منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب الفتن والملاحم وأشراط الساعة والأمور العظام يوم القيامة-من كتاب البداية والنهاية (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=11313)

B-happy 1 - 11 - 2010 10:12 PM

ذكر شيء من أهوال يوم القيامة

قال الله تعالى : فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية الآيات [ الحاقة : 15 ، 16 ] . وقال تعالى واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب [ ص: 381 ] الآيات [ ق : 41 ] . وقال تعالى : إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما إلى قوله : فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا [ المزمل : 12 - 18 ] .

وقال تعالى : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم الآية [ يونس : 45 ] . وقال تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا الآيات إلى قوله : ولا يظلم ربك أحدا [ الكهف : 47 - 49 ] .

وقال تعالى : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون إلى آخر السورة [ الزمر : 67 - 75 ] . وقال تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون الآيات إلى قوله آخر السورة : إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون [ المؤمنون : 110 - 111 ] . وقال تعالى : يوم تكون السماء كالمهل الآيات إلى قوله : وجمع فأوعى [ المعارج : 8 - 18 ] . وقال تعالى : فإذا جاءت الصاخة إلى آخر السورة [ عبس : 33 - 42 ] . وقال تعالى : فإذا جاءت الطامة الكبرى إلى آخر السورة [ النازعات : 34 - 46 ] .

وقال تعالى : كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا الآيات إلى آخر السورة [ الفجر : 21 - 30 ] . وقال تعالى : هل أتاك حديث الغاشية الآيات إلى قوله : وزرابي مبثوثة [ الغاشية : 1 - 16 ] . وقال تعالى : إذا وقعت الواقعة إلى قوله : هذا نزلهم يوم الدين [ الواقعة : 1 - 56 ] . ذكر فيها سبحانه جزاء كل من هذه الأصناف الثلاثة ، كما ، ذكر ما [ ص: 382 ] يبشرون به عند موتهم واحتضارهم في آخرها ، كأن الإنسان يشاهد ذلك مشاهدة .

وقال تعالى : فتول عنهم يوم يدعو الداع إلى شيء نكر الآيات . وقال في آخرها : بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر إلى آخر السورة [ القمر : 6 - 55 ] .

وقال تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار إلى قوله : إن الله سريع الحساب [ إبراهيم : 48 - 51 ] .

وقال تعالى : رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار إلى قوله : إن الله سريع الحساب وقال بعدها : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع إلى قوله : والله يقضي بالحق [ غافر : 15 - 20 ] .

وقال تعالى : وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا الآيات إلى قوله : فلا يخاف ظلما ولا هضما [ طه : 99 - 111 ] . وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون [ البقرة : 254 ] .

[ ص: 383 ] وقال تعالى : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [ البقرة : 281 ] . وقال تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه الآية . [ آل عمران : 106 ] . وقال تعالى : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة الآية [ آل عمران : 161 ] .

وقال تعالى : ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون [ القصص : 65 ، 66 ] .

وقال تعالى : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين [ المرسلات : 35 - 37 ] .

قال ابن عباس : أي لا ينطقون بحجة تنفعهم . والآيات في أهوال يوم القيامة كثيرة جدا في أكثر سور القرآن ، وقد ذكرنا في كتابنا " التفسير " ما يتعلق بكل آية من الآيات الدالة على صفة يوم القيامة ، ومن الأحاديث والآثار المفسرة ذلك .

فأما قوله : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ الأنعام : 23 ] . وقوله : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون [ المجادلة : 18 ] . فهذا يكون في حال آخر ، كما قال ابن عباس في جواب من سأله عن ذلك ، كما ذكره البخاري عنه .

[ ص: 384 ] وكذلك قوله : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين الآيات إلى قوله : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون [ الصافات : 27 - 75 ] والآيات في ذكر يوم القيامة وأهواله كثيرة جدا ، مثل الآيات التي في آخر سورة " هود " : إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود إلى عطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع [ هود : 103 - 108 ] ، وكذلك سورة عم يتساءلون ، وسورة إذا الشمس كورت ، وسورة إذا السماء انفطرت ، وسورة إذا السماء انشقت ، وسورة " المطففين " بكمالها ، وسورة " المرسلات " ، و " النازعات " ، وسورة هل أتى على الإنسان وسورة والسماء ذات البروج ، وإذا زلزلت ، وآخر " العاديات " ، و " القارعة " ، وآخر ألهاكم التكاثر ، و " الهمزة " .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عبد الله بن بحير الصنعاني القاص ، أن عبد الرحمن بن يزيد الصنعاني أخبره أنه سمع ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين ، فليقرأ إذا الشمس كورت . وإذا السماء انفطرت . وإذا السماء انشقت . وأحسبه أنه قال : " وسورة هود " . وكذا رواه الترمذي ، عن عباس العنبري ، عن عبد الرزاق ، به . ورواه أحمد ، عن إبراهيم بن خالد ، [ ص: 385 ] عن عبد الله بن بحير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، من أهل صنعاء ، وكان أعلم بالحلال والحرام من وهب بن منبه ، عن ابن عمر ، فذكر نحوه . وفي الحديث الآخر في : " شيبتني هود وأخواتها " .

ذكر الأحاديث والأثار الدالة على أهوال يوم القيامة ، وما يكون في ذلك اليوم من الأمور الكبار والشدائد ، وما فيه من المغفرة والرحمة والرضوان ، والجنان والنيران

قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء ، حدثنا نافع أبو غالب الباهلي ، حدثني أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يبعث الناس يوم القيامة والسماء تطش عليهم " . تفرد به أحمد ، وإسناده لا بأس به . وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " تطش عليهم " . احتمالان؟ أحدهما : أن يكون ذلك من المطر; أي تمطر عليهم ، كما يقال : أصابهم طش من مطر . وهو الخفيف منه . والثاني : أن يكون ذلك من شدة الحر ، وهو الأقرب ، والله أعلم . وقد قال الله تعالى : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [ المطففين : 4 - 6 ] . وقد ثبت في [ ص: 386 ] " الصحيح " : أنهم " يقومون في الرشح - أي في العرق - إلى أنصاف آذانهم " . وفي الحديث الآخر : أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم كما تقدم ، وفي حديث الشفاعة ، كما سيأتي ، أن الشمس تدنى من العباد يوم القيامة ، فتكون منهم على مسافة ميل ، فعند ذلك يعرقون بحسب أعمالهم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن ثور ، عن أبي الغيث ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا ، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس ، أو إلى آذانهم " . شك ثور أيهما قال . وكذا رواه مسلم ، عن قتيبة . وأخرجه البخاري ، عن عبد العزيز بن عبد الله ، عن سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد ، عن سالم أبي الغيث ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

[ ص: 387 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا الضحاك بن مخلد ، عن عبد الحميد بن جعفر ، حدثني أبي ، عن سعيد بن عمير الأنصاري ، قال : جلست إلى عبد الله بن عمر ، وأبي سعيد ، فقال أحدهما لصاحبه : أي شيء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه يبلغ العرق من الناس يوم القيامة فقال أحدهما : إلى شحمته . وقال الآخر : يلجمه . فخط ابن عمر ، وأشار أبو عاصم بأصبعه ، من شحمة أذنه إلى فيه ، فقال : ما أرى ذلك إلا سواء . تفرد به أحمد ، وإسناده جيد قوي .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا الحسن بن عيسى ، أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني سليم بن عامر ، حدثني المقداد بن الأسود ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد ، حتى تكون قيد ميل ، أو ميلين " . قال سليم : لا أدري أي الميلين أراد؟ أمسافة الأرض ، أم الميل الذي تكحل به العين ؟ قال : " فتصهرهم الشمس ، فيكونون في العرق بقدر أعمالهم ، فمنهم من يأخذه العرق إلى عقبيه ، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من يأخذه إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجاما " . قال : فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى فيه ، قال : " يلجمه إلجاما " . وكذا رواه [ ص: 388 ] الترمذي ، عن سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، وقال : حسن صحيح .

وأخرجه مسلم ، عن الحكم بن موسى ، عن يحيى بن حمزة ، عن ابن جابر ، به نحوه .

وقال ابن المبارك ، عن مالك بن مغول ، عن عبيد الله بن العيزار ، قال : إن الأقدام يوم القيامة مثل النبل في القرن ، والسعيد الذي يجد لقدمه موضعا يضعهما فيه ، وإن الشمس لتدنى من رءوسهم ، حتى يكون بينها وبين رءوسهم - إما قال : ميلا . أو : ميلين - ويزاد في حرها تسعة وستين ضعفا . وقال الوليد بن مسلم ، عن أبي بكر بن سعيد ، عن مغيث بن سمي ، قال : تركد الشمس فوق رءوسهم على أذرع ، وتفتح أبواب جهنم ، فتهب عليهم رياحها وسمومها ويخرج عليهم نفحاتها ، حتى تجري الأنهار من عرقهم أنتن من الجيف ، والصائمون في جناتهم في ظل العرش .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، [ ص: 389 ] حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا الفضل بن عيسى الرقاشي ، حدثنا محمد بن المنكدر ، عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العرق ليلزم المرء في الموقف حتى يقول : يا رب ، إرسالك بي إلى النار أهون علي مما أجد . وهو يعلم ما فيها من شدة العذاب " . إسناده ضعيف .

وقد ثبت في " الصحيح " عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله - وفي رواية : إلا ظل عرشه - إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، ويحيى بن إسحاق ، قالا : حدثنا ابن لهيعة ، قال : حدثنا خالد بن أبي عمران ، عن القاسم ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتدرون من السابقون إلى ظل الله عز وجل ، يوم القيامة ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم " . تفرد به أحمد ، وإسناده مقارب ، فيه ابن لهيعة وقد تكلموا فيه ، وشيخه ليس بالمشهور .

هذا كله والناس موقوفون في مقام ضنك ضيق حرج شديد صعب ، إلا [ ص: 390 ] على من يسره الله عليه ، فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم الحي القيوم أن يهون علينا ذلك المقام ، وأن يجعله علينا يسيرا بردا وسلاما ، ونعوذ بالله من ضيق يوم القيامة ، اللهم اجعل لنا مخرجا من ذلك ، ونسألك أن توسع علينا في الدنيا والآخرة ، اللهم اجعلنا مع الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، آمين .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا الأصبغ ، هو ابن زيد ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، حدثني ربيعة ، هو ابن عمرو الجرشي الشامي ، قال : سألت عائشة فقلت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من الليل؟ وبم كان يفتتح الصلاة؟ قالت : كان يكبر عشرا ، ويحمد عشرا ، ويهلل عشرا ، ويستغفر عشرا ، ويقول : " اللهم اغفر لي ، واهدني ، وارزقني " . عشرا ، ويقول : " اللهم إني أعوذ بك من الضيق يوم الحساب " . عشرا .

وكذا رواه النسائي في " اليوم والليلة " عن أبي داود الحراني ، عن يزيد بن هارون ، بإسناده مثله ، وعنده : " من ضيق المقام يوم القيامة " .

[ ص: 391 ] وقال ابن أبي الدنيا : حدثني محمد بن قدامة ، حدثني يعقوب بن سلمة الأحمر ، سمعت ابن السماك يقول : سمعت أبا واعظ الزاهد يقول : يخرجون من قبورهم يتسكعون في الظلمات ألف عام ، والأرض يومئذ نار كلها ، وإن أسعد الناس يومئذ من وجد لقدمه موضعا .

وقال أيضا : حدثني هارون بن سفيان ، أخبرنا ابن نفيل ، عن النضر بن عربي قال : بلغني أن الناس إذا خرجوا من قبورهم كان شعارهم لا إله إلا الله ، وكانت أول كلمة يقولها برهم وفاجرهم : ربنا ارحمنا .

وحدثني حمزة بن العباس ، أخبرنا عبد الله بن عثمان ، أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا سفيان ، عن سليمان ، عن أبي صالح ، قال : بلغني أن الناس يحشرون هكذا . ونكس رأسه ، ووضع يده اليمنى على كوعه اليسرى .

وحدثني عصمة بن الفضل ، حدثني يحيى بن يحيى ، عن المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : سمعت سيارا الشامي قال : يخرجون من قبورهم وكلهم مذعورون ، فيناديهم مناد : ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون [ الزخرف : 68 ] . فيطمع فيها الخلق فيتبعها : الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين [ ص: 392 ] [ الزخرف : 69 ] . فييأس منها الخلق غير أهل الإسلام .

وروى من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ، ولا يوم نشورهم ، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم ، ويقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن [ فاطر : 34 ] .

قلت : وله شاهد من القرآن العظيم قال الله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون الآيات إلى قوله : وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ الأنبياء : 101 - 104 ] .

وقال ابن أبي الدنيا : أخبرنا أبو حفص الصفار ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا إبراهيم بن عيسى اليشكري ، قال : بلغنا أن المؤمن إذا بعث من قبره تلقاه ملكان ، مع أحدهما ديباجة فيها برد ومسك ، ومع الآخر كوب من أكواب الجنة فيه شراب ، فإذا خرج من قبره خلط الملك ذلك البرد بالمسك فرشه عليه ، وصب له الآخر شربة فيناوله إياها ، فيشربها فلا يظمأ بعدها أبدا حتى يدخل الجنة .

فأما الأشقياء - والعياذ بالله - فقال الله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون [ ص: 393 ] [ الزخرف : 36 - 39 ] .

وذكرنا في " التفسير " أن الكافر إذا قام من قبره أخذ بيده شيطانه ، ويلزمه فلا يفارقه ، حتى يرمى بهما في النار ، وهكذا كل فاجر وفاسق غافل عن ذكر الله ، مضيع لأمره . وقال تعالى : وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد [ ق : 21 ] . أي : ملك يسوقه إلى المحشر ، وآخر يشهد عليه بأعماله وهذا عام في الأبرار والفجار ، وكل بحسبه لقد كنت في غفلة من هذا أي : أيها الإنسان الغافل عما خلق له فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ ق : 22 ] . أي : نافذ قوي حاد وقال قرينه هذا ما لدي عتيد [ ق : 23 ] . أي : هذا الذي جئت به هو الذي وكلت به ، فيقول الله تعالى عند ذلك للسائق والشهيد : ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب [ ق : 24 ، 25 ] . أي : ليس فيه خير ، ويمنع غيره من الخير ، ومع ذلك هو مريب أي : هو في شك وريب . ثم انتقل إلى من هو متلبس بأعظم من ذلك ، وقد تجتمع في العبد هذه الأربعة المذمومة المقبوحة ، التي هي أقبح الخصال ، وأعظمها ، وأقبحها الشرك بالله ، فقال تعالى : الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد إلى قوله تعالى : يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد [ ق : 26 - 30 ] . وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، هو ابن سعيد القطان ، عن ابن [ ص: 394 ] عجلان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس ، يعلوهم كل شيء ، من الصغار ، حتى يدخلوا سجنا في جهنم ، يقال له : بولس . فتعلوهم نار الأنيار ، فيسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار . ورواه الترمذي ، والنسائي جميعا عن سويد بن نصر ، عن عبد الله بن المبارك ، عن محمد بن عجلان ، به ، وقال الترمذي : حسن .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عثمان العقيلي ، حدثنا محمد بن راشد ، عن محمد بن عمر ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحشر المتكبرون في صور الذر يوم القيامة " . ثم قال : تفرد به محمد بن عثمان ، عن شيخه .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في " أهوال القيامة " : حدثنا عبد الله بن عمر الجشمي ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن هشام ، أنبا قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أسفاره ، وقد [ ص: 395 ] تفاوت بين أصحابه السير ، فرفع بهاتين الآيتين صوته : يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد الحج : 1 ، 2 ] . فلما سمع ذلك أصحابه حثوا المطي ، وعلموا أنه عند قول يقوله ، فلما تأشبوا حوله ، قال : " أتدرون أي يوم ذاك ؟ ذاك يوم ينادى آدم يناديه ربه ؟ يقول : يا آدم ، ابعث بعث النار . قال : يا رب ، وما بعث النار؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة " . قال : فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة ، فلما رأى ذلك قال : " اعملوا ، وأبشروا ، فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه ، يأجوج ومأجوج ، ومن هلك من بني آدم ومن بني إبليس " . قال : فسري عنهم ، ثم قال : " اعملوا ، وأبشروا ، فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير ، أو كالرقمة في ذراع الدابة " . وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن محمد بن بشار بندار ، عن يحيى بن سعيد القطان ، به ، وقال الترمذي ، : حسن صحيح .

فصل ( إذا قام الناس من قبورهم وجدوا الأرض غير صفة الأرض التي كانوا فيها )

فإذا قام الناس من قبورهم وجدوا الأرض غير صفة الأرض التي كانوا فيها وفارقوها ، قد دكت جبالها ، وزالت تلالها ، وتغيرت أحوالها ، وانقطعت أنهارها ، وبادت أشجارها ، ومساكنها ، ومدنها ، وبلادها ، وسجرت بحارها ، وتساوت وهادها ، ورباها ، وخربت مدائنها ، وقراها ، وزالت قصورها ، وبيوتها ، وأسواقها ، وزلزلت زلزالها ، وأخرجت أثقالها ، وقال الإنسان : مالها ؟! يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها ، وكذلك يجدون السماوات قد بدلت ، ونجومها قد انكدرت وانتثرت ، ونواحيها قد تشققت ، وأرجاؤها قد تفطرت ، والملائكة على أرجائها قد أحدقت ، وشمسها وقمرها مكسوفان ، بل مخسوفان ، وفي مكان واحد مجموعان ، ثم يكوران بعد ذلك ، ثم يلقيان في النار ، كما في الحديث الذي سنورده في " النيران " كأنهما ثوران عقيران .

قال أبو بكر بن عياش : قال ابن عباس : يخرجون من قبورهم ، فينظرون إلى الأرض غير الأرض التي عهدوها ، وإلى الناس غير الناس الذين كانوا يعرفون ويعهدون . قال : ثم تمثل ابن عباس :



فما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت تعرف

وقد قال تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار [ إبراهيم : 48 ] . وقال : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا الطور : [ 9 ، 10 ] . وقال : فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان [ ص: 397 ] [ الرحمن : 137 ] . وقال : وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة [ الحاقة : 14 ، 15 ] . وقال تعالى : إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت الآيات [ التكوير : 1 - 3 ] .

وثبت في " الصحيحين " من حديث أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ، ليس فيها معلم لأحد " .

وقال محمد بن قيس ، وسعيد بن جبير : تبدل الأرض خبزة بيضاء ، يأكل منها المؤمن من تحت قدميه .

وقال الأعمش ، عن خيثمة ، عن ابن مسعود ، قال : الأرض كلها يوم القيامة نار ، والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها ، ويلجمهم العرق ، ويبلغ منهم كل مبلغ ، ولم يبلغوا الحساب . وكذا رواه الأعمش عن المنهال ، عن قيس بن السكن ، عن ابن مسعود ، فذكره .

وقال إسرائيل وشعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن ابن مسعود ، قال : يوم تبدل الأرض غير الأرض [ إبراهيم : 48 ] . قال : أرض بيضاء كالفضة البيضاء ، نقية لم يسفك فيها دم ، ولم يعمل فيها خطيئة ، ينفذهم [ ص: 398 ] البصر ، ويسمعهم الداعي ، حفاة عراة كما خلقوا . أراه قال : قياما حتى يلجمهم العرق .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا القاسم بن الفضل ، قال : قال الحسن : قالت عائشة : يا رسول الله ، أرأيت قوله تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات أين يكون الناس؟ قال : " إن هذا لشيء ما سألني عنه أحد من أمتي قبلك؟ الناس على الصراط " . تفرد به أحمد .

ورواه ابن أبي الدنيا : أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرنا القاسم بن الفضل ، سمعت الحسن ، قال : قالت عائشة ، فذكره . ورواه قتادة ، عن حسان بن بلال المزني ، عن عائشة ، بمثل هذا سواء .

وقال ابن أبي الدنيا : أنبأ عبيد الله بن جرير العتكي ، حدثنا محمد بن بكار الصيرفي ، أنبأ الفضل بن معروف القطعي ، أخبرنا بشر بن حرب ، عن أبي سعيد ، عن عائشة ، قالت : بينما النبي صلى الله عليه وسلم واضع رأسه في حجري بكيت فرفع رأسه ، فقال : " ما أبكاك ؟ " قلت : بأبي أنت وأمي ، ذكرت قول الله : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات . أين الناس يومئذ ؟ قال : " الناس يومئذ على جسر جهنم ، والملائكة وقوف تقول : رب سلم سلم . فمن بين زال وزالة " . هذا حديث غريب من هذا الوجه ، لم يخرجه أحمد ، ولا أحد من [ ص: 399 ] أصحاب الكتب الستة .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، أنها قالت : أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات . قالت : قلت : أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال : " على الصراط " .

وأخرجه مسلم ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث داود بن أبي هند . وقال الترمذي : حسن صحيح . ورواه أحمد ، عن عفان ، عن وهيب ، عن داود ، عن الشعبي ، عنها ، ولم يذكر مسروقا .

ورواه أحمد أيضا من حديث حبيب بن أبي عمرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن عائشة ، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ، ثم قالت : أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال : " هم على متن جهنم " .

وروى مسلم من حديث أبي سلام ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان ، أن حبرا من اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ، أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هم في الظلمة دون الجسر " .

[ ص: 400 ] وقال ابن جرير : حدثني ابن عوف ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا سعيد بن ثوبان الكلاعي ، عن أبي أيوب الأنصاري ، قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم حبر من اليهود ، فقال : أرأيت إذ يقول الله في كتابه : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فأين الخلق عند ذلك؟ فقال : " أضياف الله ، فلن يعجزهم ما لديه " . وكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث أبي بكر بن أبي مريم .

وقد يكون هذا التبديل بعد المحشر ، ويكون تبديلا ثانيا إلى صفة أخرى غير الأولى ، وبعدها ، والله سبحانه أعلم ، كما قال ابن أبي الدنيا : أخبرنا يوسف بن موسى ، حدثنا وكيع ، حدثنا شعبة ، عن المغيرة بن مالك ، عن رجل من بني مجاشع ، يقال له : عبد الكريم . أو يكنى بأبي عبد الكريم ، قال : أقامني على رجل بخراسان ، فقال : حدثني هذا أنه سمع علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، يقول : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات قال : ذكر لنا أن الأرض تبدل فضة ، والسماوات ذهبا . وكذا روي عن ابن عباس ، وأنس بن مالك ، ومجاهد بن جبر وغيرهم ، والله سبحانه أعلم .
ذكر طول يوم القيامة ، وما ورد في مقداره

قال الله سبحانه : ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ الحج : 47 ] . قال بعض المفسرين : هو يوم القيامة .

وقال تعالى : سأل سائل بعذاب واقع إلى قوله : فاصبر صبرا جميلا [ المعارج : 1 - 5 ] .

وقد ذكرنا في " التفسير " اختلاف السلف والخلف في معنى هذه الآية ، فروى ليث بن أبي سليم وغيره ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قال : ذلك مقدار ما بين العرش إلى الأرض السابعة .

وقال ابن عباس في قوله : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ السجدة : 5 ] . يعني بذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض ، ومن الأرض إلى السماء ، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام . رواه ابن أبي حاتم .

ورواه ابن جرير ، عن مجاهد أيضا ، وذهب إليه الفراء ، وقاله أبو عبد الله الحليمي ، فيما حكاه عنه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب " البعث [ ص: 402 ] والنشور " ، قال الحليمي : فالملك يقطع هذه المسافة في بعض يوم ، ولو أنها مسافة يمكن البشر قطعها لم يتمكن أحد من قطعها إلا في مقدار خمسين ألف سنة . قال : وليس هذا من تقدير يوم القيامة بسبيل ، بل هذا مقدار ما بين العرش إلى الأرض السابعة . ورجح الحليمي هذا بقوله تعالى : من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه [ المعارج : 3 ، 4 ] وذي المعارج : أي العلو والعظمة ، كما قال تعالى : رفيع الدرجات ذو العرش [ غافر : 15 ] ثم فسر ذلك بقوله : تعرج الملائكة والروح إليه أي في مسافة كان مقدارها خمسين ألف سنة ، أي بعدها واتساعها هذه المدة .

فعلى هذا القول المراد بذلك : مسافة المكان . هذا قول . وقد حاول البيهقي الجمع بين هذه الآية وبين قوله : رفيع الدرجات بأن الملائكة تقطع هذه المسافة في الدنيا في ألف سنة ، فإذا كان يوم القيامة لا تقطعها إلا في خمسين ألف سنة؟ لما يشاهدون من هول ذلك اليوم ، وعظمته ، وغضب الرب عز وجل ، والله أعلم .

والقول الثاني : أن المراد بذلك مدة عمر الدنيا .

قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في " تفسيره " : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله تعالى : كان مقداره خمسين ألف سنة . قال : الدنيا عمرها خمسون [ ص: 403 ] ألف سنة ، ذلك عمرها يوم سماها الله تعالى يوما : تعرج الملائكة والروح إليه قال : اليوم الدنيا .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وعن الحكم بن أبان ، عن عكرمة : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قالا : الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة ، لا يدري أحد كم مضى ، ولا كم بقي إلا الله ، عز وجل . وذكره البيهقي من طريق محمد بن ثور ، عن معمر ، به . وهذا قول غريب جدا ، لا يوجد في كثير من الكتب المشهورة ، والله أعلم . القول الثالث : أن المراد بذلك فصل ما بين الدنيا ويوم القيامة . وهو مدة المقام في البرزخ . رواه ابن أبي حاتم ، عن محمد بن كعب القرظي ، وهو غريب أيضا .

القول الرابع : أن المراد بذلك مقدار الفصل بين العباد يوم القيامة . قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . قال : يوم القيامة . إسناده صحيح . ورواه الثوري ، عن سماك ، عن عكرمة من قوله ، وبه قال الحسن ، والضحاك ، وابن زيد .

[ ص: 404 ] وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن إدريس ، حدثنا الحسن بن واقع ، حدثنا ضمرة ، عن ابن شوذب ، عن يزيد الرشك ، قال : يقوم الناس يوم القيامة أربعين ألف سنة ، ويقضى بينهم في مقدار عشرة آلاف سنة .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة . وقال الكلبي في " تفسيره " ، وهو يرويه عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : لو ولي محاسبة العباد غير الله تعالى لم يفرغ في خمسين ألف سنة .

وقال البيهقي : وفيما ذكر حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : قال الحسن : ما ظنك بيوم قام العباد فيه على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة ، لم يأكلوا فيها أكلة ، ولم يشربوا فيها شربة ، حتى تقطعت أعناقهم عطشا ، واحترقت أجوافهم جوعا ، ثم انصرف بهم إلى النار ، فسقوا من عين آنية ، قد أنى حرها ، واشتد نضجها . وقد ورد هذا في أحاديث متعددة ، فالله أعلم .

قال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ ما أطول هذا اليوم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، إنه ليخفف على المؤمن ، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة [ ص: 405 ] يصليها في الدنيا " . ورواه ابن جرير في " تفسيره " ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن دراج ، به . ودراج أبو السمح وشيخه أبو الهيثم سليمان بن عمرو العتواري ، ضعيفان ، على أنه قد رواه البيهقي بلفظ آخر ، وقال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي ، وأبو سعيد بن أبي عمرو ، قالا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني ، حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي - وكان رجلا من الخائفين - قال : سمعت دراجا أبا السمح يخبر عمن حدثه ، عن أبي سعيد الخدري ، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أخبرني من يقوى على القيام يوم القيامة الذي قال الله تعالى : يوم يقوم الناس لرب العالمين المطففين : 6 فقال : " يخفف على المؤمن حتى يكون كالصلاة المكتوبة " .

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : إن للمؤمنين يوم القيامة كراسي من نور ، يجلسون عليها ، ويظلل عليهم الغمائم ، ويكون يوم القيامة عليهم كساعة من نهار ، أو كأحد طرفيه . رواه ابن أبي الدنيا في " الأهوال " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل ، حدثنا حماد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعل كنزه صفائح يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى بها [ ص: 406 ] جبهته ، وجنبه ، وظهره ، حتى يحكم الله بين عباده ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة ، وإما إلى النار . . . " . وذكر بقية الحديث في مانع زكاة الغنم ، والإبل ، أنه يبطح لها بقاع قرقر ، تطؤه بأخفافها وأظلافها ، وتنطحه بقرونها ، كلما مرت عليه أخراها أعيدت عليه أولاها ، حتى يقضي الله بين العباد ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار .

وهكذا رواه أبو داود الطيالسي في " مسنده " : أخبرنا وهيب بن خالد ، وكان ثقة ، حدثنا سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه . وأخرجه مسلم من حديث روح بن القاسم ، وعبد العزيز بن المختار ، كلاهما عن سهيل ، به مثله . وأخرجه مسلم أيضا من حديث زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا في الذهب ، والفضة ، والإبل ، والبقر ، والغنم .

وقد رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، من حديث شعبة ، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة ، كلاهما عن قتادة ، عن أبي عمر الغداني ، عن أبي هريرة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كانت له إبل لا يعطي حقها في [ ص: 407 ] نجدتها ورسلها - يعني في عسرها ويسرها - فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكبره وأسمنه وآشره ، حتى يبطح لها بقاع قرقر ، فتطؤه بأخفافها ، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس ، فيرى سبيله . وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها ، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكبره وأسمنه وآشره ، ثم يبطح لها بقاع قرقر ، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها ، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ، ليس فيها عقصاء ولا عضباء ، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس ، فيرى سبيله . وإذا كان له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها ، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكبره وأسمنه وآشره ، حتى يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها ، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ، ليس فيها عقصاء ولا عضباء ، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس ، فيرى سبيله " .

قال البيهقي : وهذا لا يحتمل إلا تقدير ذلك اليوم بخمسين ألف سنة مما تعدون ، والله أعلم ، ثم لا يكون ذلك كذلك إلا على الذي لا يغفر له ، فأما من غفر له ذنبه من المؤمنين ، فقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا الحسن بن [ ص: 408 ] محمد بن حليم ، أخبرنا أبو الموجه ، أخبرنا عبدان ، أخبرنا عبد الله ، هو ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن أبي هريرة ، قال : يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر . ثم قال : هذا هو المحفوظ ، وقد روي مرفوعا ، أخبرناه أبو عبد الله الحافظ ، حدثني عبد الله بن عمر بن علي الجوهري بمرو ، حدثنا يحيى بن ساسويه بن عبد الكريم ، حدثنا سويد بن نصر ، حدثنا ابن المبارك ، فذكره بإسناده مرفوعا .

وقال يعقوب بن سفيان : حدثنا حرملة بن يحيى ، حدثنا ابن وهب ، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة ، عن أبي هانئ ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : يوم يقوم الناس لرب العالمين [ المطففين : 6 ] . قال : " كيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم " .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا حمزة بن العباس ، حدثنا عبد الله بن عثمان ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا سفيان ، عن ميسرة ، عن المنهال بن عمرو ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ، ثم قرأ : ( ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم ) . قال ابن المبارك : هكذا هي في قراءة ابن مسعود .

[ ص: 409 ] ثم قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن ميسرة النهدي ، عن المنهال بن عمرو ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : [ الفرقان : 24 ] . قال : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء .
>>

B-happy 1 - 11 - 2010 10:13 PM

ذكر المقام المحمود الذي خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

ومن ذلك الشفاعة العظمى في أهل الموقف ، ليجيء الرب عز وجل ، فيفصل بينهم ، ويريح المؤمنين من ذلك الحال إلى حسن المآل .

قال الله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] .

قال البخاري : حدثنا علي بن عياش ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة " . انفرد به دون مسلم .

[ ص: 410 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا داود ، وهو ابن يزيد بن عبد الرحمن الزعافري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] . قال : " الشفاعة " . إسناده حسن .

وثبت في " الصحيحين " ، وغيرهما من حديث جابر ، وغيره ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ; نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة " .

فقوله : " وأعطيت الشفاعة " . يعني بذلك الشفاعة التي تطلب من آدم ، فيقول : لست بصاحب ذاكم ، اذهبوا إلى نوح ، فيقول لهم كذلك ويرشدهم إلى إبراهيم ، فيرشدهم إلى موسى ، فيرشدهم موسى إلى عيسى ، فيرشدهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقول : " أنا لها ، أنا لها " . وسيأتي ذلك مبسوطا في أحاديث الشفاعة ، في إخراج العصاة من النار ، وقد ذكرنا ذلك بطوله مبسوطا عن جماعة من الصحابة عند تفسير هذه الآية .

وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا سيد [ ص: 411 ] ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مشفع " . ولمسلم أيضا ، عن أبي بن كعب; في حديث قراءة القرآن على سبعة أحرف ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت : اللهم اغفر لأمتي ، اللهم اغفر لأمتي ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم ، وصاحب شفاعتهم غير فخر " .

ورواه الترمذي ، وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثني محمد بن حرب ، حدثنا الزبيدي ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ؟ " يبعث الناس يوم القيامة ، فأكون أنا وأمتي على تل ، ويكسوني ربي عز وجل حلة خضراء ، ثم يؤذن لي; فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا يزيد بن أبي [ ص: 412 ] حبيب ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة ، وأنا أول من يؤذن له برفع رأسه ، فأنظر إلى بين يدي ، فأعرف أمتي من بين الأمم ، ومن خلفي مثل ذلك ، وعن يميني مثل ذلك ، وعن شمالي مثل ذلك " . فقال رجل : يا رسول الله ، كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال : " هم غر محجلون من أثر الوضوء ، ليس أحد كذلك غيرهم ، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حرب بن ميمون; أبو الخطاب الأنصاري ، عن النضر بن أنس ، عن أنس ، قال : حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إني لقائم ، أنتظر أمتي حتى تعبر الصراط إذ جاءني عيسى ابن مريم عليه السلام ، فقال : هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألونك أو قال : يجتمعون إليك - يدعون الله عز وجل ، أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله ; لغم ما هم فيه ، فالخلق ملجمون بالعرق ، فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة ، وأما الكافر فيغشاه الموت " . فقال : " انتظر حتى أرجع إليك " . فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم ، " فقام تحت العرش ، فيلقى ما لم يلق ملك [ ص: 413 ] مصطفى ، ولا نبي مرسل . " فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد ، وقل له : ارفع رأسك ، وسل تعط ، واشفع تشفع . فشفعت في أمتي ، فقال : أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا ، فما زلت أتردد إلى ربي عز وجل ، فلا أقوم منه مقاما إلا شفعت ، حتى أعطاني الله عز وجل من ذلك أن قال : يا محمد ، أدخل من خلق الله من أمتك من شهد أن لا إله إلا الله يوما واحدا مخلصا ، ومات على ذلك " .

وروى الإمام أحمد من حديث علي بن الحكم البناني ، عن عثمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود ، عن ابن مسعود ، فذكر حديثا طويلا ، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة " . فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ، وما ذلك المقام المحمود ؟ قال : " ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلا ، فيكون أول من يكسى إبراهيم ، يقول الله عز وجل : اكسوا خليلي ، فيؤتى بريطتين بيضاوين ، فيلبسهما ، ثم يقعد مستقبل العرش ، ثم أوتى بكسوتي ، فألبسها ، فأقوم عن يمينه مقاما لا يقومه أحد ، فيغبطني به الأولون والآخرون " . قال : " ويفتح نهر من الكوثر إلى الحوض " . وذكر تمام الحديث في صفة الحوض كما سيأتي قريبا .

وذكرنا في " المسند الكبير " عن حيدة الصحابي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 414 ] قال : " تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا ، وأول من يكسى إبراهيم الخليل ، يقول الله تعالى : اكسوا خليلي . ليعلم الناس فضله ، ثم يكسى الناس على قدر الأعمال .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يطول على الناس يوم القيامة ، فيقول بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر ، فليشفع لنا إلى ربنا ، فليقض بيننا . فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت الذي خلقك الله بيده ، وأسكنك جنته ، فاشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا نوحا رأس النبيين . فيأتونه ، فيقولون : يا نوح ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الله " . قال : " فيأتونه ، فيقولون : يا إبراهيم ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا موسى الذي اصطفاه الله برسالاته وبكلامه " . قال : " فيأتونه ، فيقولون : يا موسى ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته . فيأتون عيسى ، فيقولون : يا عيسى ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا ، فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا محمدا ; فإنه خاتم النبيين ، وإنه قد حضر اليوم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . ويقول عيسى : أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه ، هل كان [ ص: 415 ] يقدر على ما في ذلك الوعاء حتى يفض الخاتم ؟ فيقولون : لا . قال : فإن محمدا خاتم النبيين " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فيأتوني ، فيقولون : يا محمد ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فأقول : نعم ، فآتي باب الجنة ، فآخذ بحلقة الباب ، فأستفتح ، فيقال : من أنت؟ فأقول : محمد ، فيفتح لي ، فأخر ساجدا ، فأحمد ربي عز وجل ، بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي ، ولا يحمده بها أحد كان بعدي ، فيقول : ارفع رأسك ، وقل يسمع منك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : أي رب ، أمتي أمتي ، فيقال : أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان " . قال : " فأخرجهم ، ثم أخر ساجدا " . فذكر مثل ذلك . " فيقال : أخرج من كان في قلبه مثقال برة من إيمان ، قال : فأخرجهم ، ثم أخر ساجدا " . فذكر مثل ذلك . " فيقال : أخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، قال : فأخرجهم " . وقد رواه البخاري ومسلم ، من حديث سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس ، نحوه .

رواية أبي هريرة رضي الله عنه : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو حبان ، حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة ، قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم ، فرفع إليه الذراع ، وكانت تعجبه ، [ ص: 416 ] فنهس منها نهسة ، ثم قال : " أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون مم ذلك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ، ولا يحتملون ، فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه ؟ ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض : أبوكم آدم . فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة ، فسجدوا لك ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة ، فعصيت ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح . فيأتون نوحا ، فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبدا شكورا ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه كانت لي دعوة على قومي ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى إبراهيم . فيأتون إبراهيم ، فيقولون : يا إبراهيم ، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول : إن ربي قد [ ص: 417 ] غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله - وذكر كذباته - نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى . فيأتون موسى فيقولون : يا موسى ، أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته ، وبتكليمه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى عيسى . فيأتون عيسى ، فيقولون : يا عيسى ، أنت رسول الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه - قال : هكذا هو - وكلمت الناس في المهد ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله - ولم يذكر ذنبا - اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد ، فيأتوني ، فيقولون : يا محمد ، أنت رسول الله ، وخاتم الأنبياء ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم فآتي تحت العرش ، فأتي ساجدا لربي عز وجل ، ثم يفتح الله علي ، ويلهمني من محامده ، وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . فأقول : رب ، أمتي أمتي ، يا رب ، أمتي أمتي ، يا رب ، أمتي أمتي . فيقال : يا محمد ، أدخل من أمتك [ ص: 418 ] من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب " . ثم قال : " والذي نفس محمد بيده لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر ، أو كما بين مكة وبصرى . أخرجاه في " الصحيحين " ، من حديث أبي حيان يحيى بن سعيد بن حيان ، به .

ورواه ابن أبي الدنيا في " الأهوال " ، عن أبي خيثمة ، عن جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره بطوله ، وزاد في السياق : " وإني أخاف أن يطرحني في النار ، انطلقوا إلى غيري " . في قصة آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وهي زيادة غريبة جدا ، ليست في " الصحيحين " ، ولا في أحدهما ، بل ولا في شيء من بقية " السنن " ، وهي منكرة جدا ، فالله أعلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة ، قال : خطبنا ابن عباس على منبر البصرة ، فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه لم يكن نبي إلا له دعوة قد تنجزها في الدنيا ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي ، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا [ ص: 419 ] فخر ، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، آدم فمن دونه تحت لوائي ولا فخر ، ويطول يوم القيامة على الناس ، فيقول بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى أبينا ، فليشفع لنا إلى ربنا ، فليقض بيننا . فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت الذي خلقك الله بيده ، وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، اشفع لنا إلى ربنا ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، إني قد أخرجت من الجنة ، وإنه لا يهمني اليوم إلا نفسي ، ولكن ائتوا نوحا رأس النبيين . فذكر الحديث ، كنحو ما تقدم إلى أن قال : " فيأتوني ، فيقولون : يا محمد ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فأقول : أنا لها ، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، فإذا أراد الله أن يصدع بين خلقه ، نادى مناد : أين أحمد وأمته؟ فنحن الآخرون الأولون; آخر الأمم ، وأول من يحاسب ، فتفرج لنا الأمم طريقا ، فنمضي غرا محجلين من أثر الوضوء ، فتقول الأم : كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها ، فآتي باب الجنة " . وذكر تمام الحديث في الشفاعة ، في عصاة هذه الأمة .

وقد ورد هذا الحديث هكذا عن جماعة من الصحابة ، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، من رواية حذيفة بن اليمان عنه ، وسيأتي في أحاديث الشفاعة . والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث في أكثر طرقه ، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى ، في إتيان الرب لفصل القضاء ، كما ورد هذا في حديث الصور ، كما تقدم ، وهو المقصود في هذا المقام .

[ ص: 420 ] ومقتضى سياق أول الحديث ; فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل الله عز وجل بين الناس ؟ ليستريحوا من مقامهم ذلك ، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه ، فإذا وصلوا إلى المحز إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار ، وكأن مقصود السلف في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ، الذين ينكرون خروج أحد من النار بعد دخولها ، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث ، وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور ، كما تقدم أن الناس يذهبون إلى آدم ، ثم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم ، ثم إلى موسى ، ثم إلى عيسى ، ثم يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيذهب ، فيسجد لله تحت العرش في مكان يقال له : الفحص . إلى أن قال : " فيقول : شفعتك . أنا آتيكم فأقضي بينكم " . قال : " فأرجع ، فأقف مع الناس " . إلى أن قال : " فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه " . وذكر الحديث كما تقدم .

وقال عبد الرزاق : أنبا معمر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين زين العابدين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم ، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأكون أول من يدعى وجبريل عن يمين الرحمن عز وجل ، والله ما رآه قبلها ، فأقول : أي رب ، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي ، فيقول الله : صدق . ثم أشفع ، فأقول : يا رب ، عبادك عبدوك في أطراف الأرض . فهو المقام المحمود " .

[ ص: 421 ] هذا مرسل من هذا الوجه ، وعندي أن معنى قوله : " عبادك عبدوك في أطراف الأرض " . أي وقوف في أطراف الأرض ، أي الناس مجتمعون فى صعيد واحد ، مؤمنهم وكافرهم ، فيشفع عند الله ليأتي لفصل القضاء بين عباده ، ويميز مؤمنهم من كافرهم في الموقف والمصير فى الحال ، والمآل ، ولهذا قال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل فى قوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا . هو المقام الذي يقومه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم .

وقال البخاري : حدثنا إسماعيل بن أبان ، حدثنا أبو الأحوص ، عن آدم بن علي ، قال : سمعت ابن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان ، اشفع ، يا فلان ، اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا .

قال : ورواه حمزة بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد أسند ما علقه ههنا في موضع آخر من " الصحيح " ، فقال في كتاب الزكاة : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، [ ص: 422 ] سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر ، سمعت عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال العبد يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم " . وقال : " إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك إذ استغاثوا بآدم ، ثم بموسى ، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم " . زاد عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، عن ابن أبي جعفر : " فيشفع ليقضي بين الخلق ، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب ، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم " .

وكذا رواه ابن جرير ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن شعيب بن الليث ، عن أبيه ، به ، بنحوه .

>>

B-happy 1 - 11 - 2010 10:15 PM

ذكر المقام المحمود الذي خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

ومن ذلك الشفاعة العظمى في أهل الموقف ، ليجيء الرب عز وجل ، فيفصل بينهم ، ويريح المؤمنين من ذلك الحال إلى حسن المآل .

قال الله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] .

قال البخاري : حدثنا علي بن عياش ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة " . انفرد به دون مسلم .

[ ص: 410 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا داود ، وهو ابن يزيد بن عبد الرحمن الزعافري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] . قال : " الشفاعة " . إسناده حسن .

وثبت في " الصحيحين " ، وغيرهما من حديث جابر ، وغيره ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ; نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة " .

فقوله : " وأعطيت الشفاعة " . يعني بذلك الشفاعة التي تطلب من آدم ، فيقول : لست بصاحب ذاكم ، اذهبوا إلى نوح ، فيقول لهم كذلك ويرشدهم إلى إبراهيم ، فيرشدهم إلى موسى ، فيرشدهم موسى إلى عيسى ، فيرشدهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقول : " أنا لها ، أنا لها " . وسيأتي ذلك مبسوطا في أحاديث الشفاعة ، في إخراج العصاة من النار ، وقد ذكرنا ذلك بطوله مبسوطا عن جماعة من الصحابة عند تفسير هذه الآية .

وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا سيد [ ص: 411 ] ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مشفع " . ولمسلم أيضا ، عن أبي بن كعب; في حديث قراءة القرآن على سبعة أحرف ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت : اللهم اغفر لأمتي ، اللهم اغفر لأمتي ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم ، وصاحب شفاعتهم غير فخر " .

ورواه الترمذي ، وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثني محمد بن حرب ، حدثنا الزبيدي ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ؟ " يبعث الناس يوم القيامة ، فأكون أنا وأمتي على تل ، ويكسوني ربي عز وجل حلة خضراء ، ثم يؤذن لي; فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا يزيد بن أبي [ ص: 412 ] حبيب ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة ، وأنا أول من يؤذن له برفع رأسه ، فأنظر إلى بين يدي ، فأعرف أمتي من بين الأمم ، ومن خلفي مثل ذلك ، وعن يميني مثل ذلك ، وعن شمالي مثل ذلك " . فقال رجل : يا رسول الله ، كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال : " هم غر محجلون من أثر الوضوء ، ليس أحد كذلك غيرهم ، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حرب بن ميمون; أبو الخطاب الأنصاري ، عن النضر بن أنس ، عن أنس ، قال : حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إني لقائم ، أنتظر أمتي حتى تعبر الصراط إذ جاءني عيسى ابن مريم عليه السلام ، فقال : هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألونك أو قال : يجتمعون إليك - يدعون الله عز وجل ، أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله ; لغم ما هم فيه ، فالخلق ملجمون بالعرق ، فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة ، وأما الكافر فيغشاه الموت " . فقال : " انتظر حتى أرجع إليك " . فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم ، " فقام تحت العرش ، فيلقى ما لم يلق ملك [ ص: 413 ] مصطفى ، ولا نبي مرسل . " فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد ، وقل له : ارفع رأسك ، وسل تعط ، واشفع تشفع . فشفعت في أمتي ، فقال : أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا ، فما زلت أتردد إلى ربي عز وجل ، فلا أقوم منه مقاما إلا شفعت ، حتى أعطاني الله عز وجل من ذلك أن قال : يا محمد ، أدخل من خلق الله من أمتك من شهد أن لا إله إلا الله يوما واحدا مخلصا ، ومات على ذلك " .

وروى الإمام أحمد من حديث علي بن الحكم البناني ، عن عثمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود ، عن ابن مسعود ، فذكر حديثا طويلا ، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة " . فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ، وما ذلك المقام المحمود ؟ قال : " ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلا ، فيكون أول من يكسى إبراهيم ، يقول الله عز وجل : اكسوا خليلي ، فيؤتى بريطتين بيضاوين ، فيلبسهما ، ثم يقعد مستقبل العرش ، ثم أوتى بكسوتي ، فألبسها ، فأقوم عن يمينه مقاما لا يقومه أحد ، فيغبطني به الأولون والآخرون " . قال : " ويفتح نهر من الكوثر إلى الحوض " . وذكر تمام الحديث في صفة الحوض كما سيأتي قريبا .

وذكرنا في " المسند الكبير " عن حيدة الصحابي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 414 ] قال : " تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا ، وأول من يكسى إبراهيم الخليل ، يقول الله تعالى : اكسوا خليلي . ليعلم الناس فضله ، ثم يكسى الناس على قدر الأعمال .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يطول على الناس يوم القيامة ، فيقول بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر ، فليشفع لنا إلى ربنا ، فليقض بيننا . فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت الذي خلقك الله بيده ، وأسكنك جنته ، فاشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا نوحا رأس النبيين . فيأتونه ، فيقولون : يا نوح ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الله " . قال : " فيأتونه ، فيقولون : يا إبراهيم ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا موسى الذي اصطفاه الله برسالاته وبكلامه " . قال : " فيأتونه ، فيقولون : يا موسى ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته . فيأتون عيسى ، فيقولون : يا عيسى ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا ، فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا محمدا ; فإنه خاتم النبيين ، وإنه قد حضر اليوم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . ويقول عيسى : أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه ، هل كان [ ص: 415 ] يقدر على ما في ذلك الوعاء حتى يفض الخاتم ؟ فيقولون : لا . قال : فإن محمدا خاتم النبيين " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فيأتوني ، فيقولون : يا محمد ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فأقول : نعم ، فآتي باب الجنة ، فآخذ بحلقة الباب ، فأستفتح ، فيقال : من أنت؟ فأقول : محمد ، فيفتح لي ، فأخر ساجدا ، فأحمد ربي عز وجل ، بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي ، ولا يحمده بها أحد كان بعدي ، فيقول : ارفع رأسك ، وقل يسمع منك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : أي رب ، أمتي أمتي ، فيقال : أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان " . قال : " فأخرجهم ، ثم أخر ساجدا " . فذكر مثل ذلك . " فيقال : أخرج من كان في قلبه مثقال برة من إيمان ، قال : فأخرجهم ، ثم أخر ساجدا " . فذكر مثل ذلك . " فيقال : أخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، قال : فأخرجهم " . وقد رواه البخاري ومسلم ، من حديث سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس ، نحوه .

رواية أبي هريرة رضي الله عنه : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو حبان ، حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة ، قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم ، فرفع إليه الذراع ، وكانت تعجبه ، [ ص: 416 ] فنهس منها نهسة ، ثم قال : " أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون مم ذلك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ، ولا يحتملون ، فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه ؟ ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض : أبوكم آدم . فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة ، فسجدوا لك ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة ، فعصيت ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح . فيأتون نوحا ، فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبدا شكورا ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه كانت لي دعوة على قومي ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى إبراهيم . فيأتون إبراهيم ، فيقولون : يا إبراهيم ، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول : إن ربي قد [ ص: 417 ] غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله - وذكر كذباته - نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى . فيأتون موسى فيقولون : يا موسى ، أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته ، وبتكليمه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى عيسى . فيأتون عيسى ، فيقولون : يا عيسى ، أنت رسول الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه - قال : هكذا هو - وكلمت الناس في المهد ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله - ولم يذكر ذنبا - اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد ، فيأتوني ، فيقولون : يا محمد ، أنت رسول الله ، وخاتم الأنبياء ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم فآتي تحت العرش ، فأتي ساجدا لربي عز وجل ، ثم يفتح الله علي ، ويلهمني من محامده ، وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . فأقول : رب ، أمتي أمتي ، يا رب ، أمتي أمتي ، يا رب ، أمتي أمتي . فيقال : يا محمد ، أدخل من أمتك [ ص: 418 ] من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب " . ثم قال : " والذي نفس محمد بيده لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر ، أو كما بين مكة وبصرى . أخرجاه في " الصحيحين " ، من حديث أبي حيان يحيى بن سعيد بن حيان ، به .

ورواه ابن أبي الدنيا في " الأهوال " ، عن أبي خيثمة ، عن جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره بطوله ، وزاد في السياق : " وإني أخاف أن يطرحني في النار ، انطلقوا إلى غيري " . في قصة آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وهي زيادة غريبة جدا ، ليست في " الصحيحين " ، ولا في أحدهما ، بل ولا في شيء من بقية " السنن " ، وهي منكرة جدا ، فالله أعلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة ، قال : خطبنا ابن عباس على منبر البصرة ، فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه لم يكن نبي إلا له دعوة قد تنجزها في الدنيا ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي ، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا [ ص: 419 ] فخر ، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، آدم فمن دونه تحت لوائي ولا فخر ، ويطول يوم القيامة على الناس ، فيقول بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى أبينا ، فليشفع لنا إلى ربنا ، فليقض بيننا . فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت الذي خلقك الله بيده ، وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، اشفع لنا إلى ربنا ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، إني قد أخرجت من الجنة ، وإنه لا يهمني اليوم إلا نفسي ، ولكن ائتوا نوحا رأس النبيين . فذكر الحديث ، كنحو ما تقدم إلى أن قال : " فيأتوني ، فيقولون : يا محمد ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فأقول : أنا لها ، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، فإذا أراد الله أن يصدع بين خلقه ، نادى مناد : أين أحمد وأمته؟ فنحن الآخرون الأولون; آخر الأمم ، وأول من يحاسب ، فتفرج لنا الأمم طريقا ، فنمضي غرا محجلين من أثر الوضوء ، فتقول الأم : كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها ، فآتي باب الجنة " . وذكر تمام الحديث في الشفاعة ، في عصاة هذه الأمة .

وقد ورد هذا الحديث هكذا عن جماعة من الصحابة ، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، من رواية حذيفة بن اليمان عنه ، وسيأتي في أحاديث الشفاعة . والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث في أكثر طرقه ، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى ، في إتيان الرب لفصل القضاء ، كما ورد هذا في حديث الصور ، كما تقدم ، وهو المقصود في هذا المقام .

[ ص: 420 ] ومقتضى سياق أول الحديث ; فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل الله عز وجل بين الناس ؟ ليستريحوا من مقامهم ذلك ، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه ، فإذا وصلوا إلى المحز إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار ، وكأن مقصود السلف في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ، الذين ينكرون خروج أحد من النار بعد دخولها ، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث ، وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور ، كما تقدم أن الناس يذهبون إلى آدم ، ثم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم ، ثم إلى موسى ، ثم إلى عيسى ، ثم يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيذهب ، فيسجد لله تحت العرش في مكان يقال له : الفحص . إلى أن قال : " فيقول : شفعتك . أنا آتيكم فأقضي بينكم " . قال : " فأرجع ، فأقف مع الناس " . إلى أن قال : " فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه " . وذكر الحديث كما تقدم .

وقال عبد الرزاق : أنبا معمر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين زين العابدين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم ، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأكون أول من يدعى وجبريل عن يمين الرحمن عز وجل ، والله ما رآه قبلها ، فأقول : أي رب ، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي ، فيقول الله : صدق . ثم أشفع ، فأقول : يا رب ، عبادك عبدوك في أطراف الأرض . فهو المقام المحمود " .

[ ص: 421 ] هذا مرسل من هذا الوجه ، وعندي أن معنى قوله : " عبادك عبدوك في أطراف الأرض " . أي وقوف في أطراف الأرض ، أي الناس مجتمعون فى صعيد واحد ، مؤمنهم وكافرهم ، فيشفع عند الله ليأتي لفصل القضاء بين عباده ، ويميز مؤمنهم من كافرهم في الموقف والمصير فى الحال ، والمآل ، ولهذا قال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل فى قوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا . هو المقام الذي يقومه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم .

وقال البخاري : حدثنا إسماعيل بن أبان ، حدثنا أبو الأحوص ، عن آدم بن علي ، قال : سمعت ابن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان ، اشفع ، يا فلان ، اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا .

قال : ورواه حمزة بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد أسند ما علقه ههنا في موضع آخر من " الصحيح " ، فقال في كتاب الزكاة : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، [ ص: 422 ] سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر ، سمعت عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال العبد يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم " . وقال : " إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك إذ استغاثوا بآدم ، ثم بموسى ، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم " . زاد عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، عن ابن أبي جعفر : " فيشفع ليقضي بين الخلق ، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب ، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم " .

وكذا رواه ابن جرير ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن شعيب بن الليث ، عن أبيه ، به ، بنحوه .

B-happy 1 - 11 - 2010 10:16 PM

ذكر أن لكل نبي حوضا ، وأن حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين أعظمها ، وأجلها ، وأكثرها واردا جعلنا الله تعالى من وراده ، وسقانا منه شربة لا نظمأ بعدها ، ونعوذ بالله سبحانه أن نذاد عنه

قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا ، رحمه الله ، في كتاب " الأهوال " : حدثنا محمد بن سليمان الأسدي حدثنا عيسى بن يونس ، عن زكريا ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن لي حوضا طوله ما بين الكعبة إلى بيت المقدس ، أشد بياضا من اللبن ، آنيته عدد النجوم ، وكل نبي يدعو أمته ، ولكل نبي حوض ، فمنهم من يأتيه الفئام ، ومنهم من يأتيه العصبة ، ومنهم من يأتيه النفر ، ومنهم من يأتيه الرجلان والرجل ، ومنهم من لا يأتيه أحد ، فيقال : لقد بلغت . وإني لأكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة " .

ورواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن محمد بن بشر ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن عطية بن سعد العوفي ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .

حديث آخر : قال ابن أبي الدنيا : حدثنا العباس بن محمد ، حدثنا الحسين بن محمد المروزي ، حدثنا محصن بن عقبة اليمامي ، عن الزبير بن شبيب ، [ ص: 468 ] عن عثمان بن حاضر ، عن ابن عباس ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين هل فيه ماء؟ فقال : " إي والذي نفسي بيده ، إن فيه لماء ، إن أولياء الله ليردون حياض الأنبياء ، ويبعث الله سبعين ألف ملك في أيديهم عصي من نار ، يذودون الكفار عن حياض الأنبياء " . هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وليس هو في شيء من الكتب الستة .

وتقدم ما رواه الترمذي ، والطبراني ، وغيرهما من حديث سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن لكل نبي حوضا ، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردة " . ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب ، وقد رواه أشعث بن عبد الملك ، عن الحسن مرسلا ، وهو أصح .

ورواه الطبراني أيضا من حديث خبيب بن سليمان ، عن سمرة بن جندب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الأنبياء يتباهون أيهم أكثر أصحابا ، وإني أرجو أن أكون يومئذ أكثرهم واردة ، وإن كل رجل منهم يومئذ قائم على حوض ملآن ، معه عصا يدعو من عرف من أمته ، ولكل أمة سيما يعرفهم بها نبيهم .

[ ص: 469 ] وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا خالد بن خداش ، حدثنا حزم بن أبي حزم ، سمعت الحسن البصري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا فقدتموني فأنا فرطكم على الحوض ، إن لكل نبي حوضا وهو قائم على حوضه ، بيده عصا ، يدعو من عرف من أمته ، ألا وإنهم يتباهون أيهم أكثر تبعا ، والذي نفسي بيده إني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا " . وذكر تمام الحديث ، وهذا مرسل عن الحسن ، وهو حسن ، صححه يحيى بن سعيد القطان وغيره ، وقد أفتى شيخنا الحافظ المزي بصحته بهذه الطرق .

إن قال قائل : فهل يكون الحوض قبل الجواز على الصراط أو بعده؟ فالجواب أن ظاهر ما تقدم من الأحاديث يقتضي كونه قبل الصراط لأنه يذاد عنه أقوام يقال عنهم : إنهم لم يزالوا يرتدون على أدبارهم ، وأعقابهم منذ فارقتهم . فإن كان هؤلاء كفارا فالكافر لا يجاوز الصراط ، بل يكب على وجهه في النار قبل أن يجاوزه ، وقيل : إن الصراط طريق ومعبر إلى الجنة ، فهو إنما ينصب للمؤمنين ، والعصاة ، والفساق ، والظلمة ، تحفظهم عليه الكلاليب ، فمنهم المخدوش المسلم ، ومنهم من يأخذ الكلوب فيهوي في النار على وجهه ، وإن كان المشار إليهم بالردة عصاة من المسلمين فيبعد حجبهم عن الحوض ، لاسيما وعليهم سيما الوضوء ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعرفكم غرا محجلين من آثار الوضوء " .

[ ص: 470 ] ثم من جاوز الصراط لا يكون إلا ناجيا مسلما ، فمثل هذا لا يحجب عن الحوض ، فالأشبه ، والله أعلم أن الحوض قبل الصراط .

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا حرب بن ميمون ، عن النضر بن أنس ، عن أنس ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن يشفع لي يوم القيامة . قال : " أنا فاعل " . قال : فأين أطلبك يوم القيامة يا نبي الله؟ قال : " اطلبني أول ما تطلبني على الصراط " . قال : قلت : فإن لم ألقك على الصراط ؟ قال : " فأنا عند الميزان " . قلت : فإن لم ألقك عند الميزان ؟ قال : " فأنا عند الحوض ، لا أخطئ هذه الثلاث مواطن يوم القيامة " .

ورواه الترمذي من حديث بدل بن المحبر ، وابن ماجه في " تفسيره " من حديث عبد الصمد ، كلاهما عن حرب بن ميمون أبي الخطاب الأنصاري البصري ، من رجال مسلم ، وقد وثقه علي بن المديني ، وعمرو بن علي الفلاس ، وفرقا بينه وبين حرب بن ميمون أبي عبد الرحمن العبدي البصري أيضا ، صاحب الأغمية ، وضعفا هذا .

وأما البخاري فجعلهما واحدا ، وحكى عن سليمان بن حرب أنه قال : كان هذا أكذب الخلق . وأنكر الدارقطني على البخاري ، ومسلم في جعلهما هذين واحدا .

[ ص: 471 ] وقال شيخنا الحافظ المزي : جمعهما غير واحد ، وفرق بينهما غير واحد ، وهو الصحيح ، إن شاء الله . قلت : وقد حررت هذا في " التكميل " بما فيه كفاية .

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .

والمقصود : أن ظاهر هذا الحديث يقتضي أن الحوض بعد الصراط ، وكذلك الميزان أيضا ، وهذا لا أعلم به قائلا ، اللهم إلا أن يكون المراد به حوضا آخر ، يكون بعد قطع الصراط ، كما جاء في بعض الأحاديث ، ويكون ذلك حوضا ثانيا لا يذاد عنه أحد ، والله سبحانه أعلم .



وإذا كان الظاهر كونه قبل الصراط ، فهل يكون ذلك قبل وضع الكرسي لفصل القضاء أو بعد ذلك ؟ هذا مما يحتمل كلا من الأمرين ، ولم أر في ذلك شيئا فاصلا ، فالله أعلم أي ذلك يكون .

وقال القرطبي في " التذكرة " : واختلف في الميزان والحوض؟ أيهما يكون قبل الآخر؟ فقيل : الميزان قبل . وقيل : الحوض . قال أبو الحسن القابسي : والصحيح أن الحوض قبل . قال القرطبي : والمعنى يقتضيه فإن الناس يخرجون عطاشا من قبورهم كما تقدم - فيقدم قبل الميزان والصراط .

[ ص: 472 ] قال أبو حامد الغزالي في كتاب " كشف علم الآخرة " : حكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد بعد الصراط ، وهو غلط من قائله . قال القرطبي : هو كما قال . ثم أورد حديث منع المرتدين على أعقابهم عن الحوض ، ثم قال : وهذا الحديث مع صحته أدل دليل على أن الحوض يكون في الموقف قبل الصراط ; لأن الصراط من جاز عليه سلم ، كما سيأتي . قلت : وهذا التوجيه قد أسلفناه . ولله الحمد .

قال القرطبي : وقد ظن بعض الناس أن في تحديد الحوض تارة بجرباء وأذرح ، وتارة كما بين الكعبة إلى كذا ، وتارة بغير ذلك ، اضطرابا . قال : وليس الأمر كذلك ؟ فإنه صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه به مرات متعددة ، فخاطب في كل مرة لكل قوم بما يعرفون من الأماكن ، وقد جاء في الصحيح تحديده بشهر في شهر . قال : ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض ، بل في الأرض المبدلة ، وهي أرض بيضاء كالفضة ، لم يسفك فيها دم ، ولم يظلم على ظهرها أحد قط ، تطهر لنزول الجبار جل جلاله ، لفصل القضاء .

قال : وقد روي أن على كل زاوية من زوايا الحوض واحدا من الخلفاء الأربعة ، فعلى الركن الأول أبو بكر ، وعلى الثاني عمر ، وعلى الثالث عثمان ، وعلى الرابع علي ، رضي الله عنهم . قلت : وقد رويناه في " الغيلانيات " ، ولا يصح إسناده لضعف بعض رجاله . والله أعلم .
..>>

B-happy 1 - 11 - 2010 10:16 PM

فصل في مجيء الرب سبحانه وتعالى كما يشاء يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه

ذكر في حديث الصور المتقدم أنه إذا ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشفع عند الله عز وجل ليفصل بين العباد ، فيقول الرب تعالى : أنا آتيكم فأقضي بينكم . ثم يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقف مع الناس في مقامه الأول ، فحينئذ تنشق السماوات بغمام النور ، وتنزل الملائكة تنزيلا ، فينزل أهل السماء الدنيا ، وهم قدر أهل الأرض من الجن والإنس ، فيحيطون بهم دائرة ، ثم تنشق السماء الثانية فتنزل ملائكتها وهم قدر الجن والإنس وقدر ملائكة سماء الدنيا ، فيحيطون بمن هناك من الملائكة والجن والإنس دائرة ، ثم كذلك أهل السماء الثالثة ، والرابعة ، ثم الخامسة ، ثم السادسة ، ثم السابعة ، فكل أهل سماء تحيط بمن قبلهم دائرة ، ثم تنزل الملائكة الكروبيون وحملة العرش ، ومن حوله من المقربين ، ولهم زجل بالتسبيح والتقديس والتعظيم; يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان الحي الذي لا يموت ، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت . ثم يأتيهم الله لفصل القضاء .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في " الأهوال " : حدثنا حمزة بن العباس ، أخبرنا عبد الله بن عثمان ، أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا عوف ، عن أبي المنهال سيار بن سلامة الرياحي ، حدثنا شهر بن حوشب ، حدثني ابن عباس ، قال : إذا [ ص: 474 ] كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم ، وزيد في سعتها كذا وكذا ، وجمع الخلائق بصعيد واحد; جنهم وإنسهم ، فإذا كان كذلك قيضت هذه السماء الدنيا عن أهلها ، فنثروا على وجه الأرض ، ولأهل هذه السماء الدنيا وحدهم أكثر من جميع أهل الأرض ، جنهم وإنسهم بالضعف ، فإذا رآهم أهل الأرض فزعوا إليهم ، ويقولون : أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم ، ويقولون : سبحان ربنا ليس فينا ، وهو آت . ثم تقاض السماء الثانية ، ولأهل السماء الثانية أكثر من أهل هذه السماء الدنيا ، ومن جميع أهل الأرض بالضعف ، فإذا نثروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض ، ويقولون : أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم ، ويقولون : سبحان ربنا! ليس فينا ، وهو آت . ثم تقاض السماوات سماء سماء ، كلما قيضت سماء كانت أكثر من أهل السماوات التي تحتها ، ومن جميع أهل الأرض بالضعف؟ جنهم وإنسهم ، كلما نثروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض ، ويقولون لهم مثل ذلك ، ويرجعون إليهم مثل ذلك حتى تقاض السماء السابعة ، ولأهلها وحدهم أكثر من أهل ست سماوات ، ومن أهل الأرض بالضعف ، ويجيء الله فيهم ، والأمم جثا صفوف ، فينادي مناد : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ، ليقم [ ص: 475 ] الحمادون لله على كل حال ، فيقومون فيسرحون إلى الجنة ، ثم ينادي ثانية : ستعلمون من أصحاب الكرم اليوم ، ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون [ السجدة : 16 ] ، فيقومون فيسرحون إلى الجنة ، ثم ينادي ثالثة : ستعلمون من أصحاب الكرم اليوم ، ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار [ النور : 37 ] ، فيقومون فيسرحون إلى الجنة ، فإذا لم يبق أحد من هؤلاء الثلاثة خرج عنق من النار ، فأشرف على الخلائق ، له عينان بصيرتان ، ولسان فصيح ، فيقول : إني وكلت بثلاثة ، وكلت بكل جبار عنيد . فيلقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم ، فيخنس بهم في جهنم ، ثم يخرج الثانية ، فيقول : إني وكلت بمن آذى الله ورسوله . فيلقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم ، فيخنس بهم في جهنم ، ثم يخرج الثالثة ، فيقول : إني وكلت بأصحاب التصاوير . فيلقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم ، فيخنس بهم في جهنم ، فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة ، ومن هؤلاء ثلاثة ، نشرت الصحف ، ووضعت الموازين ، ودعيت الخلائق للحساب .

وقد قال الله تعالى : [ ص: 476 ] كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [ الفجر : 21 - 23 ] ، الآيات . وقال تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور [ البقرة : 210 ] وقال تعالى : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون [ الزمر : 69 ، 70 ] . وقال تعالى : ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا [ الفرقان : 25 ، 26 ] .

وقال في حديث الصور : " فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه . يعني بذلك كرسي فصل القضاء ، وليس هذا بالكرسي المذكور في آية الكرسي ، ولا المذكور في " صحيح ابن حبان " : " ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وما الكرسي في العرش إلا كتلك الحلقة بتلك الفلاة ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل " .

وقد يطلق على هذا الكرسي اسم العرش ، فقد ورد ذلك في بعض الأحاديث ، كما في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة : سبعة يظلهم الله في ظله " - وفي رواية : " في ظل عرشه " - " يوم لا ظل إلا ظله " الحديث بتمامه .

[ ص: 477 ] وثبت في " صحيح البخاري " من حديث الزهري ، عن أبي سلمة ، وعبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة فإن الناس يصعقون ، فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى باطشا بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فأفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة الطور؟ " . فقوله : " أم جوزي بصعقة الطور يدل على أن هذا الصعق الذي يحصل للناس يوم القيامة سببه تجلي الرب سبحانه لعباده لفصل القضاء ، فيصعق الناس من تجلي العظمة والجلال ، كما صعق موسى يوم الطور حين تجلى ربه للجبل فجعله دكا ، وخر موسى صعقا .

فموسى ، عليه السلام ، إذا صعق الناس يوم القيامة ; إما أن يكون جوزي بصعقة الطور فلا يصعق يومئذ ، وإما أن يكون صعق فأفاق ، أي صعق صعقة خفيفة ، فأفاق قبل الناس كلهم . والله أعلم .

وقد ورد في بعض الأحاديث ، أن المؤمنين يرون الله في عرصات القيامة ، كما ثبت في " الصحيحين " ، واللفظ للبخاري من طريق قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبد الله ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البدر ، فقال : " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته " . وفي رواية للبخاري : " إنكم سترون ربكم عيانا .

[ ص: 478 ] وجاء أنهم يسجدون له سبحانه يومئذ ، كما قال ابن ماجه : حدثنا جبارة بن المغلس الحماني ، حدثنا عبد الأعلى بن أبي المساور ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أذن لأمة محمد في السجود ، فيسجدون له طويلا ، ثم يقال : ارفعوا رءوسكم ، فقد جعلنا عدتكم فداءكم من النار " . وله شواهد من وجوه أخر ، كما سيأتي .

وقال البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " حتى إن أحدهم ليتلفت فيكشف عن ساق ، فيقعون سجودا ، وترجع أصلاب المنافقين حتى تكون عظما ، كأنها صياصي البقر " . ثم قال : لا نعلم حدث به عن الأعمش إلا أبا عوانة ، قلت : وسيأتي له شاهد من وجه آخر .

وذكر في حديث الصور : " إن الله ينادي العباد يوم القيامة فيقول : إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا ، أرى أعمالكم وأسمع أقوالكم ، فأنصتوا لي ، فإنما هي أعمالكم ، وصحفكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " .

وروى الإمام أحمد ، من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر [ ص: 479 ] بن عبد الله ، أنه اشترى راحلة ، وسار إلى عبد الله بن أنيس شهرا ; ليسمع منه حديثا بلغه عنه ، فلما سأله عنه ، قال : سمعت رسول الله يقول : " يحشر الناس يوم القيامة - أو قال : العباد - عراة غرلا بهما " . قلنا : وما بهما ؟ قال : " ليس معهم شيء ، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق ، حتى أقصه منه ، حتى اللطمة " . قال : قلنا : وكيف وإنا إنما نأتي الله بهما ؟ قال : " بالحسنات والسيئات " .

وفى " صحيح مسلم " ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الإلهي الطويل : " يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " .

وقد قال تعالى : إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد [ هود : 103 - 105 ] . ثم ذا سبحانه ما أعده للأشقياء ، وما أعده للسعداء ، وقال تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ النبإ : 38 ] .

وثبت في " الصحيحين " : " ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل " . وقد عقد [ ص: 480 ] البخاري ، رحمه الله بابا في ذلك ، فقال في كتاب التوحيد من " صحيحه " : باب كلام الرب ، سبحانه وتعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم . ثم أورد فيه حديث أنس في الشفاعة بتمامه ، وحديث عدي : " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه " الحديث ، وحديث ابن عمر في النجوى .

ونحن نورد في هذه الترجمة أحاديث أخر ، مناسبة لهذا الباب . وقد قال الله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ المائدة : 109 ] . وقال تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ الأعراف : 6 ، 7 ] . وقال تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ الحجر : 92 ، 93 ] .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا حمزة بن العباس ، أخبرنا عبد الله بن عثمان ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا رشدين بن سعد ، أخبرني ابن أنعم المعافري ، عن حبان بن أبي جبلة ، يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل ، فيقول له ربه : ما فعلت في عهدي؟ هل بلغت عهدي؟ فيقول : نعم يا رب ، قد بلغته جبريل ، فيدعى جبريل فيقال له : هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول : نعم ، قد بلغني . فيخلى عن إسرافيل ، ويقال لجبريل : هل بلغت عهدي؟ فيقول : نعم ، قد بلغت الرسل . فتدعى الرسل [ ص: 481 ] فيقول لهم : هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون : نعم . فيخلى عن جبريل ، ويقال للرسل : ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون : بلغنا أممنا . فتدعى الأمم ، فيقال لهم : هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذب ، ومنهم المصدق ، فيقول الرسل : إن لنا عليهم شهداء يشهدون أن قد بلغنا مع شهادتك . فيقول : من يشهد لكم؟ فيقولون : أمة أحمد . فتدعى أمة أحمد ، فيقول : أتشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليه؟ فيقولون : نعم رب ، شهدنا أن قد بلغوا . فتقول تلك الأمم : كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟ فيقول لهم الرب تعالى : كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون : ربنا ، بعثت إلينا رسولا ، وأنزلت إلينا عهدك وكتابك ، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا ، فشهدنا بما عهدت إلينا . فيقول الرب : صدقوا . فذلك قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] .

قال ابن أنعم : فبلغني أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد ، إلا من كان في قلبه حنة على أخيه .

B-happy 1 - 11 - 2010 10:20 PM

ذكر كلام الرب تعالى مع آدم ، عليه السلام

قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن ثور ، عن أبي الغيث ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أول من يدعى يوم القيامة آدم ، فيقال : هذا أبوكم آدم . فيقول : يا رب ، لبيك وسعديك . فيقول له ربنا : أخرج نصيب جهنم من ذريتك . فيقول : يا رب ، وكم؟ فيقول : من كل مائة تسعة وتسعين " . فقلنا : يا رسول الله ، أرأيت إذا أخذ منا من كل مائة تسعة وتسعين ، فماذا يبقى منا؟ قال : " إن أمتي في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود " .

ورواه البخاري عن إسماعيل بن عبد الله ، عن أخيه ، عن سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد الديلي ، عن سالم أبي الغيث ، مولى ابن مطيع ، عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أول من يدعى يوم القيامة آدم ، فتراءى ذريته ، فيقال : هذا أبوكم آدم . فيقول : لبيك وسعديك . فيقول : أخرج بعث جهنم من ذريتك " . وذكر تمامه كما تقدم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم ، قم فابعث بعث النار . فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، يا رب ، وما بعث النار؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين . قال : فحينئذ يشيب المولود ، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [ ص: 483 ] [ الحج : 2 ] .

قال : فيقولون : فأينا ذلك الواحد؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج ، ومنكم واحد " . قال : فقال الناس : الله أكبر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " . قال : فكبر الناس . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض " .

ورواه البخاري ، عن عمر بن حفص بن غياث ، عن أبيه ، عن الأعمش ، به . ورواه مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع به ، وأخرجاه من طرق أخر ، عن الأعمش ، به .

وفى " صحيح البخاري " عن بندار ، عن غندر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في قبة ، فقال : " أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ " قلنا : نعم . قال : " أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ " . قلنا : نعم . قال : " أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة ؟ " . قلنا : نعم . قال : " والذي نفس محمد [ ص: 484 ] بيده ، إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة ، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر " .

كلام الرب تعالى مع نوح ، عليه السلام ، وسؤاله إياه عن البلاغ

كما قال الله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ الأعراف : 6 ] .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يدعى نوح ، عليه السلام ، يوم القيامة ، فيقال له : هل بلغت؟ فيقول : نعم . فيدعى قومه ، فيقال : هل بلغكم؟ فيقولون : ما أتانا من نذير " أو : " ما أتانا من أحد " . قال : " فيقال لنوح : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته " . قال : " فذلك قوله : وكذلك جعلنكم أمة وسطا [ البقرة : 143 ] . قال : " والوسط العدل " ، قال : " فيدعون ، فيشهدون له بالبلاغ " . قال : " ثم أشهد عليكم " .

وهكذا رواه البخاري ، والترمذي ، والنسائي ، من طرق عن الأعمش ، به ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

[ ص: 485 ] وقد رواه الإمام أحمد ، بلفظ أعم من هذا ، فقال : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل ، والنبي ومعه الرجلان ، وأكثر من ذلك ، فيدعى قومه ، فيقال لهم : هل بلغكم هذا؟ فيقولون : لا . فيقال له : هل بلغت قومك؟ فيقول : نعم . فيقال له : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته . فيدعى وأمته ، فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون : نعم . فيقال : وما علمكم؟ فيقولون : جاءنا نبينا ، فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا . فذلك قوله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس قال : يقول : " عدلا ، لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] . وهكذا رواه ابن ماجه ، عن أبي كريب ، وأحمد بن سنان ، كلاهما عن أبي معاوية .

قلت : ومضمون هذا أن هذه الأمة يوم القيامة يكونون عدولا عند سائر الأمم والأنبياء ، ولهذا يستشهد بهم سائر الأنبياء على أممهم ، ولولا اعتراف أممهم بشرف هذه الأمة لما حصل إلزامهم بشهادتهم .

وفي حديث بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده معاوية بن حيدة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها ، وأكرمها على الله عز وجل " .

ذكر تشريف إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، يوم القيامة على رءوس الأشهاد

قال الله تعالى : وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين [ العنكبوت : 27 ] . وقال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقال : " إنكم محشورون حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده الآية [ الأنبياء : 104 ] . وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل ، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا رب ، أصحابي . فيقول : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول كما قال العبد الصالح : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله الحكيم [ المائدة : 117 ، 118 ] . قال : " فيقال : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم " .

ذكر موسى صلى الله عليه وسلم وظهور شرفه وجلالته وكرامته يوم القيامة ووجاهته عند الله ، وكثرة أتباعه ، وانتشار أمته

قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها [ الأحزاب : 69 ] . وقال تعالى : واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا [ مريم : 51 - 53 ] . وقال تعالى : قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي [ الأعراف : 144 ] . وقال : وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني . إلى قوله : واصطنعتك لنفسي [ طه : 39 ، 41 ] . والقرآن مملوء بذكر موسى والثناء عليه من الله عز وجل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوني على موسى; فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى ، باطش بالعرش " . الحديث .

وقال تعالى : وكلم الله موسى تكليما [ النساء : 164 ] . وثبت في الصحيح في حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بموسى ليلة الإسراء وهو قائم يصلي في قبره ، ورآه في السماء السابعة - وفي رواية : في السادسة - ليلة الإسراء ، وكانت شريعة موسى عظيمة جدا ، وأمته كثيرة جدا ، وكان فيهم [ ص: 488 ] الأنبياء والعلماء ، والربانيون ، والأحبار ، والعباد ، والزهاد ، والصالحون ، والمؤمنون ، والمسلمون ، والملوك ، والسادات ، والكبراء ، وطالت أيامهم في أرغد عيش وأطيبه ، مع القهر ، والغلبة لأهل الأرض قاطبة ، ولا سيما في زمن داود ، وسليمان ، عليهما السلام ، وقد مدح الله بعضهم ، وأثنى عليه في القرآن ، فقال تعالى : ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون [ الأعراف : 159 ] ، وقال : وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك [ الأعراف : 168 ] . وقال : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا [ مريم : 158 ] . وقال تعالى : ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر [ الجاثية : 16 ، 17 ] ، وقد ذكرهم الله كثيرا في القرآن . وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سوادا عظيما قد سد الأفق ، فظنها أمته ، فقيل : هذا موسى وقومه . والآيات والأحاديث في فضل موسى صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة كثيرة جدا .

ذكر عيسى ، عليه الصلاة والسلام ، وكلام الرب معه يوم القيامة

قال الله تعالى : وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله [ المائدة : 116 ] ، إلى آخر السورة . وهذا السؤال من الله [ ص: 489 ] تعالى يوم القيامة لعيسى ابن مريم - مع علمه تعالى أنه لم يقل شيئا من ذلك ، ولا خطر ذلك بقلبه قط ، ولا حدثته به نفسه - إنما هو على سبيل التقريع والتوبيخ لمن اعتقد فيه ذلك ، من ضلال النصارى ، وجهلة أهل الكتاب ، فيبرأ إلى الله تعالى من هذه المقالة ، وممن قالها فيه وفي أمه ، كما تتبرأ الملائكة ممن اعتقد فيهم شيئا من ذلك ، كما قال تعالى : ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ سبإ : 40 ، 41 ] . وقال تعالى : ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل . إلى قوله : نذقه عذابا كبيرا [ الفرقان : 17 - 19 ] . وقال تعالى : ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون [ يونس : 28 - 30 ] .

وأما المقام المحمود المحمدي يوم القيامة فلا يساويه ، بل ولا يدانيه أحد فيه ، ويحصل له من التشريفات ما يغبطه بها الخلائق كلهم .

وقد تقدم ما ورد في المقام المحمود من الأحاديث ، وأنه صلى الله عليه وسلم أول من يسجد بين يدي الله تعالى يوم القيامة ، وأول من يشفع فيشفع ، وأول من يكسى [ ص: 490 ] بعد الخليل حلتين خضراوين ، ويجلس الخليل بين يدي العرش ، ومحمد صلى الله عليه وسلم عن يمين العرش ، فيقول : " يا رب ، إن هذا - ويشير إلى جبريل - أخبرني عنك أنك أرسلته إلي " . فيقول الله تعالى : صدق جبريل " .

وقد روى ليث بن أبي سليم ، وأبو يحيى القتات ، وعطاء بن السائب ، وجابر الجعفي ، عن مجاهد ، أنه قال في تفسير المقام المحمود : إنه يجلسه معه على العرش . وروي نحو هذا عن عبد الله بن سلام ، وجمع فيه أبو بكر المروذي جزءا كبيرا ، وحكاه هو وغيره عن غير واحد من السلف وأهل الحديث; كأحمد ، وإسحاق بن راهويه وخلق . وقال ابن جرير : وهذا شيء لا ينكره مثبت ولا ناف . وقد نظمه الحافظ أبو الحسن الدارقطني في قصيدة له .

قلت : ومثل هذا لا ينبغي قبوله إلا عن معصوم ، ولم يثبت في هذا حديث يعول عليه ، ولا يصار بسببه إليه ، وقول مجاهد ، وغيره في هذا : إنه المقام المحمود ليس بحجة بمجرده ، وكذلك ما روي عن عبد الله بن سلام لا يصح ، ولكن قد تلقاه جماعة من أهل الحديث بالقبول ، ولم يصح إسناده إلى ابن سلام . والله سبحانه أعلم بالصواب .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا أبو سفيان المعمري ، عن معمر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ص: 491 ] " إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم ، حتى لا يكون للإنسان إلا موضع قدميه " . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأكون أول من يدعى ، وجبريل عن يمين الرحمن ، والله ما رآه قبلها ، فأقول : يا رب ، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي . فيقول الله تعالى : صدق . ثم أشفع فأقول : يا رب ، عبادك في أطراف الأرض . فهو المقام المحمود " .

قلت : قد ورد في المقام المحمود أنه الشفاعة العظمى في الخلق ليقضى بينهم حين يأتون آدم ، ونوحا ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، فإذا جاءوا لدى النبي صلى الله عليه وعليهم ، قال : " أنا لها ، أنا لها " . فهذا هو المقام المحمود الذي يحمده به الأولون والآخرون ، كما روي في الأحاديث الصحيحة .

ذكر ما ورد في كلام الرب سبحانه مع العلماء يوم فصل القضاء

قال الطبراني : حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا العلاء بن مسلمة ، حدثنا [ ص: 492 ] إبراهيم الطالقاني ، حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن سماك بن حرب ، عن ثعلبة بن الحكم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى للعلماء إذا جلس على كرسيه لفصل القضاء : إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم ، إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ، ولا أبالي " .

قلت : ولا يصح ، ولو صح كان المراد به العلماء العاملون . والله أعلم .
ذكر أول كلامه عز وجل ، للمؤمنين

قال أبو داود الطيالسي : حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثني يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زحر ، عن خالد بن أبي عمران ، عن أبي عياش ، عن معاذ بن جبل ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن شئتم أنبأتكم بأول ما يقول الله عز وجل للمؤمنين يوم القيامة ، وبأول ما يقولون له " . قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : " فإن الله تعالى يقول للمؤمنين : هل أحببتم لقائي؟ فيقولون : نعم يا ربنا . فيقول : وما حملكم على ذلك؟ فيقولون : عفوك ورحمتك [ ص: 493 ] ورضوانك . فيقول؟ فإني قد أوجبت لكم رحمتي .

فصل ( مخاطبة الله عز وجل لعبده الكافر يوم القيامة )

وأما الكفار فقد قال الله تعالى : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [ آل عمران : 77 ] .

وقال تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [ البقرة : 174 ، 1175 ] والمراد من هذا أنه لا يكلمهم ولا ينظر إليهم كلاما ينتفعون به ونظرا يرحمهم به . كما أنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون; لقوله تعالى : ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم [ الأنعام : 128 ] . وقال تعالى : هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين [ المرسلات : 38 - 40 ] . وقال تعالى : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون [ المجادلة : 18 ] [ ص: 494 ] ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون [ القصص : 62 - 66 ] . وقال بعده ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون [ القصص : 74 ، 75 ] . والآيات في هذا كثيرة جدا .

وثبت في " الصحيحين " - كما سيأتي - من طريق خيثمة ، عن عدي بن حاتم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان " . " فيلقى الرجل فيقول : ألم أكرمك؟ ألم أزوجك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول : بلى . فيقول : أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول : لا . فيقول : فاليوم أنساك كما نسيتني " . فهذا فيه تصريح بمخاطبة الله لعبده الكافر .

وأما العصاة ففي حديث ابن عمر الذي في " الصحيحين " حديث النجوى - كما سيأتي - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يدني الله العبد يوم القيامة [ ص: 495 ] حتى يضع عليه كنفه ، ثم يقرره بذنوبه ، فيقول : عملت في يوم كذا كذا وكذا ، وفي يوم كذا كذا وكذا . فيقول : نعم يا رب . حتى إذا ظن أنه قد هلك ، قال الله تعالى : إني سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم " .
فصل في إبراز النيران ، والجنان ، ونصب الميزان ، ومحاسبة الديان

قال الله سبحانه وتعالى : وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين [ الشعراء : 90 ، 91 ] ، . وقال : وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت [ التكوير : 12 - 14 ] . وقال تعالى : يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد [ ق : 30 - 31 ] ، الآيات . وقال تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة [ الأنبياء : 47 ] ، الآية . وقال تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة [ النساء : 40 ] . وقال لقمان لابنه فيما أخبر الله عنه : يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير [ لقمان : 16 ] . والآيات في هذا كثيرة جدا .

>>

B-happy 1 - 11 - 2010 10:21 PM

ذكر إبداء عنق من النار إلى المحشر فيطلع على الناس

قال الله تعالى : وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [ ص: 496 ] [ الفجر : 23 ] وقال مسلم في " صحيحه " : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، عن العلاء بن خالد الكاهلي ، عن شقيق ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك ، يجرونها " . وكذا رواه الترمذي مرفوعا ، ومن وجه آخر هو وابن جرير موقوفا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية ، حدثنا شيبان ، عن فراس ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " يخرج عنق من النار يتكلم فيقول : وكلت اليوم بثلاثة : بكل جبار ، ومن جعل مع الله إلها آخر ، ومن قتل نفسا بغير نفس . فينطوي عليهم ، فيقذفهم في غمرات جهنم " . تفرد به من هذا الوجه ، وسيأتي في باب الميزان عن خالد ، عن القاسم ، عن عائشة ، نحوه .

وقد قال تعالى : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا [ الفرقان : 12 - 14 ] ، . قال السدي : إذا رأتهم من مكان بعيد .

[ ص: 497 ] قال : من مسيرة مائة عام . سمعوا لها تغيظا وزفيرا . من شدة حنقها وبغضها لمن أشرك بالله ، واتخذ معه إلها آخر . وفي الحديث " من كذب علي ، وادعى إلى غير أبيه ، وانتمى إلى غير مواليه فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا " ، قالوا : يا رسول الله ، وهل لها من عينين؟ قال : " أوما سمعتم الله يقول : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا . رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : إن الرجل ليجر إلى النار ، فتنزوي وينقبض بعضها إلى بعض ، فيقول الرحمن : ما لك ؟ فتقول : إنه يستجير مني . فيقول : أرسلوا عبدي . وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول : يا رب ، ما كان هذا الظن بك . فيقول : فما كان ظنك؟ فيقول : أن تسعني رحمتك . فيقول : أرسلوا عبدي . وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير ، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف . إسناده صحيح .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن المنصور ، عن مجاهد ، عن عبيد بن عمر ، قال : إن جهنم تزفر زفرة ، لا يبقى ملك ولا نبي إلا خر ترعد فرائصه ، حتى إن إبراهيم ليجثو على ركبتيه ، ويقول : رب ، لا أسألك اليوم إلا نفسي .

[ ص: 498 ] وقال في حديث الصور : " ثم يأمر الله جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم ، ثم يقول تعالى : ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون [ يس : 60 - 64 ] . وقال : وامتازوا اليوم أيها المجرمون [ يس : 159 ] . فيميز الله بين الخلائق ، وتجثو الأمم ، وذلك قوله تعالى : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ الجاثية : 28 ، 29 ] .

ذكر الميزان

قال تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة الآية [ الأنبياء : 47 ] . وقال تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون [ المؤمنون : 102 ، 103 ] . وقال تعالى : والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون [ الأعراف : 8 ، 9 ] . وقال تعالى : فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية [ القارعة : 6 ، 7 ] ، الآيات . وقال تعالى : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا [ الكهف : 105 ] .

[ ص: 499 ] قال أبو عبد الله القرطبي : قال العلماء : إذا انقضى الحساب ، كان بعده وزن الأعمال; لأن الوزن للجزاء ، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة ، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال ، والوزن لإظهار مقاديرها; ليكون الجزاء بحسبها .

وقال : وقوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة . يحتمل أن يكون ثم موازين متعددة توزن فيها الأعمال ، ويحتمل أن يكون المراد الموزونات ، فجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة . والله أعلم .
بيان كون الميزان له كفتان حسيتان مشاهدتان

قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني ، حدثنا ابن المبارك ، عن ليث بن سعد ، حدثني عامر بن يحيى ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، واسمه عبد الله بن يزيد : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا ، كل سجل مد البصر ، ثم يقول له : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال : لا يا رب . فيقول : ألك عذر ، أو حسنة؟ فيبهت الرجل ، فيقول : لا يا رب . فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة واحدة ، لا ظلم عليك اليوم . فتخرج له بطاقة ، فيها : أشهد أن لا إله [ ص: 500 ] إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله . فيقول : أحضروه . فيقول : يا رب ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقول : إنك لا تظلم . قال : فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة . قال : فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ، ولا يثقل شيء مع اسم الله الرحمن الرحيم " . وهكذا رواه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن أبي الدنيا ، من حديث الليث - زاد الترمذي : وابن لهيعة - كلاهما عن عامر بن يحيى ، به . قال الترمذي : حسن غريب .

سياق آخر لهذا الحديث : قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عمرو بن يحيى ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " توضع الموازين يوم القيامة ، فيؤتى بالرجل ، فيوضع في كفة ، فيوضع ما أحصي عليه ، فيتمايل به الميزان ، [ ص: 501 ] قال : فيبعث به إلى النار ، قال : فإذا أدبر به ، إذا صائح من عند الرحمن تعالى ، يقول : لا تعجلوا ، لا تعجلوا ، فإنه قد بقي له . فيؤتى ببطاقة فيها : لا إله إلا الله . فتوضع مع الرجل في كفة ، حتى يميل به الميزان " . وهذا السياق فيه غرابة ، فيه فائدة جليلة; وهي أن العامل يوزن مع عمله .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أحمد بن محمد بن البراء المقرئ ، حدثنا يعلى بن عبيد ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو - رفعه - قال : " يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان ، فيخرج له تسعة وتسعون سجلا ، كل سجل منها مد البصر ، فيها ذنوبه وخطاياه ، فتوضع في كفة ، ثم يخرج له قرطاس مثل الأنملة ، فيه شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فتوضع في الكفة الأخرى ، فترجح بخطاياه " .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام ، حدثنا حجاج ، عن فطر بن خليفة ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط قال : لما حضر أبا بكر الموت أرسل إلى عمر ، فقال : إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا ، وثقله عليهم ، وحق لميزان إذا وضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا ، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا ، وخفته عليهم ، وحق لميزان إذا وضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا .

[ ص: 502 ] وقال الإمام أحمد : عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن أبي مليكة ، عن يعلى بن مملك ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أثقل شيء يوضع في الميزان خلق حسن " .

وقد وردت الأحاديث بوزن الأعمال أنفسها ، كما في " صحيح مسلم " ، من طريق أبي سلام ، عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماوات والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها ، أو موبقها " . فقوله : " والحمد لله تملأ الميزان " . فيه دلالة على أن العمل نفسه يوزن ، وذلك بأحد شيئين؟ إما أن العمل نفسه وإن كان عرضا قد قام بالفاعل ، يحيله الله تعالى يوم القيامة ، فيجعله ذاتا توضع في الميزان ، كما ورد في الحديث الذي رواه ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو خيثمة ، ومحمد بن سليمان ، وغيرهما ، قالوا : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن أبي مليكة ، عن يعلى بن مملك ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أثقل شيء يوضع في الميزان خلق حسن " .

[ ص: 503 ] وكذا رواه الإمام أحمد ، عن سفيان بن عيينة به . ورواه أحمد ، عن غندر ، ويحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن عطاء الكيخاراني ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن " . وقد رواه الإمام أحمد أيضا من حديث الحسن بن مسلم ، عن عطاء ، وأخرجه أبو داود من حديث شعبة ، به ، والترمذي من حديث مطرف ، عن عطاء الكيخاراني ، به .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن زيد ، عن أبي سلام ، عن مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بخ بخ لخمس ، ما أثقلهن في الميزان : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده . وقال : بخ بخ لخمس ، من لقي الله مستيقنا بهن دخل الجنة : يؤمن بالله ، واليوم الآخر ، وبالجنة والنار ، وبالبعث بعد الموت ، والحساب " . انفرد به أحمد .

[ ص: 504 ] وكما ثبت في الحديث الآخر : " تأتي البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان ، أو غيايتان ، أو فرقان من طير صواف ، يحاجان عن صاحبهما " . والمراد من ذلك ثواب تلاوتهما يصير يوم القيامة كذلك ، وقيل : إنهما بذاتهما يحاجان عنه ، لا ثوابهما .

الأمر الثاني : إن العمل نفسه يوزن بوضع الصحيفة التي كتب فيها العمل ، فيوزن العمل بالصحيفة ، كما في حديث البطاقة . والله أعلم .

وقد جاء أن العامل نفسه يوزن ، كما قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا المغيرة ، حدثني أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة " . وقال : اقرءوا إن شئتم : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا [ الكهف : 105 ] . قال البخاري : وعن يحيى بن بكير ، عن المغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الزناد ، مثله . وقد أسند مسلم ما علقه البخاري ، عن أبي بكر محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن بكير ، فذكره . وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة; فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي " حدثنا أبو [ ص: 505 ] الوليد ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم ، فيوزن بحبة فلا يزنها " . قال : وقرأ : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا .

ورواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن ابن الصلت ، عن ابن أبي الزناد ، عن صالح " عن أبي هريرة ، مرفوعا بلفظ البخاري سواء ، وقد قال البزار : حدثنا العباس بن محمد ، حدثنا عون بن عمارة ، حدثنا هشام بن حسان ، عن واصل ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له ، فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا بريدة ، هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا " . ثم قال : تفرد به عون بن عمارة ، وليس بالحافظ ، ولم يتابع عليه .

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، وحسن بن موسى ، قالا : حدثنا حماد ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن ابن مسعود ، أنه كان يجتني سواكا من الأراك ، وكان دقيق الساقين ، فجعلت الريح تكفئه ، فضحك القوم منه ، [ ص: 506 ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مم تضحكون ؟ " قالوا : يا نبي الله ، من دقة ساقه . فقال : " والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد " . تفرد به أحمد ، وإسناده جيد قوي ، فقد جاءت الروايات بهذه الصفات .

وفي " مسند أحمد " في بعض طرق حديث البطاقة ، من طريق ابن لهيعة; أن العامل يوزن مع عمله وصحيفته . والله أعلم بالصواب .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا القاسم بن الفضل ، قال : قال الحسن : قالت عائشة : يا رسول الله ، هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال : " أما في مواطن ثلاثة فلا : الكتاب ، والميزان ، والصراط " .

فقوله : " الكتاب " يحتمل أن يكون كتاب الأعمال ليشهد على الأنفس بأعمالها ، ويحتمل أن يكون ذلك عند تطاير الصحف في أيدي الناس فآخذ بيمينه ، وآخذ بشماله ، كما قال البيهقي : أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي المقرئ ، أخبرنا الحسن بن محمد بن إسحاق ، حدثنا يوسف بن يعقوب القاضي ، حدثنا محمد بن منهال ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا يونس بن عبيد ، عن الحسن ، أن عائشة ذكرت النار فبكت ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما [ ص: 507 ] يبكيك يا عائشة؟ " قالت : ذكرت النار فبكيت ; هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال : أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا : حيث يوضع الميزان; حتى يعلم أيثقل ميزانه أم يخف ، وحيث يقول : هاؤم اقرءوا كتابيه [ الحاقة : 19 ] . حيث تطاير الصحف ، حتى يعلم كتابه في يمينه ، أو في شماله ، أو من وراء ظهره ، وحيث يوضع الصراط على جسر جهنم " . قال يونس : أشك هل قال الحسن : حافتاه كلاليب وحسك ، يحبس الله به من يشاء من خلقه ، حتى يعلم أينجو أم لا ينجو؟ .

ثم قال البيهقي : أخبرنا الروذباري ، أخبرنا ابن داسة ، حدثنا أبو داود ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، وحميد بن مسعدة ، أن إسماعيل بن إبراهيم حدثهم ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن ، عن عائشة ، أنها ذكرت النار فبكت ، وذكر الحديث بنحوه ، إلا أنه قال : " وعند الكتاب ، حين يقال : هاؤم اقرءوا كتابيه . حتى يعلم أين يقع كتابه ، أفي يمينه أم في شماله ، أم من وراء ظهره ، وعند الصراط ، إذا وضع بين ظهري جهنم " . قال يعقوب عن يونس : وهذا لفظ حديثه .

طريق أخرى عن عائشة ، رضي الله عنها : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أخبرنا ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت : قلت : يا رسول الله ، هل يذكر الحبيب حبيبه يوم [ ص: 508 ] القيامة؟ قال : " يا عائشة ، أما عند ثلاث فلا; أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف فلا ، وأما عند تطاير الكتب ، فإما أن يعطى بيمينه أو يعطى بشماله فلا ، ثم حين يخرج عنق من النار فينطوي عليهم ، ويتغيظ عليهم ، ويقول ذلك العنق : وكلت بثلاثة ، وكلت بمن ادعى مع الله إلها آخر ، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب ، ووكلت بكل جبار عنيد " . قال : " فينطوي عليهم ، ويرمي بهم في غمرات ، ولجهنم جسر أدق من الشعر ، وأحد من السيف ، عليه كلاليب وحسك ، تأخذ من شاء الله ، والناس عليه كالطرف ، وكالبرق ، وكالريح ، وكأجاويد الخيل والركاب ، والملائكة يقولون : رب سلم ، رب سلم . فناج مسلم ، ومخدوش مسلم ، ومكور في النار على وجهه " .

وتقدم من رواية حرب بن ميمون ، عن النضر بن أنس ، عن أنس ، أنه قال : اشفع لي يا رسول الله ، قال : " أنا فاعل " . قال : فأين أطلبك؟ قال : " اطلبني أول ما تطلبني عند الصراط " . قال : فإن لم ألقك؟ قال : " فعند الحوض " . قال : فإن لم ألقك؟ قال : " فعند الميزان؟ فإني لا أخطئ هذه الثلاثة مواطن يوم القيامة " . رواه أحمد والترمذي .

[ ص: 509 ] وقال الحافظ البيهقي : أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن إبراهيم المهراني ، حدثنا أحمد بن سلمان الفقيه ببغداد ، حدثنا الحارث بن محمد ، حدثنا داود بن المحبر ، حدثنا صالح المري ، عن جعفر بن زيد ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يؤتى بابن آدم يوم القيامة ، فيوقف بين كفتي الميزان ، ويوكل به ملك ، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا . وإن خف ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا " . ثم مال : إسناده ضعيف بمرة .

وقد رواه الحافظان البزار ، وابن أبي الدنيا ، عن إسماعيل بن أبي الحارث ، عن داود بن المحبر ، حدثنا صالح المري ، عن ثابت البناني ، وجعفر بن زيد ، زاد البزار : ومنصور بن زاذان ، عن أنس بن مالك ، - يرفعه ، بنحوه . وقال عبد الله بن المبارك : حدثنا مالك بن مغول ، عن عبيد الله بن العيزار ، قال؟ عند الميزان ملك إذا وزن العبد نادى : ألا إن فلان ابن فلان ثقلت موازينه ، وسعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، ألا إن فلان ابن فلان خفت موازينه ، وشقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا .

[ ص: 510 ] وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا يوسف بن صهيب ، حدثنا موسى بن أبي المختار ، عن بلال العبسي ، عن حذيفة ، قال : صاحب الميزان يوم القيامة جبريل ، يرد بعضهم على بعض ، ولا ذهب يومئذ ولا فضة . قال : فيؤخذ من حسنات الظالم ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم ، فردت على الظالم .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن العباس بن محمد ، حدثنا عبد الله بن صالح العجلي ، حدثنا أبو الأحوص ، قال : افتخرت قريش عند سلمان ، فقال سلمان : لكني خلقت من نطفة قذرة ، ثم أعود جيفة منتنة ، ثم يؤتى بي إلى الميزان ، فإن ثقلت فأنا كريم ، وإن خفت فأنا لئيم . قال أبو الأحوص : تدري من أي شيء يخاف؟ إذا ثقلت ميزان عبد نودي في مجمع فيه الأولون والآخرون : ألا إن فلان ابن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإذا خفت ميزانه نودي على رءوس الخلائق : ألا إن فلان ابن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا .

وقال البيهقي : حدثنا أبو الحسن علي بن أبي علي السقاء ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن عبيد الله المنادي ، حدثنا يونس بن [ ص: 511 ] محمد ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن يحيى بن يعمر ، عن ابن عمر ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، في حديث الإيمان ، قال : يا محمد ، ما الإيمان ، قال : " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وتؤمن بالجنة والنار والميزان ، وتؤمن بالبعث بعد الموت ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " . قال : فإذا فعلت هذا فأنا مؤمن؟ قال : " نعم " . قال : صدقت . وقال شعبة : عن الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، هو ابن مسعود ، قال : للناس عند الميزان تجادل وزحام .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو نصر التمار ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي ، قال : يوضع الميزان وله كفتان ، لو وضع في إحداهما السماوات والأرض وما فيهن لوسعتها ، فتقول الملائكة : يا ربنا من يزن بهذا؟ فيقول تعالى : من شئت من خلقي . فيقولون : ربنا ، ما عبدناك حق عبادتك .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا يوسف بن موسى : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أبو حنيفة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، في قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة [ الأنبياء : 47 ] . قال : يجاء بعمل الرجل فيوضع في كفة ميزانه ، ويجاء بشيء مثل الغمامة ، أو مثل السحاب كثرة فيوضع في كفة أخرى في ميزانه ، فيرجح ، فيقال : أتدري ما هذا؟ هذا العلم [ ص: 512 ] الذي تعلمته ، وعلمته الناس ، فعلموه وعملوا به بعدك .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا ابن المبارك ، عن أبي بكر الهذلي ، قال : قال سعيد بن جبير وهو يحدث ذاك عن ابن مسعود ، قال : يحاسب الناس يوم القيامة ، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار . ثم قرأ : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم [ المؤمنون : 102 ، 103 ] . ثم قال؟ إن الميزان يخف بمثقال حبة من خردل أو يرجح .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا هارون بن سفيان ، حدثنا السهمي ، حدثنا عباد بن شيبة ، عن سعيد بن أنس ، عن الحسن ، قال : يعتذر الله يوم القيامة إلى آدم ثلاث معاذير ، يقول : يا آدم ، لولا أني لعنت الكاذبين ، وأبغض الكذب والخلف ، لرحمت ذريتك اليوم من شدة ما أعددت لهم من العذاب ، ولكن حق القول مني لمن كذب رسلي وعصى أمري ، لأملأن جهنم منهم أجمعين . ويا آدم ، اعلم أني لا أعذب بالنار أحدا من ذريتك ، وأدخل النار أحدا منهم إلا من قد علمت في علمي أنه لو رددته إلى الدنيا لعاد إلى شر مما كان عليه ، ولن يرجع . ويا آدم ، أنت اليوم عدل بيني وبين ذريتك ، قم عند الميزان ، فانظر ما يرجع إليك من أعمالهم ، فمن رجح خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة ، حتى تعلم أني لا أعذب إلا كل ظالم .

[ ص: 513 ] وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن يوسف بن الصباح ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي عبد الرحمن ، عن أبي أمامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة قامت ثلة من الناس ، يسدون الأفق ، نورهم كنور الشمس ، فيقال : للنبي الأمي . فيتحسس لها كل نبي ، فيقال : محمد وأمته . ثم تقوم ثلة أخرى تسد ما بين الأفق ، نورهم كنور القمر ليلة البدر ، فيقال : للنبي الأمي . فيتحسس لها كل نبي ، فيقال : محمد وأمته . ثم تقوم ثلة أخرى ، نورهم مثل كل كوكب في السماء ، فيقال : للنبي الأمي . فيتحسس لها كل نبي ، فيقال : محمد وأمته . ثم يجيء الرب تعالى ، فيقول : هذا لك مني يا محمد ، وهذا لك مني يا محمد . ثم يوضع الميزان ، ويؤخذ في الحساب " .
فصل ( إنكار المعتزلة للميزان والرد عليهم )

وقد نقل القرطبي عن بعضهم أن الميزان له كفتان عظيمتان ، لو وضعت السماوات والأرض في كل واحدة منهما لوسعتها ، فأما كفة الحسنات فنور ، وأما الأخرى فظلمة ، وهو منصوب بين يدي العرش ، وعن يمينه الجنة ، وكفة النور من ناحيتها ، وعن يساره جهنم ، وكفة الظلمة من ناحيتها .

قال : وقد أنكرت المعتزلة الميزان ، وقالوا : الأعمال أعراض لا جرم لها ، [ ص: 514 ] فكيف توزن قال : وقد روي عن ابن عباس : أن الله يخلق الأعراض أجساما ، فتوزن . قال : والصحيح أنه توزن كتب الأعمال . قلت : قد تقدم ما يدل على الأول ، وعلى الثاني ، وعلى أن العامل نفسه يوزن مع عمله .

قال القرطبي : وقد روي عن مجاهد ، والضحاك ، والأعمش ، أن الميزان هنا بمعنى العدل والقضاء ، وذكر الوزن والميزان ضرب مثل ، كما يقال : هذا الكلام في وزن هذا .

قلت : لعل هؤلاء إنما فسروا هذا عند قوله تعالى : والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان [ الرحمن : 7 - 9 ] . فها هنا المراد بالميزان أنه تعالى وضع العدل بين عباده ، وأمر عباده أن يتعاملوا به فيما بينهم ، فأما الميزان الموضوع يوم القيامة فقد تواترت بذكره الأحاديث كما رأيت ، وهو ظاهر القرآن العظيم : فمن ثقلت موازينه [ الأعراف : 8 ] . ومن خفت موازينه [ الأعراف : 9 ] . وهذا إنما يكون لشيء محسوس .

قال القرطبي : فالميزان حق ، وليس هو في حق كل أحد ، بدليل قوله تعالى . يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام [ الرحمن : 41 ] . وقوله صلى الله عليه وسلم : " فيقول الله : يا محمد ، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن ، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب " .

[ ص: 515 ] قلت : وقد تواترت الأخبار في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، لكن يلزم من هذا أن لا توزن أعمالهم ، وفي هذا نظر ، والله أعلم . وقد توزن أعمال الشهداء ، وإن كانت راجحة; لإظهار شرفهم وفضلهم على رءوس الأشهاد ، والتنويه بسعادتهم ونجاتهم ، وإن كانوا لا حساب عليهم . وأما الكفار فتوزن أعمالهم ، وإن لم يكن لهم حسنات تنفعهم يقابل بها كفرهم ، فإن حسناتهم - ولو بلغت ما بلغت - لا تقابل كفرهم ولا توازنه ، وهي غير نافعة لهم ، فتوزن لإظهار شقائهم وتوبيخهم وفضيحتهم على رءوس الأشهاد . وقد جاء في الحديث : " إن الله لا يظلم أحدا حسنة ، أما الكافر فيطعمه بحسناته في الدنيا ، حتى يوافي الله وليس له حسنة يجزيه بها " .

وقد ذكر القرطبي في " التذكرة " أن الكافر قد يوافي يوم القيامة بصدقة وصلة رحم وعتق ، فيخفف الله عنه بذلك من عذابه ، واستشهد بقضية أبي طالب حين جعله الله في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ، وفي هذا نظر; إذ قد يكون هذا خاصا به; لأجل حياطة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته له ، كما سقي أبو لهب في النقرة التي هي في ظهر الإبهام بسبب عتاقته ثويبة التي أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدل القرطبي على ذلك بعموم قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا الآية [ الأنبياء : 47 ] .

قلت : وقصارى هذه الآية العموم ، فيخص من ذلك الكافرون ، وقد سئل [ ص: 516 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان ، : ذكر له أنه كان يقري الضيف ، ويطعم الجائع ، ويصل الرحم ، ويعتق ، فهل ينفعه ذلك؟ قال : " لا; إنه لم يقل يوما من الدهر : لا إله إلا الله " . وفي رواية : " لم يقل يوما : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين . وقال تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ الفرقان : 23 ] . وقال عن أعمال الكفار : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب [ النور : 39 ] .

فصل ( الحكم فيمن ثقلت حسناته على سيئاته بحسنة أو بحسنات )

قال القرطبي وغيره : من ثقلت حسناته على سيئاته ، ولو بصؤابة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أثقل ولو بصؤابة دخل النار ، إلا أن يعفو الله سبحانه عنه ، ومن استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف . وروي مثل هذا عن ابن مسعود ، رضي الله عنه .

قلت : يشهد له قوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ النساء : 40 ] لكن ما الحكم فيمن ثقلت حسناته على سيئاته بحسنة أو بحسنات؟ هل يدخل الجنة فيرتفع في [ ص: 517 ] درجاتها بجميع حسناته ، وتكون قد أحبطت السيئات التي وازنتها وقابلتها؟ أو يرتفع بما بقي له من الحسنات الراجحة على السيئات ، وتكون السيئات قد أسقطت ما وازنها من الحسنات ، فأبطلتها؟ وكذلك إذا رجحت سيئاته على حسناته بسيئة أو بسيئات ، هل يعذب في النار بجميع سيئاته ، أو بما رجح على حسناته من سيئاته ؟

>>

B-happy 1 - 11 - 2010 10:22 PM

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكر العرض على الله عز وجل يوم القيامة وتطاير الصحف ومحاسبة الرب عز وجل عباده

قال الله تعالى : وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [ الكهف : 48 - 49 ] . وقال تعالى : وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق [ الزمر : 69 ] إلى آخر السورة ، وقال تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم الآية . [ الأنعام : 94 ] وقال تعالى : ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ يونس : 28 - 30 ] ، وقال تعالى : ويوم نحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس . إلى قوله تعالى : ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا الآية [ الأنعام 128 - 130 ] . وقال تعالى : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية [ ص: 6 ] [ الحاقة : 18 ] . والآيات في هذا كثيرة جدا ، وسيأتي في كل موطن ما يتعلق به من آيات القرآن .

وتقدم في " صحيح البخاري " عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده " [ الأنبياء : 104 ] . وعن عائشة وأم سلمة وغيرهما نحو ما تقدم .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا أبو نصر التمار ، حدثنا عقبة الأصم ، عن الحسن ، قال : سمعت أبا موسى الأشعري ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ; فعرضتان جدال ومعاذير ، وعرضة تطاير الصحف ، فمن أوتي كتابه بيمينه ، وحوسب حسابا يسيرا ، دخل الجنة ، ومن أوتي كتابه بشماله دخل النار " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا علي بن علي بن رفاعة ، عن الحسن ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعندها تطير الصحف في الأيدي ، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله " . وكذا رواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع ، به .

[ ص: 7 ] والعجب أن الترمذي روى هذا الحديث عن أبي كريب ، عن وكيع ، عن علي بن علي ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله ، ثم قال الترمذي : ولا يصح هذا ؛ من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة . قال : وقد رواه بعضهم عن علي بن علي ، عن الحسن ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قلت : الحسن قد روى له البخاري عن أبي هريرة مقرونا بغيره .

وقد وقع في " مسند الإمام أحمد " التصريح بسماع الحسن من أبي هريرة ، فالله أعلم . وقد يكون الحديث عنده عن أبي موسى ، وأبي هريرة ، والله أعلم .

وأما الحافظ البيهقي فرواه من طريق مروان الأصفر ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود ، من قوله مثله سواء . وقد روى ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك [ ص: 8 ] أنه أنشد في ذلك شعرا :



وطارت الصحف في الأيدي منشرة فيها السرائر والجبار مطلع فكيف سهوك والأنباء واقعة
عما قليل ولا تدري بما تقع إما الجنان وفوز لا انقطاع له
أو الجحيم فلا تبقي ولا تدع تهوي بساكنها طورا وترفعهم
إذا رجوا مخرجا من غمها قمعوا طال البكاء فلم يرحم تضرعهم
فيها ولا رقة تغني ولا جزع لينفع العلم قبل الموت عالمه
قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا

وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز : يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور بلى إن ربه كان به بصيرا [ الانشقاق : 6 - 15 ] .

قال البخاري في " صحيحه " : حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة ، حدثنا عبد الله بن أبي مليكة ، حدثني القاسم بن محمد ، حدثتني عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك " . فقلت : يا رسول الله ، أليس قد قال الله تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه [ الانشقاق : 7 ، 8 ] ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما ذلك العرض ، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا [ ص: 9 ] عذب " . أشار إلى أن الله تعالى لو ناقش العباد في حسابه لهم ، لعذبهم كلهم وهو غير ظالم لهم ، ولكنه تعالى يعفو ويصفح ويغفر ، ويستر في الدنيا والآخرة ، كما في حديث ابن عمر في النجوى : " يدني الله العبد يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه ، ثم يقرره بذنوبه ، حتى إذا ظن أنه قد هلك ، قال الله تعالى : إني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم " .

فصل : قال الله تعالى : فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم الآيات [ الواقعة : 6 - 12 ] . فإذا نصب كرسي فصل القضاء انماز الكافرون عن المؤمنين في الموقف إلى ناحية الشمال ، وبقي المؤمنون عن يمين العرش ، ومنهم من يكون بين يديه ، قال الله تعالى : وامتازوا اليوم أيها المجرمون [ يس : 59 ] . وقال تعالى : ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم الآية [ يونس : 28 ] ، وقال تعالى : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون [ الجاثية : 28 ] . فالخلق كلهم قيام لرب العالمين بين يديه ، والعرق قد غمر أكثرهم ، وبلغ الجهد منهم كل مبلغ ، والناس فيه بحسب الأعمال ، كما تقدم في الأحاديث ، خاضعين ، صامتين ، لا يتكلم أحد إلا بإذنه تعالى ، ولا يتكلم يومئذ إلا الأنبياء والرسل ، حولهم أممهم ، وكتاب الأعمال قد اشتمل على عمل الأولين والآخرين ، موضوع لا يغادر [ ص: 10 ] صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، مما كان يعمل الخلق وأحصاه الله ونسوه وكتبته عليهم الحفظة ، كما قال تعالى : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره [ القيامة : 13 - 15 ] . وقال تعالى : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ الإسراء : 13 ، 14 ] . قال الحسن البصري : لقد أنصفك يا بن آدم ، من جعلك حسيب نفسك . والميزان منصوب لوزن أعمال الخير والشر ، والصراط قد مد على متن جهنم ، والملائكة محدقون ببني آدم وبالجن ، وقد برزت الجحيم ، وأزلفت دار النعيم ، وتجلى الرب سبحانه لفصل القضاء بين عباده ، وأشرقت الأرض بنور ربها ، وقرئت الصحف ، وشهدت على بني آدم الملائكة بما فعلوا ، والأرض بما عملوا على ظهرها ، فمن اعترف منهم ، وإلا ختم على فيه ، ونطقت جوارحه بما عمل بها في أوقات عمله ، من ليل أو نهار .

وقال تعالى عن الأرض : يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها [ الزلزلة : 4 ، 5 ] ، وقال تعالى : ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون الآيات إلى قوله : فأصبحتم من الخاسرين [ فصلت : 19 - 23 ] . وقال تعالى : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين [ النور : 24 ، 25 ] ، وقال تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون إلى قوله : ولا يرجعون [ يس : 65 - 67 ] ، وقال تعالى : وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما [ ص: 11 ] [ طه : 111 ، 112 ] . أي لا ينقص من حسناته شيء ، وهو الهضم ، ولا يحمل عليه من سيئات غيره ، وهو الظلم .

B-happy 1 - 11 - 2010 10:24 PM

( فصل : أول ما يقضي الله تعالى بينهم من المخلوقات الحيوانات )

فأول ما يقضي الله تعالى بينهم من المخلوقات الحيوانات ، قبل الإنس والجن ، وهما الثقلان ; فالإنس ثقل والجن ثقل ، والدليل على حشر الحيوانات يوم القيامة قوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [ الأنعام : 38 ] . وقال تعالى : وإذا الوحوش حشرت [ التكوير : 5 ] .

وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا عباس بن محمد ، وأبو يحيى البزاز ، قالا : حدثنا حجاج بن نصير ، حدثنا شعبة ، عن العوام بن مراجم ، من بني قيس بن ثعلبة ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الجماء لتقص من القرناء يوم القيامة " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن أبي عدي ، ومحمد بن جعفر ، عن شعبة : سمعت العلاء يحدث عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 12 ] " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء تنطحها " . وهذا إسناد على شرط مسلم ، ولم يخرجوه .

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، عن واصل ، عن يحيى بن عقيل ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقتص للخلق بعضهم من بعض ، حتى للجماء من القرناء ، وحتى للذرة من الذرة " . تفرد به أحمد .

وقال عبد الله بن الإمام أحمد : وجدت هذا الحديث في كتاب أبي بخط يده : حدثنا عبيد الله بن محمد ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ليث ، عن عبد الرحمن بن ثروان ، عن الهزيل بن شرحبيل ، عن أبي ذر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا وشاتان تعتلفان ، فنطحت إحداهما الأخرى ، فأجهضتها ، قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : " عجبت لها ، والذي نفسي بيده ليقادن لها يوم القيامة " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، [ ص: 13 ] هو الأعمش ، عن منذر الثوري ، عن أشياخ لهم ، عن أبي ذر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ح ) وأبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن منذر بن يعلى ، عن أشياخه ، عن أبي ذر ، فذكر معناه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان ، فقال : " يا أبا ذر ، هل تدري فيم تنتطحان ؟ " قال : لا . قال : " لكن الله تعالى يدري ، وسيقضي بينهما " . وهذا إسناد جيد حسن . قال القرطبي : ورواه شعبة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله .

قال القرطبي : وروى ليث بن أبي سليم ، عن عبد الرحمن بن ثروان ، عن الهزيل ، عن أبي ذر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشاتين تنتطحان ، فقال : " ليقضين الله يوم القيامة لهذه الجلحاء من هذه القرناء " . قال : وذكر ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، وعمرو بن الحارث ، عن بكر بن سوادة ، أن أبا سالم الجيشاني حدثه أن ثابت بن طريف استأذن على أبي ذر ، فسمعه رافعا صوته يقول : أما والله لولا يوم الخصومة لسوأتك . فدخلت ، فقلت : ما شأنك يا أبا ذر ؟ فقال : هذه . قلت : وما عليك أن تضربها ؟ فقال : أما والذي نفسي بيده - أو قال : والذي نفس محمد بيده - لتسألن الشاة فيم نطحت صاحبتها ، وليسألن الجماد فيم نكب أصبع الرجل .

[ ص: 14 ] وقال أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ، إنه ليختصم الخلق يوم القيامة حتى الشاتان فيما انتطحتا " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ابن علية ، حدثنا أبو حيان ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ، فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ، ثم قال : " لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، فيقول : يا رسول الله ، أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، فيقول : يا رسول الله ، أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول : يا رسول الله ، أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك . لا ألفين [ ص: 15 ] أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح ، فيقول : يا رسول الله ، أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق ، فيقول : يا رسول الله ، أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت ، فيقول : يا رسول الله ، أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك " . وأخرجاه في " الصحيحين " من حديث أبي حيان ، واسمه يحيى بن سعيد بن حيان التيمي ، به .

وتقدم في حديث أبي هريرة : " ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر ، فتطؤه بأخفافها ، كلما مرت عليه أخراها ردت عليه أولاها " . وذكر تمام الحديث في البقر والغنم . فهذه الأحاديث مع الآيات فيها دلالة على حشر الحيوانات كلها .

وتقدم في حديث الصور : " فيقضي الله تعالى بين خلقه إلا الثقلين ; الإنس والجن ، فيقضي بين الوحوش والبهائم ، حتى إنه ليقيد الجماء من ذات القرن ، حتى إذا فرغ الله من ذلك ، فلم يبق لواحدة تبعة عند أخرى ، قال الله تعالى لها : كوني ترابا . فعند ذلك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا [ ص: 16 ] [ النبأ : 40 ] .

وقد قال ابن أبي الدنيا : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا سيار ، أنبأنا جعفر بن سليمان : سمعت أبا عمران الجوني يقول : حدثت أن البهائم إذا رأت بني آدم يوم القيامة وقد تصدعوا من بين يدي الله عز وجل ; صنفا إلى الجنة ، وصنفا إلى النار ، أن البهائم تناديهم : الحمد لله يا بني آدم ، الذي لم يجعلنا اليوم مثلكم ، فلا جنة نرجو ، ولا عقاب نخاف .

وذكر القرطبي ، عن أبي القاسم القشيري في " شرح الأسماء الحسنى " عند قوله : المقسط الجامع . قال : وفي خبر الوحوش والبهائم ، تحشر يوم القيامة فتسجد لله سجدة ، فتقول الملائكة : ليس هذا يوم سجود ، هذا يوم الثواب والعقاب . فتقول البهائم : هذا سجود شكر ; حيث لم يجعلنا الله ، عز وجل ، من بني آدم . قال : ويقال : إن الملائكة تقول للبهائم : إن الله لم يحشركم لثواب ولا لعقاب ، وإنما حشركم تشهدون فضائح بني آدم .

وحكى القرطبي أنها إذا حشرت وحوسبت تعود ترابا ، ثم يحثى بها في وجوه فجرة بني آدم ، قال : وذلك قوله : ووجوه يومئذ عليها غبرة [ عبس : 40 ] . والله سبحانه أعلم ، وفيما ذكره نظر .

( أول ما يقضي الله فيه الدماء )

قال في حديث الصور : " ثم يقضي الله بين العباد ، فيكون أول ما يقضي فيه الدماء " . وهذا هو الواقع يوم القيامة ، وهو أنه بعد أن يفرغ الله سبحانه من الفصل بين البهائم ، يشرع في القضاء بين العباد ، كما قال تعالى : ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون [ يونس : 47 ] .

ويكون أول الأمم يقضي بينهم هذه الأمة ; لشرف نبيها صلى الله عليه وسلم وفضلها ، كما أنهم أول من يجوز على الصراط ، وأول من يدخل الجنة ، كما ثبت في " الصحيحين " من حديث عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة " . وفي رواية : " المقضي لهم قبل الخلائق " .

وقال ابن ماجه : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن سعيد بن إياس الجريري ، عن أبي نضرة ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نحن آخر الأمم ، وأول من يحاسب ، يقال : أين [ ص: 18 ] الأمة الأمية ونبيها ؟ فنحن الآخرون الأولون


ذكر أول ما يقضى بين الناس فيه يوم القيامة ومن يناقش في الحساب ومن يسامح فيه

قد تقدم في الحديث : " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء " . وفي حديث أبي هريرة : " وحتى للذرة من الذرة " . والمراد بالذرة هاهنا النملة ، والله أعلم .

وإذا كان هذا حكم الحيوانات التي ليست مكلفة ، فلتخليص الحقوق من الآدميين والجان بعضهم من بعض يوم القيامة أولى وأحرى ، وقد ثبت في " الصحيحين " ، و " مسند أحمد " ، و " سنن الترمذي " ، و " النسائي " ، و " ابن ماجه " ، من حديث سليمان بن مهران الأعمش ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة في الدماء " .

وقد تقدم في حديث الصور أن المقتول يأتي يوم القيامة تشخب أوداجه [ ص: 19 ] دما - وفي بعض الأحاديث : " ورأسه في يده " - فيتعلق بالقاتل ، حتى ولو كان قتله في سبيل الله ، فيقول : يا رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ فيقول الله تعالى : لم قتلته ؟ فيقول : يا رب : قتلته لتكون العزة لك . فيقول الله تعالى : صدقت . ويقول المقتول ظلما : يا رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ فيقول الله تعالى : لم قتلته ؟ فيقول : قتلته لتكون العزة لي - وفي رواية : " لتكون العزة لفلان " - فيقول الله تعالى : تعست . ثم يقتص منه لكل من قتله ظلما ، ثم يبقى في مشيئة الله تعالى ، إن شاء عذبه ، وإن شاء رحمه . وهذا دليل على أن القاتل لا يتعين عذابه في نار جهنم ، كما ينقل عن ابن عباس ، وغيره من السلف ، حتى نقل بعضهم عنه : أن القاتل لا توبة له . وهذا إذا حمل على أن القتل من حقوق الآدميين - وهي لا تسقط بالتوبة - صحيح ، وإن حمل على أنه لا بد من عقابه فليس بلازم ، بدليل حديث الذي قتل تسعة وتسعين ، ثم أكمل المائة ، ثم سأل عالما من بني إسرائيل هل له من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ائت بلد كذا وكذا ، فإنه يعبد الله تعالى بها فاعبد الله معهم . فلما توجه نحوها ، وتوسط بينها وبين التي خرج منها أدركه الموت ، فنأى بصدره نحو التي هاجر إليها ، فتوفته ملائكة الرحمة . الحديث بطوله ، وفي سورة " الفرقان " نص [ ص: 20 ] على قبول توبة القاتل ، كما قال تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب الآية [ الفرقان : 68 - 70 ] والتي بعدها ، وموضع تقرير هذا في كتاب " الأحكام " ، وبالله المستعان .

وقال الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : يجيء المقتول يوم القيامة ، فيجلس على الجادة ، فإذا مر به القاتل قام إليه ، فأخذ بتلابيبه فقال : يا رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ فيقول : أمرني فلان فيؤخذ الآمر والقاتل ، فيلقيان في النار . وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لخراب السماوات والأرض - وفي رواية : لزوال الدنيا - أهون على الله من قتل مؤمن " .

وقال في حديث الصور : " ثم يقضي الله تعالى بين خلقه ، حتى لا تبقى مظلمة لأحد عند أحد إلا أخذها منه ، حتى إنه ليكلف شائب اللبن بالماء ثم يبيعه ، أن يخلص اللبن من الماء " . وقد قال الله تعالى : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [ ص: 21 ] [ آل عمران : 161 ] ، وفي " الصحيحين " عن سعيد بن زيد ، وغيره ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من ظلم قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة " .

وفي " الصحيحين " : " من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ " ، وفي رواية : " إن أصحاب هذه الصور يعذبون ، ويقال لهم : أحيوا ما خلقتم " .

وفي " الصحيح : " من تحلم بحلم لم يره كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين ، وليس بفاعل " . وتقدم حديث أبي هريرة في أمر الغلول ، وأن من غل شيئا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه ، وهو في " الصحيحين " بطوله .

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن بكار البصري ، ثنا أبو محصن حصين بن نمير ، عن حسين بن قيس ، عن عطاء ، عن ابن عمر ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن [ ص: 22 ] خمس : عن عمرك فيما أفنيت ؟ وعن شبابك فيما أبليت ؟ وعن مالك ; من أين اكتسبته ؟ وفيما أنفقته ؟ وما عملت فيما علمت " ؟ . وروى البيهقي من طريق عبد الله بن المبارك ، عن شريك بن عبد الله ، عن هلال ، عن عبد الله بن عكيم ، قال : كان عبد الله بن مسعود إذا حدث بهذا الحديث قال : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به ، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ، فيقول : يا عبدي ، ما غرك بي ؟ ماذا عملت فيما علمت ؟ ماذا أجبت المرسلين ؟

هكذا أورده البيهقي بعد الحديث الذي رواه من طريق محل بن خليفة ، عن عدي بن حاتم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " وليقفن أحدكم بين يدي الله ، عز وجل ، ليس بينه وبينه حجاب يحجبه ، ولا ترجمان يترجم له ، فيقول : ألم أوتك مالا ؟ فيقول : بلى . فيقول : ألم أرسل إليك رسولا ؟ فيقول : بلى . فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار ، وينظر عن يساره فلا يرى إلا النار ، فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة ، فإن لم يجد فبكلمة طيبة " وقد رواه البخاري في " صحيحه " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز ، وعفان ، قالا : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن صفوان بن محرز ، قال : كنت آخذا بيد ابن عمر ، فجاءه رجل فقال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ فقال : سمعت [ ص: 23 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله سبحانه يدني المؤمن ، فيضع عليه كنفه ، ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ، فيقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك ، قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وإني أغفرها لك اليوم . ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه ، وأما الكفار والمنافقون ف ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين [ هود : 18 ] وأخرجاه في " الصحيحين " من حديث قتادة .

وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز وعفان ، حدثنا حماد ، حدثنا إسحاق بن عبد الله ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله ، عز وجل ، يوم القيامة : يا ابن آدم ، حملتك على الخيل ، والإبل ، وزوجتك النساء ، وجعلتك تربع وترأس ، فأين شكر ذلك " ؟ .

وروى مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل قال فيه : " فيلقى الله تعالى العبد فيقول : أي فل ، ألم أكرمك ، وأسودك ، وأزوجك ، وأسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى ، أي رب . فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ [ ص: 24 ] فيقول : لا . فيقول : فإني أنساك كما نسيتني . ثم يلقى الثاني ، فيقول : أي فل ، ألم أكرمك ، وأسودك ، وأزوجك ، وأسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى ، أي رب . فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا . فيقول : فإني أنساك كما نسيتني . ثم يلقى الثالث ، فيقول له مثل ذلك ، فيقول : يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك ، وصليت وصمت وتصدقت . ويثني بخير ما استطاع ، فيقول : هاهنا إذا " . قال : " ثم يقال : الآن نبعث شاهدنا عليك . فيفكر في نفسه : من الذي يشهد علي ؟ فيختم على فيه ، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه : انطقي . فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله كائنا ما كان ، وذلك ليعذر من نفسه ، وذلك المنافق ، وذلك الذي يسخط الله عليه ، ثم ينادي مناد : تتبع كل أمة ما كانت تعبد " . وسيأتي الحديث بطوله .

وقد روى البزار عن عبد الله بن محمد الزهري ، عن مالك بن سعير بن الخمس ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، وأبي سعيد ، رفعاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله إلى قوله : " فاليوم أنساك كما نسيتني " .

وروى مسلم ، والبيهقي واللفظ له ، من حديث سفيان الثوري ، عن عبيد المكتب ، عن فضيل بن عمرو ، عن عامر الشعبي ، عن أنس بن مالك ، [ ص: 25 ] قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ، وقال : " هل تدرون مم أضحك " ؟ قال : قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : " من مخاطبة العبد ربه - يعني يوم القيامة - يقول : يا رب ، ألم تجرني من الظلم ؟ قال : يقول : بلى . قال : فيقول : فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني . قال : فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ، وبالكرام الكاتبين شهودا . قال : فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي . قال : فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام . قال : فيقول : . بعدا لكن وسحقا ! فعنكن كنت أناضل " .

وقال أبو يعلى : حدثنا زهير ، حدثنا الحسن ، حدثنا ابن لهيعة ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله ، فجحد ، وخاصم ، فيقال : هؤلاء جيرانك يشهدون عليك . فيقول : كذبوا . فيقول : أهلك وعشيرتك . فيقول : كذبوا . فيقول : احلفوا . فيحلفون ، ثم يصمتهم الله وتشهد ألسنتهم ، ويدخلهم النار " .

وروى أحمد ، والبيهقي ، من حديث يزيد بن هارون ، عن الجريري ، عن حكيم بن معاوية ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تجيئون يوم القيامة على أفواهكم الفدام ، فأول ما يتكلم من ابن آدم فخذه وكفه " .

[ ص: 26 ] وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أحمد بن الوليد بن أبان ، حدثنا محمد بن الحسن المخزومي ، حدثني عبد الله بن عبد العزيز الليثي ، عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي أيوب ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته ، والله ما يتكلم لسانها ، ولكن يداها ورجلاها ، يشهدان عليها بما كانت تغيب لزوجها ، وتشهد يداه ورجلاه بما كان يوليها ، ثم يدعى بالرجل وخدمه مثل ذلك ، ثم يدعى بأهل الأسواق ، فما يؤخذ منهم دوانيق ولا قراريط ، ولكن حسنات هذا تدفع إلى هذا الذي ظلم ، وتدفع سيئات هذا إلى الذي ظلمه ، ثم يؤتى بالجبارين في مقامع من حديد ، فيقال : سوقوهم إلى النار . فوالله ما أدري أيدخلونها ، أم كما قال الله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا [ مريم : 71 ، 72 ] " .

ثم قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا محمد بن صالح والحسن بن يعقوب ، حدثنا السري بن خزيمة ، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا يحيى بن أبي سليمان ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : يومئذ تحدث أخبارها [ الزلزلة : 4 ] . قال : " أتدرون ما أخبارها ؟ " قالوا ؟ الله ورسوله أعلم . قال : " فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها ; أن تقول : [ ص: 27 ] عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا . فذلك أخبارها " .

وقد رواه الترمذي والنسائي ، من حديث عبد الله بن المبارك ، عن سعيد بن أبي أيوب ، به ، وقال الترمذي : حسن غريب صحيح .

وروى البيهقي من حديث الحسن البصري ، حدثنا صعصعة عم الفرزدق ، أنه قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقرأ هذه الآية : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ الزلزلة : 7 ، 8 ] فقال : والله لا أبالي أن لا أسمع غيرها ، حسبي حسبي .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا الحسن بن عيسى ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان المديني ، أن عقبة بن مسلم حدثه أن شفيا حدثه أنه دخل المدينة ، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس ، فقال : من هذا ؟ فقالوا : أبو هريرة . فقال : فدنوت منه ، حتى [ ص: 28 ] قعدت بين يديه وهو يحدث الناس ، فلما سكت وخلا ، قلت له : أنشدك بحق وحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته . ثم نشغ أبو هريرة نشغة ، فمكث طويلا ، ثم أفاق ، ثم قال : لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ، ما معنا أحد غيري وغيره . ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ، فمكث طويلا كذلك ، ثم أفاق ثم مسح وجهه ، فقال : أفعل ، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ، ما معنا أحد غيري وغيره . ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة ، ثم مال خارا على وجهه ، وأسندته طويلا ، ثم أفاق ، فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم ، وكل أمة جاثية ، فأول من يدعى رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال ، فيقول الله تعالى للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى يا رب . قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل ، وآناء النهار . فيقول الله تعالى له : كذبت . وتقول الملائكة : كذبت . ويقول الله تعالى : إنما أردت أن يقال : فلان قارئ . فقد قيل ذلك . ويؤتى بصاحب المال ، فيقول الله تعالى له : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى يا رب . قال : فما عملت فيما آتيتك ؟ قال . كنت [ ص: 29 ] أصل الرحم ، وأتصدق . فيقول الله له : كذبت . وتقول الملائكة : كذبت . ويقول الله تعالى له : بل أردت أن يقال : فلان جواد . فقد قيل ذلك .

ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله ، فيقال له : فيما قتلت ؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك ، فقاتلت حتى قتلت . فيقول الله له : كذبت . وتقول الملائكة : كذبت . ويقول الله تعالى : بل أردت أن يقال : فلان جريء . فقد قيل ذلك " . قال أبو هريرة : ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال : " يا أبا هريرة ، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة " .

قال الوليد أبو عثمان : فأخبرني عقبة أن شفيا - وكان سيافا لمعاوية - دخل على معاوية ، فأخبره بحديث أبي هريرة هذا ، فقال معاوية : قد فعل بهؤلاء هذا ، فكيف بمن بقي من الناس ؟ ثم بكى معاوية بكاء شديدا ، حتى ظننا أنه هالك ، ثم أفاق ، ومسح عن وجهه ، وقال : صدق الله ورسوله : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ هود : 15 ، 16 ] .

وهذا الحديث له شاهد صحيح في " صحيح مسلم " من طريق أخرى عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أول ما تسعر النار يوم القيامة بثلاثة ; بالعالم والمتصدق والمجاهد ، الذين أرادوا بأعمالهم الدنيا " .

[ ص: 30 ] وقال ابن أبي الدنيا : أخبرنا محمد بن عثمان بن معبد ، أنبأنا محمد بن بكار بن بلال ، قاضي دمشق ، حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حريث بن قبيصة ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أول ما يحاسب به الرجل صلاته ، فإن صلحت صلح سائر عمله ، وإن فسدت فسد سائر عمله ، ثم يقول الله ، عز وجل : انظروا هل لعبدي نافلة ، فإن كانت له نافلة أتمت بها الفريضة . ثم سائر الفرائض كذلك " . ورواه الترمذي والنسائي ، من حديث همام ، عن قتادة . وقال الترمذي : حسن غريب .

ورواه النسائي أيضا ، من حديث عمران بن داود أبي العوام ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا المبارك - هو ابن فضالة - عن الحسن ، عن أبي هريرة ، أراه ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن العبد المملوك ليحاسب بصلاته ، فإذا نقص منها قيل : لم نقصت منها ؟ فيقول : يا رب ، سلطت علي مليكا شغلني عن صلاتي . فيقول : قد رأيتك تسرق من ماله لنفسك ، فهلا سرقت [ ص: 31 ] لنفسك من عملك ؟ - أو عمله ؟ - قال : فيتخذ الله عليه الحجة " .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا علي بن الجعد ، أنبأنا مبارك بن فضالة ، حدثنا الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول ما تسأل عنه المرأة يوم القيامة ، عن صلاتها ، ثم عن بعلها ، كيف فعلت إليه ؟ " وهذا مرسل جيد .

وقال أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عباد بن راشد ، قال : حدثنا الحسن ، حدثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تجيء الأعمال يوم القيامة ، فتجيء الصلاة فتقول : يا رب ، أنا الصلاة . فيقول : إنك على خير . ثم تجيء الصدقة ، فتقول : يا رب ، أنا الصدقة . فيقول : إنك على خير . ثم يجيء الصيام ، فيقول : يا رب ، أنا الصيام . فيقول : إنك على خير . ثم تجيء الأعمال ، كل ذلك يقول : إنك على خير . ثم يجيء الإسلام فيقول : يا رب ، أنت السلام وأنا الإسلام . فيقول الله ، عز وجل : إنك على خير ، بك اليوم آخذ ، وبك أعطي . قال الله تعالى في كتابه : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [ آل عمران : 85 ] .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا عبدة بن عبد الرحيم المروزي ، حدثنا بقية بن الوليد الكلاعي ، حدثنا سلمة بن كلثوم ، عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يؤتى بالحكام يوم القيامة ; بمن قصر ، وبمن تعدى ، فيقول الله : [ ص: 32 ] أنتم خزان أرضي ، ورعاة غنمي ، وعندكم بغيتي . فيقول للذي قصر : ما حملك على ما صنعت ؟ فيقول : الرحمة . فيقول الله جل جلاله . : أنت أرحم بعبادي مني ؟! ويقول للذي تعدى : ما حملك على ما صنعت ؟! فيقول : غضبت لك . فيقول الله : أنت أشد غضبا مني ؟! فيقول الله : انطلقوا بهم ، فسدوا بهم ركنا من أركان جهنم " .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يحيى بن سليم ، عن ابن خثيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : لما رجعت مهاجرة الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا تخبروني بأعجب ما رأيتم في أرض الحبشة ؟ " ، فقال فتية منهم : بلى يا رسول الله ، بينما نحن جلوس إذ مرت علينا عجوز من عجائزهم ، تحمل على رأسها قلة من ماء ، فمرت بفتى منهم ، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ، ثم دفعها ، فخرت على ركبتيها ، وانكسرت قلتها ، فلما ارتفعت التفتت إليه ، وقالت : سوف تعلم يا غدر ، إذا وضع الله الكرسي لفصل القضاء ، وجمع الأولين والآخرين ، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون ، سوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا . قال : يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدقت ، كيف يقدس الله قوما لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم ؟ " .

[ ص: 33 ] وقد تقدم في حديث عبد الله بن أنيس ، أن الله تعالى ينادي العباد يوم القيامة ، فيقول : أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده مظلمة . وذكر الحديث كما تقدم ، رواه أحمد ، وعلقه البخاري في " صحيحه " .

وقال الإمام مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من كانت لأخيه عنده مظلمة فليتحلله منها ، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم ، من قبل أن يؤخذ من حسناته ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه " . ورواه البخاري ، ومسلم .

وروى ابن أبي الدنيا من حديث العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون من المفلس ؟ " قالوا : من لا درهم له ولا دينار . فقال : " بل المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيقضى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم ، فطرحت عليه ، ثم طرح في النار " .

[ ص: 34 ] وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا الوليد بن شجاع السكوني أنبأنا القاسم بن مالك المزني ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تموتن وعليك دين ; فإنه ليس ثم دينار ولا درهم ، إنما هي الحسنات ، جزاء بجزاء ، ولا يظلم ربك أحدا " . وروي من وجهين آخرين ، عن ابن عمر مرفوعا مثله .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا بكر بن يونس بن بكير ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليأتي العبد يوم القيامة ، وقد سرته حسناته ، فيجيء الرجل فيقول : يا رب ، ظلمني هذا ، فيؤخذ من حسناته ، فيجعل في حسنات الذي سأله ، فما يزال كذلك حتى ما تبقى له حسنة ، فإذا جاء من يسأله ، نظر إلى سيئاته فجعلت مع سيئات الرجل ، فلا يزال يستوفى من حسناته ، وترد عليه سيئات من ظلمه ، فما يزال يستوفى منه حتى يدخل النار " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا صدقة بن موسى ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن يزيد بن بابنوس عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 35 ] " الدواوين عند الله ، عز وجل ، ثلاثة : ديوان لا يعبأ الله به شيئا ، وديوان لا يترك الله منه شيئا ، وديوان لا يغفره الله ; فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك ، قال الله عز وجل : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة [ المائدة : 72 ] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا ، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه ، من صوم يوم تركه ، أو صلاة تركها ، فإن الله يغفر ذلك ، ويتجاوز إن شاء ، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا ، القصاص لا محالة " .

وروى البيهقي من حديث زائدة بن أبي الرقاد ، عن زياد النميري ، عن أنس مرفوعا : " الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفره الله ، وهو الشرك ، وظلم يغفره ، وهو ظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم ، وظلم لا يترك الله منه شيئا ، وهو ظلم العباد بعضهم بعضا ، حتى يدين بعضهم من بعض " . ثم ساقه من طريق يزيد الرقاشي ، عن أنس ، مرفوعا بنحوه ، وكلا الطريقين ضعيف .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا أبو عبد الله تميم بن المنتصر ، أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " القتل في سبيل الله يكفر كل شيء - أو قال : يكفر الذنوب كلها - إلا الأمانة " . قال : " يؤتى [ ص: 36 ] بصاحب الأمانة ، فيقال له : أد أمانتك . فيقول : أنى يا رب ، وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال : اذهبوا به إلى الهاوية . فيذهب به إليها ، فيهوي حتى ينتهي إلى قعرها ، فيجدها هناك كهيئتها ، فيحملها فيضعها على عاتقه ، فيصعد بها في نار جهنم ، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت فهوت ، وهوى في إثرها ، فهو كذلك أبد الآبدين " . قال : " والأمانة في الصلاة ، والأمانة في الصوم ، والأمانة في الوضوء ، والأمانة في الحديث ، وأشد ذلك الودائع " . قال : فلقيت البراء ، فقلت : ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله ؟ قال : صدق .

قال شريك : وحدثنا عباس العامري ، عن زاذان ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ، ولم يذكر الأمانة في الصلاة ، والأمانة في كل شيء . إسناده جيد ، ولم يروه أحمد ، ولا أحد من أصحاب الكتب الستة ، وله شاهد من الحديث الذي رواه مسلم . عن أبي سعيد ، أن رجلا قال : يا رسول الله ، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا ، مقبلا غير مدبر ، يكفر الله عني خطاياي ؟ قال : " نعم ، إلا الدين " .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا محمد بن عبيد ، أخبرنا محمد بن عمرو ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : لما نزلت : إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون [ الزمر : 30 ، 31 ] ، قال الزبير : يا رسول الله : أيكرر علينا ما [ ص: 37 ] يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال : " نعم ، ليكررن عليكم ، حتى تؤدوا إلى كل ذي حق حقه " . فقالالزبير : والله إن الأمر لشديد .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، أخبرنا أبو سنان ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : الأمم جاثون للحساب ، فلهم يومئذ أشد تعلقا بعضهم ببعض منهم في الدنيا ، الأب بابنه ، والابن بأبيه ، والأخت بأخيها ، والأخ بأخته ، والزوج بامرأته ، والمرأة بزوجها . ثم تلا عبد الله : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ المؤمنون : 101 ] .

وقال أبو بكر البزار : حدثنا الفضل بن يعقوب ، حدثنا سعيد بن مسلمة ، عن ليث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يؤتى بالمليك والمملوك ، والزوج والزوجة ، فيحاسب المليك والمملوك ، والزوج والزوجة ، حتى يقال للرجل : شربت يوم كذا وكذا على لذة . ويقال للزوج : خطبت فلانة مع خطاب فزوجتكها وتركتهم " . وقال ابن أبي الدنيا : حدثني عمرو بن حبان مولى بني تميم ، حدثنا عبد بن حميد ، عن إبراهيم بن مسلم ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يدعو العبد يوم القيامة ، فيذكره ويعد عليه : دعوتني يوم كذا وكذا فأجبتك . [ ص: 38 ] حتى يعد عليه فيما يعد ; وقلت : يا رب ، زوجني فلانة - ويسميها باسمها - فزوجناكها " . وروي من حديث ليث بن أبي سليم ، عن أبي بردة ، عن عبد الله بن سلام ، موقوفا ، بنحوه .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا إبراهيم بن سعيد ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثني الفضل بن عيسى ، حدثنا محمد بن المنكدر ، عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العار ليلزم العبد يوم القيامة ، حتى يقول : يا رب لإرسالك بي إلى النار أيسر علي مما ألقى من العار . وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب " . وقد قال تعالى : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ التكاثر : 8 ] .

وفي " الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أكل هو وأصحابه في حديقة أبي الهيثم بن التيهان من تلك الشاة التي ذبحت له ، وأكلوا من الرطب ، وشربوا من ذلك الماء ، قال : " هذا من النعيم الذي تسألون عنه " . أي عن القيام بشكره ، وماذا عملتم في مقابلة ذلك ، كما ورد في الحديث : " أذيبوا طعامكم بذكر الله ، وبالصلاة ، ولا تناموا عليه ، فتقسو قلوبكم " . وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا وكيع ، أنبأنا سفيان ، عن الأعمش ، عن ثابت - أو أبي ثابت - أن رجلا دخل مسجد [ ص: 39 ] دمشق ، فقال : اللهم آنس وحشتي ، وارحم غربتي ، وارزقني جليسا صالحا . فسمعه أبو الدرداء ، فقال : لئن كنت صادقا لأنا أسعد بما قلت منك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " فمنهم ظالم لنفسه [ فاطر : 32 ] . قال : الظالم الذي يؤخذ منه في مقامه ذلك ، وذلك الحزن والغم . ومنهم مقتصد . قال : يحاسب حسابا يسيرا . ومنهم سابق بالخيرات . قال : يدخل الجنة بغير حساب " . وستأتي الأحاديث فيمن يدخل الجنة بغير حساب ، وكم عدتهم .

>>

B-happy 1 - 11 - 2010 10:25 PM

حديث فيه أن الله تعالى يصالح عن عبده الذي له به عناية من ظلمه بما يريه من قصور الجنة ونعيمها

قال أبو يعلى : حدثنا مجاهد بن موسى ، حدثنا عبد الله بن بكر ، حدثنا عباد بن شيبة الحبطي ، عن سعيد بن أنس ، عن أنس ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه ، فقال عمر ؟ ما أضحكك يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ؟ فقال : " رجلان جثيا من أمتي بين يدي رب العزة ، تبارك وتعالى ، فقال أحدهما : يا رب ، خذ لي مظلمتي من أخي . قال الله تعالى : أعط أخاك مظلمته . قال : يا رب ، لم يبق من حسناتي شيء . قال [ ص: 40 ] الله تعالى للطالب : كيف تصنع بأخيك ؟ لم يبق من حسناته شيء . قال : يا رب ، فليحمل عني من أوزاري " . قال : وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ، ثم قال : " إن ذلك ليوم عظيم ، يوم يحتاج فيه الناس إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم ، فقال الله تعالى للطالب : ارفع بصرك ، فانظر في الجنان . فرفع رأسه ، فقال : يا رب ، أرى مدائن من فضة ، وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ ، لأي نبي هذا ؟ لأي صديق هذا ؟ لأي شهيد هذا ؟ قال : هذا لمن أعطى الثمن . قال : يا رب ، ومن يملك ذلك ؟ قال : أنت تملكه . قال : بماذا يا رب ؟ قال : بعفوك عن أخيك . قال : يا رب ، فإني قد عفوت عنه . قال الله تعالى : خذ بيد أخيك ، فأدخله الجنة " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : " فاتقوا الله ، وأصلحوا ذات بينكم ; فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة " . إسناد غريب ، وسياق غريب ، ومعنى حسن عجيب .

وقد رواه البيهقي ، من حديث عبد الله بن بكر ، به ، وحكى عن البخاري أنه قال : سعيد بن أنس عن أبيه في المظالم لا يتابع عليه . ثم أورده البيهقي من طريق زياد بن ميمون البصري ، عن أنس مرفوعا ، بنحوه ، وفيه نظر أيضا ، وقد يستشهد له بما رواه البخاري في " صحيحه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " .

[ ص: 41 ] وقد روى أبو الوليد الطيالسي ، عن عبد القاهر بن السري ، ورواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي ، من حديثه ، عن ابن لكنانة بن عباس بن مرداس السلمي ، وفي رواية ابن ماجه ، عن عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس ، عن أبيه ، عن جده عباس بن مرداس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة ، فأكثر الدعاء ، فأجابه الله تعالى : " إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا " . فقال : " يا رب ، إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته ، وتغفر لهذا الظالم " . فلم يجبه تلك العشية ، فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء ، فأجابه الله : " إني قد غفرت لهم " . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعض أصحابه : يا رسول الله ، تبسمت في ساعة لم تكن تبسم فيها ؟ فقال : " تبسمت من عدو الله إبليس ، إنه لما علم أن الله سبحانه ، قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ، ويحثو التراب على رأسه " .

قال البيهقي : وهذا العفو يحتمل أن يكون بعد عذاب يمسهم ، ويحتمل أن يكون خاصا ببعض الناس ، ويحتمل أن يكون عاما في كل أحد .

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا صدقة بن موسى ، حدثنا أبو عمران [ ص: 42 ] الجوني ، عن قيس بن زيد - أو زيد بن قيس - عن قاضي المصرين شريح ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يدعو صاحب الدين يوم القيامة ، فيقول : يا بن آدم ، فيم أضعت حقوق الناس ؟ فيم أذهبت أموالهم ؟ فيقول : يا رب ، لم أفسد ، ولكني أصبت ، إما غرقا ، وإما سرقا . فيقول : أنا أحق من قضى عنك اليوم ، فترجح حسناته على سيئاته ، فيؤمر به إلى الجنة " .

وثبت في " صحيح مسلم " ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي يقول الله عز وجل : " اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، واتركوا كبارها . فيقال له : هل تنكر من هذا شيئا ؟ فيقول ؟ لا . وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه ، فيقول الله تعالى : إنا قد أبدلناك مكان كل سيئة حسنة . فيقول : يا رب ، إني قد عملت ذنوبا لا أراها هاهنا ؟ " قال : وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه .

وتقدم حديث ابن عمر في حديث النجوى : " يدني الله العبد يوم القيامة ، حتى يضع عليه كنفه ، ويقرره بذنوبه ، حتى إذا ظن أنه قد هلك ، قال : سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم . ويعطى كتاب حسناته بيمينه " .

[ ص: 43 ] وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا سيار بن حاتم ، أنبأنا جعفر بن سليمان ، أنبأنا أبو عمران الجوني ، عن أبي هريرة ، قال : يدني الله تعالى العبد يوم القيامة ، فيضع عليه كنفه ليستره من الخلائق كلها ، ويدفع إليه كتابه ، في ذلك الستر ، فيقول تعالى : " اقرأ يا بن آدم كتابك " . فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه ، ويسر بها قلبه ، فيقول الله تعالى : " أتعرف يا عبدي ؟ " فيقول : نعم ، يا رب ، أعرف . فيقول : " إني قد تقبلتها منك " . قال : فيخر ساجدا ، قال : فيقول الله تعالى : " ارفع رأسك ، وعد في قراءة كتابك . فيمر بالسيئة ، فتسوءه ويسود لها وجهه ، ويوجل منها قلبه ، وترعد منها فرائصه ، ويأخذه من الحياء من ربه ما لا يعلمه غيره ، فيقول الله تعالى له : " أتعرف يا عبدي ؟ " فيقول : نعم ، يا رب ، أعرف . فيقول الله سبحانه : " فإني قد غفرتها لك " . " فيخر ساجدا فيقول الله عز وجل : " ارفع رأسك " . فلا يزال في حسنة تقبل ، وسيئة تغفر ، وسجود عند كل حسنة وسيئة ، لا يرى الخلائق منه إلا ذاك السجود ، حتى ينادي الخلائق بعضها بعضا : طوبى لهذا العبد الذي لم يعص الله قط . ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبين الله عز وجل ، مما قد وقفه عليه .

وقال ابن أبي الدنيا : وقال أبو ياسر عمار بن نصر : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة ، أو غيره ، قال : من أوتي كتابه بيمينه أتي [ ص: 44 ] بكتاب في باطنه سيئاته ، وفي ظاهره حسناته ، فيقال له : اقرأ كتابك . فيقرأ باطنه ، فيساء بما فيه من سيئاته ، حتى إذا أتى على آخرها قرأ فيه : " هذه سيئاتك ، وقد سترتها عليك في الدنيا ، وغفرتها لك اليوم " . ويغبطه بها الأشهاد - أو قال : أهل الجمع - مما يقرءون في ظاهر كتابه من حسناته ، ويقولون : سعد هذا . ثم يؤمر بتحويله ، وقراءة ما في ظاهره ، فيحوله ، ويبدل الله عز وجل ما كان في باطنه من سيئاته ، فيجعلها الله حسنات ، ويقرأ حسناته حتى يأتي على آخرها ، ثم يقول : " هذه حسناتك ، قد قبلتها منك " . فعند ذلك يقول لأهل الجمع : هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه [ الحاقة : 19 ، 20 ] . قال : ومن أوتي كتابه وراء ظهره يأخذه بشماله ، ثم يقال له : اقرأ كتابك . فيقرأ كتابه في باطنه حسناته ، وفي ظاهره سيئاته ، فيقرؤها أهل الموقف - أو قال : أهل الجمع - ويقولون : هلك هذا . فإذا أتى على آخر حسناته ، قيل : " هذه حسناتك ، وقد رددتها عليك " . ويؤمر بتحويله ، فيقرأ سيئاته . حتى يأتي على آخرها ، فعند ذلك يقول لأهل الجمع : يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه [ الحاقة : 25 - 29 ] .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا علي بن الجعد ، أنبأنا المبارك بن فضالة ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج - والبذج ولد الشاة - فيقول له ربه عز وجل : أين ما خولتك ؟ أين ما ملكتك ؟ أين ما أعطيتك ؟ فيقول : يا رب ، جمعته وثمرته ، وتركته أكثر ما كان . [ ص: 45 ] فيقول : ما قدمت منه ؟ فلا يرى قدم شيئا ، فيطلب من الله الرجعة إلى الدنيا وليس براجع إلى الدنيا أبدا " .

وحدثني حمزة بن العباس ، أنبأنا عبد الله بن عثمان ، أنبأنا ابن المبارك ، أخبرنا إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، وقتادة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه ، وزاد فيه : " فيقول : يا رب أرجعني آتك به كله . فإذا أعيد لم يقدم شيئا ، فيمضى به إلى النار " . ثم ساقه من طريق يزيد الرقاشي ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . وقد قال تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم [ الأنعام : 94 ] .

وفي " صحيح مسلم " : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول ابن آدم : مالي ، مالي . وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت " ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس " . وقال تعالى : يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد [ البلد : 6 ، 7 ] .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا سيف بن محمد ، ابن أخت سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن عدي بن عدي ، عن الصنابحي ، عن معاذ بن جبل ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ; عن عمره : فيم أفناه ؟ وعن جسده : فيم أبلاه ؟ [ ص: 46 ] وعن علمه : ما عمل فيه ؟ وعن ماله : من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟ " وقد تقدم عن ابن مسعود نحوه . وروي عن أبي ذر قريب منه ، والله أعلم .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الغضور بن عتيق ، عن مكحول ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عويمر ، يا أبا الدرداء ، كيف بك إذا قيل لك يوم القيامة : علمت أو جهلت ؟ فإن قلت : علمت . قيل لك : فماذا عملت فيما علمت ؟ وإن قلت : جهلت . قيل : فماذا كان عذرك فيما جهلت ؟ ألا تعلمت " وقد روي من وجه آخر موقوفا " على أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، فالله أعلم .
فصل ( ما يدعى الناس يوم القيامة بآبائهم )

قال البخاري ، رحمه الله : باب ما يدعى الناس يوم القيامة بآبائهم . ثم أورد حديث عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرفع لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ، يقال : هذه غدرة فلان بن فلان " .

[ ص: 47 ] وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا علي بن الجعد ، ومحمد بن بكار ، قالا : حدثنا هشيم ، عن داود بن عمرو ، وعن عبد الله بن أبي زكريا ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم ، وأسماء آبائكم ، فحسنوا أسماءكم " .

وقال البزار : حدثنا علي بن المنذر ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثني أبي ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تقيء الأرض أفلاذ كبدها ، فيمر السارق ، فيقول ؟ في هذا قطعت يدي . ويجيء القاتل ، فيقول : في هذا قتلت . ويجيء قاطع الرحم ، فيقول : في هذا قطعت رحمي . ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا " .
( حال الناس عند أخذ الكتاب يوم القيامة )

قال الله تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه [ آل عمران : 106 ] . وقال تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة [ القيامة : 22 - 25 ] . وقال تعالى : وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة [ ص: 48 ] [ عبس : 38 - 42 ] . وقال تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ يونس 26 ، 27 ] .

وقال البزار : حدثنا محمد بن معمر ، ومحمد بن عثمان بن كرامة ، قالا : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : يوم ندعو كل أناس بإمامهم [ الإسراء : 71 ] .

قال : " يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ، ويمد له في جسمه ، ويبيض وجهه ، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة تتلألأ ، فينطلق إلى أصحابه ، فيرونه من بعيد ، فيقولون : اللهم ائتنا بهذا ، وبارك لنا في هذا . فيأتيهم ، فيقول : أبشروا ، فإن لكل رجل منكم مثل هذا . وأما الكافر فيسود وجهه ، ويمد له في جسمه ، فيراه أصحابه ، فيقولون : نعوذ بالله من هذا ، ومن شر هذا ، اللهم لا تأتنا به . فيأتيهم ، فيقولون : اللهم أخزه . فيقول : أبعدكم الله ، فإن لكل رجل منكم مثل هذا " . ثم قال : لا نعرفه إلا بهذا الإسناد .

ورواه ابن أبي الدنيا ، عن العباس بن محمد ، عن عبيد الله بن موسى العبسي ، به .

[ ص: 49 ] وروى أبو داود من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ، ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله " . قالوا : يا رسول الله ، فخبرنا من هم ؟ قال : " هم قوم تحابوا بروح الله سبحانه على غير أرحام بينهم ، ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن لوجوههم لنورا ، وإنهم لعلى كراسي من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس " : وقرأ هذه الآية : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم [ يونس : 62 - 64 ] .

وروى ابن أبي الدنيا ، عن بعض السلف ، وهو الحسن البصري ، أنه قال : إذا قال الله تعالى للملائكة : خذوه فغلوه [ الحاقة : 30 ] . ابتدره سبعون ألف ملك ، فتسلك السلسلة من فيه ، فتخرج من دبره ، فينظم في السلسلة كما ينظم الخرز في الخيط ، ويغمس في النار غمسة ، فيخرج عظاما ، فتقعقع ، ثم تسجر تلك العظام في النار ، ثم يعاد غضا طريا .

وقال بعضهم : إذا قال الله : خذوه . ابتدره أكثر من ربيعة ومضر . وعن معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، أنه قال : لا يبقى شيء إلا ذمه ، فيقول : أما [ ص: 50 ] ترحمني ؟ فيقول : كيف أرحمك ، ولم يرحمك أرحم الراحمين ؟! .
>>


الساعة الآن 07:17 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى