منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   فلسفة وعلم نفس
علم ما وراء الطبيعه والقوى الخارقه
(http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=75)
-   -   فلاسفة أوربيون محدثون - مع مختارات من كتاباتهم (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8541)

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:14 PM

13- سيغموند فرويد

ولد سيغموند فرويد (Sigmund Freud) في فرايبرغ (Freibberg) وهاجرت عائلته إلى فينا (Vienna). عاش هناك حتى سنة 1938، وعندما ضم هتلر النمسا إلى ألمانيا اضطر فرويد إلى تركها بسبب كونه يهودياً وعاش في لندن حتى وفاته بعد ذلك بقليل.

درس سيغموند فرويد الطب في فينيا أولاً، ومارس هذه المهنة لسنوات عديدة. ولاحظ صلة وثيقة بين بعض الأمراض وأنماط سلوك مرضاه. سافر إلى باريس في 1885 للتخصص هناك لدراسة ظاهرة الهستيريا والعلاج بالتنويم المغناطيسي. ثم انتقل إلى مدينة نانسبي ليتتلمذ على أيدي العالمين الفرنسيين بيررنهام وليبو في مجال التنويم المغناطيسي. وعاد فرويد بعد ذلك إلى فيينا لاستخدام ما درسه في علاج مرضاه.

ألف فرويد كتبا عديدة دار معظمها حول ظواهر "الهستيريا" و"الأحلام"، و "التحليل النفسي". وعرض فرويد نظريته في التحليل النفسي في جامعة كلارك في الولايات المتحدة في عام 1909. وأسس جمعية التحليل النفسي في 1910 في فينا وعمل منذ 1919 أستاذا في جامعة فينا. وعانى من مرض عضال منذ 1923 وحتى موته في 1939.

يمكن إجمال موقف فرويد من الإنسان كما يلي: الإنسان هو كائن نفسي بجانب كونه كائناً عضوياً. ورغم ما يبدو من ازدواجية في هذا التحديد، إلاّ أن كلا "الكائنين"، العضوي والنفسي، يؤثر ويتأثر بالآخر، ومن الخطأ الاعتقاد أنهما منفصلان انفصالاً كاملاً، فبعض الأمراض العضوية ترجع في أصولها إلى عناصر نفسية. وقسم فــرويد الجهاز الــنفسي إلى ثلاثة: الـ (Id)، والـ (Ego)، والـ (Super Ego). ويشمل الـ (id) كافة الغرائز الموروثة والتي توجد في الإنسان منذ الولادة. واعتبر فرويد أن الـ (ego) بمثابة صمام يسمح أو يمنع هذه الغرائز من تحقيق ذاتها. أما الـ (super ego) فتتضمن مجمل السلوكيات التي تقننت شخصياً بسبب التربية البيتية أو اكتسبت شرعية اجتماعية وأصبحت أنماط سلوك اجتماعية كالعرف والعادة وأشكال الحضارة، المادية منها والروحية. وذهب فرويد إلى أن الجهاز النفسي يحدد السلوك بأشكاله وأبعاده المختلفة سواء أخذ شكل الفعل الخارجي أو استبطن داخلياً.

كرس فرويد جزءاً من وقته في أواخر حياته لكتابة بعض الأبحاث التي تعدت مجال علم النفس المحض. و"قلق في الحضارة" هو إحداها. ويطرح فرويد في هذا الكتاب الصلة المركبة بين ظهور الحضارة وتقدمها وبين الجهاز النفسي وتأثير التقدم الحضاري فيه.



فرويد: مختارات من "مختصر التحليل النفسي"

توطئة
الهدف من هذا المؤلف المقتضب جمع مذاهب التحليل النفسي لعرضها عرضا تقريريا ان جاز القول، في أوضح شكل ممكن وأكثره تركيزا. ولم نرم فقط، بعملنا هذا، إلى كسب ثقة أو انتزاع اقتناع.

إن تعاليم التحليل النفسي تنهض على عدد لا يقع تحت حصر من المشاهدات والتجارب، ومن لم يتحقق، في نفسه أو لدى الآخرين، من هذه المشاهدات لا يملك أن يصدر عليها حكما مستقلا.

القسم الأول: طبيعة النفسية
الفصل الأول: الجهاز النفسي
ينهض التحليل النفسي على مسلمة أساسية يقع على عاتق الفلسفة نقاشها، وإن تكن نتائجها تبرز قيمتها. فما نسميه بالنفسية (أو الحياة النفسية) نعرف عنه شيئين: أولاً العضو البدني لهذه النفسية، مسرح عملها، أي المخ (أو الجهاز العصبي)، وثانياً أفعالنا الشعورية التي لنا بها معرفة مباشرة والتي ليس لأي وصف أن يزيدنا بها علماً. أما كل ما يقع بين هذين القطبين فيبقى مجهولا لنا، وإن يكن بينهما ارتباط ما فليس من شأنه أن يمدنا بأكثر من تحديد دقيق لموضع السيرورات الشعورية، من غير أن يتيح لنا فهمها.

وتتصل فرضيتانا بهذين الحدين أو هاتين البدايتين لمعرفتنا. والفرضية الأولى ذات صلة بتحديد الموضع. فنحن نسلم بأن الحياة النفسية وظيفة لجهاز نعزو إليه امتدادا في المكان ونفرض أنه مؤلف من أقسام عدة. ومن ثم فإننا نتصوره ضربا من مقراب أو مجهر أو شيئا من هذا القبيل. وبناء هذا التصور واستكماله حدث علمي جديد، وإن كانت محاولات مماثلة قد جرت في هذا السبيل.

إن دراسة تطور الأفراد هي التي أتاحت لنا أن نعرف هذا الجهاز النفسي. ونحن نطلق على أقدم هذه المناطق أو الهيئات النفسية اسم الهذا[1]؛ ويشمل مضمونه كل ما يحمله الكائن الإنساني معه عند ولادته، كل ما هو متعين في الجبلة، أي في المقام الأول الدوافع الغريزة الصادرة عن التنظيم البدني والتي تجد في الهذا، من خلال أشكال مجهولة لنا، أول نمط من أنماط التعبير النفسي[2].

وتحت تأثير العالم الخارجي الواقعي المحيط بنا، يطرأ على شطر من الهذا تطور خاص. فبدءا من الطبقة اللحائية الأصلية المزودة بأعضاء قادرة على تلقي التنبيهات، وكذلك على اتقائها، قام تنظيم خاص وما لبث ان صار وسيطا بين الهذا والخارج. وإنما على هذا الشطر من نفسيتنا نطلق اسم الأنا[3].


الخصائص الرئيسية للأنا
بنتيجة العلاقات التي تكون قد قامت بين الإدراك الحواسي والأفعال العضلية، يتأتى للأنا ان يتحكم بالحركات الإرادية. ومهمته هي حفظ الذات، وهو يؤدي هذه المهمة، فيما يتصل بالعالم الخارجي، بتعلمه كيف يتعرف التنبيهات، وبمراكمته (في الذاكرة) الخبرات التي تمده بها هذه التنبيهات، وبتحاشيه التنبيهات المفرطة في قوتها (بالهرب)، وبتوصله أخيراً إلى تعديل العالم الخارجي على نحو موائم ولصالحه (النشاط). أما في الداخل، فهو يتصدى لمواجهة الهذا باكتسابه السيطرة على مطالب الدوافع الغريزية، وبتقريره ما إذا كان من الممكن إشباع هذه الدوافع أو ما إذا كان من الأنسب إرجاء هذا الإشباع إلى حين مؤاتٍ أو ما إذا كان من الواجب خنقها أصلاً. ويخضع الأنا في نشاطه لاعتبار التوترات الناجمة عن تنبيهات الداخل أو الخارج. فزيادة التوتر تسبب بالإجمال ألماً، ونقصانها تتولد عنه لذة. بيد أن الألم أو اللذة غير منوطين في أرجح الظن بالدرجة المطلقة للتوترات، بل بالأحرى بوتيرة تغيراتها. والأنا ينزع إلى اللذة ويسعى إلى تحاشي الألم. وكل زيادة منتظرة، متوقعة، في الألم تقابلها إشارة حصر، وما يطلق هذه الإشارة، من الخارج أو من الداخل، يسمى الخطر. وبين الحين والحين، يقطع الأنا الروابط التي تربطه بالعالم الخارجي ويخلد إلى النوم حيث يجري على تنظيمه تعديلاً مهماً. وتتيح لنا حالة النوم ان نلاحظ ان نمط التنظيم هذا يتمثل في توزيع خاص معين للطاقة النفسية.

وعلى امتداد فترة الطفولة المديدة التي يجتازها الفرد الناشئ ويكون عماده في أثنائها على والديه تتشكل في أناه، كما بضرب من الترسب، هيئة خاصة تكون بمثابة امتداد للتأثير الوالدي. هذه الهيئة هي الأنا الأعلى. وبقدر ما ينفصل الأنا الأعلى[4] عن الأنا أو يعارضه، يشكل قوة ثالثة لا مناص للأنا من أن يعمل لها حساباً.

ويعد صحيحاً كل تصرف يصدر عن الأنا ويلبى مطالب الهذا والانا الأعلى والواقع معاً، وهذا ما يحدث حين يفلح الأنا في التوفيق بين هذه المطالب المتباينة. ومن الممكن دوماً وأبداً فهم خصائص العلاقات بين الأنا والأنا الأعلى إذا أرجعناها إلى علاقات الطفل بوالديه. ومن المحقق ان ما يؤثر في الطفل ليس شخصية الأهل وحدهم، بل كذلك، وبوساطتهم، تأثير التقاليد العائلية والعرقية والقومية، علاوة على مقتضيات الوسط الاجتماعي المباشر الذي يمثلونه. ويتأثر أيضاً الأنا الأعلى للطفل، في أثناء تطوره، بخلفاء الأهل وبدائلهم، وعلى سبيل المثال بعض المربين وبعض الأشخاص الذين يمثلون في المجتمع مثلا عليا موقرة. ويتضح لنا ان الهذا والأنا الأعلى، رغم تباينهما الأساسي، تجمع بينهما نقطة مشتركة، إذ يمثل كلاهما بالفعل دور الماضي؛ فالهذا يمثل أثر الوراثة، والأنا الأعلى أثر ما تلقاه عن الآخرين؛ بينما يتعين الأنا في المقام الأول بما خبره بذاته، أي بالعارض والراهن.

ان هذا المخطط العام للجهاز النفسي يصدق أيضاً على الحيوانات العليا التي بينها وبين الإنسان وجه شبه نفسي. ويجدر بنا ان نسلم بوجود أنا أعلى حيثما يتعين على الكائن الحي ان يمر في طفولته. كما لدى الإنسان بفترة طويلة من الاتكال الطفلي. اما تمايز الأنا عن الهذا فواقع لا مماراة فيه.

ولم يعكف علم نفس الحيوان بعد على الدراسة الشائقة التي تبقى هنا متاحة له.

الفصل الثاني: نظرية الدوافع الغريزية
تعبر قوة الهذا عن الهدف الحقيقي لحياة الفرد العضوية وتنزع إلى إشباع حاجات هذا الفرد الفطرية. ولا يُعنى الهذا بحفظ الحياة ولا باتقاء الأخطار. فهاتان المهمتان الأخيرتان تقعان على عاتق الانا الذي يتعين عليه أيضاً ان يكتشف أنسب وسيلة وأقلها خطراً للفوز بإشباع، مع أخذ مقتضيات العالم الخارجي بعين الاعتبار. اما الانا الأعلى، فعلى الرغم من أنه يمثل حاجات أخرى أيضاً، فإن مهمته الأساسية تبقى على الدوام كبح الإشباعات.

اننا نطلق على القوى التي تعمل خلف حاجات الهذا الآسرة، والتي تمثل في النفسية المتطلبات البدنية، اسم الدوافع الغريزية. وهذه الدوافع محافظة بطبيعتها، رغم انها تشكل العلة الأخيرة لكل نشاط. وبالفعل، ان كل حالة يبلغها يوما الكائن تنزع إلى إعادة فرض ذاتها حالما تُترك. ويسعنا أيضاً ان نميز عددا غفيرا من الدوافع الغريزية، وهذا ما هو واقع فعلاً. على أن ما يهمنا هو أن نعرف ان لم يكن في الإمكان اختزال هذه الدوافع الغريزية العديدة إلى عدد محدود من الدوافع الغريزية الأساسية. وقد تعلمنا ان الدوافع الغريزية يمكن ان تغير هدفها (بالنقل)، وانها قابلة أيضاً لأن ينوب بعضها مناب بعض، إذ يمكن لطاقة أحد الدوافع ان تتحول إلى دافع آخر. وهذه الظاهرة الأخيرة لا تزال منقوصة التفسير. وبعد طول تردد وطول اخذ ورد، قر قرارنا على التسليم بوجود غريزتين أساسيتين فقط: الايروس[5] وغريزة التدمير (وتقع في نطاق الايروس غريزتا حفظ الذات وحفظ النوع المتعارضتان، وكذلك غريزتا حب الذات والحب الموضوعي[6]، المتناقضتان بدورهما). وهدف الايروس إنشاء وحدات متعاظمة الحجم باستمرار بغية صونها، وبكلمة واحدة، هدف ربطي. أما هدف الغريزة الأخرى، على العكس، فهو فصم الروابط كافة، وبالتالي تدمير كل شيء. ومباح لنا ان نفترض ان الهدف النهائي لغريزة التدمير إرجاع الحي إلى الحالة اللاعضوية، ولهذا نسميها غريزة الموت. فلئن سلمنا بأن الكائن الحي لم يظهر إلا بعد المادة الهامدة، وأنه منها خرج، فلا محيد لنا عن الاستنتاج من ذلك أن غريزة الموت تنصاع للقاعدة المتقدم ذكرها والتي تنص على ان كل غريزة تنزع إلى إعادة حالة سابقة. اما بالنسبة إلى الايروس، غريزة الحب، فليس لنا ان نطبق عليها القاعدة عينها لأننا لو فعلنا لكان هذا معناه اننا نصادر على ان الجوهر الحي، بعد ان شكل في البداية وحدة، تجزأ في وقت لاحق، ثم بات ينزع إلى معاودة الالتئام من جديد[7].

ان الغريزتين الأساسيتين تتعارضان أو تتراكبان في الوظائف البيولوجية. ففعل الأكل مثلا يستلزم تدمير موضوع ما، على أن يعقبه تمثل هذا الموضوع. أما الفعل الجنسي فهو عدوان ينزع إلى تحقيقي أوثق اتحاد. هذا التوافق وهذا التناحر بين الغريزتين الأساسيتين يخلعان على ظاهرات الحياة كل التنوع الذي هو سمة مميزة لها. وإذا تجاوزنا مضمار الحياة العضوية وجدنا تناظر غريزتينا الأساسيتين يفضي إلى الزوج المتناقض: التجاذب والتنافر، الذي يهيمن على العالم اللاعضوي[8].

ان كل تعديل يطرأ على نسبة انصهار الغريزتين تكون له أظهر النتائج. ففرط العدوانية الجنسية يقلب المحب إلى قاتل سادي، والنقصان الكبير في هذه العدوانية عينها يحيله خجولاً أو عنيناً.

ولا مجال لحصر أي من الغريزتين الأساسيتين في منطقة بعينها من مناطق النفسية، إذ نلتقيهما حتما في كل مكان. وهاكم كيف نتصور الحالة البدئية: فقد كانت كل الطاقة المتاحة للايروس، التي سنسميها من الآن فصاعداً بالليبيدو، موجودة في الأنا - الهذا غير المتمايز بعد، وكانت تعمل على تحييد النوازع التدميرية الماثلة فيه بدورها (لا نملك بعد مصطلحا مماثلاً لمصطلح "الليبيدو" للإشارة إلى طاقة الغرائز التدميرية). ويغدو سهلاً علينا نسبياً بعد ذلك ان نتتبع المصائر اللاحقة لليبيدو. أما فيما يتصل بغريزة التدمير، فإن هذا التتبع أشد عسراً.

فما دامت هذه الغريزة تعمل في الداخل بوصفها غريزة موت، فإنها تظل خرساء ولا تظهر لنا إلا لحظة تتحول إلى الخارج بوصفها غريزة تدمير. ويبدو ان هذا التمويه ضروري لحفظ الفرد، والجهاز العضلي هو الذي يتولى الأمر. ففي زمن تكوّن الأنا الأعلى، تتثبت تراكمات كبيرة من غريزة العدوان في داخل الأنا وتعمل فيه كعناصر تدمير ذاتية وذلك هو أحد الأخطار التي تتهدد سلامة النفسية والتي يعرض الإنسان نفسه لها حين يسلك طريق الحضارة. وبالفعل، إن كبح المرء جماح عدوانيته لهو بوجه عام ضار ومسبب للمرض. وكثيراً ما نلاحظ تحول عدوانيته مكبوحة إلى تدمير ذاتي لدى فرد يقلب عدوانه إلى ذاته، فيشد في سورة الغضب شعره أو يلطم وجهه بقبضتيه. ومن المحقق ان هذا الفرد كان يؤثر ان يعامل بهذه المعاملة شخصاً غيره. ويبقى على كل حال قسم من التدمير الذاتي في داخل الفرد إلى ان يقتله في خاتمة المطاف، وربما لا يكون ذلك إلا بعد ان تُستنفد طاقته الليبيدوية بتمامها أو تتثبت على نحو ضار. وهكذا يباح لنا أن نفترض ان الفرد يموت بسبب منازعاته الداخلية، بينما لا يسقط النوع، على العكس، إلا بعد صراع فاشل ضد العالم الخارجي، وحين يتغير هذا العالم تغييراً لا تعود تكفي معه التكيفات المكتسبة.

من العسير ان نصف مسلك الليبيدو في الهذا وفي الأنا الأعلى. فكل ما نعرفه يخص الأنا حيث تتراكم، من البداية، كل الكمية المتاحة من الليبيدو. وعلى هذا الوضع نطلق اسم النرجسية الأولية المطلقة. وهو يدوم الا ان يشرع الأنا بتوظيف الليبيدو في تمثلاته الموضوعية، وبتحويل الليبيدو النرجسي إلى ليبيدو موضوعي. ويبقى الأنا، مدى الحياة كلها، المستودع الكبير الذي منه تنطلق التوظيفات الليبيدوية نحو المواضيع والذي إليه ترتد أيضا على نحو ما تفعل كتلة وذفية[9]حين تمد أو تسحب شواها الكاذبة (Pseudopodia) وإنما في ملاء حالات الحب فقط يتحول الشطر الأعظم من الليبيدو إلى الموضوع، ويحل هذا الأخير، إلى حد ما، محل الأنا. ومن خصائص الليبيدو الهامة الأخرى حركيته، أي اليسر الذي ينتقل به من موضوع إلى أخر. ويقال، على العكس من ذلك، ان الليبيدو يتثبت حين يعلق، أحياناً طول الحياة، ببعض المواضيع الخاصة.

مما لا جدال فيه ان لليبيدو مصادر بدنية، وانه ينتشر في الانا بدءاً من أعضاء ومواضع مختلفة في الجسم. وهذا ما يتجلى أوضح التجلي في ذلك الشق من الليبيدو الذي يعرف، بمقتضى هدفه الغريزي، بالتهيج الجنسي. ويطلق اسم المناطق الشهوية (zones erogenous) على تلك الأجزاء من الجسم التي منها ينطلق بصورة رئيسية هذا الليبيدو، غير ان الجسم برمته يشكل، والحق يقال، منطقة شهوية. ومما أتاح لنا بوجه الخصوص ان نعرف الايروس، ومن ثم ممثله: الليبيدو، دراسة الوظيفة الجنسية التي تتطابق في عرف الجمهور، بله في نظرياتنا العلمية أيضاً، مع الايروس، وقد تأتي لنا أن نتبين الكيفية التي يتطور بها رويداً رويداً النازع الجنسي، الذي له ذلك الدور البالغ في حياتنا، بدءاً من دوافع غريزية جزئية عدة تمثل مناطق شهوية خاصة شتى.

الفصل الثالث: تطور الوظيفة الجنسية
تنزع الجنسية البشرية، في عرف التصور الأكثر شيوعاً بين الناس، إلى تحقيق الاتصال في المقام الأول بين الأعضاء الجنسية لفردين من جنس مختلف. وتعد القبلات والنظر إلى جسم الشريك ولمسة تظاهرات ثانوية وأفعالاً تمهيدية. والمفروض بالنازع الجنسي ان يظهر عند البلوغ، أي في زمن النضج الجنسي، وأن يكون هدفه التناسل. غير ان بعض الوقائع، المعروفة جيداً، لا تدخل في الإطار الضيق لمثل هذا التصور:

1. فمما يسترعي الانتباه ان بعض الأشخاص لا يشعرون بانجذاب إلا نحو أفراد من نفس جنسهم وإلا نحو الأعضاء التناسلية لهؤلاء الأفراد.

2. مما يسترعي الانتباه أيضاً ان اللذة التي تساور بعض الأفراد لا تصدر، وان حافظت على طابع جنسي تام، عن المناطق التناسلية أو لا تستخدمها بصورة عادية. ويسمى هؤلاء الأشخاص بالمنحرفين.

3. من الواضح، أخيراً، ان بعض الأطفال، الذين يعدون لهذا السبب منحطين، يهتمون في وقت مبكر للغاية بأعضائهم التناسلية التي تظهر عليها علائم تهيج.

لا عجب ان يكون اكتشاف هذه الوقائع الثلاث المغفلة قد أثار ضجة. فالتحليل النفسي، الذي أبرزها وشدد عليها، عاكس تيار الأفكار الرائجة شعبياً، ومن هنا جوبه بمعارضة عنيفة. وهاكم النتائج الرئيسية لذلك الاكتشاف.

1. ان الحياة الجنسية لا تبدأ في عهد البلوغ، بل تعلن عن نفسها في زمن مبكر جداً عقب الولادة.

2. من الضروري التمييز بدقة بين مفهوم الجنسي ومفهوم التناسلي. فلفظة الجنسي لها معنى أوسع بكثير، وهي تطال وجوها عدة من النشاط لا ضلع لها بالأعضاء التناسلية.

3. تتضمن الحياة الجنسية الوظيفة التي تتيح الظفر بلذة من مناطق شتى في الجسم؛ وهذه الوظيفة يفترض فيها في وقت لاحق ان توضع في خدمة التناسل. غير ان هاتين الوظيفتين لا تتطابقان على الدوام تمام التطابق.

ان الأطروحة الأولى، التي هي أبعد الاطروحات الثلاث عن التوقع، هي أيضاً أولاها بالاستثئار بأعظم الاهتمام. فلئن أنكرت صفة "الجنسية" على بعض وجوه النشاط لدى صغار الأطفال، فليس ذلك إلا نزولا عند حكم رأي مسبق قديم. فوجوه النشاط هذه ترتبط بظاهرات نفسية لا نعتم ان نلتقيها، في زمن لاحق، في حياة الراشدين الحبية كالتثبيت، مثلا، على موضوع خاص، أو الغيرة، الخ. ونلحظ أيضاً ان ظاهرات الطفولة الأولى هذه تتطور وفق قواعد معينة، ويطرد تناميها وصولاً إلى آخر السنة الخامسة من العمر، حيث تبلغ ذروتها لتتوقف بعد ذلك لحين من الزمن. وعند تلك المرحلة يقف التقدم، وتقع جملة من الأشياء في لجة النسيان وتتراجع القهقرى. وبعد هذه المرحلة التي يقال لها مرحلة الكمون، تعاود الجنسية ظهورها عند البلوغ، بل يسعنا القول إنها تزهر من جديد. الحقيقية التي تواجهنا إذن هنا هي ان الحياة الجنسية ثنائية الطور في توطدها، وهذه ظاهرة لا تلحظ إلا عند الإنسان وحده، ودورها في صيرورة هذا الأخير كبيرا ولا شك[10].

وتخضع جميع أحداث هذه المرحلة المبكرة من النشاط الجنسي، خلا استثناءات نادرة، للنساية الطفلية، وهذه ظاهرة لا يجوز ان تقابل منا بعدم الاكتراث. وبالفعل، ان ملاحظة هذه النساية هي التي أتاحت لنا أن نكون فكرة عن أسباب الاعصبة وان نضع طريقتنا في العلاج التحليلي. وعلاوة على ذلك، أمدتنا دراسة السيرورات التطورية في طور الطفولة ببراهين تؤيد استنتاجات أخرى.

ان أول عضو يعلن عن نفسه كمنطقة شهوية ويطرح مطالب ليبيدوية على النفسية هو، منذ الولادة، الفم. فكل النشاط النفسي يتركز أولاً على إشباع حاجات هذه المنطقة. ولا شك في ان التغذية تشبع، قبل كل شيء، حاجة حفظ الذات. لكن لنحاذر الخلط بين الفيزيولوجيا والسيكولوجيا. فالطفل يدلل في وقت مبكر جداً، بتشبثه بالمص، على ان فعله هذا يعود عليه بالرضى. وهذا الشعور بالرضى، وان استمد أصله من التغذية، يبقى مع ذلك مستقلاً. وما دامت الحاجة إلى المص تنزع إلى توليد لذة، فمن الممكن ومن الواجب أن توصف بأنها جنسية.

ومنذ هذا الطور الفموي، ومع ظهور الأسنان الأولى، تبرز بعض الدوافع الغريزية السادية بصورة منعزلة. ويزداد بروزها زيادة كبيرة في الطور الثاني، الذي نسميه بالطور السادي - الشرجي، لان الشعور بالرضى يتأتى من العدوان ومن الوظيفة الإخراجية. ولئن خولنا أنفسنا الحق في إدراج النوازع العدوانية في الليبيدو، فذلك لأننا نعتقد أن السادية مزيج من دوافع غريزية ليبيدوية خالصة ومن نوازع تدميرية خالصة، وهو مزيج يدوم أبد العمر[11].

أما الطور الثالث الذي نسميه بالقضيبي فيسبق مباشرة الحالة النهائية للحياة الجنسية ويكون بينه وبينها شبه كبير. ولنلحظ ان الأعضاء التناسلية الذكرية (القضيب) هي وحدها التي تلعب في هذا الطور دوراً. أما الأعضاء التناسلية الأنثوية فتبقى ردحاً طويلا من الزمن مجهولة؛ ذلك ان الطفل، حينما يسعى إلى فهم الظاهرات الجنسية، يأخذ بنظرية المخرج[12] الموقرة، وهي نظرية لها ما يبررها من وجهة النظر التكوينية[13].

مع الطور القضيبي وفي أثنائه تدرك الجنسية الطفلية ذروتها وتقترب من طور أفولها. ومن الآن فصاعداً سيختلف مصير كل من الصبي والبنت. فقد بدأ كلاهما بأن وضع نشاطه الذهني في خدمة الاستقصاء الجنسي، وأخذ كلاهما بفرضية عمومية القضيب. غير أن الطريقين اللذين يسير فيهما الجنسان سيفترقان. فالصبي الصغير يدخل في الطور الاوديبي ويشرع بمعابثة قضيبه ويرفق هذه المعابثة بتخيلات ذات صلة بنشاط جنسي موضوعه الأم. غير ان الصبي الصغير لا يعتم تحت تأثير صدمتين متزامنتين: التهديد بالخصاء وملاحظة فقدان المرأة للقضيب، ان يتعرض لأعظم رضة في حياته، وهي الرضة التي تعقبها لاحقا مرحلة الكمون بكل نتائجها. اما الفتاة الصغيرة فبعد محاولات فاشلة لتقليد الصبي تدرك فقدانها للقضيب أو بالأحرى دونية بظرها، الأمر الذي يكون له آثار دائمة في تكوين طبعها؛ فهذه الخيبة الأولى في مضمار المنافسة تجعلها تعزف في كثير من الأحيان عن الحياة الجنسية عزوفاً تاماً.

من الخطأ أن نحسب أن هذه المراحل الثلاث ذات حدود مرسومة بوضوح، فقد توازي واحدتها الأخرى أو قد تتداخل معها أو قد تتطابق، وفي الأطوار المبكرة تعمل شتى الدوافع الغريزية الجزئية بصورة مستقلة عن بعضها بعضاً في سبيل كسب مقدار من اللذة. وإنما في أثناء الطور القضيبي ترضخ النوازع الأخرى لزعامة الأعضاء التناسلية ويندمج الطلب العام للذة بالوظيفة الجنسية. ولا يكتمل التنظيم إلا مع البلوغ، وفي طور رابع، هو الطور التناسلي. وتجري الأمور في هذا الطور على النحو الآتي: 1- تبقى توظيفات قديمة، شتى لليبيدو قائمة؛ 2- تندمج توظيفات أخرى في الوظيفة الجنسية لتشكل الأفعال الثانوية أو التمهيدية التي ينشأ عن إشباعها ما يمسى باللذة التمهيدية؛ 3- يجري استبعاد نوازع أخرى، إما بالقمع الشامل (الكبت)، وإما بتعديل دورها في الأنا؛ فتشكل بعض سمات طبعية أو تخضع لإسماء مصحوب بنقل للهدف.

لا تتم هذه السيرورة على الدوام بلا ضرر، وضروب الكف التي تعيق مجراها تتظاهر في شكل اضطرابات مختلفة في الحياة الجنسية. عندئذ يبقى الليبيدو مثبتاً على الحالات المميزة للأطوار المبكرة من النمو، وتحدث ضروب شتى من الحيدان عن الهدف السوي تسمى بالانحرافات. وتقدم لنا الجنسية المثلية السافرة مثالاً على اضطرابات التطور هذه ويبين التحليل ان هناك على الدوام رابطاً موضوعياً جنسياً مثلياً، وكل ما هنالك ان هذه الجنسية المثلية تبقى في اغلب الحالات كامنة. والسيرورات التي تؤدي إلى قيام حالة سوية لا تتحقق أبداً بتمامها كما لا تنعدم أبداً بتمامها. فليس لها إجمالا سوى طابع جزئي، بحيث يتوقف المال النهائي على علاقات كمية. وواضح للعيان مدى تعقيد هذا الوضع. وهكذا فإن التنظيم التناسلي وان قام، غير أنه يظل محروماً من جميع أجزاء الليبيدو التي لم يقيض لها التطور والتي لبثت مثبتة على المواضيع والأهداف القبتناسلية[14]. ويتجلى هذا الضعف، في حالات عدم الإشباع الجنسي أو العقبات الفعلية، في نزوع الليبيدو إلى التراجع نحو التوظيفات القديمة القبتناسلية، أي إلى النكوص.

لقد انتهينا، في أثناء دراستنا الوظائف الجنسية، إلى اقتناع أول ومسبق، أو بتعبير أدق، إلى اشتباه أول بصدد نقطتين تبدو أهميتهما، في هذا المضمار كله، كبيرة. أولاً، ان الظاهرات السوية أو غير السوية التي نلاحظها (وتلك هي الفينومينولوجيا) تقتضي ان توصف من الزاوية الدينامية أو الاقتصادية (في الحالة التي نحن بصددها يتعين علينا ان نسعى إلى معرفة التوزيع الكمي لليبيدو). ثانياً، ان أسباب الاضطرابات التي ندرسها تتكشف في تاريخ تطور الفرد، أي في طفولته.

الفصل الرابع: الكيفيات النفسية
وصفنا بنية الجهاز النفسي، والطاقات أو القوى التي تفعل فيه. ورأينا، من خلال مثال بيِّن، كيف تنتظم هذه الطاقات، وفي المقام الأول الليبيدو، في وظيفة فيزيولوجية هدفها حفظ النوع. على ان هذا كله لم يكن له طابع نفسي نوعي، فيما خلا، بطبيعة الحال، الواقعة التالية التي يمكن التحقق منها بالتجربة: وهي ان الجهاز والطاقات المشار إليها هي بمثابة الأساس بالذات للوظائف التي تعرف بالوظائف النفسية وعليه، فلننظر الآن في ما هو، في عرف التصور الشائع، سمة موقوفة على الظاهرة النفسية، في ما يجعل منها ظاهرة فريدة في نوعها.

ان نقطة الانطلاق لبحثنا تتيحها لنا واقعة منقطعة النظير، لا سبيل إلى تفسيرها أو وصفها: هي الشعور. ومع ذلك، حالما يدور الكلام عن الشعور، يعرف كل واحد للحال، وبالخبرة، ما المقصود به[15]. ويقنع الكثيرون من الناس، سواء كانوا من العاملين أم غير العاملين في الأوساط العلمية، بالافتراض ان الشعور هو وحده قوام النفسية كلها، وان ليس لعلم النفس بالتالي من مهمة في هذا الحال غير ان يميز، في داخل نطاق الفينومينولوجيا النفسية، بين الادراكات والاحساسات والسيرورات الذهنية والأفعال الإرادية، ومع ذلك يتفق رأي الجميع على ان السيرورات الشعورية لا تشكل سلسلة متصلة مكتملة، وهذا ما يوجب التسليم بوجود سيرورات فيزيقية أو بدنية مصاحبة للظاهرات النفسية، وأدنى إلى الاكتمال من سلاسل هذه الأخيرة، إذ يشتمل بعضها على سيرورات شعورية موازية بينما لا يشتمل بعضها الآخر على شيء من هذا. يبدو طبيعياً إذن ان نلح في علم النفس على هذه السيرورات البدنية، وان نرى فيها خاصية ما هو نفسي صرف، وأن نحاول تقييم السيرورات الشعورية تقييماً مغايراً. بيد ان اغلب الفلاسفة وكثيرين سواهم، يثورون على هذه الفكرة ويعلنون ان المصادرة على وجود نفسية لاشعورية خُلْف وإحالة.

ومع ذلك، فهذا بالضبط ما يتعين على التحليل النفسي ان يفعله، وتلكم هي بالتحديد فرضيته الأساسية الثانية. فهو يؤكد ان السيرورات المصاحبة التي يُزعم انها من طبيعة بدنية هي بالتحديد قوام النفسية، ولا يشغل نفسه بادئ الأمر بصفة الشعور ولا ينفرد التحليل النفسي أصلا بإبداء هذا الرأي. فقد افصح مفكرون آخرون. ومنهم مثلاً ت. ليبيس (Lipps)، عن وجهة نظر مماثلة في ألفاظ مماثلة؛ ونظراً إلى أن التصور الشائع عن ماهية النفس لا يرضي الفكر، فقد كان من المحتم ان تفرض فكرة وجود لاشعور نفسها بمزيد من القوة على علم النفس، لكن على نحو شديد الإبهام والغموض، مما شلها عن التأثير في العلم[16].

قد يميل المرء إلى أن يرى هذا الخلاف بين التحليل النفسي والفلسفة مجرد مسألة تنصب على التعريف: "فأي سلسلة من سلاسل الظاهرات ينبغي ان نختصها بالوصف بأنها "نفسية"؟

والواقع أن هذه المسألة ارتدت اعظم الأهمية. فعلى حين ان علم نفس الشعور ما كان يسعه قط الخروج من نطاق هذه السلاسل المليئة بالثغرات والمرتبطة بكل وضوح بشيء آخر، فإن المفهوم القائل ان العنصر النفسي هو في ذاته لاشعوري أتاح لعلم النفس ان يصير فرعاً، مشابهاً لغيره من الفروع، من العلوم الطبيعية. فالظاهرات التي يدرسها علم النفس هي في ذاتها ليست اكثر قابلية للمعرفة من الظاهرات التي تدرسها العلوم الأخرى، كالكيمياء أو الفيزياء مثلاً، لكن من الممكن تعيين القوانين التي تحكمها وإخضاع علاقاتها المتبادلة وارتهان بعضها ببعضها الآخر للملاحظة على نطاق واسع وبلا ثغرات.

وهذا ما يسمى بالوصول إلى "فهم" هذه الفئة من الظاهرات الطبيعية؛ وهو أمر يقتضي خلق فروض ومفاهيم جديدة؛ على أنه يجوز ان نعد هذه الفروض والمفاهيم المستحدثة أدلة على ما نتخبط فيه من حرج بل ينبغي ان نرى فيها إغناء لمعارفنا. ويخلق بنا ان ننظر إليها من الزاوية عينها التي ننظر منها إلى فروض العمل التي تلجأ إليها في العادة علوم طبيعية أخرى، وان نعزو إليها القيمة التقريبية نفسها. وإنما من التجارب المتراكمة والمنتخبة تنتظر هذه الفروض تعديلاتها ومبرراتها، كما تتوقع تعيينا اكثر دقة ووضوحاً. فهل لنا ان نعجب ان بقيت المفاهيم الأساسية للعلم الجديد (الدافع الغريزي، الطاقة العصبية، الخ)، بل مبادئه بالذات، بعيدة لأجل مديد من الزمن عن التعيين، مثلها في ذلك مثل مفاهيم العلوم الأقدم عهداً (القوة، الكتلة، الجاذبية، الخ)؟

ان كل علم يستند إلى مشاهدات وتجارب ينقلها إلينا جهازنا النفسي، لكن بما ان هذا الجهاز عينه هو موضوع دراستنا، فان المماثلة تقف عند هذا الحد. فمشاهداتنا نجريها بمساعدة جهاز الإدراك عينه، ونحن نعتمد تحديداً على قطع الاتصال في سلاسل السيرورات النفسية. وبالفعل، اننا نردم الفجوات باستدلالات معقولة مقبولة، ونترجمها إلى مادة شعورية. وبعلمنا هذا نضيف، ان جاز التعبير، إلى الظاهرات النفسية اللاشعورية سلسلة متممة من الوقائع الشعورية. ويقوم اليقين النسبي لعلمنا عن النفسية على القوة الاقناعية لاستدلالاتنا. ومن يبغ التعمق في هذه المسألة فسيجد أن تقنيتنا تصمد بقوة أمام كل نقد.

ينجذب اهتمامنا، في أثناء عملنا، نحو بعض التمايزات التي تشكل ما نسميه بالكيفيات النفسية. ولا حاجة بنا إلى ان نشرح هنا ما نسميه بالشعور، فهو عينه الشعور لدى الفلاسفة ولدى الجمهور العريض[17]. وكل ما عداه من النفسية، هو في رأينا، اللاشعور. ولن نجد مفراً من أن نجري في هذا اللاشعور تمييزاً هاماً. فعدد من السيرورات تغدو، بالفعل، شعورية بسهولة، ثم تكف عن أن تكون شعورية لتعود فتصبح كذلك من جديد بلا عناء. فهي تستطيع، كما يقال، ان ترجع إلى الذاكرة وأن تستعاد وتُستظهر. ولا يغب عنا أن الحالة الشعورية هي من اكثر الحالات سرعة زوال، إذ لا يبقى الشعوري شعورياً إلا لهنيهة من الزمن. ولئن لم تؤيد ادراكاتنا هذه الواقعة، فليس لنا ان نرى في ذلك سوى تناقض ظاهر مرده إلى ان التنبيهات يمكن ان تدوم زمناً ما، بحيث يتأتى لإدراكنا لها ان يتكرر طوال هذا الزمن. ويتوضح هذا الوضع متى تفحصنا الإدراك الشعوري لسيروراتنا التفكيرية، فصحيح ان هذه السيرورات قابلة لأن تدوم، لكنها قابلة أيضاً لأن تتوقف في مثل لمح النظر. وسوف نقول في هذا القسم من اللاشعور، الذي يبقى لاشعوريا تارة، ويغدو شعورياً طوراً، إنه "قابل لان يصير شعورياً"، وسوف نحبذ ان نطلق على اسم القبشعور[18]. وتدل التجربة انه لا وجود تقريباً لسيرورة نفسية، مهما تكن معقدة، لا يمكن لها أحياناً ان تبقى قبشعورية، وان كانت تسعى في العادة إلى الدلوف إلى الشعور، كما نقول.

ثمة سيرورات أو مضامين نفسية أخرى تواجه صعوبة اكبر في الدلوف إلى الشعور. ولا مفر من أن تُستنتج وتُكتشف ويُعثر لها على ترجمتها الشعورية. ولها تحديداً نحتفظ باسم اللاشعور بحصر المعنى. اننا نعزو إذن إلى السيروات النفسية كيفيات ثلاثاً: فهي إما شعورية وأما قبشعورية وإما لا شعورية. والتمييز الذي يمكن ان يصير شعورياً، بلا تدخل من قبلنا. واللاشعوري يمكن أن يصبح، بفضل جهودنا، شعورياً، وكثيراً ما يتراءى لنا في هذه الحال أنه يتعين علينا، للوصول إلى ذلك، التغلب على مقاومات بالغة الشدة. وعندما نقوم بهذه المحاولة على شخص آخر يخلق بنا أن نتذكر أنه لا يكفينا ان نردم فجوات إدراكاته، واننا إذ نتيح له ان يعيد بناء الأحداث لا نكون أفلحنا بالضرورة في تحويل المواد اللاشعورية المعينة عنده إلى مواد شعورية. والحق ان هذا المضمون يكون مزدوج التثبيت في نفسيته، أولا في إعادة البناء الشعوري الذي أتحناه له، وثانياً في الشكل البدائي اللاشعوري. وبمواصلتنا مجهودنا نتوصل في العادة إلى تحويل المضمون اللاشعوري إلى مضمون شعوري، فيتطابق عندئذ التثبيتان. وتتيح لنا شدة جهودنا أن نقيس المقاومة التي تعترض سبيل التحول إلى الشعور والتي تتفاوت من حالة إلى أخرى. كذلك فإن النتيجة التي نظفر بها بعد لأي في أثناء العلاج التحيلي يمكن أن تحدث بصورة تلقائية أيضاً، وذلك عندما ينقلب أحياناً مضمون لاشعوري في العادة إلى مضمون قبشعوري ثم يصبح شعورياً، وهذا ما يحدث في الحالات الذهانية على نطاق واسع. ومن ذلك نستنتج ان بقاء بعض المقاومات الداخلية هو واحد من شروط الحالة السوية. وفي أثناء النوم بصفة عامة ترتفع المقاومات ويندفع بنتيجة ارتفاعها المضمون اللاشعوري، فتتاح بالتالي للأحلام إمكانية التكون. وعلى العكس من ذلك، قد يحدث ان يبقى المضمون القبشعوري بعيد المنال لأمد من الزمن، إذ تعترض بعض المقاومات سبيل تحوله إلى الشعور، كما في حالة النسيان العابر (الهفوات). وكذلك قد ترتد الفكرة القبشعورية بصورة مؤقتة إلى الحالة اللاشعورية، وذلك هو شرط النكتة فيما يبدو. وسوف نرى ان هذا الضرب من ارتداد المضامين (أو السيرورات) إلى الحالة اللاشعورية يلعب دوراً هاماً في نشوء الأمراض العصابية.

ان نظرية الكيفيات الثلاث النفسية تبدو، في هذا الشكل العام والمبسط الذي قدمناها به، وكأنها عامل تشويش للأشياء لا عامل توضيح. بيد أنه يخلق بنا ألا ننسى أنها ليست نظرية بحصر المعنى، بل هي مجرد تقرير أولي عن وقائع مشاهدة، يسعى لا إلى تفسير هذه الوقائع، بل إلى الإحاطة بها عن أقرب قرب ممكن. ومن شأن، التعقيدات التي تتكشف لنا على هذا النحو ان تظهر للعيان كثرة العقبات التي تتعثر بها أبحاثنا. على أن كل شيء يحملنا على الاعتقاد ان معرفة العلاقات التي تقوم بين كيفيات النفسية وبين أقاليم الجهاز النفسي أو هيئاته التي نصادر على وجودها ستتيح لنا فهماً افضل للأشياء، وان تكن هذه العلاقات بعيدة بدورها عن البساطة.

ان فعل الشعور يتعلق قبل كل شيء بالادراكات التي تتلقاها أعضاء حواسنا من الخارج. هذه الظاهرة تحدث إذن، من وجهة النظر الطوبوغرافية، في الطبقة اللحائية الأكثر خارجية من الأنا. ونحن لا ننكر ان بعض المعلومات الشعورية تأتينا أيضاً من داخل جسمنا، وتتمثل بالمشاعر التي لها على حياتنا النفسية تأثير اعظم وقعاً بعد من الادراكات الخارجية. وأخيراً تصدر عن أعضاء الحواس، في ظروف شتى، علاوة على إدراكاتها الخاصة بها، مشاعر وأحاسيس مؤلمة. وهذه الانطباعات، كما نسميها تمييزاً لها عن الادراكات الشعورية، تنبعث أيضاً من أعضائنا الطرفية. والحال اننا نعتبر هذه الأعضاء استطالات لتشعبات الطبقة اللحائية، الأمر الذي يتيح لنا ان نتمسك بوجهة النظر التي تقدم بيانها. وحسبنا ان نقول ان الجسم عينه ينوب مناب العالم الخارجي بالنسبة إلى الأعضاء الطرفية، المستقبلية للأحاسيس والمشاعر.

لكم كان الأمر سيبدو بسيطاً لو أمكن لنا ان نعين موقع السيرورات الشعورية في محيط الأنا، وموقع كل الباقي اللاشعوري في الأنا، وربما كان هذا واقع الحال لدى الحيوانات؛ غير ان الأمور اكثر تعقيداً لدى الإنسان بالنظر إلى وجود عمليات باطنة في الأنا قابلة أيضاً لان تغدو شعورية. واللغة هي التي تتيح إمكانية إقامة ارتباط وثيق بين مضامين الأنا والبقايا الذاكرية من الادراكات البصرية وعلى الأخص السمعية. ومن هنا يكون المحيط الادراكي للطبقة اللحائية قابلاً للتنبيه، من الداخل، على نطاق أوسع بكثير. ومن الممكن أيضاً لبعض السيرورات الباطنة، نظير تيارات التمثلات والسيرورات التفكيرية، ان تغدو شعورية. ولذلك يقوم جهاز خاص يوكل إليه التمييز بين الاحتمالين. وهو الذي يتولج بما نسميه امتحان الواقعية. وبذلك تبطل معادلة الإدراك- الواقع (العالم الخارجي). كما ان الأخطاء، التي تحدث من الآن فصاعداً بيسر وسهولة، والتي لا يكاد يخلو منها في العادة حلم، تسمى بالهلوسات.

ان كيفية داخل الأنا، الذي يحتوي في المقام الأول، على السيرورات التفكيرية، هي القبشعور. والقبشعور سمة مميزة للأنا وموقوفة عليه حصراً. على أنه يصح الافتراض بأن الارتباط بالآثار الذاكرية للكلام هو شرط الحالة القبشعورية، فهذه الحالة مستقلة بالأحرى عن شرط كهذا، على الرغم من أن انشراط سيرورة ما بالكلام يتيح لنا أن نستنتج على وجه اليقين ان هذه السيرورة من طبيعة قبشعورية. ان الحالة القبشعورية، المتسمة من جانب أول بالقدرة على بلوغ الشعور، ومن الجانب الثاني بارتباطها بالآثار الكلامية، لهي حالة خاصة لا تستنفد هاتان الصفتان طبيعتها. وبرهاننا على ذلك ان أجزاء كبيرة من الأنا، وعلى الأخص من الانا الأعلى، الذي لا يمكن أن ننكر عليه طابعه القبشعوري، تبقى بالإجمال لاشعورية، بالمعنى الوصفي للكلمة. واننا لنجهل العلة التي تعّين ان يكون الأمر كذلك، ولسوف نحاول فيما بعد أن نتصدى لمعضلة الطبيعة الحقيقية للقبشعور.

اما اللاشعور فهو الكيفية الوحيدة السائدة داخل الهذا. وتجمع بين الهذا واللاشعور روابط وثيقة مماثلة لتلك التي تربط بين الانا والقبشعور، بل ان الرابط هنا اكثر حصرية. ولو القينا نظرة استرجاعية على تاريخ فرد من الأفراد وعلى تاريخ جهازه النفسي، لتأتى لنا ان نجري في الهذا تمييزاً هاماً ففي الأصل كان الهذا هو كل شيء. وقد تطور الانا بدءاً من الهذا تحت التأثير المتصل للعالم الخارجي. وفي أثناء هذا التطور الوئيد انتقلت بعض مضامين الهذا إلى الحالة القبشعورية، فاندمجت على هذا النحو بالأنا. بينما بقيت مضامين أخرى بلا تغيير في الهذا، فشكلت نواته التي يعسر النفاذ إليها. غير أن الانا الفتي والضعيف نبذ إلى اللاشعور، في خلال هذا التطور، بعض المضامين التي سبق له ان دمجها، وسلك المسلك عينه حيال انطباعات جديدة عدة كان في مقدوره استقبالها، بحيث ما تسنى لهذه الانطباعات المنبوذة ان تخلف أثراً إلا في الهذا. وإنما على هذا القسم من الهذا نطلق، بالنظر إلى أصله، اسم المكبوت، ولا يتأتى لنا على الدوام أن نميز تمييزاً دقيقاً واضحاً بين هذين الضربين في مضمون الهذا، وليس هذا بأمر ذي بال أصلاً، حسبنا ان نقول ان الهذا يتضمن مضامين فطرية ووقائع مكتسبة في مجرى تطور الأنا.

نحن نسلم إذن بانقسام طوبوغرافي للجهاز النفسي إلى أنا والى هذا، وهو انقسام يناظر كيفيتي القبشعور واللاشعور. ونحن نعتقد أيضاً ان هاتين الكيفيتين هما مجرد مؤشر إلى الفارق وليستا جوهره.

فما الطبيعة الحقيقية إذن للحالة التي تتجلى في الهذا بكيفيتها اللاشعورية، وفي الانا بكيفيتها القبشعورية، وما قوام هذا الاختلاف؟

اننا نقر بأننا لا ندري من الأمر شيئاً، وليس ثمة سوى بصيص باهت يضيء الظلمات الدامسة لمعرفتنا. فهنا على وجه التحديد نقترب من اللغز الحقيقي للظاهرات النفسية الذي لم يجد حله بعد فجرياً على معطيات علوم طبيعية أخرى، نسلم بأن كمية معينة من الطاقة تفعل فعلها في الحياة النفسية، ولكن لا تتوفر لنا أية قرائن قمينة بأن تسمح لنا بمقارنة هذه الطاقة بغيرها. ويبدو أن الطاقة العصبية أو النفسية توجد في شكلين: وأحدهما سهل الحركة، وثانيهما، على العكس، مقيد. واننا لنتكلم عن توظيفات (investments) وعن توظيفات فائضة (surinvestments) للمضامين النفسية، بل نذهب إلى حد الافتراض بأن كل "توظيف فائض" يعين ضرباً من تركيب لسيرورات شتى، تتحول أثناءه الطاقة الحرة إلى طاقة مقيدة. وعند هذا الحد تتوقف معرفتنا، لكننا نعتقد جازمين ان الفارق بين الحالة اللاشعورية والحالة القبشعورية يرجع، بدوره، إلى علاقات دينامية مماثلة، وهذا قمين بأن يفسر لماذا يمكن لإحدى الحالتين ان تتحول، تلقائياً أو بجهودنا، إلى الأخرى.

لقد توصل العلم التحليلي، رغم كل هذه الشكوك، إلى تقرير حقيقة واقعة جديدة. فقد أبان ان السيرورات التي تدور في اللاشعور أو الهذا تخضع لقوانين مغايرة للقوانين التي تخضع لها السيروارات التي تدور في الانا القبشعوري. ونحن نطلق على مجمل هذه القوانين اسم السيرورة الأولية، بالتعارض مع السيرورة الثانوية التي تحكم ظاهرات القبشعور أو الأنا. وعلى هذا، تكون دراسة الكيفيات النفسية قد أثبتت في النهاية أنها ليست عقيمة كل العقم.


ترجمة: جورج طرابيشي



فرويد: مختارات من "قلق في الحضارة"

-3-
لم تزدنا دراستنا عن السعادة حتى الآن معرفة بشيء لا يعلمه الناس جميعا. وإذا أردنا ان نتممها هنا بالبحث في علة المصاعب التي تحول دون ان يصير الناس سعداء على نحو ما يحلو لهم، فان حظنا في اكتشاف شيء جديد لا يبدو اكبر بكثير. فلقد سبق أن أعطينا الجواب بإشارتنا إلى المصادر الثلاثة التي ينبع منها الألم الإنساني: قوة الطبيعة الساحقة، شيخوخة الجسم البشري، وأخيرا عدم كفاية التدابير الرامية إلى تنظيم العلاقات بين البشر، سواء أضِمْنَ الأسرة أم الدولة أم المجتمع. وفيما يتعلق بالمصدرين الأولين لا مجال لترددنا طويلا، إذ أن حصافتنا تجبرنا على الاعتراف بواقعيتهما، مثلما تجبرنا على الرضوخ لما لا مهرب منه. فنحن لن نحكم أبدا تمام الإحكام سيطرتنا على الطبيعة، وجسمنا، الذي هو ذاته عنصر من عناصر الطبيعة، سيبقى ابد الدهر قابلا للفناء ومحدودا في مقدرته على التكيف، كما في سعة وظائفه. لكن الإقرار بهذه الحقيقة لا يجوز ان يحكم علينا بالشلل: بل على العكس، إذ انه يعّين لنشاطنا الوجهة التي ينبغي عليه ان يسلكها. فلئن كنا لا نستطيع إلغاء الآلام كافة، ففي مقدورنا على الأقل التخلص من بعضها وتسكين بعضها الآخر: وبرهاننا على ذلك تجربة لها من العمر ألوف السنين. بيد أننا نلاحظ موقفا مختلفا تجاه المصدر الثالث للألم، ولا يسعنا أن ندرك لماذا لا توفر المؤسسات التي أنشأناها بأنفسنا الحماية والمنفعة لنا جميعا. وعلى كل حال، لو أمعنا التفكير في الفشل المحزن الذي تُمنَى به، في هذا المجال على وجه التحديد، إجراءاتنا للوقاية من الألم، لشرعت تراودنا الشكوك بأن ثمة قانونا ما للطبيعة التي لا تقهر يتواري هنا أيضا عن الأنظار، وان هذا القانون يتعلق هذه المرة بتكويننا النفسي بالذات.

وإذا ما تصدينا لدراسة احتمال كهذا، اصطدمنا على الفور بتوكيد طالما طرق آذاننا، ولكنه يستأهل ان نتوقف عنده لأنه عجيب ومدهش حقا. فهو يزعم أن ما نسميه بحضارتنا هو الذي ينبغي ان نحّمله إلى حد كبير تبعة بؤسنا، وأن التخلي عن هذه الحضارة للعودة إلى الحالة البدائية سيكفل لنا قدرا من السعادة اكبر بكثير. انني اعتبر هذا التوكيد عجيبا ومدهشا لأنه من المؤكد الثابت بالرغم من كل شيء، أيا يكن التعريف الذي نلبسه لمفهوم الحضارة، ان كل ما نسعى إلى تجنيده لحمايتنا من تهديدات الألم الناجم عن هذا أو ذاك من المصادر الآنفة الذكر إنما هو من صنع هذه الحضارة عينها.

كيف انتهى الأمر بعدد كبير من المخلوقات البشرية إلى الأخذ، على ما في ذلك من غرابة، بوجهة النظر المعادية للحضارة تلك؟ اعتقد ان استياء دفينا، من منشأ ناء للغاية، كان يتجدد في كل طور من أطواره، هو الذي حث على تلك الإدانة التي كانت تتكرر بانتظام بفضل ظروف تاريخية مؤاتية. ويخيل إلي انني قادر على معرفة ما كان الأخير وما قبل الأخير من تلك الظروف، لكنني لست ضليعا بما فيه الكفاية في العلم لأتتبع تسلسلها عبر الماضي السحيق للجنس البشري. حسبي أن أشير إلى أن عامل العداء للحضارة كان من أسباب انتصار المسيحية على الوثنية، إذ جرى وثيق الربط بينه وبين الخفض من قيمة الحياة الأرضية كما نادى به المذهب المسيحي. وقد قام ما قبل الأخير من تلك الظروف التاريخية حين أتاح تطور الأسفار الاستكشافية إمكانية الاتصال بالأجناس والشعوب المتوحشة. فقد تصور الأوروبيون، نظرا إلى عدم توفر الملاحظات الكافية والتفهم الصحيح لعادات المتوحشين وأعرافهم، ان هؤلاء الأخيرين يحيون حياة بسيطة وسعيدة، فقيرة بالحاجات، على نحو ما عاد متاحا للمستكشفين الأكثر تَمَدْيُناً الذين يزورونهم. وقد جاءت التجربة اللاحقة لتصحح، في اكثر من نقطة، ذلك الحكم. فلئن كانت الحياة اسهل عليهم بالفعل، فقد ارتكب الأوروبيون مرارا وتكرارا خطأ عزو خفة الأعباء هذه إلى غياب المطالب البالغة التعقيد والناجمة عن الحضارة، مع أن الفضل فيها كان يعود، بوجه الإجمال، إلى كرم الطبيعة والى جميع التسهيلات التي تتيحها للمتوحشين لتلبية حاجاتهم الحيوية. أما آخر تلك الظروف التاريخية فقد قام حين تعلمنا أن نمّيز أواليات[19] العُصاب[20] الذي هدد بتخريب القسط الضئيل من السعادة الذي فاز به الإنسان المتمّدن. وقد اكتشف الناس عندئذ ان الإنسان يصير عصابيا لأنه لا يستطيع ان يتحمل درجة العزوف والزهد التي يتطلبها المجتمع باسم مثله الأعلى الثقافي، وخلصوا إلى الاستنتاج بأن إلغاء تلك المطالب أو تخفيفها يعني رجوعا إلى إمكانيات السعادة.

هناك سبب آخر أيضا للخيبة ولانقشاع الأوهام. فخلال الأجيال الأخيرة تمكنت البشرية في مجال العلوم الفيزيائية والطبيعية وتطبيقاتها التقنية من تحقيق تقدم خارق للمألوف، وقد بسطت بنتيجة ذلك سيطرتها على الطبيعة على نحو ما كان يمكن تصوره قبل اليوم. وسمات هذا التقدم معروفة للجميع إلى حد يغني حتى عن تعدادها. وبنو الإنسان فخورون بتلك الفتوحات، وهم في فخرهم هذا محقون. بيد انه يخيل إليهم ان هذه السيطرة الحديثة العهد على المكان والزمان، وهذا الاسترقاق لقوى الطبيعة، وهذا التحقيق لصبوات وأماني لها من العمر آلاف السنين، لم تزد البتة من مقدار المتعة التي ينتظرونها من الحياة. ومن ثم، لا يعمر أفئدتهم الإحساس بأنهم صاروا نتيجة ذلك أكثر سعادة، وقد كان من المفروض ان يكتفوا بالاستنتاج بأن السيطرة على الطبيعة ليست شرط السعادة الوحيد، كما انها ليست الهدف اليتيم لعملية التمدين. لا أن يستنتجوا ان تقدم التقنية غير ذي قيمة بالنسبة إلى "اقتصاد" سعادتنا. وبالفعل، ألن نميل إزاء الاستنتاج الأخير إلى الاعتراض بقولنا: أليس مكسبا إيجابيا من اللذة، الا يزداد بلا لبس شعوري بالسعادة، إذا ما أمكنني أن أسمع متى ما شئت صوت ولدي الذي يقطن على بعد مئات الكيلومترات، أو إذا ما أتمكنني ان اعلم فور نزول صديقي من الباخرة التي كانت تقله أن رحلته الطويلة والشاقة قد انتهت بسلام. أهو شيء تافه ان يكون الطب قد افلح في تخفيض نسبة وفيات الأطفال، وفي تقليص أخطار إصابة الناس بالعدوى تقليصا يبعث على الدهشة حقا؟ أهو شيء عديم القيمة ان يكون الطب عينه قد نجح في إطالة الأمد المتوسط لحياة الإنسان المتمدن بعدد غير هين من السنين؟ أنه لفي مستطاعنا أن نضيف إلى هذه المحاسن، التي ندين بها لعصر التقدم العلمي والتقني هذا، على كثرة ما يتعرض له من ذم وتحقير، قائمة بكاملها.... ولكن هو ذا صوت النقد المتشائم يعلو ويرتفع! الصوت الذي يبث في الآذان ان غالبية هذه التسهيلات هي من طبيعة مماثلة لتلك "اللذة الرخيصة" التي تطريها النكتة المعروفة التالية: عرِّض ساقك العارية للبرد، خارج الفراش، فتفوز فيما بعد بـ "لذة" إعادتها إلى الدفء! فلولا السكك الحديدية، التي ألغت المسافة، هل كان أولادنا غادروا مسقط رأسهم، وهل كانت ستوجد، من ثم، حاجة إلى التلفون لسماع صوتهم؟ ولولا الملاحة عبر المحيطات لما كان صديقي فكر بالسفر، ولكنت استغنيت عن التلغراف للاطمئنان على مصيره. وما الفائدة من تقليص وفيات الأطفال إذا كان هذا التقليص ذاته يفرض علينا ان نضبط أنفسنا ضبطا شديدا في الإنسال، وإذا كنا بعد كل شيء لا نربي عددا من الأطفال اكبر من العدد الذي كنا نربيه أيام لم يكن لقواعد حفظ الصحة من وجود، وهذا بينما طرأ من جهة أخرى تعقيد على شروط حياتنا الجنسية في الزواج وانتفى في أغلب الظن التأثير الإيجابي للانتخاب الطبيعي؟ وماذا نجني أخيرا من طول أمد الحياة، إذا كانت هذه الحياة عينها ترهق كواهلنا بأعباء ومشاق لا تقع تحت حصر، وإذا كانت فقيرة بالأفراح، غنية بالآلام، إلى حد نرحب معه بالموت بوصفه خلاصا سعيدا؟


- يتبع -

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:15 PM

- تابع فرويد :

يبدو انه بحكم المؤكد اننا لا نشعر بأننا في يسر من امرنا وهناء في ظل حضارتنا الراهنة، لكن من العسير جدا ان نحكم هل شَعَرَ أهل الماضي، والى أي حد، بأنهم أسعد حالا، وان نقيّم بالتالي الدور الذي لعبته شروط حضارتهم. اننا ننزع على الدوام إلى تصور البؤس من زاوية موضوعية، وبعبارة أخرى، ننزع على الدوام إلى ان ننتقل بالفكر، مع حفاظنا على مطالبنا وسياستنا الخاصة، إلى شروط الثقافات القديمة لنتساءل عندئذ عن فرص السعادة أو التعاسة التي كانت ستتاح لنا في ظلها. وهذه الكيفية في النظر إلى الأمور، ان تكن موضوعية في الظاهر لأنها لا تقيم اعتبارا لتحولات الحساسية الذاتية، فهي في جوهرها ذاتية بكل القدر الممكن، لأنها تُحِل استعداداتنا النفسية محل سائر الاستعدادات الأخرى المجهولة لدينا. على ان السعادة هي، على كل حال، شيء مغرق في الذاتية. فمبلغا ما بلغ بنا النفور والاشمئزاز من بعض المواقف والأوضاع، كوضع المحكوم بالأشغال الشاقة في سالف الأزمان، أو وضع الفلاح في حرب الثلاثين عاما[21]، أو وضع ضحية محاكم التفتيش المقدس، أو وضع اليهودي المعرض للمجازر الجماعية، فانه يتعذر علينا على كل حال ان نضع أنفسنا محل أولئك التعساء، وأن نتكهن بالتشوهات التي أنزلتها عوامل نفسية متباينة بقدراتهم على استقبال الفرح والوجع. وفي عداد هذه العوامل لنذكر الحالة البدائية من اللاحساسية البليدة، والتَبَلّه التدرجي، وقطع حبل كل رجاء، وأخيرا مختلف الطرائق الفجة أو المهذبة في إلهاء النفس. وفي حالة حدوث ألم فائق الشدة، يمكن ان تتدخل أواليات نفسية معينة للحماية من الوجع. لكن يخيل إلي انه لا جدوى من مواصلة التبّحر في هذا الجانب من المشكلة.

لقد آن الأوان للنظر في جوهر تلك الحضارة التي وضعت قيمتها، بصفتها مصدرا للسعادة، موضع تشكيك. ولن نطالب بصيغة تحددها في قليل من الألفاظ قبل ان نكون قد فزنا ببعض الجلاء من فحصها وتحليلها. حسبنا ان نكرر القول[22] بأن مصطلح الحضارة[23] يشير إلى جملة الصنائع والتنظيمات التي يبعدنا تأسيسها عن حالة أسلافنا البهيمية والتي تفيد في غرضين: حماية الإنسان من الطبيعة، وتنظيم علاقات البشر فيما بينهم. ولمزيد من الوضوح سنفحص واحدة تلو الأخرى سمات الحضارة كما تتبدى في المجتمعات الإنسانية. وسوف يكون هادينا بلا تحفظ أثناء هذا الفحص اللغة الذائعة، أو كما يقال أيضا "الحس اللغوي"، مطمئنين إلى أننا بذلك لا نغمط حق تلك الحدوس العميقة التي ما تزال تتأبّى إلى اليوم على الترجمة إلى مصطلحات مجردة.

ان التوطئة لموضوعنا سهلة ميسورة، فنحن نسلّم بصفة الحضارة لجميع النشاطات والقيم النافعة للإنسان لتطويع الأرض خدمة له ووقاية من جبروت قوى الطبيعة: وهذا المظهر من مظاهر الحضارة هو أقلها إثارة للشبهات وللجدل. وإذا أردنا أن نوغل بعيدا في الماضي، فسنذكر من بين الوقائع الحضارية الأولى استعمال الأدوات، وتدجين النار، وتشييد المساكن. وتحتل ثانية هذه الوقائع مكانا رفيعا باعتبارها إنجازا خارقا للمألوف ولا سابق له[24]. أما الواقعتان الأخريان فقد فتحتا للإنسان طريقا ما لبث فيما بعد أن غدا السير فيها قدما إلى الأمام، ومن السهل أصلا تخمين الدوافع التي كانت تحضه على ذلك. وبفضل ما بات في متناول الإنسان من أدوات، جَوَّد أعضاءه (المحركة والحواسية على حد سواء) أو وسّع توسيعا مرموقا حدود مقدرتها. وزودته الآلات ذات المحرك بقوى جبارة تتساوى وقوى عضلاته بالذات من حيث سهولة توجيهها والتحكم بها. وبفضل السفينة والطائرة، ما عاد لا الماء ولا الهواء يعيقان تنقله وتسفاره. وبالنظارات صحح عيوب عدسات عينيه، وأتاح له المقراب (التلسكوب) ان يرى إلى مسافات بعيدة، مثلما أتاح له المجهر (الميكروسكوب) ان يتخطى الحدود الضيقة التي ترسمها لبصره بنية شبكية عينه. وباكتشاف آلة التصوير الفوتوغرافي كفل لنفسه أداة تثبت الظواهر الزائلة، كما ان اسطوانة الحاكي تؤدي له الخدمة عينها فيما يتعلق بالانطباعات الصوتية العابرة، وما هذان الجهازان في الواقع الا تجسيد مادي للمقدرة التي وُهبت له على التذكّر، وبعبارة أخرى، ما هما الا تجسيد لذاكرته. وبفضل الهاتف صار يسمع من بعيد، من مسافات كانت الحكايات الخرافية ذاتها تقرّ بأنها غير قابلة للاجتياز. وفي الأصل، كانت الكتابة لغة الغائب، وكان المنزل السكني بديل جسم الأم، ذلك البيت الأول الذي يبقى الحنين إليه أبد الدهر على الأرجح، والذي كان المرء يعرف الأمان فيه ويشعر بأنه في يسر من أمره وهناء.

لكأنها حكاية من حكايات الجنيات! وبالفعل، ان تلك المنجزات والصنائع التي عرف الإنسان بفضل علمه وتقنيته كيف يغني بها هذه الأرض التي رأى النور على سطحها أول ما رآه مخلوقا صغيرا قريبا إلى البهيمة والتي لا يزال على كل سليل من عرقه أن يدلف إليها في حالة الرضيع الذي لا حول له ولا قوة - يا لبوصة الطبيعة أقول: ان تلك المنجزات والصنائع ان هي الا التحقيق المباشر لجميع، كلا، لمعظم، الأماني التي عبرت عنها حكايات الجنيات تلك. وفي وسع الإنسان، بلا جدال، ان يعتبرها فتوحات للحضارة. لقد كان كوّن لنفسه، منذ سحيق العصور، مثلا أعلى لكلية القدرة ولكلية العلم، ثم جسده في آلهته. وعزا إلى هذه الآلهة كل ما لبث عَصّيا أو محظورا عليه. في مقدورنا إذن ان نقول ان تلك الآلهة كانت "مُثُلا عليا حضارية". وما دام الآن قد اقترب غاية الاقتراب من هذا المثل الأعلى، فقد أمسى هو نفسه شبه إله. لكن فقط، في الحقيقة، على المنوال الذي يصل به بنو الإنسان بوجه عام إلى أنماطه الخاصة من الكمال، أي على نحو منقوص: بصدد بعض النقاط لا يصلون إلى هدفهم بالمرة، وبصدد بعضها الآخر يصلون إلى نصف ما يريدون. لقد غدا الإنسان، ان جاز القول، ضربا من "إله رمامي"[25]، إلها يستأهل بالتأكيد كل إعجاب ان كان مسلحا بأعضائه المساعدة، لكن هذه الأعضاء لم تنبت معه وكثيرا ما تسبب له ألما بالغا. وعلى كل حال، من حقه أن يتعزى بفكرة ان ذلك الارتقاء لن ينتهي مع عام اليُمن والبركة، عام 1930[26]. فالمستقبل البعيد سيأتينا، في هذا الميدان من ميادين الحضارة، بتقدم جديد ومرموق، وعلى قدر من الأهمية يتعذر في أغلب الظن التنبؤ به من الآن. وسوف يعزز التقدم الآتي ملامح الإنسان الإلهية اكثر فاكثر. بيد اننا لا نريد ان ننسى، وهذا لصالح دراستنا، أن أي إنسان معاصر لا يشعر بأنه سعيد، مهما قارب أن يكون إلها.

اننا نتعرف المستوى الحضاري الرفيع لقطر من الأقطار حين نلاحظ ان كل شيء فيه مدروس بعناية ومنظم بفاعلية من أجل استغلال الإنسان للأرض، وان حماية هذا الإنسان من قوى الطبيعة مؤمنة ومضمونة، وبكلمة واحدة، ان كل شيء فيه مدَّبر ابتغاء نفعه. وفي قطر كذاك تُنظّم مجاري الأنهار المهددة بالفيضان، وتُساق المياه المتاحة عن طريق شبكة من الأقنية إلى الأماكن التي لا تتوفر فيها. وتُفلح الأرض بعناية، وتُزرع فيها نباتات موائمة لطبيعتها، وتُستخدم الثروات المنجمية المستخرجة على نحو متواصل من باطن الأرض في صنع أدوات وآلات لها ضرورتها الحيوية. وتُربل فيه وسائل المواصلات، وتكون سريعة وأمينة، وتُستأصل شأفة الوحوش الكاسرة والخطرة، وتزدهر تربية الحيوان. لكننا نطالب الحضارة بالمزيد، ونتمنى ان نرى تلك الأقطار عينها تتصدى على نحو كريم لتلبية مطالب أخرى. وبالفعل، اننا لا نتردد في ان نحيي أيضا، كما لو أن مبتغانا الآن التنكر لأطروحتنا الأولى، كل اهتمام يصدر عن البشر تجاه الأشياء التي لا نفع منها يرجى أو حتى تلك التي لا جدوى منها البتة في الظاهر، على اعتبار ان مثل هذا الاهتمام هو مؤشر من مؤشرات الحضارة، ومن قبيل ذلك حينما نشاهد في هذه المدينة أو تلك الحدائق العامة، تلك الفسحات الضرورية لها بصفتها مستودعات للهواء الطلق وملاعب، وقد جُمّلت أيضا بمسالك مُزهّرة، أو نرى نوافذ البيوت وقد زُينّت بأصص الأزهار. ان هذا "اللامجدي" الذي نطالب الحضارة بأن تعترف بكامل قيمته ما هو، وهذا ما نتبينه للحال، الا الجمال. اننا نطالب الإنسان المتمدن بأن يكرّم الجمال حيثما التقاه في الطبيعة، نطالب بأن تستنفر الأيدي كل ما تتمتع به من مهارة في تزيين الأشياء به. وهيهات ان نستنفذ لائحة المطالب التي نتقدم بها إلى الحضارة. ونحن نرغب أيضا في ان نرى علائم النظافة والنظام. اننا لا نكوّن فكرة رفيعة عن التنظيم المديني لبلدة في الريف الإنكليزي، في زمن شكسبير، حين نقرأ أنه كانت ترتفع، أمام باب منزل أبويه في ستراتفورد، كومة كبيرة من الزبل. واننا لنغتاظ ونتكلم عن "البربرية"، أي نقيض الحضارة، حين نشاهد دروب "وينرفالد" [غابات أخّاذة حول فيينا] وقد انتشر فيها مزق الأوراق. ان كل وساخة تبدو لنا متنافية مع حالة التمدين. ثم اننا نسحب على الجسم البشري مطلب النظافة، ويأخذنا العجب من علمنا ان الملك - الشمس[27] نفسه كانت تفوح منه رائحة كريهة، وأخيرا نهز رأسنا تعجبا عندما نعاين في ايزولا بيللا الطشت الصغير الذي كان نابليون يستخدمه لاغتساله الصباحي. بل اننا لا ندهش البتة عندما نسمع ان استعمال الصابون هو المقياس المباشر لدرجة التحضر. وكذلك الحال فيما يتعلّق بالنظام الذي يرتبط هو الآخر، شأنه شأن النظافة، بالتدخل الإنساني. ولكن لئن لم يكن في وسعنا أن نتوقع أن تسود النظافة في قلب الطبيعة، فان هذه الأخيرة تعلمنا بالمقابل النظام، هذا إذا شئنا ان نصيخ السمع إليها، فملاحظة الانتظام العظيم للظاهرات الفلكية لم تقدم للإنسان مثالا وقدوة فحسب، بل أيضا الصورة الأولى الضرورية لإدخال النظام على حياته. ان النظام ضرب من "الإكراه على التكرار" وهذا الإكراه هو الذي يقرر، مستفيدا من التنظيم الذي يقام ليدوم، متى وأين وكيف يتوجب فعل هذا الشيء أو ذاك، وبذلك يوفر الإنسان على نفسه جهد التردد وتلمس الطريق متى ما تماثلت الظروف. والنظام، الذي لا مراء البتة في محاسنه، يسمح للإنسان بأن يستعمل على افضل نحو المكان والزمان، وبأن يقتصد في الوقت نفسه في قواه الجسمانية. ومن حقنا ان نفترض ان النظام تجلّى من البدء وتلقائيا في الأفعال الإنسانية، وعجيب حقا ألا تكون الأمور قد جرت على هذا النحو، بل الأعجب من ذلك أن يكون الإنسان قد أظهر ميلا طبيعيا إلى الإهمال واللانظام وعدم الدقة في العمل، وأن تكون الحاجة قد دعت إلى بذل جهود متضاعفة لحمله، بواسطة التربية، على الاحتذاء بمثال السماء.

يحتل الجمال والنظافة والنظام مكانة خاصة، بكل تأكيد، بين مطالب الحضارة. وإذا لم يكن للإنسان ان يزعم أن أهميتها تماثل أهمية السيطرة على قوى الطبيعة، وهذه السيطرة حيوية جدا بالنسبة إلينا، أو تعادل أهمية عوامل أخرى ما يزال علينا أن نتعلم كيف نتعرفها، فليس لإنسان أيضا ان يخفض منزلتها بطوع إرادته إلى مرتبة الأمور الثانوية. ومثال الجمال، الذي لا يسعنا أن نقبل بنفيه من عداد مشاغل الحضارة واهتماماتها، يكفي وحده لكي يبين لنا أن الحضارة لا تضع نصب عينيها النافع وحده دون غيره. وعلى كل، فان نفعية النظام بديهية لا مماراة فيها. أما النظافة، فلا بد أن نأخذ بعين الاعتبار أن علم الصحة يقتضيها هو الأخر، ومن المباح لنا أن نفترض ان هذه العلاقة لم تكن مجهولة من الناس، حتى قبل تطبيق العلم في مجال الوقاية من الأمراض. بيد أن مبدأ النفعية لا يفسر تمام التفسير ذلك الميل: ولا بد أن ثمة عاملا آخر يلعب دوره في الموضوع.

لكننا لا نستطيع أن نتخيل سمة أكثر تمييزا للحضارة من القيمة المعلقة على النشاطات النفسية العليا من إنتاجات فكرية وعلمية وفنية، ولا مؤشرا ثقافيا موثوقا كالدور القيادي المنسوب إلى الأفكار في حياة البشر. وبين هذه الأفكار تحتل الأنظمة الدينية أرفع مكانة في سلّم القيم. وقد حاولت في موضع آخر أن أسلط الضوء على بنيتها المعقدة. وتصطّف إلى جانبها في المرتبة الثانية التأملات الفلسفية، ثم أخيرا ما يمكن ان يمسى بـ "الانشاءات المثالية" لبنى الإنسان، أي الأفكار المتعلقة بإمكان تحسين وضع الفرد أو الشعب أو البشرية قاطبة، أو المطالب والصبوات التي تنهض فيهم على هذا الأساس. وكون إبداعات الفكر تلك متداخلة أشد التداخل، لا منفصلة بعضها عن بعض، يجعل صياغتها والتعبير عنها واشتقاقها السيكولوجي مهمة عويصة وشائكة. وإذا سلمنا بصورة بالغة العمومية بأن نابض كل نشاط إنساني هو الرغبة في الوصول إلى هدفين متقاربين، النافع واللذيذ، توجّب علينا أن نطبق هذا المبدأ نفسه على التظاهرات الثقافية المطروحة على بساط النقاش هنا، على الرغم من أن النشاطين العلمي والفني هما وحدهما اللذان يؤكدان من بين هذه التظاهرات صحّة ذلك المبدأ. ولكن لا سبيل إلى الشك في أن التظاهرات الأخرى لا تتطابق هي الأخرى مع حاجات إنسانية بالغة القّوة، حتى وان لم تكن متطورة الا لدى أقلية قليلة فقط. كذلك ينبغي الا تضللنا أحكام القيمة التي تطلق على بعض من تلك المثل العليا أو على بعض من تلك الأنظمة الدينية والفلسفية. فسواء أحاولنا ان نرى فيها أرفع خلق وأسمى إبداع للفكر الإنساني، أم أصررنا على أن نرى فيها مجرد تخريف وهذر يدعوان للرثاء، فإننا مضطرون في الأحوال جميعا إلى الإقرار بأن وجودها، وعلى الأخص رجحان كفتها وتفوقها، يدل على مستوى رفيع من الثقافة والحضارة.

ان آخر سمات الحضارة، ولكن ليس بكل تأكيد أدناها شأنا، تتجلى في الكيفية التي تنظم بها علاقات البشر فيما بينهم. هذه العلاقات، المسماة بالاجتماعية، تخص الكائنات البشرية إما بصفتهم جيرانا لبعضهم البعض، وإما بصفتهم أفرادا يبذلون ما أوتوا من قوى كي يتساعدوا ويتعاضدوا، وإما بصفتهم مواضيع جنسية لأفراد آخرين، وإما بصفهتم أعضاء في أسرة أو في دولة. وبوصولنا إلى هذه النقطة، يصبح من العسير علينا للغاية ان نتمثل ما المقصود في خاتمة المطاف بمصطلح "المتمدن"، من دون أن نتأثر على كل حال بالمطالب التي يحددها هذا المثل الأعلى أو ذاك. وربما لجأنا بادئ ذي بدء إلى التفسير التالي: إن العنصر الحضاري يقوم بقيام المحاولة الأولى لتنظيم تلك العلاقات الاجتماعية. فان لم تقم مثل هذه المحاولة، خضعت تلك العلاقات الاجتماعية للعسف الفردي، وبعبارة أخرى، تولى تنظيمها الفرد الأقوى جسمانيا على نحو يخدم مصالحه الخاصة ودوافعه الجنسية الغريزية. ولن يتغير شيء إذا ما وجد ذلك الفرد الأقوى فردا أقوى منه. ولا تغدو الحياة المشتركة ممكنة الا إذا توصلت الغالبية إلى تشكيل تجمع أقوى من قوة كل عضو من أعضائه على حدة، والى المحافظة على تلاحم متين في مواجهة كل فرد على حدة. وعندئذ يقف سلطان هذه الجماعة بوصفه "حقا" موقف المعارضة تجاه سلطان الفرد المرذَّل والموصوف بالقوى الغاشمة. وبحلول السلطان الجماعي محل القوة الفردية، تخطو الحضارة خطوة حاسمة إلى الأمام. ويكمن الطابع الأساسي لحضارة هذه المرحلة في كون أعضاء الجماعة يحدون من إمكانات التذاذهم بينما كان الفرد المفرد يجهل كل تضييق من هذا النوع. هكذا يكون المطلب الحضاري التالي هو مطلب "العدل"، أي الاطمئنان إلى ان النظام الشرعي الذي تمّ إقراره لن يُنتهك أبدا لصالح فرد مفرد. ونحن لا نصدر هنا حكما على القيمة الأخلاقية لمثل هذا "الحق". وإذ تواصل الحضارة ارتقاءها، تسلك طريقا تنزع خلاله إلى الكف عن اعتبار الحق تعبيرا عن إرادة جماعة صغيرة (طائفة أو طبقة أو أمة) تسلك إزاء سائر الكتل الجماهيرية، المماثلة لها في النوع ولكن الأكثر تعدادا في الأرجح، سلوك الفرد المتأهب للجوء إلى القوة الغاشمة. والمفروض ان تأتي النتيجة النهائية تأسيس حق بمشاركة الجميع، أو على الأقل جميع الأعضاء القابلين للانتماء إلى الجماعة، من خلال تضحيتهم بدوافعهم الغريزية الشخصية، حق لا يفسح مجالا لوقوع أي واحد منهم ضحية القوى الغاشمة باستثناء أولئك الذين أبوا قبولا به.

ليست الحرية الفردية إذن نتاجا حضاريا. بل كانت، قبل أي حضارة، على أعظم ما يمكن ان تكون، ولكن بلا قيمة أيضا في غالب الأحيان، لان الفرد لم يكن في وضع يؤهله للدفاع عنها. وقد فرض عليها تطور الحضارة قيودا، وتقتضي العدالة بألا يعفى أحد من هذه القيود. وحين تشعر جماعة إنسانية ما بدفقة من الحرية تجيش في أعماقها، فإن ذلك يمكن أن يكون تعبيرا عن حركة تمّرد ضد ظلم سافر، وهذا بدوره قد يساعد على تحقيق تقدم حضاري جديد. لكن ذلك قد يكون أيضا نتيجة لاستمرار بعض رواسب من نزعة فردية غير مروّضة، فيشكل بالتالي قاعدة وأساسا للميول المناوئة للحضارة. وتنصبّ دفعة الحرية، بفعل ذلك، ضد بعض الأشكال أو بعض المطالب الثقافية، أو حتى ضد الحضارة بالذات.

لا يبدو ان هناك إمكانية لحمل الإنسان، كائنة ما كانت الوسيلة، على مقايضة طبيعته بطبيعة الأرَضة[28]، فهو دائم الميل إلى الدفاع عن حقه في الحرية الفردية ضد إرادة المجموع. وكثيرة هي الصراعات التي تخاض ضمن نطاق البشرية وتتركز حول مهمة يتيمة: إيجاد توازن مناسب، وقمين بالتالي بتأمين سعادة الجميع، بين مطالب الفرد وبين المطالب الثقافية للجماعة. وانها لواحدة من المشكلات التي يتوقف عليها مصير الإنسانية ان نعرف هل يمكن أن يتحقق هذا التوازن بواسطة شكل معين من الحضارة، أم أن هذا النزاع، على العكس، لا حل له.

بمطالبتنا قبل قليل الحس المشترك بأن يهدينا إلى سمات الحياة الإنسانية التي تستأهل اسم الحضارة، انتهينا إلى تكوين صورة واضحة وإجمالية للحضارة، لكننا لم نعلم تقريبا شيئا لا يعرفه القاصي والداني. وبالمقابل، احترزنا من الوقوع في حبائل الرأي المسبق الذي يقول أن الثقافة تعادل التقدم وترسم للإنسان طريق الكمال. ولكن هنا يفرض علينا نفسه تصور قمين بتوجيه اهتمامنا في وجهة مغايرة. فتطور الحضارة يبدو لنا أشبه ما يكون بسيرورة من نوع خاص تجري "فوق" الإنسانية، ولكنها سيرورة يوحي إلينا العديد من خصائصها بأنها من الأشياء المألوفة عندنا. ويمكننا تمييز هذه السيرورة من خلال التعديلات التي تدخلها على العناصر الأساسية المعروفة عميق المعرفة والمسماة بغرائز البشر، تلك الغرائز التي تمثل تلبيتها المهمة الاقتصادية الكبرى لحياتنا.

ان عددا معينا من هذه الغرائز سيجري استهلاكه واستنفاذه على نحو ينبجس مكانه شيء سنسميه لدى الفرد بخاصية أو سمة طبعيّة. وأسطع الأمثلة على هذه الأوالية تقدمه لنا ايروسية الطفل الشرجية. فالاهتمام البدئي الذي يعلقه على وظيفة التغوط، وعلى أجهزتها ونتاجها، يتحول أثناء النمو إلى مجموعة من الصفات المعروفة تماما لدينا: الشح والتقتير، حسن النظام، وحب النظافة. ولئن تكن هذه الصفات ذات قيمة كبيرة في حد ذاتها وتستأهل كل تقدير وترحيب، فان كفّتها قد ترجح على ما عداها إلى حد الشذوذ إذا ما تضخمت وشحذت حدتها، وعندئذ يتولد عنها ما نسميه بـ "الطبع الشرجي". نحن لا نعلم كيف يحدث ذلك، لكن لا يخامرنا ظل من شك بصدد صحة هذا التصور[29]. والحال اننا رأينا ان النظام والنظافة يدخلان في عداد مطالب الحضارة الأساسية، بالرغم من ان ضرورتهما الحيوية لا تتجلى فورا لكل ذي عينين، بل قد يكتنفها قدر من الإبهام يعادل ما يكتنف قابليتهما لان يكونا مصدرا للذة. وفَور الانتهاء من توضيح هذه النقطة، لا مفر من ان يلفت انتباهنا التشابه القائم بين سيرورة التحضر وتطور الليبيدو لدى الفرد. وثمة دوافع غريزية أخرى قادرة على ان تغير، إذا ما بدلت وجهتها، الشروط اللازمة لتلبيتها، وعلى أن تعين لها طرقا أخرى، وهذا ما يتطابق في معظم الحالات مع أوالية معروفة جيدا لدينا: التصعيد (لهدف الدوافع الغريزية)، ولكنه يفترق عنها في حالات أخرى. ويشكّل تصعيد الغرائز واحدة من أبرز سمات التطور الثقافي، فهو الذي يسمح للنشاطات النفسية الرفيعة، العلمية أو الفنية أو الأيديولوجية، بأن تلعب دورا بالغ الأهمية في حياة الكائنات المتحضرة. وقد نميل، للوهلة الأولى، إلى أن نرى فيه بصورة أساسية المصير الذي تفرضه الحضارة على الغرائز. لكن خيرا نفعل لو أمعنا النظر في الأمر مليا. ومن المتعذر ثالثا وأخيرا، وهذه النقطة تبدو أهم النقاط كافة، الا نفطن إلى أي مدة يقوم بناء الحضارة على مبدأ العزوف عن الدوافع الغريزية، والى أي مدى يقتضي هذا البناء الحضاري عدم إشباع (قمع، أو كبت، أو أي أوالية مماثلة أخرى) الجامح من الغرائز. وهذا "العزوف الحضاري" يتحكم في الشبكة الواسعة للعلاقات الاجتماعية بين الناس، ولقد سبق أن عرفنا أنه فيه على وجه التحديد تكمن علة العداء الذي يتوجب على الحضارات كافة أن تكافحه وتقاومه. وسوف يفرض هذا العزوف على مبحثنا العلمي أعباء ثقيلة، وسوف يتوجب علينا أن نسلط الضوء على العديد من النقاط. وليس من اليسير أن نفهم كيف يمكن للمرء ان يتدبر أمره كي يأبى إشباع غريزة من الغرائز. والأمر لا يخلو من خطر، فإذا لم يكافأ هذا الرفض على نحو اقتصادي، كان لنا أن نتوقع حدوث اختلالات خطيرة.

لكن إذا كنا نحرص على معرفة ما القيمة التي يمكن أن يدعيها لنفسه تصورنا عن تطور الحضارة، بوصف هذا التطور سيرورة خاصة مشابهة للنضوج السوي لدى الفرد، فلا مفر لنا بالبداهة من التصدي لمشكلة أخرى ومن التساؤل بادئ ذي بدء عن المؤثرات التي يدين لها هذا التطور بمنشئه، وعن الكيفية التي رأى بها النور، وعما حدد مجراه ومساره.


- 4 -
انها والحق، لمهمة شاقة، ولنقر بأن الشجاعة حيالها تخوننا. سأكتفي إذن بأن اعرض هنا النزر اليسير الذي أمكنني أن استشفه.

حين اكتشف الإنسان البدائي أن أمر تحسين مصيره الأرضي قد أمسى، بفضل العمل، بين يديه، بالمعنى الحقيقي لا المجازي، ما عاد في مستطاعه أن يبقى على موقف اللامبالاة وعدم الاكتراث تجاه مبادرة هذا أو ذاك من أقرانه إلى العمل معه أو ضده. فقد تلبس هذا القرين في نظره قيمه المعاون، وصار من المفيد له ان يعيش معه. وكان الكائن الإنساني قد اخذ بعادة تأسيس الأسر منذ عهد ما قبل التاريخ يوم كان ما يزال قريبا من القرد، وأرجح الظن ان أعضاء آسرته كانوا مساعديه الأوائل. ويمكننا الافتراض بأن تأسيس الأسرة تواقت مع ارتقاء معين لحاجة الإشباع التناسلي، على أساس ان هذه الحاجة لم تعد تظهر إلى حيز الوجود على طريقة الضيف الذي يطرق بابك على حين غرة ثم تنقطع أخباره عنك ردحا طويلا من الزمن بعد رحيله، وإنما على طريقة المستأجر الذي يقيم في المنزل فلا يبرحه. وبذلك تواجد لدى الذكر الدافع ليحتفظ بالأنثى لديه، أو بصورة أعم بالمواضيع الجنسية، ولم تجد الإناث بدورهن مناصا من البقاء لدى الذكر الأقوى حرصا منهن على عدم الافتراق عن صغارهن، وقد كان بقاؤهن في صالح هذه المخلوقات الصغيرة التي لا حول لها ولا قوة[30]. وفي إطار تلك الأسرة البدائية نظل نفتقر إلى سمة أساسية من سمات الحضارة، إذ أن عسف الزعيم والأب كان غير محدود. وقد حاولت أن أشير في الطواطم والتابو إلى الطريق الذي قاد من تلك المرحلة الأسرية البدائية إلى المرحلة التالية، أي المرحلة التي تحالف فيها الاخوة فيما بينهم. وبانتصار هؤلاء على الأب، عرفوا بالتجربة ان الاتحاد يمكن ان يكون أقوى من الفرد المفرد. وتقوم الحضارة الطوطمية[31] على القيود التي ما وجدوا مناصا من فرضها على أنفسهم للحفاظ على ذلك الوضع المستجد. وقد شكلت قواعد التابو[32] أول شرعة "قانونية". كانت حياة الناس المشتركة تقوم إذن على الأساس التالي: أولا إلزام العمل، وهو إلزام أوجدته الضرورة الخارجية، وثانيا قوة الحب، على اعتبار ان هذا الأخير يستوجب الا يحرم الرجل من المرأة، موضوعه الجنسي، والا تحرم المرأة من ذلك الجزء المنفصل عن جسمها والذي هو طفلها. هكذا غدا ايروس وانانكيه[33] والدي الحضارة الإنسانية التي كانت مأثرتها الأولى إتاحة الإمكانية لعدد كبير من الكائنات البشرية ان يبقوا ويعيشوا في ظل حياة مشتركة. وبما ان قوتين لا يستهان بهما قد تضافرتا في هذا المجال ووحدتا جهودهما، فقد كان من المأمول أن يتم التطور اللاحق بلا صعوبة وأن يفضي إلى سيطرة أشمل فأشمل على العالم الخارجي، وكذلك إلى زيادة مطردة في عدد الأعضاء الذين تضمهم الجماعة الإنسانية تحت جناحها. وليس من السهل ان نفهم أيضا كيف كان يمكن لهذه الحضارة عينها ألا تعمل على إسعاد أبنائها.

قبل أن نتفحص من أين يمكن ان يجيء الشر، وحتى نسد ثغرة تركناها بلا ردم في مقطع سابق، لنرجع أدراجنا إلى مفهوم الحب الذي سلمنا بأنه كان واحدا من أسس الحضارة. لقد نوهنا آنفا بتلك الواقعة. الاختبارية المتمثلة في أن الحب الجنسي (التناسلي) يوفر للكائن الإنساني أقوى ملذات وجوده ويؤلف بالنسبة إليه النموذج الأول لكل سعادة، ولقد قلنا أيضا انه ما كان على البشرية الا أن تخطو خطوة واحدة أخرى إلى الأمام بعد ذلك حتى تنشد سعادة الحياة في ميدان العلاقات الجنسية وحتى تجعل الايروسية التناسلية في نقطة المركز من تلك الحياة. ثم أضفنا قولنا ان الإنسان بسلوكه هذا الطريق قد حكم على نفسه، بصورة تبعث على أشد القلق، بالتبعية لقسم من العالم الخارجي، نعني الموضوع المحبوب، وبات عرضة لألم حاد في حال إعراض هذا الأخير عنه أو فقدانه إذا لم يكن وفيا له أو إذا فارق الحياة. ولهذا حذر الحكماء في جميع الأزمان بإلحاح ما بعده إلحاح من سلوك ذلك الطريق (لكن بالرغم من جهودهم كافة، لم يفقد هذا الطريق إغراءه بالنسبة إلى عدد كبير من أبناء البشر).

لقد قُيّض لأقلية منهم، بفضل جبلتهم، ان يصلوا رغما عن كل شيء إلى تلك السعادة عن طريق الحب، لكن لا بد لذلك من إدخال تعديلات واسعة ذات صفة نفسية على وظيفة الحب. فأولئك الأشخاص يحررون أنفسهم من موافقة الموضوع ورضاه عن طريق عملية نقل للقيمة، أي بصبهم على حبهم بالذات الأهمية التي كانوا يعلقونها في البدء على ان يكونوا من المحبوبين، وهم يحمون أنفسهم من فقدان الشخص المحبوب باتخاذهم مواضيع لحبهم لا كائنات محددة وإنما جميع الكائنات الإنسانية سواسية، ويتجنبون أخيرا التقلبات والخيبات المرتبطة بالحب التناسلي بإشاحتهم عن هدفه الجنسي وبتحويلهم الدوافع الجنسية الغريزية إلى عاطفة ذات "هدف مكفوف". والحياة الداخلية التي يختلقونها لأنفسهم عن هذا السبيل، أعني تلك الكيفية الرقيقة، المتعادلة، الهادئة في الإحساس، المنيعة أيضا على كل تأثير، لا يعود بينها وبين الحياة الحبّية التناسلية وانفعالاتها وعواطفها من شبه خارجي كثير، بالرغم من انها تنبع منها أساسا. ولعل القديس فرنسيس الأسيزي[34] هو من توغل أبعد ما يكون التوغل في ذلك الطريق المفضي إلى استخدام الحب استخداما كاملا لأغراض حس السعادة الداخلية. ولئن تعرفنا في هذه الطريقة واحدة من التقنيات الرامية إلى تحقيق مبدأ اللذة، فقد ربطها غيرنا بالدين وأرجعها إليه في غالب الأحيان، ذلك ان مبدأ اللذة والدين يمكن أن يتلاقيا في تلك المناطق النائية التي لا يبالي فيها المرء بتمييز أناه من المواضيع، وبتمييز المواضيع بعضها من بعض. وثمة تصور أخلاقي، سنتبين عما قليل دوافعه الدفينة، يريد ان يرى في ذلك النزوع إلى الحب الكوني للإنسانية وللعالم أمسى موقف يمكن للكائن البشري ان يقفه. وهنا تبارحنا كل رغبة في الاستمرار بالاحتفاظ في سرنا بتحفظين رئيسيين اثنين: أولا، ان الحب الذي لا يختار يفقد في نظرنا بعضا من قيمته الذاتية إذ يدلل على ظلم وإجحاف بحق موضوعه، ثانيا، ليست الكائنات البشرية جديرة جميعها بأن تكون محبوبة.


--
إن هذا الحب الذي أسس الأسرة ما يزال يمارس تأثيره وسلطانه في داخل الحضارة سواء أفي شكله البدائي من حيث انه لا يعزف عن الإشباع الجنسي المباشر، أم في شكله المعدَّل من حيث انه محبة مكفوفة الهدف. ويمضي الحب في هذين الشكلين، في أداء وظيفته في الجمع بين أعداد أكبر فأكبر من الكائنات البشرية وفي التوحيد بينها بقوة لا تفلح في الوصول إلى مثلها مصلحة جماعة يقوم كيانها على العمل. وعدم دقة في استعمال كلمة "الحب" له ما يبرره من وجهة نظر علم الوراثة. فاسم الحب يطلق على العلاقة بين الرجل والمرأة اللذين أسسا أسرة بداعي حاجاتهما الجنسية، ولكنه يطلق أيضا على العواطف الإيجابية التي تقوم ضمن نطاق الأسرة بين الأهل والأولاد، بين الاخوة والأخوات، مع أنه كان يفترض فينا أن نصف العلاقات الأخيرة هذه بأنها حب مكفوف من حيث الهدف، أي محبة. لكن هذا الحب المكفوف كان في الأصل بالغ الشهوانية، وقد لبث كذلك في لاشعور البشر. وسواء أكان الحب كلي الشهوانية أو مكفوفا، فانه سيتخطى نطاق الأسرة ليستولي، في شكليه الاثنين، على مواضيع كانت ما تزال إلى حينه مجهولة وغريبة، وليقيم معها علاقات جديدة: فهو يفضي في شكله التناسلي إلى تشكيل أسَر جديدة، وفي شكله المكفوف من حيث الهدف إلى "صداقات" لها أهميتها البالغة بالنسبة إلى الحضارة لأنها تتملص من العديد من القيود المفروضة على الأول، وعلى سبيل المثال حصريته. ولكن مع المزيد من التقدم والارتقاء لا تعود العلاقة بين الحب والحضارة ملتبسة: فالحب يحارب من جهة أُولى مصالح الحضارة، وهذه بدورها تتهدده، من جهة ثانية، بتقييدات مؤلمة.

يبدو هذا العداء المتبادل وكأنه محتوم لا مناص منه، لكن ليس من اليسير ان ندرك دفعة واحدة سببه الدفين. انه يتجلى، أول ما يتجلى، في شكل نزاع بين الأسرة وبين الجماعة الأرحب نطاقا التي ينتمي إليها الفرد. وقد سبق ان لاحظنا ان واحدا من جهود الحضارة الرئيسية ينصّب على تجميع الناس في وحدات كبيرة. لكن الأسرة لا تريد ان تتخلى عن الفرد.

فأعضاؤها يزدادون ميلا واستعدادا للانعزال بأنفسهم عن المجتمع، ويواجهون صعوبة اكبر في الدلوف إلى دائرة الحياة الكبيرة، كلما توثقت الوشائج التي توحد بينهم. وان أقدم طراز للحياة المشتركة من وجهة نظر تطور النوع، وهو الطراز الوحيد الذي يسود أيضا أثناء طفولة الفرد، يتصدى بالمقاومة للطراز المتمدن الذي تم التوصل إليه في زمن متأخر والذي يسعى إلى الحلول محله. وهكذا يغدو الافتراق عن الأسرة بالنسبة إلى كل مراهق مهمة، مهمة يساعده المجتمع في كثير من الأحيان على أدائها عن طريق طقوس البلوغ وإطلاع المراهق على "الأسرار". ويساورنا هنا انطباع بان هذه الصعوبات ملاذ لكل تطور نفسي، وفي الواقع، لكل تطور عضوي أيضا.

أضف إلى ذلك ان النساء لا يتأخرن عن معاكسة تيار التحضر والتمدن، وهن يمارسن تأثيرا ينزع إلى إبطائه وإعاقته. وهذا مع ان أولئك النسوة هن أنفسهن اللواتي أرسين في البدء أساس الحضارة بفضل مطالب حبهن. ولسوف يأخذن بنصرة مصالح الأسرة والحياة الجنسية، بينما سيفرض العمل التمديني، الذي سيمسي اكثر فأكثر من اختصاص الرجال، على هؤلاء الأخيرين مهام متعاظمة الصعوبة وسيرغمهم على تصعيد غرائزهم وهو التصعيد الذي لا تملك النساء أهلية كبيره له. ولما كان الكائن الإنساني لا يتمتع بكمية غير محدودة من الطاقة النفسية، فانه لا يستطيع إنجاز مهامه الا من خلال توزيع مناسب لطاقته الليبيدية. والنصيب الذي يخص به أهدافا ثقافية من تلك الطاقة إنما يقتطعه بوجه خاص من النساء ومن الحياة الجنسية، واحتكاكه الدائب بغيره من الرجال وتبعيته الناجمة عن علاقاته بهم يدفعان به إلى التقاعس عن واجباته كزوج وأب. وحين ترى المرأة نفسها وقد أقصتها متطلبات الحضارة إلى المرتبة الثانية، تقف من هذه الحضارة موقفا عدائيا.

بديهي ان الحضارة من جهتها لا تنزع إلى توسيع الدائرة الثقافية فحسب، بل تسعى أيضا، وبالقدر نفسه، إلى تضييق الحياة الجنسية. فمنذ طورها الأول، طور الطوطمية، تنطوي سننها على تحظير اختيار الموضوع من بين المحارم، وهو تحظير يعادل في أرجح الظن أعنف بتر وأجمى تشويه فرض على مر الزمن على حياة الحب لدى الكائن الإنساني. وبقوة المحرمات والشرائع والأعراف، تفرض قيود جديدة على الرجال والنساء على حد سواء. لكن الحضارات لا تقطع جميعها هذا الشوط الطويل على هذا الطريق، فبنية المجتمع الاقتصادية تمارس بدورها تأثيرها على المقدار الذي يمكن ان يبقى قائما من الحرية الجنسية. ونحن نعلم جيدا ان الحضارة تنصاع بصدد هذه النقطة للضرورات الاقتصادية، لأنها مكرهة على أن تقتطع من الحياة الجنسية مقدارا غير قليل من الطاقة النفسية كي تستخدمه لأغراضها. وهي تتبنى هنا سلوكا مماثلا لسلوك قبيلة أو طبقة من السكان تستغل وتنهب قبيلة أو طبقة أخرى منهم بعد ان تكون قد أخضعتها لسيطرتها. فالخوف من تمرد المضطهَدين يحض على تدابير وقائية اشد صرامة. وقد بلغت حضارتنا الأوروبية الغربية، كما تبين لنا، نقطة أوج في هذا المسار. ولكن لئن بدأت بتحظير صارم لأي تظاهرة للجنسية الطفلية، فان هذا الفعل الأول له كامل تبريره من وجهة نظر علم النفس، لان حجز رغبات الراشد الجنسية المضطرمة لا حظّ له في النجاح ما لم يمهد له منذ الطفولة بعمل تحضيري. أما ما ليس له من مبرر البتة فهو مغالاة المجتمع المتحضر في هذا السبيل إلى حد نفي هذه الظاهرات الجلية السافرة التي ليس أسهل من إثبات وجودها. فاختيار الموضوع من قبل فرد بالغ جنسيا سَيُحْصَر بالجنس الآخر، وسيجري تحظير معظم الإشاعات الخارجة عن النطاق التناسلي بوصفها انحرافات.

وضروب الحظر المتنوعة هذه تعبر عن مطلب حياة جنسية متماثلة للجميع، وهذا المطلب، بتعاليه على التفاوتات التي يشتمل عليها التكوين الجنسي الفطري أو المكتسب للكائنات الإنسانية، يحرم عددا لا يستهان به منها من اللذة الايروسية. ويغدو بالتالي مصدرا لظلم فادح. وقد يتمثل نجاح هذه التدابير الرادعة عندئذ في الواقعة التالية: فالاهتمام الجنسي يندفع برمته، على الأقل لدى الأفراد الأسوياء الذين لا يتعارض تكوينهم مع هذا النوع من رد الفعل، في "اقنية" تركت مفتوحة، وهذا من دون أن يتعرض ذلك الاهتمام لأي هدر أو نقصان.

لكن الشيء الوحيد الذي يبقى حرا وفالتا من ذلك الحظر، أي الحب الجنسي والتناسلي الغيري، يقع بدوره أسير تقييدات جديدة تفرضها الشرعية وأحادية الزواج. فالحضارة المعاصرة لا تتردد في المجاهرة باعترافها بالعلاقات الجنسية شرط ان يكون أساسها القِران الذي لا فصام له، والذي يعُقد مرة واحدة ونهائية، بين الرجل والمرأة، كما لا تتردد في إعلان عدم قبولها بالجنسية بوصفها مصدرا مستقلا بذاته للذة، وفي إعلان عدم استعدادها للتسليم بها الا بصفتها عامل تكاثر ما أمكن لأي شيء آخر أن ينوب منابه حتى يومنا هذا.

طبيعي أن ذلك هو الشطط بعينه. وكل إنسان يعلم ان هذه الخطة قد ثبت عدم صلاحها للتطبيق، ولو لأجل قصير. والحق ان الضعفاء هم وحدهم الذين أمكن لهم أن يتكيفوا مع مثل تلك القيود الواسعة على حريتهم الجنسية. أما أصحاب القوة والعزيمة فلم يقبلوا بها الا مقابل منحهم تعويضا سيأتي دور الكلام عنه لاحقا. وقد اضطر المجتمع المتحضر إلى التغاضي عن مخالفات عديدة كان يفترض فيه ان يلاحقها لو انه كان متمسكا فعلا بسننه، وفيا لشرائعه. ولنحاذر، من جهة أخرى، من الوقوع في الخطأ المعاكس بتسليمنا بأن مثل هذا الموقف الذي تقفه حضارة من الحضارات لا ينتج عنه أي أذى أو ضرر ما دام لا يحقق مراميها جميعا. فالحياة الجنسية للكائن المتحضر تعاني، بالرغم من كل شيء، من غبن خطير وخلل فادح، وهي توحي إلينا أحيانا بأنها وظيفة آيلة إلى ضمور، مثلها في ذلك مثل أسناننا وشَعْرنا بوصفها أعضاء. وانه ليحق لنا، ولو بوجه الاحتمال، أن نفترض أن أهميتها قد تناقصت بصورة ملموسة بصفتها مصدرا للسعادة، وبالتالي بصفتها تحقيقا لهدفنا الحياتي[35]. ويخيل إلينا أحيانا اننا نستشف ان الضغط التمديني ليس العلة الوحيدة لذلك، وأن الوظيفة الجنسية، بحكم طبيعتها بالذات، تضن بمنحنا إشباعا كاملا وترغمنا على طرق دروب أخرى. أترانا نحيد عن جادة الصواب هنا؟ ليس من السهل ان نقطع برأي.

...

- 5 -
علمتنا مزاولة التحليل النفسي ان ضروب الحرمان الجنسي الملمح إليها لا يتحملها بوجه خاص الناس المدعوون بالمرضى العصابيين. فهؤلاء يستمدون من أعراضهم المرضية تلبيات وإشباعات بديلة تسبب لهم بذاتها الألم أو تصبح مصدرا للوجع بخلقها لهم صعوبات مع الوسط أو مع المجتمع. وهذه الحالة الأخيرة يسهل فهمها، بينما تطرح علينا الحالة الأولى لغزا جديدا. والحال ان الحضارة تقتضي، فضلا عن التضحيات الجنسية، تضحيات من طبيعة أخرى.

اننا نكون قد تصورنا التطور الشاق والمضني للحضارة على انه إشكال ارتقائي ذو طابع عام حين نرجعه، على نحو ما فعلنا، إلى تظاهرة لعطالة الليبيدو والى نفور هذا الأخير من العزوف عن وضع قديم للأخذ بآخر جديد. ونحن نبقى تقريبا عند النقطة ذاتها حين نستنبط التعارض بين الحضارة والجنسية من كون الحب الجنسي علاقة بين اثنين لا مجال فيها لشخص ثالث الا ان يكون متطفلا أو يلعب دور معكّر الصفو. بينما تقتضي الحضارة بالضرورة علاقات بين عدد كبير من الكائنات. ففي الحب يتلاشى كل اهتمام بالعالم المحيط، والمتحابان يكتفيان واحدهما بالآخر. ولا يحتاجان حتى إلى ولد مشترك كي يكونا سعيدين. وليس كالحب حالة يميط فيها إيروس اللثام عن ماهية طبيعته، وعن تطلعه إلى أن يجعل عن الكثرة كائنا واحدا، ولكنه حين يفلح في ذلك بإشعاله ضرام الحب بين كائنين اثنين، يكتفي بما فعل ويقنع به، كما يؤكد لنا المثل السائد.

يمكننا بسهولة إلى هنا أن نتخيل جماعة متحضرة تتألف من أشباه تلك "الكائنات المزدوجة" التي إذا انطفأ في ذاتها ظمأ طاقتها الليبيدية تتحد فيما بينها برباط العمل والمصالح المشتركة. وعلى أساس افتراض كهذا لا تعود الحضارة بحاجة إلى ان تقتطع من الجنسية مقدارا ما من الطاقة. لكن مثل هذه الحالة المرجوة لا وجود لها ولم توجد قط، بل يبين لنا الواقع ان الحضارة لا تكتفي البتة بتلك الطرز من الاتحاد التي عزوناها إليها حتى الآن. بل تريد، فضلا عن ذلك، ان توحد أعضاء المجتمع فيما بينهم برابطة ليبيدية، وانها تجهد بجميع الوسائل، بغية تحقيق هذا الهدف، كيما تقيم بينهم تماهيات[36] قوية، وكيما تمهّد أمامهم جميع الدروب القمينة بأن تقودهم إلى ذلك، وانها تعبّئ أخيرا اكبر مقدار ممكن من الليبيدو المكفوف من حيث الهدف الجنسي حتى تشد أزر الرابطة الاجتماعية بعلاقات صداقة. ولوضع هذه المقاصد موضع التنفيذ، لا مناص من تقييد الحياة الجنسية، لكننا لا نتبين البتة ما الضرورة التي تجر الحضارة إلى هذا الطريق والتي تبرر معارضتها للجنسية. وعلى هذا، لا بد انه يوجد هنا عامل تشويش لم يمكن لنا بعد أن نكتشفه.


جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:16 PM

تابع فرويد

والحال انه في عداد المطالب المثالية للمجتمع المتحضر مطلب قمين هنا بأن يهدينا إلى سواء السبيل. هذا المطلب يقول لنا: "أحبب قريبك كنفسك". وهذه الكلمة الجامعة، المشهورة في العالم قاطبة، اقدم عهدا بكل تأكيد من المسيحية التي وضعت اليد عليها كما لو أنها المرسوم الذي يحق لها ان تفاخر غاية المفاخرة بصدوره عنها. لكنها بالتأكيد ليست سحيقة في القدم. فقد كانت ما تزال مجهولة من البشر حتى في عهود ما بعد التاريخ.

لكن لنقف منها موقفا ساذجا كما لو اننا نسمع بها للمرة الأولى، وفي هذه الحال لا نستطيع ان ندفع عن أنفسنا شعورا بالمباغتة إزاء غرابتها. فلماذا نعتبر ما ورد فيها واجبا علينا؟ وأي عون تمدّنا به؟ ثم كيف السبيل، على الأخص، إلى العمل بها وتطبيقها؟ وهل سيكون ذلك في مستطاعنا؟ ان حبي لهو في نظري شيء ثمين ثمين بحيث لا أملك الحق في هدره والتفريط به دونما وعي وهو يفرض علي واجبات يفترض فّي أن أكون قادرا على الوفاء بها ولو مقابل تضحيات. وإذا أحببت كائنا آخر، فلا بد ان يكون مستأهلا لذلك بصفة من الصفات (أستبعد هنا علاقتين لا تدخلان في حساب حب القريب: الأولى أساسها الخدمات التي يمكن ان يؤديها لي، والثانية أساسها أهميته الممكنة كموضوع جنسي). انه يستأهل حبي حين يشبهني في وجوه مهمة شبها عظيما يمكن معه ان احب فيه نفسي أنا. إنه يستأهله إذا كان اكمل مني إلى حد يتيح لي إمكانية ان احب فيه مَثَلي الأعلى بالذات. وعلي ان احبه إذا كان ابن صديقي، لان ألم صديقي، إذا وقع مكروه لابنه، سيكون أيضا ألمي، ولن يكون أمامي مناص من أن أشاطره إياه. ولكن إذا كان بالمقابل مجهولا مني، وإذا لم يجتذبني بأي صفة شخصية، ولم يلعب بعد أي دور في حياتي العاطفية، فانه من العسير جدا علي ان أشعر تجاهه بعاطفة حب. ولو فعلت لاقترفت ظلما، لأن أهلي وأصحابي جميعا يقدّرون حبي لهم على انه إيثار وتفضيل، وسأكون مجحفا بحقهم لو خصصت غريبا بالمحاباة نفسها. وإذا كان لا بد، والحالة هذه، ان أشركه في مشاعر الحب التي تخالجني كما يقتضي العقل إزاء الكون قاطبة، وهذا فقط لأنه يحيا على هذه الأرض مثله مثل الحشرة أو دودة الأرض أو الحفت[37]، فانني أخشى ألا يشع من قلبي باتجاهه سوى قدر ضئيل للغاية من الحب، كما أخشى بكل تأكيد الا يكون في مقدوري ان أغدق عليه من الحب بقدر ما يأذن لي العقل ان احتبسه من اجل نفسي. ولكن ما الفائدة من هذه الفذلكة المفخمة بصدد وصية لا يبيح لنا العقل ان ننصح أحدا بإتباعها؟ حين أمعن النظر في المسألة عن قرب اقرب، ألمح المزيد من الصعاب والإشكاليات أيضا. فذلك الغريب ليس غير جدير بالحب بوجه عام فحسب، بل ينبغي أيضا أن اقر، توخيا للصدق، بأنه يستأهل في غالب الأحايين عدائي، بل كراهيتي. فهو لا يبدو انه يكنّ لي أي عطف، ولا يدلل نحوي على أي مراعاة. وإذا ما وجد في الأمر نفعا له، فلن يتردد في إنزال الأذى بي، بل هو لا يتساءل ان كانت أهمية الكسب الذي يجبيه تتناسب مع عظم المضرة التي ينزلها بي. والأدهى من ذلك والأمّر انه حتى إذا لم يَجْنِ ربحا، وإنما فقط مجرد لذة ومتعة، فلن يتردد البتة في الهزء مني وإهانتي والافتراء علي، ولو تباهيا منه فقط بالسلطان الذي له علي. وفي وسعي أن أتوقع حتمية هذا السلوك حيالي بقدر ما يشعر بمزيد من الثقة بنفسه وبقدر ما يعتبرني أضعف منه ولا حول لي ولا قوة. أما إذا سلك غير هذا السلوك، وأما إذا قابلني، حتى من دون أن يعرفني، بالاحترام والمراعاة، فانني لعلى أتم استعداد عندئذ لمقابلته بالمثل، دونما حاجة إلى توسط وصية أخلاقية. ومن المؤكد ان تلك الوصية السامية لو صيغت على النحو التالي: "أحبب قريبك كما يحبك هو نفسه"، لما كان لي عليها من اعتراض. ولكن ثمة وصية ثانية تبدو لي أشطّ من الأولى فأياً عن المعقول وتضرم فيّ نار تمرد أعنف وأقوى. وصية تقول لنا: "أحبب عدوك". ولكني أجدني، عند إمعان التفكير، مخطئا إذ أطعن فيها باعتبارها تنطوي على دعوى أشد بطلانا من تلك التي تنطوي عليها الوصية الأولى. وفي الواقع، كلتاهما سيان[38].

هنا يرتفع، على ما يخيل إلي، صوت سامٍ ليصدع أذني بالتذكرة: "على وجه التحديد لأن قريبك غير جدير بالحب، ولأنه بالأحرى عدو لك، يتوجب عليك أن تحبه كما تحب نفسك".

وليس عسيرا علي أن أدرك أن المسألة، هنا، ضرب من Credo quia absurdum [39].

والآن إذا طُلب إلى قريبي أن يحبني كنفسه، فمن المرجح أن يجيب كما أجبت وأن ينكرني للأسباب ذاتها. هل سيكون في ذلك محقا مثلي، وهل ستكون دوافعه موضوعية نظير دوافعي؟ آمل أن لا، ولكنه حتى في هذا الحال سيحاكم الأمور كما حاكمتها. وهذا معناه ان سلوك الناس ينطوي على فوارق يرجعها علم الأخلاق، من دون أن يقيم اعتباراً للشروط التي ترتهن بها أو بتعاليه عليها، إلى فئتين اثنتين: فئة "الخير" وفئة "الشر". وهاتان المقولتان لا رادّ لهما، ولكن ما لم تلغيا كلتاهما فان الامتثال للقوانين الخلقية العليا سيعني في ما يعني إنزال الضرر بالحضارة. إن في هذا الامتثال تشجيعا مباشرا على الخبث وسوء النية. ولا قبل لنا هنا بمقاومة إغراء التذكير بحادث وقع في المجلس النيابي الفرنسي أثناء مداولة بصدد عقوبة الإعدام. فقد أثار واحد من أنصار إلغائها بخطاب ملتهب له عاصفة من التصفيق قطعها صوت تعالى من آخر القاعة بالقول: Que Messieurs les Assassins commencent![40].

ان قسط الحقيقة الذي يحتجب وراء ذلك كله والذي يحلو للناس ان ينفوه يتلخص على النحو التالي: ليس الإنسان بذلك الكائن الطيب السمح، ذا القلب الظمآن إلى الحب، الذي يزعم الزاعمون انه لا يدافع عن نفسه إلى متى هوجِمَ. وإنما هو على العكس كائن تنطوي معطياته الغريزية على قدر لا يستهان به من العدوانية. وعليه، ليس القريب بالنسبة إليه مجرد مساعد وموضوع جنسي ممكنين، وإنما أيضا موضوع إغراء وإغواء.

وبالفعل، ان الإنسان نزّاع إلى تلبية حاجته العدوانية على حساب قريبه، والى استغلال عمله بلا تعويض، والى استعماله جنسيا بدون مشيئته، والى وضع اليد على أملاكه وإذلاله، والى إنزال الآلام به واضطهاده وقتله. الإنسان ذئب للإنسان[41] : من يجرؤ، إزاء جميع تعاليم الحياة والتاريخ، ان يكذّب هذا المثل السائر؟ وكقاعدة عامة، إما أن تُظهِر هذه العدوانية الغاشمة استفزازا أو تضع نفسها في خدمة مأرب كان يمكن أيضا الوصول إلى هدفه بوسائل انعم وأكثر تهذيبا. وبالمقابل تظهر العدوانية في بعض الظروف الموائمة، وعلى سبيل المثال حين تُشَلّ عن التأثير طاقة القوى الأخلاقية التي كانت تعارض تظاهرات العدوانية وتكفها وتقمعها، تظهر إلى حيز الوجود بصورة عفوية وتميط عن الإنسان لثام الوحش المفترس الذي لا يقيم من اعتبار البتة لجنسه. ومن يستحضر منا في ذاكرته فظائع هجرات الشعوب الكبرى أو غزوات قبائل الهون، الفظائع التي اقترفها المغول المشاهير بقيادة جنكيز خان أو تيمورلنك، أو تلك التي نجمت عن استيلاء الصليبيين الأتقياء على القدس، ومن دون ان ننسى في نهاية المطاف فظائع الحرب العالمية الأخيرة[42]. فلا مناص له من ان يقبل بتصورنا وان يعترف بصحة أسسه.

ان هذا النزوع إلى العدوان، الذي يسعنا ان نزيح النقاب عنه في أنفسنا والذي نفترض بحق وجوده لدى الآخرين، يشكّل العامل الرئيسي للخلل في علاقاتنا بقريبنا، وهو الذي يفرض على الحضارة عبء جهود كثيرة. وبفعل هذه العدوانية الابتدائية التي تؤلّب بني الإنسان بعضهم على بعضهم الآخر، يجد المجتمع المتحضر نفسه مهددا باستمرار بالانهيار والدمار. ولا يكفي للمحافظة عليه الاهتمام بالعمل التضامني: فالأهواء الغريزية أقوى من الاهتمامات العقلية. وعلى الحضارة ان تجنّد كل ما في متناولها كي تحد من العدوانية البشرية وكي تقلص تظاهراتها عن طريق استجابات نفسية ذات طابع خلقي. ومن هنا، كان ذلك الاستنفار لطرائق ومناهج تحض بني الإنسان على تماهيات وعلاقات حب مكفوفة من حيث الهدف. ومن هنا أيضا كان ذلك التقييد للحياة الجنسية. ومن هنا أخيرا كان ذلك المثل الأعلى المفروض على الإنسان بأن يحب قريبه كنفسه، ذلك المثل الأعلى الذي يجد تبريره الحقيقي في أن ما من شيء يعاكس، بقدر ما يفعل هو، الطبيعة الإنسانية البدائية. وجميع الجهود التي بذلتها الحضارة باسمه لم تجد حتى الآن فتيلا. وتحسب هذه الحضارة انه في مستطاعها ان تتلافى الشطط الفظّ للقوة الغاشمة باحتفاظها لنفسها بالحق في الاحتكام إلى هذه القوة عينها لمواجهة المجرمين، لكن القانون لا يستطيع ان يطال التظاهرات الأعظم حذرا وإرهافا وخفاء للعدوانية البشرية. ولا مفر من ان ينتهي الأمر بكل واحد منا ذات يوم إلى ان يرى ان الآمال التي علقها في صباه على أقرانه ما هي الا أوهام، وبصفتها أوهاما على وجه التحديد ينفض يديه منها. وفي وسع كل واحد منا أن يشعر بمدى ما يكابد في حياته من شقاء وعذاب بسبب سوء نية قريبه. لكن من الظلم ان نلوم الحضارة ونأخذ عليها رغبتها في استبعاد الصراع والمزاحمة من النشاط الإنساني. فلا شك في انهما لازمان، لكن التنافس ليس بالضرورة عدواً، ومن باب الإساءة إلى الأول أن نتخذه ذريعة لتبرير الثاني.

يعتقد الشيوعيون انهم اكتشفوا الطريق إلى الخلاص من الشر. فالإنسان في نظرهم كله طيب، ولا يريد سوى الخير لقريبه، لكن مؤسسة الملكية الخاصة أفسدت طبيعته. فامتلاك الأملاك يقلد القوة لفرد بعينه ويبذر فيه بذرة النزوع إلى إساءة معاملة قريبه. ومن ثم فان من حُرم من الملك لا بد ان يصبح معاديا للمالك وأن يثور عليه. ويوم تُلغى الملكية الخاصة وتؤول جميع الثروات إلى مشاع مشترك ويغدو في مستطاع كل امرئ ان يشارك في المباهج التي توفرها، ستزول العداوة ونية الإيذاء السائدتان بين البشر. ولما كانت الحاجات جميعا ستجري تلبيتها، فلن يعود للمرء من داع إلى ان يرى في الآخر عدوا، وسيمتثل الجميع بطوع إرادتهم وملء اختيارهم لضرورة العمل. وليس النقد الاقتصادي للنظام الشيوعي من شأني، ولا يسعني أن أنظر هل من المناسب وهل من المفيد إلغاء الملكية الخاصة[43]. اما فيما يتعلق بمسلمته السيكولوجية، فمن المباح لي على ما اعتقد ان أرى فيها وهما لا يقوم على أساس من واقع. صحيح ان إلغاء الملكية الخاصة يجرد العدوانية البشرية وما ينجم عنها من لذة من واحدة من أدواتها، بل من أداة قوية، ولكنه لا يجردها من أقوى أدواتها: وبالمقابل، لا يكون قد تغير شيء في فروق القوة والنفوذ التي تسيء العدوانية استغلالها، ولا في طبيعة هذه الأخيرة. فالعدوانية لم تخلقها الملكية بل كانت تسود بلا منازع وبلا حدود تقريبا في أزمنة بدائية كانت الملكية فيها غير ذات شأن، ولا تكاد غريزة الملكية تفقد لدى الأطفال شكلها الشرجي البدائي حتى تتجلى العداوة لديهم. وتشكّل العدوانية الرسابة التي تتثفّل في قاع جميع عواطف المحبة أو الحب التي تربط بين البشر، ما خلا، ربما، عاطفة واحدة: عاطفة الأم تجاه ابنها الذكر. فحتى لو ألغي والحالة هذه حق الفرد في تملك الخيرات المادية، فسيبقى الامتياز الجنسي الذي ينبع منه بالضرورة أعنف التحاسد وأشد التباغض بين كائنات تحتل مواقع مختلفة في سلم واحد. ثم حتى لو ألغي هذا الامتياز الأخير بإطلاق كامل الحرية للحياة الجنسية، وبالقضاء بالتالي على الأسرة، تلك الخلية المنبتة للحضارة، لما أمكن البتة التكهن بالدروب الجديدة التي سيكون في مقدور الحضارة اختيارها لتطورها. ولا بد، على كل حال، من التكهن بما يلي: أيا يكن الدرب الذي ستختاره، فان السمة التي لا تزول ولا تبيد للطبيعة البشرية ستجّد في إثرها فيه.

ظاهر للعيان انه ليس سهلا على بني الإنسان العزوف عن إشباع تلك العدوانية المميزة لهم. ولو فعلو لما فازوا بأي راحة أو هناء. ان تجمعا حضريا ضيق النطاق، وتلك هي ميزته، يفتح منفذا لذلك الدافع الغريزي إذ يسمح بمعاملة كل من يبقى خارجه معاملة الأعداء. وما هذه الميزة بهزيلة. وتظل هناك على الدوام إمكانية لتوحيد أعداد اكبر فأكبر من الناس بروابط الحب. ولكن بشرط ان يبقى غيرهم خارج عدادهم كي يتلقوا الضربات. وقد سبق لي الاهتمام بالظاهرة المتمثلة في أن المجتمعات المتجاورة، بل المتصاهرة، تتحزب فيما بينها وتتبادل الهزء والسخرية، وعلى سبيل المثال الأسبان والبرتغاليون، ألمان الشمال وألمان الجنوب، الإنكليز والاسكتلنديون... الخ. وقد أطلقت عليها اسم "نرجسية الفروق الصغيرة"، وهي تسمية لا تسهم كثيرا في توضيحها وجلاء أمرها. وفي وسعنا أن نلاحظ ان هذه الظاهرة تنطوي على تلبية مريحة وغير مؤذية نسبيا للغريزة العدوانية، تسهل على أعضاء المجتمع المعني انصهارهم وتلاحمهم. وقد أدى الشعب اليهودي، بحكم تشتته في كل مكان، خدمة جلى، من وجهة النظر هذه، لحضارة الشعوب التي آوته واستضافته، ولكن جميع مجازر اليهود في العصر الوسيط لم تكفّ، واأسفاه، لتجعل تلك الحقبة اكثر أمنا وسلاما بالنسبة إلى الأشقاء المسيحيين. وحين جعل الرسول بولس من حب الناس الكوني أساس جماعته المسيحية، كانت النتيجة المحتومة لذلك أشد التعصب وأكثره تطرفا من قبل المسيحية تجاه غير المهتدين إليها، علما بأن مثل هذا التعصب لم يكن معروفا لدى الرومان الذين لم تكن حياتهم العامة والسياسية قائمة بحال من إلى الأحوال على الحب، بالرغم من أن الدين كان بالنسبة إليهم شأنا من شؤون الدولة وبالرغم من ان دولتهم كانت على الدوام تحمل بصمة الدين العميقة. كذلك لم يكن من قبيل المصادفة التي لا يفهم لها سر أن يلجأ الحرمان إلى اللاسامية كي يحققوا على نحو أشمل وأكمل حلمهم في الهيمنة العالمية، وهانحن ذا نرى كيف ان محاولة إرساء الأسس لحضارة شيوعية جديدة في روسيا تجد نقطة ارتكازها السيكولوجية في اضطهاد البرجوازيين. وكل ما هنالك اننا نتساءل بقلق عما سيفعله السوفييت بعد إفادة برجوازييهم عن بكرة أبيهم.

إذا كانت الحضارة تفرض مثل هذه التضحيات الباهظة، لا على الجنسية فحسب بل أيضا على العدوانية، فاننا نفهم في هذه الحالة فهما احسن لماذا يعسر على الإنسان غاية العسر ان يجد في ظلها سعادته. وبهذا المعنى، كان الإنسان البدائي محظوظ القسمة في الواقع لأنه ما كان يعرف أي تقييد لغرائزه. وبالمقابل، كان اطمئنانه إلى التمتع مُطَولا بمثل هذه السعادة واهيا للغاية. وقد قايض الإنسان المتحضر قسطا من السعادة الممكنة بقسط من الأمان. لكن لا ننس ان الزعيم في الأسرة البدائية كان هو وحده الذي يتمتع بتلك الحرية الغريزية أما الباقون فكانوا يقاسون في أغلال الرقّ من اضطهاده. كان التضاد على أشده إذن في تلك الحقبة السحيقة القدم من التطور الإنساني بين أقلية تستفيد من مزايا الحضارة وأكثرية محرومة من هذه المزايا. وتنبئنا المعلومات الأدق والأصح التي توفرت لنا عبر أعراف المتوحشين الحاليين بأنه ليس من داع البتة لنحسدهم على حرية حياتهم الغريزية: فقد كانوا خاضعين، بالفعل، لقيود من نوع آخر، لكن أشد صرامة، ربما، من تلك التي تغلّ المتحضر المعاصر.

إذا كنا ننحي باللائمة بحق على حضارتنا الراهنة لأنها لا تحقق على نحو كاف نظاما حياتيا قمينا بإسعادنا، مع ان ذلك هو مطلبنا منها، ولأنها تبقي على العديد من الآلام التي كان يمكن، ولو بوجه الاحتمال، تلافيها، وإذا كنا نبذل قصارى جهدنا من جهة أخرى، ومن خلال نقد صارم قاس، كي نكتشف مصادر نقصها وعدم كمالها، فاننا بكل تأكيد لا نمارس في ذلك الا حقنّا الثابت. ونحن إذ نفعل ذلك لا نضع أنفسنا في صف أعدائها. كذلك فانه من حقنا ان نتأمل منها أن تقوم رويدا رويداُ بتغييرات قمينة بتلبية حاجاتنا على نحو أفضل، الأمر الذي سيقيها شر هذه الانتقادات. بيد اننا قد نتآلف مستقبلا مع فكرة ان بعض الصعاب القائمة حاليا ترتبط وثيق الارتباط بجوهر الحضارة، ولن تذللها أي محاولة للإصلاح. وناهيك عن الالتزامات التي يفرضها علينا تقييد الدوافع الغريزية، وهي التزامات نحن مهيئون لها، نجد أنفسنا مكرهين على تقليب النظر أيضا في الخطر الذي تثيره حالة خصوصية يمكن ان نسميها "بؤس الجماهير السيكولوجي". فهذا الخطر يصبح داهما حين تكون العلة الرئيسية لقيام الرباط الاجتماعي تَشَبّه أعضاء المجتمع ببعضهم بعضا، بينما لا تتمكن، من جهة مقابلة، بعض الشخصيات التي لها سجية القادة والزعماء من أداء الدور الهام الذي يفترض ان تضطلع به في تكوين الجمهور[44]. ولعل وضع أميركا الراهن يتيح فرصة طيبة لدراسة هذا الأذى المخيف النازل بالحضارة. وهنا أقاوم إغراء الاندفاع في انتقاد الحضارة الأمريكية، حرصا مني على عدم إعطاء انطباع بأنني أبغي أنا نفسي استعمال طرائق أمريكية.




ترجمة: جورج طرابيشي

-------------
هوامش فرويد :

[1] يعرف بالـ id.

[2] ان هذا القسم الأقدم عهداً من أقسام الجهاز النفسي يبقى مدى الحياة أهمها إطلاقاً. ودراسته هي التي كانت بمثابة البداية للمبحث التحليلي النفسي.

[3] يعرف بالـ ego.

[4] يعرف بالـ super ego.

[5] ايروس: إله الحب عند الإغريق.

[6] الموضوعي (objectal): نسبة إلى الموضوع، طباق الذات، والحب الموضوعي هو حب الموضوع، حب ما ليس هو الذات، وبمعنى ما، الحب الغيري.

[7] تخيل بعض الشعراء خرافات من هذا القبيل، لكن لا شيء في تاريخ المادة الحية يؤكد تخيلاتهم.

[8] كان الفيلسوف امبيذوكلس الاغريغنتي قد تنبى منذ القديم هذا التصور للقوى الأساسية أو الغرائز، وهو تصور لا يزال العديد من أنصار التحليل يقابلونه بالرفض.

[9] الوذفة أو البروتوبلازما: المادة الحية الأساسية في الخلايا الحيوانية والنباتية، وحركتها متمورة تمد أو تسحب فيها أقدامها (شواها) الكاذبة.

[10] ثمة فرضية تذهب إلى ان الإنسان تحدر من حيوان ثديي كان نضوجه الجنسي يتم في السنة الخامسة من عمره. ثم طرأ حدث خارجي كبير أخل بالتقدم المطرد للنوع وأوقف تطور الجنسية. وقد يكون هذا أيضاً اصل بعض الفروق الأخرى في الحياة الجنسية بين الإنسان والحيوانات، ومنها مثلاً انتقاء التأثير الموسمي على الليبيدو، واستخدام دور الحيض في العلاقات الجنسية.

[11] ينبغى ان نتساءل عما إذا كان إشباع الحوافز الغريزية التدميرية الخالصة حقيقةً بتوليد لذة، وعما إذا كان هناك تدمير بدون عناصر ليبيدوية. ولا يبدو ان إشباع الرغبات التي تتبقى في الانا من غريزة الموت يولد لذة ، على الرغم من ان المازوخية تمثل مزيجاً شبيهاً تماماً بالسادية.

[12] نظرية المخرج Cloaque: تصور طفلي يحسب ان الأطفال، نظير البراز، يولدون من "الخلف"، أي من الشرج. ويرتب المذهب التحليلي النفسي على هذا الخلط بين المهبل والشرج نتائج هامة، ومنها نفي الدور الشهوي للمهبل، وربط الجنس بالعدوان وبمشاعر الخوف عند الاتصال الجنسي.

[13] ذهب بعضهم تكراراً إلى أن التهيجات المهبلية يمكن أن تطرأ في وقت مبكر للغاية لكنها لا تعدو في الأرجح في هذه الحال ان تكون تهيجات بظرية، أي تهيجات في عضو مشابه للقضيب، وبذلك لا يسقط حقنا في وصف هذا الطور بأنه قضيبي.

[14] القبتناسلية: مصطلح يشير إلى المرحلة قبل التناسلية (presexual).

[15] يرى اتجاه متطرف، نظير السلوكية التي رأت النور في أميركا، أن بوسعه ان ينشئ علم نفس لا يقيم اعتباراً لهذه الواقعة الأساسية!

[16] في أوراق المؤلف التي نشرت بعد وفاته وجدت صياغة أخرى يعود تاريخها إلى تشرين الأول 1938، ننقل منها المقاطع التالية:

"....والعجيب ان الجميع، أو الجميع تقريباً، يتفق رأيهم على أن يجدوا لكل ما هو نفسي طابعاً مشتركاً، طابعاً يعبر عن ماهيته بالذات. أنه الطابع الوحيد، الذي يند عن الوصف، والذي لا حاجة به أصلاً إلى ان يوصف، للشعور. فكل ما هو شعوري هو نفسي، وبالعكس، كل ما هو نفسي هو شعوري. وانى لنا ان نماري في بديهية كهذه! لكن لنقر مع ذلك بأن هذه النظرة للأمور لم توضح ماهية النفسية، إذا اصطدم البحث العلمي هنا بجدار، فما اكتشف أي درب يمكن ان يتخطى به هذا الحاجز. ثم ان المماثلة بين النفسي والشعوري تقود القائم بها- وهذه نتيجة مؤسفة - إلى فصل السيرورات النفسية عن مجمل الظاهرات الكلية، فتتبدى هذه السير ورات وكأنها شيء قائم بنفسه.

"وما كان من الممكن القبول بفكرة كهذه. إذ كيف لنا، بالفعل، ان نتجاهل ان الظاهرات النفسية ترتبط إلى حد كبير بالظاهرات البدنية، وأنها، بالعكس، تؤثر تأثيراً قوياً فيها أيضاَ؟ والحق، لئن وجد الفكر الإنساني نفسه يوماً في درب مسدود، فإنما في هذا المضمار تحديداً. وقد اضطر الفلاسفة ، بحثاً عن مخرج، إلى التسليم ولو بوجود سيرورات عضوية موازية للسيروارت النفسية ومرتبطة بها على نحو يعسر تفسيره. وتفسح هذه السيرورات في المجال أمام المبادلات بين "النفس والجسم" وتدرج من جديد الظاهرة النفسية في مجمل الحياة. غير ان هذا التفسير ليس بدوره مقنعاً.

لقد خرج التحليل النفسي من هذا المأزق بأن أنكر بقوة مماثلة النفسي بالشعوري. كلا، ان الشعور ليس ماهية النفسي، بل صفة من صفاته فحسب، وصفة متقلبة، غائبة اكثر منها حاضرة في الغالبية العظمى من الأحوال. والعنصر النفسي يبقى بحد ذاته، وأياً تكن طبيعته، لا شعورياً، شبيهاً في ذلك، في ارجح الظن، بسائر الظاهرات الطبيعية الأخرى التي نعرفها.

" في رأينا ان مسألة علاقات الشعور بالنفسية قد وجدت حلها الآن: فما الشعور إلا كيفية (خاصية)، متقلبة أصلاً، من كيفيات النفسية. لكن يبقى علينا بعد ان نفند اعتراضاً: فعلى الرغم من الوقائع التي تكلمنا عنها يزعم بعضهم أنه لا يجوز العزوف عن فكرة وحدة الهوية بين النفسي والشعوري لأن السيرورات النفسية التي تعرف باللاشعورية لا تعدو ان تكون سيرورات عضوية موازية لسيرورات النفسية ومعترفاً بها منذ القديم. وعلى هذا، فإن المشكلة التي نريد حلها لا تعدو بدورها ان تكون مسألة باطلة تنصب على التعريف. وجوابنا عن ذلك انه من غير المعقول ومن غير المناسب بالفعل تحطيم وحدانية الحياة النفسية لصالح تعريف ليس إلا، في الوقت الذي نعاين فيه ان الشعور لا يمدنا إلا بسلاسل من تظاهرات غير كاملة، مليئة بالثغرات. أفمن قبيل المصادفة وحدها ألا نكون قد توصلنا إلى تقديم نظرية شاملة متماسكة عن النفسية إلا بعد ان عدّلنا تعريفها؟

"لنحاذر على كل حال من الاعتقاد بان التحليل النفسي هو الذي ابتكر نظرية النفسية هذه. فقد أكد فيلسوف آلماني، هو تيودور ليبس، جازماً ان اللاشعور سمة مميزة للظاهرة النفسية. وقد كان مفهوم اللاشعور يقرع منذ زمن بعيد أبواب علم النفس، وكان بينه وبين الفلسفة، وكذلك بين الأدب، مغازلة، ولكن العلم ما كان يعرف كيف يستخدمه. وقد تبنى التحليل النفسي هذه الفكرة، وحملها على محمل الجد، وافرغ عليها مضموناً جديداً. وقد اهتدت الأبحاث التحليلية النفسية إلى بعض سمات للنفسية اللاشعورية ما كان أحد اشتبه بها بعد، واكتشفت بعض القوانين التي تحكمها. ولا نقصد بذلك ان الكيفية الشعورية قد فقدت قيمتها في نظرنا. فهي تبقى المنارة الوحيدة التي تضيء لنا وتسدد خطانا في دياميس الحياة النفسية. وبالنظر إلى الطبيعة الخاصة لمعرفتنا، فإن قوام مهمتنا العلمية في مضمار علم النفس ان نترجم السيرورات اللاشعورية إلى سيرورات شعورية لنردم على هذا النحو ثغرات إدراكنا الشعورية".

[17] تجدر الإشارة إلى ان الشعور بالألمانية، كما باللغات اللاتينية، يعني الوعي (conscience). وبالمقابل، فإن الترجمة العربية لهذا المصطلح بالشعور (وكذلك اللاشعور مقابل اللاوعي (inconscient) تقيم فاصلاً اختصاصياً بين اللغة التحليلية النفسية وبين لغة عامة الناس.

[18] preconsious

[19] أواليات: يستخدم المترجم مصطلح اواليات مشتقا من كلمة "آلة" والمقصود به آليات (mechanisms)

[20] العصاب: مرض نفسي، اضطراب عصب وظيفي (neurosis).

[21] الحرب الدينية والسياسية بين 1618 و 1648، وكان من أسبابها الرئيسية الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت.

[22] راجع مؤلف فرويد: "مستقبل وهم".

[23] هذا المصطلح قابل أيضا للترجمة ب "الثقافة" (culture)، وهو في الألمانية Kultur.

[24] تأذن لنا معطيات تحليلية ناقصة، بل قابلة لأكثر من تأويل واحد، بصياغة فرضية قد تبدو بعيدة عن المعقول بصدد اصل تلك المأثرة الإنسانية الكبرى، فنحن نزعم ان الأشياء حدثت كما لو ان الإنسان البدائي قد اعتاد، في كل مرة كان يجد نفسه فيها في مواجهة النار، ان يلبي بتلك المناسبة رغبة طفلية: الرغبة في إخمادها بنفث بوله. اما بصدد التأويل الاحليلي البدائي للسان اللهب الذي يرتفع ويمتد في الأجواء. فلا يمكن ان يحوم حوله ظل من شك، إذ تقوم أساطير لا يحصى لها عد شاهدا على صحته. وقد كان إطفاء النار بالتبول - وهي طريقة كان ما يزال يلجأ إليها الأحفاد المتأخرون للقردة كما يمثلهم غوليفر في ليليبوت (بلاد خرافية نزل فيها غوليفر، بطل قصة سويفت "رحلات غوليفر" وأهلها لا يزيد طولهم على ست بوصات".

وغارغانتوا، بطل رابيليه - أقول كان إطفاء النار بالتبول ضربا من فعل جنسي مع كائن مذكر، تظاهرة محببة إلى النفس من تظاهرات القوة الرجولية أثناء ضرب من "مبارزة" جنسية مثلية. وأول من عزف عن ذلك الفرح وأبقى على النار مشتعلة، كان أيضا أول من أمتلك المقدرة على حملها معه وعلى إخضاعها لخدمته. ولقد كان بإطفائه نار هيجانه الجنسي الذاتي، قد دجّن تلك القوة الطبيعية المتمثلة في لسان اللهب. هكذا يكون ذلك الكسب الحضاري الكبير مكافأة على عزوف عن دافع جنسي. وقد وقع الاختيار، في مرحلة ثانية، على المرأة لتكون حارسة النار الملتقطة والمحفوظة في موقد المنزل، لأن تكوينها التشريحي يمنعها من الاستسلام لإغراء إطفائها. وثمة مسوغ أيضا للتنويه بالعلاقة الثابتة التي تقوم، كما تشهد على ذلك التجربة التحليلية، بين الطموح والنار والايروسية الاحليلية.

[25] نسبة إلى الرمامة: جراحة الترميم والتوقيع.

[26] أي السنة التي ظهر فيها هذا المؤلف.

[27] لويس الرابع عشر.

[28] حشرة تحيا حياة جماعية.

[29] أنظر نص فرويد "الطبع والايروسية الشرجية".

[30] في الواقع، لم يتلاش الطابع الدوري للعملية الجنسية، لكن تأثيره على الإثارة الجنسية النفسية سلك بالأحرى الاتجاه المعاكس. ويرتبط هذا التحول في المقام الأول بأفول حاسة الشم التي كان الطمث يمتلك بواسطتها القدرة على التأثير على نفس الذكر. وقد تولدت عندئذ بدور الاحساسات الشمية الإثارات البصرية. واستطاعت هذه الأخيرة، بخلاف الأولى (فالإثارات الشمية منقطعة)، أن تمارس تأثيرا دائما. وتابو الطمث إنما ينجم عن هذا "الكبت العضوي" كإجراء مضاد للرجوع إلى طور تم تجاوزه من التطور. اما سائر الدوافع الأخرى فمن طبيعة ثانوية في ارجح الظن (راجع ك. د. دالي: "الميثولوجيا الهندوسية وعقدة الخصي"، مجلة "ياماغو"، 13، 1937). فحين ينقلب آلهة مرحلة فائتة من الحضارة إلى أبالسة، يكون هذا لانقالاب إعادة إنتاج على مستوى مغاير لتلك الأوالية عينها. بيد أن تراجع الاستطاعة التهييجية للرائحة إلى مرتبة ثانوية يبدو وكأنه ناجم هو نفسه عن كون الإنسان قد ارتفع عن الأرض وحزم أمره على السير واقفا، وهي وضعية أظهرت للعيان الأعضاء التناسلية التي كانت محجوبة عن النظر حتى ذلك الحين، فأوجدت بذلك الحاجة إلى حمايتها، فظهر إلى الوجود الحياء والحشمة. وعليه، يكون انتصاب الإنسان أو اكتسابه "الوضعية العمودية" بمثابة البداية لسيرورة الحضارة التي لم يكن عنها من محيص. وبدءا من هنا شملت في ما شملت انحطاط أهمية الادراكات الحسية الشمية وهزال النساء في فترة الحيض، وأفضت إلى هيمنة الادراكات الحسية البصرية، والى وقوع الأعضاء التناسلية تحت مدى النظر، ثم إلى استمرارية الإثارة الجنسية وتأسيس الأسرة، ومن ثم إلى عتبة الحضارة الإنسانية. وما تقدمنا به لا يعدو أن يكون تخمينا نظريا، ولكنه على قدر كبير من الأهمية يستأهل معه التحقق من صحته بدقة عن طريق الحيوانات التي تقترب في شروط حياتها منتهى الاقتراب من شروط حياة الإنسان كذلك نتبين تأثير عامل اجتماعي ظاهر للعيان في المجهود الذي تفرضه الحضارة سعيا وراء النظافة. فلئن وجد هذا المجهود تبريره المتأخر في ضرورة التقيد بقواعد علم الصحة، فانه قد ظهر إلى حيز الوجود قبل ان تعرف هذه القواعد. فالدافع إلى ان يكون المرء نظيفا يصدر عن الحاجة الملحة إلى إزالة البراز الذي غدا كريها بالنسبة إلى حاسة الشم. ونحن نعلم ان الوضع يختلف لدى الأطفال الصغار الذين لا يوحي إليهم البراز بأي قرف، بل يبدو وكأنه ثمين عزيز باعتباره جزءا من أنفسهم منفصلا عن جسمهم. وتبذل التربية جهدا بالغا في التعجيل بقدوم المرحلة التالية التي يفترض ان يفقد فيها البراز كل قيمة وأن يضحْي فيها موضع قرف وتقزز، وبالتالي ان يُطرح. ومثل هذا التدهور في القيمة ما كان ليكون ممكنا لولا ان الرائحة النتنة لتلك المواد التي يفرزها الجسم قضت عليها بأن تشاطر المصير الذي آلت إليه الاحساسات الشمية بعد أن نهض الإنسان عن الأرض. هكذا تكون الايروسية الشرجية أو من يطأطىء الرأس أمام ذلك "الكبت العضوي" الذي شق الطريق إلى الحضارة. ويتجلى أثر العامل الاجتماعي، الذي يتكفل بإدخال تحولات جديدة على الأيروسية الشرجية، في الواقعة التالية، وهي ان الإنسان، بالرغم من كل التقدم الذي أنجزه، لا ينفر إلا لماما من رائحة برازه، بينما تصدمه وتقززه رائحة براز الغير. إذن فالفرد النجس، أي ذاك الذي لا يخفي عن الأنظار برازه، يجرح الآخرين ولا يقيم لهم اعتباراً، وهذا المدلول نفسه ينطبق أصلا على الشتائم الدارجة والمقذعة. كذلك ما كان لنا أن نفهم الاستعمال المهين لاسم أوفى صديق للإنسان بين الحيوانات لولا خاصيتان اثنتان تعرضان الكلب لازدراء الإنسانية: انه أولا "حيوان شمي" لا يهاب البراز، وانه لا يخجل ثانيا من وظائفه الجنسية.

[31] الطوطم (totem): مصطلح أنثروبولوجي يعني الحيوان أو النبات (أو أي شيء آخر) تعتبره القبيلة رمزا لها.

[32] التابو (taboo): مصطلح أنثروبولوجي يعني الحرام أو المحرّم.

[33] انانكيه (ananke): الضرورة الخارجية أو القدر.

[34] مؤسس رهبانية الفرنسيسكان، ولد في 1182 وتوفي في 1226 ونذر نفسه للفقر.

[35] من بين مؤلفات الكاتب الإنكليزي المرهف الحس جون غالورثي، التي يقر الجميع اليوم بقيمتها، قصة قصيرة انتزعت إعجابي الكبير فيما سلف. وعنوانها "شجرة التفاح"، وقصور على نحو ثاقب كيف لم يعد ثمة مكان، في حياتنا المتمدنة الحديثة، للحب البسيط والطبيعي بين كائنين إنسانيين.

[36] التماهي (identification)، اشتقاقا من "ما هو".

[37] جنس من الثعابين غير السامة.

[38] يستطيع الشاعر الكبير ان يجيز لنفسه التعبير، ولو بلهجة المزاح على الأقل، عن حقائق سيكولوجية مستهجنة بشدة. هكذا يجاهرنا هـ. هايني بالقول: "انني اكثر المخلوقات طُرّاً حبا للسلم. رغائبي هي: كوخ متواضع سقفه من التبن، ولكنه مجهز بفراش وثير، ومائدة ثرة. ولبن وزبدة طازجان، وزهور على الشبابيك، وعند الباب بضع أشجار جميلة، وإذا شاء لي الرحمن السعادة الكاملة، فليمنن على برؤية تلك الأشجار وقد علق بها ستة أو سبعة من أعدائي شنقا. وبقلب مفعم بالتحنان والإشفاق، سأصفح قبل ان يفارقوا الحياة عن جميع الإهانات التي تسببوا لي بها في حياتهم - صحيح ان الصفح عن الأعداء واجب، ولكن ليس قبل أن تعلق مشانقهم" (هايني: "أفكار وخواطر").

[39] قول لاتيني يُنسب خطأ إلى القديس اوغسطينوس، وترجمته" أومن به لأنه مخالف للعقل".

[40] بالفرنسية في النص، ومؤادها: فليتفضل السادة القتلة بالبدء!

[41] باللاتينية في النص :Homo Homini Lupus.

[42] يعني الحرب العالمية الأولى.

[43] ان من ذاق في حداثته أهوال الفقر وعانى من كبرياء الأغنياء وانعدام الإحساس لديهم، لا يمكن قطعا ان يتُهم أو يُشتبه في عدم تفهمه وعدم تقبله للجهود المبذولة لمحاربة تفاوت الثروات وما يترتب عليه. وفي الحقيقة، إذا كان هذا الكفاح يبغي التذرع بالمبدأ المجرد، القائم على أساس العدل، والقائل يتساوي جميع البشر فيما بينهم، فلن يكون أسهل من الرد عليه بأن الطبيعة الأولى قد اقترفت مظالم لا علاج لها بما أوجدته من تفاوت أصيل في القدرات النفسية والعقلية الموزعة على البشر.

[44] راجع س. فرويد: "علم النفس الجمعي وتحليل الأنا" (1920)، دار الطليعة، بيروت 1979

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:17 PM

14- ألبرت أينشتين

ألبرت أينشتاين (Albert Einstein) عالم فيزيائي ومؤسس النظرية النسبية، وصائغ عدد من النظريات الفيزيائية الأخرى. ويدين الناس في عالم اليوم لأينشتاين بشكل كبير في تصورهم عن المكان والزمان. ذلك بالرغم من أنه لم ينجح في الالتحاق بالجامعة إلا في المحاولة الثانية!

ولد أينشتين لأبوين يهوديين في ألمانيا التي عاش فيها. وقد كان أينشتاين في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان محاضرا زائرا، حين وصل أدولف هتلر إلى السلطة في ألمانيا عام 1933. وبقي في الولايات المتحدة واستقر في مدينة برنستون خوفا من الإرهاب الفاشي الذي جعل من أينشتاين هدفا له.

صاغ أينشتاين نظريته الأولى عن الحركة البراونية في العام 1901. وفي العام 1905 صاغ نظريته عن الظاهرة الكهروضوئية، وصاغ النظرية النسبية الخاصة في نفس العام. وفي العام 1916 نشر مؤلفه عن النظرية النسبية العامة، وله العديد من النظريات الأخرى. حصل أينشتاين على جائزة نوبل للفيزياء في العام 1921، عن أعمال غير النظرية النسبية.

إن مقدمة أينشتاين لكتاب غاليليو التي تم اختيارها لهذا الكتاب هي محاولة للتعرف، من مصدر ثانوي، على أفكار جاليليو جاليلي، عالم الفلك الإيطالي الشهير، الذي ولد في مدينة بيزا في العام 1564.

وجد غاليليو في أبحاثه ما يدعم وجهة نظر كوبيرنيكوس القائلة بان الشمس هي مركز الكون وبان الأرض تدور حولها. وفي عام 1616 اضطر غاليليو أن يعد بهجر نظريته. لكن ذلك لم يدم، حين نشر كتابه (Saggiatore) وجاهر بأفكاره في كتابه "حوار بين منظومتين عالميتين" الذي صدر في العام 1932. ودعي جاليليو إلى روما إثر ذلك، لينكر تأكيده على نظرية كوبيرنوكوس، وقد فعل ذلك تحت التهديد. وهناك رواية، غير صحيحة في الغالب، تقول إنه أضاف بعد إنكاره الرسمي لهذه النظرية قائلا: "لكنها في كل الأحوال تدور!" (عن الأرض).




أينشتاين: مقدمة لكتاب جاليليو جاليليي "حوار بخصوص النظامين الرئيسيين: نظام بطليموس والنظام الكوبيرنكي"


يعتبر عمل جاليليو المسمى "حوار بخصوص النظامين العالميين الرئيسيين ..." منجما من المعلومات لكل إنسان معني بالتاريخ الحضاري للعالم الغربي وأثره على النمو الاقتصادي والسياسي.

هنا ينكشف إنسان يملك إرادة ملتهبة وذكاء عقلانيا وشجاعة ليقف ممثلاً للتفكير العقلاني أمام جمع من هؤلاء الذين باعتمادهم على جهل الناس وتراخي المدرسين في زي الكاهن والعالم، يحافظون على مراكز سلطتهم ويدافعون عنها. إن موهبة غاليليو الأدبية الفائقة مكنته من مخاطبة المتعلمين من رجال عصره بلغة واضحة مؤثرة من أجل التغلب على تفكير معاصريه الأسطوري والمتمركز حول الإنسان، ومن الرجوع بهم باتجاه رأي موضوعي سببي بخصوص النظام الكامل المتناغم للكون (الكوسموس)، ذلك النظام الذي فقدته الإنسانية مع تدهور الحضارة اليونانية.

عندما أتحدث بهذه الطريقة، فإنني أدرك أنني أنا أيضاً أقع في المنزلق العام الذي يقع فيه هؤلاء السكارى بإخلاصهم، الذين يبالغون في تعظيم مكانة أبطالهم. قد يكون صحيحاً أن شلل العقل خلال القرن السابع عشر، والناتج عن التقليد السلطوي المتصلب الذي جلبته عصور الظلمات القروسطية[1] كان قد إنحسر إلى حد انه لم يكن باستطاعة قيود التراث لمفكري القدم ان تصمد مدة أطول، مع أو بدون جاليليو.

وبالرغم من ذلك فإن هذه الشكوك تتعلق فقط بجزء صغير من المشكلة العامة المختصة بالمدى الذي يمكن أن تتأثر به حقبة من التاريخ ببعض الأفراد الذين تثير ميزاتهم فينا الانطباع بأنها [الميزات] متفردة أو مصادفة، الذين لم يكن تواجدهم في تلك الفترة إلا بمحض الصدفة. وكما هو مفهوم، فإن عصرنا هذا ينظر نظرة متشككة أكثر من النظرة التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر أو النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلى دور الفرد. فالتخصصات العميقة في المهن والمعرفة، تجعل الفرد يظهر كـ "قابل للتبديل" كأي جزء من آلة يتم إنتاجها بالجملة.

لحسن الحظ، إن تقديرنا لكتاب "حوار ..." كوثيقة تاريخية لا يعتمد على موقفنا من تلك الأسئلة المخاطِرة. بداية، إن "حوار ..." يعطي تفسيراً حياً ومقنعاً لأبعد الحدود لتلك الآراء التي كانت سائدة والمتعلقة بتركيب الكوسموس بعامة. إن التصور السائد لشكل الأرض كقرص مسطح بالإضافة إلى بعض الأفكار المهمة المتعلقة بالفضاء المليء بالنجوم وبتحركات الأجسام السماوية الذي كان سائدا في بداية العصور الوسطى، كان يمثل تدهورا للمفاهيم اليونانية القديمة، وبشكل خاص لأفكار أرسطو ولمفهوم بطليموس المكاني والمتماسك المتعلق بالأجسام السماوية وتحركاتها: التصور السائد حول العالم في عصر جاليليو يمكن وصفه كما يلي:

هناك فضاء وفيه توجد نقطة مفضلة هي مركز الكون. المادة، على الأقل الجزء الأكثف منها، يميل للاقتراب إلى أقرب حد ممكن من هذه النقطة. وتبعاً لذلك، فقد اتخذت المادة شكلاً مقارباً (مشابهاً) للشكل الدائري (الأرض). وانطلاقاً من هذه المعلومة حول الأرض، فإن مركز تلك الكرة يتطابق عملياً مع مركز الكرة السماوية (الكون). أما الشمس، والقمر والنجوم فكلها محمية من السقوط باتجاه مركز الكون، حيث إنها مربوطة بقواقع كروية متصلبة شفافة تتطابق مراكزها مع مركز الكون "الفضاء". هذه القواقع الكروية تدور حول الكرة الأرضية الثابتة (أو مركز الكون) بسرعات زاويّة قليلة الاختلاف. قوقعة القمر هي صاحبة أصغر نصف قطر، وتحيط بعالم ما تحت القمر. أما القواقع الخارجية بأجسامها السماوية فتمثل "العالم السماوي"، والتي توصف أجسامها بأنها أبدية، غير قابلة للانهدام أو التبدل وذلك مقارنة بـ "الكرة الأرضية السفلى" الموجودة داخل قوقعة القمر، بالهيكل القمري الذي يحتوي على كل ما هو مؤقت زائل فانٍ وقابل للإفساد.

بطبيعة الحال، لا يمكن لنا أن نلقي اللوم بشأن هذه النظرة الساذجة على الفلكيين اليونان الذين في تصويرهم لتحركات الأجسام السماوية، استعملوا تراكيب هندسية مجردة، ازداد تعقيدها بازدياد دقة المراقبات الفلكية. وبسبب عدم توفر نظرية للميكانيكا حاولوا تقليص التحركات المعقدة (الظاهرة) إلى أبسط حركات أمكنهم تصورها، وبالتحديد إلى حركات دائرية موحدة وتراكيب منتظمة. إن التعلق بفكرة أن الحركة الدائرية هي الحركة الطبيعية بحق كانت ما تزال واضحة التميز عند جاليليو، وربما تكون هي المسؤولة عن عدم إدراك جاليليو الكامل لقانون القصور الذاتي وأهميته الضرورية.

وهكذا باختصار كُيّفت أفكار اليونان مع ذهنية الأوروبيين البربرية البدائية لذلك الوقت. كما ورغم ان الأفكار الهيلينية هذه ليست سببية، فقد كانت موضوعية وحرة من الآراء ذات النظرة الإحيائية، أو خالية من الآراء الروحية، وهذه فضيلة يمكن ان ننسبها لكونية (كوسمولوجية) أرسطو.

إن جاليليو في دفاعه عن النظرية الكوبرنيكية لم يكن فقط مدفوعا بدافع تبسيط التصور عن الحركات السماوية. فقد كان هدفه ان يستبدل النظام الفكري المتحجر والعقيم ببحث جدي عن فهم أعمق وأثبت بخصوص الحقائق الفيزيائية (الطبيعية) والفلكية.

إن شكل الحوار المستعمل في عمله قد يكون جزئياً نتيجة لمثال أفلاطون الساطع. فقد مكن جاليليو من استخدام موهبته الأدبية غير العادية في خلق مواجهة حادة وفعالة بين الآراء. بالتأكيد انه أراد أن يتفادى التزاماً مفتوحاً حول هذه الأسئلة الخلافية، مما كان يقوده إلى الدمار بأيدي محاكم التفتيش. في الحقيقة، كان جاليليو ممنوعا بوضوح من المدافعة عن النظرية الكوبرنيكية. وبغض النظر عما يحويه الحوار من حقائق ثورية، فإنه يمثل محاولة خبيثة، ظاهرياً تستجيب لذلك الطلب، وتتجاهله في الواقع. ولسوء الحظ فقد تبين بأن محاكم التفتيش لم تستطع أن تقدر مزاحا بهذه الدقة حق قدره.

إن نظرية الأرض الثابتة كانت قائمة على الفرضية القائلة بأنه يوجد مركز مجرد للكون، وكان الافتراض بان ذلك المركز يسبب سقوط الأجسام الثقيلة على سطح الأرض. إذ ان تلك الأجسام المادية لها ميل للاقتراب من مركز الكون بقدر ما تسمح به "لا-اختراقية الأرض". هذا يؤدي إلى شكل الأرض شبه الدائري.

يعترض جاليليو على تقديم أرضية ذلك "اللاشيْ" (مركز الكون) والذي من المفترض أن يفعل في الأجسام المادية، معتبراً ذلك غير كاف أبداً.

إلا أنه يوجه الانتباه إلى حقيقة أن هذه الفرضية غير المرضية تنجز اقل بكثير من المطلوب منها. فعلى الرغم من انها تعطي تفسيراً لكروية للأرض إلا انها لا تفسر الشكل الكروي للأجسام السماوية الأخرى. ومع ذلك، فإن دورات القمر والزهرة، والتي اكتشفها لاحقاً بواسطة التلسكوب المخترع حديثاً، أثبتت الشكل الكروي لهذين الجسمين السماويين، كما وأثبتت المراقبات الدقيقة للبقع الشمسية نفس النتيجة بالنسبة للشمس. والحقيقة، إنه لم يبق هناك أي شك في زمن جاليليو بشأن الشكل الكروي للكواكب والنجوم.

وعليه، فإن فرضية "مركز الكون" لا بد أن تستبدل بفرضية أخرى تكون قادرة على تفسير الشكل الكروي للنجوم أيضاً وليس فقط للأرض. يقول جاليليو، بوضوح، إنه لا بد من وجود نوع من التفاعل (الميل نحو التقارب المتبادل) في المادة المكونة للنجم، والسبب نفسه يكون مسؤولاً (بعد التخلي عن فرضية "مركز الكون") عن السقوط الحر للأجسام الثقيلة على سطح الأرض.

دعوني أضيف هنا أن تشابهاً قريباً يكمن بين رفض جاليليو لفرضية أن للكون مركزاً كتفسير لسقوط الأجسام الثقيلة، وبين رفض فرضية نظام قاصر ذاتيا كتفسير للسلوك القاصر ذاتيا للمادة. (الفرضية الأخيرة هي القاعدة التي تتركز عليها النظرية النسبية العامة). والمشترك بين الفرضيتين هو تقديم جسم مفهومي له الخصائص التالية:

1. ليس من المفترض فيه ان يكون حقيقيا، كالمادة ذات الثقل (أو الحقل).

2. انه يحكم سلوك الأجسام الحقيقية، إلا أنه لا يتأثر بها أبداً.

إن تقديم هذه العناصر المفهومية، بالرغم من أنها ليست ممنوعة تماما، من وجهة نظر منطقية محضة، منفّر للغريزة العلمية.

لقد استطاع جاليليو أيضاً إدراك أن تأثير الجاذبية على سقوط الأجسام الحر في تسارع، عموديا بقيمة ثابتة، مثلما يمكن تركيب الحركة الأفقية غير المتسارعة فوق هذه الحركة المتسارعة.

إن هذه الاكتشافات تتضمن بالضرورة، على الأقل بشكل نوعي، أسس النظرية التي صاغها نيوتن في وقت لاحق. لكن قبل كل شيء فإن الصيغة العامة لمبدأ القصور الذاتي ناقصة، على الرغم من انه قد كان من السهل الحصول على ذلك من قانون جاليليو لسقوط الأجسام مع معيقات (التحول إلى التسارع العمودي المتلاشي). إن الفكرة الناقصة هنا أيضا هي ان نفس المادة التي تشكل التسارع العمودي على سطح جسم سماوي تستطيع ان تؤدي إلى تسارع أجسام سماوية أخرى. كما أن جميع تلك التسارعات يمكن ان تشكل مع القصور الذاتي حركات دورانية. بيد انه تم الوصول إلى معرفة أن وجود المادة (الأرض) يسبب تسارع الأجسام الحرة (على سطح الأرض).

من الصعب علينا اليوم أن نقدر المجهود الهائل الذي بذل في تحديد صياغة مفهوم التسارع وفي إدراك أهميته الفيزيائية (الطبيعية).

كون مفهوم "مركزية الكون" قد رُفض، ولسبب معقول، فقد تم أيضاً سحب فكرة ثبات الأرض، وبشكل عام فكرة دور الأرض الاستثنائي لم تعد مبررة. إن السؤال حول ما يجب اعتباره "ثابتاً" حين وصف حركة الأجسام السماوية أصبح سؤالاً ملحاً وتبعاً لـ أرستاركوس وكوبرنيكوس، فقد تم توضيح حسنات اعتبار الشمس في حالة ثبات (وكما قال جاليليو فإن ذلك ليس إجماعاً تاماً ولكنه فرضية إما صحيحة أو خاطئة). وبشكل طبيعي، يمكن الجدل أن افتراض دوران الأرض حول محورها أسهل من افتراض دوران جميع النجوم الثابتة حول الأرض إضافة إلى ذلك، فإن الافتراض القائل بدوران الأرض حول الشمس يجعل حركات الكواكب الداخلية والخارجية تظهر متشابهة، وتُلغى بالتحركات التراجعية للكواكب الخارجية، أو أن ينسب تفسيرهم إلى حركة الأرض حول الشمس.

ومهما كانت هذه النقاشات مقنعة، وبشكل خاص في ظل الحالة التي اكتشفها جاليليو بأن كوكب المشتري بجميع أقماره يمثل نظاماً كوبرنيكياً بشكل مصغر، فانها [النقاشات] ما زالت ذات طبيعة نوعية. فبما أننا [البشر] مرتبطون بالأرض، فإن ملاحظاتنا لن تكشف أبداً بشكل مباشر تحركات الكواكب "الحقيقية"، وإنما سيكون فقط باستطاعتنا ان نلحظ نقطة تقاطع خطوط الرؤية (الأرض- الكواكب) مع "مدار النجم الثابت". لقد اصبح وجود دعائم خارجة على النقاشات النوعية ممكناً فقط بعد تحديد "المدارات الحقيقية" للكواكب: إحدى المشاكل التي كان من الصعب تخطيها، والتي قام كيبلر بحلها (خلال الفترة التي عاش فيها جاليليو) بأسلوب بارع. إلا أن ذلك التقدم الحاسم لم يترك أثراً في عمل جاليليو الحياتي للتذكير بالحقيقية القائلة بأن الأفراد المبدعين غالبا ما يكونون غير متفتحين.

لقد بذل جاليليو مجهوداً كبيراً كي يثبت أن الحقيقية القائلة بأننا لا نستطيع أن نلحظ أي تأثيرات ميكانيكة لتلك التحركات لا تدحض نظرية دوران الأرض. وبشكل دقيق، فإن إثباتاً كهذا كان مستحيلاً لأن النظرية الميكانيكية كانت ناقصة. وأنا أعتقد أن معالجة جاليليو لهذه المشكلة أثبتت إبداعه بقوة خاصة. كان جاليليو، طبعاً، معنيا بإثبات أن النجوم الثابتة بعيدة جداً، بحيث لا يمكن اكتشافها من خلال التغيير الظاهري الناتج عن الحركة السنوية للأرض بواسطة أدوات القياس في عصره. إن ذلك البحث هو نوع من الإبداع أيضاً، بغض النظر عن بدائيته.

لقد كان جاليليو يهدف لإيجاد إثبات ميكانيكي لحركة الأرض، ما أدى به لصياغة نظرية خاطئة عن المد والجزر. وقد كان صعباً جداً على جاليليو أن يتقبل المحاججات الجميلة التي وردت في محادثته الأخيرة كإثباتات، لولا أن مزاجه لم يساعده في إظهار الأفضل عنده. إنه من الصعب علي أن أقاوم الإغراء في التعامل مع ذلك الموضوع بشكل أوسع.

إن الصبغة التي أستطيع إدراكها في عمل جاليليو المهني هي المعركة الانفعالية ضد أي نوع من أنواع المبادئ الدوغمائية المستندة إلى السلطة. لقد كانت الخبرة والتفكير الحذر هما الشيئين الوحيدين اللذين تقبلهما جاليليو كمقياس للحقيقة. من الصعب علينا اليوم أن نفهم مدى تطرف ذلك الرأي الذي أظهره جاليليو في عصره، عندما كان الشك في حقيقة الآراء التي لا أساس لها سوى التسلط، يعتبر أعظم جريمة يحاسب عليها. في الحقيقة نحن لسنا بعيدين بأي حال من الأحوال عن ذلك الوضع، حتى في هذه الأيام، حيث يحاول كل منا إشباع غروره. إلا أنه نظرياً، على الأقل، فإن مبدأ التفكير العادل قد انتصر، ونجد معظم الناس يحاولون إعطاء موافقتهم الشكلية على ذلك المبدأ.

لقد كان سائداً التأكيد على أن جاليليو قد أصبح الأب للعلم الحديث، وذلك باستبداله أسلوب الاستدلال الاستنباطي بالأسلوب التجريبي الوصفي. إلا أنني أعتقد أن ذلك التفسير لن يكون دقيقاً، إذ أنه لا يوجد أسلوب تجريبي مجرد من الأنظمة والمفاهيم الاستنباطية، كما أنه لا يمكن وجود، أي تفكير استنتاجي دون اللجوء إلى التجربة التي ينبع منها ذلك التفكير. وللمقارنة فإن التفكير التجريبي الاستنتاجي هو أسلوب مضلل وكان يبدو غريباً بالنسبة لجاليليو. وحقيقة فإنه لم يتم حتى القرن التاسع عشر إيجاد أنظمة منطقية (رياضية) منفصلة عن العنصر التجريبي بشكل قاطع. إضافة إلى ذلك، فإن الأساليب التجريبية التي أتى بها جاليليو لم تكن كاملة بحيث أن أفضل تخمين كان يغطي ثغرات المعطيات التجربيبة (على سبيل المثال، لم يكن هناك أي أساليب لقياس الأوقات التي تقل عن الثانية). إن التناقض بين المذهب التجريبي والمذهب العقلاني لا يظهر أبداً كمسألة جدلية في عمل جاليليو. إذ أن جاليليو كان ينقض الأساليب الاستنباطية التي اتبعها أرسطو ومناصروه، فقط عندما كان يعتبر مقدمتهما عشوائية أو خالية من حجة دفاع، كما انه لم يكن يوبخ خصومه لاستعمالهم المذهب الاستنباطي. في الحوار الأول، ركز جاليليو في عدة فقرات على أنه، طبقا لأرسطو أيضاً، لا بد من وضع معظم الاستنباطات جانباً إذا ما تعارضت مع النتائج التجريبية. من ناحية أخرى، فإن جاليليو نفسه قد استفاد من الاستنتاج المنطقي، كما أن محاولاته لم تكن موجهة تماماً نحو "الإدراك". إلا أنه ومن أجل الإدراك، لا بدّ من رسم النتائج من نظام منطقي مقبول أصلاً.

---------

[1] نسبة إلى القرون الوسطى.

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:18 PM

15- ستيفن هوكنج


ولد ستيفن هوكنج (Stephen Hawking) في اكسفورد في المملكة المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية وكان والداه يعيشان في لندن، غير أن اتفاقا كان قد ابرم بين ألمانيا النازية وبريطانيا حول عدم قصف اكسفورد وكيمبردج، ولهذا السبب ذهبت والدته إلى اكسفورد لتضعه في أمان. وعاش طفولته أثناء وبعد الحرب في إحدى ضواحي لندن، حيث كان يقيم العلماء والأكاديميون الإنجليز. وكانت المدرسة التي درس فيها تتبنى منهجا تعليميا خاصا تمخض عنه أن ستيفين لم يتعلم القراءة قبل الثامنة من العمر.

ويقول هوكنج انه كان منذ الطفولة شغفا بالألعاب التي كانت تمكنه من التحكم بالأشياء. فكان لا يأبه لشكل الطائرات والقارب التي يصنعها كلعب طالما أنها كانت تعمل! وعند انتقاله لكتابة أطروحة الدكتوراه في الفلكيات اعتقد أن في ذلك تجسيدا لطموحه القديم: "إذا استطعت أن تفهم كيف يعمل الكون، فستتمكن من السيطرة عليه بطريقة ما!

أمضى دراسته الجامعية في اكسفورد ومن ثم في كيمبردج. وقد أصابه مرض (motor neurone disease) في بداية التحاقه ببرنامج الدكتوراه في كمبردج. وكاد أن يتوقف عن البحث بسبب المرض وعدم ودود أمل في الشفاء والتحسن، أو حتى في وقف التدهور حيث صارت قدرته على التحكم بأعضائه تقل تدريجيا. بيد أن علاقة نشأت بينه وبين فتاة أراد أن يتزوجها دفعته إلى الاستمرار في البحث لكي يستطيع الحصول على عمل لكسب العيش. وقد تزوجها فعلا في عام 1965.

استمر في أبحاثه في مجال النظرية النسبية حتى العام 1970. وفي الأعوام 1970-1974 بحث في مجال الثقوب السوداء. وانتقل بعد ذلك إلى البحث في مجال المقاربة بين النظريتين النسبية والكوانتية.

وأصبح هوكنج منذ حين، من اشهر الفيزيائيين في العالم المعاصر. حتى يقال أنه الأكثر شهرة بعد اينشتين. وهو يتحرك على كرسي ذي عجلات، ويستخدم الحاسوب في الكتابة والمحادثة مع الآخرين، حيث تم تطوير نظام حاسوب خصيصا له يحوّل ما يطبعه إلى كلمات ينطق بها جهاز محوسب، وقد قام بإلقاء محاضرات عامة باستخدام الجهاز.

النص الذي نقرأه هو الفصل الأول من أحد كتابين للمؤلف "تاريخ مقتضب للزمن - من الانفجار العظيم إلى الثقوب السوداء" (A Brief History of Time - From the Big Bang to Black Holes)، يشرح فيه هوكنج كيف يرى علم الفيزياء الكون.



هوكنج: مختارات من كتاب "تاريخ مقتضب للزمن"

تصورنا عن الكون :

في محاضرة عامة عن علم الفلك ألقاها أحد العلماء المشهورين (البعض يقول إنه برتراند راسل) وصف هذا العالم كيف أن الأرض تدور حول الشمس. وكيف أن الشمس بدورها تدور حول محور مجموعة كبيرة من النجوم المسماة مجرتنا. في نهاية المحاضرة نهضت سيدة عجوز في آخر القاعة وقالت: " ليس ما قلته لنا سوى هراء. العالم في حقيقته هو صفيحة مسطحة مرتكزة على ظهر سلحفاة عملاقة". ابتسم العالم ابتسامة كبيرة وسألها: "وعلى ماذا تقف السلحفاة؟" أجابته العجوز: "أنت ذكي جدا أيها الشاب، لكنها سلاحف تتلاحق حتى تصل إلى الأسفل!".

قد يجد معظم الناس ان من السخف تصور الكون وكأنه برج غير متناه من السلاحف، ولكن لماذا نعتقد أن معرفتنا أفضل؟ ما الذي نعرفه عن الكون وكيف؟ من أين جاء الكون والى أين هو ذاهب؟ هل كان للكون بداية، وإن كان كذلك، ما الذي كان قبل تلك البداية؟ ما هي طبيعة الزمن؟ هل له نهاية؟ إن آخر مكتشفات الفيزياء، والتي أصبحت ممكنة بفضل التكنولوجيا الحديثة، تقترح إجابات لبعض من هذه الأسئلة، ويوماً ما ستصبح هذه الإجابات بديهية لنا مثل حقيقة دوران الأرض حول الشمس، أو ربما سخيفة مثل فكرة برج السلاحف. فقط إنه الزمن (بغض النظر عن ماهيته) الذي يستطيع التحديد.

في كتابه "عن السماوات" (On the Heavens) استطاع الفيلسوف اليوناني أرسطو (340 ق.م.) أن يقدم اثنتين من المحاججات الداعمة لحقيقة أن الأرض هي كرة مستديرة أكثر منها سطحاً منبسطاً. فقد أدرك أولاً أن كسوف القمر هو عبارة عن وضعية وجود الأرض أرض بين الشمس والقمر. إن خيال الأرض المنطبع على سطح القمر كان دائماً مستديراً، الأمر الذي لا يمكنه أن يكون صحيحاً إلا إذا كانت الأرض كروية. فلو كانت الأرض مسطحة لكان خيالها مطولا واهليلجياً[1]، إلا إذا كان الكسوف يحدث دائماً في الوقت الذي تكون فيه الشمس عمودية على مركز الأرض.

ثانياً، لقد عرف اليونان من خلال رحلاتهم أن النجم الشمالي يظهر، حين النظر إليه من الجنوب، أقرب (أقل ارتفاعاً) منه حين النظر إليه من المناطق الشمالية. (بما أن موقع النجم الشمالي هو فوق القطب الشمالي، فهو يظهر وكأنه تماماً فوق الناظر إليه في القطب الشمالي، لكن بالنسبة لناظر إليه من خط الاستواء، فيظهر وكأنه عند الأفق). ومن الاختلاف بين الموقعين المرئيين للنجم الشمالي من مصر ومن اليونان، فقد قدر أرسطو المسافة المحيطة بالأرض بــ 400 ألف ستاديا[2]. ورغم انه لم يكن معروفاً على وجه الدقة ما هو طول الستاديا، إلا انه يمكن تقديره بحوالي 200 ياردةً، الأمر الذي يجعل حساب أرسطو حوالي ضعف الحساب المتعارف عليه حالياً. إضافة إلى ذلك، فقد قدم اليونان محاججة ثالثة تدعم فكرة كروية الأرض: فالأرض لا بد لها أن تكون مستديرة، وإلا فلماذا نرى أولاً شراع السفينة الآتية من الأفق، ونرى هيكلها فقط بعد ذلك؟

اعتقد أرسطو أن الأرض ساكنة وأن الشمس، القمر، الكواكب والنجوم تتحرك في مسارات دائرية حول الأرض. لقد اعتقد ذلك لأنه أحس، لأسباب غامضة، أن الأرض هي مركز الكون وأن الحركة الدائرية هي الحركة المثالية. هذه الفكرة طورها بطليموس في القرن الثاني لتصبح نموذجاً كونياً كاملاً. فالأرض تقع في المركز محاطة بثمانية مسارات دائرية للقمر، الشمس، النجوم، والخمسة كواكب التي كانت معروفة في حينه: عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل. وتتحرك هذه الكواكب على دوائر أصغر تتصل بمساراتها الخاصة وذلك حتى يتم حساب حركتها المعقدة في السماء. والدوائر الخارجية تحمل ما يسمى النجوم الثابتة، والتي تبقى في أماكنها بالنسبة لبعضها البعض ولكنها تدور معاً عبر السماء. ماذا كان يوجد خلف آخر دائرة؟ أبداً لم يكن واضحاً لكنه حتماً لم يكن جزءاً من كون الإنسان المدرَك.


لقد وفرَّ نموذج بطليموس نظاماً دقيقاً للتنبؤ بمواقع الأجسام السماوية في السماء. ولكن لغرض التنبؤ الصحيح بهذه المواقع، كان على بطليموس أن يفترض أن القمر يتبع مساراً يجعله أحياناً أقرب إلى الأرض ضعف المرات الأخرى، مما يجعل القمر يبدو في بعض الأحيان أكبر من حجمه بمقدار الضعف! ورغم أن بطليموس أدرك هذا الخلل، إلا أن نموذجه كان بصفة عامة، وإن لم يكن دائماً، مقبولاً. وقد تم تبنيه من قبل الكنيسة الكاثوليكية على انه صورة للكون تتوافق مع الكتاب المقدس حيث ان لديه الامتياز الكبير في انه ترك مساحة كبيرة خارج دائرة النجوم الثابتة للجنة والنار.

وفي عام 1514 تم تقديم نموذج أبسط من قبل الكاهن البولندي نيكولاس كوبرنيكوس (Nicholas Copernicus). (في البداية، وربما بسبب الخوف من أن يوسم بالهرطقة من قبل الكنيسة، نشر كوبرنيكوس نموذجه دون تعريف باسمه). فكرته كانت أن الشمس ساكنة في المركز وأن الأرض والكواكب تتحرك حولها بمسارات دائرية. ومرّ ما يقارب القرن قبل أن أُخذت فكرته بجدية . ثم جاء بعد ذلك عالما الفلك: الألماني يوهانز كبلر (Johannes Kepler)، والإيطالي جاليليو جاليلي (Galilio Galilei)، وبدءا علناً بتأييد النظرية الكوبيرنيكية، رغم حقيقة أن المدارات التي تنبأ بها لا تطابق تلك المرصودة. وجاءت الضربة القاضية للنظرية الأرسطية-البطليمية في عام 1609. في تلك السنة بدأ جاليليو بمراقبة السماء ليلاً بتلسكوب تم اختراعه حديثاً. وعندما شاهد جاليليو كوكب المشتري وجد أن عدة توابع أو أقمار ترافقه وتدور حوله. هذا يتضمن أن الأشياء ليس ضرورة أن تدور حول الأرض كما اعتقد ارسطو وبطليموس. (بالطبع، كان ما زال بالإمكان الاعتقاد بأن الأرض هي في مركز الكون وأن أقمار المشتري تتحرك في مسارات معقدة حول الأرض بحيث تظهر وكأنها تدور حول المشتري. لكن نظرية كوبيرنيكوس كانت أكثر سهولة). وفي نفس الوقت عدل كبلر نظرية كوبيرنيكوس حين اقترح أن الكواكب تتحرك ليس بشكل دوائر وإنما بشكل اهليلجي والآن أصبحت التنبؤات تطابق ما تم رصده.

بالقدر الذي كان كبلر مساهماً، كانت المدارات الاهليلجية مجرد نظرية منشأة لغرض خاص، وحتى إنها كانت غير محببة لأنه كان من الواضح ان الاهليلجات أقل كمالاً من الدوائر. فعند اكتشافه، عن طريق الصدفة تقريباً، ان المدارات الاهليلجية تتوافق وملاحظاته، لم يستطع أن يوفق بين هذا الاكتشاف وبين فكرته القائلة إن الكواكب موجودة لتدور حول الشمس بقوى مغناطيسية، وقد جاء التفسير لهذه الظاهرة بعد ذلك بفترة طويلة في عام 1687، حين أصدر السير اسحق نيوتن كتابه عن فلسفة الرياضيات الطبيعية ومبادئها (Philosophi** Naturalis Principia Mathematica) والذي ربما يكون أهم عمل فردي أصدر في العلوم الفيزيائية. لم يقدم نيوتن في كتابه هذا نظرية يشرح فيها حركة الأجسام في المكان والزمان فحسب، ولكنه أيضاً طور المعادلات اللازمة لتحليل هذه التحركات. إضافة لذلك فقد أوجد نيوتن قانون الجاذبية العام الذي يكون بموجبه كل جسم في الكون منجذباً لكل جسم آخر بقوة تزداد بازدياد كتل الأجسام وبازدياد اقترابها من بعضها البعض. هذه القوى هي نفسها التي تسبب سقوط الأجسام على الأرض. (والقصة التي تقول إن نيوتن قد ألهم من تفاحة سقطت على رأسه مشكوك في صحتها، فكل ما قاله نيوتن هو إن "فكرة الجاذبية جاءت إليه وهو جالس يتأمل وتزامن ذلك مع سقوط تفاحة"). وتابع نيوتن بحثه ليثبت، حسب قانونه، إن الجاذبية هي التي تجعل القمر يتحرك في مدار اهليلجي حول الأرض، وتسبب أيضاً دوران الأرض والكواكب حول الشمس في مدار اهليلجي.

لقد استطاع النموذج الكوبيرنيكي ان يتخلص من فكرة الدوائر السماوية البطليموسية ومعها فكرة أن للكون حدوده الطبيعية. ولأنه لم يظهر أن "النجوم الثابتة" تغير مواقعها، باستثناء دورتها عبر السماء والتي تنبع عن دوران الأرض حول محورها، فقد أصبح من الطبيعي الافتراض بأن النجوم الثابتة هي أجسام تشبه الشمس لكنها أبعد بكثير.

تبين لنيوتن، حسب نظريته للجاذبية، أنه لا بد للنجوم من أن تتجاذب مع بعضها البعض، ولذا لا يمكنها أن تبقى بدون حركة. ألن تسقط جميعها في لحظة ما؟ وفي رسالة بعثها نيوتن إلى ريتشارد بنتلي (Richard Bentley)، أحد رواد الفكر في عصره، عام 1691، جادل نيوتن أن ذلك لن يحدث إلا إذا كان هناك عدد منتهي من النجوم موزعة على منطقة محدودة في الفضاء. إلا أنه تبعاً للمنطق من ناحية أخرى، فبوجود عدد غير منتهي من النجوم الموزعة بانتظام في فضاء لا متناه، لن يسقط أي نجم، وذلك لعدم وجود أية نقطة مركزية لسقوط النجوم فيها.

يعتبر هذا الجدال مثالاً للشراك التي من الممكن ان يواجهها الشخص عند حديثه عن اللامنتهي، ففي كونٍ لا نهائي يمكن اعتبار أية نقطةٍ نقطةً مركزية لأن كل نقطة لها عدد غير منتهي من النجوم على جوانبها. وفقط بعد مرور الكثير من الوقت، تبين أن التوجه الصحيح يكمن في اعتبار وضع نهائي حيث تصطف النجوم فوق بعضها البعض. ومن ثم الإجابة على السؤال: كيف يمكن للأمور أن تتغير في حالة إضافة مفاجئة لنجوم موزعة بشكل منتظم خارج تلك المنطقة؟ حسب قانون نيوتن، فإن النجوم الإضافية لن تؤثر بشكل عام على النجوم الأصلية وإنما ستتساقط بنفس السرعة. فنحن نستطيع إضافة أي عدد من النجوم نريده ولكنها جميعاً ستنهار وستضمحل. ونعلم الآن انه من المستحيل الحصول على نموذج ساكن ولا نهائي لكونٍ تقوم فيه الجاذبية دائماً بجذب ما حولها.

انه انعكاس شيق للأجواء العامة للتفكير السائد قبل القرن العشرين كيف ان أحداً لم يقترح أن الكون يتوسع أو يتقلص. لقد كان مقبولاً وصف الكون بإحدى صفتين؛ إما انه موجود للأبد على حالة دون أن يطرأ عليه أي تغيير أو أنه خلق في وقت محدد في الماضي على حال يشبه ما هو عليه الآن. ويعزى هذا إلى ميل الناس إلى الإيمان بالحقائق المطلقة وإلى احتياجهم لفكرة انه رغم حقيقة تقدمهم في السن وفنائهم، فإن الكون ابدي وغير متغير.

حتى هؤلاء الذين أدركوا أن نظرية نيوتن في الجاذبية تظهر أن الكون لا يمكنه أن يكون ساكناً، لم يفكروا في اقتراح إمكانية توسع الكون. بالمقابل فقد حاولوا تعديل النظرية بحيث تتحول قوى الجذب إلى قوى تنافر في المسافات البعيدة. ولم يؤثر ذلك بشكل ملحوظ على تنبؤاتهم حول حركة الكواكب، لكنه سمح بتوزيع لا نهائي للنجوم بحيث تبقى في حالة توازن، توازن قوى الجذب من النجوم القريبة مع قوى التنافر من النجوم البعيدة. لكننا الآن نعرف أن مثل هذا التوازن غير مستقر؛ ففي حال اقتراب النجوم قليلاً من بعضها البعض، فان قوى الجذب ستصبح أقوى وتهيمن على قوى التنافر بحيث تستمر النجوم في السقوط باتجاه بعضها البعض. ومن الناحية الأخرى، فلو ابتعدت النجوم عن بعضها البعض قليلاً، فعندها ستطغى قوى التنافر وستبعدها أكثر وأكثر.

اعتراض آخر ضد سكون ولا نهائية الكون ينسب إلى الفيلسوف الألماني هينريخ أولبرس (Heinrich Olbers) الذي كتب حول هذه النظرية عام 1823. في الحقيقة، إن عدداً من معاصري نيوتن قد أثاروا المشكلة ولم تكن مقالة اولبرس هي الأولى التي احتوت على جدالات معارضة معقولة، لكنها كانت الأولى التي أحرزت اهتماماً واسعاً. إن الصعوبة في سكون ولا نهائية الكون هو أن كل خط رؤية تقريبا سينتهي على سطح أحد النجوم، وبالتالي يتوقع الفرد أن تكون السماء جميعها مضيئة كالشمس حتى في الليل. أما فكرة اولبرس المقابلة، فكانت تقول إن الضوء المنبعث من النجوم البعيدة يخفت نتيجة امتصاصه من قبل مواد عازلة. ولكن إذا حدث هذا فإن هذه المواد العازلة ستسخن حتى تتوهج وتضيء كالنجوم. إن الطريقة الوحيدة لتجنب الاستنتاج أن كل سماء الليل يجب أن تكون مضيئة هي الافتراض بأن النجوم لم تكن مشعة منذ الأزل بل إنها بدأت تضيء في وقت محدد في الماضي. وفي هذه الحالة فإن المواد الممتصة إما أنها لم تسخن بعد أو أن ضوء النجوم البعيدة لم يصلنا بعد. هذا يوصلنا إلى السؤال حول الأسباب التي أدت إلى إضاءة النجوم في المقام الأول.

بالطبع، إن بداية الكون قد تم نقاشها قبل ذلك بوقت طويل. فحسب آراء عدد من الفلكيين السابقين، والتقاليد اليهودية والمسيحية والإسلامية، فإن الكون بدا في زمان محدد ليس بالبعيد. إحدى الحجج لمثل هذه البداية هي الشعور بأهمية وجود "السبب الأول" لتفسير وجود الكون. (ضمن نطاق الكون، فإننا نفسر الحدث كمسبب من حدث سابق. إلا أن وجود الكون نفسه يمكن تفسيره بهذه الطريقة فقط إذا كانت له بدايات). حجة أخرى وضعها القديس اغسطين (St. Augustine) في كتابه "مدنية الله" حيث أشار إلى أن الحضارة هي تطور، ونحن نتذكر من أنجز عملاً ما أو من طور آلية ما، ولذا فقد يكون ان الإنسان وربما أيضاً الكون لم يوجدا من فترة طويلة. وقد قبل القديس اغسطين بـــ 5000 سنة تقريباً قبل الميلاد كتاريخ لخلق الكون وذلك حسب "سفر التكوين". (من الجدير ذكره أن هذا التقدير ليس بعيداً جداً عن نهاية العصر الجليدي حوالي 10.000 سنة ق.م.، وهو التاريخ الذي يحدده الجيولوجيون كبداية فعلية لحضارتنا.)

أما بالنسبة إلى أرسطو وإلى معظم الفلاسفة الإغريق، فلم تعجبهم كثيراً فكرة الخلق التي يميزها كثير من التدخل الإلهي. فهم يؤمنون بأن الجنس البشري والعالم من حوله وجدا ويستمران في الوجود إلى الأبد. فقد درس القدماء فكرة التطور المذكورة سابقاً وكانت إجاباتهم تتلخص بالإشارة إلى الفيضانات المتكررة أو الكوارث المتعددة والتي تعيد باستمرار الجنس البشري إلى بدايات الحضارة.

لقد عالج الفيلسوف عمانوئيل كانط (Immanuel Kant) بإسهاب الأسئلة حول بدايات الكون في زمن معين، وما إذا كان الكون محدوداً في مساحته. وذلك في كتابه الهام (والغامض أيضاً) "نقد العقل الخالص" الذي نشر عام 1781. وقد سمى كانط هذه الأسئلة بتناقضات (antinomies) العقل الخالص لأنه شعر بأنه يوجد قدر متساوٍ من الحجج لدعم نظرية أن للكون بداية والنظرية المعاكسة القائلة بأن الكون قد وجد منذ الأزل. حجته الداعمة للنظرية هي أنه لو لم يكن للكون بداية فسيكون هناك فترة لا نهائية من الزمن قبل أي حدث، وهذا اعتبره أمرا سخيفا. أما حجته الداعمة للنظرية المعاكسة فهي أنه إن لم يكن للكون بداية فيتطلب ذلك فترة زمنية لا نهائية قبل بداية الكون. فلماذا إذا يجب أن يبدأ الكون في زمن محدد؟ في الحقيقة، إن ما يقوله كانط كدعم للنظرية وللنظرية المعاكسة إنما هو حجة واحدة. فكلاهما يعتمدان على افتراض لم يفصح عنه مفاده أن الزمن مستمر في المسير خلفاً إلى الأبد سواء وجد الكون من الأزل أو لم يوجد. وكما سنرى فإن مفهوم الزمن ليس له معنى قبل بداية الكون. هذا ما وضحه القديس اغسطين عندما سئل: ماذا كان يفعل الله قبل خلق الكون؟ لم يجب القديس اغسطين: انه كان يجهز جهنم لمن يسأل مثل هذه الأسئلة، وإنما أجاب بأن الزمن هو ميزة من ميزات الكون الذي خلقه الله وأن الزمن لم يوجد قبل بداية الكون.

عندما كان معظم الناس يؤمنون بأن الكون ساكن وغير متغير، وكان السؤال حول بداية الكون سؤالاً ميتافيزيقياً أو لاهوتياً. ونستطيع تفسير ما نراه بشكل جيد سواء اعتقدنا بنظرية وجود الكون منذ الأزل أو بنظرية أن الكون قد بدأ في زمن محدد ويبدو كأنه وجد منذ الأزل. لكن في عام 1929 لاحظ إدوين هابل (Edwin Hubble) أن المجرات البعيدة، كيفما تنظر إليها تجدها تبتعد بسرعة عن كوكبنا. وبكلمات أخرى: إن الكون يتوسع. وهذا يعني أنه في أوقات سابقة كانت جميع الأجسام مركزة في مكان واحد. وفي الحقيقة، يبدو أنه في وقت ما، قبل عشرة أو عشرين ألف مليون سنة، كانت جميع الأجسام في نفس المكان، وبالتالي كانت كثافة الكون لا نهائية. إن هذا الاكتشاف أدى إلى انتقال السؤال حول بداية الكون إلى حقل العلوم.

إن مشاهدات هابل أدت إلى اقتراح وجود زمن اسمه "الانفجار الكبير" (Big Bang) الذي كان فيه الكون لا متناهياً في الصغر وكثافته عالية إلى ما لا نهاية. في هذه الظروف تنهار جميع قوانين العلوم، وتنهار بالتالي جميع الإمكانيات للتنبؤ بالمستقبل. وإذا كان هناك أحداث قبل ذلك الوقت، فإنها لا تستطيع أن تؤثر على ما يحدث في الوقت الحاضر. ويمكن إهمال وجودها لأنه لا يوجد له تبعات يمكن ملاحظتها. ويمكننا القول بأن الزمن بدأ عند الانفجار الكبير، بمعنى أن الزمن السابق لذلك لا يمكن تعريفه. ويجب التشديد هنا على أن هذه البداية في الزمن تختلف كثيراً عن تلك التي درست سابقاً. ففي كونٍ لا يتغير، البداية في الزمن هي أمر يجب فرضه من قبل أحد أو شيء خارج نطاق هذا الكون لأنه لا يوجد للبداية ضرورة فيزيائية ونستطيع تخيل أن الله خلق الكون في أي زمن في الماضي. من جهة أخرى، إذا كان الكون يتسع، فيمكن وجود أسباب فيزيائية لضرورة وجود بداية. ويستطيع المرء أن يتخيل أن الله خلق الكون في نفس لحظة الانفجار الكبير، أو حتى بعد ذلك الانفجار بحيث يجعله يبدو كأنه كان هناك انفجار كبير. أما افتراض بدء الكون قبل هذا الانفجار فهو أمر لا معنى له. إن حقيقة أن الكون يتوسع لا تلغي وجود خالق، إلا أنها تحدد الوقت الذي يمكن ان يكون قد بدأ مهمته فيه!

من أجل التحدث عن طبيعة الكون ومناقشة أسئلة حول بدايته أو نهايته، يجب أولاً توضيح معنى النظرية العلمية. سأتبنى الرؤية البسيطة القائلة ان النظرية هي عبارة عن نموذج للكون أو لجزء محدد منه، ومجموعة من القوانين التي تربط كميات معينة في النموذج مع ملاحظاتنا حول الكون. والنظرية العلمية توجد فقط في عقولنا وليس لها أي وجود حقيقي آخر(مهما كان ذلك يعني). والنظرية تعتبر نظرية جيدة إذا أوفت بشرطين: يجب أن تصف وصفاً دقيقاً مجموعة كبيرة من الملاحظات على أساس نموذج يحتوي عددا قليلا من العناصر الاعتباطية (arbitrary)[3]؛ ويجب أيضا أن تتنبأ بشكل دقيق بنتائج الملاحظات المستقبلية. على سبيل المثال، إن نظرية ارسطو التي تفترض أن جميع الأشياء مكونة من أربعة عناصر هي التراب والهواء والماء والنار كانت بسيطة لدرجة تؤهلها لتكون نظرية جيدة، لكنها لم تخرج باستنتاجات محددة. من جهة أخرى، فإن نظرية نيوتن في الجاذبية اعتمدت على نموذج أبسط وهو أن الأجسام تتجاذب مع بعضها البعض بقوى تتناسب طردياً مع الكتلة وتتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينها. ومع ذلك فإن نظريته تنبأت بحركة الشمس والقمر والكواكب بدرجة عالية من الدقة.

إن أية نظرية فيزيائية تعتبر شرطية، بمعنى أنها مجرد فرضية: أي لا يمكن إثباتها أبداً. فمهما كان عدد المرات التي تتفق بها نتائج التجارب مع النظرية، فلا يمكننا التأكد من أن نتيجة التجربة القادمة لن تناقض النظرية. من ناحية أخرى نستطيع دحض نظرية في حالة تعارض ملاحظة واحدة مع تنبؤاتها. وكما أكد الفيلسوف المختص بفلسفة العلم كارل بوبر (Karl Popper)، فإن النظرية الجيدة هي التي تتميز بحقيقة أنها توصلنا إلى تنبؤات يمكن دحضها أو تخطيئها بالملاحظة، ففي كل مرة تتفق فيها نتائج تجربة جديدة مع تنبؤات النظرية، فإن النظرية تستمر في الوجود وتزداد ثقتنا بها، ولكن إذا تعارضت إحدى الملاحظات الجديدة مع النظرية، فيجب علينا التخلي عنها أو تعديلها. على الأقل هذا ما هو مفروض أن يحدث، ولكن يمكن دائماً التشكيك في قدرة الشخص الذي أجرى الملاحظة.

ما يحدث عادة بالممارسة هو أن النظرية الجديدة المبتكرة تكون امتدادا للنظرية السابقة. على سبيل المثال، كشفت المراقبة الدقيقة لكوكب عطارد عن فرق بسيط بين حركة الكوكب وبين تنبؤات نظرية نيوتن في الجاذبية. وجاءت النظرية النسبية العامة لاينشتاين لتتنبأ بهذا الفرق الطفيف في الحركة عما تفترضه نظرية نيوتن. إن حقيقة أن تنبؤات اينشتاين طابقت ما لوحظ، بينما لم تطابقه نظرية نيوتن، يؤكد صحة النظرية الجديدة. ورغم ذلك فنحن نستخدم نظرية نيوتن في الحالات التي نتعامل معها دائماً. (كما أن استخدام نظرية نيوتن أبسط بكثير من استخدام نظرية اينشتاين!)

إن هدف العلم النهائي هو إيجاد نظرية واحدة تصف الكون بأكمله. لكن النهج الذي يتبعه معظم العلماء هو فصل المشكلة إلى جزئين. أولاً: توجد القوانين التي تصف لنا التغير الذي يطرأ على الكون مع مرور الوقت. (فإذا عرفنا كيف يكون الكون في وقت ما، فإن هذه القوانين الفيزيائية تخبرنا كيف سيبدو الكون في أي وقت لاحق). ثانياً: هناك سؤال حول حالة الكون البدائية (الأولى). يشعر بعض الناس أن العلم يجب أن يهتم بالجزء الأول فقط؛ فهُم يتركون السؤال حول حالة الكون الأولى للميتافيزياء أو للدين. وما يقولونه إن الله، لكونه كلي القدرة، يستطيع أن يوجد الكون بأي طريقة يريدها. قد يكون هذا صحيحاً، ولكن في هذه الحالة أيضاً يستطيع أن يجعل الكون يتطور بطريقة كلياً عشوائية. ويبدو أن الله اختار أن يتطور الكون بطريقة منظمة وحسب قوانين معينة، ولهذا السبب يبدو الأمر منطقياً إذا افترضنا أن هناك قوانين تحكم الحالة الأولى.

يتضح أنه من الصعب جداً إيجاد نظرية تصف الكون كله دفعة واحدة. وعوضاً عن ذلك، نلجأ إلى تقسيم المشكلة إلى أجزاء ونخترع عدداً من النظريات الجزئية. كل واحدة من هذه النظريات الجزئية تصف أو تتنبأ بمجموعة محددة من الملاحظات مهملةً آثار كتل أخرى عليها، أو أنها تمثلها بمجموعة بسيطة من الأرقام. يمكن أن يكون هذا النهج خاطئاً تماماً. فإذا كان شيء في الكون يعتمد على كل شيء بشكل أساسي. فقد يكون مستحيلاً التوصل إلى حل متكامل عن طريق البحث في أجزاء منفصلة من المشكلة. وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت تلك بالتأكيد، هي الطريقة التي حققنا من خلالها التقدم في الماضي. والمثال النموذجي مرة أخرى هو نظرية نيوتن في الجاذبية التي تنص على وجود قوى جذب بين كل جسمين يعتمد فقط على عدد واحد مرتبط بكل جسم وهو كتلة هذا الجسم التي تعتبر مستقلة عن المادة التي صنع منها. ورغم ذلك لا يتوجب علينا أيجاد نظرية لتركيب وتكوين الشمس والكواكب حتى نتمكن من حساب مداراتها.

اليوم يصف العلماء الكون بواسطة نظريتين جزئيتين أساسيتين: النظرية النسبية العامة (general theory of relativity) ونظرية الميكانيكا الكوانتية (quantum mechanics). هاتان النظريتان تعتبران من أعظم الإنجازات الفكرية التي تمت في النصف الأول من هذا القرن. ان النظرية النسبية العامة تصف قوى الجاذبية والتركيب الواسع للكون، أي تركيب حجم الكون المرئي ابتداء من أميال قليلة وحتى مليون مليون مليون مليون ميل (1 وأمامه 24 صفراً). أما الميكانيكا الكوانتية بالمقابل فهي تتعامل مع ظواهر على مستويات غاية في الصغر مثل واحد في المليون من واحد في المليون من الانش. لكن لسوء الحظ، فإن هاتين النظريتين لا تتناسبان مع بعضهما البعض ولا تستطيعان أن تكونا صحيحتين في وقت واحد. فمن أهم ما يشغل علماء الفيزياء اليوم، وهو أيضا المبحث الأساسي لهذا الكتاب، هو البحث عن نظرية جديدة تجمع بين النظريتين- نظرية كوانتية للجاذبية. ليس لدينا بعد مثل هذه النظرية وقد نكون بعيدين جداً عن إيجاد مثل هذه النظرية، ولكننا على علم بكثير من الصفات التي يجب أن تتألف منها هذه النظرية. وسنرى في فصول لاحقة أننا نعلم قدراً لا بأس به من التنبؤات التي يجب أن تؤدي إليها النظرية الكوانتية للجاذبية.

إذا اعتقدنا الآن أن الكون ليس عشوائياً بل محكوم من قبل قوانين محددة فيجب علينا الجمع بين النظريات الجزئية بتشكيل نظرية موحدة متكاملة، تصف كل شيء في الكون. بيد ان هناك معضلة أساسية في إيجاد نظرية موحدة وشاملة من هذا النوع. إن الأفكار المقدمة أعلاه حول النظريات العلمية تفترض أننا بشر عقلانيون لدينا الحرية لمراقبة الكون كما نريد للتوصل إلى استنتاجات منطقية مما نراه حولنا. حسب هذه الخطة من المعقول جداً توقع أنه بالإمكان التقدم أكثر للتوصل إلى معرفة القوانين التي تحكم كوننا. وإذا ما وجدت حقاً تلك النظرية الموحدة المتكاملة فعلى الأرجح أنها ستحدد أعمالنا. وهكذا فإن النظرية نفسها ستحدد نتيجة البحث الذي نقوم به! ولماذا توصلنا النظرية إلى الاستنتاجات الصحيحة من الإثباتات المقدمة؟ ألا يمكن أن توصلنا، وبنفس الطريقة، إلى استنتاجات خاطئة؟ أو حتى تفضي بنا إلى عدم الوصول إلى أي استنتاجات؟

إن الإجابة الوحيدة التي أستطيع تقديمها لحل هذه المشكلة تعتمد على نظرية داروين (Darwin) في الانتخاب الطبيعي. الفكرة هي أنه في أي نسل يعيد إنتاج كائناته، يوجد تغييرات في المادة الجينية وتغييرات في تنشئه الأفراد المختلفين. هذه الاختلافات تعني أن بعض الأفراد سيكونون أفضل قدرة من غيرهم على التوصل لاستنتاجات صحيحة حول العالم من حولهم وان يتصرفوا حسب تلك الاستنتاجات. هؤلاء الأفراد سيكونون أقدر على البقاء والتكاثر حتى يسود نظام حياتهم وطريقة تفكيرهم. والصحيح أن ما كنا في الماضي ندعوه ذكاء واكتشافاً علمياً، قد أضاف ميزة جديدة للبقاء. ليس واضحاً إن كانت هذه هي القضية: اكتشافاتنا العلمية يمكنها جداً أن تدمرنا جميعاً، وحتى لو لم يكن الوضع كذلك فإن النظرية الموحدة المتكاملة قد لا تغير كثيراً من فرصنا في البقاء. وعلى أي حال، في حال أن الكون تطور بشكل منظم، يمكن أن نتوقع أن المنطقية التي زودنا بها الانتخاب الطبيعي قد تكون مفيدة في بحثنا عن النظرية الموحدة المتكاملة وبالتالي لن تقودنا إلى الاستنتاجات الخاطئة.

وبسبب كون النظريات الجزئية المتوفرة حالياً كافية للتوصل إلى استنتاجات دقيقة في جميع الحالات باستثناء حالات خاصة، فإن عملية البحث عن النظرية النهائية للكون يصعب تبريرها على أسس علمية. (يجدر الذكر أن جدلاً مماثلاً كان يمكن سياقه ضد النظرية النسبية والنظرية الكوانتية، وأن هاتين النظريتين قدمتا لنا كلاً من الطاقة النووية والثورة المايكروالكترونية (microelectronics revolution) !) وعليه، فإن اكتشاف نظرية موحدة متكاملة قد لا يساعد في بقاء جنسنا، وحتى انها قد لا تؤثر في أسلوب حياتنا. ولكن ومنذ فجر الحضارة لم يستسغ الناس رؤية الأحداث غير مترابطة وغير قابلة للتفسير. وإنما شكلوا فهماً للنظام الذي يقوم عليه العالم. وما زلنا اليوم نتطلع لمعرفة لماذا نحن هنا، ومن أين أتينا. إن أعمق رغبة بشرية للمعرفة مبررة بشكل كاف لاستكمال رحلة البحث وهدفنا ليس غير


-----------

[1] الاهليلج هو الدائرة المطولة، أو الشكل البيضوي.

[2] الستاديوم وجمعه ستاديا هو مقياس بعدي: شاخص مدرج يستخدم مع أداة مسامية لقياس الأبعاد.

[3] غير مبرهن عليها.


جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:18 PM

16- هربرت ماركيوز

هربرت ماركيوز (Herbert Marcuse) فيلسوف ألماني، فرّ من البطش النازي وعاش في أمريكا بعد عام 1934. كان ماركيوز عضواً في مدرسة فرانكفورت (Frankfurt School) وقد تبنى فكرة التغيير الاجتماعي ودافع عنها دفاعاً كبيرا،ً ولهذا كان في الستينات رمزاً لليسار الجديد، وللعديد من الثوريين في ألمانيا وأوروبا. لقد شكل كتابة "الأيروس والحضارة" (Eros and Civilization)، الذي نشر في عام 1955، محاولة واضحة من قبله للدمج بين أفكار فرويد وماركس.

وقد كان ماركيوز ملتزماً بقضية التحرر الجنسي للاشعور من طغيان العقل الواعي كالتزامه بالتحرر الثوري للجماهير من السيطرة السياسية والاقتصادية للطبقة الرأسمالية الحاكمة.

وقد أشتهر ماركيوز بشكل خاص بسبب تحليله لطبيعة طغيان المجتمع الحديث، حين يكون رأسماليا، كما هو ظاهر في كتابه "الرجل ذو البعد الواحد" (One-Dimensional Man)، الذي صدر في العام 1964، أو شيوعياً كما ظهر في كتابه "الماركسية السوفيتية" (Soviet Marxism) 1958.

وفي المقالة المقتبسة في هذا الكتاب فإن هربرت مركيوز "يعيد النظر في مفاهيم الثقافة وتعريفاتها، ليكشف جانب العنف الخبئ تحت رمزياتها الاستعمالية، من اجل إعادة نظر جديدة في تعريف حقيقي للثقافة يتطابق فيها كل من الدلالة والممارسة، في ظل مجتمع التقنية والاستهلاك، ويجب ألا يغرب عن بالنا أن هذا الفيلسوف وجه نقده خاصة للمجتمع الأمريكي باعتباره النموذج الأعلى لحضارة التقنية المعاصرة. وهو لذلك عندما يتعرض لنقد الأنظمة التربوية والجامعية، فهو يقصد بالطبع تلك السائدة في أميركا حوالي منتصف هذا القرن. ونذكر هنا أن أفكار هذا الفيلسوف كانت ميثاقاً لثورة الطلاب والمثقفين التي أسقطت عصر فيتنام في أمريكا وتسببت في تغيرات واسعة في شؤون الثقافة والأنظمة الجامعية، وكانت شعارات كذلك لثورة الجامعيين في أحداث أيار- مايو 1968 في باريس وفيما سمي بثورة الطلاب في الغرب كله".




ماركيوز : ملاحظات حول تحديد جديد للثقافة


إنني أنطلق من تعريف قاموس وبستر (Webster) الذي يقول إن الثقافة هي مجموعة معينة من الاعتقادات والآراء، والفتوحات والتقاليد، التي تؤلف "خلفية" مجتمع ما. وتُستثنى عادة من المفهوم التقليدي "فتوحات" مثل التدمير والجريمة، كما تستثنى "تقاليد" مثل القسوة والتعصّب. وسأقتصر على هذا الاستعمال، على الرغم من أن إعادة إدخال هذه الصفات في التعريف قد تبدو ضرورية. وسيدور كلامنا حول العلاقة بين "الخلفية" (أي الثقافة) و"الأساس": هكذا تبدو الثقافة كمجموعة من الأهداف الأخلاقية والجمالية والفكرية (أي قيم) التي يعتبرها المجتمع غاية تنظيم العمل وتقسيمه وإدارته، أي "الخير" الذي يريد أن يصل إليه بإتباعه نمطاً معيناً في الحياة. فنمو الحريات الفردية والعامة، وتقهقر الظلم الذي يعيق تطور "الفرد" والشخصية، ووجود إدارة فاعلة وعقلانية، كل هذا يمكن اعتباره "قيماً ثقافيةً" تمثل مجتمعاً صناعياً متطوراً (الشرق والغرب على حد سواء لا ينفيان عنها رسمياً صفة القيم).

ونحن لا نُقر بوجود ثقافة (سابقة كانت أم حاضرة) إلا عندما تتحقق أهداف هذه الثقافة وقيمها التمثيلية في الواقع الاجتماعي أو عندما تكون في طور تحققها فيه. ومن الممكن أن توجد فروقات هائلة في أهمية ترجمة هذه القيم في الواقع وملاءمتها له، ولكن الأنظمة العامة المعمول بها في مجتمع معين والعلاقات بين أفراده لا بد لها أن تنطوي على تجانس يسهل كشفه بينه وبين القيم التي ينادي بها هذا المجتمع. فينبغي لها أن تكون قاعدة لتحقيقٍ محتملٍ لهذه القيم. وبعبارة أخرى، ان الثقافة هي أكثر من أيديولوجيا بسيطة. فإذا أمعنا النظر في الأهداف التي تنادي بها الحضارة الغربية وفي توقها إلى تنفيذها، لاستطعنا تعريف الثقافة بأنها عملية "أنسنة" (humanization) تمتاز بالسعي المشترك نحو دوام الحياة البشرية، وتهدئة الصراع من أجل الحياة، أو على الأقل حصره في حدود يمكن مراقبتها، وتدعيم نظام المجتمع الإنتاجي، وتنمية القدرات الفكرية عند البشر، وتخفيف التعديات والعنف والبؤس وإعلائها (sublimation)[1].

ولا بد لنا الآن من أن نوجه انتقادين اثنين:

1.كان "إلزام" الثقافة دوماً خاصية محصورة في "عالم" محدد يتكون من هوية عرق أو أمة أو دين أو نوع آخر من الهويات (الاستثناءات هنا محكوم عليها ان تبقى في حيز الأيديولوجيات).ولقد وجد دائماً عالم "غريب" لم تكن الأهداف الثقافية بالنسبة له ذات قيمة: فمفاهيم العدو، والآخر، والغريب، والمبعد لا تنطبق بادئ الأمر على الأفراد، بل على الجماعات والأديان وأنماط الحياة والنظم الاجتماعية. وتُوضع الثقافة "بين مزدوجتين" أمام العدو (الذي قد يبرز أيضاً من داخل العالم ذاته) وهي قد تُمنع عنه حتى، فتجد بذلك البربرية لها طريقاً مرسوماً بشكل تام.

2.لا يمكن تعريف الثقافة بعملية "الأنسنة" إلا إذا استبعدت القسوة والتعصب والعنف غير "المستعلي" (non sublime). غير أن هذه القوى (ومؤسساتها) يمكن أن تؤلف جزءاً مكوناً للثقافة، لدرجة أن بلوغ أهداف الثقافة أو الاقتراب منها يتم عن طريق القسوة والعنف.

هذا ما يفسر التناقض في كون "الثقافة الغربية العليا" احتجاجاً رفيع المستوى ضد الثقافة، واتهاماً لها وإنكاراً، ليس فقط من جراء ترجمتها البتراء في الواقع بل بسبب مبادئها الداخلية وبسبب مضمونها أيضاً.

إن اختبار ثقافة معينة في هذه الظروف ينطوي على طرح سؤال حول العلاقات بين القيم والأفعال، وذلك ليس لكونه مسألة منطقية أو متعلقة بنظرية المعرفة فحسب، بل لأنه مسألة تتعلق بالبنية الاجتماعية: ما هي العلاقة بين إمكانات المجتمع والأهداف التي يسلم بها؟ ان الأهداف محددة في الظاهر "بالثقافة العليا" المقبول بها (اجتماعياً). وهي تمثل بذلك قيماً يجب أن تتجسد على نحو وافٍ في المؤسسات والعلاقات الاجتماعية. ونستطيع إذن ان نصوغ سؤالنا بكلمات أكثر وضوحاً:

ما هي العلاقة بين أدب مجتمع ما وفنه وفلسفته ودينه وبين الممارسة العملية لها في المجتمع؟ نظراً لضخامة هذه المسألة لن نستطيع مناقشتها إلا في إطار بضع فرضيات تستند إلى بعض نزعات التطور المعاصر.

لقد اتفقت الآراء بشكل واسع في المناقشات التقليدية على أن العلاقة بين الأهداف الثقافية والوسائل الفعلية ليست متطابقة تماماً (ولا تستطيع أن تكون كذلك؟) وأنها نادراً ما تكون متآلفة. ولقد اتضح هذا الرأي في التمييز بين "الثقافة" و"الحضارة" : فالثقافة تعود إلى مستوى عال من استقلال الإنسان وتكامله في حين تخص الحضارة ميادين الحاجة والعمل والسلوك التي يقتضيها المجتمع والتي لا يكون الإنسان فيها فعلاً منسجماً مع ذاته متحداً مع جوهره الخاص، بل على العكس من ذلك يكون الإنسان فيها تبعياً (heteronomous) متعلقاً بالظروف والحاجات الخارجية. ثم إن ميدان الحاجة قد يكون مصغراً (وهذا ما يقع غالباً). فمفهوم التطور لا ينطبق في الواقع إلا على التقدم الحضاري. ولكن تطوراً كهذا لم يلغ التوتر القائم بين الثقافة والحضارة. بل يحتمل ان يكون قد قوى هذا التفرع الثنائي، لأن الإمكانات الهائلة التي يقدمها التطور التقني تتناقض اكثر فأكثر مع إنجازاتها المحدودة والمشوهة. لأن الثقافة تُدمج بشكل منظم مع الحياة اليومية والعمل، لدرجة أنه يمكننا التساؤل ما إذا كنا نستطيع ان نحافظ على التمييز بين الثقافة والحضارة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الميول المسيطرة في المجتمع الصناعي المتقدم؛ وبشكل اكثر دقة، يمكننا التساؤل ما إذا كان التوتر القائم بين الهدف والوسيلة، بين قيم الثقافة والواقع الاجتماعي، قد أبطله امتصاص الوسائل للأهداف. ألم تنصهر مرة الثقافة والحضارة انصهاراً سابقا لأوانه وقمعيا وعنيفا، انصهارا ساهم في إضعاف القوى التي كانت تنجح في كبح جماح الميول التخريبية؟ إن دمج الثقافة بالمجتمع يجعل المجتمع "تسلطياً" (totalitarian)، ولو أنه لا يزال يحتفظ بأشكال ومؤسسات ديمقراطية. ونستطيع أن نبين على الشكل الآتي بعضاً من العلاقات الضمنية بين الثقافة والحضارة:

ثقافة حضارة
عمل فكري
عمل مادي

يوم راحة
يوم عمل

وقت الفراغ
عمل

ميدان الحرية
ميدان الضرورة

فكر
طبيعة

تفكيرغير عملياتي
تفكير عملياتي






لقد وجدت هذه التفرعات لدى الجامعيين ما يعادلها في التمييز بين العلوم الطبيعية وجميع العلوم الأخرى كالعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، الخ.: إن علوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية وحتى العلوم الإنسانية تتقارب في مناهجها ومفاهيمها. ويُسهل هذا التقارب انتشار التجريبية الوضعية، والصراع ضد كل ما يدعى "ميتافريزقية"، وتطبيق " النظرية الخالصة" تطبيقاً مباشراً، وقبول جميع الأنظمة ترتيباً يتفق مع المصالح القومية والنقابية. ويتفق هذا التغيير في التربية مع التغيرات البنيوية التي طرأت على المجتمع الحالي والتي تطرح مشكلة التفرع الثنائي المذكور آنفاً: إن الحضارة التقنية تميل إلى إلغاء أهداف الثقافة المغايرة (للأهداف الاجتماعية القائمة) وأيضاً إلى إلغاء العوامل أو العناصر الثقافية التي تبدو معاكسة لأشكال الحضارة القائمة أو غريبة عنها. ولا تدعو الحاجة هنا إلى تكرار النظرية القائلة بأن دمج العمل مع الراحة، والزهد مع التسلية، والفن مع تدبير المنزل، وعلم النفس مع إدارة المشاريع، يغير عمل هذه العناصر التقليدي: فهي بذلك تتخذ قيمة "إيجابية" (إثباتية)، أي أنها تساعد على تدعيم نفوذ العالم القائم على الفكر (هذا العالم القائم نفسه الذي جعل منافع الثقافة سهلة المنال بالنسبة للإنسان)، كما أنها تساهم في تعزيز موقف ما هو كائن بالنسبة إلى ما يمكن أو يجب أن يكون. وهذه القضية ليست إدانة: إذ ان احتمالات أوسع للوصول إلى الثقافة التقليدية وخاصة إلى أعمالها الأصلية أفضل من التمسك بامتيازات ثقافية تنعم بها دائرة مغلقة مبنية على الغنى والمحتد. ولكن لكي نحفظ القيمة المعرفية لهذه الأعمال لا بد من موهبة ذكاء ووعي فكري لا يرتبطان بصيغ التفكير والسلوك التي تستوجبها حضارة البلدان الصناعية المتقدمة.

إن تقدم الحضارة في شكلها الحالي ونزعاتها، تتطلب وسائل في التفكير عملياتية أو إجرائية (operationalistic) تحول إلى سلوك معين. وهذه الوسائل قادرة على تقبل العقلية المنتجة للأنظمة الاجتماعية القائمة، وعلى الدفاع عنها وتحسينها. ولكنها غير قادرة على دحضها. بيد ان مضمون هذه الثقافة العليا (الذي غالباً ما كان متستراً) يكمن في معظمه في هذا الدحض: فهي كانت تدين التخريب المؤسسي للقدرات البشرية كما كانت مسؤولة عن المحافظة على أمل تعده الحضارة القائمة طوباوياً وترفضه. صحيح ان الثقافة كانت دائماً في أشكالها العليا ذات طابع تأكيدي، نظراً لأنها كانت بعيدة عن ميدان العناء والبؤس اللذين تكبدهما أولئك الذين كانوا يخلقون المجتمع بعلمهم والذين كانت الثقافة ثقافتهم والذين أصبحت الثقافة بهم أيديولوجيا المجتمع. ولكنها كانت منفصلة عن المجتمع لكونها أيديولوجيا. وهذا الانفصال كان يعطيها الحرية في المعارضة والاتهام والرفض. انّ وسائل الاتصال اليوم كثيرة تقنياً وسهلة جداً، وهي غاية في الغزارة، ولكن مضمونها قد تغيّر.

سأحاول الآن، فيما يخص استبعاد مضمون الثقافة الذي كان معارضاً في الماضي، ان أبرهن ان الأمر لا يتعلق بمثل أعلى رومانطيقي (أيا كان) وقع ضحية التقدم، ولا بدمرقطة الثقافة المتزايد، ولا بتعادل الطبقات الاجتماعية، بل على الأغلب بإغلاق الفسحة الحيوية أمام نمو الاستقلال والمعارضة. ولا أستطيع هنا أيضاً إلا أن ارسم الخطوط الكبرى لهذه المسألة، وسأبدأ بالوضع في الميدان الجامعي.

إن التقسيم بين علوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية (أو علوم السلوك) والعلوم الإنسانية يبدو سطحياً جداً، خصوصاً أن التفريق بين مواضيعها، وفي أضعف الإيمان بين مواضيع العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، مشكوك في أمره إلى أبعد حد. والمشاكل الجامعية في هذا الميدان ليست إلا مرآة تعكس هذا الوضع العام. فهناك في الواقع تقسيم في المادة بين العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، أو بالأحرى بينها وبين ما كان يجب أن تكون عليه العلوم الإنسانية في السابق: أعني بذلك معرفة ظواهر الطبيعة البشرية (humanities) التي لم تترجم بعد في الواقع. والمقصود بذلك خاصة طرق التفكير والتمثيل والتعبير المفارقة (transcendence) غير العملياتية (non operationalistic). فهل يتطلب تحليل المجتمع والتصرفات الاجتماعية، وحتى الفردية منها، في عصرنا هذا ان نتجاهل الطبيعة البشرية؟ وهل يستبعد وضعنا الثقافي ومجموع تصرفاتنا الاجتماعية علوم الطبيعة وهل تغض من شأنها؟ هل تبعدها إلى مستوى العلوم "التي لا تتعلق بالسلوك"، والتي تكون بذلك "غير علمية"، والتي تخص القيم الشخصية والعاطفية والميتافيزيقية والشعرية، والتي لا تصبح "علمية" إلا إذا دونت بكلمات علمانية؟ ولكن العلوم الإنسانية إذا قامت بمثل هذا العمل تتخلى عن ماهيتها وتترك الحقائق غير العلمانية لتتعلق بالقواعد التي تسوس المجتمع القائم. ذلك لأن المقاييس التي تستعملها علوم السلوك هي ذاتها مقاييس المجتمع الذي ترتبط هذه العلوم بدراسة سلوكه.

ولكي أتجنب أي تفسير رومانطيقي خاطئ، أود أن أكرر أن الثقافة كانت دائماً امتيازاً لأقلية صغيرة كما كانت قضية ثروة ووقت وحظ. أما الكتلة الشعبية المحرومة، فقد كانت "القيم العليا" بالنسبة لها دائماً كلمات فارغة أو مواعظ أو أوهاماً مجردة من المعنى، وكانت في أحسن الحالات أمالاً وأمنيات لم تتحقق. ووضع الثقافة المميز جعل من الحفرة التي تفصل بين الحضارة المادية والثقافة الفكرية، وبين الحرية والحاجة، سبباً لإبقاء الثقافة غير العلمية تحت شعار "الميدان الخاص" (reserve domain). لقد كان بمقدور الأدب والفن ان يصلا في هذا الميدان إلى قيم كانت في الحقيقية مرفوضة أو مكبوتة أو محولة إلى مفاهيم ومقاييس تفيد المجتمع. وكان بمقدورهما أن ينقلا هذه القيم كذلك. من هنا استطاعت الفلسفة، الدين، ان تعبر عن ضرورات أخلاقية عالمية غالباً ما كانت تتناقض بوضوح مع أخلاق المجتمع السائدة. من وجهة النظر هذه نستطيع القول إن الثقافة غير العلمية كانت أقل تسامياً من الشكل الذي أخذته في ترجمتها إلى قيم وتصرفات اجتماعية واقعية. وكانت بالتأكيد أقل تسامياً من الأدب الذي لم يكبته عصرنا. ذلك لأن أسلوب هذه الثقافة العليا الموزون والمصقول كان يعبر سلباً عن حاجات الإنسان وآماله غير المشروطة والتي يجسدها الأدب المعاصر مثلما تتحقق في المجتمع، أي مشبعة بأشكال القمع القائمة.

هذه الثقافة العليا ما زالت موجودة. وهي يسيرة المنال اكثر من أي وقت مضى. وهي الآن يقرأها الناس أو يرونها أو يستمعون إليها اكثر بكثير من السابق. ولكن المجتمع أغلق منذ وقت طويل الميادين الفكرية التي تستطيع هذه الثقافة ان تفهم فيها ضمن محتواها الإدراكي الخاص وحقيقتها الأصلية. ان الميول العملياتية في التفكير والسلوك تُبعد هذه الحقائق إلى دائرة الشخصية والذاتية والانفعالية. وهي في هذه الحالة تستطيع ان تتوافق بسهولة مع العلم القائم: فجانب الثقافة المتعالي والنقدي والنوعي يُلغى، في حين يُدمج الجانب السلبي بالإيجابي. وهكذا تفرغ عناصر الثقافة المعارضة: تأخذ الحضارة الثقافة على عاتقها، فتنظمها وتشتريها وتبيعها؛ وتحول الأفكار غير العملياتية أو المرتبطة بالسلوك إلى أفكارا عملياتية تتبع السلوك. وليس هذا التحول عملاً منهجياً وانما تراتب اجتماعي. ونستطيع التعبير عن فعل هذا التراتب الأساسي بالصيغة التالية: إن دمج قيم الثقافة بالمجتمع القائم يلغي انتماء الحضارة إلى الثقافة ويقلل بذلك من التوتر القائم بين "الواجب" و"الكينونة" (وهو توتر تاريخي واقعي)، وبين الممكن والحاصل، والمستقبل والحاضر، والحرية والضرورة.

وينتج عن ذلك ان مضامين الثقافة المستقلة والنقدية تتحول إلى غايات تربوية بناءة ضمن عناصر الانفراج، وتصبح بذلك وسيلة هذا التكيف.

كل عمل أصيل في الأدب والفن والموسيقى والفلسفة يتكلم لغةً شاملة، تنقل أفعالاً وظروفاً تختلف عن تلك التي تنقلها اللغة المبنية على السلوك؛ وهذا ما يفسر وحدة مادتها واستحالة ترجمتها. بيد أن هذه المادة التي تستحيل ترجمتها أصبحت على ما يبدو في طريقها نحو الزوال. إذ أنها تضيع الآن عبر عملية انتقال وتبديل لا تتعرض "للفوبشري" (superhuman) ولا للفوطبيعي (supernatural) (الدين) فحسب، بل لمضامين الثقافة البشرية والطبيعية كذلك (الأدب، الفن، الفلسفة): ذاك ان الصراع العنيف الشديد بين الحب والكراهية، والأمل والخوف، والحرية والحاجة، والسبب والمسبب، والخير والشر، يصبح الآن صراعاً واضحاً وطبيعياً واكثر مرونة، أي أكثر ملاءمة للسلوك.

وليس الأبطال والآلهة والملوك والفرسان، الذين يبكّون عالمهم من عالم المأساة والرواية والأغاني والأعياد، ليسوا وحدهم الذين اختفوا، بل اختفى أيضاً العديدُ من الألغاز التي لم يستطيعوا حلّها، والمعارك الكثيرة التي خاضوها والقوى المتعددة والأهوال التي خضعوا لها. إن نسبة متزايدة من القوى التي لم تقهر (ولا تقهر) تحدّ منها الآن العقلانية التقنية والعلوم الطبيعية والاجتماعية. وأن عدداً كبيراً من المسائل النموذجية أصبحت اليوم تابعة لميدان تشخيص علماء النفس والاجتماع والسياسة وفي متناول علاجاتهم. وإذا كان تشخيص هذه المسائل وعلاجها سيئين، وإذا كان مضمونها الذي ما يزال يحتفظ بصلاحيته مشوهاً أو محجماً أو مقموعاً، فإن ذلك لا يمنع إمكانية حصول هذا التطور الجذري. وبكلمة مختصرة نستطيع القول ان البشرية وصلت إلى مرحلة تستطيع فيها تقنياً أن تبين عالم السلام، عالماً يخلو من الاستغلال والبؤس والخوف. وعندئذ لا بد أن تصبح الحضارةُ ثقافةً.

إن تفكك مادة الثقافة العليا المفارقة على يد التقنية الحديثة سلب منها وسائل التعبير والاتصال الملائمة، وأدى إلى زوال الأشكال الأدبية والفنية التقليدية، وإلى تعريف جديد وعملياتي للفلسفة وإلى تحول الدين إلى رمز تشريعي. وقد وجدت الثقافة في الوضع القائم تعريفاً جديداً لها: إن كلمات الأعمال (الأدبية) التي صمدت، وأصواتها وألوانها وأشكالها بقيت كما هي ولكن معانيها فقدت من جوهرها وصلاحيتها. فالأعمال التي كان تعارضها مع الوضع القائم يثير فضيحة في الماضي أفقدها تأثيرها اتخاذها شكلاً تقليدياً. ولم تحتفظ بطابعها الغريب عن المجتمع لوقت طويل. فالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع تسيطر فيها تجريبية مزيفة تردّ مفاهيمها ومناهجها إلى تجربة الإنسان المحدودة والمقموعة في عالم مشوش، وتنتقص من المفاهيم التي لا تقتفي السلوك وتردها إلى مستوى البلبلة الميتافيزيقية. وهكذا فإن أفكاراً مثل الحرية والمساواة والعدل والفردية كانت قيمتها التاريخية، طيلة الوقت الذي لم تزل فيه مضموناً غير محقق، تكمن في كونها لا تستطيع ان تتناسب مع الواقع القائم. وهذا الواقع لم يكن قادراً على تأييدها لأنها كانت تتنافى مع عمل المؤسسات المنوط بها تحقيقها.

وكانت هذه الأفكار نموذجية غير عملياتية، لا لأنها ذات طابع ميتافيزيقي وغير علمي فحسب، وإنما لأن المجتمع كان مؤسساً على العبودية وعدم المساواة والظلم والتسلط. وتميل وسائل التفكير والبحث المعمول بها في الثقافة الصناعية المتقدمة إلى مطابقة المفاهيم النموذجية وتحقيقها الفعلي في المجتمع؛ أو هي تأخذ قاعدتها من الطريقة التي تتحقق فيها هذه المفاهيم في الواقع. وهي كذلك تكتفي في أفضل الحالات بتحسين هذه المطابقة. أما ما لا يمكن مطابقته (نقله إلى الواقع) فإنها تعده ضرباً من النظريات البالية.

إن التناقض واضح بين الأصل والنقل، وهو جزء من تجربتنا اليومية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الصراع بين الممكن والواقع يصبح اكثر حدة مع التقدم الصناعي ومع إمكانيات المجتمع المطردة في التغلب على التفاوت والخوف والأعمال القاسية. ولكن هذا التقدم نفسه وتطبيقاته تضع حاجزاً أمام فهم أسباب هذا الصراع وفرص حله (فرص تهدئة الصراع من أجل الحياة)، أكان هذا الصراع فردياً أم اجتماعياً، ضمن إطار الأمة أم على الصعيد العالمي. ففي ميادين الثقافة الأكثر تطوراً، يضاعف الإنتاج الفائض للنظام القائم رغبات الشعب ويشبعها بواسطة إدارة شاملة تسهر على جعل حاجات الأفراد حاجات تقوي النظام وتديمه. إن الأسس المعقولة لتغيير نوعي تتلاشى فتتلاشى معها الأسس المعقولة لبناء حضارة قد تصبح ثقافة.

إذا كان تبدل العلاقة بين الثقافة والحضارة نتاج المجتمع التقني الجديد، وإذا كان بقاء هذه العلاقة متعلقاً دوماً بهذا الأخير، فإن تعريفاً ثانياً وجديداً (للثقافة)، مهما كانت طريقة معالجته، يبقى أكاديمياً لأنه سيذهب في اتجاه معاكس للنزعات المسيطرة. ولكن، هنا أيضا يمكن لُبعد الجهود النظرية ونقائها وضعفها الجلي أمام الواقع أن تتحول إلى مصدر قوى إذا لم تتخل عن تجريدها بالخضوع إلى الوضعية والتجريبية المخادعة. ذلك لأن هاتين الطريقتين في التفكير ترتكزان على تجربة ليست في الواقع الا قطاعاً هزيلاً من التجربة عُزل عن العوامل والقوى التي تحددها. إن اندماج الثقافة الإداري في الحضارة هو نتيجة الاتجاه المعاصر للتطور العلمي والتقني، وهو نتيجة خضوع الإنسان والطبيعة المطرد لقوى تنظم هذا الخضوع وتستغل ارتفاع مستوى المعيشة لأجل ترسيخ نمطها في الصراع من أجل الحياة ولأجل تخليده.

وتتجلى فعالية هذا النظام اليوم في تعبئة الرجال بشكل دائم لاحتمال وقوع حرب نووية وفي تعبئة النفوس بالعداء والكراهية التي تغدو ضرورة اجتماعية ضمن أشكال الحقد الذي يولده الصراع من أجل البقاء في "حضارة الرخاء". هذا هو العالم الذي يحدد التجربة في ميادين الحضارة الصناعية الأكثر تقدماً والذي يحدها بحجب البدائل الحقيقية وغير الطوباوية. هناك البدائل النوعية، لان تهدئة النزاع من أجل الوجود وإعادة تعريف العمل كتحقيق حر لحاجات الإنسان وقدراته، لا تستلزمان وجود مؤسسات مختلفة جوهرياً فحسب، بل تتطلبان كذلك رجالاً تغيروا تغيراً جذرياً، رجالاً ليسوا ملزمين بعمل مستلب لكسب قوتهم. في شروط كهذه، يعني تحول اتجاه التقدم الموجود تبدلاً أساسياً في المجتمع. ولكن لكي يتحقق التبدل الاجتماعي يفترض ان توجد حاجة حيوية له وان يمر الإنسان في تجربة الحلول الأخرى والظروف التي لا تطاق. وهذه الحاجة وهذه التجربة هما بالضبط ما يمنع نمو الثقافة. وليكون بمقدورهما التحرر لا بد من إعادة بناء البعد الثقافي الضائع، هذا البعد الذي كانت سلطة المجتمع الشمولية تحافظ عليه من قبل: ذلك لأنه كان يكون البعد الفكري للاستقلال.

إن التربية وفق أساس الاستقلال الفكري والفردي تبدو هدفاً معترفاً به عالمياً. والأمر هنا يتعلق في الواقع بمنهاج مخرب يتضمن انتهاكاً لبعض أقوى المسلمات الديمقراطية "المقدسة". ذلك لأن الثقافة الديمقراطية المعمول بها تشجع التبعية تحت غطاء الاستقلالية، وتعرقل تفتح الرغبات (والحاجات) متظاهرة بتشجيعها، وتقّيد الفكر والتجربة بحجة توسيعهما ونشرهما إلى ما لا نهاية. إن معظم الناس ينعمون بحرية التصرف عندما يتعلق الأمر بالبيع والشراء، بالبحث عن عمل أو اختيار عمل آخر. وهم أحرار في تحركاتهم ويستطيعون ان يعبروا عن آرائهم. ولكن أراءهم لا تذهب في أية لحظة إلى أبعد من النظام الاجتماعي القائم الذي يحدد لهم حاجاتهم واختياراتهم ومواقعهم. إن الحرية نفسها تعمل هنا كوسيلة حصر وتصويب. وتلازم هذه الميول القمعية (والرجعية) تحّول المجتمع الصناعي إلى مجتمع تقني، وذلك تحت شعار المسؤولية الكاملة عن الإنسان. وتصيب هذه التحولات المتلازمة في طريقة العمل وذهنية الشعب وعمله السياسي، أسس الديمقراطية إصابة بالغة. وسنكتفي هنا بسرد بعض الظواهر المعروفة.

لابد بادئ الأمر من ملاحظة سلبية الناس المتزايدة أمام الجهاز السياسي والاقتصادي الموجود في كل مكان، وخضوعهم لإنتاجه الغزير و "لفوقيته"، ووجود حاجز بين الأفراد وينابيع السلطة والإعلام التي تحول الناس إلى أشياء مشوشة. إن حاجات المجتمع القائم تتحول إلى حاجات فردية ويصبح السلوك والرغبات التي فرضها المجتمع تلقائية. ولا تتطلب هذه المعادلة العامة في مراحل التطور الأكثر تقدماً أي لجوء إلى الإرهاب أو إلى إلغاء قواعد اللعبة الديمقراطية.

على العكس من ذلك، فإن الرؤساء المنتخبين يخضعون شيئاً فشيئاً إلى ناخبيهم الذين يمثلون رأياً عاماً مكوناً بدوره من المصالح السياسية والاقتصادية الغالبة. وسلطتهم كما يبدو هي سلطة العقلانية الإنتاجية والتقنية. والناس يقبلون بها ويدافعون عنها لأنها كذلك، فيجعلون منها قضيتهم المشتركة. وينتج عن ذلك ولادة روابط عامة ومتبادلة من التبعية تحجب الطبقية الحقيقية. وهكذا نرى ان التبعية المتعددة الجوانب مقبولة تحت ستار العقلانية التقنية وعبر أشكال الحريات والتسهيلات التي يقدمها "مجتمع الرخاء". إن خلق (أو إعادة خلق) ملجأ للاستقلالية الفكرية في مثل هذه الظروف لا يمكن إلا أن يأخذ شكل تراجع وعزلة واعية وأن يؤدي إلى ولادة "نخبة مفكرة". وغني عن البيان أن عملية إعادة تعريف الثقافة في حالة حصولها تسير ضد ميول معروفة جيداً. وهي تحرر الفكر والبحث والتعليم والدراسة من مجموعة القيم والتصرفات الموجودة؛ كما أنها تكون مناهج ومفاهيم قادرة على ان تتخطى عقلانياً إطار القيم والأعمال القائمة. وهذا يعني بالنسبة للعلوم الجامعية انتقال محور أعمالها إلى النظرية "الصرفة"، أي في اتجاه العلوم الاجتماعية، والعلوم السياسية، وعلم النفس والفلسفة النظرية، الخ، وكلها علوم تجريدية. وتكون النتائج أكبر في مجال تنظيم التربية: فهذا الانتقال يتسبب في خلق جامعات "للنخبة". ويكون أحد شروط إنشائها الأولى الاستقلال المالي: فالقضية اليوم قبل كل شيء قضية الدعم المادي ومصادره.

فأي مشجع للعلوم لا يستطيع بمفرده وبشكل شخصي ان يمول تربية يُقدَّر لها ان تهيئ ولادة سلم من القيم والقوى مختلفة نوعياً. ولا تستطيع تربية كهذه إلا أن تكون ربيبة حكومة تنوي (وتقدر) أن تواجه بها التيار السياسي القائم. ويكفي ان نصوغ هذا الشرط حتى نتبين مدى طوباويته.

ثم إن فكرة وجود جامعة مخصصة للنخبة المثقفة مرفوضة اليوم لكونها ضد الديمقراطية، على الرغم من أن ما يشدد عليه هو صفة "المثقفة"، وأن مفهوم "النخبة" يعني ان مجموعة من طلاب المدارس والمعاهد يجري انتقاؤها وفق مقياس الجدارة، أي وفق ميلهم للتفكير التجريدي واستعدادهم له. هذه الفكرة هي في الواقع ضد الديمقراطية، في حال اعتبرنا ان ديمقراطية الشعب، بما فيها نظامها التربوي، هي في توافقها مع أشكال الحرية والمساواة الممكنة تاريخياً. ولا اعتقد أن هذا ينطبق على حالتنا. فالفكر السلوكي والموضوعي السائد حالياً لا يعمل في الغالب إلا لينتزع من الفكر البشري جذور الاستقلال الذاتي، هذا الاستقلال الذي يعني اليوم (كما في السابق) وجود بعد نقدي بين الفرد وعالم التجربة القائم. ويفقد الطالب بفقدان ان نقد التجربة هذا، الوسائل والأدوات الفكرية التي تسمح له بفهم مجتمعه وثقافته من خلال الاستمرارية التاريخية التي يحقق فيها هذا المجتمع، أو يشوه أو يرفض، إمكاناته الخاصة ومستقبله.

إن الاحتجاج ضد السلوكية الخانقة يوجد بشكل غير عقلاني في المدارس الفلسفية العديدة كالوجودية والماوراء نفسية واللاهوتية الجديدة. وكلها تعارض الميول الموضوعية. ولكن معارضتها مشكوك في أمرها ووهمية. فهي تساهم بدورها في انحلال الفكر الناقد.

فمفاهيم الفكر الناقد هي في الوقت ذاته فلسفية واجتماعية وتاريخية. وهي بفضل هذا التفاعل ونظراً لسيطرتها المتزايدة على الطبيعة والمجتمع، تكون حوافز الثقافة الفكرية: فهي تقدم إمكانية فكرية قد تستطيع أن تصل إلى خلق مشاريع تاريخية جديدة واحتمالات جديدة للحياة. هذا البعد النظري للفكر يحطم اليوم بشكل منظم. وإذا كنا نشدد هنا على عودة هذا البعد وتوسيعه فلأن ثقافتنا ولدت وتحددت حتى في ظواهرها الأكثر عملية مع العلم والفلسفة والأدب، وذلك قبل ان تصل إلى نضوجها وتصبح واقعاً منظماً.

إن إعادة تنظيم الثقافة التي تكلمت عنها في الصفحات السابقة تنال من موقف العلم أيضاً. وأنا استعمل قصداً عبارة "تنظيم" البشعة في هذا السياق لأن الثقافة أصبحت موضوع تنظيم. وما انتزاع الثقافة من الإدارة القائمة إلا إعادة لتنظيمها وإخلالاً به. يجب الا يقيم دورُ العلم في الثقافة القائمة بناءً على الحقائق العلمية وحدها (من غير المعقول إنكارها أو الإنقاص من قيمتها)، ولكن بالاستناد إلى تأثيرها على وضع الإنسان كذلك. فالعلم مسؤول عن تطور الإنسان: ولا تقع المسؤولية الأخلاقية والفردية على العالم بحد ذاته، ولكن على عمل المنهج وعلى المفاهيم العلمية نفسها. ويجب ان لا يُفرض على العلم أية غائبة (teleology) ولا أي هدف غريب عنه: فالعلم له أهدافه التاريخية المتأصلة فيه التي لا يمكن لأية "علموية" (scientism) أو حيادية أن تحل محلها.

والعلم هو نشاط فكري، وهو قبل أي تطبيق عملي وسيلة للصراع من أجل الحياة، صراع الإنسان مع الطبيعة وصراع الإنسان مع بني الإنسان. ونظرياته الكبرى ونماذجه وتجريداته هي وليدة هذا الصراع. فهي تسبق أو تحفظ أو تبدل ظروف هذه المعركة. ومن الممكن القبول بأن هدف العلم الحقيقي هو تحسين هذه الظروف، ولكن في هذه الحال يكّون العلم نفسه والحقيقة قيماً. وقد سلمنا بهذه القمعية عندما تكلمنا على "الحضارة"- التي اعتبرناها تطبيقاً تراتبياً لها ومرهقاً. وقد لعبت هذه القيمة دوراً أساسياً في العلاقة بين العلم والمجتمع وزادت إمكانيات العلم المادية في الصراع من أجل الحياة. فنظرية غاليليو الداعية إلى مفهوم للطبيعة تجهل الأهداف الموضوعية، والى انتقال البحث العلمي من "اللماذا" إلى "الكيف". ومن النوعية إلى الكمية، واستبعاد أي ذاتية لا تحدد من العلم، هذا المنهج كان الشرط الأساسي لأي شكل من أشكال التقدم المادي والتقني المعروف منذ القرون الوسطى. به نشأت مفاهيم الإنسان والطبيعة العقلانية وهو الذي ساهم في خلق الظروف الملائمة لولادة مجتمع عقلاني، وساعد في الوقت ذاته على تطور وسائل التدمير والسيطرة (العقلانية)، أي الوسائل التي تمنع البشرية من تحقيق ذاتها. إذ ان التدمير كان منذ البدء مواكباً للبناء، وكانت الإنتاجية مرتبطة باستعمالها لغايات قمعية، وكان السكون (أي عدم الإنتاجية يعتبر عدواناً).

وليست مسؤولية العلم المزدوجة هذه وليدة الصدفة: فالعلم في شكله المحدد والطبيعة في كمياتها المحسوبة (أي كعالَم رياضيMathematical Universe ) هما "محايدان" مستعدان لتقبل جميع الاستعمالات والتحويلات. وليسا محدودين إلا بحدود المعرفة العلمية ومقاومة المادة الخام. ويمكن للعلم من جراء هذا الحياد أن يُستعمل لخدمة غايات المجتمع وأن ينمو في كنفه.

وهذا المجتمع يصل إلى إخضاع الطبيعة من خلال إخضاع البشر، والى استثمار المصادر الطبيعية والفكرية من خلال استثمار الإنسان، كل هذا يتم في أشكال عدوانية وقمعية على جميع الأصعدة الفردية والوطنية والعالمية. ولكن العلم نفسه وصل إلى مرحلة من المعرفة والإنتاجية تضعه في موضع التناقض مع هذه الحالة: فالعقلانية العلمية "الصرفة" تدرك إمكانية محو العوز والظلم من العالم اجمع إدراكاً واقعياً. ولا يعني هذا العودة بالعلم إلى الوراء أو تحجيم دوره، بل تحريره من الأسياد الذين ساهم هو نفسه في تنصيبهم. وليس هذا التحرير حدثاً خارجياً لا يمس هيكلية المؤسسة الصناعية: فهو يتعلق بالمنهجية العلمية نفسها وبتجربة الطبيعة وإسقاطها العلميين. وللعلم وظيفة جديدة في المجتمع العقلاني والإنساني، وهي وظيفة قد تدعو إلى إعادة تنظيم المنهجية العلمية، ليس بالعودة إلى فلسفة الطبيعة النوعية (أي فلسفة ما قبل غاليليو)، بل بتحديد الأهداف الجديدة تحديداً علمياً، ينجم عن تجربة جديدة للإنسان والطبيعة. وهذه الأهداف تتوافق مع سلام البشرية العام.

ولكن لا بد من التساؤل عما إذا كان العلم قد فقد في "مجتمعات الرخاء" مقدرته على التحرير، وإذا كان في بحثه عن التدمير والتضليل قد عزَّز الصراع من أجل الحياة بدلاً من تلطيفه. ويصبح بذلك التمييز بين العلم والتقنية مشكلة. فإذا كانت اكتشافات الرياضيات الأكثر تجريدية واكتشافات الفيزياء النظرية تلبي حاجات شركة الـ (IBM) ولجنة الطاقة النووية (الأمريكية)، فإن الوقت قد حان للتفكير في أن احتمال وقوع هذا الاستعمال مرتبط بمفهوم العلم بحد ذاته. نحن لا نفر من هذا الواقع إذا فصلنا بين العلم الصرف وتطبيقاته واتهمنا هذه الأخيرة فقط: ذلك لأن "صفاء" العلم بحد ذاته هو الذي سهًّل دمج البناء والتدمير، الإنسانية والبربرية، كلما تطورت سيطرة الإنسان على الطبيعة. ومن المستحيل على أي حال وضع ميول العلم الهدامة مع ميوله البناءة كما يستحيل، ضمن ميدان البحث العلمي العام، التمييز بين القطاعات والمناهج والمفاهيم التي تتلاءم والحياة، والأخرى التي تؤدي إلى دمارها. فكلها تبدو متماسكة بروابط داخلية متينة. وقد خلق العلم ثقافته الخاصة، هذه الثقافة التي تستوعب جزءاً كبيراً من الخطوة. ومفهوم "الثقافتين" الذي يتكلم عنه سنو (G. P. Snow)هو مخادع ولكن محاولة الدفاع عن الظروف الحالية لتوحيدها خطأ أكثر فداحة.

إن للثقافة غير العلمية (وسأكتفي بوجهها الأدبي) لغتها الخاصة التي تختلف عن لغة العلم اختلافاً جوهرياً، فلغة الأدب هي لغة أخرى (متفوقة، مجاوزة) لا تنتمي إلى عالم الكلام الذي يدل على الأشياء الموجودة دلالة مباشرة. فهي تدلنا على "عالم آخر" يخضع لمقاييس أخرى ولقيم أخرى ولمبادئ أخرى. وهذا العالم الآخر يظهر في العالم القائم ويدخل في الاهتمامات اليومية وفي التجربة مع أنفسنا ومع غيرنا وفي المحيط الاجتماعي والطبيعي. ومهما يكن الأمر فإن الفارق بين هذين العالمين، يجعل من الأدب عالماً مختلفاً تماماً: وهذا الفارق يكمن في كونه نفياً للحقيقة القائمة. ولما كان العلم قد أصبح جزءاً لا يتجزأ من هذه الحقيقة، بل بالأحرى أجد عناصرها المحركة، فإن الأدب هو نفي للعلم كذلك.

ولا يوجد في الأدب الغربي الأصيل ما يقربه من الواقع العلمي حتى ولا في أعمال اميل زولا، فمجتمع الإمبراطورية الثانية الذي يقدمه هذا الروائي هو في الحقيقة نفي لواقع هذا المجتمع.

إن الهوة التي تفصل اليوم بين الثقافة العلمية والثقافة غير العلمية يمكن أن تحمل نتائج جسيمة. فحياد العلم الصرف اضر به وجعله عاجزاً عن رفض التعاون من أصحاب نظريات التدمير والاستغلال الرسميين ومع الذين ينفذونها. وقد يحمي انكماشُ الثقافة غير العلمية على نفسها الملاذ الأخير الذي تلجأ إليه حقائق وصور منسية أو مكبوتة. وإذا كان المجتمع اليوم يتقدم (بوسائل علمية) نحو تعادل وإدارة كاملين، فإن استلاب الثقافة غير العلمية يصبح الشرط الأول لأي معارضة ولأي رفض. فإذا اطلع شاعر أو كاتب أو فقيه على النظرية الثابتة في الديناميكا الحرارية (thermodynamics) أو على قوانين انكسار الأشعة فهذا يتعلق بهم ولا يمكن أن يلحق بهم الضرر.

ولكن هذا لن ينفعهم البتة فيما يريدون قوله. فالطبيعة، كما يراها أساتذة العلوم الكمّوية (quantified sciences)، ليست هي الطبيعة بحد ذاتها (بوجه شامل) و"بناء العالم المحسوس بناء علمياً" ليس "في عمقه الفكري وتعقيده وهندسته عمل الإنسان الفكري المشترك الذي لا يضاهي جمالاً وروعةً".

ويبدو لي أن ميادين الأدب والفن والموسيقى هي إلى حد كبير اكثر جمالاً وروعة. ولا أظن أن القضية تتعلق بالذوق فقط. فعالم الثقافة غير العلمية هو عالم ذو أبعاد متعددة يتتبع فيها كل موضوعية الإنسان الفرد. إن التواضع العلمي يخبئ غالباً استبدادية مثيرة للقلق وميلاً إلى إبعاد أي طريقة غير علمية في التفكير العقلاني إلى ميدان الشعر والخيال.

وإذا كنت قد رجعت إلى ذكر "الثقافتين" فلأن الأساس فيه على ما يبدو لي ليس سوى حض على الامتثالية (conformist) تحت ظاهر العقلانية العملية. ومن الممكن ان يكون توحيد الثقافة العلمية والثقافة غير العلمية أو إعادة توحيدهما شرطاً أولاً لكي يتفوق على نفسه المجتمع المجند كلنا من أجل الدفاع أو القمع الدائمين، ولكن تقدماً كهذا لا يمكن أن يحصل إلا في إطار ثقافة الدفاع والقمع القائمة فعلاً، والتي يدعمها العلم بطريقة فعالة. ولكي يحصل هذا التقدم لا بد من أن يتحرر العلم من جدلية السيد والعبد التي تحول استعباد الطبيعة إلى وسيلة استغلال وتخلد الاستغلال في أشكال "عليا". إن الثقافة تحافظ أمام تحرير العلم هذا على فكرة الأهداف التي لا يستطيع العلم وحده ان يعرفها، أعني بخاصة هدف الأنسنة، ومن الواضح ان توجيه العلم وجهة جديدة يتطلب تبدلات اجتماعية وسياسية، أي بناء مجتمع مختلف كلياً، يستطيع في سبيل بقائه ان يتخلى عن بعض المؤسسات مثل الدفاع (عدوانياً كان أم قمعياً). ولا يمكن أن يكون إعداد مثل هذا التغيير في إطار المؤسسات الموجودة إلا سلبياً، اعني بذلك التخفيف من القهر (الإكراه - الإلزام) الهائل الذي يمارس على وسائل التفكير غير الامتثالية والنقدية والمفارقة حتى يمكن مقاومة احتكار ما يسمى بالتجريبية السلوكية.

وإذا كان كانط (Kant) محقاً في قوله إن التربية يجب ألا توضع في سبيل المجتمع الحاضر وإنما في سبيل مجتمع أفضل، فإن أحد مستلزمات التربية (وربما أهمها) سيتكون من تغيير مكانة العلم في الجامعات وفي ميدان "البحث والتنمية" بكامله. إن الدعم المادي الكريم الذي تنعم به اليوم علوم الطبيعة لا يهدف فقط إلى تشجيع البحث والتنمية لما فيه فائدة البشر، بل هو يخدم كذلك غايات مناقضة. وبما أن هذا المزيج من العناصر المتناقضة لا يمكن ان يحد منه في نطاق النظام الاجتماعي القائم، فإنه من الممكن أن نحصل على تقدم محدود في ممارسة سياسة تميز بين الدعم والأولويات. غير أن سياسة كهذه تفترض وجود حكومات ومؤسسات مستعدة (وتملك ما يكفي من قوة) للحد بشكل صارم من القطاع العسكري. وهذا افتراض لا ينعم بكثير من الواقعية. ويمكن التفكير بإنشاء ميدان جامعي مستقل، يجري فيه البحث العلمي بشكل منفصل عن الغايات العسكرية، ويُعهد بتنظيم نتائجه والسهر على سيرها ونشرها إلى مجموعة من العلماء تشغلهم فكرة الأنسنة. ويوجد كثير من الجامعات والمعاهد التي ترفض قبول بحث ترعاه الدولة ويتعلق ببرامج عسكرية، فمن الممكن أيضا أن تشجع، ليس فقط المؤسسات التي تبدي مثل هذا التحفظ، بل تلك التي تساعد بنشاطِ نشر لملفات حول استعمال العلم استعمالاً تعسفياً يخدم أهدافاً غير إنسانية.



ترجمة: د. بسّام بركة

--------------

[1] مع ملاحظة التقيد بالمعنى الاصطلاحي لهذا اللفظ في التحليل النفسي. وهو لفظ يشير إلى حيلة دفاعية تفرغ بها الطاقات الغريزية في أشكال سلوكية من النشاطات غير الغريزية، بحيث تشتمل على عناصر اجتماعية. يعتبر مثلا حب المعرفة نوعا من التسامي بولع النظر والتطلع، حيث انه حب استطلاع ولكنه موجه نحو موضوع غير جنسي، ولذته غير جنسية.

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:20 PM

17 - إيريك فروم

ولد أريك فروم (Erich Fromm) لعائلة يهودية تقليدية (Orthodox) في مدينة فرانكفورت الألمانية في عام 1900. التحق بجامعة فرانكفورت وهايدلبيرغ حيث درس فيها العلوم الاجتماعية والنفسية والفلسفية. وحاز من الأخيرة على درجة الدكتوراه، وكان موضوع أطروحته: " Jewish Law: A contribution to the sociology of Jewish Diaspora " (القانون اليهودي: مساهمة في علم اجتماع الشتات اليهودي) كما تلقى تدريباً عملياً مكثفاً في مجال علم النفس التحليلي في ميونخ وبرلين والولايات المتحدة الأمريكية. وإضافة إلى ممارسته التطبيقية للتحليل النفسي، عمل فروم محاضراً في نخبة من الجامعات الأمريكية الشهيرة. توفي في سويسرا عام 1980.

تعتبر كتابات فروم محاولة جادة لدراسة السلوك الإنساني على ضوء التوفيق بين مقتضيات كل من المنهجين الفرويدي، والذي يرتكز أساساً على دراسة الفرد وبنائه النفسي، والماركسي والذي يرتكز بالدرجة الأولى على دراسة المعطيات الاقتصادية. ففي مقالة له حملت عنوان: " The application of Psychoanalysis to Sociology of Religious Studies " يرى فروم، على سبيل المثال، ان إسهام كل من المنهجين النفسي والاجتماعي-الاقتصادي مُجتَمِعَيْن يمكن من إدراك العلاقة بين المضامين المعنوية (النفسية) والمضامين المادية (الاقتصادية) للتطور الإنساني. وفي سعيه لإحكام صياغة منهجه الجديد، نرى فروم يأخذ على فرويد معالجته لمسألة التكوين الغريزي وعلاقة ذلك بالسلوك الإنساني. وبتأثر واضح بالمنهج الماركسي يعتقد فروم ان المحدد الأساسي للسلوك ليس التكوين الداخلي الغرائزي للفرد وإنما الظروف والمؤثرات المحيطة به.

من أهم كتابات فروم: الهروب من الحرية (Escape from Freedom) 1941، الإنسان لنفسه (Man for Himself) 1947، المجتمع السليم (The Sane Society) 1955، فن الحب (The Art of Loving) 1956، قلب الإنسان (The Heart of Man) 1964، وأخيرا ثورة الأمل (The Revolution of Hope) 1968.



فروم: مختارات من "ثورة الأمل - نحو أنسنة التقنية"


1: مفترق الطرق
ثمة شبح، لا يتبينه بوضوح إلا عدد قليل من بيننا، يتقدم بخطى سريعة. فهو ليس ذلك الوهم القديم من الشيوعية أو الفاشستية. إنه شبح جديد: مجتمع ممكن تمام الإمكانية، خاضع للإنتاج في أعلى درجاته وللاستهلاك وموجه بالنواظم الآلية. والإنسان في هذا السياق الاجتماعي آخذ في التحول الآن، إلى دولاب في الآلة الكبرى، يُغذى ويُسلى جيدا، لكنه مع ذلك، سلبي، ومن الناحية الانفعالية لا حياة فيه، وبانتصار هذا المجتمع الجديد سوف تختفي الفردانية والحياة الخاصة؛ وسوف تقولب المشاع إزاء الغير وفقاً للتكيف السيكولوجي ولوسائل أخرى، أو أيضا، بعقاقير تيسر كذلك نوعا جديدا من التجربة الاستبطانية. وكما يبين زبينيو برزيزنسكي: "في مجتمع التقالكتروني"[1] يميل المرء إلى التجانس مع ملايين المواطنين المتغايرين، بسهولة تحت تأثير سلطان شخصيات قوية وجذابة تستخدم بفعالية آخر ما وصلت إليه تقنية المواصلات لتحكم الانفعالات وتشرف على العقل"[2]. وقد تنبأ جورج أورويل وألدوس هاكسلي في 1984 وفي أفضل العوالم بهذا الشكل الجديد للمجتمع.

لعل أشد ما يقلق اليوم في وجه هذا المجتمع هو فقدان المراقبة لنظامنا الخاص. فإننا لم نعد ننفذ إلا قرارات ناظماتنا الآلية؛ ولكن، بوصفنا كائنات بشرية، لا هدف لنا إلا الإنتاج والاستهلاك أكثر فأكثر. ولسنا بقادرين على أن نريد أمرا ما أكثر من أن لا نريد شيئا بالنظر إلى أننا مهددون من الأسلحة النووية وبالشلل من السلبية التي يولدها استبعادنا للقرارات المسؤولة.

كيف حدث ذلك؟ كيف غدا الإنسان وهو في الذروة نفسها من انتصاره على الطبيعة، السجين لابتكاره الخاص، وكيف تعرض لخطر تدمير نفسه بنفسه؟

إن الإنسان في بحثه عن الحقيقة العلمية، قد نظم من المعارف ما كان في وسعه استخدامه من أجل السيطرة على الطبيعة. إنه حصل على نجاحات هائلة. لكنه بإصراره على التقنية وعلى الاستهلاك المادي وحدهما فقد الاحتكاك بنفسه هو وبالحياة. ولما لم يعد حريصا إلا على التقنية وعلى القيم المادية، فَقَدَ، ليس فحسب الإيمان الديني والقيم الإنسانية، بل والقدرة كذلك على الإحساس بالانفعالات العميقة وبالفرح وبالحزن اللذين يرافقانها. وأصبحت الآلة التي بناها من القوة بحيث ولدت برنامجه الخاص وهي التي تحدد، الآن، فكر الإنسان نفسه.

إن أخطر أعراض نظامنا، حاليا، هو أن الاقتصاد يتعلق بإنتاج التسلح (دون النظر إلى المحافظة على العدد الإجمالي للدفاع) وبمبدأ الاستهلاك الأقصى. ويسير النظام الاقتصادي، فعلا، على شرط أن ينتج المواد التي تهددنا بالتدمير المادي وبتحويل الفرد إلى مستهلك سلبي وبخنقه إذن، وأخيرا، بخلق بيروقراطية نكون حيالها عاجزين.

فهل نواجه معضلة فاجعة ولا حل لها؟ أيجب علينا أن ننجب مرضى ليكون لنا اقتصاد سليم وهل اننا لا نستطيع استخدام مواردنا المادية ومخترعاتنا ونظماتنا الآلية، لغايات إنسانية؟ وهل يجب أن يكون الأفراد سلبيين وتابعين لكي يتاح السير الحسن للتنظيمات القوية؟

إن الأجوبة على هذه الأسئلة تتباين. فبين أولئك الذين يعترفون بالتبدلات الراديكالية والثورية التي يمكن أن يقود إليها "الـتعاظم المكني" في حياة الإنسان، يقف الكتاب الذين يدعمون الرأي القائل بأن المجتمع الجديد أمر محتوم وأنه إذن من العبث مناقشة مزاياه. وهم، في الوقت الذي يؤيدون فيه تماما المجتمع الجديد، يفحصون بعض الهواجس فيما يتعلق بنتائجه على الإنسان كما نعرفه. ويمثل هذا الاتجاه زبينيو برزيزنسكي وهـ. كاهن وبالمقابل يصف "جاك إيللول" بحمية، في التقنية أو مجازفة العصر، المجتمع الجديد الذي نقترب منه وتأثيره التدميري، انه سيتصدى للشبح ولنقصان إنسانيته الرهيب. ويخلص إلى القول بأن المجتمع الجديد ليس مؤهلا بالضرورة للانتصار، لكنه يظن، بعبارات الترجيح، أنه قد ينتهي إلى التغلب على مصاعبه. إلا أنه يتأمل في إمكانية للحيلولة دون انتصار المجتمع اللابشري: كان يجب أن "يزداد عدد الرجال الواعين للخطر على الحياة الشخصية والروحية الذي يمارسه مجتمع التكنولوجيا وأن يقروا تأكيد حريتهم بقلب مجرى هذا التطور"[م‌ا‌1] [3]. ويكاد موقف لويس مومفورد أن يكون شبيها بموقف إيللول. ففي كتابه الرائع والعميق: "أسطورة الآلة"[4]. يصف مومفورد "الـتعاظم المكّتبي" منذ ظاهرته الأولى في المجتمعات المصرية والبابلية. إن أكثرية الرجال، سواء أكانوا في قمة السلم أو كانوا مواطنين عاديين، لا يرون شبحا، قادما، وهو يتميز عن الكّتاب الذين أشرت إليهم من قبل حيث منهم من يتعاطف معه أو ينظر إليه بكره. فهم يخلدون اعتقاد القرن التاسع عشر الذي مضي أوانه، والقائل بأن الآلة سوف تساعد على تخفيف عبء الرجل وانها سوف تبقى وسيلة من أجل غاية؛ وأثناء هذا لا يرون الخطر: لو كان يؤذن للتكنولوجيا بمتابعة منطقها الخاص لنمت بما يشبه نمو السرطان، ولجازفت بتهديد النظام المركب للحياة الفردية والاجتماعية. والموقف المتخذ في هذا المؤلف[5] قريب من حيث المبدأ من موقف مومفورد وإيللول.

قد يختلف عنه في الحدود التي ألمح فيها مزيدا من الإمكانيات لإرجاع الإشراف على النظام الاجتماعي إلى الرجل. والآمال في هذا الصدد مبنية على العوامل التالية:

1. يمكن فهم النظام الاجتماعي الحالي فهما أفضل إذا نحن أعدنا ربط النظام الـ "إنسان" بجملة النظام الاجتماعي-الاقتصادي. فالطبيعة البشرية ليست تجريداً لا ولا نظاما طيعاً للغاية، وإذن يمكن إهماله، ديناميكياً. وإنما لها صفاتها النوعية وقوانينها وبدائلها. لذلك فإن دراسة نظام الـ "إنسان" تتيح لنا أن نرى، من جهة، أثر بعض عوامل النظام الاجتماعي-الاقتصادي على الإنسان، ومن جهة أخرى، إلى أي حد تكون اضطرابات نظام الـ "إنسان" مولدّة للاختلالات في جملة النظام الاجتماعي. وبإدخالنا العنصر الإنساني في تحليل النظام الإجمالي نصبح أفضل استعداداً لإدراك سيره السيء؛ وسوف نستطيع، على هذا النحو، تحديد الضوابط التي تحكم انتظام العمل الاقتصادي في النظام الاجتماعي، في سبيل رفاه أمثل للناس الذين يشاركون فيه. وكل هذا ليس مقبولاً، بالطبع، إلا إذ اتفقنا على التفكير بأن التطور العضوي للنظام البشري، هو وظيفة لبنيته الخاصة؛ أي أن الرفاه البشري هو الهدف الأساسي.

2. إن عدم الرضى المتزايد، الناتج عن طريقة الحياة الحالية وعن كل ما تولّده من: سلبية وسأم صامت وانعدام الحياة الخاصة، وضياع الشخصية من جهة، والتطلع، من جهة أخرى، إلى حياة سعيدة وزاخرة بالمعنى، تتجاوب مع الحاجات النوعية، التي نمّاها الإنسان على مدى آلاف السنين الأخيرة من تاريخه والتي تميزه، في آن واحد، عن الحيوان، وعن الناظم الآلي. هذا الاتجاه هو الأقوى، إذ أن القسم الذي يملك كل ما يحتاجه الأهالي، المنتفع باكتفاء مادي شامل، قد أكتشف، على هذا النحو، بأن فردوس المستهلك لا يوفر له الرضى الذي كان يعد به. (ومازال الذين لا يملكون ما يحتاجونه لم يحصلوا بعد، بالطبع، على الإمكانية لتحقيق ذلك، إلا أنه يلاحظ فقدان الفرح لدى أولئك "الذين يملكون كل ما يستطيع رجل أن يريده").

لقد فقدت الأيديولوجيات والمفاهيم كثيراً من جاذبيتها. والكليشيهات التقليدية كالـ "يسار" والـ "يمين"، أو "شيوعية" و "رأسمالية" لم يبق لها معنى. إن الناس يبحثون عن اتجاه جديد، عن فلسفة جديدة، ينصرف نحو أولوية الحاجة المادية والروحية لا نحو الموت. انه يحدث استقطاب متزايد سواء في الولايات المتحدة أو في مجمل العالم: هناك أولئك الذين تجتذبهم القوة، "القانون والنظام"، طرائق البيروقراطية. وحاصل القول اللا-حياة؛ وأولئك الذين يصبون بشوق إلى أن يعيشوا وإلى أن يكون لهم مواقف جديدة، يؤثرونها على المخططات الموضوعة في قوالب جاهزة. هؤلاء الرواد سيشكلون حركة تطمح في آن واحد إلى تغيرات عميقة في ممارستنا الاقتصادية والاجتماعية وإلى تغيرات في تهيجنا السيكولوجي والروحي للحياة. وهدفهم هو، على وجه العموم، تنشيط فعاليات الفرد وإعادة الإشراف على النظام الاجتماعي إلى الإنسان وتمدين التكنولوجيا. إنها حركة باسم الحياة، حوافزها شاملة إلى أبعد حد وبسيطة: إن الخطر على الحياة، اليوم، لا يستهدف طبقة أو أمة فحسب وإنما كل فرد. تحاول الفصول التالية معالجة عدد من المسائل المجملة فيما تقدم، بالتفصيل، وعلى الأخص تلك التي تتعلق بالصلات بين الطبيعة الإنسانية والنظام الاجتماعي الاقتصادي.

إلا أنه لا بد من توضيح نقطة لها أفضليتها. وذلك أنه يوجد اليوم يأس واسع الانتشار جداً فيما يتعلق بإمكانيات تغيير مجرى الأمور. هذا اليأس هو، في جزئه الكبير، لا شعوري، إذ أن الرجال في مستوى الشعور، هم "متفائلون" ويأملون في غد من "الـتقدم". فقبل التطرق للوضع الحالي وما يكمن فيه من أمل، يجب إذا أن نبحث ظاهرة الأمل.

2: الأمل
1- ما لا يكونه الأمل
الأمل هو عنصر حاسم في كل محاولة للتغيير الاجتماعي في الاتجاه إلى دينامية ووعي وفكر أكبر. إلا ان طبيعة الأمل كثيرا ما يساء فهمها؛ إذ تخلط مع حالات لا علاقة لها البتة بالأمل وتكون مناقضة لها تماما.

فما هو الأمل إذن؟

هل هو، على نحو ما يرى كثيرون، ما لدى المرء من رغبات وأمنيات؟ في هذه الحالة يمكن أن يكون أولئك الذين يرغبون في اقتناء السيارات والبيوت والمستطرفات (gadgets) بأعداد كبيرة وأفضل نوع، من ذوي الأمل.

وإذا لم يكن موضوع الأمل شيئا وإنما امتلاء، حالة من اليقظة أكبر، تحرر من السأم أو بعبارات أخرى، إذا كان موضوع الأمل هو الخلاص أو الثورة فهل يكون ذلك هو الأمل؟ هذا النوع من الانتظار يمكن أن يكون حقا من الأمل، ولكنه يكون من الأمل إذا لم يعكس سوى سلبية وتوقع؛ إذ أن الأمل يخفي، هكذا، الاستسلام والأيديولوجية المحضة.

لقد وصف كافكا هذا النوع من الأمل السلبي والمنقاد، وصفاً رائعاً في مقطع من كتابه القضية. حيث يصل رجل إلى الباب الذي يؤدي إلى السماء (الشريعة) ويتوسل إلى الحارس لكي يدعه يدخل. فيجيبه بأنه لا يستطيع الآن السماح له بذلك. وعلى الرغم من أن الباب الذي يقود إلى الشريعة يظل مفتوحاً فإن الرجل يقرر أنه يحسن صنعاً لو انتظر حتى يحصل على الإذن بالدخول. عندئذ يستقر وينتظر طيلة أيام، وحتى سنوات. ويظل يطلب بانتظام الإذن بالدخول ولكنه يتلقى دائماً نفس الجواب أنه ما زال لا يستطيع بعد الحصول على الإذن بالدخول. وكان الرجل طيلة هذه السنوات الطويلة يلاحظ الحارس باستمرار تقريباً ويتعلم أن يتحقق حتى من براغيث ياقته الفرو. وفي النهاية يصبح طاعناً في السن، وإذ يحس أنه على شفا الموت، يسأل لأول مرة: "كيف جرى أنه لم يسع أي شخص غيري، طيلة هذه السنوات كلها، إلى الدخول؟" فيجيب الحارس: "لم يكن في وسع أحد غيرك أن يحصل على الوصول إلى هذا الباب، بما أن هذا الباب كان مخصصاً لك. والآن فإنني أغلقه".

كان الرجل الشيخ طاعناً في السن أكثر مما يجب لكي يفهم ولكنه لم يكن في وسعه أن يفهم أكثر لو أنه كان اصغر سناً. فالبيروقراطيون يملكون الكلمة الأخيرة: إن قالوا لا فإنه لا يستطيع الدخول. فلو كان للرجل أكثر من هذا الأمل السلبي والكامن لأمكنه الدخول ولأمكن لشجاعته في مخالفة إرادة البيروقراطية أن تكون الفعل المحرر الذي يمكن أن يقوده إلى القصر المشعّ. فكثير من الناس يشبهون رجل كافكا العجوز. يأملون، لكنهم لم ينتجوا ما يدفعهم للتصرف وفقاً لحكمة قلبهم، وما لم يعط البيروقراطيون الضوء الأخضر فإنهم لا يكفون عن الانتظار[6].

هذا النوع من الأمل السلبي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بشكل مطلق من الأمل يمكن أن يوصف كأنه رجاء في الزمن. والزمن والمستقبل يصبحان المقولة الرئيسية لهذا النوع من الأمل. فما من شيء يُفترض حدوثه في الآن وإنما بعد ذلك فحسب، في اليوم التالي أو في العام القادم، وفي عالم آخر، إذا كان من المحال الاعتقاد بأن الأمل يمكن أن يتحقق في هذا العالم. فوراء هذا الاعتقاد تجد نفسها وثنية الـ "مستقبل" و"التاريخ" و "الأجيال القادمة"، التي بدأت مع الثورة الفرنسية وبرجال مثل روبسبير، الذي كان يعبد المستقبل كأنه إلهة: إنني لا أفعل شيئاً؛ إنني أبقى سلبياً لأنني لست شيئاً ولأنني عاجز؛ ولكن المستقبل، إسقاط الزمن، سوف يكملان ما لم أستطع تحقيقه. هذه العبادة للمستقبل، التي هي وجه آخر لعبادة "التقدم" في الفكر البرجوازي الحديث، هي استلاب الأمل بالضبط. فبدلاً من أن أكون أنا من يعمل أو يصبح شيئاً ما فإن الأوثان، المستقبل والأجيال القادمة ستتحقق لي مشاريعي دون أن يكون عليّ ما أفعله[7].

إذا كان الانتظار السلبي هو شكل مموه لليأس والعجز فثمة شكل آخر من القنوط والإرهاق، يتخذ تماماً القناع المقابل: قناع اللفظية والمغامرية، قناع اللامبالاة تجاه الواقع، والدونكيشوتية. ذلك كان موقف المخلِّصين الكاذبين و"الانقلابيين" (putchistes) الذين كانوا يزدرون على كل حال أولئك الذين لا يفضلون الموت على الهزيمة. هذا الستار الراديكالي المستعار من اليأس والعدمية هو متواتر في أيامنا هذه لدى العناصر الأكثر التزاماً من الجيل الشاب. فهم بليغو الأثر بجسارتهم وحزمهم، لكنهم يفقدون كل مواجهة بانعدام الواقعية والحس الاستراتيجي وأحياناً بانعدام حب الحياة[8].

2- المفارقة وطبيعة الأمل
إن فعل أمَّل يمكن أن يشبه عندئذ مفارقة ما: إنه لا يكون لا أنتظر في حالة سلبية ولا أرغم حادثاً يتعذر تحقيقه. فالأمل هو نمر جاثم لا ينقضّ إلا عندما تجيء اللحظة. ولا تكون تعبيراً عن الأمل لا الإصلاحية المتعبة ولا المغامرية المقنعة بالراديكالية. فأن يؤمل المرء يعني أن يكون مستعداً في كل لحظة لاستقبال ما لم يكن قد نشأ بعد، دون أن ييأس، مع ذلك، إذا لم يتدخل الحدث في مجرى حياتنا. يؤمل فيما هو موجود أو فيما لا يكون موجوداً لا يعني شيئاً. إن ضعاف الأمل يستقرون في الراحة أو العنف. والذين يكون أملهم قوياً يميزون كل إشارة حياة جديدة ويتشبثون بها؛ فهم في كل لحظة مستعدون للمشاركة في انبثاق ما يجب أن يولد.

إن فقدان التمييز بين أمل واع وأمل لا شعوري هو واحد من أكثر الالتباسات الدارجة. ويُرتكب الخطأ نفسه، بالطبع، بالنسبة لكثير من التجارب الانفعالية الأخرى كالسعادة والتلهف والضجر والاكتئاب أو الحقد. وممَّا يدعو إلى الدهشة أن يكون مفهوم اللاشعور، على الرغم من شهرة نظريات فرويد، قليل التطبيق إلى هذا الحد على مثل هذه الظواهر الانفعالية. قد يكون هناك سببان رئيسيان لذلك. الأول هو أن ظاهرة اللاشعور كلها (إذن الكبت) ذات صلة، في كتابات بعض المحللين النفسانيين وبعض "فلاسفة التحليل النفسي" بالرغبات الجنسية، فهم يستعملون الكبت بصورة خاطئة: كأنه مرادف لقمع التمنيات والنشاطات الجنسية. فينزعون عندئذ من مكتشفات فرويد عدداً من أهم نتائجها. أما السبب الثاني فيكمن على الأرجح في أن الوعي بالرغبات الجنسية المكبوتة أقل إثارة بالنسبة لأجيال ما بعد العصر الفكتوري من تجارب مثل الاستلاب واليأس والجشع. هكذا فإن أغلب الناس لا يعترفون بمشاعرهم في الخوف والضجر والوحدة واليأس، أي أنهم لا يعونها[9]. وهذا لسبب بسيط، وهو: ان مخططنا الاجتماعي يفترض بالرجل الذي يصل إلى مبتغاه أن لا يخشى من السأم ولا من أن يكون وحده. فعليه أن ينظر إلى هذا العالم كأنه الأفضل؛ ولتكون لديه فرص أكثر للارتقاء الاجتماعي، يحب أن يكبت الخوف بقدر ما يكبت الشك ويكبت السأم بقدر ما يكبت اليأس، في حين أنها، لا شعورياً، تكون يائسة؛ والعكس يمثل الاستثناء. فالمهم في بحث الأمل واليأس، ليس ما يفكره الناس، بصورة أساسية، في عواطفهم ولكنه ما يحسّون به حقيقة. إذ يمكن من خلف الكلمات والجمل التي يتلفظون بها، كشف شعورهم الحقيقي، من تعبير الوجه، ومن طريقة المشي ومن القدرة على رد الفعل، باهتمام، تجاه ما يكون أمام أعينهم ومن غياب التعصب الذي يدللون عليه عندما تقدم لهم برهنة معقولة.

إن وجهة النظر الديناميكية المطبقة، في هذا الكتاب، على الظواهر النفسية - الاجتماعية تختلف اختلافاً أساسياً عن التناول الوصفي السلوكي لأكثر أبحاث العلوم الإنسانية. فبوجهة نظر ديناميكية لا نسعى بصورة أساسية إلى معرفة ما يفكر فيه شخص ما أو يقوله أو كذلك كيف يسلك الآن. إنما نحن معنيون ببنيته الطبيعية، أي بالبنية نصف الدائمة لطاقاته، وبالاتجاهات التي تُغنى فيها هذه الطاقات وبالشدة التي تظهر فيها. ولو كنا نعرف القوى المحركة التي تعلّل السلوك لأدركنا، ليس التصرف الحاضر فحسب وإنما لأمكننا كذلك عمل فرضيات معقولة حول الطريقة التي قد يتصرف بها شخص ما في ظروف جديدة. ففي احتمال ديناميكي يمكن للـ "تغيرات" المفاجئة في تفكير أو تصرف شخص ما، أن تكون متوقعة، على الجملة، على شرط معرفة بنيته الطبيعية.

يمكننا أن نتكلم طويلاً عما لا يكونه الأمل، ولكن الأجدر بنا أن نعزم فنتساءل عما يكون. فهل تستطيع الكلمات حقاً وصف الأمل أو أنه لا يمكن الإطلاع عليه إلا بقصيدة، بأغنية، بإشارة، بتعبير من الوجه أو بفعل؟

إن الكلمات أقل من أن تكفي لوصف تجربة إنسانية بل غالباً ما تزيدها غموضاً، تشرَّحها وتقتلها. وهكذا عندما يدور الكلام عن الحب، أو الحقد أو الأمل ينتهي بأن يفقد التماس مع ما افترض انه موضوع الكلام. إن الشعر والموسيقى وأشكال الفن الأخرى هي، من بعد، أفضل الوسائل الملائمة لتصوير تجربة إنسانية لأنها دقيقة وتتجنب التجريد وضبابية الكليشيهات التي تكون التصورات المشتركة للتجربة الإنسانية.

قد لا يكون من المستحيل، مع كافة هذه التحفظات، أن نرسم خطوطاً أولى للتجربة المحسوسة بكلمات ليست تلك التي يستخدمها الشعر. إن وصف التجربة يعني تبيان مختلف وجوهها، وعليه إقامة حوار يعرف فيه الكاتب والقارئ أنهما يرجعان إلى الشيء نفسه. وإنني لأطلب من القارئ، وأنا أقوم بهذه المحاولة، أن يشارك في جهدي وأن لا ينتظر مني أن أجيب على سؤال: ما هو الأمل؟ فلا بد لي من أن أطلب إليه تعبئة تجاربه الخاصة لجعل حوارنا ممكناً.

إن فعل أمَّل هو حالة من الوجود. إنها حيوية داخلية، حيوية الفعالية[10]الشديدة الموجودة بالقوة[11]. ويرتكز مفهوم "الفعالية" على واحد من أكثر الأوهام الإنسانية انتشارا في المجتمع الصناعي الحديث. فحضارتنا كلها متمحورة على الفعالية، فعالية بمعنى أن يكون مشغولاً وأن يكون مشغولاً بمعنى الانهماك (الانهماك الضروري في سبيل الآمال). والواقع أن أكثرية الناس هم "نشيطون" إلى حد أنهم لا يستطيعون تحمل عدم القيام بأي شيء. فهم يحولون حتى ما يُزعم انه أوقات فراغهم إلى شكل آخر من الفعالية. فإذا لم تكن منهمكاً في كسب المال فإنك منشغل في الارتحال أو في لعب الجولف أو بكل بساطة في الثرثرة حول كل شيء ولا شيء. وأكثر ما يخشاه المرء هو اللحظة التي لا يكون له فيها حقيقة ما يفعله. وتسمية هذا التصرف بالــــ "فعالية" هي مسألة مصطلح، وأكثر الناس الذين يظنون أنفسهم نشيطين جداً، ليسوا، للأسف، واعين بسبب من أنهم شديدو السلبية على الرغم من انهماكهم. فهم بحاجة على الدوام لحافز خارجي، سواء أكان ذلك يعني ثرثرة الآخرين أو السينما أو السفر أو أشكالاً أخرى من الإثارات الأبعث على الخفقان. إنهم بحاجة للتحريض، "لدفعهم إلى المباشرة"، بحاجة إلى أن ُيوسوَس لهم وان ُيغوَوا. يركضون دائماً ولا يتوقفون أبداً. ويحسبون أنفسهم في غاية النشاط على حين يحركهم وسواس القيام بعمل أي شيء لكي يفروا من الغمّ الذي ينبعث عندما يكونون في مواجهة أنفسهم.

إن الأمل هو مقوّ نفسي للحياة وللتطور. إذا كانت الشجرة التي لا تحصل على الشمس تتوجه شطر الجهة التي يأتي منها النور، فلا يمكننا القول بأن الشجرة "تأمل بالطريقة التي يأمل بها الإنسان إذ أن الأمل لا يمكن أن يكون مرتبطاً بما لا تملكه الشجرة: بالعواطف والوعي. ومع ذلك لا يمكن أن يكون خطأ إذا قلنا ان الشجرة تأمل في الشمس وأنها تفصح عن هذا الأمل بتوجيه جذعها نحو النور. فهل هذا يختلف عن الطفل مع ذلك على حاجته للتنفس بنفسه وعن أمله في أن يعيش. أليست الرضاعة اندفاعاً نحو ثدي الأم؟ ألا يأمل الوليد الوقوف والمشي؟ والمريض، ألا يأمل أن يكون في صحة جيدة، والسجين بأن يكون طليقاً، والجائع بأن يشبع؟ ألا يكون لدينا الأمل في الغد عندما ننام؟ وفعل أحب ألا ينطوي على أمل الرجل في قوته وقي قدرته على إيقاظ شريكته وأمل المرأة في مبادلته ذلك وفي إيقاظه بدورها؟


3- الإيمان
عندما يكون الأمل قد اختفى، لا يبقى للحياة من معنى، حالياً، وتقديراً. فالأمل هو عنصر باطني في الحياة وفي ديناميكية الفكر. وثمة عنصر آخر في البنية الحيوية، ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً: هو الأيمان. وهو ليس شكلاً داخلياً للاعتقاد وللمعرفة؛ إذ أن الإيمان في هذا أو في ذاك ليس موجوداً. فإيمان المرء هو أن يكون مقتنعاً بما لم يبرهن عليه بعد، هو أن تكون له معرفة بالواقع الممكن والوعي بما هو مثمر. إن الإيمان يكون عقلياً عندما يرتبط بمعرفة الواقع المحقق؛ فهو يستند على إمكانية إدراك ومعرفة الأساس فيما وراء المظاهر. والإيمان كالأمل ليس رؤية المستقبل، بل رؤية "الـحاضر" الذي سيولد.

إن القول بأن الإيمان هو يقين يستتبع بعض التحفظات يعني اليقين بحقيقة الشيء الممكنة وليس اليقين بمعنى تنبؤ أكيد. فالطفل يمكن أن يكون مولوداً ميتاً، وأن يموت وهو يولد، ويمكن أن يموت في الأسبوعين الأولين من وجوده. وها هنا هي مفارقة الإيمان: اليقين بغير المؤكد[12]. والمقصود هو اليقين في حدود الإدراك والرؤية الإنسانيين لا اليقين في حدود نهاية حقيقية الواقع. فلسنا بحاجة إلى الإيمان من أجل ما يكون متوقعاً علمياً، ولا يمكن أن يكون ثمة إيمان من أجل ما يكون مستحيلاً. إن الإيمان مبنيّ على استعدادنا لأن نعيش ولأن نتحول. فإيماني بتغير الآخرين يكون نتيجة ما لدي من تجربة في قدرتي على أن أتغير[13].

يجب أن نفرق تفريقاً هاماً بين الأيمان العقلي والأيمان اللامعقول[14]. فعلى حين أن الأيمان العقلي هو نتيجة فعالية داخلية لفكرنا وعاطفتنا فإن الأيمان اللامعقول هو خضوع لشيء ما محدد يُقبل كأنه حقيقي، دون الاهتمام بمعرفة ما إذا كان ذلك كذلك أم لا. إن العنصر الأساسي لكل إيمان لا عقلي هو خاصيته السلبية، سواء أكان موضوعه صنماً أو زعيماً أو أيديولوجية. فحتى رجل العلم بحاجة لأن يكون متحرراً من الإيمان اللاعقلي في الأفكار التقليدية لكي يملك إيمان العقلي في قدرة فكره المبدع. وعندما يكون اكتشافه "محققاً" لا يبقى بحاجة إلى الإيمان، إذا لم يكن ذلك من أجل الخطوة القادمة التي يفكر بإجرائها. ففي دائرة العلاقات البشرية يعني "إيمان المرء" بشخص آخر أن يكون على يقين من "عواطفه العميقة"، أي من ثبات واستقرار مواقفه الأساسية. ونستطيع بنفس الرجع أن نؤمن بأنفسنا، ليس في دوام آرائنا وإنما في موقفنا الأساسي تجاه الحياة، أصل البنية الطبيعية. ومثل هذا الأيمان يكون خاضعاً لتجربة الأنا، لقدراتنا على القول، شرعاً "أنا" وبمعنى تماثلنا.

إن الأمل يتكافأ مع الإيمان. فلا يمكن للإيمان أن يدوم دون نزوع طبعي إلى الأمل. ولا يمكن أن يكون للأمل من أساس آخر إلا في الأيمان.


4- قوة الروح
ما يزال هناك عنصر آخر متعلقاً بالأمل وبالإيمان في البنية الحيوية: هو الشجاعة أو كما يسميه سبينوزا قوة الروح [15]. ولعل عبارة قوة الروح تكون أقل غموضاً لأن كلمة "شجاعة" كثيراً ما تستعمل في وصف الشجاعة في الموت أكثر من وصف الشجاعة في الحياة. فقوة الروح هي القدرة على مقاومة إغراء المخاطرة بالأمل والأيمان اللذين إذا ما تحولا إلى تفاؤل فارغ أو إلى إيمان لا عقلي يمكن أن يتحطما. وقوة الروح هي القدرة على القول "لا" عندما يرغب جميع الناس في سماعك تقول "نعم".

لكن مفهوم قوة الروح ليس واضحا تمام الوضوح إذا لم ننوه بوجه آخر له، هو: البسالة. والبسالة لا تهاب لا من التهديدات ولا من الموت. إلا أن كلمة "باسل" تنطبق، كما يحدث كثيراً، على عدة مواقف مختلفة. سأذكر أهم ثلاثة فحسب: أولا قد يكون شخص ما باسلاً لأنه لا يكترث بالحياة، ونتيجة لذلك يكون باسلاً في وجه الخطر؛ ولكن، في حين أنه لا يخشى الموت من الممكن جداً أن يخاف الحياة. وهذا الشخص لا يبقى باسلاً عندما لا يجد نفسه في وضع يجازف فيه بحياته. إذ أنه، عمليا، يبحث عن المواقف الخطرة للهرب من خوفه من الحياة ومن نفسه ومن الآخرين.

والشكل الثاني للبسالة هو بسالة الشخص الذي يعيش في حالة خضوع تكافلي (symbiotic) لمعبود سواء أكان شخصا أو مؤسسة أو فكرة؛ إن وصايا المعبود تكون مقدسة؛ فهي مجبرة أكثر كثيراً حتى من ضرورات المحافظة على الجسد. ولو كان في وسعه مخالفة وصايا المعبود أو الشك فيها لأمكنه مجابهة خطر فقدان مطابقته للمعبود. وهذا يعني أنه يتعرض لخطر إيجاد نفسه من جديد منفرداً غاية الانفراد، وإذن، على شفا الجنون. وحينئذ قد يصبح الموت، مما يتمناه، أكثر من هذا الخطر.

أما الشكل الثالث للبسالة فهو بسالة الشخص المتطور، كلية، المطمئن والذي يحب الحياة، فالشخص الذي تغلب على الجشع ولم يعد يتشبث بأي معبود ولا بأي موضوع وبالتالي لا يملك شيئا يجب أن يفقده: إنه غني لأنه مجرد وهو قوي لأنه لم يعد عبداً لرغباته. يستطيع أن يطرح الأصنام والرغبات اللامعقولة والهلوسات لأنه على تلاؤم تام مع الواقع، في داخل نفسه وخارجها. فلو أن شخصاً كهذا الشخص قد بلغ "صحواً" كاملا فلن يعرف بعدها الخوف. ولن تكون بسالته تامة إذا هو اتجه نحو هذا الهدف دون بلوغه. وكل شخص، مع ذلك، يميل نحو هذه الحالة التي يكون فيها هو ذاته على وجه تام، يعلم أن شعوراً من القوة والفرح، في كل خطوة جديدة تُسلك إليها، يستيقظ ولا يدع مجالا لأي شك. ويحسّ بأن مرحلة جديدة من حياته قد بدأت. ويستطيع الشعور بحقيقة أقوال غوته: "لقد بنيت بيتي على لا شيء لذلك فإن العالم بأكمله هو ملكي".

إن الأمل والإيمان، بوصفهما صفتين جوهريتين للحياة، يوجهان، بطبيعتهما نفسها، نحو سمو مفارق للحالة الراهنة سواء أكانت فردية أم اجتماعية. ذلك أن التغيير وعدم البقاء أبداً على نفس المنوال في أية لحظة [16] هما صفة من الصفات الخاصة بكل حياة. إذ أن الحياة التي تركد، تميل نحو الموت، وإذا كان الركود تاماً فإنه يكون الموت. وينتج عن ذلك أن الحياة، بخاصيتها الحركية، تنزع إلى التخلُّص من الحالة الراهنة والتغلب عليها. فإننا نصبح أقوى أو أضعف، أعقل أو أكثر جنوناً، أشجع أو أكثر جبناً. كل ثانية هي ثانية في فرار، من أجل الأفضل أو الأسوأ. فإما أننا نغذي كسلنا، جشعنا وحقدنا أو أننا نجوِّعها. وكلما غذيناها كلما غدت قوية؛ وإذا نحن جوَّعناها أصبحت ضعيفة.

وما يكون صحيحاً عن الفرد هو صحيح عن المجتمع. فهو ليس سكونياً أبداً، وإذا لم يتطور، فإنه يؤول إلى الزوال؛ وإذا لم يتجاوز الحالة الراهنة من أجل الأفضل فإنه يتغير من اجل الأسوأ. وغالباً ما يتوهم الفرد أو الناس الذين يشكلون مجتمعاً، بأنهم يستطيعون البقاء ثابتين، ولا يعدلون وضعاً ما إلى هذا الاتجاه أو إلى غيره. وعلى هذا فإننا إذا تسمرنا حيث نحن فإنه يعني أننا نبدأ في الانحطاط.


5- البعث
يسمح لنا مفهوم التحوّل الشخصي أو الاجتماعي بإعادة تعريف كلمة "بعث"، بل هو يجبرنا على ذلك، دون أي رجوع إلى مضامينها اللاهوتية المسيحية. فكلمة بعث في معناها الجديد، الذي قد يكون المدلول المسيحي أحد تعابيره الرمزية الممكنة، ليست خلقا لواقع آخر، مفارق لواقع هذه الحياة: ولكنها تحويل لهذه الحقيقة الواقعة في اتجاه ديناميكية أعظم. إن الإنسان والمجتمع يبعثان في كل لحظة في فعل الأمل والإيمان، هنا والآن؛ فكل فعل حب وتيقظ وحنو هو بعث؛ وكل فعل كسل وجشع وأنانية هو موت. إن الوجود يواجهنا في كل لحظة بالتخيير بين البعث والموت؛ ونحن نستجيب لذلك في كل لحظة. وهذه الاستجابة لا تكمن فيما نقوله أو نفكره؛ وإنما تتعلق بما نكون وبالطريقة التي نتصرف بها وبالهدف الذي يواصل السير إليه.


6- الأمل المخلِّص
لقد وجد كل من الإيمان والأمل وهذا البعث الدنيوي تعبيره الكلاسيكي في رؤيا الأنبياء المخلِّصة. وهؤلاء لا يتصدرون المستقبل كأنهم كسَّاندر[17] أو كأنهم جوقة في المأساة اليونانية؛ إنهم يمعنون النظر في الواقع الحاضر الذي يستخلص من عينيات من الرأي العام ومن السلطة. وهم لا يشاءون لأنفسهم أن يكونوا أنبياء ولكنهم يشعرون انهم مضطرون للإفصاح عن صوت ضميرهم، وعن "معرفتهم معه"، وإلى القول عن الإمكانيات التي يستشفونها وإلى أن يبينوا للناس مختلف الاختيارات وأن يحذروهم أخيراً. فها هنا كل مبتغاهم. وللناس الأمر في الاهتمام بإنذاراتهم وتغيير طريقهم أو البقاء صماً وعمياً، وأن يتألموا. ذلك أن اللغة النبوية تكون دائماً لغة الخيار والانتخاب والحرية؛ فهي ليست أبداً لغة الحتمية من أجل الأفضل ومن أجل الأسوأ. وأقصر صياغة للخيارية النبوية هي هذه الآية لدوتيرونوم: "إنني أقدم لكم اليوم الحياة والموت، وإنكم لتختارون الحياة!" [18].

كانت الرؤيا المخلِّصة، في الآداب النبوية، ترتكز على التوتر بين "ما كان يوجد أو يكن وبين ما كان في صيرورة ولكنه يبقى للتحقيق" [19]. إن فكرة الخلاص، في الحقبة اللاحقة لعصر النبوة، تغير معناها في كتاب دانيال حوالي عام 164 ق. م. وفيما خلفه مجهولون من الأدب المنقوش الذي لم يدرج في العهد القديم. هنا الأدب يحتوي على فكرة "عمودية" من الخلاص في مقابل فكرة الأنبياء الـ "أفقية"[20] تاريخيا. فقد أكّد على تحويل الفرد، وفي نطاق واسع على النهاية الفاجعة للتاريخ التي تقع بكارثة نهائية. وهذه الرواية القيامية ليست رواية التخييرات وإنما رواية التنبؤ، وهي ليست رواية الحرية بل رواية الحتمية.

إن الرؤيا النبوية الخيارية الأولية تنتصر في التقاليد التلمودية والربانية اللاحقة. وفكرة المسيحيين الأوائل متأثرة تأثراً أقوى برواية الفكرة المسانية القيامية، على الرغم من أن الكنيسة بصورة مناقضة، تعسكر بوصفها مؤسسة، في انتظار سلبي.

بيد أن الفكرة النبوية في مفهوم الـ "مجيء الثاني" قد ظلت حيَّة؛ وقد وجد التفسير النبوي للإيمان المسيحي، في مرات عديدة تعبيره في طوائف ثورية و"هرطوقية"؛ ويُبدي جناح الكنيسة الكاثوليكية الرومانية الراديكالي كما تبدي عقائد مسيحية مختلفة غير كاثوليكية، عودة صريحة إلى المبدأ النبوي، سواء إلى خياريته أم إلى المفهوم الذي يجب، وفقاً له، أن تطبق الأغراض الروحية على السياق السياسي والاجتماعي.

خارج الكنيسة، كانت الاشتراكية الماركسية الأولية، التعبير الأكثر دلالة عن الرؤيا المسيانية[21]، موضحة بلغة علمانية؛ ثم أفسدها وهدمها الانحراف الشيوعي في رسالة ماركس. وقد عثر العنصر المسياني في الماركسية على صوت يتحدث باسمه لدى اشتراكيين إنسانيين عديدين، وعلى الأخص في يوغوسلافيا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا. فالماركسيون والمسيحيون قد ابتدأوا حوارا على المستوى العالمي، مستنداً إلى تراث مسّياني مشترك[22].


7- انهيار الأمل
إذا كان الأمل والإيمان وقوة الروح ضرورية للحياة فكيف جرى أن يكون أولئك الذين فقدوا الأمل والإيمان وقوة الروح والذين يحبون عبوديتهم وتبعيتهم، عديدين إلى هذا الحد؟ إن هذه الإمكانية من الضياع هي بالذات التي تكون مميزة للوجود البشري. فنحن نُحبى، في المنطلق، بالأمل والإيمان وقوة الروح، وهي صفات لا شعورية "دون فكرة" من المنَيّ ومن البيضة، من اتحادهما، من نمو الجنين ومن إتمامه. ولكن التقلُّبات المترتبة على البيئة وعلى المصادفة تأخذ منذ بداية الحياة، في تيسير أو إعاقة الأمل الكامن.

لقد أمَّل أكثرنا في أن يكونوا محبوبين ليس فحسب من أجل تغنيجهم وتغذيتهم وإنما لكي يُفْهَمُوا ويُهتَم بهم ويُحتَرموا. وأملَّ أكثرنا في القدرة على كسب الثقة. وعندما نكون أطفالاً، لا نكون قد عرفنا بعد الابتكار البشري للكذب، ليس فحسب الكذب في الكلام وإنما كذلك الكذب في الأداء والحركات والعيون وتعبير الوجه. فكيف يمكن أن يكون الطفل مُعّداً لهذا الابتكار البشري بنوع خاص الذي هو الكذب؟ إننا، جميعنا، وعينا بعضنا بصورة أعنف من بعض، بأن الناس لا يعتقدون بما يقولون أو أنهم يقولون عكس ما يعتقدون. وليس فحسب "الناس"، وإنما بالذات أولئك الذين نثق بهم أنفسهم: أقاربنا، أساتذتنا، قادتنا.

قليلون جداً، هم الذين ينجون، في لحظة من لحظات تطورهم، من حتمية رؤيتهم لخيبة فكرهم، أو أحياناً لانهياره تماماً. فهل يمكن أن يكون ذلك حسناً؟ فإذا كان الرجل لم يجرب خيبة الأمل هذه، فكيف لأمله أن يصبح أقوى وأكثر لا محدودية، كيف يمكنه تجنب الخطر في أن يصبح حالماً متفائلاً. ولكن الأمل، غالباً ما يكون فضلا عن ذلك، قد زعزع إلى حد عميق بحيث يخشى من عدم العثور عليه أبداً.

الواقع أن الأجوبة وردود الفعل على انهيار الأمل تتنوع كثيراً وتتعلق بالظروف المختلفة: تاريخية وشخصية وبسيكولوجية وبنيوية. فجميع الناس تقريباً يستجيبون لخيبة آمالهم بالتكيّف مع تفاؤلية معتدلة؛ ومن لهم أمل جيد هم الذين يعلنون هذه التفاؤلية دون أن يتكلفوا عناء التحقق من أن ما سيقع ليس حتى الأفضل بل قد يكون الأسوأ. فالناس يصفرون ما إن يصفر أحدهم، وبدلاً من أن يعوا يأسهم، يبدون وكأنهم يساهمون في مهرجان شعبي.

فهم يلائمون مقتضياتهم مع ما يستطيعون الحصول عليه ولا يحلمون حتى بما يبدو خارج متناولهم. وكعناصر متآلفة تمام التآلف في القطيع، لا يشعرون أبداً أنهم يائسون لأن ما من أحد آخر يبدو أنه يحس باليأس. إنهم صورة لنمط من التفاؤلية الانقيادية يمكننا التحقق منها في المجتمع الغربي المعاصر، باعتبار أن التفاؤلية تكون واعية في المعتاد والانقياد اللاشعوري.

وثمة نتيجة أخرى لانهيار الأمل هي: "تقسية القلب". فكثير من الناس، شباب جانحون أو بالغون ساخطون، لم يعودوا يتحملون، في لحظة من لحظات حياتهم، أن ُيهانوا. بعضهم قرروا، في حالة فجائية أو تحت تأثير نوبة ما، بأنهم ملًوا من ذلك وأنهم لن يحسوا شيئاً بعد في المستقبل. وما من شخص قد يكون قادراً أبداً على إهانتهم على حين يكونون قادرين على الإساءة إلى الآخرين. هؤلاء الناس في وسعهم أن يشتكوا سوء حظهم لعدم عثورهم على صداقة أو على حب ولكن ذلك ليس نقصاناً في الحظ بل هذا هو في الواقع قدرهم. إنهم لا يؤثرون في مشاعر أحد إذ فقدوا الشفقة ومعرفة الغير، وليس في وسعهم مزيد من الانفعال. ونجاحهم الباهر في الحياة هو في عدم حاجتهم لأحد. وهم فخورون بأن جانبهم لا يُمَسّ، وراضون عن اقتدارهم على الإساءة بصورة شرعية أو إجرامياً، بدلالة عوامل اجتماعية أكثر منها بسيكولوجية. ويظل أكثرهم، إذا صح القول، مجمدين، وبالتالي تعساء حتى آخر حياتهم، وكثيراً ما يبدأ، وبمعجزة، ذوبان الجليد. فقد يعني ذلك، ببساطة، الالتقاء بشخص يهتم بهم، يشعر انهم متعلقون به وأنهم يثقون فيه: عندئذ ينفتحون على أبعاد من المشاعر جديدة. وإذا واتاهم الحظ تذوب ثلوجهم تماماً ثم إذا ببذور الرجاء التي كانت تبدو قد أتلفت، تورق فجأة.

كذلك هناك نتيجة أخرى أشد خطراً لانهيار الأمل، هي النزعة إلى الهدم وإلى العنف. تماماً لأن البشر لا يستطيعون العيش بلا أمل، إذ أن من انهار أمله يكره الحياة. وبما أنه لم يعد يستطيع توليد الحياة فيجب عليه أن يهدمها وهو أمر يكون إنجازه أسهل، حقيقة، من معجزة. إذ يريد أن يثأر لنفسه عن حياة لم يعشها ولن يبالي بعدئذ بهدم الحيوات الأخرى أو بتحطيم نفسه[23].

نجد رد الفعل الهدمي الناجم عن انهيار الأمل، عادة، لدى أولئك الذين يُحرمون، لأسباب اقتصادية أو اجتماعية، من امتيازات الأغلبية ولا يعرفون كيف يتوجهون اجتماعياً أو اقتصادياً. إن ما يقود إلى الحقد وإلى العنف ليس، بصفة رئيسية، هو الحرمان من حق اقتصادي؛ فالذي يقود إلى العنف وإلى نزعة الهدم هو الوعود التي تحطم على الدوام ووضع ميئوس منه. وما من شك بأن الجماعات المعدمة والتي تعامل بقسوة بالغة لا تبلغ حتى درجة أن تكون يائسة لأنها لا تملك أية بارقة من أمل. فهي أقل عنفاً من أولئك الذين يلمجون إمكانيات في أن يؤملوا، ولكنهم يتحققون في نفس الوقت من أن أملهم مستحيل. فالنزعة إلى الهدم هي، بلغة بسيكولوجية، البديل للأمل، تماماً كما يكون الموت بديلاً لحب الحياة والفرح بديلاً للغمّ.

إن الفرد ليس هو الوحيد الذي يجب أن يعيش بالأمل. فالأمم والطبقات الاجتماعية تعيش كذلك بالأمل، والإيمان وقوة الروح؛ ولو فقدت هذه الطاقة الكامنة لاختطفت بما يتطور فيها سواء من نقص في الحيوية أم من نزعة إلى الهدم.

ولسوف نلاحظ بأن تنمية الأمل أو اليأس عند الفرد تكون محددة، على مدى واسع، بحضور الأمل أو اليأس في مجتمعه أو في طبقته. وأياً ما كانت الزعزعة التي يتعرض لها أمل الفرد في طفولته، إلا أنه لو عاش في حقبة من الأمل ومن الإيمان لبُعث رجاؤه. وفضلاً عن ذلك فإن الشخص الذي تقوده تجربته إلى الأمل، غالباً ما يكون لديه ميل إلى الاكتئاب وإلى اليأس إذا لم يبق للمجتمع أو للطبقة اللذين ينتمي لأحدهما من أمل.

منذ مطلع الحرب العالمية الأولى، وربما بصفة أخص في أمريكا، منذ سقوط الرابطة المعادية للإمبريالية في نهاية القرن الماضي يميل الأمل بسرعة متزايدة إلى الاختفاء في العالم الغربي. فقد قلت منذ قليل بأن اليأس يختفي وراء قناع التفاؤلية وأحياناً في ثوب العدمية الثورية. إن ما يستطيع رجل التفكير فيه، إذن، من نفسه، يكون قليل الأهمية بالمقارنة مع ما يكونه ومع ما يحسّه صدقاً؛ ولكن أكثرنا ليسوا واعين بما يحسون.

إن دلائل اليأس هي جميعها هنالك. انظروا التعبير الضجر لدى الفرد المتوسط، فقدان الاتصال بين الناس حتى عندما يحاولون، بصورة يائسة "إقامة الاتصال". لاحظوا العجز في التخطيط الجدي للتغلب على التلوث المتزايد في مياه المدن وهوائها، ولتدارك المجاعة المتوقعة في البلدان الفقيرة؛ دون الخوض في حديث العجز عن التخلص من الخطر اليومي على الحياة ومصير الجميع، الذي يشكله السلاح الهيدروجيني. وعلى الرغم مما نستطيع قوله عن الأمل فإن قصورنا عن العمل أو التخطيط من أجل أن نحيا يفضح يأسنا.

نحن نجهل، على العموم أسباب هذا اليأس المتزايد. فقبل عام 1914 كان الناس يظنون أن العالم في أمانة، وأن الحروب، اللامبالية بالحياة البشرية، قد أصبحت من التراث الماضي. ومع ذلك حدثت الحرب العالمية الأولى وحرّفت الحكومات أسبابها. ثم جرت الحرب الأهلية الأسبانية، مع مهزلة مزاعمها، سواء من جانب الدول الغربية أم من جانب الاتحاد السوفيتي؛ وبعدها الحرب العالمية الثانية، مصحوبة بازدراء تام للسكان المدنيين؛ وحرب فيتنام التي تحاول الحكومة الأمريكية فيها سحق شعب صغير في سبيل "إنقاذه". غير أنه ما من دولة من الدول الكبيرة قد خطت الخطوة الأولى التي يمكنها أن تمنح الأمل للجميع: التخلص من أسلحتها النووية الخاصة، واثقة في حكمة الدول الأخرى لاقتفاء أثرها.

ما زالت هناك لهذا اليأس المتزايد أسباب أخرى، وبخاصة تكوين مجتمع صناعي تحول إلى بيروقراطية تماماً، وقصور الفرد بازاء التنظيم وهو ما سأتطرق إليه في الفصل القادم.

إذا كانت أمريكا والعالم الغربي يحافظان على حالة من اليأس لا شعورية ومن نقصان الإيمان وقوة الروح فمن المتوقع أن لا يصبحا قادرين على مقاومة الإغراء في إطلاق تفجير نووي هائل يمكنه أن يضع حداً لجميع المشاكل - اكتظاظ بالسكان وضجر وجوع - في الحدود التي قد تزيل كل حياة.

إن التقدم في اتجاه نظام ثقافي واجتماعي حيث يمكن أن ينتمي الإنسان، يتعلق بقدرتنا على تحكمنا بيأسنا. فلا بد لنا بداية من أن نعي ومن ثم البحث بعدئذ إذا كانت توجد إمكانية حقيقية لتغيير حياتنا الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في اتجاه جديد، يتيح لنا أن نؤمّل من جديد. إن الأمل سيكون جنوناً صرفاً إذا كانت إمكانية حقيقية كهذه غير موجودة؛ أما إذا كانت موجودة، فالأمل عندئذ يكون مسوّغاً، ويكون أملاً مبنياً هذه المرة على تقصِّي اختيارات جديدة وعلى بدائل جديدة، كما يكون كذلك مبنياً على أعمال مخططة للسماح بتحقيق هذه البدائل الجديدة.


ترجمة: ذوقان قرقوط

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:21 PM

هوامش إيرك فروم :

[1] كلمة مركبة من عبارتي التقنية والإلكترونية.

[2] مواجهة "المجتمع التقالكتروني" مجلد رقم 1 (يناير 1968ص 19).

[3] في التقنية أو مجازفة العصر، مكتبة أ. كولان (1954).

[4] أسطورة الآلة: لويس مومفورد (نيويورك، هاركور، ترايس اند ورلد، 1966).

[5] مثل في "الخوف من الحرية"، وكذلك في "المجتمع الصحيح".

[6] في الأسبانية تعني كلمة أمّل (esperar) انتظر (attendre) وأمِّل (esperer) في آن واحد ومن الواضح أن لها علاقة بهذا الأمل السلبي الذي أحاول وصفه هنا.

[7] إن المفهوم الستاليني الذي يقرر التاريخ وفقاً له فيما يكون صحيحاً أو خطأ، جيداً أو سيئاً هو الاستثمار المباشر لوثنية المستقبل لدى روبسبير. فهو على طرفي نقيض مع وضع ماركس الذي كان يقول: "فالتاريخ ليس شيئاً. ذلك أن الإنسان هو الموجود وهو الذي يفعل". كما كتب ماركس في قضية فيورباخ ما يلي: "إن المذهب المادي الذي يرى بأن الناس هم نتاج الظروف والتربية، وأنهم إذ يغيرون الظروف وإن المربي نفسه بحاجة لأن يكون متربيا"ً.

[8] في "غريزة الحب والحضارة" وفي "الإنسان ذي البعد الواحد" لهربرت ماركيوز، ينفجر يأس كهذا اليأس في وضح النهار. إن جميع القيم التقليدية كالحنان والحب والقلق والمسؤولية لا يمكن أن يكون لها معنى في مجتمع ما قبل التكنولوجيا. أما في المجتمع التكنولوجي (مجتمع بدون قمع وبدون استغلال) فسيأتي إنسان لا يكون لديه ما يخشاه حتى الموت، إنسان سينُمي حاجات ما تزال غير محددة بعد وسيملك الفرصة لإرضاء "نوازعه الجنسية متعددة الأشكال".(أحيل القارئ إلى الدراسات الثلاث في نظرية الجنسية لفرويد). وبالاختصار، ينظر إلى تقدم الإنسان النهائي ارتداد إلى مستوى الحياة الطفولية، عودة إلى سعادة الرضيع المشبع. فليس عجيباً أن ينتهي ماركيوز إلى اليأس: "إن النظرية الحرجة في المجتمع لا تملك من المفاهيم ما يتيح اجتياز الفارق بين الحاضر والمستقبل؛ وهي لا تجزي وعوداً؛ ولم تنجح؛ فقد ظلت سلبية. وفي مكنتها أن تبقى هكذا أمينة تجاه أولئك الذين، بلا أمل، قد أعطوا ويعطون حياتهم للرفض العظيم" (الإنسان ذو البعد الواحد، ص 281).

هذه الأقوال تظهر إلى أي مدى يخطئ أولئك الذين يهاجمون أو يعجبون بماركيوز بوصفه أستاذا ثورياً؛ إذ أن الثورة لم تبن قط على اليأس، ولا يمكن أن تكون كذلك أبداً. لكن ماركيوز ليس مهتماً حتى بالسياسة؛ فإذا لم يشعر المرء أنه متعلق بالتحولات بين الحاضر والمستقبل، فإنه لا يبحث في السياسة، أية كانت، راديكالية أم غير ذلك. وماركيوز هو بصورة أساسية، مثل للمثقف المحروم الذي حوًل يأسه الشخصي إلى نظرية راديكالية. وسيشكل النقص في إدراكه وإلى حد ما في معرفته بفرويد، جسراً، للأسف، يتيح له التحرك لإجراء التركيب بين الفروجية والمادية البرجوازية والهيجيلية المهذبة التي تتشكل بالنسبة له، على ما يبدو، وبالنسبة لـــ"راديكاليين" آخرين، من نفس الاتجاه الفكري، المرتقى النظري الأكثر تقدماً. ولا مجال هنا للبيان بالتفصيل على أن ذلك يعني حلم يقظة، ساذجاً، ودماغياً ولا معقولا، لاواقعياً ومجرداً من الحب للحياة.

[9] بودي أن ألفت النظر إلى أن الكلام عن "اللاشعورر" يكوّن شكلاً آخر من الفكر ومن اللغة المختلّين. فلا يوجد شيء شبيه بعضو أو بشيء في المكان يمكن أن نسميه بــــ "اللاشعور" بالحوادث الخارجية والداخلية؛ المقصود إذن هو وظيفة نفسية وليس عضواً متموضعاً.

[10] كما تشير الملاحظة التالية يفرق المؤلف بين (activity)، حيوية، فعالية، نشاط وبين (activiness) مفعم بالنشاط والحيوية. وسوف نجد نفس التفريق بين (passivity) سلبية و (passiveness).

[11] أدين باستعمال عبارة activiness (بدلا من العبارة المعتادة activity) إلى اتصال شخصي بميخائيل ماكوبي. كذلك فإني أستخدم عبارة (passiveness) بدلا من عبارة (passivity) في النطاق الذي يكون فيه لكلمة (passiveness) و (activiness) علاقة بموقف أو بحالة عقلية.

وقد تكلمت عن مشكلة الفعالية والسلبية بالعلاقة، خاصة، مع التوجيه الإنتاجي في عدة كتب. وبودي ان الفت انتباه القارئ إلى الدراسة الرائعة والمتينة للفعالية والسلبية في كتاب (Metamorphosis) "الانمساخ" لأرنست شاشتيل (نيويورك: بازيك بوك 1959).

[12] في العبرية تعني كلمة "إيمان" كلمة يقين، وآمين (Amen) تعني بكل تأكيد.

[13] الحاجة إلى اليقين سنبحثها في الفصل الثالث.

[14] سوف نناقش مدلول "عقلاني" و "لاعقلاني" في الفصل الرابع.

[15]ملاحظة المترجم: أخلاق سبينوزا، الطبعة الكلاسيكية، غارنيير 153 ترجمة شارل أبوّهن الفصل الثالث، شرح القضية 59.

[16] لا مجال للبحث في تعريفات الحياة العضوية والمادية اللاعضوية ولا في الحدود بينهما. إن التفريقات التقليدية من وجهة نظر البيولوجيا وعلم الوراثة الحاليين، قد وضعت بالتأكيد موضع التساؤل. ولكن قد يكون من الخطأ الافتراض بأن هذه التفريقات قد فقدت صالحها؛ فهي بحاجة إلى التمحيص أكثر من حاجتها إلى الاستبدال.

[17] Cassandreابنة بريام وهيكوب منحها أبوللون موهبة التنبؤ بالمستقبل، ورسم الله بأن لا يصدق تنبؤاتها أحد. وبسقوط طروادة التي تنبأت به عبثاً دون أن يصدقها أحد أصبحت عبدة لآغا ممنون وما كادت تصل إلى اليونان حتى قتلت. وسار اسمها مضرب المثل على بعد البصيرة التي لا تلاقي غير الشك.

[18] لقد بحثت في طبيعة الخيارية النبوية بصورة مفصلة في كتابي You shall be as Gods (New York: Holt, Rienhart and winsion. 1967) انظر كذلك في نفس الكتاب مناقشة الاتجاه الرؤيوي في الفكر اليهودي المَسّياني بالمقارنة مع اتجاه الخيارية الأصلية.

[19] اليهودية والمسيحية: ليوبيك New York: The Jeuish) Leo B**ek

Publication Society of America, 1958) ترجمة وتقديم و. كوفمان.

[20] هذه العبارات استخدمها بيك، المصدر السابق وقد حاول تيلهاود دي شاردان في: مستقبل الإنسان: نيويورك، هاربر و1964 أن يقيم تركيباً من هذه المفاهيم.

[21] المسيانية: تصور قائل بانتظار المسيح.

[22] لقد عثر أرنست بلوخ في كتابه "مبدأ الأمل"، أكثر من أي شخص آخر، على مبدأ الأمل النبوي في الفكر الماركسي. وقد ساهم عدد كبير من الاشتراكيين الإنسانيين المعاصرين في الكتاب الذي طبعه أريك فروم Symposium of Socialist Humanism (نيويورك دوبل دي 1965). انظر كذلك الطبعة الإنكليزية من الصحيفة اليوغسلافية التطبيق والحوار وهي مجلة دولية يصدرها الفوروم ويطبعها ج. نينّينغ تحتوي على تبادل بين الإنسانيين المسيحيين وغير المسيحيين.

إن التأكيد الواسع الانتشار القائل بأن لماركس نظرة حتمية للتاريخ تعني بأن الاشتراكية كانت أمراً لا مفر منه، هو في رأيي غير صحيح. فطابع الحتمية يبدو في بعض جمل ماركس وهو يستمد أصوله من أسلوبه الدعائي والتحريضي المختلط غالباً بأسلوبه التحليل والعلمي. وقد ألحت روزا لوكسمبورغ، ولعلها ألمع مفسرة نظرية لماركس، على وجهة النظر القائمة على الاختيار في صياغة "الاختيار بين الاشتراكية والبربرية".

[23] هذه المشكلة ومشكلة ظواهر أخرى للنزعة إلى الهدم سوف أبحثهما في كتابي القادم: أسباب النزعة البشرية إلى الهدم.


انتهى .


مصدر هذه الصفحات موقع اللوغوس .

أرب جمـال 26 - 7 - 2010 02:49 PM

مشكور جمال على جهدك في نقل الموضوع ويعطيك العافية

جمال جرار 8 - 11 - 2010 01:37 AM

مشكورة أرب على مرورك
سلمت على الرد
تحياتي




نشمي المنتدى


الساعة الآن 01:48 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى