![]() |
- الشمعات على اليمين... على اليمين هنا... لا ربما هنا... كل شيء على اليمين، إذا أردتم
أن تستضيئوا فعلى اليمين... دائمًا اليمين... آه هي ذي. لقد جاد بها اليمين أخيرًا. كان زيدان يتمتم، وهو يلتصق بالجدار الترابي، ويتلمس بيديه بحثًا عن الشموع، والتراب يتفّتت بين أصابعه، بينما تجمَّد الأوروبيون في أماكنهم، وبعضهم يسائل نفسه، هل يمكن قطع خطوة واحدة في مثل هذه الظلمة وفي هذا الجحر الذي لا يعرف أحد شيئًا عنه! أشعل زيدان الشمعة، وراح يرفعها بيده وينحني مط ً لا برأسه متأم ً لا ما حوله... الكهف مستطيل ومجوَّف في الوسط... لعل له تفرعاتِ ومسالك جانبية... من هنا أكياس الدقيق والتمر، وصناديق التين، ومن هنا بعض أسلحة وذخائر وألبسة وأدوية، وهناك بعض أغطية وأبسطة. ثم راح يتقدم الخمسة، ويتشمم رائحة الرطوبة ويعلن عنها في شبه احتجاج، ليتبعه الأوروبيون، متسائلين بدورهم عمّا إذا كان للكهف متنفَّس. فأجابهم بأنه لا بد أن يكون له عدة متنفَّسات، وإلا فإن الحياة تستحيل فيه... عندما بلغوا الأبسط والأغطية الصوفية، راحوا يستلقون الواحد إثر الآخر، متَّكئين في وضع يجعلهم ينظرون إلى وجوه بعضهم. وبعد أن سوّى زيدان الشمعة، فوق صندوق تين سحبه إليه، أشعل شمعة ثانية وهمَّ أن يستلقي مثلهم، غير أن القبطان الأسباني بادره: - لماذا كل هذا الضوء؟ هل نحن في عيد ميلاد... دعنا نهدأ... سارع زيدان إلى إطفاء الشمعة الثانية، ثم استلقى بدوره، واضعًا رأسه على راحته وظل يحدق في الشمعة... إنها لا تتحرك... إنها لا تتمايل، ليس هناك هواء يدفعها لا إلى اليمين ولا إلى اليسار... حين لا تكون هناك حركة، يكون الموت... وهي تموت في بطء بطيء... كانت تموت حتى لو كانت هناك حركة هواء... إن دور الشمعة هو الموت... الفناء بالذوبان... دور الشمعة هو الإضاءة... الإضاءة... والموت... يا لها من مضحِّية مثالية. بعد لحظات طويلة من صمت لذيذ، لا تلعب فيه غير الشمعة أو الخواطر دورًا تململ زيدان، ثم اخرج من جيبه قارورة الكونياك. حدق فيها قلي ً لا. ما تزال فوق النصف. الثلثان تقريبًا... ستنعشنا لا محالة. فتحها وتناول جرعة. وأحالها دون تعليق إلى القبطان الأسباني. حدَّق فيها بدوره ثم جرع منها ومرّرها لمن حوله. ظلت القارورة تطوف في صمت ووقار إلى أن عادت إلى زيدان. رمقها. تحت النصف بقليل. ثم وضعها أمامه في لطف. من جديد ساد السكون وانطلق كل واحد يسرح بفكره في المسألة... كان الفرنسيون الأربعة، يحاولون الإجابة عن سؤال طرحه احدهم بالأمس: بعد كل هذا، هل يمكننا كشيوعيين، أن نغير موقفنا من هذه الحركة، ونتخذ منها موقفًا عدائيًا؟ منْ مّنا لا يدرك مصلحته، هي أم نحن؟ أما الأسباني فقد أعاد موضوعًا قديمًا، طرحه على نفسه منذ سنوات: هل بكى بصدقِ ارنست همنغواي هزيمة الشعب الأسباني في لمن تقرع الأجراس؟. وهل كان يمثل كل تقدميّي العالم أم لا يمثل إلا تقدميّي أمريكا؟... لقد عبث كثيرًا "ببابلو" كرمز للقيادة الشعبية. وظل زيدان يباعد بين فكرتين تتراحمان على ذهنه في الآن الواحد، محاو ً لا التفكير في اللاز ابنه. كانت الفكرة الأولى هي ذلك السيل من الصوَر الشعرية التي تزاحمت في مخيلته قبل ليال قليلة عن السبخة، والملح، والبراعم والوليد، والزهور القانية... وكانت الفكرة الثانية والتي يعجب لماذا علقت بذهنه بكل هذه الشدة، هي تريز دي كيرو، بطلة رواية فرانسوا مورياك، وماذا تمثل؟ ماذا تمثلين يا تيريز دي كيرو، وماذا تريدين مني؟. لن أكون عدوًا لحرب وطنية مهما كان الأمر. قال أحد الفرنسيين في نفسه، وبعد مدة أضاف سؤا ً لا آخر: - وإذا ما أطلق سراحي وعدت إلى الحياة المدنية، هنا في الجزائر أو خارجها، ماذا سيكون موقفي يا ترى؟ مِن الشيخ وأمثاله، ومن حركتهم هذه؟. - الموقف المبدئي، يحتم مساندة هذه الحركة مهما كانت الظروف، ومهما كان الثمن. إلا أنه عند تصنيفها ينبغي القول إنها حركة تحريرية تحمل أفكارًا مسبقة ضد الشيوعية. قال الثاني في سره. وتساءل الثالث: - حين يكون الخنجر على بعد بضعة سنتمترات من عنقي ماذا يمكن أن يكون موقفي؟. وقال الرابع: - كأفراد نضطهَد، يمكن أن نغير موقفنا، ونتصرف كما تملي علينا الظروف، أما كشيوعيين كهيئة، أؤكد، فيمكن لنا أن ندين ونساند في نفس الوقت. ثم أضاف: - هل يظل عداء الاستعمار مستحكمًا في نفوس قادة من نوع الشيخ؟. هل من الجائز أن يدين همنغواي قيادة الجيش التقدمي ويتهمها بالبيروقراطية؟. تساءل القبطان الأسباني بدل أن يجد جوابًا للسؤال، هل لمن تقرع الأجراس بكاءُ تقدميٍّ صادق وهو يستعرض حوادث الرواية وجزئياتها، ثم أضاف: - لماذا صوّر روبيرتو وهو الأمريكي المتطوع متحمسًا حتى آخر لحظة، بينما أظهر معظم الأبطال الأسبانيين في مظهر اليأس وانهيار المعنويات؟ وخاطب زيدان ذاته: السبخة صورة رومنطقية لا محالة... ولكن ليس هناك أية صورة أخرى يمكن أن يشبَّه بها الوضع في الجزائر... لكن تيريز دي كيرو ما دخلها في هذه المسألة؟ لماذا عادت إلى ذهني بعد نسيان سبع عشرة سنة؟ إنها مجرد برجوازية طغى عليها فراغ مهول، توسوست وراحت تبحث عن نفسها... فرانسوا، لم يكن يعن أي شيء، وليس باستطاعته إطلاقا أن يهدف إلى شيء معين. لا. في وسعه أن يفرز ما يعتمل في نفس جيله من أسى وقلق واضطراب. يقين أنه كان يعاني مأساة جيله. آه. اللاز المسكين. ابني. ما سيكون مصيره؟ آمن بها بسرعة كالشعب، لأنها كانت منه... فيضًا منه... وانضمّ إليها بنفس السرعة... بل، لقد احتضنها، كما احتضنها الشعب... وها هو اليوم في خضمّها، في ذروتها... ربما يصدم قبل أن يشبع منها، أو على الأقل يتمرس فيها. حمو عمه. لو كان هنا لعرف كيف يتصرف. أما هو... آه، لن ينتبه إليه أحد بعدي. السبخة صورة صادقة. تيريز دي كيرو، مأساة على كل حال. اللاز والشعب، شيء واحد. ومد يده إلى القارورة، أغمض عينيه، ورضع منها جرعة كبيرة، ومرّرها إلى القبطان الذي فعل بها مثله، حتى عادت إليه. وعندما لاحظ أنها فرغت قذف بها بعيدًا فأحدثت هواء حرك ضوء الشمعة، ثم ارتطمت بصخرة في جانب الكهف وتحطمت محدث ً ة صوتًا جمي ً لا، تخيل الجميع أنها نغمة في موسيقى عسكرية. كانت جرعات الكونياك قليلة ولكنها مع ذلك استطاعت أن تحدث بعض التحول في نفوسهم. جاءت على ظمإ طال أمده، وفي ظرف حرج، وفي مكان لا يليق إلا للتأمل أو السكر، أو لتألم الجرحى... فكر زيدان فقاطعهُ الأسباني: - أو... لو كان هناك لفافة تبغ أسود. - غولواز أو جتان. علَّق أحد الفرنسيين، وتلمَّس الجميع جيوبهم دون جدوى... نهض زيدان وأشعل الشمعة الثانية. حملها وراح يبحث في زوايا الكهف وهو يفكر... لا يمكن أن يعدم في مثل هذا المكان. سيصل هنا بعنوان أو بآخر... لابد أن أحدهم يدخن... وعندما تقدَّم قليلا قابله ممر ضيَّق، أسرع إليه، وراح يتبعه في صمت. كان الممر في الأول ضيفًا، ثم راح يتسع شيئًا فشيئًا ويتخذ أشكا ً لا مختلفة، أحيانًا ينخفض وأحيانًا يرتفع، وكما يتلوّى يمينًا يتلوّى شما ً لا، أو يتواصل مستقيمًا. عثر زيدان أثناء سيره على أشياء مختلفة ومتنوعة، من ضمنها جمجمة آدمية، وأكوام من علب التبغ من جميع الأصناف... انحنى واختار منها عدة أنواع، ثم استقام، وف ّ كر، هل يواصل استكشافه أم يعود؟ وبعد لحظة من التأمل، قرَّر أن هذا النفق لا بد أن يكون يؤدي إلى منفذ ما. لربما إلى الوادي؟ لا شك أن المنفذ بعيد منّا، ولعلَّهم لم يضعوا عليه حراسة كبيرة. المؤكد أن هذا النفق يؤدي إلى الخارج، وإذا ما فكَّرنا في الفرار، فليس أمامنا سوى اتباع هذا الطريق. عاد مستبشرًا بعلب التبغ، وعندما رفع رأسه قابلته جذوع شجرة تتخللها ثقوب مغطاة بأعشاب جافة... من هنا ينفذ الهواء للكهف. أعدّت الطبيعة لنا كل شيء. قد يكون أجدادنا سكنوا هنا في العهد الحجري القديم. قد يكون يوغرطة أو الكاهنة، أو أي ثائر من الثوار، قد تخّفى أو ادَّخر مئونة جيشه هنا. - يا له... غولواز؟ - أو... جيتان؟ أو. بادر الجميع وهو يقذفهم بعلب التبغ، وسرعان ما انبعث الدخان، وبدأ ضوء الشمعة يتمايل ذات اليمين وذات اليسار. ولفترة طويلة ظلُّوا يدخنون في صمت، إلى أن قال زيدان: - من منكم قرأ تيريز دي كيرو؟ - قرأناها كلنا. ما بها؟ - كنت بدوري أفكر في رواية لمن تقرع الأجراس... تعرفونها كلكم؟ - وما بها أيضًا؟ - هذه القصة قرأتها منذ سبع عشرة سنة، ولم أبدًا في تحليلها سوى الآن. - إن تفاصيلها سرعان ما تزول من الأذهان، أما خاتمتها فإنها هي الوحيدة التي تبقى عالقة في الذهن... إنني من هنا، من هذا الكهف، من باطن الأرض، وعلى بعد آلاف الكيلومترات، أرى تيريز في أحد مقاهي باريس واجمة، ثم أراها في منعطف من المنعطفات، تشعل سيغارتها من عند شاب ظل يتبعها... قاطع أحدهم زيدان بينما علَّق آخر: - لمن تقرع الأجراستعَلق كلها بالذهن. إنها حقًا ثورية رائعة. - كنت أفكر فيما إذا لم يكن همنغواي قد ألقى ثق ً لا أكبر من تبعة الهزيمة على الشعب الأسباني وحلفائه التقدميين. قال القبطان، فاحتج أحد الفرنسيين: - لا. ذاك شأن همنغواي الفنان. إنه شمولي النظرة وواقعي إلى حد كبير. - لكنه ر ّ كز فقط على وحشية الإمبرياليين، ولم يبيِّن توازن القوى في ذلكم الوقت كما ينبغي، إلى درجة أنه راح يبحث عن المبررات في فوضى قيادة الجيش التقدمي، وانهيار معنويات المقاومين... تصوَّر معي جيدًا. رد القبطان منفع ً لا، فانبرى له زيدان: - لعّلك تبالغ في ظلمه، فقد أ ّ كد كما ينبغي على قوة الإمبريالية، وأعار اهتمامًا كبيرًا إلى تفوقهم بالطيران، وأعاد إلى بابلو عزيمته بعد أن انهارت، وانتقاده للضعف لا يمكن أن يعتبر إلا نقدًا ذاتيًا. - المسألة تحتاج إلى درس جديد موضوعي على كل حال، ويبدو لي أننا انبهرنا أكثر مما ينبغي بالرواية. أضاف القبطان، بينما راح آخر يتحدث عن "تيريز دي كيرو": - إنها تمثِّل انعدام الشخصية كما أرى. - لا. بالعكس. كنت أفكر في أنها تمثل جزءًا من تاريخ فرنسا بعد الكومونة. رد زيدان، فعلَّق الأسباني ضاحكًا: - آه. أتصوَّر مقصدك يا رفيق. لقد ذهب َ ت بعيدًا بعيدًا... لكن ينبغي أن لا نيأس إلى هذا الحد. فرنسا لن تخرج من هنا بسهولة، والحرب التحريرية على ما رأيت لن ُتهزم بسهولة أيضًا، وفي أثناء استمرار الحرب، قد تحدث تطورات لم تكن في حسبان أي أحّد... إن كثيرًا من الموجودين الآن لن يستمروا سنوات طويلة... وستتعاقب الأجيال والقيادات على مواصلة الحرب. هل تفهمني. ما كان يعوز تيريز دي كيرو، هو معرفة ماذا تريد... من البدء. أما جماهير الشعب هنا، فإنها تعرف، حتى بغريزتها، ماذا تريد... وستصل إليه طال الزمان أو قصر... لقد أضحت مسألة القيادات شكلية عندكم، على ما أرى. - تلك هي السبخة إذن... تمتم زيدان، فسأله الأسباني: - ماذا تقول؟ - لا شيء، يا رفيق سانتوز. وهل نعلن موقفنا كأفراد، أم كجماعة. كهيئة أعني. تساءل الفرنسي المزارع، فأطرق الجميع لحظات، ثم قال زيدان: لقد حُكم علينا أن نكون جماعة. نعم جماعة. وموقفنا يجب أن يكون موحدًا... أما كهيئة... كتنظيم على ما فهمت... فإنني لا أتصور شكله. - نؤسس قيادة جهوية استثنائية قال المزارع. فاحتج زيدان: - باسم أي حزب؟ الفرنسي؟ الجزائري؟ الأسباني؟ - إذن نشكل خلية. قال فرنسي، وأضاف آخر: - نتفق فرادى، ونكلف أحدنا بإعلان قرارنا، وهذا كل ما في الأمر. - حتى هذه فكرة. علق زيدان، ثم أطرق الجميع لحظات. وأخيرًا رفع القبطان الأسباني رأسه وقال في هدوء تام: - نشكَّل لجنة أممية، يمثل كل منا حزبه فيها، مهمتها درس الموقف وإعلان قرارها... نضع لها قانونًا أساسيًا مؤقتًا ونشير في بنده الأول، إلى أن مهمة اللجنة وقتية، تنتهي بالإعلان عن القرار... يا رفاق، إن الحزب الشيوعي الجزائري مستهدَف، ونحن مستهدفون من أجل عدم اتخاذ أي موقف منه من ناحية، ولكوننا شيوعيين من ناحية ثانية. هذه فرصة نتدارس فيها الوضع، ونعلن عن موقفنا نهائيًا... هل. موقف الحزب الشيوعي الجزائري مبدئي أم لا؟ هل نسانده أم لا؟ هل نخون مبدأنا أم نضحي بأنفسنا؟ هذه هي المسألة المطروحة على اللجنة. - موافق. قال زيدان، وتبعه الفرنسيون الأربعة بإعلان موافقتهم، وأضاف القبطان الأسباني: - أقترح الرفيق زيدان أمينًا عامًا لها. - موافقون. قال الفرنسيون، وفكَّر زيدان قبل أن يجيبهم كثيرًا. راح يتأملهم فردًا فردًا. هؤلاء الرفاق وضعوا مصيرهم بين يديّ، إنهم يعلمون أننا مهما درسنا، ومهما حّللنا، ومهما قرّرنا، ننحدر إلى مصير واحد محتوم. لقد بلغنا نهاية النهاية: الموت. فليس أمامنا أن نختار سوى الموت، الموت النضالي الحزبي، أو الموت الجسدي. هذا القبطان، لم يغرق مع باخرته، وقاومهما معًا، الموت، والعدو، وها هو بعد طوَفان طويل في العالم، جاء إلى هنا، ليضع مصيره بين يديّ. إنه لا يفكر في الموت تمامًا على ما يبدو، مثلي لا ينشغل إلا بنتائج موته. لعله يعتقد أنه مات منذ سنوات طويلة، يوم توقفت الثورة في أسبانيا وغادرها. يفكر في “ بابلو “ و “ روبيرتو”، وفي “ همنغواي” لعله ما زال يبحث عن أسباب الهزيمة، أسباب الموت. الموت. وهذا المزارع الفرنسي، يقين أنه يفكر الآن في نخيله، فهذا فصل التمر. لم أعرفه في السابق، يبدو من ملامح وجهه ومن نظراته، أنه شاعر يعيش في أعماقه سرًا... كيف استطاع أن ينتصر على نفسه وعلى المعمَّرين زملائه وجيرانه، وعلى الحكام الذين لا شك أنهم ضايقوه بشتى الوسائل، هو ذا بعد كل التحديات، يواجه النهاية. الموت. هذا الشاب الذي يمتص سيغارته بنهم، كتفاه تشيران إلى أنه عسكري، خصره أيضًا يدل على ذلك، أين تلقنها، في الجامعة، أم في الهند الصينية؟ يداه خشنتان، يقين أنه ش ّ غيل ولعله كان في سلاح المدفعية، الموت يلوح من عينيه، ومن حركات إصبعه، إنه يفكر، ترى كم مرة تعرض له. الموت. وجه هذا الكهل، ليس غريبًا عليَّ، قد أكون رأيته في مؤتمر من المؤتمرات، أصلع لا شعرة في رأسه، الحيوية تتدفق من عينيه، أكيد أنه نقابي، ستستريح بموته الاحتكارات الفرنسية ولا شك، لقد كلفني بهذه المهمة. الموت. لِمَ لم َنمُ ْ ت في الاشتباكات والمعارك التي خضناها، لماذا لم نستشهد. لماذا هذه النهاية؟. الموت. هذا النحيف المعروق الساهم، يبدو أكبر من سنه بكثير، قد يكون قضى نصف عمره في منجم من المناجم، الخيوط الزرق في جبهته تؤكد أنه فحام. يبدو أنه لا يفكر في شيء إِطلاقًا، رغم سهومه. لعله كان جرب الموت قبل اليوم، يقين أنه ذاقه أكثر من مرة. الموت. الموت. تتخلصون من المبدأ الذي دفعكم إلى الموت، أو تموتون هكذا. نهاية المطاف الموت.أنا أيضًا أموت، السبعة الذين تركتهم مع أمهم في القرية، لا يشغلونني كثيرًا، لقد خرجت من حياتهم منذ سنوات طويلة، حُكم عليهم قبل اليوم... اليوم ماذا يهمني إذن؟. الموت.؟ الموت دون تحقيق شيء يُذكر، سمكة َلَف َ ظها فيضان نهر فتخبطت، وتخبطت، واستسلمت... الشيوعي والشمعة لا دور لهما إلا الذوبان الانتهاء، والذوبان. هكذا. حظنا سيء يا اللاز. يوم وقعت في قبضة يدي، أُفصَل عنك. لن تتطور، ُ خلقت مادة خام، وستظل كذلك. لن يفهمك أحد بعدي يا اللاز، حتى أنت لن تفهم نفسك. التحق َ ت بها عفويًا، بل هي التي التحقت بك، أدركت الثورة و أدركتك. أدركتها عم ً لا، وأدركتك روحًا، ولما حان أوان اقتحامها لرأسك، لفكرك، ها هو الجسر يقطع بينك وبينها، ها هي النهاية تحل. الموت. أرسل زيدان زفرة قوية من أعماقه، وانتفض، انتظر أن يستفسره أحدهم عن رأيه، لكن دون جدوى، كانوا جميعهم مستغرقين. لعلَّهم يفكرون فيه. الموت. لنف ّ كر فيه بأصوات عالية إذن. الجلسة مفتوحة. أيها الرفاق. لنفكر بصوت مرتفع. وفي صباح الغد، أُخطر الشيخ بأن المساجين الستة، يطلبون الإعلان عن موقفهم. نظر إلى ساعته، وفكَّر أن هذه السرعة ليست إلا دلي ً لا عن قبول الانسلاخ، وان هذا أمر فيه شيء مما يسر .ّ.. طلب إحضارهم، وحالما وصلوا بادرهم مبتسمًا: - هاه. ماذا قرر تم؟ أنت يا زيدان، هل هداك الله؟ بيد أنهم رفضوا كلهم الإدلاء بأي تصريح، معلنين أن لديهم لائحة، وأنهم كّلفوا زيدان بقراءتها... * * * |
استقبل القبطان بعطوش عند الباب، مادًّا يده لمصافحته، رافضًا أن يقبل منه التحية العسكرية،
ثم قاده نحو مائدة الطعام قائ ً لا: - يجب أن تزول الكلفة بيننا من الآن فصاعدًا. أريد أن نكون صديقين حميمين. لو تدري كم أشعر بالسأم والضجر من قريتكم هذه. إنها كمجّلة أطفال سرعان ما يحفظها المرء، ويظل يحدق في الفراغ. في الحق هي جميلة، أهلها طيّبون، كرماء، بناتها جميلات جدًا، لكنها لا تليق في ظروف الحرب بالمرء. هذه الجبال المحيطة بها كالقدَر، تضغط على الإنسان، على قلبه، على أعصابه باستمرار. آه. على نخب صداقتنا. اشرب. مدّ بعطوش يده إلى الكأس، مقتصرًا على الابتسام، وعندما قدمها من شفتيه، راح يحدق فيها، وعاودته فكرة القنابل الأقراص... لو كانت في متناولي، لتجرعت منها، ولأبرزت صدري إلى الأمام هكذا، وظللت انتظر الانفجار. لاحظ الضابط تقطيبة حاجبيه. فراح يشجعه على الشراب: - تناول. تناول ليس لنا سواه في هذه القرية الساجدة للجبال. يجب أن تستريح حالما نتعشى، فأمامنا فجرَ الليلة عملية. جاءت التعليمات من القيادة العليا، لكل الوحدات، بشن هجوم شامل على كامل السلسلة الجبلية الشمالية. ستعززنا الطائرات، والمدفعية الثقيلة... يقين أن هناك قوافل أسلحة قادمة من الشرق. ستكون يا سارجان بعطوش ضمن هيئة أركاني، وسُتنسينا غدًا الانتصارات كآبة قريتكم هذه. - متى تقرر أن نخرج؟ - في الساعة الثانية، ترى أن علينا أن نستريح قلي ً لا. أشرب كأسك. قذف بعطوش، دفعة واحدة، الكأس الرابعة، وشعر ببعض التفتُّح، وراح يستعين بإشارات يديه لإفهام الضابط بعض ما يريد أن يقول، وتعوقه عنه المفردات الفرنسية التي يبذل جهدًا كبيرًا في التقاطها وتركيبها والنطق بها. ما إن فرغا من تناول الطعام حتى قاده الضابط إلى غرفة نومه، وهي كبيرة، في جانب منها خزانة حديدية، وسرير عريض، وبعض مقاعد، وفي جانب آخر، مكتب خشبي صغير، عليه مذياع وعدة كتب ومجلاَّت، وأريكة مستطيلة، ومائدة عليها عدّة قوارير وكؤوس. تساءل بعطوش في نفسه: - لماذا يقودني إلى هذا المكان؟ وحاول أن يتذكر ما كان يروَّج من أقاويل، حول علاقة الضابط باللاز، وقرَّر أن ذلك غير معقول، وإذا ما حدث فع ً لا فسيستفيد منه. الاتصال بالضابط إلى هذا الحدّ لا يتسنى لكل أحد، ولن يكون إلا خيرًا لي. بيد أنه لم يدرِ كيف خطر له أن قاعة مثل هذه يحتاج تفجيرها إلى عدّة ألغام كبيرة، توضع هناك في الوسط. وبسرعة، أبعد هذه الخاطرة عن ذهنه، وابتسم للضابط وهو يتناول من يده سيغارًا ضخمًا. - هاه. لقد جاءت القهوة، لا أستطيع أن أنام بدونها... هل تتصوَّر؟ وضع الجندي صينية القهوة وانصرف. وظلَّ بعطوش يدّقق النظر في الضابط... في حدود الأربعين... متوسط القامة... أبيض البشرة... نحيف الجسم... على عينيه الزرقاوين نظارات جميلة في إطار ذهبي.. ملامحه نسوية... في عنفه صليب ذهبي يتدلى من سلسلة رفيعة... أنامله جد قصيرة. كيف تسنى له أن يحصل على هذه الرتبة؟ - منذ جُرحت في الهند الصينية، تعوّدت شرب القهوة قبل النوم. آه، حان أن ننام. نهض بعطوش مفرقعًا عقبي حذائه محييًا لينصرف، وهو يشعر بثقل في رأسه وارتخاء، غير أن الضابط ابتسم ونهض قائ ً لا وهو يتجه إلى سريره في لهجة آمرة إلى حد كبير: - ستنام عندي. هنا. نعم هنا ليس هناك أية كلفة بيننا، يجب أن نتناول كؤوسًا أخرى من المهضَّمات. عندي ويسكي جيد. - لا... ك... كفاني. شكرًا سيدي الضابط. - هيا إذن ننم. انزع ثيابك. انحنى بعطوش يفك في تثاقل، رباط حذائه العسكري الخشن، وهو يتحرّج من رائحة قدميه النتنة، التي ستغمر القاعة. لم يدر كم استغرق ذلك من الوقت، إلا أنه عندما رفع بصره إلى السرير، قابله الضابط ممددًا مجردًا من كل ثيابه. شعر بالدوران. غمره الضباب من كل جانب. أجال بصره في القاعة، فلم يقابله سوى الضباب... سحب نفسًا طوي ً لا وشعر بالاختناق. آه. هذا الضباب الذي يلّفني من أين أتى؟ استقرَّت عيناه على السرير، ليس هناك سوى جثة ممددة بيضاء، ناصعة البياض، بضة، طرية. وتنهد: آه. خالتي. حيزية. خالتي يا ربي سيدي. ماذا تقول يا بعطوش؟ هل نزعت ثيابك؟ افعل مثلي وهيا بسرعة. كانت الجريدة تغطي عينيه، وكانت يده ممدودة إلى زر الإنارة تستعجل الإطفاء. لم يجبه بعطوش. لم يسمعه بالمرة. اقترب منه. تأمله هنيهة. وردّد أيضًا: خالتي حيزية. خالتي يا ربي سيدي. ثم هوى عليه بيدين مرتجفتين، وانهمك في خنق أنفاسه بكل ما أوتي من قوة. وبعد فترة، استلّ خنجره وراح يطعنه أينما صادف... ظل يطعن ويطعن، حتى انفتحت عيناه. لقد زال الضباب. زال كل أثر للضباب. أجال نظره في القاعة، وراح يحدَّق في الجثة ويتنفس من أعماقه. تراءت له بقرة خالته وهي تنهض وتسقط، ثم مريانة أُم اللاز وهي تسقط على وجهها دون أن تصرخ، ثم خالته حيزية، وهي عند رجليه هامدة... أخيرًا، ها هو القبطان بين يديه، مطعونًا عشرات الطعنات... تنهَّد مرة أخرى من أعماقه، ثم مرر يده على جبينه يمسح العرق البارد المتصبب منه، ثم سارع إلى ارتداء حذائه. قبل أن يخرج، قابلته في الخزانة رشاشة الضابط وعدَّة قنابل، تناولها وأطفأ النور، وتسلل إلى الخارج. كانت الحركة هامدة، فقد صدرت أوامر ملازمة قاعات النوم استعدادًا للرحلة الباكرة، فطفق يمشي في ظل الجدران، بخطوات حذرة، متجهًا نحو براميل البنزين. فكَّر، هل يفتح برمي ً لا ثم يرميه بعود ثقاب، أم يقذفها كلها بقنبلة، وإن اقتضى الأمر بأكثر، وليكن ما يكون؟ نعم. ليقذفها برمّتها بقنبلة. ليحدث الانفجار المهول. لتتعال ألسنة النار حتى تحوّل الليل نهارًا. ليصل اللهب إلى كل شيء ويأت عليه. نعم. فتح بأسنانه في غيظ قنبلة، وبملء قوّته قذف بها براميل البنزين... وحدث الدويّ. كان قويًا. قويًا عنيفًا، تمامًا مثلما كان يتصوّره في المساء... لم يدرِ ما إِذا أصيب هو أم نجا، وهل هو في قلب الدويّ أم خارج عنه إِنما شعر براحة كبرى. تتالت الانفجارات، الواحد إِثر الآخر، وارتفعت ألسنة النار إلى عنان السماء، وتسارع العساكر من هنا وهناك، يغادرون قاعات النوم مبهورين بالضوء الكبير، بعضهم يسقط من جرّاء الشظايا المتطايرة، وبعضهم يصرخ ويسارع إلى الاختفاء بكل ما صادفه. وجد بعطوش نفسه خلف دبابة يحاول فتحها ليقذفها بقنبلة. - اركب يا بعطوش اركب. أسرع. التفت ليجد الجندي المسخَّر الذي طلب منه قبل ذلك بساعة أن يستأذن في الخروج ويصطحبه معه، وحوله عدة جنود، يثبون داخل الدبابات، فلم يجد بدًا من مجاراتهم. وما أن وجد نفسه في الداخل حتى صاح فيه أحدهم. إلى الرشاش. إلى الرشاش. يجب أن نقضي عليهم كلهم. وفي الحين الذي بدأت فيه الدبابة تتحرَّك، متجهة نحو الباب، بدأت المدافع الرشاشة تقذف بحممها لتحصد كل من يتحرّك، وارتفعت الصيحات والصراخ أكثر. كان عدد الجنود ثمانية، وبعطوش التاسع. تفرّقوا على أربع دبابات... واحد يتوّلى السياقة، وآخر يتولى أمر الرشاش. وكأنما كانت الخطة مدروسة، فقد اتجهت دبابة إلى برج المراقبة الواقع على بعد عشرات الأمتار من الثكنة تحطمه وتقذفه بنارها، بينما اتجهت ثانية إلى مفترق الطرق الرئيسي وربضت هناك، في انتظار أية حركة، واتجهت ثالثة إلى مركز فرقة قومية، وهو عبارة عن مخزن قديم كان صاحبه يستعمله من صيف لآخر، كوكالة شراء الحبوب لثري من الأثرياء. أما الدبابة الرابعة، والتي كان يركبها بعطوش وآخران، فإنها تمركزت عند مدخل الثكنة الرئيسي، ليتذاوب بعطوش مع الرشاش مواص ً لا القذف في حقد وإصرار. كانت عملية احتلال مُحكمة، يستحيل القيام بها من الخارج، مهما كانت القوات المستعمَلة، ومع ذلك، فقد جزم السكان بأن فرقة كبيرة من المجاهدين اقتحمت القرية، ولا شك أنها بقيادة زيدان، لأن هذه الجرأة جرأته. ارتفعت الزغاريد من كل منزل، واشتعلت أنوار صومعة المسجد، التي أصبحت لا تنار إِلا من عيدٍ لعيد، وارتفع الأذان في غير وقته، وظلَّ يتردَّد وقتًا طوي ً لا، حتى بدأت المعركة تهدأ. تجمَّعت الدبابات في مدخل القرية الجنوبي بعد معركة صغيرة مع مركز المراقبة الذي خرج منه اللاز، قبل أربع ليالٍ بالكاد. كان المسبلان اللذان جاءا لاغتيال بعطوش، قد غادرا مخبأهما القريب من هناك، وتدّلفا إلى هيكل شاحنة قديم، وراحا يرقبان الدبابات متعجبين لأمرها، حتى غادرها أصحابها وانهمكوا في زرع الألغام في قلوبها. - أسرع قبل أن تأتي النجدات من المراكز المجاورة. قال بعطوش، فسأله أحدهم: - كيف يتسنى حمل كل هذه الأسلحة؟ - لماذا لا نهرب في إِحداها؟ قال آخر، وهو يشير إلى الدبابات. وضحك زملاؤه، وعلَّق أحدهم: - نهرب بها كلها أفضل يا مغفل. إذ ذاك برز أحد الفدائيين، وباغتهم: - هيا أسرعوا، حُييتم يا أبطال. فوجئ الجنود كلهم، خاصة بعطوش الذي اضطرب، وفكَّر في استعمال رشاشة، لولا أن أحد الجنود تقدَّم من المسبل هاتفًا: - أنت هنا. عرفت صوتك. - آه علاوة. - هبط َ ت من السماء، لا نعرف الطريق، ولا كيف ننقل الأسلحة والذخائر، صاحبُنا هو مخترع ومنفِّذ المشروع. قال، وأشار إلى بعطوش، ثم أضاف: - كل شيء انتهى. مائتان وتسعون عسكريًا. ثلاثون قوميًا، كل العربات، كل الدبابات، كل مراكز الرقابة... بدأها بعطوش باغتيال القبطان، وإشعال براميل البنزين، وأتممناها نحن. تأمل المسبل بعطوش، وأطال النظر إلى صدره وفكَّر... لو خرج هذا المساء من الثكنة لاستقرب رصاصة من مسدسي هناك. راهن ُ ت على قتلك برصاصة واحدة... ثم تقدَّم منه، وتناوله بين أحضانه، وغمره بالقبل، والدموع تنهمر من عينيه. ارتفعت جلبة من المنحدر، في أحد الأزقة، وشيئًا فشيئًا تجّلت البغال والدواب، يقودها احمزي والفدائي الثاني، وبسرعة، تم شحن الذخائر، وانطلق الموكب في البهمة، تاركًا خلفه تتالي الانفجارات في الدبابات الأربع، وتكهَّن السكان عن عدد الضحايا، وعن حجم الفرقة الجريئة التي اقتحمت الثكنة، وعن العملية، هل نجحت أم لا... رغم أن كل شيء، خاصة الصمت المطبق الذي أعقبها، يدلُّ على نجاحها مائة في المائة. * * * |
أخرج زيدان الورقة من جيبه، واعتدل ليقرأ، غير أن الشيخ رفض الاستماع إلى المقدمة
والحيثيات والاعتبارات، وحتى صيغة القرار، وطلب الاكتفاء بتوضيح موقف زيدان شخصيًا. - نطلب المحاكمة، كأعضاء في الثورة، ليس كأجانب عنها. - هذا أيضًا خطأ فادح ارتكبتموه يا زيدان. تعلم جيدًا أن الرسائل والعرائض الجماعية ممنوعة في الثورة منعًا باتًا. علَّق الشيخ، وهو يتأمل عنق زيدان الذي حاول أن يقول: - ينص البند الأول من القانون الأساسي للجنتنا على أن مهمتنا وقتية... ليس هناك أية جماعية. لقد أردتم ذلك، وإلا لماذا تقحموننا كلنا في بوتقة واحدة؟ لكن الشيخ تساءل غاضبًا: - لم تغيَّروا موقفكم إِذن؟ - الأحسن أن تستمتع للائحتنا. هاتها، وسأقرأها فيما بعد... أما الآن فعليَّ أن أُنفذ قرار القاهرة. إذا ما صحّ فهمي، فإنكم ما تزالون تصرّون على... - لم نأت بأسماء أحزابنا، ولكن لا نستطيع التخلي عنها، وبالتالي عن عقيدتنا. - إذن. رد الشيخ على زيدان، وأشار بحركة من رأسه إلى أفراد وحدة حراسته، فانبروا، يوثقون الستة، وسرعان ما حضر الذبّاح. - عندي طلب شخصي، أرجو أن تلبّوه. قال زيدان بصوت خافت، وبالعربية. فسأله الشيخ: - وما هو؟ - أن لا تحضروا اللاز للعملية، ولا تخبروه... اللاز ابني يا سي الشيخ، ولم يلتحق بالعمل المسّلح إِلا منذ خمسة أيام. - هذا هو كل طلبك. سندرسه على أية حال. قال الشيخ، ثم أمر بتنفيذ العملية أمامه. ُ طرح الفرنسي الأول، فظل يتساءل: هل يمكن اتخاذ موقف عدائي من هذه الحركة، إلا أنه قبل أن يقرَّر أن الشيخ وكل الشيوخ في القاهرة شيء، وان الحركة شيء آخر، كان السكِّين قد حزّ عنقه. طرح الفرنسي الثاني، فراح يقرر، أنه كان من واجب اللجنة أن تتخذ موقفًا تاكتيكيًا وأن تنافق حتى تجد مخرجًا. لقد اقترحت البارحة ذلك، فردّ عليّ القبطان الأسباني بأن التاكتيك لا يكون على حساب المبدأ. َق َ طع السكين عنقه، وتطاير دم غزير هنا وهناك، فارتفعت عقيرة القبطان الأسباني ليتبعه زيدان والاثنان الآخران: “ انهضوا معّذبي الأرض 7 هبّوا أيها المحكوم عليكم بالجوع فالح ّ ق يدمدم في فوهات براكينه أنها حمم النهاية...” وعند ترديد هذا المقطع تبادر إلى ذهن زيدان مقطع آخر فأغمض عينيه، وهو يتذكره: “ لا منقذ سام لا المولى لا القيصر أو إمام... “ - ماذا يفعلون؟ ماذا يفعلون؟ تساءل الشيخ في ثورة، ثم أمر بالإسراع. هوى الأسباني وهو يودُّ ترديد مقطع: “ إِنها المعركة الفاصلة الأخيرة... “ ولحقه الفرنسي المزارع، الذي رسم إِشارة الصليب، ثم بصق. ولحقه الرابع هاتفًا: - تسقط الإمبريالية. يسقط الاستعمار. تسقط الرجعية. وحلَّ دور زيدان. - أعطيك فرصة أخيرة يا زيدان. بعض كلمات تقولها، وهذا كل ما في الأمر. قالها بتأثر، وصوَر انتخابات 1947 تتراءى له، وفكَّر، إِنه جزائري، أخي على كل حال، ومهما كان الأمر. حدَّق فيه زيدان جيدًا، وقد غيَّر موقف الموت الدموي المرعب، لونه، وبسرعة، فكَّر في قائد الوحدة الثانية، الفنان السفاح الذي ذبح في ليلة واحدة سبعة أنفس، وفكَّر في سوزان، وفي موسكو، وفي الحرب العالمية الثانية، وفي انقلاب مصر وما أتى به، وفي اللاز، ومريانة، وحمو، وبعطوش الذي ظلَّ طيلة الفجر، يفكِّر فيه، ويتساءل عما إذا كان ممكنًا أن تكون هناك خيانة مطلقة، أو تردٍ نهائي. أخيرًا، تراءت له السبخة، والأملاح، والأعشاب، والبراعم، ثم الوليد الذي يلعق كل ذلك، وحاول أن ينطق: - ليس لي اتخاذ أي موقف شخصي في مسائل تعود إلى الحزب، يجب أن تعلم هذا عن الشيوعي يا الشيخ. لكن الكلمات هربت من بين شفتيه، ظلَّ يحدق في الفراغ، قبل أن يغمض عينيه، ويغيب عن كل ما حوله، ويسقط على وجهه. - ألحِقوه بالكّفار. دمدم الشيخ، ثم رفع يده صائحًا: - انتظروا. ف ّ كر هنيهة، ثم أمر: - هاتوا ابنه، يجب أن يتعوّد حمل الأعباء الكبيرة منذ الآن. إِن تجنَّد بإخلاص، فسيزيده هذا إِيمانًا وعزيمة. ظلّ اللاز لحظات يقف مشدوهًا لا يصدِّق عينيه، وعندما انفجرت الدماء من قفا أبيه، صاح في رعب: - ما يبقى في الوادي غير حجاره. ثم ارتخت كل عضلاته، ودارت به الأرض، ومدّ يديه يحاول التشبَث بشيء ما، ثم هوى. * * * |
الخاتمَة
- هات بطاقتك يا عمي الربيعي. أيقظ موظف مكتب المنح، القابع خلف الشباك، الربيعي من سهومه، فناوله بطاقته وقال في قلبه، وهو يتناول النقود: - في البدء، لم أكن أطيق النظر إلى هذا الشاب الخائن. لكن ها أنني أتعوَّده شيئًا فشيئًا. الدوام يثقب الرخام. وعندما بلغ الباب قابله اللاز، يقف في أبهة وتطاول، رغم ثيابه العسكرية الممزقة المتسخة، وهو يهتف: - ما يبقى في الوادي غير حجاره. يقولون إِنه ظلَّ طيلة السنوات التي قضاها لاجئًا مشرَّدًا يطوف من مركز عسكري لآخر، ومن خيمة لاجئ لأخرى، يهتف دون وعي: ما يبقى في الوادي غير حجاره... والناس يتساءلون عما يمكن أن يكون يعينه. تمتم الربيعي ثم سارع إليه، وانبرى كالعادة يسأله، وهو يقوده من يده نحو المقهى: - احكِ لي يا اللاز يا ابني كيف مات قدور ولدي. قيل إِنه مات في طريقه بك إلى الحدود. كيف استشهد يا اللاز يا ابني؟ هل كان يحدِّثك عن زينة؟ هل علم أنها رم ْ ت بنفسها في البئر حين حبلت من "قومي"؟ - ما يبقى في الوادي غير حجاره. - هل بلغه كيف ماتت أُمه؟ أُمك مريانة يا اللاز يا ابني ماتت أمام عيني، أنا دفنتها. - ما يبقى في الوادي غير حجاره. في المقهى انضم إِليهما حمو، وجلسوا جميعًا حول منضدة. - هل وجدت عم ً لا يا حمو؟ - بلغني أن سي بعطوش سيأتي من العاصمة هذا الأسبوع. قرّر أن يختن ابنه هنا، الاتكال عليه وعلى ربي. بينما واصل حمو حديثه، طأطأ الشيخ الربيعي رأسه... اشترى حياته، وأصبح قائدًا بعد زيدان مباشرة، ونجا طيلة الحرب... وها هو اليوم سي... الدوام يثقب الرخام... الله يرحمك يا قدور يا وليدي، الموت ينجي. وضع الشيخ الربيعي ورقة نقدية في يد حمو وأخرى في يد اللاز، وتساءل: أُمك استشهدت في بيتي يا اللاز، دفنتها بيديَّ هذه. فهل دفنت قدور؟ ما يبقى في الوادي غير حجاره. - إيه. إيه. عندما تستيقظ يا اللاز أروي لك كل التفاصيل، وستحدثني بدورك عن تفاصيل استشهاد قدور ابني. انك الآن أفضلنا جميعًا يا اللاز، لأنك لا تحسّ بشيء، لأنك ما تزال تعيش الثورة. بل لأنك الثورة. ما يبقى في الوادي غير حجاره. ما يبقى في الوادي غير حجاره. * * * تمت.. |
|
الساعة الآن 09:38 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |