوس بك فلما افتقد السلطان مسعـود سـار إلـى الموصـل وجمـع العساكـر وبلغـه فعـل السلطـان مـع أخيه فسار إلى الزاب. ثم جاء السلطـان بهمـذان فأمنـه وأحسـن إليه. وأما دبيس فلما بلغه خبر الهزيمة عاث في البلاد وأخربها وبعـث إليـه المسترشد بالنكير فلم يقبل فكتب بشأنه إلى السلطان محمود وخاطبه السلطان في ذلك فلم يقبل وسار إلى بغداد وخيم إزاء المسترشد وأظهر أنه يثأر منهم بأبيه. ثـم عـاد عـن بغـداد ووصـل السلطان في رجب فبعث دبيس إليه زوجته بنت عميد الدولة بن جهير بمال وهدايا نفيسة وأجيب إلى الصلح على شروط امتنع منها فسار إليه السلطان في شـوال ومعـه ألـف سفينـة. ثـم استأمـن إلـى السلطـان فأمنـه وأرسـل نسـاءه إلـى البطيحـة. وسار إلى أبـي الغـازي مستجيـراً بـه ودخـل السلطـان الحلـة وعـاد عنهـا ولـم يزل في دبيس عند أبي الغازي. وبعث أخاه منصوراً إلى أصحابه من أمراء النواحي ليصلح حاله مع السلطان فلم يتم ذلك. وبعـث إليـه أخـوه منصـور يستدعيـه إلـى العـراق فسـار من قلعة جعبر إلى الحلة سنة خمس عشرة وملكها وأرسل إلى الخليفة والسلطان بالاعتذار والوعد بالطاعة قلم يقبل منه وسارت إليه العساكر مع سعد الدولة بن تتش ففارق الحلة ودخلها سعد وأنزل بالحلة عسكراً وبالكوفة آخر. ثم راجع دبيس الطاعة على أن يرسل أخاه منصوراً رهينة فقبل ورجع العسكر إلى بغداد سنة ست عشرة. |
إقطاع الموصل للبريقي وميافارقين لأبي الغازي
ثـم أقطـع السلطـان محمـود الموصل وأعمالها والجزيرة وسنجار وما يضاف إلى ذلك للأمير آقسنقر البرسقي شحنة بغداد وذلك أنه كان ملازماً للسلطان في حروبه ناصحاً له وهو الذي حمل السلطان مسعوداً على طاعة أخيه محمود وأحضره عنده فلما حضر حيوس بك وزيره عند السلطـان محمـود من الموصل بقيت بدون أمير فولى عليها البرسقي سنة خمس عشرة وخمسمائة وأمره بمجاهـدة الفرنـج فأقـام فـي إمارتهـا دهـراً هـو وبنـوه كمـا يأتـي فـي أخبارهـم. ثـم بعـث الأميـر أبـو الغازي بن أرتق ابنه حسام الدين تمرتاش شافعاً في دبيس بن صدقة وأن يضمن الحلة بألف دينار وفرس في كل يوم ولم يتم ذلك. فلما انصرف عن السلطان أقطع أباه أبا الغازي مدينة ميافارقيـن وتسلمهـا مـن يـد سقمـان صاحـب خلـاد سنـة خمـس عشـرة وبقيـت في يده ويد بنيه إلى أن ملكها منهم صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة كما يذكر في أخبارهم. طاعة طغرل لأخيه السلطان محمود قد تقدم ذكر انتقاض الملك طغرل بساوة وزنجان على أخيه السلطان محمود بمداخلة أتابكه كتبغـري وأن السلطـان محموداً المشار إليه أزعجه إلى كنجة وسار إلى أذربيجان يحاول ملكها. ثم توفي أتابكه كتبغري في شوال سنة خمس عشرة وكان آقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة فطمـع فـي رتبـة كتبغـري وسـار إلـى طغـرل واستدعـاه إلـى مراغة وقصدوا أردبيل فامتنعت عليهم فجـاؤوا إلـى تبريـز وبلغهـم أن السلطـان أقطـع أذربيجان لحيوس بك وبعثه في العساكر وأنه سبقهم إلى مراغة فعدلوا عنها وكافؤوا صاحب زنجان فأجابهم وسار معهم إلى أبهر فلم يتم لهم مرادهـم وراسلـوا السلطـان فـي الطاعـة واستقـر حالهـم. وأمـا حيـوس بـك فوقعت بينه وبين الأمراء من عسكره منافرة فسعوا به عند السلطان فقتله بتبريز في رمضان من سنته وكان تركياً من مماليك السلطان محمد وكان حسن السيرة مضطلعاً بالولايـة. ولمـا ولـي الموصـل والجزيـرة كـان الأكراد قد عاثوا في نواحيها وأخافوا سبلها فأوقع بهم وحصر قلاعهم وفتح الكثير منها ببلد الهكارية وبلد الزوزان وبلد النسوية وبلد النحسة حتى خاف الأكراد واطمأن الناس وأمنت السبل. أخبار دبيس مع المسترشد قد ذكرنا مسير العساكر إلى دبيس مع برسق الكركوي سنة أربع عشرة وكيف وقع الاتفاق وبعث دبيس أخاه منصوراً رهينة فجاء برتقش به إلى بغداد سنة ست عشرة ولم يرض المسترشد ذلك وكتب إلى السلطان محمود بأن دبيس لا يصلحه شيء لأنه مطالب بثأر أبيه وأشار بأن يبعث عن البرسقي من الموصل لتشديد دبيس وبكون شحنة ببغداد فبعث إليه السلطـان وأنزلـه شحنـة ببغـداد وأمـره بقتـال دبيـس فأقام عشرين شهراً ودبيس معمل في الخلاف. ثم أمره المسترشد بالمسير إليـه وإخراجـه مـن الحلـة فاستقـدم البرسقـي عساكـره مـن الموصـل وسـار إلـى الحلـة ولقيـه دبيـس فهـزم عساكـره ورجـع إلـى بغـداد فـي ربيـع مـن سنـة سـت عشرة وكان معـه فـي العسكـر مضـر بـن النفيـس بـن مذهـب الدولـة أحمـد بـن أبـي الخيـر عامـل البطيحـة فغـدا عليه عمه المظفر بن عماد بن أبي الخير فقتله في انهزامهم. وسار إلى البطيحة فتغلب عليها وكاتب دبيس في الطاعة وأرسل دبيس إلـى المسترشـد بطاعتـه وأن يبعـث عمالـه لقرى الخاص يقبضون دخلها على أن يقبض المسترشد على وزيره جلال الديـن بن علي بن صدقة فتم بينهما ذلك وقبض المسترشد على وزيره وهرب ابن أخيه جلال الدين أبو الرضي إلى الموصل وبلغ الخبر بالهزيمة إلى السلطان محمود فقبض على منصور أخي دبيس وحبسه وأذن دبيس لأصحاب الإقطاع بواسط في المسير إلى إقطاعهم فمنعهم الأتراك منها فجهز إليهم عسكراً مع مهلهل بن أبي العسكر. وأمر مظفر بن أبي الخير عامل البطيحة بمساعدته. وبعث البرسقي المدد إلى أهل واسط فلقيهم مهلهل بن أبي المظفر فهزموه وأسروه وجماعة من عسكره واستلحموا كثيراً منهم. وجاء المظفر أبو الخير على أثره وأكثر النهب والعيث وبلغه خبر الهزيمة فرجع وبعث أهـل واسـط بتذكـرة وجدوهـا مـع مهلهـل بخـط دبيس فأمره بالقبض على المظفر فمال إليهم وانحرف عن دبيس. ثم بلغ دبيس أن السلطان محموداً سمل أخاه منصوراً فانتقض ونهب ما كان للخليفة بأعماله وسار أهل واسط إلى النعمانية فأجلوا عنها أصحاب دبيس. وتقدم المسترشد إلى البرسقي بالمسير لحرب دبيس فسار لذلك كما نذكر. ثم أقطع السلطان محمود مدينة واسط للبرسقي مضافة إلى ولاية الموصل فبعث عماد الدين زنكي بن آقسنقر ولد نور الدين العادل. نكبة الوزير ابن صدقة وولاية نظام الملك قـد ذكرنا آنفا أن دبيس اشترط على المسترشد في صلحه معه القبض على وزيره جلال الدين أبي علـي بـن صدقـة فقبـض عليـه فـي جمـادى سنـة سـت عشـرة وأقـام فـي نيابـة الـوزارة شـرف الديـن علي بن طراد الزينبي. وهرب جلال الدين أبو الرضي ابن أخي الوزير إلى الموصل. وبعث السلطان محمود إلى المسترشد في أن يستوزر نظام الدولة أبا نصر أحمد بن نظام الملك وكان السلطان محمود قـد استـوزر أخـاه شمـس الملـك عثمـان عندمـا قـل الباطنيـة بهمـذان وزيـره الكمـال أبـا طالـب السميـري فقبـل المسترشـد إشارتـه واستـوزر نظـام الملـك وقد كان وزر للسلطـان محمـد سنـة خمسمائـة ثم عزل ولزم داره ببغداد. فلما وزر وعلم ابن صدقة أنه يخرجه طلـب مـن المسترشـد أن يسيـر إلـى سليمـان بـن مهـارش بحديثـة غانـة فـأذن لـه فسـار ونهـب في طريقه وأسر ثم خلص إلى مأمنه واقعة عجيبة. ثم قتل السلطان محمود وزيره شمس الملك فعزل المسترشد أخاه نظام الدين أحمد عن وزارته وأعاد جلال الدين أبا علي بن صدقة إلى مكانه. واقعة المسترشد مع دبيس كـان دبيـس فـي واقعتـه مـع البرسقـي قـد أسر عفيفاً الخادم ثم أطلقه سنة سبع عشرة وحمله إلى المسترشـد رسالـة بخـروج البرسقـي للقتـال يتهـدده بذلك على ما بلغه من سمل أخيه وحلف لينهبن بغـداد فاستطـار المسترشـد غضبـاً وأمـر البرسقـي بالمسيـر لحربـه فسـار في رمضان من سنته. ثم تجهـز للخليفـة وبـرز مـن بغـداد واستدعـى العساكـر فجـاءه سليمان بن مهارش صاحب الحديثة في بنـي عقيـل وقـرواش بـن مسلـم وغيرهمـا. ونهـب دبيـس نهـر الملـك مـن خـاص الخليفـة ونـودي فـي بغـداد بالنفيـر فلـم يتخلـف أحـد وفرقـت فيهـم الأمـوال والسلـاح وعسكـر المسترشـد خـارج بغداد في عشر ذي الحجة وبرز لأربع بعدها وعبر دجلة وعليه قباء أسود وعمامة سوداء وعلى كتفه البردة وفي يده القضيب وفي وسطه منطقة حديد صيني ووزيره معه نظام الدين ونقيب الطالبيين ونقيب النقباء علي بن طراد وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل وغيرهم فنزل بخيمة وبلغ البرسقي خروجه فعاد بعسكره إليه. ونزل المسترشد بالحديثة بنهر الملك واستحلف البرسقي والأمراء على المناصحة وسار فنزل المباركة وعبى البرسقي أصحابه للحرب ووقف المسترشد وراء العسكر في خاصته وعبى دبيس أصحابه صفاً واحداً وبين يديهـم الإمـاء تعـزف وأصحـاب الملاهـي وعسكـر الخليفـة تتجاذب القراءة والتسبيح مع جنباته ومع أعلامه كرباوي خراسان وفي الساقة سليمان بن مهـارش. وفـي ميمنـة البرسقـي أبـو بكـر بـن إليـاس مع الأمراء البلخية فحمل عنتر بن أبي العسكر مـن عسكـر دبيـس علـى ميمنـة البرسقـي فدحرها وقتل ابن أخي أبي بكر. ثم حمل ثانية كذلك فحمـل عمـاد الديـن زنكـي بـن آقسنقـر فـي عسكر واسط على عنتر بن أبي العسكر فأسره ومن معه. وكان من عسكر المسترشد كمين متوار فلما التحم الناس خرج الكمين واشتد الحرب وجرد المسترشد سيفه وكبر وتقدم فانهزمت عساكر دبيس وجيء بالأسرى فقتلوا بين يدي الخليفة وسبي نساؤهم ورجع الخليفة إلى بغداد في عاشوراء من سنة سبع عشرة. وذهب دبيس وخفي أثره وقصد غزية من العرب فأبوا من ذلك إيثاراً لرضا المسترشد والسلطان فسار إلى المشقر من البحرين فأجابوه وسار بهم إلى البصـرة فنهبوهـا وقتلـوا أميرهـا وتقـدم المسترشـد للبرسقي بالانحدار إليه بعد أن عنفه علـى غفلتـه عنـه وسمـع دبيـس ففـارق البصـرة وبعـث البرسقـي عليهـا زنكـي بن أقسنقر فأحسن حمايتها وطرد العرب عن نواحيها ولحق دبيس بالفرنج فـي جعبـر وحاصـر معهـم حلـب فلـم يظفـروا وأقلعـوا عنهـا سنـة ثمـان عشـرة فلحـق دبيس بطغرل ابن السلطان محمد وأغراه. بالمسترشد وبملك العراق كما نذكر. ولاية برتقش شحنة بغداد ثم إن المسترشد وقعت بينه وبين البرسقي منافرة فكتب إلى السلطان محمود في عزله عن العراق وإبعاده إلى الموصل فأجابه إلى ذلك وأرسل إلى البرسقي بالمسير إلى الموصل لجهاد الافرنج وبعث إليه بابن صغير من أولاده يكون معه وولى على شحنة بغداد برتقش الزكوي وجاء نائبه إلى بغداد فسلم إليه البرسقي العمل وسار إلى الموصل بابن السلطان وبعث إلى عماد الدين زنكي أن يلحق به فسار إلى السلطان وقدم عليه بالموصل فأكرمه وأقطعه البصرة وأعاده إليها. وصول الملك طغرل ودبيس إلى العراق قد ذكرنا مسير دبيس بن صدقة من الشام إلى الملك طغرل فأحسن إليه ورتبه في خاص أمرائـه وجعل دبيس يغريه بالعراق ويضمن له ملكه فسار لذلك سنة تسع عشرة ووصلوا دقوقاً فكتب مجاهد الدين مهروز من تكريت إلى المسترشد بخبرهما فتجهـز إلـى دفاعهمـا وسـار إليهما. وأمر برتقش الزكوي الشحنة أن يستنفر ويستبعد فبلغت عدة العسكر اثني عشر ألفاً سوى أهل بغداد وبرز خامس صفر سنة تسع عشرة وسار فنزل الخالص وعدل طغرل إلى طريق خراسان وأكثرت عساكره النهب ونزل رباط جلولاء. وسار إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في العساكر فنزل الدسكرة. وجاء المسترشد فنزل معه وتوجه طغرل ودبيس فنزلا الهارونيـة واتفقـا أن يقطعا جسر النهروان فيقيم دبيس على المعابر ويخالفهم طغرل إلى بغداد ثم عاقتهم جميعاً عوائق المطر وأصابت طغرل الحمى وجاء دبيس إلى النهروان ليعبر وقد لحقهم الجوع فصادف أحمالاً من البر والأطعمة جاءت مـن بغـداد للمسترشـد فنهبهـا وأرجـف فـي معسكـر المسترشـد أن دبيس ملك بغداد فأجفلوا من الدسكرة إلى النهروان وتركوا أثقالهم. ولما حلـوا بالنهـروان وجدوا دبيس وأصحابه نياما فاستيقظ وقبل الأرض بين يدي المسترشد وتذلل فهم بصلحه ووصل الوزير ابن صدقة فثناه عن ذلك ثم مد المسترشد الجسر وعبر ودخل بغـداد لفتنـة خمسـة وعشريـن يومـاً. وسـار دبيـس إلـى طغرل ثم اعتزموا على المسير إلى السلطان سنجر ومروا بهمذان فعاثوا في أعمالها وصادروا واتبعهم السلطان فانهزموا بين يديه ولحقوا بالسلطان سنجر شاكين من المسترشد والشحنة برتقش. الفتنة بين المسترشد والسلطان محمود ثـم وقعـت بيـن برتقـش الزكـوي وبيـن نـواب المسترشـد نبـوة فبعـث إليه المسترشد يتهدده فخافه على نفسه وسار إلى السلطان محمود في رجب سنة عشرين فحذر منه وأنه ثاور العساكر ولقي الحروب وقويت نفسه وأشار بمعاجلته قبل أن يستفحل أمره ويمتنع عليه فسار السلطان نحو العـراق فبعـث إليـه المسترشـد بالرجوع عن البلاد لما فيها من الغلاء من فتنة دبيس وبذل له المال وأن يسير إلى العراق مرة أخرى فارتاب السلطان وصدق ما ظنه برتقش وأغذ السير فعبر المسترشد إلى الجانب الغربي مغضباً يظهر الرحيل عن بغداد إذ قصدها السلطان. وصانعه السلطان بالاستعطاف وسؤاله في العود فأبى فغضب السلطان ودخل نحو بغداد. وأقام المسترشد بالجانب الغربي وبعث عفيفاً الخادم من خواصه في عسكر إلى واسط ليمنع عنهـا نواب السلطان فأرسل السلطان إليه عماد الدين زنكي بن أقسنقر وكان على البصرة كما ذكرناه فسار إليه وهزمه وقتل من عسكره ونجا عفيف إلى المسترشد برأسه فجمع المسترشد السفن وسد أبواب دار الخلافة إلا باب النوبي ووصل السلطان في عشر ذي الحجة من سنة عشرين ونزل باب الشماسيـة ومنـع العسكـر عـن دور النـاس. وراسـل المسترشـد فـي العـود والصلـح فأبى ونجا جماعة من عسكر السلطان فنهبوا التاج في أول المحرم سنة إحدى وعشرين فضج العافة لذلك واجتمعوا وخرج المسترشد والشماسية على رأسه والوزير بين يديه وأمر بضرب الطبول ونفخ الأبواق ونادى بأعلى صوته يا لهاشم ونصب الجسر وعبر الناس دفعة واحـدة. وكـان فـي الـدار رجـال مختفـون في السراديب فخرجوا على العسكر وهم مشتغلون في نهب الدار فأسروا جماعة منهم ونهب العامة دور أصحاب السلطان. وعبر المسترشد إلـى الجانب الشرقي في ثلاثين ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد وأمر بحفر الخنادق فحفرت ليلاً ومنعوا بغداد عنهم واعتزموا على كبس السلطان محمود. وجـاء عمـاد الديـن زنكـي من البصرة في حشود عظيمة ملأت البر والبحر فاعتزم السلطان على قتال بغداد. وأذعن المسترشد إلى الصلح فاصطلحوا وأقام السلطان ببغداد إلى ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين ومرض فأشير عليه بمفارقة بغداد فارتحل إلى همذان ونظر فيمن يوليه شحنة العراق مضافاً إلى ما بيده ويثق به في مد تلك الخلة. جمل إليه الخليفة عند رحيله الهدايا والتحف الألطاف فقبل جميعها. ولما أبعد السلطان عن بغداد قبض على وزيره أبي القاسم علي بـن الناصـر النشابـاذي لاتهامـه بممالـأة المسترشـد واستـوزر مكانـه شـرف الديـن أنوشروان بن خالد وكان مقيماً ببغداد فاستدعاه وأهدى إليه الناس حتى الخليفة. وسار من بغـداد في شعبان فوصل إلى السلطان بأصبهان خلع عليه ثم استعفى لعشرة أشهر وعاد إلى بغداد ولم يزل الوزير أبو القاسم محبوساً أن جاء السلطان سنجر إلى الري في السنة بعدها فأطلقه وأعاده إلى وزارة السلطان. أخبار دبيس مع السلطان سنجر لما وصل دبيس إلى السلطان سنجر ومعه طغرل أغرياه بالمسترشد والسلطان محمود وأنهما عاصيـان عليـه وسهـلا عليـه أمـر العـراق فسار إلى الري واستدعى السلطان محموداً يختبر طاعته بذلـك فبادر للقائه. ولما وصل أمر سنجر العساكر فتلقوه وأجلسه معه على سريره وأقام عنده مدة وأوصاه بدبيس أن يعيده إلى بلده ورجع سنجر إلى خراسان منتصف ذي الحجة ورجع محمـود إلـى همذان ودبيس معه. ثم سار إلى بغداد فقدمها في تاسوعاء سنة ثلاث وعشرين واسترضـى المسترشـد لدبيـس فرضـي عنـه علـى شريطـة أن يوليـه غيـر الحلة فبذل في الموصل مائة ألف دينار. وشعر بذلك زنكي فجاءه إلى السلطان وهجم على الستر متذمماً وحمل الهدايا وبذل مائة ألف فأعاده السلطان إلى الموصل وأعاد بهروز شحنة على بغداد وجعلت الحلة لنظره. وسار السلطان إلى همذان في جمادى سنة ثلاث وعشرين ثم مرض السلطان فلحق دبيس بالعراق وحشد المسترشد لمدافعته وهرب بهروز من الحلة فدخلها دبيس رمضان من سنة ثلاث وعشرين. وبعث السلطان في أثره الأميرين اللذين ضمناه له وهما كزل والأحمديلي فلما سمع دبيس بهما أرسل إلى المسترشد يستعطفه وتردد الرسل وهو يجمع الأموال والرجال حتى بلغ عسكره عشرة آلاف ووصل الأحمديلي بغداد في شوال وسار في أثر دبيس. ثم جاء السلطان إلى العراق فبعث إليه دبيس بالهدايا وبذل الأموال على الرضى فأبى ووصل إلى بغـداد ودخـل دبيـس البريـة وقصـد البصـرة فأخـذ مـا كـان فيهـا للخليفـة والسلطـان وجاءت العساكر في اتباعه فدخل البرية انتهى. وفاة السلطان محمود وملك ابنه داود ثم منازعته عمومته واستقلال مسعود ثـم توفـي السلطان محمود في شوال من سنة خمس وعشرين لثلاث عشرة سنة من ملكه واتفق وزيره أبو القاسم النشاباذي وأتابكه أقسنقر الأحمديلي على ولاية ابنه داود مكانه وخطب له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان ووقعت الفتنة بهمذان ونواحيها. ثم سكنت فسار الوزير بأموالـه إلى الري ليأمن في ايالة السلطان سنجر ثم أن الملك داود سار في ذي القعدة من سنة خمـس وعشريـن مـن همـذان إلى ربكان وبعت إلى المسترشد ببغداد في الخطبة وأتاه الخبر بأن عمـه مسعـوداً سـار مـن جرجـان إلـى تبريـز وملكهـا فسـار إليـه وحصره في تبريز إلى سلخ المحرم من سنة ست وعشرين ثم اصطلحا وأفرج داود عن تبريز وخرج السلطان مسعود منها واجتمعت عليه العساكر فانتقض وسار إلى همذان. وأرسـل إلـى المسترشـد فـي الخطبـة فأجابهـم جميعـاً بـأن الخطبـة للسلطـان سنجـر صاحـب خراسـان ويعيـن بعـده مـن يـراه. وبعـث إلـى سنجـر بـأن الخطبـة إنمـا ينبغـي أن تكـون لـك وحدك فوقع ذلك منه أحسن موقع وكاتب السلطان منه أحسن موقع وكاتب السلطان مسعود عماد الدين زنكي صاحب الموصل فأجابه وسار إليه وانتهى إلى المعشوق. وبينما هم في ذلك إذ ثار قراجا الساقي صاحب فـارس وخوزستـان بالملـك سلجـوق شـاه ابـن السلطـان محمـد وكـان أتابكه فدخل بغداد في عسكر كبيـر ونزلـه فـي دار السلطـان واستخلفـه المسترشـد لنفسـه ووصل مسعود إلى عباسة فبرزوا للقائه وجاءهم خبر عماد الدين زنكي فعبر قراجا إلى الجانب الغربي للقائه وواقعه فهزمه وسار منهزماً إلى تكريت وبها يومئذ نجم الدين أيوب أبو السلطان صلاح الدين فهيأ له الجسر للعبور وعبر فأمن وسار لوجهه. وجاء السلطان مسعود من العباسة للقاء أخيه سلجوق ومن معه مدلاً بمكان زنكي وعسكره من ورائهم وبلغه خبر انهزامهـم فنكـص علـى عقبـه وراسـل المسترشـد بأن السلطان سنجر وصل إلى وطلب الاتفاق من المسترشد وأخيه سلجوق شاه قراجـا علـى قتـال سنجـر علـى أن يكـون العـراق للمسترشـد يتصـرف فيـه نوابـه والسلطنـة لمسعـود وسلجـوق شـاه ولـي عهـده فأجابوه إلى ذلك وجاء إلى بغداد في جمادى الأولى سنة ست وعشرين وتعاهدوا على ذلك. واقعة مسعود مع سنجر وهزيمته وسلطنة طغرل لما توفي السلطان محمود وولي ابنه داود مكانه نكر ذلك عمه السلطان سنجر عليهم وسار إلى بلاد الجبل ومعه طغرل ابن أخيه السلطان محمد كان عنده منذ وصوله مع دبيس فوصل إلـى الـري ثـم إلـى همـذان وسار السلطان مسعود وأخوه سلجوق وقراجا الساقي أتابك سلجوق للقائـه. وكـان المسترشـد قـد عاهدهـم على الخروج وألزموه ذلك ثم إن السلطان سنجر بعث إلى دبيس وأقطعه الحلة وأمره بالمسير إلى بغداد وبعث إلى عماد الدين زنكي بولاية شحنكية بغداد والسير إليها فبلغ المسترشد خبر مسيرهما فرجع لمدافعتهما. وسار السلطان مسعود وأصحابـه للقـاء السلطـان سنجـر ونـزل استرابـاذ فـي مائـة ألـف مـن العسكر فخاموا عن لقائه ورجعوا أربع مراحل فأتبعهم سنجر وتراءى الجمعان عند الدينور ثامن رجب فاقتتلوا وعلى ميمنة مسعود قراجا الساقي وكزل وعلى ميسرته برتقش باردار ويوسـف حـاروس فحمـل قراجـا الساقـي في عشرة آلاف على السلطان سنجر حتى تورط في مصافه فانعطفوا عليه من الجانبين وأخذ أسيراً بعد جراحات. وانهـزم مسعـود وأصحابـه وقتـل بعضهـم وفيهـم يومئـذ يوسـف حـاروس وأسـر آخـرون فيهم قراجا فأحضر عند السلطان سنجر فوبخه ثم أمر بقتله. وجاء السلطان مسعود إليه فأكرمه وعاتبه على مخالفته وأعاده أميراً إلى كنجة. وولى الملك طغرل ابن أخيه محمداً في السلطنة وجعـل وزيـره أبـا القاسـم النشابـاذي وزير السلطان محمود وعاد إلى خراسان ووصل نيسابور في عاشر رمضان من سنته. وأما الخليفة فرجع إلى بغداد كما قلناه لمدافعة دبيس وزنكي وبلغـه الخبـر بهزيمـة السلطـان مسعـود فعبر إلى الجانب الغربي وسار إلى العباسة ولقيهما بحصن البرامكة آخر رجب. وكان في ميمنته جمال الدولة إقبال وفي ميسرته مطر الخادم فانهزم إقبال لحملة زنكي وحمل الخليفة ومطـر علـى دبيـس فانهـزم وتبعه زنكي فاستمرت الهزيمة عليهم وافترقوإ ومضى دبيس إلى الحلة وكانت بيد إقبال وجاءه المدد من بغداد فلقي دبيس وهزمه ثم تخلص بعد الجهد وقصـد واسط وأطاعه عسكرها إلى أن خلت سنة سبع وعشرين فجاءهم إقبال وبرتقش باردار وزحفوا في العساكر براً وبحراً فانهزمت أهل واسط. ولمـا استقـر طغـرل بالسلطنـة وعـاد عمـه سنجر إلى خراسان لخلاف أحمد خان صاحب ما وراء النهر عليه وكان داود ببلاد أذربيجان وكنجة فانتقض وجمع العساكر وسار إلى همذان وبرز إليـه طغـرل وفـي ميمنتـه ابـن برسـق وفـي ميسرته كزل وفي مقدمته أقسنقر. وسار إليه داود في ميمنته برتقش الزكوي والتقيا في رمضان سنـة سـت وعشريـن فأمسـك برتقـش عـن القتـال واستـراب التركمـان منـه فنهبـوا خيمتـه واضطـرب عسكـر داود لذلـك فهـرب أتابكـه أقسنقر الأحمديلي واستمرت الهزيمة عليهم وأسر برتقش الزكـوي ومضـى داود ثـم قـدم بغـداد ومعـه أتابكه أقسنقر الأحمديلي فأنزله الخليفة بدار السلطان وأكرمه. ولما بلغ السلطان مسعوداً هزيمة داود ووصوله إلى بغداد قدم إليها وخرج داود لتلقيه وترجل له عن فرسه ونزل مسعود بدار السلطنة في صفر سنة سبع وعشرين وخطب له على منابر بغـداد ولـداود بعـده واتفقـا مـع المسترشـد بالسيـر إلـى أذربيجـان وأن يمدهمـا وسـارا لذلـك وملك مسعود سائر بلاد أذربيجان وحاصر جماعة من الأمراء بأردبيل ثم هزمهم وقتل منهم وسار إلى همذان وبرز أخو طغرل للقائه فانهزم واستولى مسعود على همذان وقتل أقسنقر قتلـه الباطنيـة ويقـال بدسيسـة السلطـان محمود. ولما انهزم طغرل قصد الري وبلغ قم ثم عاد إلى أصبهان ليمتنع بها وسار أخوه مسعود للحصار فارتاب طغرل بأهل أصبهان وسار إلى بلاد فارس فاتبعه مسعود واستأمن إليه بعض أمراء طغرل فارتاب بالباقين وانهزم إلى الري في رمضان من سنته واتبعه مسعود فلحقه بالري وقاتله فانهزم طغرل وأسر جماعـة مـن أمرائـه وعـاد مسعـود إلـى همذان ظافراً وعندما قصد طغرل الري من فارس قتل في طريقه وزيره أبا القاسم النشاباذي في شوال من سنته لموجدة وجدها عليه. مسير المسترشد لحصار الموصل لما انهزم عماد الدين زنكي أمام المسترشد كما قلنا لحق بالموصل وشغل سلاطين السلجوقية فـي همـذان بالخلـف الواقـع بينهـم ولجـأ جماعـة مـن أمـراء السلجوقيـة إلـى بغـداد فـراراً مـن الفتنة فقوي بهم المسترشد وبعث إلى عماد الدين زنكي بعض شيوخ الصوفية من حضرته فأغلظ في الموعظـة فأهانـه زنكـي وحبسـه فاعتـزم المسترشـد علـى حصـار الموصـل وبعـث بذلـك إلـى السلطـان مسعـود وسـار مـن بغداد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين في ثلاثين ألف مقاتل. ولمـا قـارب الموصـل فارقهـا زنكي ونزل بها نائبه نصير الدين حقر ولحق بسنجر وأقام يقطع المدد والميرة عن عسكـر المسترشـد حتـى ضاقـت بهـم الأمـور وحاصرهـا المسترشـد ثلاثـة أشهـر فامتنعت عليه ورحل عائداً إلى بغداد فوصل يوم عرفة من سنته يقال إن مطراً الخادم جاء من عسكر السلطان مسعود لأنه قاصد العراق فارتحلا لذلك. مصاف طغرل ومسعود وانهزام مسعود ولما عـاد مسعـود إلـى همـذان بعـد انهـزام أخيـه طغـرل بلغـه انتقـاض داود ابـن أخيـه محمـود بأذربيجان فسار إليه وحصره ببعض قلاعها فخالفه طغرل إلى بلاد الجبل واجتمعت عليه العساكـر ففتح كثيراً من البلاد وقصد مسعوداً وانتهى إلى قزوين فسار مسعود للقائه وهرب من عسكره جماعة كان طغرل قد داخلهم واستمالهم فولى مسعود منهزماً آخر رمضان سنة ثمان وعشرين واستأذن المسترشد في دخول بغداد وكان نائبه بأصبهان البقش السلامي ومعه أخوه سلجوق شاه فلما بلغهم خبر الهزيمة لحقوا ببغداد ونزل سلجوق بدار السلطان وبعث إليه الخليفـة بعشـرة آلـاف دينـار. ثـم قـدم مسعـود بعدهـم ولقـي في طريقه شدة وأصحابه بين راجلين وركاب فبعث إليهم المسترشد بالمقام والخيام والأمـوال والثيـاب والآلـات وقـرب إليهـم المنـازل وفاة طغرل واستيلاء السلطان مسعود ولما وصل مسعود إلى بغداد أكرمه المسترشد ووعده بالمسير معه لقتال أخيـه طغـرل وأزاح علل عسكره واستحثه لذلك وكان جماعة من أمراء السلجوقية قد ضجروا من الفتنة ولحقوا بالمسترشد فساروا معه ودس إليهم طغرل بالمواعيد فارتاب المسترشد ببعضهم وأطلع على كتاب طغرل إليه وقبض عليـه ونهـب مالـه فلحـق الباقـون بالسلطـان وبعـث فيهـم المسترشـد فمنعهم السلطان فحدثت بينهم الوحشة لذلك وبعث السلطان إلى الخليفة يلزمه المسير معه وبينـا همـا علـى ذلـك إذ جـاءه الخبـر بوفـاة طغـرل فـي المحرم من سنة تسع وعشرين فسار السلطان مسعود إلى همذان وأقبلت إليه العساكر فاستولى عليها وأطاعه أهل البلاد واستوزر شرف الدين أنوشروان خالداً وكان قد سار معه بأهله. |
فتنة السلطان مسعود مع المسترشد
لمـا استولى السلطان مسعود على همذان استوحش منه جماعة من أعيان الأمراء منهم برتقش وكـزل وسنقـر والـي همـذان وعبـد الرحمـن بـن طغرلبـك ففارقـوه ودبيـس بن صدقة معهم واستأمنوا إلى الخليفة ولحقوا بخوزستان وتعاهدوا مع برسق على طاعة المسترشد وحـذر المسترشد من دبيس وبعث شديد الدولة بن الأنباري الأمان للأمراء دون دبيس ورجع دبيس إلى السلطان مسعود. وسار الأمراء إلى بغداد فأكرمهم المسترشد واشتدت وحشة السلطان مسعود لذلك ومنافرته للمسترشد فاعتزم المسترشد على قتاله وبرز من بغداد في عاشـر رجب وأقام بالشفيع وعصى عليه صاحب البصرة فلم يجبه وأمراء السلجوقية الذين بقوا معه يحرضونه على المسير فبعث مقدمته إلى حلوان. ثـم سـار مـن شعبـان واستخلـف علـى العـراق إقبـالاً خادمـه فـي ثلاثـة آلـاف فارس ولحقه برسق بن برسق فبلغ عسكره سبعة آلاف فارس وكان أصحاب الأعراب يكاتبون المسترشد بالطاعة فاستصلحهم مسعود ولحقوا به وبلغ عكسره خمسة عشر ألفاً. وتسلل إليه كثير من عكسر المسترشد حتى بقي في خمسة آلاف وبعث إليه داود ابن السلطان محمود من أذربيجان بأن يقصد الدينور ليلقاه بها بعسكـره فجفـل للقـاء السلطـان مسعـود وسـار وفـي ميمنتـا برتقـش بـاردار وكـور الدولـة سنقر وكزل وبرسق بن برسق وفي ميسرته جاولي برسقي وسراب سلار واعليـك الـذي كـان قبـض عليه من أمراء السلجوقية بموافقتهم السلطان وكان ذلك عاشر رمضان سنة تسع وعشرين. وانحازت ميسرة المسترشد إليه وانطبقت عساكره عليه وانهزم أصحاب المسترشد وأخذ هو أسيـراً بموكبـه وفيهـم الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي وقاضي القضاة والخطباء والفقهاء والشهـود وغيرهـم. وأنـزل المسترشـد فـي خيمـة وحبـس الباقون بقلعة سرحاب وعاد السلطان إلى همذان وبعث الأمير بك آي المحمدي إلى بغداد شحنة فوصل سلـخ رمضـان ومعـه عميـد فقبضوا أملاك الخليفة وأخذوا غلاته وضج الناس ببغداد وبكوا على خليفتهم وأعول النساء ثـم عمد العامة إلى المنبر فكسروه ومنعوا من الخطبة وتعاقبوا في الأسواق يحثون التراب على رؤوسهم وقاتلوا أصحاب الشحنة فأثخن فيهم بالقتل وهرب الوالي والحاجب وعظمت الفتنة ثـم بلـغ السلطـان فـي شـوال أن داود ابـن أخيه محمود عصى عليه بالمراغة فسار لقتاله والمسترشد معه وتردد الرسل بينهما في الصلح. مقتل المسترشد وخلافة الراشد قد ذكرنا مسير المسترشد مع السلطان مسعود إلى مراغة وهو في خيمة موكل به. وترددت الرسل بينهما وتقرر الصلح على أن يحمل مالاً للسلطان ولا يجمع العساكر لحرب ولا فتنة ولا يخرج من داره فانعقد على ذلك بينهما وركب المسترشد وحملت الغاشية بين يديه وهو على العود إلى بغداد فوصل الخبر بموافاة رسول من السلطان سنجر فتأخر مسيره لذلك وركب السلطـان مسعـود للقاء الرسول وكانت خيمة المسترشد منفردة عن العسكر فدخل عليه عشرون رجلاً أو يزيدون من الباطنية فقتلوه وجدعوه وصلبوه وذلك سابع عشر ذي القعدة من سنة تسع وعشرين لسبع عشرة ونصف من خلافته. وقتـل الرجـال الذيـن قتلـوه وبويـع ابنـه أبـو جعفر بعهد أبيه إليه بذلك فجددت له البيعة ببغداد في مـلأ مـن النـاس وكان إقبال خادم المسترشد في بغداد فلما وقعت هذه الحادثة عبر إلى الجانب الغربي وأصعد إلى تكريت ونزل على مجاهد الدين بهروز. ثم بعد مقتل المسترشد بأيام قتل دبيـس بـن صدقـة علـى بـاب سرادقـة بظاهـر مدينـة خوي أمر السلطان مسعود غلاماً أرمنياً بقتله فوقف على رأسه فضربه وأسقط رأسه واجتمع إلى أبيه صدقة بالحلـة عساكـره ومماليكـه واستأمـن إليـه قطلـغ تكيـن وأمـر السلطـان مسعود بك آي شحنة بغداد فأخذ الحلة من يد صدقة فبعث بعض عساكره إلى المدائن وخام عن لقائه حتى قدم السلطان إلى بغداد سنة إحدى وثلاثين فقصده وصالحه ولزم بابه. الفتنة بين الراشد والسلطان مسعود ولحاقه بالموصل وخلعه وبعـد بيعة الراشد واستقراره في الخلافة وصل برتقش الزكوي من عند السلطان محمود يطلب مـن الراشـد ما استقر على أبيه من المال أيام كونه عندهم وهو أربعمائة ألف دينار فأجابه بأنه لـم يخلـف شيئـاً وأن مالـه كـان معـه فنهـب. ثـم نمي إلى الراشد أن برتقش تهجم على دار الخلافة وفتش المال فجمع الراشد العساكـر وأصلـح السـور ثـم ركـب برتقـش ومعـه الأمـراء البلخيـة وجاؤوا لهجم الدار وقاتلهم عسكر الخليفة والعامة فساروا إلى طريق خراسان وانحدر بك آي إلى خراسان وسار برتقش إلى البند هجين ونهبت العامة دار السلطان والراشد واشتدت الوحشة بين السلطان والراشد وانحرف الناس عن طاعة السلطان إلى الخليفة وسار داود ابن السلطان في عسكر أذربيجان إلى بغداد ونزل بدار السلطان في صفر من سنة ثلاثين. ووصل عماد الدين زنكي من الموصل ووصل برتقش باردار صاحب قزوين والبقش الكبير صاحب أصبهان وصدقة بن دبيس صاحب الحلة وابن برسق وابن الاحمديلي وجفل الملك داود برتقش باردار شحنة ببغداد وقبض الراشد على ناصح الدولة أبي عبد الله الحسن بن جهير استادار وعلى جمال الدين إقبال. وكان قدم إليه من تكريت فتنكر له أصحابه وخانوه وشفـع زنكـي فـي إقبـال الخـادم فأطلقـه وصـار عنـده وخـرج الوزيـر جلـال الدين أبو الرضا بن صدقة لتلقـي زنكي فأقام عنده. ثم شفع فيه وأعاده إلى وزارته ولحق قاضي القضاة الزينبي بزنكي أيضاً وسار معه إلى الموصل ووصل سلجوق شاه إلى واسط وقبض بها بك آي ونهب ماله ثم سار السلطان داود نحو طريق خراسان ومعه زنكي لقتال السلطان مسعود وبرز الراشد أول رمضان وسار إلى طريق خراسان ورجـع بعـد ثلـاث وأرسـل إلـى داود والأمـراء بالعـود وقتال مسعود من وراء السور وراسلهم مسعود بالطاعـة والموافقـة فأبـوا وتبعهـم الخليفـة فـي ذلـك. وجـاء مسعود فنزل على بغداد وحصرهم فيها وثار العيارون وكثر الهرج وأقاموا كذلك نيفاً وخمسين وامتنعوا وأقلع السلطان عنهم. ثم وصله طرنطاني صاحب واسط بالسفن فعاد وعبـر إلـى الجانـب الغربـي فاضطـرب الراشـد وأصحابـه وعـاد داود إلـى بلـاده وكـان زنكي بالجانب الغربي فعبـر إليـه الراشـد وسـار معـه إلـى الموصـل ودخـل السلطـان مسعـود بغـداد منتصـف ذي القعـدة سنـة ثلاثيـن وأمن الناس. واستدعى القضاة والفقهاء والشهود وعرض عليهم يمين الراشد بخطه: إني متى جندت جنداً وخرجت ولقيـت أحـداً مـن أصحـاب السلطـان بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمـر فافتـوا بخلعـه ووافقهـم علـى ذلـك أصحـاب المناصـب والولايات واتفقوا على ذمه فتقدم السلطان لخلعه وقطعت خطبته ببغداد وسائر البلاد في ذي القعدة من سنة ثلاثين لسنة من خلافته. خلافة المقتفي ولما قطعت خطبة الراشد استشار السلطان مسعود أعيان بغداد فيمن يوليه فأشاروا بمحمد بن المستظهر فقدم إليهم بعمل محضر في خلع الراشد وذكروا ما ارتكبه من أخذ الأموال ومن الأفعال القادحة في الإمامة وختموا آخر المحضر بأن من هذه صفته لا يصلح أن يكون إماماً. وحضـر القاضـي أبـو طاهـر بـن الكرخـي فشهـدوا عنـده بذلـك وحكـم بخلعـه ونفـذه القضـاة الآخرون وكان قاضي القضاة غائباً عند زنكي بالموصل وحضر السلطان دار الخلافة ومعـه الوزير شرف الدين الزينبي وصاحب المخزن ابن العسقلاني وأحضر أبو عبد الله بن المستظهر فدخل إليه السلطان والوزير واستخلفاه. ثم أدخلوا الأمراء وأرباب المناصب والقضاة والفقهاء فبايعـوه ثامـن عشـر ذي الحجـة ولقبـوه المقتفـي. واستـوزر شـرف الديـن علـي بـن طراد الزينبي وبعث كتـاب الحكـم بخلـع الراشـد إلى الآفاق وأحضر قاضي القضاة أبا القاسم علي بن الحسين فأعاده إلى منصبه وكمال الدين حمزة بن طلحة صاحب المخزن كذلك. فتنة السلطان مسعود مع داود واجتماع داود للراشد للحرب ومقتل الراشد ولما بويع للمقتفي والسلطان مسعود ببغداد بعث عساكره يطلب الملك داود فلقيه عند مراغه فانهزم داود وملك قراسنقر أذربيجان. ثم قصد داود خوزستـان واجتمـع عليـه مـن عساكـر التركمان وغيرهم نحو عشرة آلاف مقاتل وحاصر تستر وكان السلطان سلجوق شاه بواسط بعث إلى أخيه مسعود يستنجده فأنجده بالعساكر وسار إلى تستر فقاتله داود وهزمه. وكان السلطان مسعود مقيماً في بغداد مخافة أن يقصد الراشد العراق من الموصل وكان قد بعث لزنكـي فخطـب للمقتفـي فـي رجـب سنـة إحـدى وثلاثين وسار الراشد من الموصل فلما بلغ خبر مسيره إلى السلطان مسعود أذن للعسكر في العود إلى بلادهم وانصرف صدقة بن دبيس صاحب الحلة بعد أن زوجه ابنته. ثم قدم على السلطان مسعود جماعة الأمراء الذين كانوا مع الملك داود مثل البقش السلامي وبرسق بن برسق صاحب تستر وسنقر خمارتكين شحنة همذان فرضي عنهم وولى البقش شحنـة ببغـداد فظلـم النـاس وعسفهـم. ولمـا فارق الراشد زنكي من الموصل سار إلى أذربيجان وانتهى إلـى مراغـة وكـان بوزابـة وعبـد الرحمـن طغرلبـك صاحـب خلخـال والملـك وداود ابـن السلطان محمود خائفين من السلطان مسعود فاجتمعوا إلى منكبرس صاحب فارس وتعاهدوا علـى بيعـة داود وأن يـردوا الراشـد إلى الخلافة فأجابهم الراشد إلى ذلك وبلغ الخبر إلى السلطان فسـار مـن بغـداد فـي شعبـان سنـة اثنتيـن وثلاثيـن وبلغهـم قبل وصوله وصول الراشد إليهم فقاتلهم بخوزستان فانهزموا وأسر منكبـرس صاحـب فـارس فقتلـه السلطـان مسعـود صبـراً وافترقـت عساكـره للنهـب وفـي طلـب المنهزميـن ورآه بوزابـة وعبـد الرحمـن طغرلبـك في فل من الجنود فحملوا عليه وقتل بوزابة جماعة من الأمراء منهم صدقة بن دبيس وابن قراسنقر الأتابك صاحب أذربيجـان وعنتر بن أبي العسكر وغيرهم كان قبض عليهم لأول الهزيمة وأمسكهم عنده. فلما بلغه قتل منكبرس قتلهم جميعاً وانصرف العسكران منهزمين وقصد مسعود أذربيجان وداود همـذان. وجـاء إليه الراشد بعد الوقعة وأشار بوزابة وكان كبير القوم بمسيرهم فسار بهم إلى فارس فملكها وأضافها إلى خوزستان. وسار سلجوق شاه ابن السلطان مسعود ليملكها فدافعه عنها البقش الشحنة ومطر الخادم أمير الحاج وثار العيارون أيام تلك الحرب وعظم الهرج ببغداد ورحل الناس عنها إلى البلاد. فلمـا انصـرف سلجـوق شاه واستقر البقش الشحنة فتك فيهم بالقتل والصلب. ولما قتل صدقة بن دبيس ولى السلطان على الحلة محمداً أخاه وجعل معه مهلهلاً أخا عنتر بن أبي العسكر يدبره. ولما وصل الراشد والملك داود إلى خوزستان مع الأمراء على ما ذكرنا وملكوا فارس ساروا إلى العراق ومعهم خوارزم شاه. فلما قاربوا الجزيرة خرج السلطان مسعود لمدافعتهم فافترقوا ومضى الملك داود إلى فارس وخوارزم شاه إلى بلاده وبقي الراشد وحده فسار إلى أصبهـان فوثـب عليـه فـي طريقـه نفـر مـن الخراسانيـة الذيـن كانـوا فـي خدمتـه فقتلـوه فـي القيلولـة خامس وعظم أمر هذه الفتنة واختلفت الأحوال والمواسم وانقطعت كسوة الكعبة في هذه السنة من دار الخلافة من قبل السلاطين حتى قام بكسوتها تاجر فارسي من المترددين إلى الهند أنفق فيها ثمانية عشر ألف دينار مصرية وكثر الهرج من العياريـن حتـى ركـب زعماؤهـم الخيـول وجمعوا الجموع وتستر الوالي ببغداد بلباس ابن أخيه سراويل الفتوة عن زعيمهم ليدخل في جملتهـم وحتـى هـم زعيمهـم بنقـش اسمـه فـي سكـة بانبار فحاول الشحنة والوزير على قتله فقتل ونسب أمر العيارين إلى البقش الشحنة لما أحدث من الظلم والعسف فقبض عليه السلطان مسعـود وحبسـه بتكريـت عنـد مجاهد الدين بهروز ثم أمر بقتله فقتل. ثم قدم السلطان مسعود في ربيع سنة ثلاث وثلاثين في الشتاء وكان يشتي بالعراق ويصيف بالجبال. فلما قدم أزال المكـوس وكتـب بذلـك فـي الألـواح فنصبـت فـي الأسـواق وعلـى أبواب الجامع ورفع عن العامة نزول الجند عليهم فكثر الدعاء له والثناء عليه. |
وزارة الخليفة
وفي سنة أربـع وثلاثيـن وقـع بيـن المقتفـي ووزيـره علـي بـن طـراد الزينبـي وحشـة بمـا كـان يعتـرض علـى المقتفـي فـي أمـره فخـاف واستجـار بالسلطـان مسعـود فأجـاره وشفـع إلـى المقتفي في إعادته فامتنع وأسقـط اسمه من الكتب واستناب المقتفي ابن عمه قاضي القضاة والزينبي ثم عزله واستناب شديد الدولة الانباري. ثم وصل السلطان إلى بغداد سنة ست وثلاثين فوجد الوزير شرف الدين الزينبي في داره فبعث وزيره إلى المقتفي شفيعاً في إطلاق سبيله إلى بيته فأذن له انتهى. الشحنة ببغداد وفي سنة سـت وثلاثيـن عـزل مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد وولى كزل أميراً آخر من مماليك السلطان محمود فكان على البصرة فأضيف إليه شحنكية بغداد ولما وصل السلطان مسعود إلى بغداد ورأى تبسط العيارين وفسادهم أعاد بهروز شحنة ولـم ينتفـع النـاس بذلـك لـأن العياريـن كانـوا يتمسكـون بالجـاه من أهل الدولة فلا يقدر بهروز على منعهم وكان ابن الوزير وابن قاروت صهر السلطان يقاسمانهم فيما يأخذون من النهب. واتفق سنة ثمان وثمانين أن السلطان أرسل نائب الشحنكية ووبخه على فساد العيارين فأخبره بشأن صهـره وابـن وزيـره فأقسـم ليصلبنـه إن لـم يصلبهمـا فأخـذ خاتمـه علـى ذلـك وقبض على صهره ابن قاروت فصلبه وهرب ابن الوزير وقبض على أكثر العيارين وافترقوا وكفى الناس شرهم. انتقاض الأعياض واستبداد الأمراء على الأمير مسعود وقتله إياهم وفي سنة أربعين سار بوزابة صاحب فارس وخوزستان وعساكره إلى قاشان ومعه الملك محمـد ابـن السلطان محمود واتصل بهم الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد ولقي بوزابة الأمير عباس صاحب الري وتآمرا في الانتقاض على السلطان مسعود وملكا كثيراً من بلاده فسار السلطان مسعود عن بغداد ونزل بها الأمير مهلهل والخادم مطر وجماعة من غلمـان بهـروز. وسار معه الأمير عبد الرحمن طغرلبك وكان حاجبه ومتحكماً في دولته وكان هواه مع ذينك الملكين فسار السلطان وعبد الرحمن حتى تقارب العسكران فلقي سليمان شاه أخاه مسعوداً فحنـق عليـه وجـرى عبـد الرحمـن فـي الصلـح بيـن الفريقيـن وأضيفت وظيفة أذربيجان وأرمينية إلى ما بيده. وسار أبـو الفتـح بـن هزارشـب وزيـر السلطـان مسعـود ومعـه وزيـر بوزابـة فاستبـدوا علـى السلطان وحجروه عن التصرف فيما يريده وكان بك أرسلان بن بلنكري المعروف بخاص بك خالصـة للسلطـان بمـا كـان مـن تربيته فداخلوه واستولوا به على هوى السلطان بكل معنى. وكان صاحب خلخال وبعض أذربيجان فلما عظم تحكمه أسر السلطان إلى خاص بك بقتل عبد الرحمـن فـدس ذلك إلى جماعة من الأمراء وقتلوه في موكبه ضربه بعضهم بمقرعة حديد فسقط إلـى الـأرض ميتـاً وبلـغ إلـى السلطـان مسعـود ببغـداد ومعـه عبـاس صاحـب الـري فـي عسكر أكثر من عسكره فامتعض لذلك فتلطف له السلطان واستدعاه إلى داره فلما انفرد عن غلمانه أمر به فقتل. وكان عباس من غلمان السلطان محمود وولي الري وجاهد الباطنية وحسنـت آثـاره فيهـم. وكـان مقتلـه فـي ذي القعـدة سنـة إحـدى وأربعيـن. ثـم حبـس السلطـان مسعود أخاه سليمان شاه بقلعة تكريت وبلغ مقتل عباس إلى بوزاية فجمع عساكره من فارس وخوزستان وسار إلـى أصبهـان فحاصرهـا ثـم سـار إلـى السلطـان مسعـود والتقيـا بمـرج قراتكيـن فقتـل بوزابـة قيـل بسهم أصابه وقيل أخذ أسيراً وقتل صبراً وانهزمت عساكره إلى همذان وخراسان. انتقاض الأمراء ثانية علي السلطان ولما قتل السلطان من قتل من أمرائه استخلص الأمير خاص بك وأنفذ كلمته في الدولة ورفع منزلته فحسده كثير من الأمراء وخافـوا غائلتـه وسـاروا نحـو العـراق وهـم ايلدكـر المسعـودي صاحب كنجة وارانية وقيصر والبقش كون صاحب أعمال الجبل وقتل الحاجـب وطرنطـاي المحمـودي شحنـة واسـط وابـن طغابـرك. ولمـا بلغـوا حلـوان خـاف النـاس بأعمـال العـراق وعنـي المقتفي بإصلاح السور وبعث إليهم بالنهي عن القدوم فلم ينتهوا ووصلوا في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين والملك محمد ابن السلطان محمود معهم ونزلوا بالجانب الشرقي وفارق مسعود جلال الشحنة ببغداد إلى تكريت ووصل إليهم علي بن دبيس صاحب الحلة ونزل بالجانب الغربي. وجند المقتفي أجناداً وقتلوهم مع العامة فكانوا يستطردون للعامة والجنـد حتـى يبعـدوا ثـم يكرون عليهم فيثخنوا فيهم. ثم كثر عيثهم ونهبهم. ثم اجتمعوا مقابل التاج وقبلوا الأرض واعتذروا وترددت الرسل ورحلوا إلى النهروان. وعاد مسعود جلال الشحنـة مـن تكريـت إلـى بغـداد وافتـرق هـؤلاء الأمـراء وفارقـوا العـراق والسلطـان مـع ذلـك مقيـم ببلـد الجبـل. وأرسـل عمـه سنجـر إلـى الـري سنـة أربـع وأربعين فبادر إليه مسعـود وترضـاه فأعتبـه وقبـل عـذره. ثـم جـاءت سنـة أربـع وأربعيـن جماعـة أخـرى مـن الأمراء وهم البقش كون والطرنطاي وابن دبيس وملك شاه ابن السلطان محمود فراسلوا المقتفي في الخطبة لملـك شـاه فلم يجبهم وجمع العساكر وحصن بغداد وكاتب السلطان مسعودا بالوصول إلى بغداد فشغلـه عمـه سنجـر إلـى الـري. ولما علم البقش مراسلة المقتفي إلى مسعود نهب النهروان وقبض علـى علـي بـن دبيـس وهـرب الطرنطـاي إلـى النعمانية ووصل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف شوال ورحل البقش كون من النهروان وأطلق ابن دبيس. وزارة المقتفي وفي سنة أربع وأربعين استوزر المقتفي يحيى بن هبيرة وكان صاحب ديوان الزمام وظهرت منه كفاية في حصار بغداد فاستوزره المقتفي. وفاة السلطان مسعود وملك ملك شاه ابن أخيه محمود ثم توفي السلطان مسعود أول رجب سنة سبع وأربعين وخمسمائة لإحدى وعشرين سنة من بيعته وعشرين من عوده بعد منازعة إخوته. وكان خاص بك بن سلمكري متغلباً على دولته فبايع لملك شاه ابن أخيه السلطان محمود وخطب له بالسلطنة في همذان وكان هذا السلطان مسعـود آخـر ملـوك السلجوقيـة عـن بغـداد. وبعـث السلطـان ملـك شـاه الأمير شكاركرد في عسكر إلى الحلة فدخلها وسار إليه مسعود جلال الشحنة وأظهر له الاتفاق. ثم قبض عليه وغرقه واستبـد بالحلـة. وأظهـر المقتفـي إليـه العساكـر مـع الوزيـر عون الدولة والدين بن هبيرة فعبر الشحنة إليهم الفرات وقاتلهم فانهزموا. وثار أهل الحلة بدعوة المقتفي ومنعوا الشحنة من الدخول فعاد إلى تكريت. ودخل ابن هبيرة الحلة وبعث العساكر إلى الكوفة وواسط فملكوها وجاءت عساكر السلطان إلـى واسـط فغلبـوا عليهـا عسكـر المقتفـي فتجهـز بنفسـه وانتزعها من أيديهم وسار منها إلى الحلة. ثم عاد إلى بغداد في عشر ذي القعدة. ثم إن خاص بك المتغلب على السلطان ملك شاه استوحش وتنكر وأراد الاستبداد فبعث عن الملك محمد ابن السلطان محمد بخوزستان سنة ثمـان وأربعيـن فبايعـة أول صفر وأهدى إليه وهو مضمر الفتك فسبقه السلطان محمد لذلك وقتله ثانـي يوم البيعة ايدغدي التركماني المعروف بشملة من أصحاب خاص بك ونهاه عن دخوله إلى السلطان محمد فلم يقبل. فلما قتل خاص بك نهب شملة عسكره ولحق بخوزستان. وكان خاص بك صبياً من التركمان اتصل بالسلطان مسعود واستخلصه وقدمه على سائر الأمراء. حروب المقتفي مع أهل الخلاف وحصار البلاد ثم بعث المقتفي عساكره لحصار تكريت مع ابن الوزير عون الدين والأمير ترشك من خواصه وغيرهمـا ووقـع بينـه وبيـن ابـن الوزيـر منافـرة خشـي لهـا ترشـك على نفسه فصالح الشحنة صاحب تكريت وقبض على ابن الوزير والأمراء وحبسهم صاحب تكريت وغرق كثير منهم. وسار ترشـك والشحنـة إلـى طريـق خراسـان فعاثـوا فيهـا وخـرج المقتفـي فـي اتباعهـم فهربـا بيـن يديه ووصل تكريـت وحاصرهـا أيامـاً. ثـم رجع إلى بغداد وبعث سنة تسع وأربعين بتكريت في ابن الوزير وغيره من المأسورين فقبض على الرسول فبعث إليهم عسكراً فامتنعوا عليه. فسار المقتفي بنفسـه فـي صفـر مـن سنته وملك تكريت وامتنعت عليه القلعة فحاصرها ورجع في ربيع. ثم بعث الوزير عون الدين في العساكر لحصارها واستكثر من الآلات وضيق عليها. ثم بلغه الخبر بأن شحنة مسعود وترشك وصلا في العساكر ومعهم الأمير البقش كون وأنهما استحثا الملك محمداً لقصد العراق فلم يتهيأ له فبعث هذا العسكر معهم وانضاف إليهم خلق كثيـر مـن التركمـان فسـار المقتفي للقائهم. وبعث الشحنة مسعود عن أرسلان ابن السلطان طغرل بن محمد وكان محبوساً بتكريت فأحضره عنه ليقاتل به المقتفي والتقوا عند عقر بابل فتنازلوا ثمانية عشر يوماً ثم تناجزوا آخر رجب فانهزمت ميمنة المقتفـي إلـى بغـداد ونهبـت خزائنـه وثبـت هو واشتد القتال وانهزمت عساكر العجم وظفر المقتفي بهم وغنم أموال التركمان وسبى نساءهم وأولادهم. ولحق البقش كون ببلد المحلو وقلعة المهاكين وأرسلان بـن طغـرل ورجـع المقتفي إلى بغداد أول شعبان. وقصد مسعود الشحنة وترشك بلد واسط للعيث فيها فبعث المقتفي الوزير ابن هبيرة في العساكر فهزمهم. ثم عاد فلقيه المقتفي سلطان العراق وأرسلان بن طغرل وبعث إليه السلطان محمد في إحضاره عنده. ومات البقش في رمضان من سنته وبقي أرسلان مع ابن البقش وحسن الخازنداد فحملاه إلى الجبل ثم سارا به إلى الركن زوج أمه وهو أبو البهلوان وأرسلان وطغـرل الذي قتله خوارزم شاه وكان آخر السلجوقية ثلاثتهم أخوة لأم. ثم سار المقتفي سنة خمسيـن إلـى دقوقـا فحاصرهـا أيامـاً ثـم رجـع عنهـا لأنه بلغه أن عسكر الموصل تجهز لمدافعته عنها فرحل. استيلاء شملة علي خوزستان قد ذكرنا من قبل شأن شملة وأنه من التركمان واسمه ايدغدي وأنه كان من أصحاب خاص بك التركماني وهرب يوم قتل السلطان محمد صاحبه خاص بك بعد أن حذره منه فلم يقبل ونجا من الواقعة فجمع جموعاً وسار يريد خوزستان وصاحبهما يومئذ ملك شاه ابن السلطان محمـود بـن محمـد. وبعـث المقتفـي عساكـره لذلـك فلقيهـم شملـة في رجب وهزمهم وأسر وجوههم. ثـم أطلقهـم وبعـث إلـى الخليفـة يعتذر فقبل عذره وسار إلى خوزستان فملكها من يد ملك شاه ابن السلطان محمود. إشارة إلى بعض أخبار السلطان سنجر بخوزستان ومبدأ دولة بني خوارزم شاه كان السلطان سنجر من ولد السلطان ملك شاه لصلبه ولما استولى بركيارق بن ملك شاه علـى خوزستـان سنـة تسعيـن وأربعمائـة مـن يـد عمـه أرسلـان أرغـون كما نذكر في أخبارهم عند تفردهـا مستوفـى ولـى عليهـا أخـاه سنجـر وولـى علـى خـوارزم محمد بن أنوش تكين من قبل الأمير داود حبشي بن أليوساق. ثم لما ظهر السلطان محمد ونازع بركيارق وتعاقبا في الملك وكان سنجـر شقيقاً لمحمد فولاه على خراسان ولم يزل عليها. ولما اختلف أولاد محمد من بغده كان عقيـد أمرهـم وصاحـب شوراهـم إذ خلـف لـه ببغـداد مقدمـاً اسمه على اسم سلطان العراق منهم سنـة ثـم خرجـت أمـم الخطـا من الترك من مفازة الصين وملكوا ما وراء النهر من يد الجابية ملوك تركستان سنة ست وثلاثين كما نذكر في أخبارهم. وسار سنجر لمدافعتهم فهزموه فوهن لذلك فاستعد عليه خوارزم شاه بعض الشيء. وكان الخلفاء لما ملكوا بلاد تركستان أزعجوا الغز عنها إلى خراسان وهم بقية السلجوقية هناك. وأجاز السلجوقية لأول دولتهـم إلـى خراسـان فملكوهـا وبقـي هـؤلاء الغـز بنواحـي تركستـان فأجـازوا أمـام الخطـا إلـى خراسـان وأقامـوا السلطـان بهـا حتـى عتـوا ونمـوا. ثـم كثر عيثهم وفسادهم وسار إليهم السلطان سنجر سنة ثمان وأربعين فهزموه واستولوا عليه وأسروه وملكـوا بلـاد خراسان وافترق أمراؤه على النواحي. ثم ملكوه وهو أسير في أيديهم ذريعة لنهب البلـاد واستولـوا بـه علـى كثيـر منهـا وهـرب مـن أيديهـم سنـة إحـدى وخمسيـن ولـم يقـدر علـى مدافعتهـم. ثم توفي سنة اثنتين وخمسين وافترقـت بلـاد خراسـان علـى أمرائـه كمـا يذكـر فـي أخبارهـم. ثـم تغلـب بنـو خوارزم شاه عليها كلها وعلى أصبهـان والـري مـن ورائهـا وعلـى أعمـال غزنـة مـن يـد بنـي سبكتكين وشاركهم فيها النور بعض الشيعة وقام بنو خوارزم شاه مقام السلجوقية إلى أن انقرضت دولتهم على يد جنكزخان ملك التتر من أمم الترك في أوائل المائة السابعة كما يذكر ذلك كله في أخبار كل منهم عندما نفردها بالذكر إن شاء الله تعالى. الخطبة ببغداد لسليمان شاه ابن السلطان محمد وحروبه مع السلطان محمد بن محمود كـان سليمـان بن محمد عند عمه سنجر بخراسان منذ أعوام وقد جعله ولي عهده وخطب له بخراسـان. فلمـا غلـب الغـز علـى سنجـر وأسروه تقدم سليمان شاه على العساكر ثم غلبتهم الغز فلحق بخوارزم شاه فصاهره أولاً بابنة أخيه ثم تنكر فسار إلى أصبهان فمنعه شحنتها من الدخول فسار إلى قاشان فبعث إليه السلطان محمد شاه بن محمود فقصد اللحف ونزل على السيد محسن وبعث إلى المقتفي ليستأذنه في القدوم وبعث زوجته وولده رهناً على الطاعة والمناصحة فأذن له وقدم في خف من العساكر ثلثمائة أو نحوها وأخرج الوزير عون الدين بن هبيرة ولده لتلقيه ومعه قاضي القضاة والنقباء ودخل وعلى رأسه الشمسية وخلع عليه. ولما كان المحرم من سنة إحدى وخمسين حضر عند المقتفي بمحضر قاضي القضاة وأعيان العباسيين واستحلفه على الطاعة وأن لا يتعرض للعراق. ثم خطب له ببغداد وبلقـب أبيـه السلطان محمد وبعث عسكرا نحو ثلاثة آلاف واستقدم داود صاحـب الحلـة فجعـل لـه أمـر الحجابـة وسار نحو الجبل في ربيع. وسار المقتفي إلى حلوان وسار إلى ملك شاه بن محمود أخي سليمان صاحب خوزستان فاستحلفه لسليمان شاه وجعله ولي عهده وأمدهما بالمال والأسلحة وساروا إلى همذان وأصبهان وجاءهم المذكر صاحب بلاد أران فكثر جمعهم وبلغ خبرهم السلطان محمد بن محمود فبعث إلى قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل ونائبه زين الدين ليستنجدهما فأجاباه وسار للقاء سليمان شاه وأصحابه فالتقوا في جمادى وانهزم سليمان شاه وافترقت عساكره. وسار المذكر إلى بلاده وسار سليمان شاه إلى بغداد وسلك على شهرزور فاعترضه زين الديـن علـي كوجـك نائـب قطـب الديـن بالموصـل وكـان مقطع شهرزور الأمير بران من جهة زين الدين فاعترضاه وأخذاه أسيراً وحمل زين الدين إلى الموصل فحبسه بقلعتها وبعث إلى السلطان محمد بالخبر. حصار السلطان محمد بغداد كـان السلطان محمد قد بعث إلى المقتفي في الخطبة له ببغداد فامتنع من إجابته ثم بايع لعمه سليمان وخطب له وكان ما قدمناه من أمره معه. ثم سار السلطان محمد من همذان في العساكـر نحـو العـراق فقـدم فـي ذي الحجة سنة إحدى وخمسين وجاءته عساكر الموصل مدداً من قبل قطب الدين ونائبه زين الدين واضطربت الناس ببغداد وأرسل المقتفي عـن فضلوبـواش صاحب واسط فجاء في عسكره وملك مهلهل الحلة فاهتم ابن هبيرة بأمر الحصار وجمع السفن تحت الناحي وقطع الجسر وأجفل الناس من الجانب الغربي ونقلت الأموال إلى حريم دار الخلافة. فرق المقتفي السلاح في الجند والعامة ومكثوا أياماً يقتتلون ومد لسلطان جسراً على دجلة فعبر على الجانب الشرقي حتى كان القتال في الجانبين. ونفذت الأقوات في العسكر واشتد القتال والحصار على أهل بغداد لانقطاع الميرة والظهر من عسكـر الموصـل لـأن نـور الديـن محمـود بـن زنكي وهو أخو قطب الدين الأكبر بعث إلى زين الدين يلومه على قتال الخليفة. ثم بلغ السلطان محمداً أن أخاه ملك شاه والمذكر صاحب بلاد أران وأرسلـان ابـن الملـك طغـرل بـن محمـد سـاروا إلـى همـذان وملكوهـا فارتحـل عـن بغـداد في آخر ربيع سنة اثنتين وخمسين. وسار إلى همذان وعاد زين الدين كوجك إلى الموصل. ولمـا قصـد السلطان محمد همذان صار ملك شاه والمذكر ومن معهما إلى الري فقاتلهم شحنتها آبنايـخ وهزمـوه وأمـده السلطان محمد بالأمير سقمان بن قيماز فسار لذلك ولقيهما منصرفين عن الري قاصدين بغداد فقاتلهما وانهزم أمامهما فسار السلطان في أثرهما إلى خوزستان فلمـا انتهى إلى حلوان جاءه الخبر بأن المذكر بالدينور وبعث إليه ابنايخ بأنه استولى على همذان وأعـاد خطبته فيها فافترقت جموع ملك شاه والمذكر وفارقهم شملة صاحب خوزستان فعادوا هاربين إلى بلادهم وعاد السلطان محمد إلى همذان. |
حروب المقتفي مع أهل النواحي
كان سنقر الهمذاني صاحب اللحف وكان في هـذه الفتنـة قـد نهـب سـواد بغـداد وطريـق خراسان فسار المقتفي لحربه في جمادى سنة ثلاث وخمسين وضمن له الأمير خطلو برس إصلاحـه فسـار إليـه خالـه على أن يشرك المقتفي معه في بلد اللحف الأمير أزغش المسترشدي فأقطعها لهمـا جميعـاً ورجـع. ثـم عـاد سنقـر علـى أزغـش وأخرجـه وانفـرد ببلـده وخطـب للسلطـان محمـد فسـار إليـه خطلـو بـرس من بغداد في العساكر وهزمه وملك اللحف وسار سنقر إلى قلعة الماهكي للأمير قايماز العميدي ونزلها في أربعمائة ألف فارس. ثم سار إليه سنقر سنة أربع وخمسين فهزمه ورجع إلى بغداد فخرج المقتفي إلى النعمانية وبعـث العساكر مع ترشك فهرب سنقر في الجبال ونهب ترشك مخلفه وحاصر قلعة الماهكي. ثم عاد إلى البندنجين وبعث بالخبر إلى بغداد ولحق سنقر بملك شاه فأمده بخمسمائة فارس وبعـث ترشـك إلـى المقتفـي فـي المـدد فأمده وبعث إليه سنقر في الإصلاح فحبس رسوله وسار إليـه فهزمـه واستبـاح عسكـره ونجـا سنقـر جريحـاً إلـى بلـاد العجـم فأقام بها. ثم جاء بها سنة أربع وخمسيـن إلـى بغـداد وألقـى نفسـه تحـت التـاج فرضـي عنه المقتفي وأذن له في دخول دار الخلافة. ثـم زحـف إلـى قايمـاز السلطـان فـي ناحية بادرايا سنة ثلاث وخمسين فهزمه وقتله وبعث المقتفي عساكره لقتال شملة فلحق بملك شاه. وفاة السلطان محمد بن محمود وملك عمه سلطان شاه ثم أرسلان بن طغرل ثم إن السلطان محمد بن محمود بن ملك شاه لما رجع عن حصار بغداد أصابه مرض السل وطـال بـه وتوفـي بهمـذان فـي ذي الحجـة سنـة أربـع وخمسيـن لسبـع سنيـن ونصـف مـن ملكـه وكان له ولد فيئس من طاعة الناس له ودفعه لأقسنقر الأحمديلي وأوصاه عليه فرحل به إلى مراغة. ولمـا مـات السلطـان محمـد اختلـف الأمـر فيمـن يولونه ومال الأكثر إلى سليمان شاه عمه وطائفة إلى ملك شاه أخيه وطائفة إلى أرسلان ابن السلطان طغرل الذي مع الدكز ببلاد أران. وبـادر ملكشاه أخوه فسار من خوزستان ومعه شملة التركماني ودكلا صاحب فارس ورحـل إلـى أصبهـان فأطاعه ابن الخجندي وأنفق عليه الأموال. وبعث إلى عساكر همذان في الطاعة فلم يجيبوه وأرسل أكابر الأمراء من همذان إلى قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في سليمان شاه المحبوس عنده ليولوه عليهم وذلك أول سنة خمس وخمسين فأطلقه على أن يكون أتابكاً له وجمال الدين وزيره وزيراً وجهزه بجهاز السلطنة وبعث معه نائبـه زيـن الديـن علـي كوجـك فـي عسكـر الموصـل. فلما قاربوا بلاد الجبل وأقبلت العساكر من كل جهة على السلطان سليمـان ارتـاب كوجـك لذلـك وعـاد إلى الموصل فلم ينتظم أمر سليمان ودخل همذان وبايعوا له وخطب له ببغداد. وكثرت جموع ملك شاه بأصبهان وبعث إلى بغداد في الخطبة وأن يقطع خطبة عمه ويراجع القواعد بالعراق إلى ما كانت فوضع عليه الوزير عون الدين بن هبيرة جارية بعث بها إليه فسمته فمات سنة خمس وخمسين فأخرج أهـل أصبهـان أصحابـه وخطبـوا لسليمـان شـاه. وعاد شملة إلى خراسان فملك كل ما كان ملك شاه تغلب عليه منها. واستقر سليمان شاه بتلك البلاد وشغل باللهو والسكر ومنادمة الصفاعين وفوض الأمور إلى شرف الدين دواداره من مشايخ السلجوقية كان ذا دين وعقل وحسن تربية فشكا الأمراء إليه فدخل عليه وعذله وهو سكـران فأمـر الصفاعيـن بالـرد عليـه وخـرج مغضبـاً. وصحـا سليمـان فاستـدرك أمـره بالاعتذار فأظهر القبول واجتنب الحضور عنده. وبعث سليمان إلـى ابنايـخ صاحـب الـري يستقدمه فاعتذر بالمرض إلى أن يفيق. ونمـي الخبـر إلى كربازة الخادم فعمل دعوة عظيمة حضرها السلطان والأمراء وقبض عليه وعلى وزيره أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي وعلى أصحابه في شوال من سنة ست وخمسين فقتل وزيره وخواصه وحبسه أياماً. وخرج ابنايخ صاحب الري ونهب البلاد وحاصر همذان وبعث كردبار إلى الدكز يستدعيه ليبايع لربيبه أرسلان شاه بن طغرل فسار في عشرين ألف فارس ودخل همذان وخطـب لربيبه أرسلان شاه بن طغرل بالسلطنة وجعل الدكز أتابكاً له وأخاه من أمه البهلول ابن الدكز حاجبـاً. وبعـث إلـى المقتفـي فـي الخطبـة وأن تعاد الأمور إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود فطـرد رسولـه وعاد إليه على أقبح حالة. وبعث إلى ابنايخ صاحب الري فحالفه على الاتفاق وصاهره في ابنته على البهلول وجاءت إليه بهمذان وكان الدكز من مماليك السلطان مسعود وأقطعه أران وبعض أذربيجان ولـم يحضـر شيئـاً مـن الفتنـة وتـزوج أم أرسلـان شـاه وزوجـه طغرل فولدت له محمد البهلوان وعثمان كزل أرسلان. ثم بعث الدكز إلى أقسنقر الأحمديلي صاحـب مراغـة فـي الطاعـة لأرسلـان شـاه ربيبـه فأمتنـع وهددهـم بالبيعة للطفل الذي عنده محمود بـن ملـك شـاه. وقـد كـان الوزيـر ابـن هبيـرة أطمعـه في الخطبة لذلك تطفل فيما بينهم فجهز الدكز العساكر مع ابنه البهلوان وسار إلى مراغة واستمد أقسنقر ساهرمز صاحب خلاط فأمـده بالعساكر والتقى أقسنقر والبهلوان فانهزم البهلوان وعاد إلى همذان. وعاد أقسنقر إلى مراغة ظافراً. وكان ملك شاه بن محمود لما مات بأصبهان مسموماً كما ذكرنا لحق طائفة من أصحابه ببلاد فارس ومعه ابنه محمود فقبض عليه صاحب فارس زنكي بن دكلا السلفري بقلعة اصطخر. ولما مات بعث الدكز إلى بغداد في الخطبة لربيبه أرسلان وشرع الوزير عون الدين أبو المظفر يحيـى بـن هبيـرة فـي التصريـف بينهـم بعـت ابـن دكـلا وأطمعـه فـي الخطبـة لمحمود بن ملك شاه الذي عنـده أن ظفر بالدكز فأطلقه ابن دكلا وبايع له وضرب الطبل على بابه خمس نوب وبعث إلى ابنايخ صاحب الري فوافقه وسار إليه في عشرة آلاف. وبعث إليه أقسنقر الأحمديلي وجمع الدكز العساكر وسار إلى أصبهان يريد بلاد فارس. وبعث إلى صاحبها زنكي بن دكلا في الطاعـة لربيبـه أرسلـان فأبـى وقـال إن المقتفي أقطعني بلاده وأنا سائر إليه. واستمد المقتفي وابن هبيـرة فواعـدوه وكاتبـوا الأمـراء الذيـن مـع الدكـز بالتوبيـخ علـى طاعتـه والانحراف عنه إلى زنكي بن دكلا صاحب فارس وابنايخ صاحب الري وبدأ الدكز بقصد ابنايخ. ثم بلغه أن زنكي بن دكلا نهب سميرم ونواحيها فبعث عسكراً نحواً من عشرة آلاف فارس لحفظها فلقيهم زنكي فهزمهـم فبعـث الدكـز إلـى عساكر أذربيجان فجاء بها ابنه كزل أرسلان. وبعث زنكي بن دكلا العساكر إلى ابنايخ ولم يحضر بنفسه خوفاً على بلاد شملة من صاحب خوزستان. ثم التقى الدكـز وابنايـخ فـي شعبـان سنـة سـت وخمسين فانهزم ابنايخ واستبيح عسكره وحاصره الدكز ثم صالحه ورجع إلى همذان. وفاة المقتفي وخلافة المستنجد وهـو أول الخلفـاء المستبديـن علـى أمرهـم من بني العباس عند تراجع الدولة وضيق نطاقها ما بين الموصل وواسط والبصرة وحلوان ثـم توفـي المقتفـي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر في ربيع الأول سنة خمس وخمسين لأربع وعشرين سنة وأربعة أشهر من خلافته وهو أول من استبد بالعراق منفرداً عن سلطان يكـون معـه مـن أول أيـام الديلم فحكم على عسكره وأصحابه فيما بقي لمملكتهم من البلدان بعد استبـداد الملـوك فـي الأعمـال والنواحـي. ولمـا اشتد مرضه تطاول كل من أم ولده إلى ولاية ابنها. وكانت أم المستنجد تخاف عليه وأم أخيه علي تروم ولاية أبنها واعتزمت على قتل المستنجد واستدعته لزيارة أبيه وقد جمعت جواريها وآتت كل واحدة منهن سكيناً لقتله وأمسكت هي وابنهـا سيفيـن وبلـغ الخبـر إلـى يوسـف المستنجـد فأحضـر إستـادار أبيه وجماعة من الفراشين وأفرغ السلاح ودخل معهم الدار وثار به الجواري فضرب إحداهن وأمكنها فهربوا وقبض على أخيه علـى وأمـه فحبسهـا وقسـم الجـواري بيـن القتـل والتغريق حتى إذا توفى المقتفي جلس للبيعة فبايعه أقاربه أولهم عمه أبو طالب ثم الوزير عون الدين بن هبيرة وقاضي القضاة وأرباب الدولة والعلماء وخطب لـه. وأقـر ابـن هبيـرة علـى الـوزارة وأصحـاب الولايـات علـى ولايتهـم وأزال المكوس والضرائب وقرب رئيس الرؤسـاء وكـان استـادار فرفـع منزلتـه عبـد الواحـد المقتفـي وبعـث عـن الأميـر ترشـك سنة ست وخمسين من بلد اللحف وكان مقتطعاً بها فاستدعاه لقتال جمـع مـن التركمـان أفسـدوا فـي نواحـي البندنجيـن فامتنـع من المجيء وقال: يأتيني العسكر وأنا أقاتل بهـم فبعـث المستنجـد العساكـر مـع جماعـة مـن الأمـراء فقتلوه وبعثوا برأسه إلى بغداد. ثم استولى بعـد ذلـك علـى قلعـة الماهكـي من يد مولى سنقر الهمذاني ولاه عليها سنقر وضعف عن مقاومة التركمان والأكراد حولها فاستنزله المستنجد عنهـا بخمسـة عشـر ألـف دينـار وأقـام ببغـداد. وكانت هذه القلعة أيام المقتدر بأيدي التركمان والأكراد. اجتمعت خفاجة سنة ست وخمسين إلى الحلة والكوفة وطالبوا برسومهم من الطعام والتمر وكـان مقطـع الكوفـة أرغـش وشحنـة الحلة قيصر وهما من مماليك المستنجد فمنعوهما فعاثوا في تلك البلاد والنواحي فخرجوا إليهم في أثرهم واتبعوهم إلى الرحبة فطلبوا الصلح فلم يجبهم أرغـش ولا قيصـر فقاتلوهـم فانهزمـت العساكر وقتل قيصر وخرج أرغش ودخل الرحبة فاستأمـن لـه شحنتهـا وبعثـوه إلـى بغـداد. ومـات أكثـر النـاس عطشاً في البرية وتجهز عون الدين بن هبيـرة فـي العساكـر لطلـب خفاجة فدخلوا البرية ورجع وانتهت خفاجة إلى البصرة وبعثوا بالعدو وسألوا الصلح فأجيبوا. إجلاء بني أسد من العراق كـان فـي نفـس المستنجـد باللـه مـن بنـي أسـد أهـل الحلـة شـيء لفسادهـم ومساعدتهـم السلطـان محمد فـي الحصـار فأمـر يزدن بن قماج بإجلائهم من البلاد وكانوا منبسطين في البطائح فجمع العساكر وأرسـل إلـى ابـن معروف فقدم السفن وهو بأرض البصرة فجاءه في جموع وحاصرهم وطاولهم فبعـث المستنجـد يعاتبـه ويتهمـه بالتشيـع فجـز هـو وابـن معـروف فـي قتالهـم وسـد مسالكهـم فـي الماء فاستسلموا وقتل منهم أربعة آلاف ونودي عليهم بالملا من الحلة فتفرقوا في البلاد ولم يبق الفتنة بواسط وما جرت إليه كان مقتطـع البصـرة منكبـرس مـن موالـي المستنجـد وقتلـه سنـة تسـع وخمسيـن وولـى مكانـه كمستكيـن وكـان ابـن سنكـاه ابن أخي شملة صاحب خوزستان فانتهز الفرصة في البصرة ونهب قراها وأمر كمستكين بقتاله فعجز عن إقامة العسكر وأصعد ابن سنكاه إلى واسط ونهب سوادها. وكان مقتطعها خطلو برس فجمع الجموع وخرج لقتاله واستمال ابن سنكاه الأمراء الذين معه فخذلوه وانهزم وقتله ابن سنكاه سنة إحدى وستين ثم قصد البصرة سنة اثنتين وستين ونهب جهتها الشرقية وخرج إليه كمستكين وواقعـه وسـار ابـن سنكـاه إلـى واسـط وخافه الناس ولم يصل إليها. مسير شملة إلى العراق سـار شملـة صاحـب خوزستـان إلـى العـراق سنة اثنتين وستين وانتهى إلى قلعة الماهكي وطلب من المستنجد إقطاع البلاد واشتط في الطلب فبعث المستنجـد العساكـر لمنعـه وكتـب إليـه يحـذره عاقبة الخلاف فاعتذر بأن الدكز وربيبه السلطان أرسلان شاه أقطعا الملك الذي عنده وهو ابن ملك شاه بلاد البصرة وواسط والحلة وعرض للتوقيع بذلك وقال أنا أقنع بالثلث منه فأمـر المستنجـد حينئـذ بلعنـه وأنـه مـن الخـوارج وتعبـت العساكـر إلـى أرغمـش المسترشـدي بالنعمانيـة وإلـى شـرف الديـن أبـي جعفـر البلدي ناظر واسط ليجتمعا على قتال شملة وكان شملة أرسـل مليـح ابـن أخيـه فـي عسكـر لقتـال بعـض الأكراد فركب إليه أرغمش وأسره وبعض أصحابه وبعـث إلـى بغـداد وطلب شملة الصلح فلم يجب إليه. ثم مات أرغمش من سقطة سقطها عن فرسه وبقي العسكر مقيماً ورجع شملة إلى بلاده لأربعة أشهر من سفره. وفاة الوزير يحيى ثـم توفـي الوزيـر عـون الديـن يحيـى بـن محمـد بـن المظفـر بن هبيرة سنة ستين وخمسمائة في جمادى الأولى وقبض المستنجد على أولاده وأهله وأقامت الوزارة بالنيابة. ثم استوزر المستنجـد سنـة ثلاث وستين شرف الدين أبا جعفر أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن البلدي ناظر واسط وكان عضد الدين أبو الفرج بن دبيس قد تحكم في الدولة فأمره المستنجد بكف يده وأيدي أصحابه وطالب الوزير أخاه تاج الدين بحساب عمله بنهر الملك من أيام المقتفي وكذلك فعل بغيره فخافه العمال وأهل الدولة وحصل بذلك أموالاً جمة. وفاة المستنجد وخلافة المستضيء كان الخليفة المستنجد قد غلـب علـى دولتـه استـاذدار عضـد الديـن أبـو الفـرج ابـن رئيـس الرؤسـاء وكـان أكبـر الأمـراء ببغـداد وكـان يرادفـه قطب الدين قايماز المظفري. ولما ولى المستنجـد أبـا جعفـر البلـدي علـى وزارتـه غـض مـن استاذدار وعارضه في أحكامه فاستحكمت بينهمـا العداوة وتنكر المستنجد لاستاذدار وصاحبه قطب الدين فكانا يتهمان بأن ذلك بسعاية الوزيـر. ومـرض المستنجـد سنة ست وستين وخمسمائة واشتد مرضه فتحيلا في إهلاكه يقال إنهمـا واضعـاً عليـه الطبيـب وعلم أن هلاكه في الحمام فأشار عليه بدخوله فدخله وأغلقوا عليه بابـه فمـات. وقيـل كتـب المستنجـد إلى الوزير ابن البلدي بالقبض على استاذدار وقايماز وقتلهما وأطلعهما الوزير على كتابه فاستدعيـا يـزدن وأخـاه يتمـاش وفاوضهمـا وعرضـا عليهـم كتابـه واتفقـوا علـى قتلـه فحملـوه إلـى الحمام وأغلقوا عليه الباب وهو يصيح إلى أن مات تاسع ربيع من سنة ست وستين لإحدى عشرة سنة من خلافته. ولما أرجف بموته قبل أن يقبض ركب الأمراء والأجناد متسلحين وغشيتهم العامة واحتفـت بهم وبعث إليه استاذدار بأنه إنما كان غشياً عرضاً وقد أفاق أمير المؤمنين وخف ما به فخشـي الوزيـر مـن دخول الجند إلى دار الخلافة فعاد إلى داره وافترق الناس. فعند ذلك أغلق استاذدار وقايماز أبواب الدار وأحضر ابن المستنجد أبا محمد الحسن. وبايعاه بالخلافة ولمباه المستضيء بأمر الله وشرطا عليه أن يكون عضد الدين وزيـراً وابنـه كمـال الديـن استـاذادر وقطـب قايمـاز أميـر العسكـر فأجابهـم إلـى ذلـك وبايعـه أهـل بيتـه البيعـة الخاصـة. ثـم توفـي المستنجـد وبايعه الناس من الغد في التاج البيعة العامة وأظهر العدل وبذل الأموال وسقط في يد الوزير وندم على ما فرط واستدعي للبيعة فلما دخل قتلوه. وقبض المستضيء على القاضي ابن مزاحـم وكان ظلوماً جائراً واستصفاه ورد الظلامات منه على أربابها وولى أبا بكر بن نصر بن العطار صاحب المخزن ولقبه ظهير الدين. انتقاض الدولة العلوية بمصر وعود الدعوة العباسية إليها ولأول خلافة المستضيء كان انقراض الدولة العلوية بمصر والخطبة بهـا للمستضـيء مـن بنـي العباس في شهر المحرم فاتح سنة سبع وستين وخمسمائة قبل عاشوراء وكان آخر الخلفاء العبيدييـن بهـا العاضد لدين الله من أعقاب الحافظ لدين الله عبد المجيد وخافوا المستضيء معه ثامن خلفائهم وكان مغلباً لوزارته. واستولى شاور منهم وثقلت وطأته عليهم فاستقدم ابن شوار من أهل الدولة من الاسكندرية وفر شاور إلى الشام مستنجداً بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من أقسنقر وكان من مماليك السلجوقية وأمرائهم المقيمين للدعوة العباسية. وكـان صلـاح الديـن يوسف بن نجم أيوب بن الكردي هو وأبوه نجم الدين أيوب وعمه أسد الدين شيركـوه في جماعة من الأكراد في خدمة نور الدين محمود بالشام. فلما جاء شاور مستنجداً بعث معه هؤلاء الأمراء الأيوبية وكبيرهم أسد فأعاده إلى وزارته وقتل الضرغام ولم يوف له شاور بما ضمن له عند مسيره من الشام في نجدته. وكان الفرنج قد ملكوا سواحل مصر والشام وزاحموا ما يليها من الأعمال وضيقوا على مصر والقاهرة إلى أن ملكوا بلبيس وأيلـه عنـد العقبـة. واستولـوا علـى الدولـة العلويـة فـي الضرائـب والطلبات وأصبحوا مأوى لمن ينحني عن الدولـة. وداخلهـم شـاور في مثل ذلك فارتاب به العاضد وبعث عز الدين مستصرخاً به على الفرنج في ظاهر أمره ويسرحون في ارتعاء من إباة شاور والتمكن منه فوصل لذلك وولاه العاضد وزارته وقلده ما وراء بابه فقتـل الوزيـر شـاور وحسـم داءه وكـان مهلكـه قريبـاً مـن وزارته يقال لسنة ويقال لخمسين يوماً فاستوزر العاضد مكانه صلاح الديـن ابـن أخيـه نجـم الدين فقام بالأمر وأخذ في إصلاح الأحوال وهو يعد نفسه وعمه من قبله نائباً عن نور الدين محمود بن زنكي الذي بعثه وعمه للقيام بذلك. ولما ثبت قدمه بمصر وأزال المخالفين ضعف أمر العاضد وتحكم صلاح الدين في أموره وأقام خادمه قراقوش للولاية عليه في قصره والتحكم عليه فبعث إليه نور الدين محمود الملك العادل بالشام أن يقطع الخطبة للعاضد ويخطب للمستضيء ففعل ذلك علـى توقـع النكيـر مـن أهـل مصر. فلما وقع ذلك ظهر منه الاغتباط وانمحت آثار الدولة العلوية وتمكنت الدولة العباسية فكان ذلك مبدأ الدولة لبني أيوب بمصـر. ثـم ملكـوا مـن بعدهـا أعمـال نـور الديـن بالشـام واستضافـوا اليمـن وطرابلـس الغـرب واتسـع ملكهـم كمـا يذكـر في أخبارهم. ولما خطب للمستضيء بمصر كتب له نور الدين محمود من دمشق مبشراً بذلك فضربت البشائر ببغداد وبعث بالخلع إلى نور الدين وصلاح الدين مع عماد الدين صندل مـن خـواص المقتفويـة وهـو أستـاذدار المستضـيء فجـاء إلـى نـور الديـن بدمشق وبعث الخلع إلى صلاح الدين وللخطباء بمصر وبإسلـام السـواد. واستقـرت الدعـوة العباسيـة بمصر إلى هذا الجهد والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ثم بعث نور الدين محمود إلى المستضيء رسوله القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري قاضي بلاده يطلب التقليد لما بيده من الأعمال وهي مصر والشام والجزيرة والموصل وبما هو في طاعته كديار بكر وخلاط وبلاد الروم التي لقليـج أرسلـان وأن يقطـع صريعين ودرب هارون من بلاد سواد العراق كما كانتا لأبيه فأكرم الرسول وزاد في الإحسان خبر يزدن من أمراء المستضيء كان يزدن قد ولاه المستضيء الحلة فكانت في أعماله وكانت حمايتها لخفاجة وبني حزن منهم فجعلها يزدن لبني كعب منهم وأمرهم الغضبان فغضب بنو حزن وأغاروا عليهم على السواد وخـرج يـزدن فـي العسكـر لقتالهـم ومعه الغضبان وعشيرة بنو كعب فبينما هم ليلة يسيرون رمي الغضبان بسهم فمات فعادت العساكر إلى بغداد وأعيدت حفاظة السواد إلى بني حزن. ثم مات يزدن سنة ثمان وستين وكانت واسط من إقطاعه فاقتطعت لأخيه ايتامش ولقب علاء الدين. مقتل سنكاه بن أحمد أخي شملة قد ذكرنا في دولة المستنجد فتنة سنكاه هذا وعمه شملة صاحب خوزستان. ثم جاء ابن سنكاه إلى قلعة الماهكي فبنى بإزائها قلعة ليتمكن بها من تلك الأعمال فبعث المستضيء العسكر من بغداد لمنعه فقاتلهم واشتد قتاله. ثم انهزم وقتل وعلق رأسه ببغداد وهدمت القلعة. وفاة قايماز وهربه قد ذكرنا شأن قطب الدين قايماز وأنه الذي بايع للمستضيء وجعلـه أميـر العسكـر وجعلـه عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء وزيراً. ثم استفحل أمر قايماز وغلب على الدولة وحمل المستضيء على عزل عضد الدين أبي الفرج من الوزارة فلم يمكنه مخالفته وعزله سنة سبـع وستين فأقام معزولاً. وأراد الخليفة سنة تسع وتسعين أن يعيده إلى الوزارة فمنعه قطب الدين من ذلك وركب فأغلق المستضيء أبواب داره مما يلي بغداد وبعث إلى قايماز ولاطفه بالرجوع فيما هم من وزارة عضد الدين فقال لا بد من إخراجه من بغداد فاستجار برباط شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيـل فأجـاره واستطـال قايمـاز علـى الدولـة وأصهر على علاء الدين يتامش في أخته فزوجها منه وحملوا الدولة جميعاً. ثم سخط قايماز ظهير الدين بن العطار صاحب المخزن وكان خاصاً بالخليفة وطلبه فهرب فأحرق داره وجمع الأمراء فاستحلفهم على المظاهرة وأن يقصدوا دار المستضيء ليخرجوا منها ابن العطار فقصد المستضيء على سطح داره وخدامه يستغيثون ونادى في العامـة بطلـب قايماز ونهب داره فهـرب مـن ظهـر بيتـه ونهبـت داره وأخـذ منهـا مـا لا يحصـى مـن الأمـوال. واقتتل العامة على ولحق قايماز بالحلة وتبعه الأمراء وبعث إليه المستضيء شيخ الشيوخ عبد الرحيم ليسير عن الحلة إلى الموصل تخوفاً من عوده إلى بغداد فيعود استيلاؤه لمحبة العامة فيه وطاعتهـم لـه فسـار إلـى الموصـل وأصابـه ومـن معـه فـي الطريـق عطـش فهلك الكثير منهم وذلك في ذي الحجـة من سنة سبعين. وأقام صهره علاء الدين يتامش بالموصل. ثم استأذن الخليفة في القدوم إلى بغداد فقدم وأقام بها عاطلاً بغير إقطاع وهو الذي حمل قايماز على ما كان منه وولى الخليفة أستاذ داره سنجر المقتفوي ثم عزله سنة إحدى وسبعين وولى مكانه أبا الفضل هبة الله بن علي بن الصاحب. فتنة صاحب خوزستان قد ذكرنا أن ملك شاه بن محمود بن السلطان محمد استقر بخوزستان وذكرنا فتنة شملة مع الخلفـاء. ثـم مـات شملـة سنة سبعين وملك ابنه مكانه. ثم مات ملك شاه بن محمود وبقي ابنه بخوزستـان فجـاء سنـة اثنتيـن وسبعيـن إلـى العـراق وخـرج إلـى البندنجيـن وعاث في الناس. وخرج الوزيـر عضـد الديـن أبـو الفـرج فـي العساكـر ووصـل عسكـر الحلـة وواسـط مـع طاش تكين أمير الحاج وغـز علـي وسـاروا للقاء العدو وكان معه جموع من التركمان فأجفلوا ونهبتهم عساكر بغداد. ثم ردهـم الملـك ابـن ملـك شـاه وأوقعـوا بالعسكـر أيامـاً ثم مضى الملك إلى مكانه وعادت العساكر إلى بغداد. قد ذكرنا أخبار الوزير عضد الدين أبي الفرج محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفر بن رئيـس الرؤسـاء أبـي القاسـم بن المسلمة كان أبوه أستاذ دار المقتفي. ولما مات ولي ابنه مكانه. ولمـا مات المقتفي أقره المستنجد ورفع قدره ثم استوزره المستضيء وكان بينه وبين قايماز ما قدمناه وأعاد المستضيء للوزارة فلما كانت سنة ثلاث وسبعين استأذن المستضيء في الحج فأذن له وعبر دجلة فسافر في موكب عظيم من أرباب المناصب واعترضه متظلم ينـادي بظلامته ثم طعنه فسقط وجاء ابن المعوذ صاحب الباب ليكشف خبره فطعن الآخر وحملا إلـى بيتهمـا فماتـا. وولـي الوزيـر ظهيـر الديـن أبـو منصـور بـن نصـر ويعـرف بابـن العطـار فاستولـى على الدولة وتحكم فيها. وفاة المستضيء وخلافة الناصر ثـم توفـي المستضـيء بأمـر الله أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد في ذي القعدة سنة خمس وسبعين لتسع سنين ونصف من خلافته وقام ظهير الدين العطار في البيعة لابنه أبي العباس أحمـد ولقبـه الناصـر لديـن اللـه فقـام بخلافتـه وقبـض علـى ظهيـر الديـن بـن العطار وحبسه واستصفاه. ثم أخرجه من عشر ذي القعدة من محبسه ميتاً. وفطن به العامة. فتناوله العامة وبعثوا به وتحكم في الدولة أستاذ دار مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب وكان تولى أخذ البيعة للناصر مع ابن العطار وبعث الرسل إلى الآفاق لأخذ البيعة وسار صدر الدين شيخ الشيـوخ إلـى البهلـوان صاحـب همـذان وأصبهـان والـري فامتنـع مـن البيعـة فأغلظ له صدر الدين في القـول. وحـرض أصحابـه علـى نقـض طاعتـه إن لـم يبايـع فاضطـر إلـى البيعـة والخطبـة. ثـم قبـض سنـة ثلاث وثمانين على أستاذ دار أبي الفضل ابن الصاحب وقتله من أجل تحكمه وأخذ له أموالاً عظيمة. وكان الساعي فيه عند الناصر عبيد الله بن يونس من أصحابه وصنائعه فلم يزل يسعى فيه عند الناصر حتى أمر بقتله واستوزر ابن يونس هذا ولقبه جلال الدين وكنيته أبو المظفر ومشى أرباب الدولة في خدمته حتى قاضي القضاة. هدم دار السلطنة ببغداد وانقراض ملوك السلجوقية قد ذكرنا فيما تقدم ملك أرسلان شاه بن طغرل ربيب الدكز واستيلاء الدكز عليه وحروبه مـع ابنايـخ صاحـب الـري. ثـم قتلـه سنـة أربـع وستيـن واستولـى علـى الـري. ثـم توفي الدكز الأتابك بهمـذان سنـة ثمـان وستين وقام مكانه ابنه محمد البهلوان وبقي أخوه السلطان أرسلان بن طغرل فـي كفالتـه. ثـم مـات سنـة ثلـاث وستيـن ونصـب البهلـوان مكانـه ابنـه طغـرل. ثم توفي البهلوان سنة اثنتيـن وثمانيـن وفـي مملكتـه همـذان والـري وأصبهـان وأذربيجـان وأرانيـة وغيرهـا وفـي كفالتـه السلطان طغرل بن أرسلان. ولما مات البهلوان قام مكانه أخوه كزل أرسلان ويسمى عثمان فاستبد طغـرل وخـرج عـن الكفالـة ولحق به جماعة من الأمراء والجند واستولى على بعض البلاد ووقعت بينـه وبيـن كـزل حـروب. ثـم قـوي أمـر طغرل وكثر جمعه وبعث كزل إلى الناصر يحذره من طغرل ويستنجده ويبذل الطاعة على ما يختاره المستضيء رسوله فأمر بعمارة دار السلطنة ليسكنهـا. وكانت ولايتهم ببغداد والعراق قد انقطعت منذ أيام المقتفي فأكرم رسول كزل وعده بالنجدة وانصرف رسول طغرل بغير حرب. وأمر الناصر بهدم دار السلطنة ببغـداد فمحـا أثرهـا. ثـم بعـث الناصـر وزيـره جلـال الديـن أبا المظفر عبيد الله بن يونس في العساكر لإنجاد كزل ومدافعـة طغـرل عـن البلـاد فسـار لذلـك فـي صفـر لسنـة أربـع وثمانيـن واعترضهـم طغرل على همذان قبل اجتماعهم بكزل واقتتلوا ثامن ربيع وانهزمت عساكر بغداد وأسروا الوزير. ثم استولى كزل على طغرل وحبسه ببعض القلاع ودانت له البلاد وخطب لنفسه بالسلطنة وضرب النوب الخمس. ثم قتل على فراشه سنة سبع وثمانين ولم يعلم قاتله. استيلاء الناصر على النواحي توفي الأمير عيسى صاحب تكريت سنة خمس ثمانين قتله إخوته فبعـث الناصـر العساكـر فحصروها حتى فتحوها على الأمان وجاؤوا بإخوة عيسى إلى بغداد فسكنوها وأقطع لهم السلطـان. ثـم بعـث سنـة خمـس وثمانيـن عساكـره إلـى مدينـة غانـة فحاصروهـا مـدة وقاتلوها طويلاً. ثم جهدهم الحصار فنزلوا عنها على الأمان واقطاع عيونها ووفى لهم الناصر بذلك. نهب العرب البصرة كانت البصرة في ولاية طغرل مملوك الناصـر كـان مقطعهـا واستنـاب بهـا محمـد بـن إسماعيـل واجتمـع بنـو عامـر بـن صعصعـة سنة ثمان وثمانين وأميرهم عميرة قصدوا البصرة للنهب والعيث. وخـرج إليهـم محمـد بـن إسماعيـل في صفر فقاتلهم سائر يومه. ثم ثلموا في الليل ثلماً في السور ودخلوا البلد وعاثوا فيها قتلاً ونهباً. ثم بلغ بني عامر أن خفاجة والمشفق ساروا لقتالهـم فرحلـوا إليهـم وقاتلوهـم فهزموهم وغنموا أموالهم وعادوا إلى البصرة وقد جمع الأمير أهل السواد فلم يقوموا للعرب وانهزموا ودخل العرب البصرة فنهبوها ورحلوا عنها. استيلاء الناصر على خوزستان ثم أصبهان والري وهمذان كـان الناصـر قـد استنـاب فـي الـوزارة بعد أسر ابن يونس مؤيد الدين أبا عبد اله محمد بن علي المعـروف بابـن القصاب وكان قد ولي الأعمال في خوزستان وغيرها وله فيها الأصحاب. ولما توفي صاحبها شملة واختلف أولاده راسله بعضهم في ذلك فطلب من الناصر أن يرسل معه العساكـر ليملكهـا فأجابـه وخـرج فـي العساكـر سنة إحدى وتسعين وحارب أهل خوزستان فملك أولاً مدينـة تستر. ثم ملك سائر الحصون والقلاع وأخذ بني شملة ملوكها فبعث بهم إلى بغداد وولى الناصر على خوزستان طاش تكين مجير الدين أمير الحاج. ثـم سار الوزير إلى جهات الري سنة إحدى وتسعين وجاءه قطلغ ابنايخ بن البهلوان وقد غلبه خـوارزم شاه وهزمه عند زنجان وملك الري من يده. وجاء قطلغ إلى الوزير مؤيد ورحل معه إلى همذان وبها ابن خوارزم شاه في العساكر فأجفل عنها إلى الري وملك الوزير همذان ورحل في اتباعهم وملك كل بلد مروا بها إلى الري. وأجفل عسكر خوارزم إلى دامغان وبسطـام وجرجـان. ورجـع الوزيـر إلـى الـري فأقـام بهـا. ثـم انتقـض قطلـغ بـن البهلـوان وطمـع في الملك فامتنع بالري وحاصره الوزير فخرج عنها إلى مدينة آوة فمنعهم الوزير منها ورحل الوزير في أثرهم من الري إلى همذان وبلغه أن قطلغ قصد مدينة الكرج فسار إليه وقاتله وهزمه ورجع إلـى همـذان فجـاءه رسـول خـوارزم شاه محمد تكش بالنكير على الوزير في أخذ البلاد ويطلب إعادتهـا فلـم يجبـه الوزيـر إلـى ذلـك فسار خوارزم شاه إلى همذان وقد توفي الوزير ابن القصاب خلـال ذلـك فـي شعبـان سنـة اثنتيـن وتسعيـن فقاتـل العساكـر التي كانت معه بهمذان وهزمهم وملك همذان وترك ولده بأصبهان وكانوا يبغضون الخوارزمية فبعث صدر الدين الخجندي رئيس الشافعية إلى الديوان ببغداد يستدعي العساكر لملكها فجهز الناصر العساكر مع سيف الدين طغرل يقطع بلد اللحف من العراق وسار فوصل أصبهان ونزل ظاهر البلد وفارقها عسكر الخوارزمية فملكها طغرل وأقام فيها الناصر وكان من مماليك البهلوان. ولما رجع خوارزم شاه إلى خراسان اجتمعوا واستولوا على الري وقدموا عليهم كركجة من أعيانهم وساروا إلى أصبهان فوجـدوا بهـا عسكـر الناصـر وقـد فارقهـا عسكـر الخوارزميـة فملكوا أصبهان وبعث كركجة إلى بغداد بالطاعة وأن يكون له الري وساوة وقم وقاشان. ويكون للناصر أصبهان وهمذان وزنجان وقزوين فكتب له بما طلب وقوي أمره. ثـم وصـل إلـى بغـداد أبـو الهيجـاء السميـن مـن أكابـر أمـراء بنـي أيـوب وكـان في إقطاعه بيت المقدس وأعمالـه فلمـا ملـك العزيـز والعـادل مدينة دمشق من الأفضل بن صلاح الدين عزلوا أبا الهيجاء عن القـدس فسـار إلـى بغـداد فأكرمـه الناصـر وبعثـه بالعساكـر إلى همذان سنة ثلاث وتسعين فلقي بها أزبـك بـن البهلـوان وأميـر علم وابنه قطلمش وقد كاتبوا الناصر بالطاعة فداخل أمير علم وقبض علـى أزبـك وابـن قطلمـش بموافقتـه وأنكر الناصر ذلك على أبي الهيجاء وأمره بإطلاقهم. وبعث إليهم بالخلع فلم يأمنوا وفارقوا أبا الهيجاء فخشي من الناصر ودخل إلى اربل لأنه كان من أكرادها ومات قبل وصوله إليها. وأقام كركجة ببلاد الجبل واصطنع رفيقه أيدغمش واستخلصه ووثق به فاصطنع أيدغمـش المماليك وانتقض عليه آخر المائة السادسة وحاربه فقتله واستولى على البلاد. ونصب أزبك بـن البهلـوان للملـك وكفلـه. ثـم توفـي طـاش تكيـن أميـر خوزستـان سنـة اثنتيـن وستمائـة وولى الناصر مكانه صهره سنجر وهو من مواليه. وسار سنجر سنة ثلاث وستمائة إلى جبال تركستان جبال منيعة بين فارس وعمان وأصبهان وخوزستان وكان صاحب هذه الجبال يعرف بأبي طاهـر وكان للناصر مولى اسمه قشتمر من أكابر مواليه ساءه وزير الدولة ببعض الأحوال فلحق بأبي طاهر صاحب تركستان فأكرمه وزوجه بابنته. ثم مات أبو طاهر فأطاع أهل تلك الولاية قشتمر وملك عليهم وبعث الناصـر إلـى سنجـر صاحـب خوزستان يعضده في العساكر فسار إليه وبذل له الطاعة على البعد. فلم يقبل منه فلقيه وقاتله فانهزم سنجر وقوي قشتمر على أمره وأرسل إلى ابن دكلا صاحب فارس وإلى أيدغمش صاحب الجبل فاتفق معهما على الامتناع على الناصر واستمر حاله. كان نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي من أهل الري من بيت إمارة وقدم إلى بغداد عندما ملـك الوزيـر ابـن القصاب الري فأقبل عليه الخليفة وجعله نائب الوزارة. ثم استوزره وجعل ابنه صاحـب المخـزن فتحكم في الدولة وأساء إلى أكابر موالي الناصر فلما حج مظفر الدين سنقر المعـروف بوجـه السبـع سنـة ثلاث وستمائة وكان أميراً ففارق الحاج ومضى إلى الشام وبعث إلى الناصر أن الوزير ينفي عليك مواليك ويريد أن يدعي الخلافة فعزله الناصر وألزمه بيته. وبعث من كل شيء ملكه ويطلب الإقامة بالمشهد فأجابه الناصر بالأمان والاتفاق وأن المعزلة لم لكن لذنب وإنما أكثر الأعداء المقالات فوقع ذلك. واحترز لنفسه موضعاً ينتقل إليه موقراً محترماً فاختار أيالة الناصر خوفاً أن يذهب الأعداء بنفسه. ولمـا عـزل عـاد سنقر أمهر الحاج وعاد أيضا قشتمر وأقيم نائباً في الوزارة فخر الدين أبو البدر ومحمد بن أحمد بن اسمينا الواسطي ولم يكن له ذلك التحكم وقارن ذلك وفـاة صاحـب المخـزن ببغـداد أبـو فـراس نصـر بـن ناصـر بـن مكـي المدائنـي فولـى مكانـه أبـو الفتـوح المبارك بن عضد الديـن أبـي الفـرج بـن رئيس الرؤساء وأعلى محله وذلك في المحرم سنة خمس وستمائة. ثم عزل آخر السنة لعجزه ثم عزل في ربيع من سنة ست وستمائة فخر الدين بن اسمينا ونقل إلى المخزن وولى نيابة الوزارة مكانه مكين الدين محمد بن محمد بن محمد بن بدر القمر كاتب |
انتقاض سنجر بخوزستان
قـد ذكرنـا ولايـة سنجر مولى الناصر على خوزستان بعد طاش تكين أمير الحاج ثم استوحش سنة ست وستمائـة واستقدمـه الناصـر فاعتـذر فبعـث إليـه العساكـر مـع مؤيـد الديـن نائـب الوزارة وعز الدين بن نجاح الشرابي من خواص الخليفة. فلما قاربته العساكر لحق بصاحب فارس أتابك سعد بن دكلا فأكرمه ومنعه ووصلت عساكر الخليفة خوزستان في ربيع من سنته وبعثوا إلـى سنجـر فـي الرجـوع إلـى الطاعـة فأبـى وسـاروا إلـى أرجـان لقصـد ابـن دكـلا بشيـراز والرسـل تتـردد بينهـم. ثـم رحلوا في شوال يريدون شيراز فبعث ابن دكلا إلى الوزير والشرابي بالشفاعة في سنجـر واقتضـاء الأمـان لـه فأجابـوه إلـى ذلـك وأعـادوا سنجـر إلـى بغـداد فـي المحـرم سنـة ثمـان وستمائـة ودخلـوا بـه مقيـداً. وولـى الناصـر مولـاه ياقوتاً أمير الحاج على خوزستان. ثم أطلق الناصر سنجر في صفر من سنة ثمان وستمائة وخلع عليه. استيلاء منكلي على بلد الجبل وأصبهان وهرب أيدغمش ثم مقتله ومقتل منكلي وولاية أغلمش قد ذكرنا استيلاء أيدغمش من أمراء البهلوانية على بلاد الجبل: همذان وأصبهان والري وما إليها فاستفحل فيها وعظم شأنه وتخطى إلى أذربيجان وأرانية فحاصر صاحبها أزبك بن البهلوان. ثم خرج سنة ثمان وستمائة منكلي مـن البهلوانيـة ونازعـه الملـك وأطاعـه البهلوانيـة فاستولـى علـى سائـر تلـك الأعمال. وهرب شمس الدين أيدغمش إلى بغداد وأمر الناصر بتلقيه فكـان يومـاً مشهـوداً. وخشـي منكلـي من اتصاله فأوفد ابنه محمداً في جماعة من العسكر وتلقاه الناس على طبقاتهم وقد كان الناصر شرع في إمداد أيدغمش فأمده وسار إلى همذان في جمادى من سنة عشر ووصل إلى بلاد ابن برجم من التركمان الأيوبية وكان الناصر عزله عن إمارة قومه وولى أخاه الأصغر فبعث إلى منكلي بخبر أيدغمش فبعث العساكر بطلبه فقتلوه وافترق جمعه. وبعـث الناصـر إلى أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأرانية يغريه به وكان مستوحشاً منه. وأرسل أيضاً إلى جلال الدين صاحب قلعة الموت وغيرها من قلاع الإسماعيلية من بلاد العجم بمعاضدة أزبك على أن يقتسموا بلاد الجبل وجمع الخليفة العساكر من الموصل والجزيرة وبغداد وقدم على عسكر بغداد مملوكه مظفر الدين وجه السبع واستقدم مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كوجك وهو على أربله وشهرزور وأعمالها وجعله مقدم العساكر جميعاً. وساروا إلى همـذان فهـرب منكلي إلى جبل قريب من الكرج وأقاموا عليه يحاصرونه ونزل منكلي في بعض الأيـام فقاتـل أزبـك وهزمـه إلـى مخيمـه. ثـم جـاء مـن الغـد وقـد طمـع فيهـم فاشتـدوا فـي قتاله وهزموه فهرب البلاد أجمع وافترقت عساكره واستولت العساكر علـى البلـاد وأخـذ جلـال الديـن ملـك الإسماعيليـة منهـا مـا عينته القسمة. وولى أزبك بن البهلوان على بقية البلاد اغلمش مملوك أخيه وعادت العساكر إلى بلادها ومضى منكلي منهزماً إلى مدينة ساوة فقبض عليه الشحنة بها وقتله وبعث أزبك برأسه إلى بغداد وذلك في جمادى سنة اثنتي عشرة. ولاية حافد الناصر على خوزستان كان للناصر ولد صغير اسمه علي وكنيته أبو الحسن قد رشحه لولاية العهد وعزل عنها ابنه الأكبـر وكـان هـذا أحـب ولـده إليـه فمـات فـي ذي القعـدة سنـة عشر فتفجع له وحزن عليه حزناً لم يسمع بمثله. وشمل الأسف عليه الخاص والعام. وكان ترك ولدين لقبهما المؤيد والموفق فبعثهما الناصر إلى تستر من خوزستان بالعساكر في المحرم سنة ثلاث عشرة وبعث معهما مؤيد الدين نائب الوزارة وعزل مؤيد الدين الشرابي فأقاما بهما أياماً. ثم أعاد الموفق مع الوزير والشرابي إلى بغداد في شهر ربيع وأقام المؤيد بتستر. استيلاء خوارزم شاه على بلاد الجبل وطلب الخطبة له ببغداد كان أغلمش قد استولى على بلاد الجبل كما ذكرناه واستفحل أمره وقوي ملكه فيها. ثم قتله الباطنيـة سنـة أربـع عشـرة وستمائة. وكان علاء الدين محمد بن تكش خوارزم شاه وارث ملك السلجوقية. قـد استولـى علـى خراسـان ومـا وراء النهـر فطمـع فـي إضافـة هـذه البلـاد إليـه فسـار فـي عساكره واعترضه صاحب بلاد فارس أتابك سعد بش دكلا على أصبهان وقد ساقه من الطمع في البلاد مثل الذي ساقه فقاتله وهزمة خوارزم وأخذه أسيراً. ثم سار إلى ساوة فملكها ثم قزوين وزنجان وأبهر ثم همذان ثم أصبهان وقم وقاشان. وخطب له صاحب أذربيجان وأرانية وكان يبعث في الخطبة إلى بغداد ولا يجاب فاعتزم الآن على المسير إليها وقـدم أميـراً فـي خمسة عشر ألف فارس وأقطعه حلوان فنزلها. ثم أتبعه بأمير آخر فلما سار عن همذان سقط عليهم الثلج وكادوا يهلكون تخطف بقيتهم بنو برجم من التركمان وبنو عكا مـن الأكـراد. واعتـزم خـوارزم شـاه على الرجوع إلى خراسان وولى على همذان طابسين وجعل إمارة البلاد كلها لابنه ركن الدين وأنزل معه عماد الملك المساوي متولياً أمور دولته وعاد إلى خراسان سنة خمس عشرة وأزال الخطبة للناصر من جميع أعماله. إجلاء بني معروف عن البطائح كان بنو معروف هؤلاء من ربيعة ومقدمهم معلى وكانت رحالهم غربي الفرات قرب البطائح فكثر عيثهم وإفسادهم السابلة وارتفعت شكوى أهل البلاد إلى الديوان منهم فرسم للشريف سعد متولي واسط وأعمالها أن يسير إلى قتالهم وإجلائهم فجمع العساكر من تكريت وهيت والحديثـة والأنبـار والحلـة والكوفة وواسط والبصرة فهزمهم واستباحهم وتقسموا بين القتل والأسر والغرق وحملت الرؤوس إلى بغداد في ذي القعدة سنة عشر. ظهور التتر ظهرت هذه الأمة من أجناس الترك سنة ست عشرة وستمائة وكانت جبال طمغاج من أرض الصين بينها وبين بلاد تركستان ما يزيد على ستة أشهر وكان ملكهم يسمى جنكزخان من قبيلة يعرفون نوحي فسار إلى بلاد تركستان وما وراء النهر وملكها من أيدي الخطا ثم حارب خـوارزم شـاه إلـى أن غلبـه علـى مـا فـي يـده مـن خراسـان وبلـاد الجبـل ثم تخطى أرانية فملكها. ثم سـاروا إلـى بلـاد شـروان وبلـد اللـان واللكـز فاستولـوا علـى الأمم المختلفة بتلك الأصقاع. ثم ملكوا بلاد قنجاق وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان فملكـوا ذلـك كلـه فـي سنة أو نحوها وفعلوا من العيث والقتل والنهب ما لم يسمع بمثله في غابر الأزمـان. وهزمـوا خـوارزم شـاه عـلاء الديـن محمـد بـن تكـش فلحـق بجزيـرة فـي بحـر طبرستان فامتنع بهـا إلـى أن مـات سنـة سبـع عشـر وستمائـة لإحـدى وعشرين سنة من ملكه. ثم هزموا ابنه جلال الديـن بغزنـة واتبعـه جنكزخـان إلـى نهـر السند فعبر إلى بلاد الهند وخلص منهم وأقام هنالك مدة ثـم رجـع سنـة اثنتيـن وعشريـن إلـى خوزستان والعراق. ثم ملك أذربيجان وأرمينية إلى أن قتله المظفر حسبما نذكر ذلك كله مقسماً بين دولتهم ودولة بني خوارزم شاه أو مكرراً فيهما. فهناك تفصيل هذا المحل من أخبارهم والله الموفق بمنه وكرمه. وفاة الناصر وخلافة الظاهر ابنه ثم توفي أبو العباس أحمد الناصر بن المستضيء في آخر شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة لسبع وأربعين سنة من خلافته بعد أن عجز عن الحركة ثلاث سنين من آخر عمره وذهبـت إحـدى عينيـه وضعـف بصـر الأخـرى. وكانـت حاله مختلفة في الجد واللعب وكان متفنناً فـي العلـوم ولـه تآليـف فـي فنـون منهـا متعددة ويقال إنه الذي أطمع التتر في ملك العراق لما كانت بينـه وبيـن خـوارزم. شاه من الفتنة وكان مع ذلك كثيراً ما يشتغل برمي البندق واللعب بالحمام المناسيـب ويلبـس سراويل الفتوة شأن العيارين من أهل بغداد. وكان له فيها سند إلى زعمائها يقتصه على من يلبسه إياها وكان ذلك كله دليلاً على هرم الدولة وذهاب الملك عن أهلها بذهـاب ملاكهـا منهـم. ولمـا توفـي بويـع ابنـه أبو نصر محمد ولقب الظاهر وكان ولي عهده عهد له أولاً سنـة خمـس وثمانيـن وخمسمائـة ثـم خلعـه مـن العهـد وعهـد لأخيـه الصغيـر علـي لميلـه إليه. وتوفي سنة اثنتـي عشـرة فاضطـر إلـى إعـادة هـذا فلمـا بويـع بعد أبيه أظهر من العدل والإحسان ما حمد منه ويقال إنه فرق في العلماء ليلة الفطر التي بويع فيها مائة ألف دينار. وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر ثـم توفـي الظاهر أبو نصر محمد في منتصف رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة لتسعة أشهر ونصـف مـن ولايتـه وكانـت طريقتـه مستقيمـة وأخباره في العدل مأثورة. ويقال إنه قبل وفاته كتب بخطه إلى الوزير توقيعاً يقرؤه على أهل الدولة فجاء الرسول به وقال: أمير المؤمنين يقول ليس غرضنـا أن يقـال بـرز مرسـوم وأنفـذ مثـال ثـم لا يتبيـن لـه أثر بل أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال. ثم تناولوا الكتاب وقرؤوه فإذا فيه بعد البسملة أنه ليس إمهالنا إهمالا ولا إغضاؤنا إغفـالاً ولكن لنبلوكم أيكم أحسن عملاً وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد وتشريد الرعايا وتقبيح السنة وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي حيلة ومكيدة وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدراكاً للأغراض انتهزتم فرصتها مختلسة من براثن ليث باسل وأنياب أسد مهيب تنطقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلـون رأيـه إلـى هواكم ماطلتم بحقه فيطيعكم وأنتم له عاصون ويوافقكم وأنتم له مخالفون والآن فقد بدل الله سبحانه بخوفكم أمناً وفقركم غنى وباطلكم حقاً. ورزقكم سلطاناً يقبل العثرة ولا يؤاخذ إلا من أصر ولا ينتقم إلا ممن استمـر يأمركـم بالعـدل وهـو يريـده منكـم وينهاكـم عـن الجـور وهـو يكرهه يخاف الله فيخوفكم مكره ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته فإن سلكتم مسالك نواب خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه وإلا هلكتم والسلام. ولما توفي بويع ابنه أبو جعفـر المستنصـر وسلـك مسالـك أبيـه إلا أنـه وجـد الدولـة اختلفـت والأعمال قد انتقضت والجباية قد انتقصت أو عدمت فضاقت عن أرزاق الجند وأعطياتهم فأسقـط كثيـراً مـن الجند واختلفت الأحوال. وهو الذي أعاد له محمد بن يوسف بن هود دعوة العباسية بالأندلس آخر دولة الموحدين بالمغرب فولاه عليها وذلك سنة تسع وعشرين وستمائة كمـا يذكر في أخبارهم. ولآخر دولته ملك التتر بلاد الروم من يد غياث الدين كنخسرو وآخر ملوك بني قليج أرسلان ثم تخطوها إلى بلاد أرمينية فملكوها. ثم استأمن إليهم غياث الدين وفاة المستنصر وخلافة المستعصم آخر بني العباس ببغداد لم يزل هذا الخليفة المستنصر ببغداد فالنطاق الذي بقي لهم بعد استبداد أهل النواحي كما قدمنا. ثم انحل أمرهم من هذا النطاق عروة وتملك التتـر سائـر البلـاد وتغلبـوا علـى ملـوك النواحـي ودولهم أجمعين ثم زاحموهم في هذا النطاق وملكوا أكثره. ثم توفي المستنصر سنة إحدى وأربعين لست عشرة سنة من خلافته وبويع بالخلافة ابنه عبد الله ولقب المستعصم وكان فقيهاً محدثاً. وكان وزيره ابن العلقمي رافضياً وكانت الفتنة ببغداد لا تزال متصلة بين الشيعة وأهل السنة وبين الحنابلة وسائر أهل المذاهب وبين العيارين والدعار والمفسدين مبدأ الأمراء الأول فلا تتجدد فتنة بين الملوك وأهل الدول إلا ويحدث فيها بين هؤلاء ما يعني أهل الدولة خاصة زيادة لما يحدث منهـم أيـام سكـون الدولـة واستقامتهـا وضاقـت الأحـوال علـى المستعصم فأسقط أهل الجند وفرض أرزاق الباقين على البياعات والأسـواق وفـي المعايـش فاضطرب الناس وصافت الأحوال وعظم الهرج ببغداد ووقعت الفتن بين الشيعة وأهل السنة وكـان مسكـن الشيعـة بالكـرخ فـي الجانـب الغربـي وكـان الوزيـر ابـن العلقمي منهم فسطوا بأهل السنة وأنفذ المستعصم ابنه أبا بكر وركن الدين الدوادار وأمرهم بنهب بيوتهم بالكرخ ولم يراع فيه ذمة الوزير فآسفه ذلك وتربص بالدولة وأسقط معظم الجند يموه بأنه يدافع التتر بما يتوفر من أرزاقهم في الدولة. وزحف هلاكو ملك التتر سنة اثنتين وخمسين إلى العراق وقد فتح الري وأصبهان وهمذان وتتبع قلاع الإسماعيلية ثم قصد قلعة الموت سنة خمس وخمسين فبلغه في طريقه كتاب ابن الموصلايا صاحب اربل وفيه وصية ابن العلقمي وزير المستعصم إلى هلاكو يستحثه لقصد بغداد ويهون عليه أمرها فرجع عن بلاد الإسماعيلية وسار إلى بغداد واستدعى أمراء التتر فجاءه بنحو مقدم العسكر ببلاد الروم وقد كانوا ملكوها. ولما قاربوا بغداد برز للقائهم أيبك الدوادار في العساكر فانكشف التتر أولاً ثم تذامروا فانهزم المسلمون واعترضهم دون بغداد أو حال مياه من بثوق انتفثت من دجلة فتبعهم التتر دونها وقتل الدوادار وأسر الأمـراء الذيـن معه. ونزل هلاكو بغداد وخرج إليه الوزير مؤيد الدين بن العلقمي فاستأمن لنفسه ورجع بالأمان إلى المستعصم وأنه يبقيه على خلافته كما فعل بملك بلاد الروم. فخرج المستعصم ومعه الفقهاء والأعيان فقبض عليه لوقته وقتل جميع من كان معه. ثم قتل المستعصم شدخاً بالغمد ووطأً بالأقدام لتجافيه بزعمه عن دماء أهل البيت وذلك سنة ست وخمسين. وركب إلى بغداد فاستباحها واتصل العيث بها أياماً وخرج النساء والصبيان وعلى رؤوسهم المصاحف والألواح فداستهم العساكر وماتوا أجمعين. ويقال أن الـذي أحصـي ذلـك اليـوم مـن القتلـى ألـف ألـف وستمائة ألف واستولوا مـن قصـور الخلافـة وذخائرهـا علـى مـا لا يبلغـه الوصـف ولا يحصـره الضبـط والعـد وألقيـت كتـب العلم التي كانت بخزائنهم جميعاً في دجلة وكانت شيئاً لا يعبر عنه مقابلة في زعمهم بما فعله المسلمون لأول الفتح في كتب الفرس وعلومهم. واعتزم هلاكو على إضرام بيوتها ناراً فلم يوافقه أهل مملكته. ثم بعث العساكر إلى ميافارقين فحاصروهـا سنين ثم جهدهم الحصار واقتحموها عنوة وقتل حاميتها جميعاً وأميرهم من بني أيـوب وهـو الملـك ناصـر الديـن محمد بن شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب وبايع له صاحـب الموصـل وبعـث بالهديـة والطاعـة وولـاه علـى عملـه. ثـم بعـث بالعساكـر إلـى اربـل فحاصرها وامتنعت فرحل العساكر عنها ثم وصل إليه صاحبها ابن الموصلايا فقتله واستولى على الجزيرة وديار بكر وديار ربيعة كلها وتاخم الشام جميع جهاته حتى زحف إليه بعد كما يذكـر وانقـرض أمـر الخلافة الإسلامية لبني لعباس بغداد وأعاد لها ملوك الترك رسماً جديداً في خلفـاء نصبوهـم هنالـك مـن أعقـاب الخلفـاء الأوليـن ولم يزل متصلاً لهذا العهد على ما نذكر الآن. ومـن العجـب أن يعقـوب بـن إسحـاق الكنـدي فيلسـوف العرب ذكر في ملاحمه وكلامه على القرآن الـذي دل على ظهور الملة الإسلامية العربية أن انقراض أمر العرب يكون أعوام الستين والستمائة فكـان كذلـك وكانـت دولـة بني العباس من يوم بويع للسفاح سنة اثنتين وثلاثين ومائة إلى أن قتل المعتصم سنة خمس وستمائة خمسمائة سنة وأربعاً وعشرين وعدد خلفائهـم ببغـداد سبعـة وثلاثون خليفة. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. |
الساعة الآن 08:09 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |