![]() |
3. في قصر فرعون مضى موسى عليه السلام الى مصر, ثم دخل على الطاغية فرعون, فحدّثه عن الله عز وجل وعن فضله ورحمته ورزقه, وحدّثه عن وجوب توحيده وعبادته, حاول أن يدعوه بطريق ليّنة, خاطب فيها وجدانه, ولكن فرعون تكبّر وتجبّر, وذكّر موسى بأن ربّاه وانتشله من النيل طفلا, وذكّره بمقتل القبطي, ثم سأله عن رب العالمين فقال: انه ربي وربك, وجادل فرعون جدالا كثيرا, والعصا في يد موسى عليه السلام, وبعد أن أنهى موسى كلامه والرد على فرعون, نظر اليه فرعون وقال في تهديد وعيد:{ لئن اتخذت الها غيري لأجعلنّك من المسجونين} الشعراء 29. عندئذ أدرك موسى أن الحجج لن تفلح والأمور العقلية لن تحرّك في هذا الفرعون المغرور المتكبّر ساكنا, فتحسس موسى عليه السلام العصا التي في يده, وأدرك أن وقت اظهار المعجزة قد جاء وآن أوانه فقال لفرعون: { أولو جئتك بشيء مبين} الشعراء 30. وكان في نبرة موسى عليه السلام تحدّ لفرعون, فقبل فرعون التحدي على الفور وقال: { فأت به ان كنت من الصادقين} الشعراء 31. عندئذ أمسك موسى بعصاه وألقاها في صالة القصر وسط ذهول فرعون والوزراء الجالسين حوله, الذين ظنوا أن العصا سقطت منه بسبب ارتباكه من طلب فرعون الدليل على صدقه. وفجأة تحوّلت العصا الى ثعبان مبين, ثعبان هائل يتحرّك بسرعة عظيمة, اتجه الثعبان على الفور الى فرعون, شحب وجه فرعون من الخوف وثبت مكانه في البداية, وخرج الناس مذعورين منفضين عن مجلسه, وذعر فرعون ثم وثب عن مكانه, وصاح مستنجدا بموسى عليه السلام. وقف الجميع على جوانب بوابات القصر ينظرون بذعر ويشهدون ما يفعله موسى, فهز موسى يده الى الثعبان فعاد في يده عصا كما كان. عاد موسى يكشف أمام الواقفين معجزته الثانية, أدخل يده في جيبه وأخرجها فاذا هي بيضاء كالقمر, فذهل الواقفون فرعون ووزراؤه. وهكذا استمرّت العصا معجزة من معجزات موسى, ولها مشاهد كثيرة لم تنته بعد. 4. في يوم السحرة ظن فرعون بعد كل ما حدث معه وشهده بنفسه أن أمر موسى وهارون عليهما السلام ضرب من ضروب السحر, وقال لحاشيته: ان موسى ساحر يعرف علم السحر والسحرة, يريد أن يخرجكم به من أرضكم, فماذا تأمرون؟ وقال العلماء قول ابن عباس وأورده الثعلبي في العرائس: قال فرعون أيضا لما رأى من سلطان الله تعالى في يد موسى وعصاه: انن أرى أننا لن نغلب موسى وننتصر عليه الا بمن هو مثله, فأخذنا غلمانا من بين اسرائيل يقال لهم "الغرقاء" يعلمونهم السحركما يعلمون الصغار في الكتّاب, فعلموهم سحرا كثيرا, ثم ان فرعون واعد موسى موعدا, وقال له: أنت ساحر يا موسى.. ولقد قررت أن أكشف أمرك أمام الناس جميعا, وبعد أيام قليلة يحضر السحرة. فقال موسى عليه السلام: ومتى ألتقي بالسحرة؟ قال فرعون: موعدكم يوم الزينة, انه يوم من أيام الربيع يحتفل به الناس جميعا. وسوف يأتي الناس في ضحى هذا اليوم, هذا هو موعدك يا موسى. فقال موسى عليه السلام: سأخرج مبكرا من بيتي في هذا اليوم. وبعد هذا اللقاء خرج موسى عليه السلام من قصر فرعون, وركب عدد من الرجال مركباتهم وأسرعوا يتفرقون في مصر كلها: ان على جميع السحرة الماهرين التوجه الى قصر فرعون لأمر هام. واستدعى فرعون نبي الله موسى وحاول تهديده واخافته ولكن موسى ظل على حاله. وجاء يوم الزينة, واجتمع السحرة الى فرعون فوعدهم بأجر كبير لو غلبوا موسى عليه السلام. وخرج الناس جماعات جماعات, أطفالا ونسلاء, شبابا وشيوخا, جاؤوا ليشهدوا مباراة هي الأولى من نوعها: مباراة بين سحرة فكلهم يظنون أن موسى عليه السلام ساحرا!! بدأ الناس بأخذ أماكنهم في الاحتفال منذ الصباح الباكر, ولم يكن أحد في مصر لم يعرف قصة التحدي واللقاء بين هؤلاء السحرة, ولم يكن أحد يعرف بمعجزة موسى التي ستخرس كل الألسنة, وستجعل من فرعون وسحرته مثالا للكذب والتجني. كانت العصا في يد موسى عليه السلام, وتقدّم السحرة خمسة, عشرة, عشرون ساحرا, وموسى يقف وحيدا في ساحة المباراة أو قل ساحة الحرب والصراع بين الحق والباطل, بين الصدق والكذب, بين التواضع وبين الكبر والافتراء, انها معركة بين الكفر والايمان كفر فرعون وسحرته وايمان موسى عليه السلام ومعجزته. جلس فرعون تحت مظلة واقية من الشمس, ومن حوله جنوده وحاشيته وقادته وهو يرتدي أفخم الثياب المرصّعة بالجواهر, أما موسى عليه السلام فوقف صامتا يذكر الله في نفسه ولا ينظر لشيء حوله. وتقدّم السحرة الى موسى عليه السلام وسط الجمع الهائل الذين استجمعوا كل حواسهم لرؤية وسماع ما سيحدث. قال السحرة لموسى:{ امّا أن تلقي وامّا أن نكون أوّل من ألقى}. قال موسى عليه السلام: بل ألقوا. فقال السحرة: نحن الغالبون بعزة فرعون. فقال موسى: ويلكم, لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب أليم. في هذه اللحظة, التفت موسى فاذا جبريل على يمينه يقول له: يا موسى ترفق بأولياء الله, قال موسى لنفسه: هؤلاء سحرة جاؤوا ينصرون دين فرعون, عاد جبريل يقول: ترفّق بأولياء الله, هم من الساعة الى صلاة العصر عندك.., وبعد صلاة العصر في الجنة. وهؤلاء السحرة اختلف في عددهم فقال كعب: انهم كانوا اثني عشر ألفا. وقال عالم آخر: بضعة وثلاثين. وقال عكرمة: سبعين ألفا. وقد أجمعت الأقاويل على أن فرعون جمع السحرة وهم سبعون ألفا فاختار منهم سبعة آلاف ليس فيهم الا من هو ساحر ماهر, ثم اختار سبعمائة ثم اختار سبعين من كبارهم وعلمائهم, وكان رئيسهم يسمّى شمعون, وقيل يوحنّا وقيل ان أعلم السحرة كانا بأقصى الصعيد وكانا أخوين. نعود الى ساحة المباراة: لما قال لهم موسى عليه السلام:{ ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى} فتناجى السحرة فيما بينهم, فقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر, فذلك قول الله تعالى:{ فتنازعوا أمرهم بينهم وأسرّوا النّجوى} فقال السحرة:{ فلنأتينّك بسحر مثله}. رمى السحرة بعصيّهم وحبالهم, فاذا المكان يمتلىء بالثعابين والحيّات التي تجري هنا وهناك فجأة لقد سحروا أعين الناس, واسترهبوهم وأخافوهم وجاؤوا بسحر عظيم, وهلّل المصريون مكان الاحتفال, وابتسم فرعون ابتسامة عريضة وظنّ أنه قضى على موسى عليه السلام. نظر موسى الى حبالهم وعصيّهم فشعر بالخوف, وكذلك هارون الواقف الى جواره, ولكنه سرعان ما سمع صوتا يقول له:{ لا تخف انك أنت الأعلى* وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا انما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}. اطمأن نبي الله موسى حين سمع رب العالمين يطمئنه, ولم يعد يرتكب أو ترتعش يداه, ثم رفع عصاه وألقاها فجأة. ولم تكد عصا موسى عليه السلام تلامس الأرض حتى وقعت المعجزة, فقد تحوّلت الى ثعبان جبار سريع الحركة, وتقدّم هذا الثعبان فجأة نحو حبال السحرة وعصيّهم التي كانت تتحرّك وبدأ بأكلها واحدا بعد آخر. راحت عصا موسى عليه السلام تأكل حبال السحرة وعصيّهم بسرعة مخيفة. وفي دقائق معدودات خلت ساحة المباراة تماما من كل حبال السحرة وعصيّهم, لقد اختفت في بطن عصا موسى, ومشى الثعبان الضخم في أدب نحو موسى, ومدّ موسى يده فتحوّل الثعبان الى عصا. أدرك السحرة أن هذا ليس سحرا, لعلمهم بالسحر وعلومه. وكانت المفاجأة الكبرى: لقد سجد السحرة جميعا على الأرض وقالوا:{ آمنّا برب العالمين ربّ موسى وهارون}. انها المعجزة التي تولّد معها الايمان بالله عز وجل.. ولكن لم ينتهي دور العصا بعد. 5. عند البحر استمر الصراع بين الحق والباطل, وبين موسى عليه السلام وفرعون الكافر, وقرر فرعون ومن معه من الناس قتل موسى وأتباعه, وعلم موسى بذلك فصحب أتباعه ليلا وسار بهم نحو البحر قاصدا بلاد الشام, وعلم فرعون بذلك فحشد جيشا ضخما, وتحرّك جيش فرعون في أبّهته وعظمته وسلاحه وخرج وراء موسى. ومضى الجيش مسرعا يثير غبارا شديدا وموسى ينظر خلفه فيرى غبار الجيش يطارده, فامتلأ قوم موسى رعبا, وكان الموقف حرجا وخطيرا, فالبحر أمامهم والعدو وراءهم ولا مكان للهرب, ولا توجد لديهم القدرة على القتال والحرب, وقالت النسوة وبعض الرجال: سيدركنا فرعون بجيشه.. سيهلكنا جميعا, ولكن موسى عليه السلام قال:كلا.. ان معي ربي سيهدين. تحسّس موسى عصاه مطمئنا.. طوّحها في الهواء وضرب بها البحر فانفلق الى جزئين, كل منهما كالطود العظيم, وتقدّم موسى في الطريق الجديد وسط البحر وتبعه فرعون. وانتهى موسى من عبور البحر, فنظر وراءه وأراد أن يضرب بعصاه ولكن الله أوحى اليه بأن يترك البحر على حاله وينتظر حتى يدخل كل جنود الكفر في الطريق وسط البحر:{ واترك البحر رهوا, انهم جند مغرقون}. الدخان 24. ولما أذن الله تعالى, ضرب موسى عليه السلام البحر بعصاه ثانية, فعاد البحر كسالف عهده, وانهالت الأمواج على فرعون وجنوده, ولما أدرك الغرق فرعون قال:{ آمنت أنه لا اله الا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين}. يونس 90. ولكن الله لم يقبل توبته لأنها جاءت متأخرة, فقد عاث في الأرض فسادا وكبرا, فكان من المغرقين. بسم الله الرحمن الرحيم اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ صدق الله العظيم |
معجزة عيسى عليه السلام
عيسى عليه السلام الطفل ينطق مرّتين قال تعالى:{ فناداها من تحتها الا تحزني قد جعل ربك تحتك سريّا} مريم 24. قال تعالى:{ فأشارت اليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيا} مريم 29. 1. معجزة الحمل والميلاد تأخرت مريم ابنة عمران عن صاحباتها يوما, فلما ذهبت تملأ جرّتها من الينبوع وجدت نفسها وحيدة, وأحست وحشة ورهبة, واضطرب جسمها فجأة, فشعرت بالخوف, وأقبلت على الماء مسرعة تردد أدعية الصلاة, واذا شاب قوي, وسيم الطلعة, جميل الهيئة, ينظر اليها كأنما خرج من الأرض. خافت مريم, وأصابها الذعر, وتوقعت شرا ينزل بها فقالت:{ اني أعود بالرحمن منك ان كنت تقيّا}. مريم 18. ذلك الشاب الجميل كان جبريل عليه السلام, فلما رأى جبريل عليه السلام انزعاجها قال لها: {انما أنا رسول ربك اليك لأهب لك غلاما زكيا}. مريم 19. احتارت مريم في أمره, وخافت أن يكون بشرا أراد بها سوءا, وأرادت الهرب, فهبط عليها الهام من من الله عز وجل, واذا هي واقفة بثبات واطمئنان, ثم رأت صفا من الملائكة عن يمينها, وصفا عن شمالها, فهدأت نفسها, وذهب خوفها. قالت الملائكة:{ يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين} آل عمران 45. قالت مريم متوجهة الى الله عز وجل: { رب أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} آل عمران47. قال جبريل عليه السلام: { كذلك الله يخلق ما يشاء, اذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون}. تلقت مريم هذا النبأ العظيم بخوف وفرح, ان الملائكة تبشرها بولد يكون نورا وهدى للناس, ورسولا الى بني اسرائيل, يا له من شرف عظيم. رفعت مريم رضوان الله عليها رأسها أمام جبريل عليه السلام وقالت: هأنذا أمة الله. ليكن ما يريد الله. تقدّم جبريل عليه السلام, ونفخ في جيبها, ثم اختفى عنها مع الملائكة بعد أن وهبها وديعة القدّوس الأعلى. أحيطت مريم العذراء بسر هائل, لم تعهده امرأة سواها من قبل فالجنين يتحرّك في بطنها, وأمرها صائر الى الفضيحة, وهي العذراء الصالحة التي عاشت عمرها طاهرة نقيّة. لم تطق مريم البقاء بحالتها هذه في الناصرة, فأسرعت بالعودة الى جبال حبرون, لتكشف سرّها الى مثلها, تثق فيها, وتطمئن اليها, وتلاقت مريم مع خالتها "أليصابات" فألقت اليها بسرّها الرهيب و"أليصابات" خالة مريم وامرأة زكريا عليه السلام. كانت أليصابات زوجة زكريا قد حملت هي أيضا, بعد أن استجاب الله لدعاء زوجها, فروت كل منهما قصتها وتحدّثتا بغرابة حملهما, وكانت "أليصابات" العجوز قد حملت بيحيى عليه السلام, ومكثت مريم وخالتها أليصابات معا ثلاثة أشهر في هذا البيت الهادئ على سفح الجبل وقد سمعت مريم وأليصابات وهما نائمتان على سرير واحد نداء سماويا ألهمهما أن الطفل عيسى ويحيى سيشتركان معا في اتمام القصد الالهي, ونزل هذا الخبر على قلبيهما بردا وسلاما. وعادت العذراء المباركة الى الناصرة, وهي الفتاة الباسمة المشرقة, فقد أصبحت تعيش في عالم جديد أكثر اتصالا بالله, تفكر طويلا بفرح ممزوج بالخوف. انتفخ بطنها, وبدأت تفطن الى الريبة التي تخامر قلوب المحيطين بها, فكانت تفكر في ذلك طويلا, وأخيرا استقرّ عزمها على أن تكشف سرّها الى ابن عمّها يوسف النجار, وكان أشد الناس برّا بها وحرصا عليها, فأرسلت له وألقت اليه بسرها الذي كان حملا ثقيلا عليها. وقع هذا الخبر على يوسف, وقوع الصاعقة, فشك في أمرها, وهو أعلم الناس بعفتها وطهارتها, وعاد الى منزله, وأوى الى فراشه شارد الفكر مضطرب الفؤاد, فطار النوم من عينيه, وعصر الحزن قلبه. وفي هدوء الليل هبط الوحي الالهي على ذلك الرجل المعذب والقلب الجريح, وأنبأه الحقيقة العظمى, فقام من نومه, وقد آمن بحقيقة مريم العذراء, وأسرع اليها في منزل عمتها ليعتذر لها عن ريبته وشكه فيها, ثم عرض عليها أن يضمها في بيته ليستر أمرها, ويحظى بشرف رعايتها كما يرعى الزوج زوجته. أذعنت مريم لالحاح عمتها فقبلت هذا العرض وذهبت الى بيت يوسف, فأتمّت فيه مدّة الحمل. لما صارت في الشهر التاسع, ورأى يوسف سوء حالتها, أشفق عليها, وبذل المستحيل ليخفي أمرها, ويمنع سوء القالة عنها, فقرّر السفر بها لتضع مولودها, بعيدة عن الناصرة وأهلها. يتبع |
2. الطريق الى بيت لحم أمر القيصر, وهو ملك بلاد الشام في ذلك الوقت, أمر بحصر عدد السكان, وكتابة أسمائهم في سجلات, وهدّد كل من يتخلف عن تدوين اسمه, وأسماء عائلته بالعقاب الشديد. فسافر الناس من الشمال والجنوب الى القدس, لتدوين أسمائهم, فكنت ترى الطريق مزدحمة بالمسافرين. مالت الشمس الى الغرب, واذا وقعت العين على ركب المسافرين, الذين جاؤوا من بلاد الجليل في الشمال وقد بدا عليهم أثر التعب, وأضناهم السفر الطويل تجد من بين هؤلاء المسافرين فتاة قروية هي مريم العذراء على دابة وقد أمسك بمقودها رجل هو يوسف النجار الذي كان يبدي اهتماما عظيما بها. جاءا معا الى القدس, ليقيّدا اسميهما في سجلات المحاكم, ولعلهما أرادا الاختفاء عن قومها خشية الفضيحة, وقت الولادة. اقترب الركب المبارك من "بيت لحم" وهي مدينة فلسطينية, وشعرت مريم بمقدمات الوضع, فمال يوسف النجار بها الى بيت لحم, وأنزلها بالقرب من كهف كبير, وقد استعمله الرعاة من قديم الزمان مربطا للماشية والأغنام, فجلست مريم بجوار جذع نخلة, وذهب ابن عمها الى القدس, ليستأجر لها مكانا خاليا, وما كان هناك مكان يصلح لراحة حبلى في شهرها الأخير, لكثرة الوافدين على المدينة في هذا الوقت. فما كان منه الا أن أخذها الى مكان خال بجوار نخلة يمر من تحتها جدول صغير من الماء. 3. الميلاد والمعجزة كانت مريم العذراء وحيدة هناك بجوار النخلة, انها نخلة معمّرة, وأمامها جدول صغير من الماء العذب يسري ماؤه, فقاست مريم حرارة الوحدة وقت الولادة, وأجاءها المخاض الى جذع النخلة, فوضعت ابنها البكر, وقامت الى الجدول وغسلته وقمّطته, ثم اتجهت به الى الكهف, وفي هذا المكان الهادئ نام المسيح نومته الأولى, ودخل الى العالم بهذه الصورة المتواضعة كما يدخل أي مولود عادي من عامة الناس, وقد استقبلته السماء بمظاهر الترحيب والبشر, فشع نور على مهد هذا الوليد المبارك, وكانت أمه بعد هذا المجهود الشاق قد استسلمت لضعف ألمّ بها, فرأت مظاهر الحفاوة والتكريم لهذا المولود, وسمعت ترتيل الملائكة الذين جاؤوا يحفون بالمولود الجديد, يسبّحون ويهللون ويهتفون بالتحية لمولده, وشاهدت هذا النور الذي انبثق من السماء الى الأرض, يعلن لملايين البشر فجر الخلاص من الظلم والاستبداد, وظلام الجهل والضلال. أفاقت مريم من ضعفها, وعاد اليها نشاطها, فاذا طفلها ينظر اليها نظرة العطف والتساؤل, واذا قلبها مفعم بالذكريات الأليمة, والصور البشعة, واذا هي نهب للتفكير في ساعة لقاء أهلها وذويها. كيف ترد على التهم التي ستنهال عليها؟! ظلت تفكّر في ذلك كثيرا, فانتابها موجة من الضيق, ونكست رأسها تحاول ابعاد هذه الوساوس عنها. قالت:{ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيّا} يا الهي؛ أنت عليم بحالي فألهمني الرشاد, وخلصني مما أقاسيه. كانت مريم حقا في حيرة شديدة, لا تستطيع البقاء بمولودها في هذا المكان بدون طعام, ولا تستطيع أن تعود به الى ذويها في الناصرة, ولا الى أقربائها في بيت لحم, فيرموها بالسوء, ويقذفوها بالتهم أشكالا وألوانا. أظلمت الدنيا في عينها, وساءت الحياة أمامهما, وبينما هي في غمرة من ذلك سمعت صوتا يناديها: يا مريم, لاتحزني!! قد جعل ربك تحتك ماء سريّا وهزي اليك بجزع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي من الرطب, واشربي من الماء, وتوكلي بعد ذلك على الله فهو نعم المولى, ونعم النصير. سمعا مريم هذا النداء السماوي يتردد على أذنها, فكان بردا وسلاما على قلبها, أعاد اليها الأمن والثقة, وأذهب عنها الخوف والاضطراب فقامت مريم الى الجدول وشربت, وهزت بجذع النخلة وجمعت ما وقع منها من رطب, ثم أقبلت على الطفل وأشرق وجهها بمحياه, فانزاح عنها الكابوس الثقيل, وكانت قد سمعت حديث الناس حول ظهور النجم الأكبر, وتساؤلهم عن آيات ظهور المسيح المنتظر الذي بشرت به التوراة. وبينما هي كذلك جاء يوسف النجار اليها في لهفة وحسرة, فوجدها في أتم صحة, تغسل الخرق, وتنشرها على أشعة الشمس, وقد حماها الله من كل سوء, فلما نظر اليها يستفسر عن حالها أشارت الى المولود, فأسرع يوسف اليه, ووقف برهة يتأمل ذلك الوجه المشرق الجميل, ونحن نتصور ما يجول في رأس هذا الرجل المؤمن من الأفكار, بعدما رأى من آيات الله, وما سمع من حديث القوم, فنعرف السر فيما فعله بعد ذلك, حينما وهب كل وقته,وبذل كل جهده لرعاية هذا الوليد الخارق لناموس الحياة وأمه السيّدة العذراء. ونتصوره أيضا يعود الى مريم, وقد نكّس رأسه هيبة واجلالا ليسألها عملا يؤديه, أو خدمة يقدمها. حقا!؟ ان يوسف النجار كان رجلاصالحا تقيا نبيلا, كشف الله عن بصيرته, وألهمه الحقيقة والصواب. ونحن نتصور مريم تقضي مدة النفاس في هذا المكان الخلائي الهادئ, فنجدها هانئة به, وقد راضت نفسها على الاقامة فيه, وكان يوسف النجار يذرع الأرض كل يوم ويقطع طريقها بين الكهف الذي ولد فيه المسيح وبين القدس, حيث يقضي حوائجها, ويشتري لها الخ والطعام, فاذا عاد من المدينة وجد تمرا كثيرا, جاءت به هذه النخلة التي شبّ عمرها, واخضرّت أوراقها, بعد أن أصابها الكبر ونخرها السوس. انتهت مدة نفاس مريم العذراء, وحان موعد الرحيل الى المدينة, فعاود مريم القلق, وانتابها الوسواس من جديد. كان يوسف يحزم الأمتعة استعدادا للرحيل, ومريم غارقة في همومها ودعائها تطلب العون من الله, فسمعت هاتفا يهتف بها: يا مريم؛ صومي اليوم عن الكلام, فلا تكلمي أحد من الناس, والله يتولاك برعايته. كان الهاتف بهذا الأمر هو جبريل عليه السلام, فصدعت للأمر, ونذرت الصوم قالت: {اني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيّا}, مريم 26. ولما فرغ يوسف النجار من حزم الأمتعة, حملها على دابته ثم نظر الى مريم, ودعاها للركوب, فركبت دون أن تحرك شفتيها بكلمة واحدة. اتجهت مريم بالطفل الى جبال حبرون, وجاءت به الى قومها تحمله, قالوا: يا مريم؛ لقد جئت شيئا فريّا, وأمرا منكرا!؟ سكتت مريم ولم تقل شيئا للدفاع عن نفسها, فأيقنوا أنها ارتكبت خطيئة, وقالوا: { يا أخت هارون ما كان ابوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيّا} مريم 28. تكلمي يا مريم ودافعي عن نفسك. كيف جئت بهذا الغلام؟! كانت مريم صائمة لا تستطيع الكلام, فلما ألحوا عليها وكثر كلامهم وسؤالهم لها, اتخذت قرارا صامتا أصابهم الدهشة الشديدة!! كانت مريم صائمة عن الكلام, لا تستطيع الكلام, فلما ألحوا عليها وكثر سؤالهم لها: أشارت الى الطفل ليكلموه, انه أمر عجيب, كيف تطلب مريم شيئا خارقا لم نعتد عليه, انها تطلب معجزة, تريد أن يتكلم هذا الطفل الملفوف في قطعة من القماش. قالوا في دهشة واستغراب:{ كيف نكلم من كان في المهد صبيا}. كيف نكلم هذا الطفل الذي يكفينا سماع صوت بكائه بصعوبة شديدة من ضعفه وطفولته المبكرة. لقد ولد منذ أيام قليلة, فهل يعقل انسان هذا الذي تريده مريم, انها تريد المستحيل. ولكن مريم كانت بحاجة الى معجزة كي يصدقها الناس, اذ كيف يصدق الناس أن طفلا أنجب بغير أب, وفي هذا الأمر اتهام للعرض والشرف, حتى أنهم قالوا ان أمها كانت طاهرة شريفة وأبوها لم يكن يوما من الأيام سيء الخلق حتى تأتي هي بهذا الفعل المشين. انصرفت مشيئة الله أن يكون الرد معجزة, لأن الاقناع في مثل هذه المواقف يحتاج الى معجزات ومعجزات, والمعجزة والشيء الخارق هنا أن يعتدل الطفل في فراشه ويعرف الناس بنفسه ويدافع عن أمه وما أثير حولها من عبارات الشك والطعن في شرفها وعرضها. تكلم عيسى المسيح عليه السلام, بعد أن قالوا:{ كيف نكلم من كان في المهد صبيا}. قال عيسى وهو ملفوف في رباط الأطفال وملفوف بخرق الفراش.. قال: { اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا* وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا* وبرّا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيّا* والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا* ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} مريم 30-34. وكان حديثه في المهد معجزة عظيمة. |
معجزة عزير عليه السلام
عزير عليه السلام الحياة بعد الموت قال تعالى:{ أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنّى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم, قال بل لبثت مائة عام فانظر الى طعامك لم يتسنّه وانظر الى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما, فلمّا تبيّن له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} البقرة 259. 1. أما قبل فحديثنا عن معجزة عزير عليه السلام, يحتاج الى تعريف مختصر يسير, بمن هو عزير,, حتى نجعل لكل أوّل آخر, ونربط المعجزات بالمصائر. وعزير عليه السلام صبي من نسل نبي الله هارون عليه السلام, وفي وقت معجزته هذه كان يقيم مع قومه من بني اسرائيل في بابل, الذين كثروا بها وتناسلوا بعد أن أخرجهم بختنصر, وأخذ معظم الأسرى الى بابل وكان بختنصر هو أول من جاس في ديارهم, بعد أن أفسدوا في الأرض, ولذلك فقد حقت عليهم كلمة الله عز وجل:{ وقضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوّا كبيرا* فاذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار, وكان وعد الله مفعول}. الاسراء 4-5. كان عزير عليه السلام صبيا نابها كارها لحياة الذل في أرض بابل, يملأ قلبه الأسى والحزن لما يلقاه بنو قومه من الذل والعبودية والهوان, وكان عزير عابدا صالحا يقرأ التوراة, ولم يكن في بني اسرائيل آنذاك من يحفظ التوراة عن ظهر قلب سوى عزير, وكان أبوه وجدّه يحفظانها من قبل. وكان عزير عليه السلام يقرأ التوراة ويعمل بها, ويعظ الناس, فأحبّه الاسرائيليون والبابليون على حد سواء, لخلقه, واستقامته, وحسن سيرته وسلوكه بينهم, وصدق نصائحه وتوجيهاته ومواعظه, وكان عزير مستجاب الدعاء, فما يدعو لأحد بخير الا استجاب الله لدعائه المبارك. وقد تزوّج عزير عليه السلام وأنجب ابنين, ولما بلغ الأربعين من عمره أوحى الله اليه أنه سيخرج من هذه الأرض, أرض بابل, التي أسره فيها بختنصر وأن بني اسرائيل سيخرجون أيضا, ويعيدون عمارة بلادهم. ولما كان العزير عاقلا هادئا حكيما, فانه لم يبح لأحد بما أوحي اليه لا لبني اسرائيل ولا لغيرهم, وكان كتمانه هذا حرصا وخوفا على بني اسرائيل من أن ينزل بهم شر من أي جانب أو جهة. ومرّت الأيام وعزير عليه السلام يجد في داخله حافزا الى الخروج من بابل حيث الذل والمهانة الى حيث وعده ربه بعمارة الأرض المقدسة, وتزايدت في داخل عزير تلك الحوافز يوما بعد يوم, ومر شهر وحنين عزير يشتد أكثر وأكثر, وأصبح لا يطيق البقاء في بابل وأقرّ في نفسه أنه لا مفرّ من الخروج. فكّر عزير عليه السلام قليلا فيما سيواجهه من مشاكل من جراء خروجه من بابل, فماذا سيصنع وجته وأبنائه, وخادمته التي طالما كانت وفيّة أمينة مطيعة له على مدى سنوات مضت. وسأل نفسه: كيف يصطحب كل هؤلاء معه؟ وفي ظل حراسة مشددة, وهل يغفل هؤلاء الحراس, الذين وضعهم الملك في كل مكان من بابل؟ كانت هذه المشكلة التي تؤرق عزير عليه السلام وأحس أنها ستعطل خروجه من بابل, ولكنه فكر في الأمر مليّا, وجمع زوجته وبنيه, وخادمته الأمينة في ليلة من الليالي, وفي مكان أمين, وقد سكن الليل, وأوى الناس الى مضاجعهم, وقال لهم: لقد قررت الرحيل. فقالت الزوجة: الى أين؟ فقال عر: الى الأرض المقدسة. قالت الزوجة: ان هذا الأمر غاية في الصعوبة, ونحن نحاط بهذا الكم من حراس بختنصر. ولكن عزير الذي أوحي اليه أصرّ أن يخرج مهما كان الثمن, ذلك لأنه رأى في الخروج تنفيذا لأمر الله عز وجل. عندما أباح عزير بالسر وهو أن خروجه بوحي من الله عز وجل, وأن الوحي بشّر بعمارة بني اسرائيل لأرضهم, وزوال ذل وهوان بختنصر عنهم, فرحت الزوجة والأبناء والخادمة, وعرفوا أن عزيرا أصبح نبيّا من أنبياء بني اسرائيل. فقال لهم عزير عليه السلام: لقد أوحي الي منذ ثلاثة أشهر, وها هي التوراة في قلبي أحفظها, فهي كلام الله, تنير لي الطريق ان شاء الله. طلبت الزوجة عندئذ من زوجها عزير أن يعلم بني اسرائيل بما أوحي اليه من الله عز وجل, حتى يستبشروا وتقوى عزائمهم ويتخلصوا من الذل الذي اعتادوا عليه منذ أن اجتاحهم بختنصر بجيوشه القاسية الفتاكة. وقالت الزوجة والأبناء: ان خروجك وحيدا لن يعمّر الأرض فانك لن تجد هناك من يعينك على ذلك, ولن تجد أيضا هناك من تعلمه التوراة, وبقاؤك معنا سيفيدنا لأننا سنتعلمها منك. قال عزير: هذا أمر الله, وأنا جبلت على طاعته ولن أعصي له أمرا, وقد أوحى الله أمرا واقعا في المستقبل لا نعرف نحن عنه شيئا, ولكن مشيئة الله نافذة, وبعد وقت قليل سيلحق بي بنو اسرائيل وستلحقون بي أنتم جميعا, فاصبروا, ولا تجزعوا فانه أمر الله, ولا رادّ لأمره, سنلتقي هناك في الأرض المقدسة, وسنجتمع كلنا في الغد القريب. ثم أكّد عزير على سريّة خروجه, فقال لهم: اذا أصبحتم فاكتموا أمري, فاذا سأل عني سائل فقولوا له: خرج ولا ندري متى يعود..! فلما تأثرت الزوجة والأبناء أكّد عزير عليه السلام قائلا: تصبّروا, فاننا سنلتقي ان شاء الله, فهكذا أوحى الله اليّ.. كفوا عن البكاء والحزن, واحبسوا أصواتكم حتى لا يشعر بنا أحد.. والآن أستودعكم الله. سألت الزوجة: وماذا أعددت لركوبك؟ قال: لقد اشتريت حمارا جلدا قويا منذ أيام لهذا الغرض. فقالت: وأين هو؟ قال: تركته عند صديقي, وواعدته أن يلقاني به الليلة, خارج أسوار المدينة. قالت: وهل علم صديقك بنبأ رحيلك؟ فقال عزير: نعم, علم بكل شيء, وكان أول من آمن بنبوّتي, وسيكتم أمري كله ان شاء الله. كان الفراق صعبا بالنسبة للزوجة والأولاد والخادمة, وكان وداعا هامسا, حارا, هادئا.. وخرج عزير. يتبع |
2. بدء المعجزة مضى عزير عليه السلام في رحلة طويلة شاقة, بعد لحظات خوف وترقب أثناء خروجه من بابل وقد أحاطها الحراس والجنود في كل مكان. وبعد طول مسير وكثير عناء, وجد العزير نفسه في الأرض المقدسة التي طالما تاقت نفسه لرؤيتها, فلما دخل وجد شيئا عجيبا, لم يجد آثارا للعمران, بل وجد الخراب جاثما عليها منذ ثلاثين سنة مضت, منذ أن خرّبتها جيوش بختنصر الذي كان قد اقتحم دمشق, وسار منها الى بيت المقدس, وتذكّر عزير ملك بني اسرائيل الذي خرج اليه, وقدّم له الطاعة وطلب منه الصلح, وأعطاه من الأموال والجواهر والأشياء النفيسة ما أرضاه, ويومها طلب بختنصر بعض أعيان بني اسرائيل ليكونو رهائن عنده ضمانا لاستمرار الصلح, وعدم التمرّد. تاريخ الطبري. وتذكّر أن أهله بني اسرائيل لما نزل بختنصر فزعوا, وتفرّقوا, وأغلقوا دورهم عليهم, فلما صالحه الملك وأعطاه الرهائن وجلا عن البلاد بجيشه, خرجوا من جحورهم غاضبين يلومون ملكهم على الصلح, ويعلنون أنهم كانوا قادرين على قتال عدوّهم, وانزال الهزيمة به, وثاروا على ملكهم وقتلوه, ونقضوا الصلح مع بختنصر. وتذكّر كذلك لما رأى الخراب أن بختنصر لما علم بما حدث منهم عاد الى بيت المقدس, فتحصنوا بداخلها, فحاصروها حصارا شديدا, ثم قام بدك أسوارها بما يقذفه عليها من مدمّرات, حتى تهدّمت, فاندفع جيشه وخرّب المدينة, وقتل النساء والأطفال, وخربوا الدور والزروع والقرى وقتلوا وأسروا كل من وصلت اليه أيديهم.. حتى خرّبت الديار, وكثرت الدماء, وتناثرت الأشياء وهرب من هرب وأسر من أسر, وهرب منهم كم هرب الى مصر,والى مكة والى يثرب وجهات أخرى, وبقي بختنصر ليأتي على البقيّة الباقية من هدم للبيع والمعابد واحراق كل ما وقع له من نسخ التوراة, وقتل الشباب من الأسرى القادرين على حمل السلاح, واستبقى النساء والأطفال عبيدا عنده وخدما, وغادر البلاد بعد تركها خرابا. كل هذا تذكره عزير عليه السلام لما رأى الخراب والدمار حوله في كل مكان؛ فقد وجد أشجار الفاكهة قائمة بغير عناية, فلم تحصد منذ سنين ولم تقطف ثمارها, فهي محمّلة بالثمار الحديثة والقديمة, والأعشاب وبعض الزروع وقد تفرّقت هنا وهناك بغير انتظام, وقد كست الأرض, فتطول في مكان وتقصر في الآخر. وسمع عزير عليه السلام عواء الذئاب بعيدا, وأصوات السباع, وبحث عن أي أثر لأي انسان فلم يجد, وظل العزير يمشي ويمشي حتى بلغ مدينة القدس ووجد بهاآثارا لمذبحة بختنصر. فعظام القتلى بقايا بالية مبعثرة, والدماء على الجدران جافة سوداء, وعشرات الألوف من الجماجم الآدميّة تدل على هول ما أنزل بختنصر ببني اسرائيل من هلاك, ورأى عزير البيوت وقد تهدمت وطمرت بالأنقاض, أما المساجد والمعابد فقد أصبحت خاوية على عروشها, مهجورة وقد ملأها التراب... هال عزيرا عليه السلام ما شهده من مشاهد, وقد جرت أحداث بختنصر هذه وهو صبي لم يتجاوز العاشرة من عمره, ولكنه سمع فيما بعد بهذه المذابح والمعارك من الآباء لكن ما شهده كان أكبر مم تصوّره, لم يكن يعرف أن هذه المعارك كانت عاتية فادحة الخسائر الى هذا الحد, الذي يشهده بعينيه وهو يمر بين الأنقاض والديار المهدّمة. طاف عزير عليه السلام مدينة الأشباح, وقد شغله هذا الماضي المفجع المحزن والحاضر وما سيكون عليه المستقبل, سأل نفسه عدة أسئلة: أتصبح هذه الأرض القفراء عامرة؟ أتصير هذه يوما من الأيام, معمورة الأسواق والندوات والمجالس, آهلة بالسكان والأطفال والنساء والبيوت؟ وقد أوحى الله اليه أنه سبحانه عز وجل سيعيدها سيرتها الأولى فتدب فيها الحياة, وتنشط الحركة وتقوم التجارة, ويزدهر نشاط الناس بالزراعة والصناعة.. صمت عزير عليه السلام قليلا وتساءل في عجب{ أنّى يحي هذه الله بعد موتها} البقرة 259. أحس عزير عليه السلام بوحدة قاتلة, ووحشيّة مميتة من هذا الصمت الذي يطوف حوله, صمت المدينة, والأشجار, وكل شيء حوله صامت لا يتحرك, وأحزنته مشاهد الدمار التي ما زالت متناثرة في الشوارع والطرقات على شكل عظام ودماء, وبقايا حياة كانت مليئة بالحيوية والبهجة, ولم يسمع عزير حوله سوى صوت الرياح تهمس في أذنيه مرة عاصفة وأخرى عليلة هادئة النسمات. من كل هذا الجو الموحش آثر عزير أن يتخذ لنفسه مغارة في أحد الجبال المحيطة بالقدس ليقيم فيها, وحث حماره فمشى, وعند أحد البساتين توقف عزير عليه السلام وصنع لنفسه سلة ملأها عنبا وتينا, وعصر بعض العنب, وجعله معه في اناء من الجلد ليشربه. وفي ضحى هذا اليوم دخل عزير عليه السلام مغارته الواسعة العتيدة فربط بها حماره, ووضع سلته وشرابه الى جانبه واستلقى على ظهره ليريح نفسه من العناء والتعب, وقد شغل فكره بواحدة من الأفكار تقول: كيف تعود الى الحياة ثانية الى هذه القرية؟! وعزير عليه السلام على علم من وحي الله أن الحياة ستعود مرة ثانية الى هذه القرية ولكنه انسان, ومازال رغم كل ذلك يقول ويردد:{ أنّى يحي هذه الله بعد موتها}. من هذا التساؤل العجيب, ومن هذا الاستطلاع وحبه المعروف عند البشر, تكون المعجزة في طريقها الى عزير عليه السلام بأمر الله عز وجل. وظل عزير عليه السلام يقول: كيف تعود الحياة الى سائر بني اسرائيل وها هي صامتة صمت الزمن أيامي؟! ظل عزير عليه السلام على هذه الحال, حتى أسلمه التعب والتساؤل والرغبة في المعرفة الى نوم عميق عمق الزمن الذي طال, ثقيل ثقل السنين التي مضت ولم يشعر بها عزير أبدا. وفي نومه العميق أو في نومته الصغرى, نام نومة كبرى, لقد قبض الله روحه, ولم يعد عزير يشعر بشيء مما حوله فهو في يد العناية الالهية, تنصرف الى ما تشاء ولا رادّ لمشيئة الله لا في الأرض ولا في السماء. يتبع |
3. العودة مضت السنون سريعة خاطفة عاما وراء عام, ومضى على عزير عليه السلام من بابل عشرة أعوام, انتظرت فيها زوجته وبنوه مشيئة الله عز وجل التي تتيح لهم الخروج من بابل حتى يلحقوا به في الأرض المقدسة, ولكن طال انتظارهم, ولم يحدث شيء, وتلاحقت الأعوام حتى بلغت أربعين عاما, ولم يخرج بنو اسرائيل ولم تأت أخبار عن عزيرا, ويئسوا من العودة الى الأرض المقدسة. أربعون عاما كانت كافية لتغيير أشياء كثيرة, فتغيّرت أجيال واندثرت أجيال. وفي خضم هذا الأمن والطمأنينة, نشأت في بني اسرائيل فتاة جميلة بارعة الجمال, تتسم بالذكاء حتى تفوقت على بنات جيلها جمالا وذكاء, فكان أن رآها ملك بابل فطلب الزواج منها, فتزوجها وهام بها حبا, وأصبحت ذات مكانة رفيعة لدى زوجها, ومنزلة عظيمة ومنّ الله عليها بمولود جميل, مما زاد حبها رسوخا في نفس زوجها الملك, ملك بابل, وأصبحت الزوجة ذات مكانة عظيمة في أوساط زوجها والقصر وكل من حولها, وكان لها عظيم الأثر في نفس زوجها الملك مما جعله يحسن معاملة بني اسرائيل, فصار الأحبار يدخلون القصر ويعلمون ابنها التوراة, فأصبح محبا لأهل أمه, مما جعل الأحبار يشعرون ببركة هذا الزواج, فأصبحوا يتمتعون بمعاملة كريمة واحترام كبير واكرام ما بعده اكرام, وأصبح لهم نفوذ كبير في القصر, فهم بمنزلة وزراء الملك وأعلى الناس في حاشيته ومستشاريه. ومرّت السنون والأحوال تزداد تحسنا بالنسبة لبني اسرائيل, وجاء اليوم الذي مات فيه الملك, فخلفه ابنه الذي رضع حبا لأخواله بني اسرائيل, وحفظ منهم التوراة وعلومها, وأحبهم حبا شديدا, وجاء اليوم أيضا الذي جلست فيه الأم لابنها الملك لتحدثه عن أرض بني اسرائيل التي ما زالت خاوية خربة وتحتاج لأبنائها كي يعمروها, ويزرعوا ارضها. وفي هذا اليوم المشهود لبني اسرائيل والذي جاء بعد مضي سبعين سنة على خروج عزير عليه السلام من بابل في هذا اليوم خرج المنادي ينادي في شوارع بابل: من أحبّ أن يخرج من بني اسرائيل الى بلاده فليخرج ولا حرج عليه في ذلك. فخرج بنو اسرائيل مهاجرين الى بلادهم, وهناك هالهم ما رأوه من خراب ودمار, ولكنهم شمّروا عن ساعد الجد, فغرسوا وزرعوا, ودبّت الحركة في المدينة التي أصبحت أكثر نظافة ونظاما عما قبل, وعادت الحياة تدب من جديد في أرجائها, وخرجوا الى القرى المحيطة بها فعمروها, وبدأ التجار عملهم, فاستؤنفت التجارة بين القرى, وبدأ أرباب الصناعة في تشغيل صناعاتهم وظهرت المساكن الجديدة هنا وهناك, وامتدت الأيادي للبناء, وكان الجميع في سعادة وهم يبنون ويعمّرون ويشعرون بالحريّة, ولم يعد الذل يطاردهم كما كان في بابل . ومضت ثلاثون عاما أصبحت فيها البلاد عامرة, وقد أثمرت صناعاتهم وعمّرت قراهم, وانحسرت آثار الكارثة التي مرت بهم تماما ولم يعد لها أثر يذكر. يتبع |
4. ظهور المعجزة كانت زوجة عزير عليه السلام قد كبرت وأخذ منها الزمان ما أخذ, وكذلك خادمته الصغيرة, وقد بحثوا جميعا في أول مجيئهم مع بني اسرائيل عن عزير في كل مكان بالمدينة, فلم يجدوا له أثرا, وأرسلوا الى المدن والقرى للبحث عن عزير ولكن دون جدوى. وأثناء سؤالهم هذا صرفهم الله عز وجل عن المغارة التي سكنها عزير ومات فيها, وانصرفت مشيئة الله أن لا يقترب بشر من هذه المغارة, لأمر عنده كان مفعولا, واكتملت مائة عام على وفاة عزير, فتحرّك الجسد الذي أصبح ترابا, وأحياه ربه بعد مائة عام, ردّ فيه الحياة, فاجتمعت عظام جسمه ونبض قلبه من جديد فاعتدل جالسا, ونظر حوله هنا وهناك فوجد الى جواره اناء العصير, وطعامه لم يحدث له شيء وسمع مناديا ينادي { كم لبثت} كم من الوقت قضيت في النوم.؟ نظر عزير عليه السلام حوله فوجد الشمس قد بدأت تعلو من المشرق, فأجاب على الفور { لبثت يوما أو بعض يوم} أي نمت يوما أو أقل من يوم, فوجد الصوت الذي ناداه يقول{ بل لبثت مائة عام..}. دهش عزير عليه السلام وفزع مما سمع, وردّد في ذهول: مائة عام؟! وأعاد النظر الى سلة الفاكهة, فوجد العنب طازجا كأنه مقطوف لتوه وكذلك التين, والعصير في الانء الجلدي كما هو لم يتغيّر ولم تصدر عنه رائحة غير مقبولة, ولم يتبخر ولم يتجمّد, ولم يدركه أي تحول في الطعم أو اللون. تذكر عزير شيئا ونظر هنا وهناك بسرعة, وتطلع الى الأفق هناك خلف الأشجار, وكأنه يبحث عن شيء, لقد تذكّر حماره, أين هو؟.. لا بد أنه هرب, ووقعت عيناه على عظام بالية في المكان الذي ربطه فيه, وربما تساءل في نفسه, ولم الحمار, لقد أصبح عظاما نخرة بعد أن أفناه الدهر؟ وقف عزير عليه السلام بين فاكهته وطعامه الذي لم يتغيّر وبين حماره الذي فني وأصبح عظاما لطول ما مرّ به من السنين, وبدأ يردد: انها مائة عام, حقا انها مائة عام, كانت كافية بافناء جلد الحمار وعظامه, ولحمه, لقد بليت حوافره وزالت وأصبح مكان عينيه حفرتان في عظام الرأس المجوّفة. رأى عزير عليه السلام آيات ربه: فطعامه لم يتغير وحماره أصابه الفناء.. سبحان الله, انها بلا شك آية من آيات الله العلي القدير, ونعمة من نعمه العظيمة, ثم زاد مستدركا: بل انها آية, وكرّر: انها آية من آيات الله. وانصرف عزير عليه السلام للتسبيح والصلوات حتى سمع قول الله عز وجلّ:{ ولنجعلك آية للناس} البقرة 259. لم تكن الآية في الطعام والشراب الذي لم يتغيّر بل أصبحت في عزير عليه السلام نفسه, وهذا ما جعله يفكّر فيما سيأتي من بعد ذلك. ما الذي سيحدث بحيث يصبح عزير آية تدعو الى العجب والدهشة ومعجزة يتحدّث عنها الناس جميعا؟! ولكن ما هي الآية؟ وعمّ ستكون المعجزة؟! فجأة سمع عزير عليه السلام نداء خفيّا, يقطع عليه تفكيره, ويصرفه عن هذا التفكّر والتأمّل, جاء النداء يقول آمرا عزير:{ وانظر الى العظام} البقرة 259. نظر عزير عليه السلام الى العظام, ثم أكمل الصوت أو النداء:{ كيف ننشزها ثم نكسوها لحما} البقرة 259. أعاد النظر عزير عليه السلام فاذا به يجد عظام الحمار تتحرك قائمة بقدرة الله ومشيئته, كل عضو يتحرك الى مكانه المعروف من الجسم, حتى اكتمل هيكل الحمار العظمي ثم يكسو الله بقدرته ومشيئته هيكل العظام هذا باللحم, حتى يعود حمار العزير خلقا كاملا سويا كما كان. أخذت الدهشة عزيرا عليه السلام لكنه تمالك نفسه, ولما رأى ذلك بعينه سلّم وآمن بقدرة الله عز وجل, واطمأن يقينه, فقل في خشوع:{ أعلم أن الله على كل شيء قدير} البقرة 259. لقد كان عزير عليه السلام في زمن سبق موته يعجب لقدرة الله كيف تعيد الحياة الى هذه البلاد بعد أن رآها مقفرة موحشة, وها هو اليوم يرى أعجب وأعظم مما كان يتصوّر, انها قدرة الله سبحانه عز وجل. وخرج عزير عليه السلام ينظر الى الطريق العام فوجد الناس تأتيه من بعيد وهم يتكلمون رائحين وغادين, ورأى المدينة قد عمّرت, ورأى في المدينة أنوارا خافتة تظهر مع طلائع الظلام التي أقبلت مع الغروب, مما جعل العزير يشعر بالفرح والسرور ويشكر الله على نعمته, ويتيقن كما كان أن الله على كل شيء قدير. مضى العزير الى المدينة يتطلع الى أخبارها وكيف أصبحت بعد مائة عام, وماذا يفعل الناس: أهم سعداء أم بهم همّ وما هي أخبار أسرته؟ هل هناك أحد منهم على قيد الحياة؟ دخل عزير المدينة وفي رأسه مئات الأسئلة يريد اجابة عليها, فاذا به يرى مبان جديدة, رائعة التقسيم والبنيان على غير ما كان يرى منذ مائة عام, وشوارع وخططا غير التي كان بعهدها في القديم, وأخذ ينظر هنا وهناك, ويتنقل في طرقاتها وشوارعها بحثا عن منزله القديم الذي تركه منذ أكثر من مائة وعشرين سنة, ولما وجد نفسه في مكان جديد عليه وقد تغيّر تماما عما عهده قبل مائة عام, هداه فكره الى أن يسأل الناس المارّة في الشوارع. تحدّث عزير عليه السلام وقال لأحدهم: أين دار العزير؟ فأجابه الرجل:لا نعرف دارا للعزير, ولكن يوجد هنا ديار أبناء العزير! انظر الى هذه الدور المترصّة, انها دور أبناء العزير. مضى العزير الى المكان حتى جاء الى دور أبنائه, وعند أوّل باب من أبوابها طرق الباب طرقا خفيفا, فسمع صوتا من الداخل يقول: من الطارق؟ من بالباب؟ فأجاب على الفور: انا العزير!! فقال الفتى الذي ردّ عليه: ماذا تقول؟ العزير! اتسخر منا يا رجل؟ فقال العزير: افتح الباب يا بني وستعرف أنني لا أكذب عليك ولا أسخر منك. ففتح الفتى الباب, ونظر الى الرجل في دهشة واستغراب, ثم قال: لقد فقدنا العزير منذ مائة عام على ما سمعت من أبي, وكان سنه يومئذ أربعين سنة, فلو كان حيا لوجب أن تكون سنه الآن مائة وأربعين سنة, وأنا أراك الآن في سن الأربعين, انّك أصغر من أحفاده, فكيف يمكنني التصديق بأنك أنت العزير؟! سمع الناس الحوار بين العزير وأحد أحفاده فتجمّعوا حوله وأمطروه بالأسئلة, وكان يجيب بثقة ولسان صدق ويقول لهم: لقد أماتني الله مائة عام ثم بعثني, ورأيت بنفسي طعامي لم يتغيّر لونه ولا طعمه وشرابي لم يتبخر ولم يتغيّر وحماري الذي رأيت عظامه تتحرك وتأتي كل واحدة مكانها حتى اكتمل, فكساه الله لحما وعلا صوته ونهق نهيقا شديدا, كل هذا بعد مائة عام وقد ظننتها يوما أو بعض يوم, ولكنّ الله عز وجل أعلمني أنها مائة عام, بعثت بعدها بمشيئة الله, أليس الله على كل شيء قدير؟! في هذه الأثناء ظهرت عجوز لا ترى أمامها تتوكأ بصعوبة على الحائط مقعدة, ونادت قائلة: أدخلوه الى داخل الدار, فانني أعرف علامة في العزير فان كان هو عرفته بها, فدخل العزير عليه السلام عليها فاذا هي عجوز عمياء قد أهلكها الدهر, فقالت له: أتقول أنك أنت العزير يا هذا؟ قال: نعم. قالت لقد كان لدى العزير خادمة, وقد تركها وسنها عشرون عاما, أتعرف اسمها؟ قال: نعم اسمها "أشتر" قصص الأنبياء لابن كثير, وقد تركتها وسنها عشرون عاما, فاذا كانت على قيد الحياة فسنّها الآن مائة وعشرون عاما. فقالت العجوز: أتعرف أنني أنا "اشتر" خادمة العزير؟ وكان في العزير علامة, فقد كان مستجاب الدعوة فينا, فكان لا يسأل الله شيئا الا استجاب له, فان كنت العزير حقا, فادع الله لي أن يردّ عليّ بصري, وأن يشفي قدمي, فقد صرت مقعدة لا أستطيع المشي والنهوض من شدة الآلام فيهما. وفي لحظات دعا العزير ربه, ومسح بيده على عينيها, وأخذ بيدها لينهضها وهي مقعدة فاذا بها تنهض على ساقيها, وتبصر أحسن ما يكون الابصار, وتأملت في وجه وقالت: أشهد أنك عزير, اني أراك الآن كما رأيتك آخر مرة شاهدتك فيها منذ مائة عام.. وجاءت عجوز أخرى يقرب عمرها من مائة وأربعين عاما وقالت: وأنا أتعرفني يا عزير؟ فقال: أنت زوجتي ولن أجهلك أبدا. وكان عند خروجه قد أعطاها خاتمه وقال: لعلك تذكرينني به, وكذلك هي فقد أعطته خاتمها كي يذكرها به, فقالت له: أتذكر ماذا تبادلنا ليلة خروجك؟ قال: تبادلنا خاتمي وخاتمك, فقد أعطيتك خاتمي وقلت لك: لعلك تذكرينني به.. وأعطيتني خاتمك وقلت لي: لعلك تذكرني به.. وها هو ذا خاتمك, وخلعه من اصبعه, وقدّمه لها. فرحت العجوز زوجة عزير وقالت: وها هو ذا خاتمك يا عزير ولطالما ذكرتك به. وتجمّع الناس على هذه الأحداث العجيبة التي جرت أمامهم فتكاثروا وجاء غيرهم, حتى ضاقت دار عزير, فوقفوا أمامها يعجبون لهذا الأمر العظيم, وهذه الآية الكبرى التي توالت أمامهم كالحلم, فكلما همّوا بتكذيب كلمة جاء تصديقها بشاهد وموثق, لأن مشيئة الله عز وجل انصرفت كي يكون عزير آية للناس, وذلك لقول الله عز وجل :{ولنجعلك آية للناس}. في هذه الأثناء خرجت خادمته التي أبصرت واستعادة عافيتها وانصرفت عنها آلام قدميها, مسرعة الى مكان هي تعرف ارتباطه بهذا الأمر وهذه الآية, التي انصرفت مشيئة الله أن يكون عزير بطلها, لقد خرجت الى بني اسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم, وأخبرتهم بخبر وصوله, وكان على رأس المجلس شيخ وقور أخذ منه الدهر ما أخذ, انه ابن العزير الذي بلغ من العمر عتيّا. لقد بلغ مائة سنة وثماني عشرة, وجلس شيخا في مجلسهم.. وجاءت تصرخ وتقول: هذا عزير قد جاءكم. فقال ابن العزير الأكبر وقد رفع وجهه وفحص ببصره الضعيف هذه الفتاة: من هذه الجارية؟ فقالت: أنا جارية أبيك عزير.. أنا خادمته " أشتر", لقد جاء أبوك ودعا لي ربه بالشفاء وردّ بصري عليّ فاستجاب الله له كما عرفناه منذ مائة عام, أتدري أن الله أماته مائة عام ثم أحياه وبعثه من جديد! صمت الشيوخ جميعا وساد المجلس لحظات من الهول والصمت, وهم يسمعون كلاما يظنون أنه لا يصدق, ولكن ها هي جارية عزير ماثلة أمامهم وقد قصّت عليهم حقائق, فهي " اشتر" وهو اسمها, وعزير كان مستجاب الدعاء كما علموا وتعلموا من الآباء والأجداد, انها حقائق لا تكذب, وعزير خرج من بينهم منذ مائة عام كما تقول أيضا, وهي الآن تدعوهم لرؤيته رؤيا العين, كل هذا دعاهم الى الوقوف فردا فردا والتوجه الى خارج مجلسهم كي يرون بأعينهم ما سمعته آذانهم, وان لم يروه شكّوا في الأمر كله, فلن يصدّق أحد منهم ما سمعه من أشتر تصديقا كاملا الا اذا مضى في طريقه الى دار العزير ورأى بنفسه العزير ماثلا أمامه بهيئته التي فقدت خيالها وملامحها ذاكرتهم, مضى القوم في الطريق الى دار العزير, ولم يتوقف أحد منهم ولم يتحدث أحد منهم الى أحد. تقدّم ابن العزير الجميع وهو يتكئ على عصاه وقد أهلكته الشيخوخة ولم يسعفه الكبر كي يسرع الخطى أكثر من هذا, لقد بلغ مائة وعشرين عاما, و"أشتر" تقول أن أباه هناك في سن الصبا وهو في سن الأربعين, يا له من أمر يعجب له الانسان المحدود بفكره وقدرته. وعلى مشارف المنزل وعلى مقربة منه تمعّن ابن العزير ومسح عينيه كي ينقشع عنهما بعض ما تركه الزمن من غمامة, فرأى شابا في الأربعين قد وقف شامخا شديدا عظيم البنية وقد أضاء وجهه نور الايمان وتقوى القلب. حيّا ابن العزير أباه وهو يتفحّص وجهه وقال في هدوء شديد موجها حديثه الى أبيه العزير: ان لي في أبي علامة. فقال العزير: وما هي؟ قال الابن الشيخ: شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه. صمت الابن الشيخ وساد الصمت المكان لحظات, والجميع يتطلع بعينه الى العزير, وظنوا أن الأمر فيه من الكذب, فالأب شاب واقف في شموخ والأبن عجوز لا تكاد رجلاه تحملانه. صمت عزير عليه السلام قليلا ثم حرّك يديه وكشف لابنه عن كتفه فنظر الابن الى كتف أبيه فوجد الشامة السوداء مثل الهلال على كتفه.. هلل الابن الشيخ وقبّل أباه ورحّب به وقال: انه حقا أبي وأشهد أنه ابي.. وهلل معه بنو اسرائيل جميعا وفرحوا بمجيء العر ووجوده بينهم. لكن أحد الأحبار قطع هذا الترحيب بدليل جديد يريد أن يتأكد من خلاله أن هذا الشاب الماثل أمامه الذي مات مائة عام وكان له من العمر أربعين قبلها هو عزير حقا. قال الحبر: ان لنا نحن بنو اسرائيل في العزير علامة, غير التي شهدها ابنك وشهد أنك أباه. قال: لم يكن فينا أحد يحفظ التوراة عن ظهر قلب كما حفظها عزير. فقال العزير في ثقة واعتزاز, وصدق وكبرياء لهؤلاء الناس: وأنا أحفظ التوراة عن ظهر قلب. قام بعض شيوخ بني اسرائيل وانسحبوا من المجلس وجاؤوا بنسخة من التوراة قديمة كان أحدهم قد خبأها خوفا من بختنصر الذي كان يحرق التوراة أو يريد حرقها, وقالوا لعزير: اقرأ علينا التوراة, ونحن نراجع ان كنت تحفظها أم غير ذلك. جلس عزير عليه السلام شابا وسط القوم وشرع يقرأ التوراة عن ظهر قلب وهم يراجعون عليه في صحف التوراة, وظل يقرأ ويقرأ وهم يزدادون خشوعا حتى انتهى منها دون أن يخطئ في حرف واحد من حروفها, أو يتردد في آية واحدة من آياتها أو كلماتها. شهد الجميع بأنه العزير, وفرحوا به, ونظر بعضهم في المجلس فوجد آية عظيمة من آيات الله, لقد جلس العزير في هذا المجلس وفيه بنوه وبنو بنيه وهم شيوخ وقد شاب شعرهم وشابت لحاهم, وقوّست السنون ظهورهم وأحنتها بشدة, بينما يجلس عزير شابا في الأربعين أسود الشعر, قوي البنية, منتصب القامة, فكانت آية عظيمة, وكان عزير عليه السلام آية بما حدث له وحدث معه من مشاهد اختصه الله بها حينما قال له:{ ولنجعلك آية للناس}. حقا انه آية في موته وهو في سن الأربعين وآية في بعثه بعد مائة سنة, وروؤيته مشهد اعادة خلق حماره من جديد والعظام تتحرّك أمامه واللحم يكسو جسم الحمار من جديد, وطعامه لم يتغيّر, ولم تجففه الشمس ولا الهواء بل ظل طازجا, وقد جاءت قصة عزير في القرآن الكريم تحكي عن الآية التي جعلت فيه, وأخذت منه درسا وعظة لكي يعلم من لا يعلم أن الله على كل شيء قدير وأنه سبحانه عز وجل قادر على أن يحيي الموتى فهو الذي خلقها, وأماتها, وأنشأها مرّة أخرى, وهو خالق الطعام وقادر على ابقائه مائة عام دون أن يتبخر أو يتخثر أو تفوح رائحته كما يحصل خلال أيام قليلة بين يدي البشر, وهو القادر على خلق حمار عزير بعد أن أماته مائة عام وهو الذي صوّره أمام عبده عزير كي يؤمن الذين في قلوبهم تردد بأن الله على كل شيء قدير, فالخلق خلقه والكون كونه سبحانه وتعالى عز وجل, ليس كمثله شيء, واحد أحد فرد صمد. ونقرأ قصة العزير في سورة البقرة. قال تعالى: { أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت, قال لبثت يوما أو بعض يوم, قال بل لبثت مائة عام فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر الى حمارك ولنجعلك آية للناس, وانظر الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما, فلمّا تبيّن له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} البقرة 259. |
معجزة صالح عليه السلام
صالح عليه السلام رغت الناقة وصاح جبريل قال تعالى: { انا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر * ونبّئهم أن الماء قسمة بينهم, كلّ شرب محتضر * فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر * فكيف كان عذابي ونذر * انّا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتضر} القمر 27-31. 1. المعجزة: ان الله سبحانه وتعالى عندما يؤيد رسله وأنبياءه بالمعجزات فانه لا يتحدى بها فردا واحدا, ولكنه يتحدى أمة بأكملها, انه يطلب منهم أن يستعين بعضهم ببعض ان استطاعوا, ولن يستطيعوا. وحتى لا يقول الكفار: لقد جاء نبي يدعو الرسالة بشيء لم نتقنه ونبغ فيه, ولو تعلمناه لجئنا بمثل هذه المعجزة, جاءهم بشيء تعلموه بل ونبغوا فيه واشتهروا بفعله, ثم بعد ذلك تحداهم به, لكنهم يعجزون!! ومعنى التحدي هو اثارة حماس القوى المعارضة لتفعل والقوى المعارضة هي الكفار, أو غير المؤمنين. لقد تحدّاهم علنا, لتهيج نفوسهم أمام الناس, ويحاولوا قدر طاقاتهم أن يأتوا بمثل المعجزة ويحشدوا لها طاقاتهم, بل ويجنّدوا لها للرد عليها, ولكنهم مع كل ذلك, ورغم كل ذلك يعجزون. واذا كان صالح عليه السلام قد احتاج من الله عز وجلّ معجزة, كي يعزز دعوته ورسالته بالحجة التي لا ترد فاننا يجب أن نعرف معنى المعجزة وما هي المعجزة؟ (ومعنى المعجزة أن يأتي الله سبحانه وتعالى على يد رسول من البشر بأمر خارق ليثبت بها صدق بلاغ هذا الرسول عن الله عز وجل, فكان الرسول يقول: أنا لم أعرف بينكم بما نبغتم فيه, ولكني أتيت بشيء لا تقدرون عليه. وأنا أتحداكم أن تجتمعوا جميعا وتستعينوا بعضكم ببعض.. ولن تقدروا على الاتيان بهذ المعجزة. وهذ دليل صدقي في التبليغ عن الله.. ان أعوزكم الدليل, وكنتم في شك مما أقول). معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد متولي الشعراوي. نعود الى صالح عليه السلام الذي أرسله الله تعالى الى قوم ثمود, وثمود قبيلة كبيرة كانت تعبد الأصنام, فأرسل الله سيدنا صالحا اليهم, وقال صالح لقومه: { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره}.هود61. قال لهم صالح نفس الكلمة التي يقولها كل نبي لقومه, هي هي لا تتغيّر ولا تتبدّل {اعبدوا الله ما لكم من اله غيره}, وكانت دعوة صالح عليه السلام مفاجأة لهم, لأنه يتهم آلهتهم ويقول أنها بلا قيمة, وهو ينهاهم عن عبادتها ويأمرهم بعبادة الله وحده, وأحدثت دعوته هزة كبيرة في مجتمعهم وكان صالح معروفا بينهم بالحكمة والنقاء والخير, فكان يحظى باحترامهم جميعا قبل أن يوحي الله اليه ويرسله بالدعوة اليهم. ولذلك فانهم توجهوا اليه بالحديث فقالوا: { قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوّا قبل هذا, أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا واننا لفي شك مما تدعونا اليه مريب}. هود 62. لقد استنكروا على صالح أن يقول هذا, وقالوا: هذا الرجل الذي كان لنا رجاء حسنا فيه لعلمه وعقله وصدقه وحسن تدبيره, يصدر منه مثل هذا الكلام, أيعقل هذا؟ لقد خاب رجاؤنا فيك يا صالح.. أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ وظلوا يستنكرون ما هو حق وواجب, ويدهشون أن يدعوهم أخوهم صالح الى عبادة الله وحده. لم تكن لديهم حجج ولا براهين في الرد على صالح, سوى هذا التفكير وهذه الكلمات, فقط هم غاضبون ومندهشون لأن الآلهة التي يريد أن يبعدهم عنها صالح كان آباؤهم وأجدادهم يعبدونها!! حطم صالح عليه السلام جدار الجهل الذي يستظلون به وحطم العادات المهلكة والتقاليد البالية التي سيطرت على عقولهم عن التفكير نهائيا فما ان أثار صالح عليه السلام حركة هذه العقول لتفكر, وتتدبر أمرا بّينا واضحا, ما ان فعل هذا حتى استشاط غضبهم, واختلطت الحيرة بالغضب واليأس والطيش, فصاروا لا يدركون ما يقولون, لأنهم أمام خيارين اما تتفتح عقولهم وتقبل ما يقوله صالح عليه السلام أو يتركوا هذه العقول تتحجر وتقف عند أفكار السابقين وخرافاتهم, وأوهام العادات والتقاليد المستقرّة في رؤوسهم حتى أنه تمكّنت لدرجة الجهل المطبق. وكانت دعوة صالح لهم واضحة وضوح الشمس, فهي دعوة التوحيد في صميمها, وهي اعلان مباشر بحرية العقل وحرية التفكير وحرية الاختيار فهذه الحجج بين أيديهم الله واحد, خالق كل شيء, لا شريك له وهو النافع وهو الرازق وهو الرحيم_ أمام حجر لا ينفع ولا يضر من صنع من يعبدونه, وهو من خلق الله سبحانه عز وجلّ. وقد ساق صالح عليه السلام حججا يعيشونها فقال لهم:{ اعبدوا الله ما لكم من اله غيره}. ثم ذكرهم بالنعم فقال: { واذكروا اذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا}. وذكّرهم بنعم الله فقال:{فاذكروا ءالاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}. أي انما جعلكم الله خلفاء من بعد قوم عاد لتعتبروا بما كان من أمرهم, وتعملوا بخلاف ما عملوا, وأباح لكم الأرض تبنون من سهولها قصورا, وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين أي متميّزين وحاذقين في صنعها واتقانها واحكامها, فقابلوا نعمة الله بالشكر والعمل الصالح, والعبادة له وحده لا شريك له, وايّاكم ومخالفته والعدول عن طاعته, فان عاقبة ذلك وخيمة. قصص الأنبياء لابن كثير 100-102. ولهذا وعظهم صالح بقوله:{ أتتركون في ما ههنا آمنين* في جنّات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم}. أي متراكم كثير حسن بهيّ ناضج. ولما عارضوه وقالوا: انك كنت فينا عاقلا وحكيما الى آخر هذه الحجج الضعيفة التي يردون هم عليها دون أن يشعرون, لما قالوا ذلك تلطف صالح في رده عليهم وألان لهم الجانب, فقال لهم:{ يا قوم أرأيتم ان كنت على بيّنة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله ان عصيته فما تزيدوني غير تخسير}. قال لهم: فما ظنكم ان كان الأمر كما أقول لكم وأدعوكم اليه؟ ماذا يكون عذركم عند الله؟ وماذا يخلصكم بين يديه وأنتم تطلبون مني أن أترك دعاءكم الى طاعته؟ وأنا لا يمكنني هذا لأنه واجب عليّ لو تركته لما قدر أحد منكم ولا من غيركم أن يجيرني منه ولا ينصرني, فأنا لا أزال أدعوكم الى الله وحده لا شريك له, حتى يحكم الله بيني وبينكم. المصدر السابق. ولكنهم بعد ذلك اتهموا صالح بأن له سحرا, أو أنه مسحور لا يدري ما يقول في دعائه لهم الى افراد العبادة لله وحده, وترك ما سواه من الأصنام والأنداد. ظلوا يقولون له هكذا ويعارضونه يمينا ويسارا وصالح عليه السلام يدعو ليل نهار, ويأتي بالحجج من هنا والأخرى من هناك, لعلهم يرجعون عما هم فيه. طلب منهم أن يستغفروا الله عسى الله أن يغفر لهم ذنوبهم, وطلب منهم أن يتوبوا اليه, ويقلعوا عما هم فيه ويقبلوا على عبادته, فان فعلوا ذلك, فانه عز وجل يقبل منهم ويتجاوز عنهم وقال لهم:{ انّ ربّي قريب مجيب}. ولكن كل هذا دون جدوى, وأحس صالح عليه السلام أن الأمر قد صعب تماما, وأن الأمور تسير الى الاتجاه الأسوأ فكلما دعا هؤلاء تمرّدوا وتملّصوا وجادلوا في أمر من أمور جاهليّتهم في جدال لا ينقطع ولا تنفع معه الحجة والوضوح لأن الطرف الآخر الذي هو شريك في هذا الحوار طمس الله على عقولهم, ولم يعودوا يتفكّرون في أمر أو يتدبّرون شيئا أبدا كان لا بد لهم من معجزة تعجزهم وتخرس ألسنتهم, تكون خارقة فلا تتحرّك ألسنتهم بجدل أبدا, وجاء الحل على لسانهم فقالوا لصالح عليه السلام: {فأت بآية ان كنت من الصادقين}. طلبوا منه أن يأتيهم بخارق يدلّ على صدق ما جاءهم به. يتبع |
2. الناقة المعجزة وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوما في ناديهم, فجاءهم رسول الله صالح فدعاهم الى الله, وذكّرهم وحذرهم ووعظهم وأمرهم, فقالوا له: ان أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة, وأشاروا الى صخرة هناك_ ان أنت أخرجت لنا منها ناقة_ من صفاتها كذا وكذا وذكروا أوصافا فأسموها ونعتوها وتفننوا فيها, وأن تكون عشراء طويلة.( قصص الأنبياء لابن كثير). فقال لهم صالح عليه السلام وهو يعرفهم ويعرف طباعهم: أرايتم ان أجبتكم الى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم, أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقون ما أرسلت به؟ كان شرط صالح عليه السلام واضحا لاجدال فيه, فهم يطلبون ناقة تخرج من صخرة أمامهم, عشراء طويلة, بكل الأوصاف التي طلبوها, وهذ الأمر في حدود تفكير البشر مستحيل, وقد طلبوه خصيصا لأنه مستحيل وظنوا أنهم بطلبهم المستحيل هذا يعجزون صالح. هكذا وصلت حدود البشر ولا حدود لهم تتجاوز هذا الأمر. أمّا صالح عليه السلام فقد استوثق منهم العهد ووضع الشرط وهو على يقين دائم بأن الله سبحانه عز وجل لن يخذله أبدا, ولم يتطرّق الى تفكيره أن ما يطلبونه مستحيل بل هو يسير على الله عز وجل فليطلب من ربه المعجزة اليسيرة على الله سبحانه, المستحيلة في ظنهم. وانتظر القوم, وجهزوا سخريتهم عندما يعجز صالح عن الاتيان بناقة تخرج من هذه الصخرة التي أشاروا اليها وهذا مستحيل في ظنّهم وعرفهم ويقينهم. اتجه صالح عليه السلام الى ربه, وقام الى مصلاه فصلى لله عز وجلّ ما قدّر له أن يصلي, واتجه في خشوع وايمان الى ربه بالدعاء, فطلب من ربه أن يجيبهم الى ما طلبوا, فكان منه الدعاء ومن الله الاستجابة. استجاب الله عز وجل فأمر سبحانه جلّ شأنه تلك الصخرة التي أشاروا اليها أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه والشروط التي وضعوها, أو على الصفة التي نعتوا. كانت الناقة آية ومعجزة من معجزات الله, لأن الآية هي المعجزة, ويقال أن الناقة كانت معجزة لأن صخرة في الجبل انشقت يوما وخرجت منها الناقة وخرج وراءها وليدها الصغير, وولدت من غير الطريق المعروف للولادة, ويقال أنها كانت معجزة لأنها تشرب المياه الموجودة في الآبار في يوم فلا تقترب بقية الحيوانات من المياه في هذا اليوم, وقيل انها كانت معجزة لأنها كانت تدر لبنا يكفي الناس جميعا في اليوم الذي تشرب فيه الماء فلا يبغي الناس منه شبعا. كانت هذه الناقة معجزة, ووصفها الله سبحانه وتعالى بقوله:{ ناقة الله}. هود 64. لقد أضافها الله لنفسه سبحانه عز وجل بمعنى أنها ليست ناقة عادية وانما هي معجزة من الله. نعود الى صالح عليه السلام بعد أن بيّنا كيف كانت الناقة آية ومعجزة. انفطرت الصخرة عن الناقة, وظهرت لهم مع وليدها. فلما عاينوها كذلك رأوا أمرا عظيما, ومنظرا هائلا, وقدرة باهرة, ودليلا قاطعا, وبرهانا ساطعا فآمن كثير منهم, واستمرّ أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم. قال لهم صالح عليه السلام: { ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب}. وأصدر الله أمره الى صالح أن يأمر قومه بعدم المساس بالناقة أو ايذائها أو قتلها, أمرهم أن يتركوها تأكل من أرض الله, وألا يمسوها بسوء, وحذرهم أنهم اذا مدّوا أيديهم بالأذى للناقة فسوف يأخذهم عذاب قريب. وقد أدهشت الناقة قوم ثمود في البداية, فقد كانت ناقة مباركة.. كان لبنها يكفي آلاف الرجال والنساء والأطفال, وكانت اذا نامت في موضع هجرته كل الحيوانات الأخرى, كان واضحا أنها ليست مجرّد ناقة عاديّة, وانما هي آية من آيات الله. وعاشت الناقة بينهم, فآمن منهم من آمن وبقي أغلبهم على الكفر والعناد. وكان رئيس الذين آمنوا رجل يقال له: جندع بن عمرو بن محلاة وكان من رؤسائهم وأشرافهم. قصص الأنبياء لابن كثير. وهمّ بقيّة الأشراف بالدخول في دين صالح الا أن رجلا يقال له ذؤاب بن عمر ورجل آخر اسمه الحباب كان صاحب أصنامهم نهياهم عن ذلك. ولما حذرهم صالح عليه السلام من أن هذه ناقة الله فلا يمسوها بسوء أبدا, تحسّروا على أن تبقى بين أظهرهم, ترعى حيث شاءت من أرضهم وترد الماء يوما بعد يوم, وكانت اذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك, فكانوا يرفعون حاجتهم من الماء في يومهم المخصص لهم ليشربوها في اليوم التالي يوم الناقة, ويقال أنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتهم, ولهذا قال:{ لها شرب ولكم شرب يوم معلوم}. وكانت الناقة فتنة لهم واختبارا عظيما لايمانهم ليرى ايؤمنون بها أم يكفرون؟ والله أعلم بما يفعلون. وقد قال الله عز وجل لصالح:{ فارتقبهم} أي انتظر ما يكون من أمرهم { واصطبر} على أذاهم فسيأتيك الخبر على جليّة. وقال له عز وجل: { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر}. ورغم أنه كان واضحا أنهاليست مجرد ناقة عادية, وانما هي آية ومعجزة من معجزات الله, رغم ذلك تحوّلت الكراهية عن سيدنا صالح الى الناقة المباركة!! تركزت عليها الكراهية, وبدأت المؤامرة تنسج خيوطها ضد الناقة.. كره الكافرون هذه الناقة العظيمة, وهذه الآية المعجزة, كرهوا ناقة الله وآية الله العظيمة, ودبّروا في أنفسهم أمرا. وقد كان طبيعيّا أن يجيء التدبير السيء من رؤساء القوم. وقد ذكر المؤرخون وعلماء التفسير(الطبري في تاريخه): أن امرأتين من ثمود اسم احداها "صدوقة" ابنة المحيا بن زهير المختار, وكانت ذات حسب ومال, وكانت تحت رجل مسلم آمن بصالح ففارقته وتركته, فدعت ابن عم لها يقال له "مصرع" بن مهرج بن المحيا, وعرضت عليه نفسها ان هو عقر الناقة, واسم الأخرى "عنيزة" بنت غنيم بن مجلز, وتكنّى أم غنمة أو أم عثمان وكانت عجوزا كافرة لها بنات من زوجها ذؤاب بن عمرو أحد الرؤساء فعرضت بناتها الأربع على قدار بن سالف, ان هو عقر الناقة فله أي بناتها شاء, أي واحدة منهن يرغبها. فابتدر وانتدب هذان الشابان لعقرها وسعيا في قومهم بذلك, فاستجاب لهما سبعة آخرون فصاروا تسعة. وهم المذكورون في قوله تعالى: { وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون}. وسعوا في بقيّة القبيلة قبيلة ثمود وحسّنوا لهم قتل الناقة وكان لهم مجلس كبير. فلما سقط الليل على مدينة ثمود. وانتصبت الجبال شامخة تحتضن البيوت المنحوتة فيها, وبدا واضحا للكافرين أن أحدا لا يمكن أن ينالهم بسوء. وفي داخل أحد القصور أضيئت المشاعل, وجلس الكفار وقد دارت عليهم كؤوس الشراب وهم شبه دائرة. كل رؤساء القوم حضروا هذه الجلسة الخطيرة. انعقدت الجلسة ودار بينهم حوار طويل. قال أحد الكافرين:{ أبشرا منّا واحدا نتبعه انا اذا لفي ضلال وسعر} القمر 24. وقال آخر:{ أءلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر}. القمر 25. وعادت الكؤوس تدور وانتقل الحوار من صالح الى ناقة الله. قال أحد الكافرين: اذا جاء الصيف جاءت الناقة الى ظل الوادي البارد فتهرب منه المواشي الى الحر. وقال كافر آخر: واذا جاء الشتاء بحثت الناقة عن أدفأ مكان واستراحت فيه فتهرب مواشينا الى البرد وتتعرض للمرض. وأصبح الجميع في سكر كامل وكؤوس الشراب تدور وهي تهتز في أيدي الشاربين, وأمر أحد الجالسين أن تكف المغنية عن الغناء حتى يستطيع أن يفكّر.. وصمت الجميع. ثم قطع هذا الرجل السكّير صمت الحاضرين بقوله: ليس هناك غير حل واحد. قالوا وما هو؟ قال: نقتل الناقة, ثم بعدها نقتل صالحا. وبدأ الحاضرون في الحديث عن صالح بقول السوء فقال أحدهم: كم نتشاءم منه ونتطيّر, ومن ناقته ومن كل الذين أمنوا معه. انه حل واحد نقتل الناقة, ثم نثني عليه, طرح اسم القاتل, انه رجل جبار من جبابرة المدينة, رجل يعبث في الأرض فسادا ولا يكف عن شرب الخمر والويل لمن يعترضه وهو مخمور, وله أعوان يساعدونه على القتل. ويستطيعون أن يكونوا أداة للجريمة ويختاروا مكان التنفيذ بأنفسهم. 3. ليلة المأساة وجاءت ليلة الغدر, كانت الناقة المباركة تنام وهي تضم لصدرها طفلها الصغير الذي استدفأ بها, واستعدّ المجرمون التسعة لجريمتهم وعلى رأسهم قدار بن سالف. لعنه الله, وخرجوا من جوف الظلام وفي نفوسهم الخيانة, وكان زعيمهم قدار بن سالف قد شرب كثيرا من الخمر, حتى لم يعد يرى ما أمامه وهجم الرجال التسعة على الناقة فنهضت واقفة ونهض طفلها فزعا, وامتدت الأيدي القاتلة اليها للقضاء عليها, وكان أوّل من سطا على الناقة هو قدار بن سالف, فعرقبها أي ضربها في عرقوبها فسقطت على الأرض, ثم ابتدروها بأسيافهم يقطعونها فلما رأى ذلك طفلها, شرد عنهم فعلا الى الجبل هناك ورغا ثلاث مرات. ولما علم صالح عليه السلام بما حدث خرج غاضبا على قومه, وقال لهم: ألم أحذركم أن تمسوا الناقة. قالوا: قتلناها فائتنا بالعذاب واستعجله لنا ألم تقل لنا أنك من المرسلين؟ فقال لهم صالح عليه السلام:{ تمتعوا في دياركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} هود 65, أي غير يومهم ذلك. فلم يصدقوه أيضا في هذا الوعد الأكيد, بل انهم لما أمسوا هموا بقتله وأرادوا, فيما يزعمون أن يلحقوه بالناقة, فأقسموا أن يهجموا عليه في داره فيقتلوه ولكن الله حمى نبيّه صالحا عليه السلام منه ونجاه. وقال الله عز وجل:{ قالوا تقاسموا بالله لنبيّتنّه وأهله ثم لنقولنّ لوليه ما شهدنا مهلك أهله وانّا لصادقون}. النمل 49. وأصبحت ثمود اليوم الأوّل من أيّام النظرة الثلاثة _ التي أنظرهم بها صالح_ ووجوههم مصفرّة, فلما أمسوا قالوا: ألا قد مضى يوم من الأجل ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيّام التأجيل, ووجوههم محمرّة وفي الثالث من أيّام المتاع اسودّت وجوههم. فلما أمسوا قالوا: ألا قد مضى الأجل. وليس هناك شيء من العذاب. وفي فجر اليوم الرابع انشقت السماء عن صيحة جبارة, انقضّت الصيحة على الجبال فهلك فيها كل شيء حي, وارتجفت الأرض رجفة جبّارة فهلك فوقها كل شيء. هلكوا جميعا في صرخة واحدة, أما الذين آمنوا بسيّدنا صالح فكانوا قد غادروا المكان مع النبي صالح عليه السلام ونجّاهم الله. بسم الله الرحمن الرحيم اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ صدق الله العظيم |
معجزة سليمان عليه السلام
سليمان علية السلام معجزات عن الجن والنملة والعرش قال تعالى: {ولسليمان الرياح غدوّها شهر ورواحها شهر وأرسلنا له عين القطر, ومن الجن من يعمل بين يديه باذن ربه, ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير} سبأ 12. 1. الجن خرج سليمان عليه السلام كعادته الى بيت المقدس, وكانت العاصفة شديدة, وبقي هناك في محرابه, يعبد الله حتى انتصف الليل, فلما همّ للعودة, تجلى له نور الله عز وجل, وشعر كأن روحه تهيم في تلك الأشعة النورانية, فانطلق لسانه وتحرّكت شفتاه فقال:{ وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي انك أنت الوهاب} ص 35. شعر سليمان عليه السلام كأنه في حلم لم يستيقظ منه الا في الصباح فعاد الى قصره وجلس على عرشه يفكر فيما رآه من محرابه, وفيما دعا به ربه. فسمع هاتفا يهتف به ويقول له: لقد استجاب الله دعاءك, وسخر لك في ملكه ما لم يسخره لغيرك. سخر الله سبحانه عز وجل الرياح لسليمان تجري بأمره حيث يشاء فتسقط الأمطار, وتسوق السفن. وسخر له الجن والشياطين, يعملون له ما يريد من بناء المساكن والقصور, واصلاح الأرض للزراعة, وحفر الآبار لريّها. وأخضع الله سبحانه وتعالى لسليمان الطير والحيوان, فكان هؤلاء وهؤلاء من رعاياه المخلصين. وكان سليمان عليه السلام عبدا شكورا, يحمد الله وكان من عباد الله المخلصين. فقال عليه السلام: رب, بما أنعمت عليّ وعلى والديّ, سأهب نفسي لطاعتك والجهاد في سبيلك, فوفقني الى طريقك المستقيم. سأحارب الفقر الذي يذل عبادك المخلصين. سأعلن الحرب على الظلم الذي فتن عبيدك الأولين. سأجاهد ما حييت المشركين بك, الخارجين عن طاعتك. عند ذلك سمع الملائكة تقول آمين. فسجد لله القوي العزيز. وحرص سليمان عليه السلام أن لا يفتنه الشيطان بالملك الواسع الذي وهبه الله له والقوى الخارقة التي لم يهبها الله لأحد من قبله ولا لأحد من بعده. سخر سليمان عليه السلام كل هذه النعم التي أنعم الله بها عليه للاصلاح والتعمير, فخرجت السفن تدفعها ريح سليمان, وعادت تحمل المتاجر من البلاد النائية والجزية من ملوك الأرض والأقطار الواسعة, وقامت شياطين الجن بحفر الآبار وبنائها في الصحراء, واصلاح الأراضي المحيطة بها, وقطع الأحجار من الجبال, وبناء المدن والأمصار بشوارعها الممهدة, وميادينها الفسيحة, وجعلت في وسط كل ميدان قدرا كبيرا من الحجر المنحوت, يشبه وعاء الطعام, ولكنه عظيم الاتساع, وتأتي السحب بعد ذلك فتملؤه بمياه الأمطار, فاذا هي كبيرة عظيمة الاتساع, تكسب الميادين بهجة وجمالا فاذا أخذت المدينة زخرفها وازينت أقبل الناس على سكناها وبذر البذور في الوادي المحيط بها, وريّها بمياه الأمطار والآبار فتخضرّ الأرض, ويعم الخير, ويعيش الناس في رخاء يعبدون الله الواهب الرزاق. وكثرت عمارة المدن, وزراعة الصحارى, وعاش بنو اسرائيل في نعيم ما رأوا مثيله في غابر الأيام والأزمان. وكان قصر سليمان قصرا رائعا, بل يعدّ من أروع ما تمّ تشييده في هذا الوقت, فأحجاره من الرخام المرمر, وجدرانه وسقفه مموّهة بالذهب الخالص, وبالقرب من مساكن الجند وحظائر الخيل, وتحت القصر خزائن الملك في جوف الأرض, يهبطون اليها في سراديب ممتدّة بين قاعاتها, وفي نهايتها أبواب ضخمة, وقف على كل منها ماردان من عفاريت الجان. ومن المعجزات التي أنعم الله بها على سليمان, أن الشياطين كانت تخرج كل يوم الى الجبال: بعضهم ينبشونها ويستخرجون دفائنها من الذهب والماس, وآخرون يغوصون في البحار يصيدون حبّات اللؤلؤ الثمينة, ويعود هؤلاء وهؤلاء في المساء, فيضعون ما جمعوا في خزائن سليمان, ثم يغلقون أبواب الخزائن كلها, ويخرجون من سراديبها الى بهو القصر العظيم, فتغلق البوابة الكبرى, ويقف لحراستها ماردان من أشراف الجان, لا تغمض لهما عين. كانوا يخرجون في كل يوم ويعودون, حتى امتلأت خزائن الأرض بالمعادن النفيسة, والأحجار الكريمة التي لا يجرؤ على الدنو منها والاقتراب منها انس ولا جان. وكان سليمان عليه السلام يعاقب من يخالفه من الشياطين عقابا صارما, فيحبسه في قارورة من زجاج فلا يستطيع الفرار منها طول حياته, وفي يوم جيء له بأحد الشياطين مقيدا بالأغلال, فلما سأل عن ذنبه قيل له: انه قد أضاع لؤلؤة كبيرة خرج بها من البحر, ولم يودعها خزائن الملك. قال سليمان: أين خبأتها أيها العفريت؟ قال الشيطان: لقد غصت مع الغائصين, وخرجت بلؤلؤة في حجم رأس الانسان, ما رأى أحد مثلها في جمالها, وروعة بريقها, وظننت أنني بهذه اللؤلؤة سأحظى برضاك عني طول حياتي, ولكنني عند العودة فوجئت بمارد جبّار قد انقض علي من السماء, وخطفها مني ثم انطلق في الجو نحو الجنوب, واختفى بين طيّات السحاب, فما استطعت اللحاق به. قال سليمان: اذا كان حقا ما تقول فاني سأعرض الجن عليك لتخرجه من بينهم. قال الشيطان: لو كان هذا الجني من مملكتك لما استطاع أن يفرّ مني, ولكنه جنيّ من نوع آخر يعيش في مملكة أخرى. عندئذ أمر سليمان عليه السلام بسجنه حتى يرى مبلغ صدقه, ودعا وزيره "آصف" وكان وزيرا حكيما, وعالما, فرآى الوزير أن الجني صادق فيما يقوله, فقال لسليمان: يا نبي الله؛ ان الشياطين لا تهتم بجمع اللآلىء بنفسها, ولا بد أنها مسخرة لملك من الانس, ولقد ساق الله اليك هذا الحادث ليذكرك بما أخذته على نفسك وهو الجهاد في سبيل الله بما وهب لك من القرى, فشغلك جمع النفائس عن الوفاء بوعدك, وأرى أن تجدّ في البحث وراء هذا المارد حتى تهتدي الى الملك الذي أرسله وربما وجدته من المجوس الذين يتخذون لهم أربابا من دون الله عز وجل. أمر سليمان باطلاق سراح الجني الذي صاد اللؤلؤة, ومكث بعد ذلك ساعة مطرقا يفكر في كلام وزيره, ثم ذهب الى محرابه في بيت المقدس حتى منتصف الليل, وفي الصباح أمر أن يتهيأ الجيش للزحف نحو الجنوب. يتبع |
الساعة الآن 12:59 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |