![]() |
العالـِمُ والخليفــة
قال أبو القاسم بن مـُفـَرِّج: كنت في بعض الأيام عند الفقيه أبي إبراهيم في مجلسه بالمسجد في قرطبة، ومجلسه حافل بجماعة الطلبة، إذ دخل عليه خصيّ من أصحاب الرسائل جاء من عند الخليفة الحـَكم ابن الناصر. فوقف وسلـّم وقال له: أجب أمير المؤمنين، فهو قاعد ينتظرك، وقد أُمرتُ بإعجالك فالله الله. فقال أبو إبراهيم: سمعـاً وطاعة لأمير المؤمنين، ولا عـَجـَلـَة. فارجع إليه وعرِّفه أنك وجدتني مع طلاب العلم، وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس فأمضي إليه. فانصرف الخصيّ وهو يتمتم متضاجراً بكلام لم نسمعه. فما مضت ساعة حتى رأيناه قد عاد فقال للفقيه: أنهيتُ قولك إلى أمير المؤمنين، وهو يقول لك: "جزاك الله خيرًا عن الدين وجماعة المسلمين وأمتعهم بك. وإذا أنت فرغتَ فامض إليه." قال أبو إبراهيم: حسن. ولكني أَضـْعـُفُ عن المشي إلى باب السـُّدّة، ويصعب عليّ ركوب دابة لشيخوختي وضعف أعضائي. وبابُ الصناعة هو من بين أبواب القصر أقربها من مكاننا هذا. فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بفتحه لأدخل منه هوّن عليّ المشي. فمضى الفتى ثم رجع بعد حين وقال: قد أجابك أمير المؤمنين إلى ما سألت، وأمر بفتح باب الصناعة، وأمرني أن أبقى معك حتى ينقضي الدرس وتمضي معي. وجلس الخصي جانبـاً حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه بأكمل ما جرت به عادته ودون قلق. فلما انفضضنا عنه قام إلى داره فأصلح من شأنه ثم مضى إلى الخليفة الحكم. قال ابن مفرّج: ولقد تعمـّدنا إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم المرور بباب الصناعة فوجدناه مفتوحـاً وقد حفـّه الخدم والأعوان متأهبين لاستقبال أبي إبراهيم، فاشتدّ عجبنا لذلك وقلنا: هكذا يكون العلماء مع الملوك والملوك مع العلماء، قدّس الله تلك الأرواح. من كتاب "نـَفـْح الطيب" للمـَقـَّرِي التلمساني. |
العامَّـة والأنعـام
كان المأمون قد همَّ بلعن معاوية بن أبي سفيان. فمنعه عن ذلك يحيى ابن أكثم، وقال له: يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تحتمل هذا، دعهم على ما هم عليه، ولا تـُظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفـِرَق، فإن ذلك أصلحُ في السياسة. فركن المأمون إلى قوله. فلما دخل عليه ثـُمامة بن الأشرس، قال له المأمون: يا ثـُمامة، قد علمتَ ما كنا دبـَّرناه في معاوية، وقد عارضـَنا رأيٌ أصلح في تدبير المملكة، وأبقـَى ذكرًا في العامة. ثم أخبره أن يحيى خوّفه إياها. فقال ثمامة: يا أمير المؤمنين، والعامة عندك في هذا الموضع الذي وضعها فيه يحيى؟! واللّه ما رضي اللّه أن سوّاها بالأنعام حتى جعلها أضلّ سبيلاً، فقال تبارك وتعالى: (أم تَحسَبُ أَنَّ أكثَرهم يسمعون أو يعقلون. إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً). واللّه لقد مررتُ منذ أيام في شارع الخُلد، فإذا إنسانٌ قد بسط كِساءه وألقى عليه أدوية وهو قائم ينادي: هذا الدواء للبياض في العين والغشاوة وضعف البصر. وإن إحدى عينيه لمـَطموسة والأخرى مـُؤْلـَمَة. والناس قد انثالوا عليه، واحتفلوا إليه يستوصفونه. فنزلت عن دابتي، ودخلتُ بين تلك الجماعة فقلت: يا هذا، أرى عينيك أحوجَ الأعين إلى العلاج، وأنت تصف هذا الدواء وتخبر أنه شفاء، فما بالك لا تستعمله ؟! فقال: أنا في هذا الموضع منذ عشرين سنة ما رأيتُ شيخًا قط أجهل منك ولا أحمق! قلت: وكيف ذلك؟ قال: يا جاهل، أتدري أين اشتكت عيني؟ قلت: لا. قال: بمصر! فأقبلت عليّ الجماعة فقالت: صدق الرجل. أنت جاهل! وهمـّوا بي. فقلت: واللّه ما علمتُ أن عينه اشتكت بمصر. فما تخلـَّصتُ منهم إلا بهذه الحجّة! من كتاب "المحاسن والمساوئ" لإبراهيم بن محمد البيهقي. |
العتابـي والبقـر
قال عمر الورّاق: رأيتُ كلثوم بن عمرو العتّابي الشاعر يأكل خبزاً على الطريق بباب الشام. فقلت له: ويحك! أما تستحي من الناس؟ فقال: أرأيت لو كنا في مكان فيه بقر، أكنت تحتشم أن تأكل والبقر يراك؟ فقلت: لا. فقال: فاصبر حتى أريكَ أن هؤلاء الناس بقر. ثم قام فوعظ وقصّ ودعا حتى كثر الزحام عليه، فقال لهم: رُوي لنا من غير وجه أنه من بَلَغَ لسانُه أرنبةَ أنفه لم يدخل النار! فما بقى أحد منهم إلا أخرج لسانه نحو أرنبة أنفه ليرى هل يبلغها أولاً. فلما تفرقوا قال لي العتابي: ألم أخبرك أنهم بقر؟ من كتاب "فوات الوفيات" لابن شاكر الكتبي. |
العصفور والسنبلة
أهل الصين من أحذق خلق الله كفّا بنقش وصنعة وكل عمل لا يتقدّمهم فيه أحد من سائر الأمم. والرجل منهم يصنع بيده ما يقدّر أن غيره يعجز عنه، فيقصر به باب الملك يلتمس الجزاء على لطيف ما ابتدع، فيأمر الملك بنصبه على بابه من وقته ذلك إلى سنة، فإن لم يُخرج أحد فيه عيباً أجاز صانعه وأدخله في جملة صُنّاعه، وإن أخرج أحد فيه عيباً طرحه ولم يُجزْه. وقد حدث أن رجلاً منهم صوّر سنبلة سقط عليها عصفور في ثوب حرير، لا يشك الناظر إليها أنها سُنبلة سقط عليها عصفور فبقي الثوب مدّة ثم اجتاز به رجل أحدب فعاب العمل، فأُدخل على الملك وأُحضر صاحب العمل، فسأل الأحدب عن العيب. فقال: المتعارف عند الناس جميعاً أنه لا يقع عصفور على سنبلة إلاّ أمالها. وقد صوّر هذا المصوّر السنبلة فنصبها قائمة لا ميل فيها، وأثبت العصفور فوقها منتصباً فأخطأ. فلم يُثب الملك صاحب الصورة بشيء. وقصدُهم بهذا وشبهه أن يضطر من يعمل هذه الأشياء إلى شدة الاحتراز والحذر وإعمال الفكر فيما يصنعه. من كتاب "مروج الذهب" للمسعودي. |
العلـم والمــال
ذُكر في الخبر، أن أهل البصرة اختلفوا، فقال بعضهم، العلم أفضل من المال، وقال بعضهم، بل المال أفضل من العلم، فأوفدوا رسولاً منهم إلى ابن عباس رضي الله عنهما فسأله، فقال ابن عباس: العلم أفضل من المال، فقال الرسول: إن سألوني عن الحجة، ماذا أقول؟ قال: قل لهم، إن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الفراعنة، ولأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، ولأن العلم لا يعطيه الله إلا لمن أحبه، والمال يعطيه الله لمن أحبه ولمن لا يحبه، ألا ترى إلى قوله تعالى: "ولولا أن يكون الناس أمـَّة واحدةً لـَجعلنا لـِمـَن يكفر بالرحمنِ لـِبيوتهم سـُقـُفاً من فـِضةٍ ومعارجَ عليها يظهرون" ولأن العلم لا ينقص بالبذل، والنفقة، والمال ينقص بالبذل والنفقة، ولأن صاحب المال إذا مات، انقطع ذكره، والعالم إذا مات فذكره باق، ولأن صاحب المال ميت، وصاحب العلم لا يموت، ولأن صاحب المال يـُسأل عن كل درهم من أين كسبه؟ وأين أنفقه؟ وصاحب العلم له بكل حديث درجة في الجنة. |
الغـَمـْــزَة
قرأت في كتاب للهند أنه أُهدي لملك الهند ثياب وحـُلـِيٌّ. فدعا بامرأتين له، وخيـّر أحظاهما عنده بين اللباس والحـِلـْية. وكان وزيره حاضراً. فنظرت المرأة إلى الوزير كالمستشيرة له، فغمزها بعينه أن تختار اللباس. ولحظه الملك، فاختارت المرأة الحلية لئلا يفطن للغمزة. ومكث الوزير أربعين سنة بعد ذلك يغمز بعينه في حضرة الملك حتى يظن أنها آفة أصابته، أو عادة صارت له. فلما حضرت الملك الوفاة، قال لولده: توصّ بالوزير خيراً، فإنه ظل يعتذر من شيء يسير أربعين سنة! من كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبـة |
الفضـل لمـن سبـق
جرى بين محمد بن الحنفية وأخيه الحسن بن علي رضي الله عنهما جفوة، فانصرفا متغاضبين، فلما وصل محمد إلى بيته، أخذ ورقة وكتب فيها. بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن علي بن أبي طالب، إلى أخيه الحسن بن علي بن أبي طالب، أما بعد. فإن لك شرفاً لا أبلغه، وفضلاً لا أدركه، فإذا قرأت رقعتي هذه، فالبس رداءك ونعليك، وسر إليّ فترضـَّني، وإياك أن أكون سابقك إلى الفضل الذي أنت أولى به مني. والسلام. فلما قرأ الحسن الرقعة، لبس رداءه ونعليه، ثم جاء إلى أخيه محمد فترضـَّاه. |
القاضـي التنوخـي
كان القاضي أبو القاسم التنوخي ظريفـاً نبيلاً جيـّد النادرة. اجتاز يومـاً في بعض الدروب فسمع امرأة تقول لأخرى: كم عـُمر بنتك يا أختي؟ فقالت: رُزقتـُها يوم صفعوا القاضي وضربوه بالسياط. فرفع رأسه إليها وقال: يا امرأة، صار صفعي تاريخـَك، ما وجدتِ تاريخـاً غيره؟! وكان يومـاً نائمـاً وقت الظهيرة، فاجتاز إسكافيّ وأزعجه بصياحه في الطريق: نـُصلح النـِّعال! نصلح النـِّعال! فقال التنوخي لغلامه: اجمع كل نعل في البيت وأعطها لهذا يـُصلحها ويشتغل بها. ثم نام. وأصلحها الإسكافيّ واشتغل بها إلى آخر النهار ومضى لشأنه. فلما كان في اليوم الثاني مرّ بالطريق يصيح ولم يدعه ينام. فقال القاضي لغلامه: أدخله! فلما أدخله قال له: يا ابن الفاعلة، أمس أصلحتَ كلَّ نعلٍ عندنا، واليوم تصيح على بابنا؟ هل بلغك أننا نتصافع بالنعال ونقطعها؟! ثم قال للخدم: اصفعوه على قفاه. فصاح الإسكافي قائلاً: يا سيدي أتوب ولا أعود أدخل إلى هذا الدرب أبدًا! من كتاب "فوات الوفيات" لابن شاكر الكتبي. |
القـاضي والسلطـان (1)
كان بمصر مغنيّة تُدعَى عجيبة، قد أولع بها الملك الكامل محمد، فكانت تحضر إليه ليلاً وتغنّيه على الدّفّ في مجلس بحضرة ابن شيخ الشيوخ وغيره. ثم اتّفقت قضية عند القاضي ابن عين الدولة، وأراد الملك الكامل أن يشهد فيها فقال له ابن عين الدولة: السلطان يأمر ولا يشهد. فأعاد الكامل عليه القول فأبى. فلما زاد الأمر وفهم السلطان أنه لا يقبل شهادته قال: أريد أن أشهد. تقبلني أم لا؟ فقال القاضي: لا، ما أقبلك! وعجيبة تطلع إليك بآلات الطرب كل ليلة، وتنزل ثاني يوم وهي تتمايل سَكْرى على أيدي الجواري، وينزل ابن الشيخ من عندك!؟ فقال له الملك الكامل: يا كيواج! (وهي كلمة شتم بالفارسية). فقال القاضي: ما في الشرع يا كيواج! اشهدوا عليّ أني قد عزلت نفسي. ونهض فقام ابن الشيخ إلى الملك الكامل فقال: المصلحة إعادته لئلا يقال: لأي شيء عزل القاضي نفسه؟ وتطير الأخبار إلى بغداد، ويشيع أمر عجيبة. فنهض إلى القاضي، وترضّاه، وعاد إلى القضاء. من كتاب "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" للسيوطي. |
القـاضي والسلطـان (2)
وَلِيَ قضاءَ مصر بعد ابن عين الدولة الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام. وكان قد قدم من دمشق بسبب أن سلطانها الصالح إسماعيل استعان بالفرنج وأعطاهم مدينة صَيْدا وقلعة الشقيف، فأنكر الشيخ عز الدين ذلك، وترك الدعاء له في الخطبة، فغضب السلطان منه، فخرج إلى الديار المصرية. فأرسل السلطان وراءه وهو في الطريق قاصدًا يتلطّف به في العودة إلى دمشق. فاجتمع الرسول به ولاينه وقال له: ما نريد منك شيئا إلا أن تقبّل يد السلطان لا غير. فقال الشيخ له: يا مسكين، أنا ما أرضاه يقبّل يدي فضلا عن أن أقبِّل يده! يا قوم، أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ! والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم! فلما وصل إلى مصر، تلقاه سلطانها الصالح أيوب وأكرمه، وولاّه قضاء مصر فلما تولاه تصدى لبيع أمراء الدولة من الأتراك، وذكر أنه لم يثبت عنده أنهم أحرار وأن حكم الرّقّ مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين. فبلغهم ذلك فعظم الخطب عندهم، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعًا ولا شراء ولا نكاحًا. وتعطلت مصالحهم لذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستثار غضبا. فاجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: نعقد لكم مجلسا لبيعكم، وننادي عليكم لبيت مال المسلمين. فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه فلم يرجع عن رأيه، وأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة، فلم يفد ذلك. فانزعج النائب وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنّه بسيفي هذا! وركب بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده. فطرق الباب. فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث لذلك وقال: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله! ثم خرج. فحين وقع بصره على النائب سقط السيف من يد النائب وأرعدت مفاصله. ثم إذا به يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي ايش تعمل؟ فقال القاضي: أنادي عليكم فأبيعكم. قال النائب: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين. وتمّ له ما أراد، ونادى على الأمراء واحدًا واحدًا وباعهم بالثمن الوافي، وصرفه في وجوه الخير! من كتاب "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" للسيوطي. |
الساعة الآن 06:03 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |