منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   الدولة الأموية, عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=6759)

ميارى 15 - 5 - 2010 08:52 PM

[align=justify]رابعاً: وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد:
حاول بعض الإخباريين أن يوجدوا علاقة بين وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وبين بيعة يزيد بن معاوية فذكر البعض أن معاوية رضي الله عنه لما رأى مكانة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عند أهل الشام ـ بسبب مآثر عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه ـ خافه معاوية فأمر ابن أثال الطبيب النصراني فدس إليه السم[1]، في حين يرجح ابن الكلبي سبب القتل إلى أمر آخر وهو: أن معاوية لما أراد أن يولي الأمور رجلاً من بعده فماذا ترون؟ فقالوا عليك بعبد الرحمن بن خالد، وكان فاضلاً فسكت معاوية وأضمرها في نفسه ثم إن عبد الرحمن اشتكى، فدعا معاوية طبيبه بن اثال وأمره بدس السم إلى عبد الرحمن[2]. فهذه الروايات بالإضافة إلى ضعف سندها يوجد اختلاف في متنها مع الواقع الملموس فمعاوية رضي الله عنه بيده عزل الأمراء أو توليتهم كما هو معروف، وليس بالصعوبة على معاوية أن يطلب من عبد الرحمن بن خالد أن يتنحى عن قيادة الصوائف على الثغر الرومي، ويهمل عبد الرحمن بن خالد ثم لا يكون له أي مكانة يُخشى منها وقد ورد أن معاوية عزله وولى بدلاً منه سفيان بن عوف الغامدي[3]على إحدي الصوائف[4]، وليس هذا يشكل صعوبة على معاوية، بل إن معاوية كان يعزل عن الإمارة من هو أعظم وأقوى من عبد الرحمن بن خالد ثم كيف يقوم معاوية بقتله وقد أورد الطبري ذكر غزوة البحر سنة 48هـ وكان قائد أهل مصر عقبة بن عامر الجهني، وعلى أهل المدينة المنذر بن زهير، وعلى جميعهم خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد[5]، فكيف يرضى معاوية أن يكون ولده قائداً كبيراً من بعد أبيه هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كيف يرضى أن يقوم ولده بقيادة الجيش لمعاوية إن كان معاوية قاتل أبيه، وهل يمكن أن يخفى على ولده هذا الأمر وهو أقرب الناس إليه[6]؟ فهذه أكاذيب واضحة حاولت أن توجد علاقة بين موت عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والبيعة ليزيد، ومثلها مثل الأكاذيب التي حاولت أن تربط بين موت الحسن بن علي والبيعة ليزيد ـ كما مرّ ذكره.
إن خبر وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالسم أورده القاسم بن سلام، وابن حبيب البغدادي[7]، وذكر أن الدافع هو الخوف من منافسة عبد الرحمن ليزيد في ولاية العهد[8]، كذلك أورد الخبر البلاذري[9]، وأبو الفرج الأصفهاني[10]، وأبو هلال العسكري[11]، وخبر اتهام معاوية رضي الله عنه بحادثة سم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لم يرد بإسناد صحيح، بل هو من الأخبار المكذوبة على هذا الصحابي الكريم[12]وفي ذلك يقول ابن كثير: وقد ذكر بن جرير وغيره، أن رجلاً يقال له: ابن أثال ـ وكان رئيس الذمة بأرض حمص ـ سقاه شربة فيها سم فمات، وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك ولا يصح[13].
خامساً: أسباب ترشيح معاوية لأبنه يزيد:
1 ـ الحفاظ على وحدة الأمة:
نظر معاوية رضي الله عنه إلى ابنه يزيد على أنه المرشح الذي سيحظى بتأييد أهل الشام الذين يمثلون العامل الأقوى في استقرار الدولة وقد أبرز معاوية رضي الله عنه السبب الذي دعاه لاختيار ابنه يزيد وذلك أثناء جمع التأييد له من كبار أبناء الصحابة أثناء رحلته الأخيرة للحج إذا كان الدافع لمعاوية ـ رضي الله عنه ـ عندما سارع في أخذ البيعة ليزيد هو خوفه من الاختلاف[14]، الذي قد يطرأ على الأمة بعد موته، وربما تنخرط في قتال جديد لا يعلم سعته ومداه إلا الله عز وجل[15]. كان معاوية يرهب أن يدع أمة محمد صلى الله عليه وسلم كالضأن لا راعي لها[16]، ولذلك عمل على اختيار من يخلفه وكان الأولى بمعاوية رضي الله عنه أن يعين من أفاضل المجتمع الإسلامي رجالاً يجعلهم موضع شورى يختاروا من كان أهلاً للخلافة ويبتعد عن ترشيح ابنه يزيد، لأن اختيار يزيد لم يكن أماناً من الاختلاف والقتال وسفك الدماء ولقد وقع المحظور بعد وفاة معاوية، وسفكت الدماء ولم يزح اختيار معاوية يزيد ما تعلل به من المخاوف، ويبدو أنه وقع ما وقع بسبب شخصية يزيد، وإتباع الوراثة بديلاً من الشورى في اختيار الخليفة ولأسباب أخرى وعلى كل حال فمعاوية رضي الله عنه اجتهد ولم يكن مصيباً في تولية يزيد لولاية العهد، فقد كان بوسعه وقدراته السياسة الفائقة أن يطمئن في حياته على اجتماع كلمة المسلمين في أمر الخلافة من بعده باختيار واحد من قريش يشهد له الناس بحسن السيرة أكثر من يزيد ابنه ويجتمع عليه أعيان المجتمع الإسلامي في الشام والعراق وبلاد الحجاز وغيرها.
2 ـ قوة العصبية القبلية:
خاض معاوية رضي الله عنه الحرب وتولى الخلافة بنصرة من أهل الشام، وكانوا من أشد الناس طاعة لمعاوية رضي الله عنه ومحبة لبني أمية ومن الدلائل على تلك الطاعة والمحبة هو أن معاوية رضي الله عنه لما عرض خلافة يزيد بن معاوية على أهل الشام وافقوا موافقة جماعية ولم يتخلف منهم أحد، وبايعوا ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه[17]، ومن الدلائل على قوة العصبية في بلاد الشام لبني أمية أن مروان بن الحكم تمكن من الانتصار بأهل الشام على عمال عبد الله بن الزبير، ثم تبعه بعد ذلك ابنه عبد الملك بن مروان، حتى تمكن من الانتصار بأهل الشام على ابن الزبير وقتله73هـ رضي الله عنه، ومع ذلك لم نجد أهل الشام انقادوا لأبن الزبير، بل إن أهل العراق غدروا بأخيه مصعب ابن الزبير ومالوا مع عبد الملك بن مروان فلماذا لم تجتمع الأمة على ابن الزبير وهو في ذلك الحين لا يشاركه أحد في فضائله ومكانته؟ بل نجد العكس نجد أن عبد الملك بن مروان الذي يعتبر في السن كأحد أبناء عبد الله بن الزبير، تمكن من تولي زعامة المسلمين[18]، فعصبية أهل الشام كانت سبباً مهماً في تولية يزيد وليست عصبية بني أميه فإن أسرة بني أميه لم تكن ذات تأثير كبير على الأحداث في مجيء معاوية رضي الله عنه إلى منصب الخلافة وقد بنى ابن خلدون دفاعه عن صنيع معاوية في ولاية العهد أن المصلحة تقتفي ذلك حيث قال: والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه أنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد حينئذٍ من بني أميه، إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حريصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع، وأن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم كلهم من أجل ذلك[19]، وقال أيضاً: عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة، بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه[20]. أي إن قوة عصبية بني أمية وسطوتهم، ونفورهم من الانقياد لغيرهم، جعلت معاوية رضي الله عنه يختار مرشحاً من بني أمية، فكان ابنه يزيد خوفاً منه على الأمة من الفرقة والاختلاف[21]، ومما لا شك فيه لو جاء معاوية برجل من ذوي الكفاءة من قريش غير ابنه يزيد واستفتى ذوي الرأي والنهي بشأنه، ثم وقف وراءه بثقله الكامل وتأييده الصريح، وطلب من أهل الحل والعقد في الأمة مبايعته بولاية العهد، فهل كان يعترض أحد؟ طبعاً لا، ذلك لأن أمير المؤمنين هو الداعي، ولأن المرشح لولاية العهد رجل أريد بترشيحه، ومبايعة مصلحة الأمة والدولة مجردة من كل شبهة أو عاطفة ألا ترى معي أن ذلك كان ممكناً وأنه كان محققاً للغرض القائل بأن القصد من ولاية العهد هو سد أبواب الخلاف بين المسلمين، وتجنب الأمة أخطار التنازع والفتن من جديد؟ ولكن معاوية رضي الله عنه على كل حال اجتهد، فإن كان مصيباً فله أجران، وإن كان مخطئاً فله أجر[22].
[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 08:54 PM

3[align=justify]
ـ محبة معاوية لابنه وقناعته به:
قال ابن كثير: وقد كان معاوية لما صالح الحسن، عهد للحسن بالأمر من بعده، فلما مات الحسن قوي أمر يزيد عند معاوية ورأى أنه لذلك أهل، وذاك من شدة محبة الوالد لولده، ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك، ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأبهته، وكان ظن أن لا يقوم أحد من أبناء الصحابة في هذا المعنى[1]. وقال معاوية رضي الله عنه لعمرو بن حزم الأنصاري، الذي كان معارضاً للبيعة، فذكّر معاوية بالله، وطلب منه أن ينظر في عاقبة الأمور، فشكره معاوية وقال، إنك امرؤ ناصح. ثم أخذ معاوية يُبيّن له بصراحة أنه لم يبق إلا ابنه وأبنائهم وابنه أحق من أبنائهم[2]، وكانت ليزيد بعض الصفات التي شجعت معاوية على جعله ولياً للعهد قال الذهبي في ترجمة يزيد: كان قوياً شجاعاً، ذا رأي وحزم، وفطنة وفصاحة[3]، وقال ابن كثير: وكان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم، والحلم، والفصاحة، والشعر، والشجاعة، وحسن الرأي في الملك[4]، ربما كانت هذه الصفات دافعة لمعاوية وكافية له ليكون صالحاً للخلافة[5]، ولا شك أن الصحابة وأبنائهم أفضل من يزيد وأصلح ولكن مع ذلك فإن معاوية ربما رأى في ولده مقدرة لا تكن لغيره في قيادة الأمة، بسبب عيشته المتواصلة مع أبيه ومناصرة أهل الشام وولائهم الشديد له، ثم اطلاعه عن قرب على معطيات ومجريات السياسة في عصره وقد أنس معاوية رضي الله عنه من ولده يزيد حرصاً على العدل وتأسياً بالخلفاء الراشدين، فقد كان يسأله عن الكيفية التي سيسير بها في الأمة فيرد عليه يزيد بقوله: كنت والله يا أبت عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب[6]. وغير ذلك من الأسباب. فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحرب، الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف، وإن كان أميناً[7]. فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، وسئل الأمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزو، فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، يُغزى مع القوي الفاجر[8]. ومعظم المقصود من نصب الأئمة حياطة المسلمين، ودفع عدوهم، والأخذ على يد ظالمهم، وإنصاف مظلومهم، وتأمين سبلهم، وتفريق بيت مالهم فيهم، على ما أوجبه الشرع، فمن كان ناهضاً بهذه الأمور ونحوها فيه يحصل مقصود الإمامة، ويطيب عيشهم، ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم وحرمهم وإن كان غيره أكثر علماً منه، أو أوسع عبادة، أو أعظم ورعاً فإنه إذا كان غير ناهض بالقيام بهذه الأمور، فلا يعود على المسلمين من علمه أو ورعه وعبادته فائدة، ولا ينفعهم كونه مريداً للصلاح وإجراء الأمور مجاريها الشرعية مع عجزه عن ذلك وعدم قدرته على إنفاذه[9]. فقد كان معاوية رضي الله عنه يرى بولاية المفضول مع وجود الفاضل هذه أهم أسباب ترشيح معاوية رضي الله عنه لابنه.
سادساً: الانتقادات التي وجهت لمعاوية بشأن البيعة ليزيد:
لقد حمّل كثير من المؤرخين السابقين والمعاصرين معاوية رضي الله عنه مسئولية البيعة الكاملة، وبالتالي حملوه جميع الأخطاء التي يقع فيها الحكام من زمان معاوية حتى عصرنا الحاضر، فمنهم من اتهمه بالخروج على نظام الشورى في الإسلام فكان أول محطم لنظام الإسلام[10]. ومنهم من اتهم معاوية بأنه أقر النظام الذي يعتمد على السياسة أولاً وإلى الدين ثانياً[11]، والبعض شبه معاوية بالملوك الأقدمين من الفرس والروم[12]، والبعض يجعل معاوية بهذه البيعة هو رائد المدرسة ((المكيافيلية)) في السياسة القائمة على تسويغ الوسيلة من أجل الغاية[13]، والبعض حكم على معاوية بارتكابه كبيرة أضافها إلى كبائره السابقة[14]، والبعض أعتبر معاوية خارجاً على إجماع المسلمين بهذه البيعة[15]. ولمعرفة صحة هذه الاتهامات من عدمها يجدر بنا أن نعرف ماهية الشورى وكيفية تطبيقها، فالشورى دعامة من دعائم الحكم في الإسلام، وقاعدة صلبة من قواعده كما أن اختيار الحاكم في الإسلام وتولي أمر الأمة المسلمة لا تعطيه صفة مقدسة، أو سلطة مطلقة[16]، بل إنه مسئول عن كل عمل يقوم به وينفذ فيه ما ينفذ في شعبه وأما طريقة الشورى فلم يحدد لها نظام خاصاً، فتطبيقها إذن متروك للظروف والمقتضيات الجارية[17]، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير المسلمين فيما لم ينزل فيه وحي ويأخذ برأيهم فيما هم أعرف به من شئون دنياهم، وكذلك سار الخلفاء الراشدون في استشارة المسلمين وإليك استعراض موجز لكيفية انعقاد إمامة الخلفاء الراشدين:
1 ـ طريقة انعقاد بيعة أبي بكر رضي الله عنه:
قام أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة بيعة الصديق بيع خاصة ثم رشحوه للناس في اليوم الثاني وبايعته الأمة في المسجد البيعة العامة[18]، وقد أفرز ما دار في سقيفة بني ساعدة مجموعة من المبادئ منها: أن قيادة الأمة لا يقام إلا بالاختيار، وأن البيعة هي أصل من أصول الاختيار وشرعية القيادة، وأن الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب ديناً والأكفأ إدارة، فاختيار الخليفة يكون وفق مقومات إسلامية، وشخصية، وأخلاقية، وأن الخلافة لا تدخل ضمن مبدأ الوراثة النسبية أو القبلية، وإن إثارة ((قريش)) في سقيفة بني ساعدة باعتباره واقع يجب أخذه في الحسبان، ويجب اعتبار أي شيء مشابه ما لم يكن متعارضاً مع أصول الإسلام، وأن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النفسي السائد بين المسلمين حيث لا هرج ولا مرج، ولا تكذيب ولا مؤامرات ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم للنصوص التي تحكمهم حيث المرجعية في الحوار إلى النصوص الشرعية[19]
أ ـ وأول ما قرره اجتماع يوم السقيفة هو أن (نظام الحكم ودستور الدولة) يقرر بالشورى الحرة، تطبيقاً لمبدأ الشورى الذي نص عليه القرآن الكريم، ولذلك كان هذا المبدأ محل إجماع، وسند هذا الإجماع هو النصوص القرآنية التي فرضت الشورى، أي أن هذا الإجماع كشف وأكد أول أصل شرعي لنظام الحكم في السلام وهو الشورى الملزمة، وهذا أول مبدأ دستوري تقرر بالإجماع بعد وفاة رسولنا صلى الله عليه وسلم، ثم إن هذا الإجماع لم يكن إلا تأييداً وتطبيقاً لنصوص الكتاب والسنّة التي أوجبت الشورى.
ب ـ تقرر يوم السقيفة أيضاً أن اختيار رئيس الدولة أو الحكومة الإسلامية وتحديد سلطاته يجب أن يتم بالشورى، أي البيعة الحرة التي تمنحه تفويضاً ليتولى الولاية بالشروط والقيود التي يتضمنها عقد البيعة الاختيارية الحرة ـ الدستور في النظم المعاصرة ـ وكان هذا ثاني المبادئ الدستورية التي أقرها الإجماع، وكان قراراً إجماعياً كالقرار السابق.
جـ ـ تطبيقاً للمبدأين السابقين قرر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر ليكون الخليفة الأول للدولة الإسلامية[20]، ثم أن الترشيح لم يصح نهائياً إلا بعد أن تمت له البيعة العامة، أي موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد الرسول صلى اله عليه وسلم، ثم قبوله لها بالشروط التي ذكرها في خطابه[21]المشهور الذي جاء فيه: أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمّهم الله بالبلاء أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله[22]. وقال عمر لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة[23]، وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها وقد قرر الصديق فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم وركز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد[24].
2 ـ طريقة انعقاد بيعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
لما اشتد المرض بالصديق رضي الله عنه جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمّروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمّرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي[25]، وقد قام أبي بكر رضي الله عنه بعدة إجراءات لتتم عملية اختيار الخليفة القادم.
أ ـ استشارة أبي بكر كبار الصحابة:
تشاور الصحابة رضي الله عنهم وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبرنا به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عدتك. ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى الرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدته، فقد قال لأبي بكر: ما أنت قائل لرَبِّك إذا سألك استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفوني؟ خاب من تزوَّد من أمركم بظلم أقول اللهم استخلفت عليهم خير أهلك[26] وبين لمن نبهه إلى غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه[27].
ب ـ نص العهد الذي كتبه أبو بكر لكي يقرأ على الناس:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، يوقن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلف عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاستمعوا له وأطيعوا وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي، وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امريء ما اكتسب الخير أردت ولا أعلم الغيب ((وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)) (الشعراء ، الآية : 227).
جـ ـ إبلاغ الناس بنفسه:
إنه أراد إبلاغ الناس بلسانه واعياً مدركاً حتى لا يحصل أي لبس فأشرف أبو بكر على الناس وقال لهم: أترضون بما استخلف عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قربة، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا سمعنا وأطعنا[28].
ر ـ التوجه بالدعاء لله: أنه توجه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه، وهو يقول: اللهم وليته بغير أمر نبيك، ولم أرد بذلك إلا إصلاحهم وخفت عليهم الفتنة، واجتهدت لهم رأيي، فولَّيت عليهم خيرهم وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم فهم عبادك[29].
س ـ تكليف عثمان بقراءة العهد على الناس: كلف أبو بكر رضي الله عنه عثمان بن عفان أن يتولى قراءة العهد على الناس وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر بعد أن ختمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر، دون أي آثار سلبية، وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به[30].
ش ـ وصية الصديق لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما :
اختلى الصديق بالفاروق وأوصاه بمجموعة من التوصيات لإخلاء ذمته من أي شيء، حتى يمضي إلى ربه خالياً من أي تبعة بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده[31]، وقد جاء في الوصية: اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل غداً أن يكون خفيفاً، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه،فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف أن لا ألحق بهم وأن الله تعالى ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوأ أعمالهم، ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم، قلت: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء ليكون العبد راغباً راهباً، لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت وليس تعجزه[32].
ونلاحظ أن عمر رضي الله عنه وليَّ الخلافة باتفاق أصحاب الحل والعقد وإرادتهم فهم الذين فوضوا لأبي بكر انتخاب الخليفة، وجعلوه نائباً عنهم في ذلك، فشاور ثم عين الخليفة، ثم عرض هذا التعيين على الناس فأقروه وأمضوه، ووافقوا عليه، وأصحاب الحل والعقد في الأمة هم النواب (( الطبيعيون )) عن هذه الأمة، وإذن فلم يكن أستخلا ف عمر رضي الله عنه إلا على أصح أساليب الشورية وأعدلها[33] إن الخطوات التي سار عليها أبوبكرالصديق في اختيارخليفته من بعده لاتتجاوز الشورى بأي حال من الأحوال، وإن كانت الاجراءات المتبعة فيها غير الاجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه[34]. وهكذا تم عقد الخلافة لعمر رضي الله عنه بالشورى والاتفاق، ولم يرد التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحداً نهض طوال عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة[35] .




[/align]


ميارى 15 - 5 - 2010 08:56 PM

3[align=justify]
ـ طريقة انعقاد بيعة عثمان رضي الله عنه:
استطاع الفاروق رضي الله عنه في اللحظات الأخيرة وهو على فراش الموت، رغم ما يعانيه من آلام جراحاته البالغة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلاً ملموساً، ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية، لقد مضى قبله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف بعده أحداً بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة، ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر ملياً وقرر أن يسلك مسلكاً آخر يتناسب مع المقام، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الناس وكلهم مقر بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادراً، وخصوصاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الأمة قولاً وفعلاً إلى أن أبي بكر أولى بالأمر من بعده، والصديق لما رشح عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأقدر وأفضل من يحمل المسئولية بعده،فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم وحصل الاجماع على بيعة عمر[1]، وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد فتعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، فقد حصر ستة من صحابة رسول الله كلهم بدريون وكلهم توفي رسول الله عليه وسلم وهو عليهم راضٍ، وكلهم يصلحون لتولي الأمر ولو أنهم يتفاوتون وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته وعدد الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد[2]. وبهذا يكون أمير المؤمنون أرسى نظاماً صالحاً للشورى لم يسبقه إليه أحد ولا يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن والسنة القولية والفعلية، وقد عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ولم يكن عمر مبتدعاً بالنسبة للأصل، ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدد معين جعلها فيهم وهذا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصديق ـ رضي الله عنهم ـ بل أول من فعل ذلك عمر ونعم ما فعل، فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت[3].
وبهذا جعل أمير المؤمنين هيئة سياسيسة عليا وهم أهل الشورى وأناط بهم وحدهم اختيار الخليفة من بينهم، ومن المهم أن نشير إلى أن أحداً من أهل الشورى لم يعارض هذا القرار الذي اتخذه عمر، كما أن أحداً من الصحابة الآخرين لم يثر أي اعتراض عليه، ذلك ما تدل عليه النصوص التي بين أيدينا، فحن لا نعلم: إن اقتراحاً آخر صدر عن أحد من الناس في ذلك، أو أن معارضة ثارت حول أمر عمر خلال السَّاعات الأخيرة من حياته، أو بعد وفاته وإنما رضي الناس كافة هذا التدابير، ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين، وفي وسعنا أن نقول: إنَّ عمر قد أحدث هيئة سياسية عليا مهمَّتها انتخاب رئيس الدولة أو الخليفة، وهذا التنظيم الدستوري الجديد، الذي أبدعته عبقرية عمر لا يتعارض مع المباديء الأساسية التي أقرها الإسلام ولاسيما فيما يتعلق بالشورى، لأن العبرة من حيث النتيجة العامة التي تجري في المسجد الجامع. وعلى هذا لا يتوجّه السؤال الذي قد يرد على بعض الأذهان، وهو: من أعطى عمر هذا الحق؟ ما هو مستند عمر في التدبير؟ ويكفي أن نعلم أن جماعة من المسلمين قد أقرت هذا التدبير، ورضيت به ولم يُسمع صوت اعتراض عليه حتى نتأكَّد: أنَّ الاجماع ـ وهو مصدر من مصادر التشريع ـ قد انعقد على صحته ونفاذه[4]، ولا ننسى : أن عمر خليفة راشد، كما ينبغي أن نؤكِّد أن أهل الشورى أعلى هيئة سياسية قد أقرّه نظام الحكم في الإسلام في العهد الراشدي، كما: أنَّ الهيئة التي سمّاها عمر، تمتَّعت بمزايا لم يتمتع بها غيرها من جماعة المسلمين، وهذه المزايا منحت لها من الله وبلغها الرسول، فلا يمكن عند المؤمنين أن يبلغ أحد من المسلمين مبلغ هؤلاء العشرة من التقوى، والأمانة[5].
ومن الأمور المهمة حرص الفاروق على ابعاد الإمارة عن أقاربه، مع أن فيهم من هو أهل لها، فهو يبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة المرشحين للخلافة[6] وقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر مع أهل الشورى وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجل منهم، وثلاثة رجل منهم، فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له، فليختاروا رجل منهم، فإن لم يرضوا يحكم عبد الله بن عمر، فيكون مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فوصف عبدر الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد، له من الله حافظ فاسمعوا له[7]، وقد أشرف على العملية الانتخابية عبد الرحمن بن عوف وشاور الناس في أمر علي وعثمان رضي الله عنهما وكان يشاور كل من يلقاه في المدينة من كبار الصحابة، وأشرافهم، ومن أمراء الأجناد ومن يأتي للمدينة وشملت مشاوراته النساء في خدورهنَّ، وقد أبدين رأيهنّ، كما شملت الصَّبيان، والعبيد في المدينة وكانت نتيجة مشاورات عبد الرحمن بن عوف: أن معظم المسلمين كانوا يشيرون بعثمان بن عفان، ومنهم من كان يشير بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما... ثم بعد ذلك أعلن عبد الرحمن بعد صلاة الصبح من اليوم الأخير من شهر ذي الحجة 23 النتيجة التي وصل إليها فبعد أن تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد: يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل على نفسك سبيلا ثم بايع عثمان على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده. فبايعه الناس: المهاجرون ، والأنصار، ,امراء الأجناد والمسلمون[8]، وجاء في روية صاحب التمهيد، والبيان:أن علي بن أبي طالب أوّل من بايع عبد الرحمن بن عوف[9]، وقد اعتبر الذهبي ما قام به عبد الرحمن بن عوف من أفضل أعماله حيث قال: ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحلِّ، والعقد، فنهض في ذلك أتمَّ نهوض على جمع الأمَّة على عثمان، ولو كان محابياً فيها، لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمّه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص[10]، وبهذا تحققت صورة أخرى من صور الشورى في أحد الخلفاء الراشدين: وهي الاستخلاف عن طريق مجلس الشورى، ليعينوا أحدهم بعد أخذ المشورة العامّة، ثم البيعة العامّة[11].
4 ـ طريقة إنعقاد بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
تمت بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أيدي الخارجين المارقين الشذاذ الذين جاءوا من الآفاق ومن أمصار مختلفة وقبائل متباينة لا سابقة لهم، ولا أثر خير في الدين، فبعد أن قتلوه رضي الله عنه ظلماً وزوراً وعدواناً، يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين[12]، قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله بمبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الاطلاق في ذلك الوقت، فلم يدع الإمامه لنفسه أحد بعد عثمان ولم يكن أبو السبطين رضي الله عنه حريصاً عليها، وذلك لم يقبلها، إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها ومع ذلك لم يسلم من نقد بعض الجهال أثر تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام كابن سبأ وأتباعه الذين استخفهم فأطاعوه لفسقهم ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى، وقد روي الكيفية التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه للخلافة بعض أهل العلم[13]، فقد روى أبو بكر الخلال بإسناده إلى محمد الحنفية قال: كنت مع علي رحمه الله وعثمان محصر قال فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة قال: فقال علي رحمه الله: قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه فقال: خل لا أم لك قال: فأتى علي الدار وقد قتل الرجل رحمه الله فأتى داره فدخلها وأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا قد قتل، ولا بد للناس من خليفة ولا نعلم أحداً أحق بها منك فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير خير مني لكم أمير، فقالوا: لا والله لا نعلم أحداً أحق بها منك، قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد فبايعه الناس[14].
5 ـ طريقة انعقاد بيعة الحسن بن علي رضي الله عنه:
كانت بيعة الحسن بن علي رضي الله عنه في شهر رمضان من سنة 40هـ وذلك بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد اختار الناس الحسن بعد والده ولم يعين أمير المؤمنين أحداً من بعده، فعن عبد الله بن سبع قال: سمعت علياً يقول: لتخضبن هذه من هذا[15]، فما ينتظربي الأشقى[16] قالوا: يا أمير المؤمنين، فأخبرنا به نبير عترته[17]، قال: إذن تالله تقتلون بي غير قاتلي0 قالوا: فاستخلف علينا قال: لا، ولكن أترككم إلى ماترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم وفي رواية: أقول اللهمّ استخلفني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني وتركتك فيهم وبعد مقتل علي صلى عليه الحسن ابن علي وكبر عليه أربع تكبيرات، ودفن بالكوفة، وكان أول من بايعه قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، قال له: أبسط يدك أبايعك على كتاب الله عز وجل وسنه نبيه، وقتال المُحليِّن، فقال له الحسن رضي الله عنه: على كتاب الله وسنة نبيه فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط: فبايعه وسكت وبايعه الناس[18] وقد اشترط الحسن بن علي على أهل العراق عندما أرادوا بيعته فقال لهم: إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت[19]، وفي رواية قال لهم: والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم قالوا: ما هو؟ قال تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت[20]، وفي رواية ابن سعد: إن الحسن بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين، بايعهم على الإمرة، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه ويرضوا بما رضي به[21].
[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 08:57 PM

6[align=justify]
ـ طريقة انعقاد بيعة معاوية رضي الله عنه:
تمت بيعة معاوية بتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه في الخلافة وتهيأت له جميع أسبابها، فبويع أميراً للمؤمنين عام واحد وأربعين للهجرة وسمي هذا العام بعام الجماعة[1]، وقد بايع معاوية رضي الله عنه كل الصحابة الأحياء وأجمعت الأمة عليه وعدوا خلافته شرعية ورضوا إمامته، ورأوا أنه خير من يلي أمر المسلمين ويقوم به خير قيام.
7 ـ المآخذ على فكرة ولاية العهد في عهد معاوية:
صحيح أن النظام الإسلامي للحكم لم ينص على طريقة معينة لاختيار ولي الأمر، ولكنه وضع الأساس التي لا تجوز الحيدة عنه، إلا في حالات الضرورة والاضطرار، وهو الشورى وليس للشورى أسلوب خاص، وطريقة واحدة، لا تتحقق إلا بها، ولكن تتحقق بأساليب شتى كما مرّ معنا في اختيار الأمة للخلفاء الراشدين، ولئن قصد معاوية رضي الله عنه بإحداث ولاية العهد في نظام الحكم الإسلامي جمع كلمة المسلمين، وحقن دمائهم، فهو إن شاء الله تعالى مأجور على أنه كان قادراً على أن يجعل العهد بعده لغير ولده من كبار الصحابة الموجودين في تلك الفترة، وكان فيهم كفاءات لو أسند إليهم الأمر، فقد كان الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر وغيرهم موجودين في هذا الوقت ولكن معاوية رضي الله عنه عدل عن هؤلاء وقصد لولده ليكون خليفة بعده، وبذلك حصل التغير الحقيقي في نظام الحكم الإسلامي، فليس التغيير في إيجاد نظام ولاية العهد... ولكن التغيير في أن يكون ولي العهد ولد الخليفة أو أحد أقاربه، حتى أصبحت الحكومة ملكية بعد أن كانت خلافة راشدة[2]، وإذا كنا مأمورين باتباع سنة الرسول وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فإن التزام نظام الوراثة ليس من سنة النبي ولا من سنة خلفائه الراشدين، كما أن ترشيح يزيد لم يكن موفقاً لأسباب منها: إن المجتمع الإسلامي يومئذ كان فيه من أحق وأولى بالخلافة من يزيد في سابقته وعلمه وعمله ومكانه وصحبته كعبد الله بن عمر وابن عباس وغيرهم فأين الثرى من الثرية[3]؟ ومهما مبدأ توريث الحكم من الأب لابنه.
وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة، فإنهم لا ينزهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب، فضلاً عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد، بل يقولون إن للذنوب أسباب تدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار والحسنات المحاية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم[4]، ومعاوية رضي الله عنه من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم وما هو ببريء من الهنات والله يعفو عنه[5]، والذي يجب أن نعتقده في معاوية أن قلوبنا لا تنضوي على غل لأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بل نقول: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) (الحشر ، الآية : 10) ونقول بأن معاوية اجتهد للأمة خوفاً عليها من الانقسام والفتن، ولا يمكن أن يحمل تبعات كل أخطاء الملوك والأمراء الذين جاؤوا من بعده، كما قرره عبد القادر عوده ـ رحمه الله ـ: حيث يقول: وأقام معاوية أمر الأمة الإسلامية على المحجات والظلم وإهدار الحقوق، وقضى على الشورى وعطل قول الله تعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) (الشورى ، الآية : 38) وحوّل الحكم العادل النظيف إلى حكم قذر قائم على الأهواء والشهوات، ووجه الناس إلى النفاق والذلة والصغار، ولا شك فيه أن كل من جاؤوا بعده إلى عصرنا هذا قد عمل بسنته وتثبتوا ببدعته حاشا عمر بن عبد العزيز، فعلى معاوية وقد استن هذه السنة السيئة إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة[6]. وإذا كان معاوية أو الخلفاء الأمويين قد حوّل الخلافة من الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ثالث خلفاء الأمويين قد أعاد الخلافة من الملك العضوض إلى الشورى الكاملة.. وإنه لما يستوجبه الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً من التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط ولم تستطع الأمة التي أعطيت حقها في اختيار خليفتها أن تعود إلى شكل من أشكال الاختيار السابق في عصر الراشدين، وبرز بوضوح دور العصبية الإقليمية والقبلية وحسم في النهاية الصراع الدائر حول منصب الخلافة لمصلحة البيت الأموي واستطاعت الشام أن تحقق الحسم التاريخي بعمق الالتحام بين بنائها القبلي والوجود الأموي بها[7]، وسيأتي بإذن الله التفصيل عن حديثنا عن معاوية الثاني والحقيقة أن بيعة يزيد قد قبلها الكثير حتى الصحابة رضوان الله عليهم فقد بايعه ستوت من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ابن عمر[8] خوفاً من الفتنة وحرصاً على وحدة الصف، فقد توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بعيد خروج معاوية من المدينة ولم يبق من المعارضين إلا ثلاثة هم ابن عمر وابن الزبير والحسين بن علي، أما ابن عمر فلما رأى الناس مجتمعة على يزيد بايعه وأرسل بيعته بعد وفاة معاوية رضي الله عنه وقال: إن كان خيراً رضينا به وإن كان بلاءً صبرنا[9]، وانحصرت المعارضة في شخص ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهما، وقد حاول بعض الناس أن يلفقوا على معاوية رضي الله عنه تحسره من بيعة يزيد فنقلوا عنه أنه قال: لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي[10]. والسند من طريق الواقدي وهو متروك[11]، ونسبوا إليه أيضاً أنه قال ليزيد: ما ألقى الله بشيء أعظم من نفسي من استخلافك[12]. والسند من الطريق الهيثم بن عدي وهو كذاب[13]، ولقد اعتمد محمد رشيد رضا رحمه الله على هذه الرواية وتحامل على معاوية تحاملاً قاسياً[14]، ولقد تورط الكثير من الباحثين في الروايات الضعيفة والموضوعة فيما يتعلق بتاريخ صدر الإسلام وبنوا عليها تصورات وأفكار وأحكام تحتاج إلى إعادة نظر من جديد.
ومع ما وقع من إنحراف في تغيير النموذج الأعلى لنظام الحكم الإسلامي، الذي تتمثل فيه روح الإسلام كاملة وهو الخلافة واستبدال الملك العضوض به[15]، إلا أن الطابع الإسلامي هو الصفة الغالبة على مظهر الدولة، وتصرفات الحكام، فالصلاة تؤدي في أوقاتها، والزكاة تحصَّل من أربابها والصوم فريضة لا يُعارض في أدائها، وإقامة الحدود دون هوادة لم يقف شيء دون تنفيذها، والجهاد في سبيل الله فريضة ماضية بين رجالها، وبالجملة كانت تعاليم الإسلام مطبقة بحذافيرها[16].

سابعاً : الأيام الأخيرة في حياة معاوية:
1 ـ وصية معاوية رضي الله عنه ليزيد:
لما حضر معاوية الموت وذلك سنة 60هـ وكان يزيد غائباً، دعا بالضحاك بن قيس الفهري ـ وكان صاحب شرطته ـ ومسلم بن عقبة المري، فأوصى إليهما فقال: بلغا يزيد وصيني، أنظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم وتعهد من غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم، فإن أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن اقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، وإني لست أخاف من قريش إلا ثلاثة حسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فأما ابن عمر فرجل قد وقذه الدين، فليس ملتمساً قِبَلك، وأما الحسين بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيه الله بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن له رحماً ماسّة، وحقاً عظيماً، وقرابة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن الزبير فإنه خَبُّ ضَبُّ، فإذا شخص لك فالبد له، إلا أن يلتمس منك صلحاً، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت[17]. تظهر في هذه الوصية كفاية معاوية ودهائه السياسي من خلال تشخيصه لأهمية الأمصار ومدى تأثيرها المستقبلي على أوضاع الدولة الأموية فذكر في وصيته ثلاث أقاليم فقط هي الحجاز والعراق والشام، ذلك أن الأوضاع السياسية خارج دائرة هذه الأقاليم، لم تكن تثير أي هموم جدية لدى معاوية[18].
أ ـ الحجاز : فالبنسبة للحجاز يوصي معاوية ابنه قائلاً: انظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم وتعهد من غاب[19]، ويأتي اهتمام معاوية بالحجاز فضلاً عن كونه محل أهله وعشيرته فهو من الناحية السياسية كان ولوقت قريب مركز الثقل السياسي للدولة الإسلامية ((مقر الخلافة)) ومن الناحية الدينية لم يزل يحتل مركز الصدارة لاحتضانه جل ما تبقى من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبإمكانه تقويض حكم بني أمية فيما لو اجتمعت كلمته وأتيحت الفرصة، له وهو بعد ذلك لايزال المكان الحقيقي للبيعة[20]، والأهم من ذلك كله فإنه يضم عدداً من الشخصيات المعارضة للحكم الأموي، أمثال الحسين بن علي رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم جميعاً كما سنرى ذلك في الفقرات اللاحقة من الوصية، ولذلك نرى معاوية يحث يزيد على استخدام مختلف الوسائل لاستقطاب الحجاز بما في ذلك أغداق الأموال[21]، ولهذه الأسباب أيضاً وضع معاوية السلطة في هذا الإقليم تحت مراقبته المباشرة، حيث قام بتنفيذ سياسته في البيت الأموي، وقام بتشجيع مختلف النشاطات غير السياسية المناهضة له فيه[22]، واهتم بأهله اهتماماً خاصاً.
ب ـ العراق: أما الأقليم الثاني الذي يثير اهتمام معاوية فهو العراق، لذا يوصي ولي عهده أن يعامل أهل العراق معاملة خاصة فيقول: انظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إليّ من أن يشهر عليك مائة ألف سيف[23]، ومن الجدير بالذكر أن شكاية أهل العراق من ولاتهم كان منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
جـ ـ الشام: أما الإقليم الثالث هو الشام، فإن وصية معاوية به تأتي من باب رد الجميل لأهل الشام لدورهم الكبير في مساندته بالوصول إلى الحكم وتأييدهم المستمر لسياسته لذا يوصي ابنه أن يجعلهم محل ثقته وعنايته وأن يذخرهم للمهمات الجسام في قوله: وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم فإذا أصبتهم فأردد أهل الشام إلى بلادهم فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم[24]، وتظهر الفقرة الأخيرة من هذا النص بعد نظر معاوية السياسي، فهو يسدي مخاوفه من اختلاط أهل الشام[25]، ببقية سكان الأقاليم الأخرى فتتبدل أخلاقهم نتيجة مكوثهم مدة طويلة ولربما استطاع المعارضون للحكم الأموي التأثير على جند الشام، على الرغم من التقاء مصالحهم مع مصالح البيت الأموي، فتسقط من يد الخلافة الأموية الورقة الرابحة التي طالما استخدمها معاوية وقطف ثمارها ولهذا يوصي معاوية ابنه بأن يسرع في إعادة جند الشام إلى بلادهم حال انتهاء مهمتهم[26]، ومن أهم ما في وصية معاوية خطته التي رسمها لولي عهده في مواجهة الأحداث المقبلة، وأوكل إليه تنفيذها بعد أن عجز هو من اقناع نفر من قريش بالبيعة ليزيد على الرغم من أن الروايات تذكر أن معاوية ذهب إلى الحجاز لهذا الغرض والتقى بالشخصيات التي رفضت البيعة ليزيد كلاً على انفراد في محاولة للحصول منهم على وعود بالبيعة[27]، إلا إن هذه الجهود لم تثمر في تذليل المصاعب قب ظهورها[28]، والوصية تظهر أن الحجاز، وتحديداً المدينة، هي أكثر البلدان معارضة لحكم بني أمية ولهذا يوصي معاوية إبنه أن يكون حذراً ودقيقاً في تعامله معها، وأن يكون حازماً شديدا حين يتطلب الأمر ذلك، ومرناً ليناً مع من لا يشكلون خطراً حقيقاً عليه، لما للحجاز من أهمية بالغة في تقرير وتثبيت الحكم[29].
وكان معاوية رضي الله عنه مصيباً في رأيه بعبد الله بن عمر من أنه رجل قد وقذه الدين، ولا خطر على يزيد منه، وذلك أن الوليد بن عتبة حين طلبه للبيعة قال: إذا بايعت الناس بايعت فتركوه لثقتهم بزهادته في الأمر وشغله بالعبادة[30]، وكان مصيباً في حدسه من أهل العراق لن يتركوا الحسين بن علي رضي الله عنه حتى يخرجوه، ويبدو أنه كان متأكداً من وقوع الاصطدام بينهما، لذلك طلب من يزيد أن يعفوا عنه إذا تمكن منه، أما الخطر الحقيقي والذي يتطلب الحزم والشدة فإنه يأتي من عبد الله بن الزبير الذي كان يتمتع على ما يبدو من تأييد واسع النطاق بين معظم المعارضين للحكم الأموي، ولأنه كان رجل سياسة وحرب من الطراز الأول، وعلى الجملة فإن وصية معاوية تعكس سياسته ودهاءه في تصريف الأمور، فنراه من خلال الوصية يتعامل مع الأحداث التي تتطلب الشدة حزماً، وفيما عدا ذلك فهو يستخدم خبرته وتجربته السياسية الطويلة في مواجهة الأحداث، وقد وصف معاوية نفسه مشيراً إلى هذه السياسة بقوله: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً. فقيل له وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها وإذا أرخوها مددتها[31]، وكان على الدوام يوصي يزيد بهذه السياسة فيقول له: عليك بالحلم، والاحتمال حتى تمكنك الفرصة فإذا أمكنك فعليك بالصفح فإنه يدفع عنك معضلات الأمور، ويقيك مصارع المحذور[32]. وفي هذه الوصية يلخص معاوية رضي الله عنه منهجه وخبرته في السياسة والإدارة لابنه يزيد في كلمات قليلة جامعة تنم عما يتمتع به هذا الصحابي الكريم من حنكة سياسية وبراعة إدارية[33].
[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 08:59 PM

2[align=justify]
ـ آخر خطبة لمعاوية رضي الله عنه واشتداد مرضه ووفاته:
كانت آخر خطبة خطبها معاوية رضي الله عنه قوله: أيُّها الناس إني من زرع قد استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي إلا من هو شر مني، كما كان من وليكم قبلي خيراً مني، ويا يزيد إذا وفى أجلي فوَلِّ غسلي رجلاً لبيباً، فإن اللبيب من الله بمكان فليُنعم الغسل وليجهر بالتكبير، ثم أعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقُراضة من شعره وأظفاره فاستودع القراضة أنفي وفمي وأُذُنيَّ وعيْنيَّ، واجعل الثوب يلي جلدي دون أكفاني، ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي، ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وأرحم الراحمين[1].
ولما احتضر معاوية جعل يقول:
لعمري لقد عُمِّرتُ في الدهر بُرهة
ودانت لي الدنيا بوقـع البواتـر
وأعطيت حُمْرَ المال والحكم والنّهى
وسِلْمَ قماقيم[2] الملـوك الجبـابر
فأضحى الذي قد كان مما يَسُرُّني
كحلم مضى في المزمنات الغوابر
فيا ليتني لم أُعن في الملك ساعة
ولم أُعْنَ في لذات عيشٍ نواضر
وكنت كذي طمرين عاش ببُلْغةٍ
من العيش حتى زار ضيق المقابر[3]

وقد أوصى معاوية بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال كأنه أراد أن يُطيَّب له، لأن عمر بن الخطاب قاسم عمّاله[4]. وذكروا أنه في آخر عمره اشتد به البَرْدُ فكان إذا لبس أو تغطَّى بشيء ثقيل يَغُمُّه، فاتُّخذ له ثوب من حواصل الطير[5]، ثم ثقل عليه بعد ذلك، فقال: تبَّاً لك من دار ملكتك أربعين سنة، عشرين أميراً، وعشرين خليفة، ثم هذا حالي فيك، ومصيري منك، تباً للدنيا ومُحبِّيها[6]، ولما اشتد المرض وتحدث الناس أنه الموت قال لأهله، أحشوا عيْنيّ إثمداً، وأوسعوا رأسي دُهناً. ففعلوا وبرّقوا[7] وجهه بالدهن، ثم مُهِّد له فجلس وقال: أسندوني. ثم قال: إئذنوا للناس فليُسلموا عليَّ قياماً ولا يحبس أحد. فجعل الرجل يدخل فيُسلم قائماً فيراه متكحِّلاً مُتدهِّناً، فيقول متقوِّل الناس: هو لمّا به[8]، وهو أصح الناس، فلما خرَجوا من عنده[9] تمثل معاوية بقول أبي ذؤيب الهذلي الشاعر:
وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كلَّ تميمة لا تنفع

وكان به النقابة[10]، فمات من يومه ذلك[11]، وكان يقول لما نزل به الموت: يا ليتني كنت رجلاً من قريش بذى طوى ولم أَلِ من هذا الأمر شيئاً[12]، ومن الشعر الذي تمثل به أيضاً قول الشاعر:
إن تناقش يكن نقاشك يا ربِّ
عذاباً لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز تجاوز العفو فاصفح
عن مسيءٍ ذنوبه كالتُّراب[13]

وقال رضي الله عنه وهو يُقَلبّ في مرضه، وقد صار كأنه سعفة محترقة: أي شيخ تقلِّبون إن نجاه الله من النار غداً[14]؟، وقال الحسن البصري: دُخل علىمعاوية وهو بالموت، فبكى، فقيل: ما يبكيك؟
قال: ما أبكي على الموت أن حل بي، ولا على دنيا أخلفها ولكن هما قبضتان: قبضة في الجنة، وقبضة في النار، فلا أدري في أي القبضتين أنا[15]
وأغمى على معاوية رضي الله عنه في سكرات الموت ثم أفاق فقال لأهله: اتّقوا الله، فإن الله يَقي من اتَّقاه ولا يَقي من لا يَتَّقي[16]، وجعل معاوية رضي الله عنه لما احتضر يضع خده على الأرض ثم يُقلِّب وجهه ويضع الخد الآخر ويبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) (النساء ، الآية : 48) اللهم اجعلني ممَّن تشاء أن تغفر له[17]، ومن دعائه في ذلك اليوم: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يَرْجُ غيرك فإنك واسع المغفرة ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك ثم مات[18]. وجاء في رواية: اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي[19]رحم الله معاوية رضي الله عنه.
3 ـ سنة وفاة معاوية ومن صلى عليه:
قال الطبري: في هذه السنة هلك معاوية بن أبي سفيان بدمشق، فاختلف في وقت وفاته بعد إجماع جميعهم على أن هلاكه كان في سنة ستين من الهجرة وفي شهر رجب[20]، وقال ابن حجر: مات معاوية في رجب سنة ستين على الصحيح[21] وصلى على معاوية الضحاك ابن قيس الفهري، وكان يزيد غائباً حين مات معاوية[22]، فقد خرج الضحاك حتى صعد المنبر وأكفان معاوية على يديه تلوح، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن معاوية كان عود العرب[23]، وحدّ العرب[24]، قطع الله عز وجل به الفتنة وملَّكهُ على العباد، وفتح به البلاد. ألا إنه قد مات، فهذه أكفانه فنحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومُخَلُّون بينه وبين عمله، ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى[25]، وبعث البريد إلى يزيد بوجع معاوية وقد اختلف المؤرخون هل حاضر يزيد وفاة أبيه أم لا؟ والصحيح أن يزيد لم يدرك والده حياً وإنما جاء بعد موته[26]. ولما وصل يزيد الخبر قال:
جاء البريـد بقرطاس يخـب بـه
فأوجس القلب مــن قرطاسه فزعا
قلنا: لك الويل ماذا فـي كتابكم؟
قالوا : الخليفة أمـس مثبتـاً وجعـا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا
كـأن أغبر مــن أركانها انقطعا
من لا تزال نفسه توفي على شرف
توشك مقاليد تلـك النفس أن تقعا
لما انتهينا وبـاب الـدار منصفق
وصوت رملة[27] رِيعَ القلب فانصدعا[28]

4 ـ عمر معاوية رضي الله عنه عند وفاته:
علىالقول الراجح: توفي معاوية وهو ابن ثمان وسبعين سنة[29]، بدليل قول ابن حجر: إن مولده كان قبل البعثة بخمس سنوات على الأشهر[30]، وكما هو معروف فإن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، وبذلك يكون مولد معاوية قبل الهجرة بثمان عشرة سنة، ولما كانت وفاته سنة ستين، فهذا يعني أن عمره عند وفاته كان ثمان وسبعين سنة[31].
5 ـ مدة خلافته:
تنازل الحسن بن علي لمعاوية بالتخيلة وتمت بيعته في شهر ربيع الأول من عام 41هـ ومات بدمشق سنة 60هـ يوم الخميس لثمان بقين من رجب، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوماً[32]
6 ـ ما قيل فيه من رثاء:
قال أبو الورد العنبري يرثي معاوية رضي الله عنه:
ألا أنعي معاوية بن حرب
نعـاه الحـل للشهر الحرام
نعـاه الناعجات[33] بكل فجٍّ
خواضع في الأزمَّةِ كالسِّهام
فهاتيك النجوم وهنَّ خُرْسٌ
ينخـن على معاوية الشآم

وقال أيمن بن خزيم يرثيه أيضاً:
رمى الحدثانَّ نسوة آل حرب
بمقدار سمدن له سُمودا
فرَدَّ شعورهنَّ السُّود بيضاً
ورد وجوههن البيض سُودا
فإنك لو شهدت بكاء هند
ورملة إذ يُصَفِّقْن الخُدودا
بكيت بكاء مُعْوِلةٍ قّرِيح[34]
أصاب الدهر واحدها الفريدا[35]
7 ـ ما قاله ابن عباس في موت معاوية رضي الله عنهم :
قال عامر بن مسعود الجهني : مرّ بنا نعيُ معاوية ونحن في المسجد, فأتينا ابن عباس, فوجدناه جالساً وقد وضع خوانه[36], وعنده نفر, ولم يوضع الطعام, فقلنا يا : ابن عباس : أما علمت بهذا الخبر ؟ فقال : وما هو ؟ قلنا : هلك معاوية. فقال : ارفع خوانك ياغلام, وسكت ساعة هاجما[37], ثم قال : جبل تزعزع ثم زال بجمعه في البحر[38] . قال القاضي أبو يعلى بعدما ذكر القصة : اللهم أنت أوسع لمعاوية كنفاً, وأحسن من تجاوز عنه وعنّا[39].

[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 09:00 PM

8[align=justify]
ـ نقش خاتمه :
كان نقش خاتمه : لكل عمل ثواب[1], وقيل : لا قوة إلا بالله[2].
9 ـ التبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم :
عن عبد الأعلى بن ميمون, عن أبيه : أن معاوية قال في مرضه الذي مات فيه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني قميصاً فرفعته, وقلَّم أظفاره يوماً, فأخذت قلامته فجعلتها في قارورة, فإذا مت فألبسوني ذلك القميص, وقطعِّوا تلك القلامة, واسحقوها وذُرٌّوها في عيني, وفي فيّ[3], فعسى الله أن يرحمنى ببركتها[4].
ويعتبر تبرك الصحابة رضوان الله عليهم بآثار النبي صلى الله عليه وسلم الحسية المنفصلة عنه, من أنواع التبرك المشروع حيث فعله الصحابة رضوان الله عليهم أثناء حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته[5] كما فعله السلف الصالح رحمهم الله تعالى ومن الأدلة على ذلك :
أ ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل, فتوضأ, وصب علي من وضوئه فعقلت[6].
ب ـ عن عثمان بن عبد الله بن وهب قال : أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء .. فيها شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم, وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبة[7]. قال ابن حجر: بعث إليها مخضبة ـ وهو من جملة الآنية ـ والمراد أنه كان من اشتكى أرسل إناء إلى أم سلمة فتجعل فيه تلك الشعرات وتغسلها فيه وتعيده فيشربه صاحب الإناء أو يغتسل بعده استشفاءً بها فتحصل له[8].
جـ ـ وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت في جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت فلما قبضت، قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها[9].
وقد فرّع العلماء على مسألة التبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم مسألة التبرك بفضلات الصالحين، وآثارهم ففي حديث عروة بنى مسعود وهو يصف أصحاب رسول الله عليه وسلم حوله، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلاوقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده... وإذا توضَّأ كادوا يقتتلون على وضوئه[10]، وقد علق الشاطبي على هذا الحديث، وأحاديث أخرى تماثله، فقال: فالظاهر في مثل هذا النَّوع أن يكون مشروعاً في حق من ثبتت ولايته، واتِّباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يتبرك بفضل وضوئه، ويُتدلَّك بنخامته، ويُستشفى بآثاره كلِّها، إلا أنَّه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه مشكل في تنزيله، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم في شيء من ذلك بالنِّسبة إلى مَنْ خَلَفه، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه وهو كان أفضل الأمة بعده، ثمّ كذلك عثمان بن عفان، ثمّ علي، ثمّ سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمَّة، ثمَّ لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبرِّكاً تبرك به أحد تلك الوجوه، أو نحوها، بل اقتصروا على الاقتداء بالأفعال، والأقوال، والسِّير التي اتَّبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء[11]




الفصل الخامس
عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان
المبحث الأول : اسمه ونسبه وكنيته ونشأته وحياته وتوليه الخلافة
أولاً : اسمه ونسبه وكنيته :
هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس القرشي، يكنى ((أبو خالد))[12]، وجدته من جهة أبيه: هند بنت عتبة بن ربيعة، أسلمت يوم الفتح، وكانت من أعقل النساء، حازمة شاعرة ذات نفس وأنفة[13]، وأمه ميسون بنت بحدل الكلبية شاعرة من شاعرات العرب، وكانت امرأة لبيبة وأبوها من أشراف قبيلة كلب[14].

ثانياً : ولادته ونشأته :
كانت ولادة يزيد بن معاوية في خلافة عثمان رضي الله عنه[15] في سنة ست وعشرين[16]، وقيل أن ولادته وولادة عبد الملك بن مروان في سنة واحدة سنة ست وعشرين من الهجرة[17]، نشأت والدته في البادية حيث أن والدته طلقها أبوه فعاش مع أمه وأخواله وهم زعماء قبيلة كلب، فأثرت في طباعه تلك النشأة فتراه يتميز بالفصاحة والخطابة والكرم، والشجاعة[18]، واستمر متعلقاً بالبادية، حتى أنها أثرت في لباسه وعدم التكلف في حياته، فقد تلقوه أهل الشام بعد موت أبيه عائداً من أخواله ليس له عمامة ولا سيف فقال الناس: هذا الأعرابي الذي ولي أمر هذه الأمة[19]، واهتم به والده وعين له مؤدباً ليعلمه وهو دغفل بن حنظلة السدوس الشيباني[20]، وجعل معاوية ابنه يحضر في مجالسه ويستفيد من سياسته وتدبيره للملك[21]، واستفاد يزيد من عبيد بن شرية الجهرمي الذي استقدمه معاوية من صنعاء اليمن، وكان عالماً بأيام العرب، وأحاديثها وله كتاب الأمثال، وكتاب الملوك وأخبار الماضين[22]، وقد تأثر يزيد من هذا الشيخ الحكيم الذي حنكته التجارب والسنون وقد توفي عبيد بن شرية سنة 70هـ[23]، وأصبح يزيد يتحدث عن الأنساب تحدث الخبير[24]، قال الذهبي في ترجمة عبد الصمد بن علي الهاشمي وكان في تعدُّد النسب نظير يزيد الخليفة[25]، وقد توفر ليزيد ما لم يتوفر لغيره إضافة إلى أن أباه هو أحد الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم وكاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى عن أبيه أحاديث منها: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين[26]، وقد ذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة وقال له أحاديث[27]، وقد كان معاوية رضي الله عنه يحاول دوماً أن يوجه يزيد نحو الاستفادة من مجالس الوفود التي تفد عليه، فقد ذكر ابن المبارك أن معاوية قال لبعض رجالات الوفود ما تعدون المروءة فيكم قالوا: العفاف في الدين، والإصلاح في المعيشة، فقال معاوية: أسمع يا يزيد[28]، فقد كان معاوية رضي الله عنه منذ أن استقر له الأمر في الشام شديد الاهتمام بتربية ولده، فأشركه منذ وقت مبكر في الصوائف وتحمل المسئوليات[29]، وكان معاوية دائم الاتصال بمؤدبي ولده، كي يتعرف على ما أحرزه ابنه من تقدم، كما كان يسأل ابنه عن أحواله مع المؤدبين، فتشير إحدى الروايات إلى أن معاوية سأله في أحد الأيام قائلاً: أيضربك معلمك يا يزيد قال: لا يا أمير المؤمنين قال: ولم؟ قال: لأنه استن بسنة أمير المؤمنين بالعدل[30]، وعلاوة على ذلك فإننا نجد روايات أخرى تشير إلى أن بعض المناظرات الثقافية كانت تقع بين معاوية وولده ، على الرغم من صغر سنه مما يدل على مدى إهتمام أبيه به، فيروي ابن ظفر الصِّقلّي: أن معاوية بن أبي سفيان قال لابنه يزيد، وقد أتت عليه سبع سنين: يا بني في أي سورة أنت؟ فقال: في السورة التي تلي يا أمير المؤمنين. فقال: يا بني إن هذه السورة تليها سورتان وهي بينهما، ففي أيهما أنت؟ قال: في السورة التي في أولها((والذين آمنوا وعلموا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم)) (محمد ، الآية : 2). فتمثل معاوية بقول حذافة بن غانم العدوي حيث يقول:

ملوك وأبناء الملوك وسادة
تفلّق عنهم بيضة الطائر الصّقر
متى تلقَ منهم ناشئاً في شبابه
تجده على أعراق والده يجري
فهم يغفرون الذَّنب ينقم مثله
وهم تركوا رأي السَّفاهة والهجر[31]

وكان معاوية يوجه أبنه ويرشده وينصحه ويدله على الصواب فقد رأى ابنه يضرب غلاماً له، فقال له: سوأة لك، أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع عليك؟ والله لقد منعتني القدرة من ذوى الإحن، وإنَّ أحقَّ من عفا لمن قدر[32]، وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا مسعود يضرب غلاماً له، فقال له: اعلم أبا مسعود للهُ أقدر عليك منك عليه[33]، وذات يوم غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره، فقال له الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين، أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا ونحن لهم سماء ظليلة، وأرضى ذليلة إن غضبوا فأرضهم، وإن طلبوا فأعطهم ولا تكن عليهم ثقلاً فيملّوا حياتك ويتمنَّوا موتك، فقال معاوية: لله درُّك يا أبا بحر، يا غلام ائت يزيد فأَقْرِئه مني السلام، وقل له: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بمائه ألف. فقال يزيد: من عند أمير المؤمنين؟ فقال: الأحنف. فقال: لا جرم لأُقاسمنه فبعث إلى الأحنف بخمسين ألف وخمسين ثوباً[34] ، وكان يزيد حاضر البديهة، قال العتبي: وقدم زياد بأموال عظيمة، وبسفط مملوءة جواهر على معاوية، فسرُّ بذلك معاوية، فقام زياد فصعد المنبر، ثم افتخر بما يفعله بأرض العراق من تمهيد الممالك لمعاوية، فقام يزيد فقال: إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عُبيد إلى حرب بن أميه. فقال له معاوية أجلس فداك أبي وأمي وكان معاوية يربي يزيد على القيام بالواجبات الاجتماعية مع أعيان المجتمع، فعندما وفد عبد الله بن عباس إلى معاوية، أمر ابنه يزيد أن يأتيه فيعزيه في الحسن بن علي، فلمّا دخل على ابن عباس رحّب به وأكرمه وجلس بين يديه، فأراد ابن عباس أن يرفع مجلسه، فأبى وقال: إنما أجلس مجلس المُعزِّي لا المُهَنِّي، ثم ذكر الحسن فقال: رحم الله ابا محمد أوسع الرحمة وأفسحها، وأعظم الله أجرك وأحسن عزاءك، وعوّضك من مُصابك ما خير لك ثواباً وخيرٌ عقبى. فلمّا نهض يزيد من عنده قال ابنُ عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب حلماء الناس. ثم أنشد متمثلاً
مَغَاضٍ عن العوراءِ لا ينطقونها
وأهلُ وِراثات الحلوم الأوائل[35]

وكان معاوية رضي الله عنه يختبر ابنه بين الفينة والأخرى فذات يوم سأله: كيف تُراك فاعلاً إن وُلّيت؟ قال: يُمتعُ الله بك. قال: لتُخبرني قال: كنت والله يا أبة عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب. فقال معاوية: سبحان الله، سبحان الله، والله يا بُنيَّ لقد جهدت على سيرة عثمان فما أطقتها[36].
[/align]



ميارى 15 - 5 - 2010 09:02 PM

[align=justify]ثالثاً : زوجاته وأولاده :
تزوج يزيد أم هاشم بنت أبي سفيان بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فأنجبت له:
1 ـ معاوية بن يزيد: ويكنى أبا عبد الرحمن كما يعرف باسم أبي ليلى وهو الذي يقول فيه الشاعر:
إني أرى فِتنة قد حان أوَّلُها
والملك بعد أبي ليلى لمن غلب[1]

2 ـ خالد بن يزيد: ويكنى أبا هاشم وقد انصرف إلى عمل الكيمياء.
3 ـ أبو سفيان بن يزيد: وبعد وفاة يزيد تزوج أم هاشم مروان بن الحكم[2].
وتزوج أيضاً يزيد أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر، فأنجبت له عبد الله بن يزيد ويعرف بلقب ((الأسوار))[3]. وكان من أرمى العرب وهو الذي يقول فيه الشاعر:
زعم الناسُ أن خيرَ قريش
كلِّهم حين يُذكرُ الأُسوار[4]

وكان له عدد من الأولاد من أمهات أولاد كثيرة ومن أبنائه هؤلاء: عبد الله الأصغر، وأبو بكر، وعمر، وعتبة، وعبد الرحمن، وحرب، والربيع، ومحمد[5]، ويبدو أن لمحمد هذا الأخير عقب لا يزال موجوداً حتى الآن في شبه جزيرة العرب في المنطقة المعروفة باسم عسير، إذ فرّ أحد أحفاده إلى هذه البقعة عند قيام الدولة العباسية وملاحقة الأمويين، واستطاع بعد مدة من تأسيس إمارة بسطت نفوذها على المنطقة واستمرت في أمرها حتى العصر الحديث، وكان منها آل عائض بن مرعي الذين كان لهم حكم المنطقة قبل سيطرة عبد العزيز آل سعود على أكثر الجزيرة[6].

رابعاً : أهم أعمال يزيد في عهد والده غزو القسطنطينية:
تكمن أهمية هذه الغزوة بذكرها في الحديث الشريف، وفضيلتها وفضيلة أهلها المجاهدين، فقد ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل إلى أم حرام بنت ملحان فتطعمه ـ وكانت تحت عبادة بن الصامت ـ فدخل يوماً، فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ يضحك، قالت: فقلت، ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: ناس من أمتي عُرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة، أو قال: مثل الملوك على الأسرة ـ قلت: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك، فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال ناس من أمتي عُرضوا عليّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر ملوكاً على الأسرة ـ أو مثل الملوك على الأسرة، فقلت ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنت من الأولين، فركبت البحر زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت[7]. وفي رواية: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم[8].
قال ابن كثير في تعليقه على هذا الحديث: وقد كان ذلك في سنة سبع وعشرين مع معاوية حين استأذن عثمان في غزو قبرص، فأذن له فركب المسلمون في المركب حين دخلها وفتحها قسراً، وتوفيت أم حرام في هذه الغزوة في البحر وكانت مع معاوية فاخته بنت قرظة وأما الثانية فكانت في سنة اثنين وخمسين في أيام ملك معاوية، بعث ابنه يزيد ومعه الجنود إلى غزو القسطنطينية ومعه في الجيش جماعة من سادات الصحابة منهم أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد رضي الله عنه، فمات هناك وأوصى إلى يزيد بن معاوية، وأمره أن يدفنه تحت سنابك الخيل، وأن يوغل إلى أقصى ما يمكن أن تنتهي به إلى نحو جهة العدو، ففعل ذلك[9]، وفضيلة غزو القسطنطينية ليزيد، جعلت الذهبي مع شدة حمله على يزيد يقول: يزيد بن معاوية أبو خالد الأموي له هنات حسنة، وهي غزو القسطنطينية، وكان أمير ذلك الجيش وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري[10]، وما أجمل قول ابن تيمية: ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم[11]، ويبدو أن يزيد قد قام ببعض الحملات حتى وصل إلى خليج القسطنطينية ومعه زوجته أم كلثوم[12]، ويبدو أن معرفة يزيد بحرب الروم، وإدراكه بخطرهم الداهم، وأخذه بنصيحة والده رضي الله عنه، فكان آخر ما أوصى به معاوية أن قال: شد خناق الروم[13]، كل هذه الأمور جعلته بعد أن تولى الخلافة يسير على خطته في جهاد الروم، ولم تمنعه أحداث ابن الزبير وشيعة العراق من قتالهم[14]، وقد كانت وفاة يزيد فيما بعد متنفساً للروم، ليس فقط في وقف الهجمات الحربية عليهم من قبل المسلمين، بل بلغت بهم الجرأة إلى الإكثار من الغارات على بلاد الشام ومنطقة الثغور[15]،ولما عاد يزيد من غزوة القسطنطينية في نفس السنة حج بالناس[16]، وهذه الأعمال التي قام بها يزيد في غاية الأهمية في ذلك العصر، فكان يزيد يقود جيشاً من أعظم الجيوش في عصره، ويضم نخبة من الصحابة وأكابرهم وساداتهم وأبناءهم ويتجه هذا الجيش بقيادة يزيد إلى أهم جبهة في الدولة الإسلامية، وغير هذه الاعتبارات تدل على أن يزيد الذي يبلغ من العمر حين قيادة هذا الجيش ما بين (21 ـ 23) يملك روحاً قيادية وكفاءة حربية[17]، ولم يعترض أحد من الصحابة أو غيرهم على قيادة يزيد في تلك المرحلة، كما أن هذا التصرف من معاوية رضي الله عنه في توليه يزيد هذا الجيش ـ والذي يضم أكابر الصحابة وأبنائهم وفقهائهم وسادات المسلمين فيه دلالة على أن معاوية رضي الله عنه، يرى في ولده يزيد ملامح النجابة والكفاءة التي تؤهله لقيادة هذا الجيش[18].

خامساً : أهم صفات يزيد بن معاوية:
إن المصادر التاريخية والأدبية على حد سواء تزودنا بأخبار قليلة عن صفات يزيد المكتسبة والموروثة، إلا أنها تحدد لنا بعض الملامح من شخصية يزيد بن معاوية[19] فمنها:
1 ـ القوة والشجاعة: قال عنه الذهبي: كان قوياً شجاعاً، ذا رأي وحزم وفطنة وفصاحة[20]، وكان يتمنى أن يوليه أبوه في الغزو على الصائفة بالمسلمين. وكان يحرص على إقامة السباقات بين الخيل، ويجعل الجوائز، لرفع مستوى الفروسية عند المسلمين[21]، علاوة على تمكنه من قيادة الجيش الإسلامي الذي حاصر القسطنطينية وسيطرته على مجريات القتال[22]، وذكر صفوان بن عمرو أن المسلمين لما جاوزوا بالأسارى من الروم، ضرب أعناقهم يزيد بن معاوية والروم تنظر إليهم[23]، كما أن من حزمه ما حكاه العتبي بإسناد أن أبا أيوب الأنصاري مرض في غزوة القسطنطينية، فأتاه يزيد عائداً فقال: ما حاجتك يا ابا أيوب؟ قال: ادفني عند اسوار القسطنطينية... فلما مات أمر يزيد بتكفينه وحُمل على سريره، ثم أخرج الكتائب فجعل قيصر يرى سريراً والناس يقتتلون فأرسل إلى يزيد: من هذا الذي أرى؟ قال: صاحب نبينا وقد سألنا أن نقدمه في بلادك ونحن منفذون وصيته أو تلحق أرواحنا بالله. قال: العجب كيف من ينسب أبوك للدهاء ويرسلك فتأتي بصاحب نبيك، وتدفنه في بلادنا، فإن وليت أخرجناه إلى الكلاب، فقال يزيد: إني والله ما أردت إيداعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم، فإنك كافر بالذي أكرمت هذا له، لئن بلغني أنه نبش من قبره أو مثل به، لا تركت بأرض العرب نصرانياً إلا قتلته، ولا كنيسة إلا هدمتها فبعث إليه قيصر: أبوك أعلم بك، فوحق المسيح لأحفظنه بيدي[24].
2 ـ الفصاحة والشعر: ذكر الذهبي بأنه صاحب فصاحة[25]. ولما تكلم الخطباء عند معاوية قال والله لأرمينهم بالخطيب الأشدق، قم يا يزيد تكلم[26]، وقد ذكر المدائني بإسناده أن رجلاً قال لسعيد بن المسيب: أخبرني عن خطباء قريش، قال: معاوية، وابنه يزيد، ومروان بن الحكم، وابنه عبد الملك، وسعيد بن العاص وابنه وما ابن الزبير بدونهم[27]، وأما شعره فقد كان شاعراً مجيداً[28]، جعل الناس يقولون بدء الشعر بملك، وختم بملك، إشارة إلى امرؤ القيس وإلى يزيد[29]، ومن شعره ما كان ينشده هارون الرشيد ليزيد بن معاوية:
إنهـا بين عامر بـن لؤَيِّ
حين تَنْمِي وبين عبـد مناف
ولهـا في المُطَيَّبِين جـدودٌ
ثم نـالت مكـارم الأخْلافِ
بنتُ عمِّ النبي أكـرمُ مـن
يمشي بنعل على التُّراب وحافي
لن تراها على التَّبَذُّل والغلظة
إلا كــدرة الأصــداف[30]

3 ـ الكرم: اشتهر عن يزيد الكرم فكان يجزل العطاء لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب[31]، وليس غريباً عنه وهو الذي يقول: حفظ النديم والجليس وإكرامهما من كرم الخليفة وقضاء حق النعمة[32]، ولقد حازت هذه الأعطيات على إعجاب عبد الله بن جعفر وقال له: فداك أبي وأمي فوالله ما قلتها لأحد قبلك[33]،وكان يقول: أتلوموني على حسن الرأي في يزيد[34]. ومن كرمه أيضاً: أن عبد الله بن حنظلة عندما قدم عليه من المدينة وبنيه أعطاه مائة ألف وأعطى كل واحد منهم شعرة آلاف سوى كسوتهم وحملانهم[35] وقصته مع الأحنف في مقاسمته الجائزة التي أمر بها معاوية قد مرت معنا.
وأما صفاته الخَلْقية: فقد كان ضخم الجسم سمينا طويلاً غليظ الأصابع كثيف الشعر جعده أسمر البشرة في وجهه أثر الجدري أحور العينيين حسن اللحية خفيفها، وبالجملة كان جميلاً[36]
[/align].




ميارى 15 - 5 - 2010 09:04 PM

[align=justify]سادساً : بيعة يزيد:
كان يزيد غائباً حين حضر معاوية الموت، فلما حضر يزيد كان قد دفن، فقصد يزيد باب الصغير حيث دفن أبوه، وهناك صلى على أبيه ومن خلفه المسلمون، فكبر أربعاً[1]، ولما خرج من المقبرة أُتي بمراكب الخلافة فركب، ثم دخل البلد، وأمر فنودي في الناس إن الصلاة جامعة، ودخل الخضراء ـ وهو قصر بناه معاوية ـ فاغتسل ولبس ثياباً حسنة، ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس، إن معاوية عبداً من عبيد الله، أنعم الله عليه، ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده، ودون من قبله، ولا أزكيه على الله ـ عز وجل ـ فإنه أعلم به، إن عفا عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه، وقد وليت الأمر من بعده ولست آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئاً كان وقال لهم في خطبته هذه: إن معاوية كان يغزيكم في البحر، وإني لست حاملاً أحداً من المسلمين في البحر، وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم، ولست مشتياً أحداً بأرض الروم، وإن معاويةكان يخرج لكم العطاء أثلاثاً، وأنا أجمعه لكم كله: فافترق الناس، وهم لا يفضلون عليه أحد[2].
وفي هذه الخطبة شرح يزيد سياسته في قيادة الأمة، ووضح خطته التي سيلتزمها أثناء خلافته، وهي سياسة استطاع أن يكسب بها قلوب أهل الشام. وقد أجمعت ـ غالبية ـ الأمة على بيعة يزيد أو بمعنى آخر جددت له البيعة بعد وفاة أبيه ولم يبايع إلا الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما[3]. وسيكون لكل منهما مع يزيد شأن ـ كما سنرى بإذن الله تعالى ـ أما بقية الصحابة فقد بايعوا يزيد جمعاً للكلمة وحفظاً لوحدة الأمة وخوف الفتنة، مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن الحنفية[4]، أما أهل الشام والعراق وغيرها من الأقاليم فقد بايعوا وكانت المعارضة ليزيد في أهل الحجاز يتزعهما الحسين بن علي وابن الزبير، ومما قيل من الشعر في بيعة يزيد ما قاله عبد الله بن همَّام يعزِّيه في أبيه:
أصبر يزيد أعظم فقد فارقت ذا مقة[5]
واشكر حُباء الذي بالملك حاباكا
لا رُزءَ أعظم فـي الأقـوام نعلمه
كمـا رُزِئت ولا عُفبى كعُقباكا
أصبحت راعى أهـل الدِّين كلهم
فأنـت ترعـاهم والله يَرْعـاك
وفـي معاوية الباقي لنـا خلـف
إذا نعيـت و لا نسمع بمنعـاك
يعني معاوية بن يزيد[6]
تولى يزيد الأمر بعد أبيه في رجب سنة 60هـ ـ 680م فأقر عمال أبيه على ولاياتهم، فكان على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص، وأمير الكوفة النعمان بن بشير وأمير البصرة عبد الله بن زياد[7]، وركز يزيد في أخذ البيعة من النفر الذين لم يبايعوه في حياة أبيه وكان أهمهم عنده الحسين بن علي، فكتب إلى أميرها الوليد بن عتبة كتاباً يخبره فيه بوفاة معاوية فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة أما بعد، فإن معاوية كان عبداً من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه، وخوّله ومكّن له، فعاش بقدر، ومات بأجل فرحمه الله، فقد عاش محموداً، ومات براً تقياً والسلام[8]. ونظراً لتساهل الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في أخذ البيعة من الحسين وابن الزبير لأنه كان رجلاً يحب العافية[9]، وأنه كان رجلاً رفيقاً سرياً كريماً[10]، كما أنه كان يخشى عذاب الله وعقابه، فقد امتنع عن سجن الحسين أو قتله وقال:... والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإني قتلت حسيناً سبحان الله! اقتل حسيناً أن قال: لا أبايع؟ والله إني لا أظن أمراً يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة. فقال مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت[11].
كان إصرار يزيد على طلب البيعة من الحسين وابن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ هو الشرارة الأولى في الفتنة التي اندلعت بين المسلمين فقد شعر كل منهما بأنه مطلوب، وأنه إذا لم يبايع فسيكون ضحية طيش يزيد، وأن سيوف أعوان الخليفة الجديد أصبحت مسلولة عليهم، فعادا إلى البيت الحرام، ولجآ إلى مكة المكرمة يطلبان فيها الأمان، ويحتميان بحمى الله فيها، ولئن أصاب يزيد حين أبقى عمال أبيه على الولايات، ليضمن استقرار الأمور فيها، فقد خانته عبقريته في إصراره على طلب البيعة من الحسين وابن الزبير، حيث كان إصراره هذا موحياً بعدم تأمين الحياة لهما، وبأن بقاءهما في عهد يزيد محفوف بالمخاطر، وذلك أدى بهما إلى أن يبحثا عن الأمان، ولم يجداه إلا في تجييش أنصارهما، وحشدهم في مكان يصعب على يزيد وأعوانه أن يقتحموه وكان ذلك في مكة المكرمة، في جوار بيت الله الذي قال فيه: ((وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ً)) (آل عمران ، الآية : 97). ولم يكن لهذا التجمع وذلك الحشد نتيجة سوى المواجهة التي أودت بحياة الآلاف من المسلمين، وكان على رأس هؤلاء جميعاً الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ حيث قتل في كربلاء ـ شهيداً ـ على يد فئة ظالمة من جيوش يزيد[12].
لقد كانت غلطة من يزيد، بدأ بها حياته، وظلت تلاحقه حتى مماته، ولم يستطع التخلص منها، وبدأت سلسلة الأخطاء تتوالى في حياة الخليفة، وكلما أدلهمت الأمور من حوله، عظمت الأخطاء، وتضخمت المشكلات، وكلما أراد حل مشكلة، عرض لها بمشكلة أخطر منها وأفظع، فمن الإصرار على عدم البيعة إلى تكوين جبهة معارضة تستعد للقتال، ومنها إلى معركة كربلاء، ثم تتمخض هذه المعركة عن قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتؤدي إلى غضب المسلمين، وإعلان ابن الزبير الخروج على الخليفة، وتستمر العداوة والبغضاء حتى تكون وقعة الحرة، وتتشوه صورة الخليفة في أعين المسلمين ثم يتوفى بعد ذلك بقليل أين غاب حلم معاوية عن ولي عهده؟ أغلب الظن أن الذي ورط يزيد في هذه الأخطاء الشنيعة هو غياب المستشارين الحكماء عن مجلسه وحداثة سنه وقلة خبرته. كما أن يزيد كان يفقد حلم أبيه، وتنقصه قوة إرادته في الحلول السلمية، لقد كانت الكوارث الكبرى في عهد يزيد مقتل الحسين رضي الله عنه، ووقعة الحرّة بالمدينة وحصار مكة لابن الزبير، لقد وصم يزيد عهده بوصمة لن يمحوها ماء البحار، ولن تزيل مرارتها عذوبة الأنهار[13].
إن أهل السنة والجماعة يعتبرون بيعة يزيد صحيحة ولكنهم عابوا عليها أمرين:
1 ـ قالوا إن هذه بدعة جديدة وهي أنه جعل الخلافة في ولده فكأنها صارت وراثة بعد أن كانت شورى وتنصيص على غير القريب، فكيف قريب وابن مباشر، فمن هذا المنطق رُفض المبدأ بغض النظر عن الشخص فهم رفضوا مبدأ أن يكون الأمر وراثة.
2 ـ أنه كان هناك من هم أولى من يزيد بالخلافة كإبن عمر وابن الزبير والحسين وغيرهم هذا من وجهة نظر أهل السنة[14].
أما من وجهة نظر الشيعة فإنهم يرون الإمامة والخلافة في علي وأبنائه فقط، فهم لا يعيبون بيعة يزيد بذاتها وإنما يعيبون كل بيعة لا تكون لعليّ وأولاده، فهم يعيبون بيعة أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية كلها بغض النظر عن المبايع له، لأنهم يرون أنها نص لعليّ وأبنائه إلى أن تقوم الساعة[15]، وقد ناقشت معتقد الشيعة في الإمامة في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبينت بطلانه.






[/align][align=justify][/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 09:06 PM

[align=justify]
المبحث الثاني : خروج الحسين بن علي رضي الله عنه:
أولاً : اسمه ونسبه وشيء من فضائله:
هو أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته ومحبوبه، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاطمة رضي الله عنها، كان مولده سنة أربع للهجرة، ومات ورضي الله عنه قتيلاً شهيداً، في يوم عاشوراء من شهر المحرم سنة إحدى وستين هجرية بكربلاء من أرض العراق فرضي الله عنه وأرضاه[1].
وقد وردت في مناقبه وفضائله أحاديث كثيرة منها:
1 ـ ما رواه أحمد بإسناده إلى يعلي العامري رضي الله عنه أنه خرج مع رسول الله يعني إلى طعام دعوا له قال فاستمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام القوم، وحسين مع غلمان يلعب فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذه فطفق الصبي يفر هنا مرة وهاهنا مرة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضاحكه حتى أخذه قال: فوضع إحدى يديه تحت قفاه الأخرى تحت ذقنه ووضع فاه وقبله وقال: حسين مني وأنا من حسين اللهم أحب من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط[2].
2 ـ ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عمر قد سأله رجل من العراق عن المحرم يقتل الذباب فقال رضي الله عنه: أهل العراق يسألون عن الذباب وقد قتلوا ابن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: هما ريحانتاي من الدنيا[3].
3 ـ وروى أحمد بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة[4]
وغير ذلك من الأحاديث وفي النية أفراد كتاب مستقل عن أبي عبد الله الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما بإذن الله تعالى.

ثانياً : الأسباب التي أدت إلى خروج الحسين والفتوى التي بنى عليها خروجه رضي الله عنه:
كان موقف الحسين من بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض وشاركه في المعارضة عبد الله بن الزبير والسبب في ذلك: حرصهما على مبدأ الشورى وأن يتولى الأمة أصلحها ـ وتلك الممانعة الشديدة من قبل الحسين وابن الزبير، قد عبرت عن نفسها بشكل عملي فيما بعد فالحسين رضي الله عنه كما مر معنا، كان معارضاً للصلح، والذي حمله على قبوله هو متابعة أخيه الحسن بن علي ثم أن الحسين بن علي استمر على صلاته بأهل الكوفة وقد كان يعدهم بالمعارضة ولكن بعد وفاة معاوية، والدليل على ذلك أنه بمجرد وفاة معاوية سارع زعماء الكوفة بالكتابة إلى الحسين، وطلبوا منه المسير إليهم على وجه السرعة[5] ومن الأسباب التي أدت إلى خروج الحسين رضي الله عنه:
1 ـ هو إرادة الله عز وجل وأن ما قدره سيكون وإن أجمع الناس كلهم على رده فسينفذه الله، لا راد لحكمه ولا لقضاءه سبحانه وتعالى[6].
2 ـ قلب الحكم من الشورى إلى الملك الوراثي:
ومن الأسباب: ما كان من عدم التزام معاوية بشروط الحسن في الصلح والتي من ضمنها ما ذكره ابن حجر الهيثمي:.. بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين[7].
ورأى الحسين في محاولة معاوية توريث الحكم من بعده لابنه يزيد مخالفة واضحة لمنهج الإسلام في الحكم، ومع ذلك فإنه لم يهتم بالخروج على معاوية، نظراً لمبايعته له بالخلافة، فظل على عهده والتزامه[8]. ولكن بعد وفاة معاوية تغير الموقف، فالحسين لم يعد في عنقه بيعة توجب عليه السمع والطاعة، ويدل على ذلك محاولة والي المدينة الوليد بن عتبة أخذ البيعة من الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وخروجهما بعد ذلك إلى مكة دون أن يأخذ بيعتهما[9].
إن موقف الحسين وفتواه ضد الحكم الأموي مرت بمرحلتين:
الأولى: مرحلة عدم البيعة ليزيد، وذهابه إلى مكة، وهذه المرحلة أسس فيها الحسين موقفه السياسي من حكم يزيد، بناء على نظرته الشرعية لحكم بني أمية، فهو يرى عدم جواز البيعة ليزيد، وذلك لسببين، فعلى الصعيد الشخصي فإن يزيد لا يصلح خليفة للمسلمين نظراً لانعدام توفر شرط العدالة فيه[10]، كما أن الحسين أفضل وأحق منه بمنصب الخلافة، فهو أكثر منه علماً، وصلاحاً وكفاءة وأكثر قبولاً لدى الناس من يزيد، أما الصعيد السياسي فلانعدام شرط الشورى، والاستئثار بالسلطة للحكم الأموي، والذي يخالف المنهج الإسلامي في الحكم. ولم يغب عن الحسين رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية[11]، ولكن فهمه لهذاالحديث أنه في حق من كان صالحاً للخلافة وأهلاً لها وكان عن شورى المسلمين[12]. وعدم مبايعة الحسين ليزيد كانت تعني عدم إعطاء الشرعية للحكم الأموي وهو أمر كان الأمويين يحرصون عليه أشد الحرص وقد كتب يزيد إلى واليه في المدينة بأخذ البيعة من الحسين وابن عمر وابن الزبير، وأن يأخذهم بالشدة حتى يبايعوا[13]، وفي نفس الوقت فإن عدم البيعة يسهل له حرية العمل السياسي واتخاذ القرار الذي يراه مناسباً لمقاومة الحكم الأموي.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة العمل على مقاومة الحكم الأموي وطرح نفسه بديلاً للسلطة الأموية في دمشق، وهو ما يعبر عنها الفقهاء بالخروج على الإمام. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الحسين قد مكث في مكة بضعة أشهر قبل خروجه إلى العراق فقد قدم إلى مكة في الثالث من شعبان سنة 60هـ للهجرة، وخرج إلى العراق في الثامن من ذي الحجة من نفس السنة[14]. وفي هذه الفترة كان رضي الله عنه يراسل أهل العراق، وتقدم إليه الوفود، حتى رأى أنه لابد من مقاومة الظلم وإزالة المنكر وأن هذا أمر واجب عليه، وكانت شيعته بالعراق على اتصال به وتمت بينهم مراسلات[15]، وقد وصل الحسين بن علي إلى قناعة راسخة وبنى قراره السياسي على فتوى اقتنع بها في مقاومته للحكم الأموي، فهو يرى أن بني أمية لم يلتزموا حدود الله في الحكم، وخالفوا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وبنى الحسين رضي الله عنه فتواه بتسلسل منطقي شرعي، فاستبداد بني أمية، والشك في كفاءة وعدالة يزيد، توجب عدم البيعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على علماء الأمة، ومن أكبر المنكر حكم بني أمية واستبدادهم، وبما أن الحسين ليس في عنقه بيعة، وهو أحد علماء الأمة وسادتها، فهو أحق الناس بتغيير هذا المنكر، وعلى ذلك فليس موقفه خروجاً على الإمام، بل هو تغيير المنكر، ومقاومة للباطل، وإعادة الحكم إلى مساره الإسلامي الصحيح[16]، ومما يدل على حرص الحسين رضي الله عنه على أن تكون فتواه وتحركاته السياسية في مقاومته للحكم الأموي متماشية مع تعاليم الإسلام وقواعده، امتناعه عن البقاء في مكة عندما عزم على مقاومة يزيد حتى لا تستحل حرمتها وتكون مسرحاً للقتال وسفك الدماء، فيقول لابن عباس: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن أقتل بمكة وتستحل بي[17].

ثالثاً: عزم الحسين على الخروج إلى الكوفة ونصائح الصحابة والتابعين ورأيهم في خروج الحسين إلى الكوفة:
1 ـ عزم الحسين على الخروج إلى الكوفة:
بعد توافد الرسائل من زعماء الكوفة على الحسين رضي الله عنه والتي تطلب منه المسارعة في القدوم إليهم، ولما كان العدد مشجعاً أراد أن يطلع على حقيقة الأمر، فبعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليستجلي له حقيقة الخبر، ثم يكتب إليه بواقع الحال، فإن كان ما يقولون حقاً قدم عليهم[18]، خرج مسلم بن عقيل بصحبة عبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي، وقيس بن مسهر الصيداوي، وعمارة بن عبيد السلولي فلما وصل مسلم المدينة أخذ معه دليلين، وفي الطريق إلى الكوفة تاهوا في البرية ومات أحد الدليلين عطشاً، وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه، وذلك بسبب إحساسه النفسي لمدى الصعوبات التي تنتظره في الكوفة، ولكن الحسين رفض طلبه، وأمره بمواصلة المسير نحو الكوفة[19]، ولما وصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة نزل عند المختار بن أبي عبيد[20] في أول قدومه فلما جاء ابن زياد وتولى إمارة الكوفة، وأخذ يشدد على الناس انتقل مسلم عند هانيء بن عروة وذلك خشية انكشاف أمره ثم لمكانة هانيء وأهميته كأحد أعيان الكوفة، ولما بدا الشك يساور ابن زياد من هانيء بن عروة خشي مسلم بن عقيل على نفسه، وانتقل أخيراً ولفترة قصيرة جداً عند مسلم بن عوسجة الأسدي أحد دعاة الشيعة[21]، ولما بلغ أهل الكوفة قدوم مسلم بن عقيل قدموا إليه فبايعه اثنا عشر ألف[22]، وتمت تلك المبايعة بصورة سرية مع تحرص شديد، ولما تأكد لمسلم بن عقيل رغبة أهل الكوفة في الحسين وقدومه إليهم كتب إلى الحسين أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله إن جميع أهل الكوفة معك فأقبل حين تنظر في كتابي[23]، وهنا تأكد للحسين صدق نوايا أهل الكوفة وأنه ليس عليهم إمام كما ذكروا من قبل[24]، فلا بد في هذه الحالة أن يفي لهم بما وعدهم به، حين كتب إلى أهل الكوفة: وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإذا كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأته في كتبكم، أقدم عليكم إن شاء الله[25]، فلما وصل إلى الحسن بن علي كتاب مسلم بن عقيل والذي طلب منه القدوم إلى الكوفة وأن الأمر مهيأ لقدومه تجهز الحسين بن علي وعزم على المضي إلى الكوفى بأهله وخاصته[26].

[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 09:07 PM

2[align=justify]
ـ مواقف الصحابة والتابعين من خروج الحسين:
أ ـ محمد بن الحنفية: لما بلغ محمد بن الحنفية عزم أخيه الحسين على الخروج إلى الكوفة قدم عليه وقال: يا أخي أنت أحب الناس إلي، وأعزهم علي، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك، تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم أبعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لك حمدن الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ويذهب به مروءتك ولا فضلك أني أخاف أن تدخل مصراً من هذه الأمصار وتأتي جماعة من الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك فيقتلون فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً، وأباً، وأماً، أضيعها دماً، وأذلها أهلاً فقال الحسين: فإني ذاهب يا أخي، قال: فانزل مكة فإذا أطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنتظر إلى ما يصير أمر الناس وتعرف عند ذلك الرأي فإنك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حين تستقبل الأمور استقبالاً، ولا تكون الأمور عليك أبداً أشكل منها حين تستدبرها استدباراً قال: يا أخي قد نصحت فأشفقت وأرجوا أن يكون رأيك سديداً[1] وجاء في رواية:.. فإن الحسين حين عزم على الخروج بعث إلى بني عبد المطلب في المدينة يدعوهم للخروج معه، فقدم عليه من خف منهم، وتبعهم محمد بن الحنفية فأدرك الحسين بمكة فأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل في نفسه على أخيه محمد وقال: ترغب بولدك عن موضع أصاب فيه؟ فقال محمد وما حاجتي أن تصاب ويصابون معك، وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم[2].
ب ـ عبد الله بن عباس رضي الله عنه: ولما بلغ خبر عزمه على الخروج إلى ابن عمه عبد الله بن عباس أتاه وقال: يا ابن عم أنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟ قال: قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى، فقال له ابن عباس: أخبرني إن كان عدوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم، قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك. فقال الحسين إني استخير الله وأنظر ما يكون. ولكن ابن عباس أدرك من كلام الحسين واستعداده أنه عازم على الخروج ولكنه يحاول إخفاء الأمر عنه لعلمه بعدم رضاه عن ذلك، لذا جاء ابن عباس إلى الحسين من الغد فقال: يا ابن عم إني أتصبر ولا اصبر، وإني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، أن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصوناً وشعاباً، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب. فقال الحسين: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائراً فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه، إلى أن قال: فوالله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني واقمت لفعلت ذلك[3]. وهكذا نجد أن محاولات ابن عباس لم تجد في إقناع الحسين على الرغم من أنه أظهر له ـ لما علم تصميمه على عدم رضاه بيزيد وضرورة العمل على تغييره ـ أنه لا يقف عند فكرة الحسين تماماً، ولكنه يوضح له عوامل فشل ما هو سائر لتحقيقه، ويطرح له البدائل التي ربما تكون أقرب لتحقيق ما يصبو إليه، وذلك بالانتظار حتى يقوم أهل العراق بالسيطرة التامة على إقليمهم ويحرروه من سلطان بني أمية وهو يدرك أنهم عاجزون عن ذلك فبالتالي هم عاجزون عن حماية الحسين أو أن يذهب إلى اليمن ويعمل بما أرشده إليه فإن عوامل النجاح فيه أكثر وعوامل الفشل فيه أقل من رحيله إلى العراق ولعل ابن عباس قد لا يريد للحسين لا هذا ولا ذاك ولكن أراد تأخير الحسين عن اتخاذ تلك الخطوة السريعة بخروجه إلى العراق والتي لا ينفع معها تدارك الأمر، أما لو اقتنع برأي ابن عباس من الانتظار حتى يتهيأ له الأمر في العراق، أو يعدل عنه إلى اليمن وهذا سيأخذ وقتلاً طويلاً لترتيب الأمور هناك، وبهذا أو ذاك فإنه يمكن أن يكون لعامل الوقت أثر في حل الوضع وإطفاء الفتنة[4] . ويفهم من كلام ابن عباس بأنه لا يخالف الحسين في خروجه على يزيد من الناحية الشرعية، ولكن كان يخالفه من الناحية الاستراتيجية فكان يرى ألا يخرج الحسين للعراق حتى يتأكد من قوة شيعته وأنصاره هناك، وأن الأمويين لم يعد لهم نفوذ، وإلا فإن اليمن بعيدة عن النفوذ الأموي وله فيها أنصار، وبها أماكن كثيرة للتخفي، حتى يتمكن من جمع القوى الكافية لمقاومة الأمويين[5].
ت ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فقد نصح الحسين رضي الله عنه في أكثر من موقف، فحين بلغه خروج ابن الزبير والحسين إلى مكة رافضين بيعة يزيد لقيهما وقال: أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس وتنظران، فإن اجتمع عليه الناس لم تشذا، وإن افترق عليه كان الذي تريدان[6]، ولما قدم المدينة وبلغه خروج الحسين لأهل الكوفة لحقه ابن عمر على مسيرة ليلتين فقال: أين تريد؟ قال: العراق، ومعه طوامير وكتب، فقال: لا تأتهم قال: هذه كتبهم وبيعتهم. فقال: إن الله خير نبيه بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة منه، لا يليها أحد منكم أبداً، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فارجعوا فأبى، فاعتنقه ابن عمر، وقال: استودعك الله من قتيل[7]. وكان ابن عمر يقول بعد ذلك: غلبنا الحسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له ألا يتحرك ما عاش وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير[8].
ج ـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: اتهمته بعض الروايات الضعيفة أنه أحد المتسببين في إقناع الحسين بالخروج إلى الكوفة هو نفسه ثبت عنه بأنه قد أسدى النصائح للحسين، وحذره من مغبة مغادرة مكة والذهاب إلى الكوفة وقد نصح الحسين قائلاً: أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك، فقال له الحسين لإن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تستحل بي ـ يعني مكة[9]...
وقد نظر بعض الصحابة إلى العمل الذي سيقدم عليه الحسين بأنه في حقيقته خروج على الإمام صاحب البيعة، كما نظروا إلى خروج الحسين وما يحمله خروجه على أنه نذر شر وبلاء على الأمة مهما كانت النتائج لأي من الطرفين[10] منهم:
ح ـ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : حيث قال: غلبني الحسين على الخروح وقد قلت له: اتق الله في نفسك والزم بيتك، ولا تخرج على إمامك[11].
خ ـ وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: كلمت حسيناً فقلت له اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض فوالله ما حمدتم ما صنعتم فعصاني[12] ولم تتوقف المحاولات الهادفة بين الحسين وبين خروجه إلى الكوفة فكتب إليه ابن جعفر:
ر ـ عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: كتب إلى الحسين وأرسل كتابه مع ابنيه محمد وعون: أما بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإني مشفق عليك من الوجه التي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك[13]، ولكن الحسين رفض الرجوع وهنا ظن عبد الله بن جعفر أن سبب خروج الحسين هو خوفه من الوالي عمرو بن سعيد بن العاص، فذهب إلى عمرو بن سعيد بن العاص وطلب منه أن يكتب كتاباً إلى الحسين يؤمنه فيه ويعده بالخير، وكان رد عمرو بن سعيد أن قال لعبد الله بن جعفر: اكتب ما شئت وائت به أختمه[14]. فكتب ابن جعفر" بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي، أما بعد، فإني أسأل الله أن يصرفك عما يبوقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قد توجهت إلى العراق، وإني أعيذك بالله من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر، ويحي بن سعيد، فأقبل إليّ معهما، فإن لك عندي الأمان والبر والصلة وحسن الجوار لك، والله بذلك شهيد وكفيل، ومراع ووكيل، والسلام عليك[15]، ولكن الحسين رضي الله عنه رفض هذا الرجاء أيضاً وواصل مسيره.
ز ـ أبو واقد الليثي رضي الله عنه: فقد روي عنه أنّه قال: بلغني خروج الحسين، فأدركته بملل، فناشدته الله ألا يخرج، فإنّه يخرج في غير وجه خروج، إنما يقتل نفسه، فقال: لا أرجع[16].
د ـ عمرة بنت عبد الرحمن: فقد كتبت إليه تعظّم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنّه إنّما يساق إلى مصرعه[17].
ذ ـ أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: يا ابن عَمِّ إن الرحم تظأرُني[18] عليك وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك؟ قال: يا أبا بكر ما أنت ممن يُستغشُّ ولا يُتَّهمُ، فقل. قال: قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم وهم عبيد الدنيا، فيُقاتلك من قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره فأُذكِّرك الله في نفسك. فقال: جزاك الله يا ابن عمِّ خيراً، ومهما يقضي الله من أمر يكن. فقال أبو بكر: إنا لله عند الله نحتسب أبا عبد الله[19].
س ـ عبد الله بن مطيع فقد قال: إني فداك أبي وأمي! متعنا بنفسك، ولا تسر إلى العراق، فوالله لئن قتلك هؤلاء القوم ليتخذنا خولا وعبيداً[20].
ش ـ سعيد بن المسيب: فقد نقل عنه الذهبي أنه قال: لو أن الحسين لم يخرج لكان خيراً له[21].
ك ـ عمرو بن سعيد بن العاص: فقد كتب إليه يقول: إني أسأل الله أن يلهمك رشدك وأن يصرفك كمّا يرديك، بلغني أنك قد اعتزمت على لشخوص إلى العراق، فإني أعيذك بالله من الشّقاق[22].
و ـ الفرزدق: فقد لقيه بالصّفاح[23]، فسأله الحسين عمّا وراءه فقال: أنت أحب النّاس إلى النّاس، والقضاء في السماء، والسيوف مع بني أمية[24]. وفي خبر آخر قال أنّه قال: قلت له: يخذلونك، لا تذهب إليهم فلم يطعني[25].
هذه أقوال الصّحابة والتّابعين في موقفهم من خروج الحسين، وهذه فلسفتهم في هذه القضية، الهامّة، فهم لم يبايعوا يزيد لأنّهم يرونه أفضل من غيره من الصّحابة والتّابعين، ولكنهم فعلوا ذلك درءاً لمفسدة التّفرق والاختلاف بين المسلمين، ودليل ذلك ما رواه خليفة بن خياط وابن سعد، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم، حين استخلف يزيد بن معاوية، فقال: أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد، لا أفقه منها فقهاً، ولا أعظمها فيها شرفاً؟ قلنا. نعم. قال: وأنا أقول ذلك، ولكن ـ والله ـ لأن تجتمع أمة محمد أحب إليَّ من أن تفترق أرأيتم باباً لو دخل فيه أمة محمد وسعهم، أكان يعجز عن رجل واحد لو دخل فيه؟ قلنا: لا. قال: أرأيتم لو أن أمّة محمد قال كل رجل منهم: لا أهريق دم أخي، ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم؟ قلنا: نعم. قال: فذلك ما أقول لكم[26]، ومن الملاحظ إجماع كل من نصح الحسين ـ حتى من لم ير بأساً برفضه البيعة ـ على أن لا يخرج للعراق ولا يثق في أهل الكوفة، فقد كتب إليه المسور بن مخرمة رضي الله عنه بأن لا يغتر بكتب أهل العراق، ونصحه بأن لا يبرح الحرم فإن كانت لهم حاجة فسيضربون إليه آباط الإبل حتى يوافوه فيخرج في قوة وعدة[27]. ومما يلفت الانتباه ـ زيادة على إجماع الناصحين للحسين على خيانة أهل الكوفة ووجوب عدم الثقة بوعودهم ـ كذلك يلفت الانتباه إجماعهم في توقعهم لمقتل الحسين كما يبدو ذلك من أسفهم عليه وكلمات التوديع له. وما ذلك إلا دليل على معرفة أولئك الناصحين من العلماء بالأوضاع، ووعيهم لما سبق من أحداث جرت إبان الفتنة بين علي ومعاوية عرفوا من خلالها الدوافع والأهواء التي تدفع ببعض الأقوام للاستفادة من إثارة الإحن ودوام الفتن[28].
[/align]






ميارى 15 - 5 - 2010 09:09 PM

[align=justify]
رابعاً : موقف يزيد من أحداث الكوفة:
لما تأكد ليزيد تصميم الحسين على الاستجابة لدعوة أهل الكوفة، كتب لإبن عباس لأنه شيخ بني هاشم في عصره وعالم المسلمين قائلاً، ونحسب أن رجالاً أتوه من المشرق فمنّوه الخلافة، فإنهم عندك منهم خبرة وتجربة، فإن كان فعل فقد قطع وشائج القرابة وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة[1] ثم كتب بهذه الأبيات إليه وإلى مكة والمدينة من قريش:
يا أيها الراكب الغادي لطيته
على عُذَاقِرةِ في سيرها قحم
أبلغ قريشاً على نأي المزار بها
بيني وبين حسين الله والرحم
إلى أن قال:



يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت
وأمسكوا بجبال السلم واعتصموا
لا تركبوا البغي إن البغي مصرعه
وإن شارب كأس البغي يتخم
فقد غرّت الحرب من كان قبلكم
من القرون وقد بادت بها الأمم
فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً
قرب ذي بذخ زلت به القدم[2]

فكتب إليه ابن عباس: إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كل ما يجمع الله به الألفة وتطفي بها الثائرة[3].
وفي تلك الأثناء كانت الأحداث تتسارع، وذلك بعدما أخذ الشيعة يختلفون على مسلم بن عقيل ويبايعونه وعندما أحس النعمان بن بشير الأنصاري والي الكوفة بخطورة الوضع قام فخطب في الناس وقال: اتقوا الله عباد الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة فإن فيها يهلك الرجال، وتسفك الدماء وتغصب الأموال وقال: إني لم أقتل من لم يقاتلني ، ولا أثب على من لا يثب علي، لا أشاتمكم ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة والتهمة، ولكن إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل[4].
وأشارت سياسة النعمان بن بشير رضي الله عنه مع أنصار الحسين حفيظة الناصحين للأمويين، وأحد الموالين لهم في الكوفة وهو عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي، حليف بني أمية، فقام إلى النعمان بن بشير وبين له أن طريقته هذه إنما هي طريقة المستضعفين وأنه يجب عليه أن ينهج سياسة البطش والقوة حيال المتربصين بأمن الكوفة، ولكن رد النعمان بن بشير رضي الله عنه كان واضحاً بأنه يراقب الله في سياسته[5]
ولم تعجب يزيد سياسة النعمان فعزله من ولاية الكوفة وعين بدله عبيد الله بن زياد وكتب إليه: إن شيعتي من أهل الكوفة كتبوا إليّ يخبروني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه والسلام[6]، وغادر ابن زياد البصرة بعد أن اتخذ عدة إحتياطات خوفاً من حدوث إضطرابات وأناب عنه أخوه عثمان بن زياد على البصرة[7] ثم خرج من البصرة ومعه وجوه أهل البصرة أمثال مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته[8]. وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ودخلها متلثماً والناس قد بلغهم إقبال الحسين إليهم، فهم ينظرون قدومه، فظنوا حين قدم عبيد الله أنه الحسين بن علي، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول الله، قدمت خير مقدم، فلما أكثروا عليه صاح فيهم مسلم بن عمرو وقال: تأخروا هذا الأمير عبيد الله بن زياد فلما نزل في القصر نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس فخرج إليهم ثم خطبهم ووعد من أطاع منهم خيراً وتوعد من خالف وحاول الفتنة منهم شراً[9].

خامساً : عبيد الله بن زياد وخطواته للقضاء على مسلم بن عقيل وأنصاره:
1 ـ اختراق تنظيم مسلم بن عقيل:
حرص عبيد الله بن زياد على جمع المعلومات بواسطة جواسيسه على الفئات المعارضة واستطاع أن يخترق أتباع مسلم بن عقيل وقد كلّف أحد رجاله بهذه المهمة فأعطاه مبلغاً من المال وكان الرجل من أهل الشام يقال له معقلاً وكان مقدار المبلغ ثلاثة آلاف درهم وقال: خذ هذا المال، وانطلق فالتمس مسلم بن عقيل، وتأتّ له بغاية التأتي[10]، فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، ثم نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد، فجلس الرجل حتى إذا انفتل[11] من صلاته، فدنا منه وجلس، فقال: جعلت فداك إني رجل من أهل الشام مولى لذي الكلاع، وقد أنعم الله علي بحب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب من أحبهم، ومعي هذه الثلاثة الآلاف درهم، أحب إيصالها إلى رجل منهم، بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين بن علي، فهل تدلني عليه لأُوصل هذا المال إليه؟ ليستعين به على بعض أموره ويضعه حيث أحب من شيعته قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممن هو في المسجد قال: لأني رأيت عليك سيما[12] الخير فرجوت أن تكون ممن يتولى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له الرجل: ويحك قد وقعت عليّ بعينك، أنا رجل من إخوانك، واسمي مسلم بن عوسجة، وقد سُرِرت بك وساءني ما كان من حسي قبلك فإني رجل من شيعة أهل هذا البيت، خوفاً من هذا الطاغية ابن زياد، فأعطني ذمة الله وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس فأعطاه من ذلك ما أراد، واستطاع الشامي في نهاية المطاف الوصول إلى مسلم بن عقيل، فكان يغدو إلى مسلم بن عقيل فلا يحجب[13] عنه، فيكون نهاره كله عنده فيتعرّف جميع أخبارهم، فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيد الله بن زياد، فأخبره بجميع قصصهم، وما قالوا وما فعلوا في ذلك، وأعلمه نزول مسلم بن عقيل في دار هاني بن عروة[14]. وهكذا استطاع ابن زياد أن يعرف أخبار مسلم بن عقيل وتحركاته[15].

2 ـ سجن هانيء بن عروة:
كان محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة يدخلون على ابن زياد مُسَلّمين، فقال لهما: ما فعل هانيء بن عروة؟ فقالا أيها الأمير، إنه عليل[16] منذ أيام فقال ابن زياد: وكيف. بلغني أنه يجلس على باب داره عامّة نهاره، فما يمنعه من إتياننا وما يجب عليه في حق التسليم؟ قالا: سنعلمه ذلك، ونخبره باستبطائك إياه فخرجا من عنده، وأقبلا حتى دخل على هانيء بن عُروة، فأخبراه بما قال لهما ابن زياد، وما قالا له، ثم قالا له: اقسمنا عليك إلاّ قمت معنا إليه الساعة لَتُسلُ سخيمة[17] قلبه. فدعا ببغلته فركبها ومضى معهما، حتى إذا دنا من قصر الإمارة خبُثت[18] نفسه فقال لهما: إن قلبي قد أوجس[19] من هذا الرجل خيفة. قالا: ولم تحدث نفسك بالخوف وأنت بريء الساحة؟
فمضى معهما حتى دخلوا على ابن زياد، فأنشأ ابن زياد يقول متمثلاً:
أريد حياته ويريد قتلي
عَذِيرَك من خَلِلِكَ من مراد

قال: هانيء وما ذاك أيها الأمير؟
قال ابن زياد: وما يكون أعظم من مجيئك بمسلم بن عقيل وإدخالك إياه منزلك، وجمعك له الرجال ليبايعوه؟ فقال هانيء: ما فعلت وما أعرف من هذا شيئاً فدعا ابن زياد بالشامي، وقال: يا غلام، ادع لي معقلاً. فدخل عليهم. فقال: ابن زياد لهانيء بن عروة: أتعرف هذا؟ فلما رآه علم أنه إنما كان عيناً عليهم. فقال هانيء: أصدُقُك والله أيها الأمير، وإني والله ما دعوت مسلم بن عقيل وما شعرت به، ثم قصّ عليه قصّته على وجهها. ثم قال: فأمّا الآن فأنا مخرجه من داري لينطلق حيث يشاء، وأعطيك عهد وثيقاً أن أرجع إليك. قال ابن زياد" لا والله لا تفارقني حتى تأتيني به. فقال هانيء: أو يجمل بي أن أسلم ضيفي وجاري للقتل والله لا أفعل ذلك أبداً. فاعترضه ابن زياد بالخيزرانة، فضرب وجهه، وهشم[20] أنفه،، وكسر حاجبه، وأمر به فأدخل بيتاً[21]. فبلغ الخبر عمرو بن الحجاج الزبيدي أن هانئاً قد قتل، فأقبل في قبيلة مذجح، وأحاط بالقصر، ونادى بأنه لم يخلع الطاعة، وإنما أراد الاطمئنان إلى سلامة هانيء، فأمر ابن زياد القاضي شريح بأن يدخل على هانيء، وينظر إليه ويخبرهم أنه حي. ففعل[22]. فقال لهم سيدهم عمروبن الحجّاج: أما إذا كان صاحبكم حياً فما يعجلكم الفتنة؟ انصرفوا فانصرف.
3 ـ استخدام ابن زياد للأشراف للقضاء على تمرد الكوفة:
لما بلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب وجه هانيء بن عروة، أمر أن ينادي في أصحابه الذين بايعوه، واستخدم كلمة السر وهي: يا منصور أمت، فتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه وكان عدد الذين حصروا أربعة آلاف رجل[23]، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كنده وربيعة، وأمره أن يسير أمامه بالخيل، ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذجح وأسد وأمّره على الرجّالة، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة، ثم قدم نحو القصر، ولما بلغ ابن زياد إقباله تحرّز وتمنّع بالقصر[24]، وكان ابن زياد يملك قدراً كبيراً من الدهاء والمكر والخداع، حيث أنه بمجرد دخوله القصر جمع وجوه الكوفة واحتفظ بهم عنده حتى يكونوا وسيلة ضغط مهمة عنده ستثمر عن نتائج إيجابية جداً لصالح ابن زياد[25]. وتقدم مسلم بهذه الجموع، صوب قصر الإمارة التي يتحصن بها ابن زياد، وهنا طلب ابن زياد من أشراف الناس وزعماء الكوفة الذين معه أن يعظوا الناس ويخذلوهم ويخوفونهم بقرب أهل الشام وصار هؤلاء الأمراء والزعماء يثبطون الناس، ويذكرونهم بالسلامة والأمن، وأنهم إن لم ينصرفوا سيحرمون من العطاء، وسيساقون إلى الثغور وسينالهم العقاب الشديد[26]، ولم يكن التثبيط مقصوراً على الأمراء فقط، بل إن النساء كان لهن دوراً كبيراً في إضعاف عزيمة المناصرين لمسلم، إضافة إلى الآباء وكبار السن فقد كان لهم نفس الدور. وكانت المرأة تأتي أبنها وأخاها وتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر انصرف[27]. وأخذت هذه الحرب النفسية التي جوبه بها المؤيدون لمسلم بن عقيل من التهويل والتخويف تعمل عملها بين صفوف الناس، فبدأوا ينصرفون عن مسلم بن عقيل وأخذ العدد يتضاءل سريعاً حتى أنه لما قرب المساء لم يبقى مع مسلم بن عقيل إلا عدداً بسيطاً يتراوح بين الثلاثمائة والخمسمائة رجل[28]، وكان غالبية الذين بقوا مع مسلم بن عقيل من مذجح فأمر ابن زياد، عبيد الله بن كثير بن شهاب الحارثي أن يخرج فيمن أطاعه من مذجح ويسير بالكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم بالحرب وعقوبة السلطان[29]، ثم أمر ابن زياد محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كنده وحضرموت ويرفع راية الأمان لمن يأته من الناس وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبت بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وأبقى سائر وجوه الناس معه[30] وأمام هذه الإجراءات السريعة من ابن زياد، وأمام الشد النفسي الذي نازع غالبية من انضموا إلى مسلم بن عقيل أخذ هذا العدد يتضاءل حتى وصل إلى ستين رجلاً[31]، ثم حدثت معركة بين مسلم وأتباعه وبين ابن الأشعث، والقعقاع بن شور، وثبت بن ربعي عند الرحبة، ويبدو أن هذه المعركة لم تدم طويلاً عندما تنبه القعقاع بن شور إلى أن المقاتلين إنما يقاتلون لأجل النجاة، عند ذلك أمر بإفساح الطريق لهم، فهربوا نحو المسجد، ولما أمسى المساء تفرق الناس، وبقي مسلم بن عقيل وحيداً في طرقات الكوفة[32].
4 ـ القبض على مسلم بن عقيل وقتله:
أصبح مسلم بن عقيل وحيداً يتردد في طرق الكوفة، فأتى بيتاً فخرجت إليه امرأة، فقال: اسقني، فسقته، ثم دخلت، ومكثت ما شاء الله، ثم خرجت، فإذا به على الباب، فقالت: ياهذا، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم، فقال: أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوىً؟ قالت: نعم فادخلته، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فانطلق إلى مولاه فأعلمه، فبعث عبيد الله الشُّرَط إلى مسلم، فخرج وسل سيفه، وقاتل فأعطاه ابن الأشعث أمانً فسلمّ نفسه[33]، وفي الطريق نحو ابن زياد بكى مسلم فقيل له: إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك. قال: إني والله ما لنفسي أبكي ومالها من القتل أرثي وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي حسيناً وآل الحسين. وأقبل مسلم على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلاً على لساني يبلغ حسيناً عني رسالة؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم أو غداً هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول: إن ابن عقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني وليس لكاذب رأي. فقال محمد بن الأشعث: والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك ودعا ابن الأشعث إياس بن العباس الطائي، وقال له: اذهب فالق حسيناً فأبلغه هذا الكتاب، ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام بأهله وداره[34]، وأدخل محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل على ابن زياد، وأخبره بما أعطاه من الأمان، فقال ابن زياد: ما بعثناك لتؤمنه ولم يقبل أمانه[35]، واستسقى مسلم وهو بباب القصر، فجاءه عمار بن عقبة بماء بارد، ولكنه لم يستطع أن يشرب لما كان يختلط به من دمه فتركه ودخل على بن زياد فقال له: إني قاتلك. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: أوصي: فنظر مسلم في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: عمر، إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر، فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك، فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد، فقام فتنحى قريباً من ابن زياد، فقال له مسلم: إن علي ديناً في الكوفة سبعمائة درهم، فأقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين، فإني كنت قد كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلاً, فقام عمر، فعرض على ابن زياد ما قال له: فأجاز ذلك كله، وقال: أما حسين فإنه لم يردنا ولا نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل، فأصعد إلى أعلى القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ويقول: اللهمّ أحكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا، ثم ضرب عنقه رجل يقال له: بكير بن حمران ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده[36].
5 ـ قتل هانيء بن عروة:
واتخذ ابن زياد إجراءً يدل على قسوته وجبروته وظلمه، فقد أمر بهانيء فأخرج إلى السوق وقتل وظل هانيء يصيح لقبيلته مذحج ولكن لم ينصره أحد، ثم صلب هانيء ومسلم في سوق أمام الناس[37]، ثم أمر بضرب أعناق اثنين من الذين كانوا يخططون لنصر مسلم بن عقيل وصلبهما في السوق أيضاً[38]. وكان في وسع ابن زياد أن يرسل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة إلى الخليفة بدمشق، وربما يسجنون أو يعفى عنهم فيما بعد بدلاً من أراقة الدماء وإيجاد الإحن والعداوات بين المسلمين. وقد برهن ابن زياد على بطش الدولة وعسفها وأنها لا تبالي إلا بالحفاظ على سلطانها مهما كلفها ذلك من سفك الدماء ويبدو أن مسلماً ـ رحمه الله ـ لم يكن بالسياسي المحنك الذي ينظر للمستقبل بحذر، ويزن الأمور بميزان الوقائع السابقة ويقيس الأحداث القائمة على نظيراتها الماضية لهذا غرّه تكاثر المبايعين، وبكاؤهم بين يديه ووعودهم الموثقة بنصرة الحسين فأسرع وكتب إلى الحسين يستقدمه، ويحثه على سرعة الحضور فقد تمهدت له البيعة والحضور[39]. فالعواطف وحدها لتكفي في قلب الأنظمة وإزالة الدول، فلا بد من القيادة الراشدة، والتنظيم المحكم، والتخطيط البعيد، وتوثيق الأفراد، والأعداد المعنوي والمادي معاً جنباً إلى جنب، ونستطيع أن نقول بأن ما اعتمد عليه مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة من حسابات كانت خاطئة وغير صحيحة، فقد ظن مسلم بن عقيل إن العاطفة المحركة لكثير من العامة هي السبيل الوحيد للنصر ولم يأخذ في الاعتبار تأييد زعماء الكوفة أو الاتصال بهم، ولم يحاول مسلم بن عقيل أن ينظم تلك الجموع، وفق اختصاصات معينة تسيطر عليها منظمة سرية تستطيع أن تتحرك في الخفاء وبدون قيود، كما أنه أخفق في توظيف الإمكانات التي توفرت له، حيث أن العاطفة المسيطرة على المجتمع الكوفي كفيلة بأن تقلب الأمور لصالحه وذلك بعد إرادة الله، فيما لو استخدمت وأرشدت تلك العاطفة إرشاداً صحيحاً مميزاً، ونجد الطرف الآخر النصير وهو هانيء بن عروة والذي يعتبر من أبرز الناس الذين أيدوا مسلماً وناصروه اعتمد على قوة وكثرة قبيلته، وظن أنه بمنأى عن العقاب وذلك باعتباره زعيماً لمراد التي ذكر المؤرخون أنه كان يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا انضاف لهذه القبيلة أحلافها من كندة بلغ العدد ثلاثين ألف دارع، سوى الرجالة[40]، ولكن حسابات هانيء بن عروة كانت خاسرة، فالناس قد ضعفت بينهم الروابط القديمة التي تعتبر فيها القبيلة محور الارتكاز، وزعيم القبيلة هو القائد المهيمن الذي ينصاع لأوامره الجميع بدون تردد وكان لتقسيمات الأرباع في ولاية زياد بن أبيه أثر في هذا الضعف، كما أن نظام العطاء ربط مصالح القبائل بالسلطة الأموية، لقد كانت الحسابات التي ارتكز عليها هانيء والتي اعتمد فيها على القبيلة قد أثبتت خسارتها[41]، وممّا قيل من الشعر في مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة:
فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري
إلى هانيء في السُّوقِ وابن عقيل
أصابهما أمـر الإمــام فأصـبحا
أحاديث من يسعى بكل سبيل
إلى بطل قـد هَشَّم السـيف وجهه
وآخر يَهـوِي من طمار[42] قتيل
ترى جسداً قـد غيَّر المـوت لـونه
ونضح دمٍ قد سال كلَّ مَسيلٍ
فـإن أنتم لـم تثـأَروا بأخيـكم
فكونوا بغيـا أُرضيت بقليل[43]

[/align]
[43]

ميارى 15 - 5 - 2010 09:19 PM

[align=justify]سادساً : وصول خبر مقتل مسلم بن عقيل للحسين ، وملاقاته طلائع جيش بن زياد :
خرج الحسين رضي الله عنه من مكة يوم التروية الموافق لثمان من ذي الحجة سنة ستين، أدرك والي مكة عمرو بن سعيد بن العاص خطورة الموقف فأرسل وفداً إلى الحسين وعلى رأسهم أخوه يحي بن سعيد بن العاص فحاولوا أن يثنوه عن عزمه ولكنه رفض فنادوه: يا حسين، ألا تتقي الله تخرج عن جماعة المسلمين وتفرق بين هذه الأمة، فردَّ الحسين قول الله تعالى: ((لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ((يونس ، الآية : 41). فخرج الحسين متوجهاً إلى العراق في أهل بيته وستين شيخاً من أهل الكوفة[1]. وكتب مروان بن الحكم إلى ابن زياد: أما بعد فإن الحسين بن علي قد توجه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، وإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء ولا ينساه العامة، ولا يدع ذكره، والسلام عليك[2]، وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص ينهاه عن التعرض للحسين ويأمره بأن يكون حذراً في تعامله مع الحسين: قائلاً له: أما بعد فقد توجه إليك الحسين وفي مثلها تعتق أو تعود عبداً تسترق كما يسترق العبيد[3]. وفي الطريق إلى الكوفة قابل الحسين الفرزدق الشاعر المشهور بذات عرق[4]. فسأله الحسين بن علي عن تصوره لما يقوم به أهل الكوفة حياله، ثم أراد أن يعطي الفرزدق إيضاحاً أكثر وقال: هذه كتبهم معي، فرد عليه الفرزدق: يخذلونك فلا تذهب فإنك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك[5]. وعندما علم يزيد بن معاوية بخروج الحسين من مكة واتجاهه للكوفة، كتب إلى ابن زياد يحذره ويقول: بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة وقد ابتلى به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلاد وابتليت به من بين العمال وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تعتبد العبيد[6].
1 ـ ابن زياد يتخذ التدابير الأمنية:
اتخذ ابن زياد بعض التدابير لكي يحول بين أهل الكوفة وبين الحسين، ويحكم سيطرته على الكوفة، فقام بجمع المقاتلة وفرق عليهم العطاء حتى يضمن ولاءهم[7]. ثم بعث الحصين بن تميم الطهوي صاحب شرطته حتى نزل بالقادسية، وقام بتنظيم الخيل ما بين القادسية إلى خفضان[8]، وما بين القادسية إلى القطقطان[9]، وإلى لعلع[10]. ثم أصدر أوامره إلى الحسين بن تيم بأن يقبض على كل من ينكره[11]، ثم أمر ابن زياد بأخذ كل من يجتاز بين واقصة[12] إلى طريق الشام ، إلى طريق البصرة فلا يترك أحد يلج ولا يخرج[13]، وأراد ابن زياد من الإجراء الأخير قطع الاتصال بين أهل الكوفة وبين الحسين بن علي ومضى الحسين بن علي في طريقه إلى الكوفة ولم يكن يعلم بتلك التغيرات التي حدثت في الكوفة بعد خروجه من مكة ولما بلغ الحاجز من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة وكتب معه إليهم برسالة يخبرهم فيها بقدومه[14] ولكن الحصين بن تميم قبض على قيس بن مسهر مبعوث الحسين حين وصوله إلى القادسية[15]. ثم بعث به إلى ابن زياد فقتله مباشرة[16]. ثم بعث الحسين مبعوثاً إلى مسلم فوقع في يد الحصين بن تميم وبعث به إلى ابن زياد فقتله[17]، وكانت لتلك الإجراءات الصارمة التي اتخذها ابن زياد أثر كبير على نفوس أتباع الحسين، فهم يرون أن من كان له علاقة بالحسين فإن مصيره القتل وعلى أبشع صوره، فأصبح من يفكر في نصرة الحسين فإن عليه أن يتصور نهايته على ذلك النحو المؤلم[18]، وكان الحسين رضي الله عنه يحس أن الأمور تسير سيراً غير طبيعي في الكوفة وخاصة عندما أخبره الأعراب أن أحداً لا يلج ولا يخرج من الكوفة مطلقاً[19]. واستمر التحذير من بعض رجال القبائل العربية الذين مرّ بهم، وبينوا له ذلك الخطر الذي يقدم عليه، ولكن الحسين كان يدلل على نجاح مهمته بالإشارة إلى ذلك العدد الهائل من أسماء المبايعين التي كانت بحوزته[20]، ولما بلغ الحسين زبالة[21]، وقيل شراف[22] جاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وعبد الله بن بقطر، إضافة إلى تخاذل أهل الكوفة عن نصرته[23]. وكان لهذا الخبر المفجع المؤلم وقعه الشديد على الحسين رضي الله عنه، فهؤلاء أقرب الناس إليه قد قتلوا والشيعة في الكوفة تخاذلوا في نصرته[24].
2 ـ الحسين يعطي الأذن لأصحابه بالإنصراف:
لما بلغ الحسين مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه أعلم الحسين من معه بذلك، وقال من أحب أن ينصرف فلينصرف فتفرق الناس عنه يميناً وشمالاً[25]، وقال له بعض من ثبتوا معه: ننشدك الله إلا ما رجعت من مكانك، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك. فوثب بنو عقيل إخوة مسلم ـ وقالوا: والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم[26].
3 ـ ملاقاة الحر بن يزيد التميمي ومعه طلائع جيش الكوفة:
انصرف الناس عن الحسين ـ رضي الله عنه ـ فلم يبق معه إلا الذين خرجوا معه من مكة، واستمر في سيره حتى بلغ شراف وهناك أمر فتيانه أن يستقوا ويكثروا، ثم سار حتى إذا كان منتصف النهار كبَّر رجل من أصحابه، فقال الحسين: الله أكبر ما كبّرت؟ قال الرجل رأيت النخل، فقال رجلان، إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط فقال الحسين: فما تريانه رأى؟ قالا: نراه رأى هوادي الخيل فقال الرجل وأنا والله أرى ذلك[27]... وبالفعل كانت طلائع خيل ابن زياد عليها الحر بن يزيد وكان عددها ألف فارس وقد أدرك الحر بن يزيد الحسين ومن معه قريباً من شراف. ولما طلب منه الحسين الرجوع منعه وذكر له أنه مأمور بملازمته حتى الكوفة وقام الحسين وأخرج خرجين مملوءة بالكتب التي تطلب منه القدوم إلى الكوفة، فأنكر الحر والذين معه أي علاقة لهم بهذه الكتب[28]، وهنا رفض الحسين الذهاب مع الحر إلى الكوفة وأصر على ذلك.، فاقترح عليه الحر أن يسلك طريقاً يجنبه الكوفة ولا يرجعه إلى المدينة، وذلك من أجل أن يكتب الحر إلى ابن زياد بأمره، وأن يكتب الحسين إلى يزيد بأمره[29]. وبالفعل تياسر الحسين عن طريق العذيب والقادسية واتجه شمالاً على طريق الشام[30]. وأخذ الحر يساير الحسين وينصحه بعدم المقاتلة ويذكّره بالله، وبيّن له أنه إذا قاتل فسوف يقتل[31]، وكان الحسين يصلي بالفريقين إذا حضرت الصلاة[32].
4 ـ ملاقاة عمر بن سعد بن أبي وقاص والمفاوضات:
ولما وصل الحسين إلى كربلاء أدركته خيل عمر بن سعد ومعه شمر بن ذي الجوشن، والحصين بن تميم[33]، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكوناً من أربعة آلاف مقاتل وكان وجهة هذا الجيش في الأصل إلى الري لجهاد الديلم، فلما طلب منه ابن زياد أن يذهب لمقاتلة الحسين رفض عمر بن سعد في البداية هذا الطلب، ولكن ابن زياد هدده إن لم ينفذ أمره بالعزل وهدم داره وقتله، وأمام هذا الخيار رضي بالموافقة[34].
ولما وصل الحسين كربلاء أحاطت به الخيل، ويطلق على المنطقة كلها اسم الطف[35]. وبدأ الحسين بن علي بالتفاوض مع عمر بن سعد، وبيّن الحسين أنه لم يأت إلى الكوفة إلا بطلب من أهلها. وأبرز لعمر بن سعد الدليل على ذلك، واشار إلى حقيبتين كبيرتين تضمن أسماء المبايعين والداعين للحسين، وكتب عمر بن سعد لابن زياد بما سمعه من الحسين وقال: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عما اقدمه وماذا يطلب، فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذا كرهوني، فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم. فلما قريء على ابن زياد تمثل قول الشاعر:
الآن إذا علقت مخالبنا به
يرجو النجاة ولاة حين مناص

ثم كتب ابن زياد لعمر بن سعد: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية وجميع أصحابه فإذا فعل ذلك رأينا رأينا والسلام. ولما اطلع عمر بن سعد على جواب بن زياد ساءه ما يحمله الجواب من تعنت وصلف، وعرف أن ابن زياد لا يريد السلامة[36]. رفض الحسين هذا العرض، ثم لما رأى جهامة الموقف وخطورته طلب من عمر بن سعد مقابلته[37]، وعرض على عمر بن سعد عرضاً آخر يتمثل في إجابته واحدة من ثلاث نقاط[38].
أ ـ أن يتركوه فيرجع من حيث أتى.
ب ـ وإما أن يتركوه ليذهب إلى الشام فيضع يده في يد يزيد بن معاوية.
جـ ـ وإما أن يسيّروه إلى أي ثغر من ثغور المسلمين فيكون واحداً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم[39]. وقد أكد الحسين رضي الله عنه موافقته للذهاب إلى يزيد[40]. وكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بكتاب أظهر فيه أن هذا الموقف المتأزم قد حُلّ، وأن السلام قد أوشك، وما على ابن زياد إلا الموافقة[41]. وبالفعل فقد أوشك ابن زياد أن يوافق ويرسله إلى يزيد، لولا تدخل شمر بن ذي الجوشن الذي كان جالساً في المجلس حين وصول الرسالة فقد اعترض على رأي ابن زياد في أن يرسله إلى يزيد، وبيّن لابن زياد أن الأمر الصائب هو أن يطلب من الحسين أن ينزل على حكمه ـ أي ابن زياد ـ حتى يكون هو صاحب الأمر المتحكم فيه[42]. فلما وصل الخبر إلى الحسين رضي الله عنه رفض الطلب وقال: لا والله لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبداً[43]، وقال لأصحابه الذين معه أنتم في حل من طاعتي، ولكنهم أصرّوا على مصاحبته والمقاتلة معه حتى الشهادة[44]، واتخذ ابن زياد إجراءً احترازياً حين خرج إلى النخيلة[45]، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث، وضبط الجسر، ولم يترك أحداً يجوزه، وخاصة أنه علم أن بعض الأشخاص من الكوفة بدأوا يتسللون من الكوفة إلى الحسين[46].
[/align]




ميارى 15 - 5 - 2010 09:21 PM

[align=justify]سابعاً : المعركة الفاصلة استشهاد الحسين رضي الله عنه ومن معه:
في صباح يوم الجمعة عام 61هـ نظم الحسين رضي الله عنه أصحابه وعزم على القتال وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنته وحبيب بن مظاهر في الميسرة، وأعطى رايته العباس بن علي، وجعل البيوت وراء ظهورهم، وأمر الحسن بحطب وقصب فجعله من وراء البيوت، وأشعل فيه النار مخافة أن يأتوهم من خلفهم[1]. وأما عمر بن سعد فقد نظم جيشه، وجعل على الميمنة عمرو بن الحجاج الزبيدي ـ بدلاً من الحر بن يزيد الذي انضم إلى الحسين. وجعل على الميسرة شمر بن ذي الجوشن ـ وعلى الخيل عزره بن قيس الأحمسي وعلى الرجال شبت بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويداً مولاه[2]. وبدأت المعركة سريعة وكانت مبارزة في بداية الأمر، وجوبه جيش عمر بن سعد بمقاومة شديدة من قبل أصحاب الحسين، حيث أن مقاتلتهم اتسمت بالفدائية فلم يعد لهم أمل في الحياة[3]، وكان الحسين رضي الله عنه في البداية لم يشترك في القتال، وكان أصحابه يدافعون عنه ولما قتل أصحابه لم يجرؤ أحد على قتله، وكان جيش عمر بن سعد يتدافعون ويخشى كل فرد أن يبوء بقتله وتمنوا أن يستسلم، ولكن الحسين رضي الله عنه لم يبد شيئاً من الليونة، بل كان رضي الله عنه يقاتلهم بشجاعة نادرة، عندئذ خشى شمر بن ذي الجوشن من انفلات زمام الأمور فصاح بالجند وأمرهم بقتله، فحملوا عليه، وضربه زرعة بن شريك التميمي ثم طعنه سنان بن أنس النخعي واحتز رأسه[4]، ويقال أن الذي قتله عمرو بن بطار التغلبي، وزيد بن رقاده الحيني[5]، ويقال أن المتولي لإجهاز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبي، وحمل رأسه إلى ابن زياد خولي بن يزيد الأصبحي[6]، وكان قتله رضي الله عنه في محرم في العاشر منه سنة إحدى وستين[7]. وقتل مع الحسين رضي الله عنه اثنان وسبعون رجلاً، وقتل من أصحاب عمر ثمان وثمانيون رجلاً[8]، وبعد إنتهاء المعركة أمر عمر بن سعد بأن لا يدخل أحد على نساء الحسين وصبيانه، وأن لا يتعرض لهم أحد بسوء[9]، وأرسل عمر بن سعد برأس الحسين ونساءه ومن كان معه الصبيان إلى ابن زياد[10].
وكان الذين قتلوا مع الحسين رضي الله عنه من آل أبي طالب، فمن أولاد علي بن أبي طالب الحسين نفسه، وجعفر والعباس وأبو بكر ومحمد وعثمان، ومن أولاد الحسين: علي الأكبر غير عليّ زين العابدين لأنه كان عنده علي الأصغر وعلي الأكبر وعبد الله. ومن أبناء ابناء الحسن قتل عبد الله والقاسم وأبو بكر. ومن أولاد عقيل قتل جعفر وعبد الله وعبد الرحمن ومسلم بن عقيل قتل بالكوفة وعبد الله بن مسلم. ومن أولاد عبد الله بن جعفر: قتل عون ومحمد[11]، ثمانية عشر رجلاً كلهم من بيت رسول الله قد قتلوا في هذه المعركة غير المتكافئة، والعجيب في هذه أن ممن قتل بين يدي الحسين بن علي رضي الله عنهما أبو بكر بن علي وعثمان بن علي وأبو بكر بن الحسن ولا تجد لهم ذكراً عندما تسمع أشرطة الشيعة وتقرأ كتبهم التي أُلفت في مقتل الحسين حتى لا يقال إن علي بن أبي طالب سمي أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان، أو أن الحسن سمي على اسم أبي بكر وهذا أمر عجيب جداً منهم[12]. وعن أنس قال: ولما أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكث بالقضيب ثناياه يقول: لقد كان ـ أحسبه جميلاً. فقلت والله لأَسوءنَّك إني رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم[13] حيث يقع قضيبك. قال: فانقبض[14]. وفي رواية البخاري عن أنس قال: أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعله في طست، فجعل ينكث عليه وقال في حسنه شيئاً فقال أنس: إنه كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوباً بالوسمة[15].ولما وصل نساء الحسين وصبيانه صنع بهما ابن زياد أن أمر لهم بمنزل في مكان معتزل فأجرى عليهم الرزق، وأمر لهن بالكسوة والنفقة[16]. وتذكر بعض الروايات التي لها ميول شيعية أن ابن زياد أمر بقتل كل من أنبت، ولعل مما يظهر كذب هذه الروايات حينما تذكر أن علي بن الحسين كشفوا عنه فوجوده قد أنبت، فأمر ابن زياد بقتله ولكن شفاعة أخته زينب وتعلقها به حالت دون قتله[17]، وليس صحيحاً كذلك أن ابن زياد قد أساء معاملة نساء الحسين بعد قتله، أو في ترحيله لهن إلى الشام، فالروايات التاريخية تخبرنا أن أحسن شيء صنعه ابن زياد أنه أمر لهن بمنزل في مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقاً، وأمر لهن بنفقة وكسوة[18]، ويقول ابن تيمية في رده على بعض كذابي الشيعة: وأما ما ذكره من سبي نسائه والدوران بهن على البلدان وحملهن على الجمال بغير أقتاب، فهذا كذب، وباطل وماسبى المسلمون ـ ولله الحمد ـ هاشمية قط، ولا استحلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هاشمية قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيراً[19]. بل المرجح أن ابن زياد بعد أن ذهبت عنه نشوة النصر، أحس فداحة خطئه وكان ذلك الشعور هو المسيطر على بعض أفراد أسرته القريبين منه، فقد كانت أمه تقول له: ويلك ماذا صنعت، أو ماذا ركبت[20]. وكان أخوه عثمان بن زياد يقول: لوددت والله أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأن حسيناً لم يقتل: فلا ينكر عليه عبيد الله قوله[21].

ثامناً : مواقف رائعة بجانب الحسين رضي الله عنه:
كانت هناك مواقف رائعة هزت مشاعرنا وقد سطر التاريخ هذه المواقف لأصحابها لكي يتبين للناس أن في كل زمان شخصيات تقف إلى جوار الرجال تقديراً لمقامهم، ورعاية لحرمتهم، وإظهاراً للحق في مقارنة الرجال إذا واجه بعضهم بعضاً، فهم يقدرون الرجال لمكانتهم الاجتماعية ويفضلونهم على غيرهم، لما يتصفون به من العلم والشجاعة والتقوى ولو كان غيرهم هم الحكام والأمراء، فلا الخوف من الحاكم ينسيهم قدر الرجال، ولا ظلم الحكام ينحرف بهم إلى النفاق والمجاملة، ولا المناصب التي يشغلونها تلهيهم عما يجب أن يكونوا عليه من الصراحة والشجاعة الأدبية[22] ومن هذه المواقف:
1 ـ موقف الوليد بن عتبة بن أبي سفيان رحمه الله:
فقد امتنع عن استخدام الشدة والقسوة مع الحسين والزامه بالقوة أو قتله وقال:... والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسيناً سبحان الله، أقتل حسيناً أن قال: لا أبايع والله إني لأظن أمراً يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة[23]. وهكذا يقف الوليد هذا الموقف الرائع، وهو أمير المدينة يومئذ، وهو يعلم تماماً أن ذلك الموقف سيؤدي لا محالة إلى عزله عن إمارة المدينة، بل قد يزيد على ذلك، فيؤدي إلى قتله وهلاكه، وهو مع هذا يفضل هلاك الدنيا وزوال الملك والسلطان، على أن يلقى الله بدم الحسين[24] ـ رضي الله عنه ـ:
2 ـ موقف النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ : وكان أمير الكوفة فإنه بلغه خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما ـ ووصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة يأخذ البيعة للحسين، قام فخطب في الناس وحذرهم الخروج على الإمام وأرهبهم من السعي في الفتنة، وذكرهم بما يجره على العامة والخاصة من الخراب والدمار ومع ذلك كان ليناً مع الناس، وأخبرهم أنه لن يأخذ أحداً بظنه، ولن يقاتل أحداً لم يقاتله، ولكن شدد في نهاية الخطبة، وقال للناس: ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره، لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر ومع هذا فقد عاب عليه محبو الأمويين هذا الموقف ووسموه بالضعف، وقالوا: إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين فقال: رضي الله عنه: أن أكون من المستضعفين في طاعة الله، أحب إلي من أن أكون من الأعزِّين في معصية الله[25].
إن رضا الله ـ تبارك وتعالى ـ غاية يضحي المسلم في سبيلها بكل غاية، ويبذل في سبيل الحصول عليها كل غالٍ ونفيس فرضوان الله هو النعمة العظمى التي سيتجلى الله بها على عباده المؤمنين في الجنة[26]، يقول الحق ـ عز وجل: ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (التوبة ، الآية : 72) .
3 ـ موقف الحر بن يزيد رحمه الله: وهو أول من لقي الحسين في جيش الكوفة، وهو الذي حال بينه وبين الرجوع إلى المكان الذي أتى منه، ولكنه مع ذلك كان نبيلاً في معاملته للحسين ـ رضي الله عنه ـ فقد قال له: أنا لم أؤمر بقتالك، ولكني أمرت أن أخرج بك إلى الكوفة إن وجدتك، ولكني أقول لك: اختر مكاناً لا يؤدي بك إلى الكوفة ولا يعود بك إلى المدينة، ثم أكتب بعد ذلك إلى يزيد بن معاوية أو إلى ابن زياد إن شئت ولم يكد يصل الجيش وعلى رأسه عمر بن سعد بن أبي وقاص، وتواجه كلا الفريقين، وتأكد الُحرّ أن الحرب دائرة بينهما لا محالة، قال الحر لعمر بن سعد: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال عمر؟ إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي عندئذ ضرب الحر فرسه، وانطلق به نحو الحسين، وانضم إلى جماعته، ثم قال: يا أهل الكوفة، لأمكم الهَبل، أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير، وقد صرعهم العطش؟ بئس ما خلفتم محمداً في ذريته، لأسقاكم الله يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وتتراجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه واعتذر الحر عن موقفه الأول من الحسين وقبل الحسين عذره، فلما لامه بعض أصحابه عن الذهاب إلى الحسين قال: والله إني لأخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة غيرها ولو قطعت وحرّقت[27]
إن الحر بن يزيد ـ رحمه الله ـ غير موقفه من الحسين ـ رضي الله عنه ـ بعد أن جنح الحسين إلى السلم، ورأى أن موقفه ضده ليس فيه إنصاف ولا عدل، إذ كيف يقاتل رجلاً يدعو إلى السلم، ويطلبه، ويمد يده إلى عدوه ليصالحه، إن الرجولة تقتضي أن يكون الموقف مع هذا المسالم موقف العون وشد الأزر، وإن العقل يحكم بأن الحق مع من يطلب السلم وينشده والحر يعلم أن الوقوف مع حسين والميل إليه ليس له معنى إلا الموت، ولكنه اختار الموت الذي يوصل إلى الجنة[28]، ومما قيل في الحر بن يزيد التميمي من شعر ما قاله جعفر بن عفان الطائي:
ولم يك فيهم رجل رشيد
سوى الحر التميمي الرشيد
فواحزناه إن بنـي عليّ
وفاطم قد أبيدوا بالحديد[29]

4 ـ موقف النّوار بنت مالك الحضرمية: وهي امرأة خوليّ بن يزيد الذي بعثه عمر بن سعد برأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد، فلما بلغ خولي الكوفة قصد القصر، فوجد بابه مغلقاً، فتوجه بالرأس الشريف إلى بيته، فوضعه هناك تحت إجاّنة ـ والإجانة إناء تغسل فيه الثياب ـ ثم دخل على زوجته، وآوى إلى فراشه فقالت له زوجته: ما الخبر؟ عندك؟
قال: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار، فقالت: ويلك جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت برأس ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت[30] أبداً ، هذه امرأة انتظرت زوجها طويلاً، ولكن زوجها جاءها بما عكر عليها صفوها، وكدر عليها حياتها، وأفسد عليها انتظارها الطويل، لقد كانت ترجو أن يعود إليها زوجها بأخبار سارة تشرح صدرها، وتملأ عليها نفسها سروراً نعم إن عودة زوجها إليها سالماً هي أحسن خبر يحمله لها، ولكنه لم يعد إليها خالي الوفاض من الذهب والفضة اللذين يعود بهما المحاربون عادة فقط، ولو كان الأمر كذلك لسُرّت بعودته، وسلامته، ولكنه حمل إليها رأس الحسين ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنها يبلغها الخبر بفرحة تدل على رضاه وسروره، أفتفرح هي بذلك؟ أنه لو جاءها بالخبر دون أن يكون مصحوباً بالرأس كان ذلك كفيلاً بزيادة حزنها وأسفها، فكيف وهو يحدثها بالخبر مقروناً برأس الحسين ـ رضي الله عنه ـ إن كل مؤمن يحزنه الخبر، ويهدّ نفسه سماعه، لهذا غادرت النوار فراش زوجها، وأقسمت ألا تجتمع معه في بيت أبداً[31].
[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 09:22 PM

[align=justify]تاسعاً : موقف يزيد من قتل الحسين ومن أبناء الحسين وذريته:
كتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث ويستشيره في شأن أبناء الحسين ونسائه فلما بلغ الخبر يزيد بن معاوية بكى وقال: كنت أرضى من طاعتكم ـ أي أهل العراق ـ بدون قتل الحسين، كذلك عاقبة البغي والعقوق لعن الله ابن مرجانة لقد وجده بعيد الرحم منه، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين[1]، وفي رواية أنه قال:... أما والله لو كنت صاحبه، ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا ببعض عمري لأحببت أن أدفعه عنه[2]، فجاء رد يزيد على ابن زياد يأمره بإرسال الأسارى إليه، وبادر ذكوان أبو خالد فأعطاهم عشرة آلاف درهم فتجهزوا بها[3]، ومن هنا يعلم أن ابن زياد لم يحمل آل الحسين بشكل مؤلم أو أنه حملهم مغللين، كما ورد في بعض الروايات[4]، وقد مر معنا كيف أن ابن زياد قد أمر للأسارى بمنزل منعزل وأجرى عليهم الرزق والنفقة وكساهم[5].
وتذكر رواية عوانة أن محفز بن ثعلبة هو الذي قدم بأبناء الحسين على يزيد[6]، ولما دخل أبناء الحسين على يزيد قالت: فاطمة بنت الحسين: يا يزيد: أبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا قال: بل حرائر كرام: أدخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلت. قالت فاطمة: فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتزمة تبكي[7]. وعندما دخل علي بن الحسين قال يزيد: إن أباك قطع رحمي وظلمني فصنع الله به ما رأيت ـ وكان علي بن الحسين في معركة كربلاء لم يشترك بسبب المرض الذي كان ملازمه، وكان أثناء احتدام المعركة طريح الفراش فحمل إلى ابن زياد مع بقية الصبيان والنساء[8] ـ فرد علي بن الحسين على يزيد ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) (الحديد ، الآية : 22). ثم طلب يزيد من ابنه خالد أن يجبه، فلم يدر خالد ما يقول فقال يزيد: قل له ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) (الشورى ، الآية : 30) .
وتحاول بعض الروايات ذات النزعات والميول الشيعية أن تصور أبناء الحسين وبناته وكأنهن في مزاد علني، جعل أحد أهل الشام يطلب من يزيد أن يعطيه إحدى بنات الحسين[9]. فهذا من الكذب البين الذي لم يدعمه سند صحيح، ثم أنها مغايرة لما ثبت من إكرام يزيد لآل الحسين، ثم إن يزيد لم يستعرض النساء ويجعلهن عرضة للجمهور من أراد فليختار ما يشاء[10]. وأرسل يزيد إلى كل امرأة من الهاشميات يسأل عن كل ما أخذ منهن، وكل امرأة تدعى شيئاً بالغاً ما بلغ إلا أضعفه لهن في العطية[11]، وكان يزيد لا يتغذى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين[12]. وذُكر إن رأس الحسين أرسل إلى يزيد فهذا لم يثبت، بل إن رأس الحسين بقي عند عبيد الله في الكوفة[13].

عاشراً : رجوع أهل الحسين وأبنائه إلى المدينة:
بعث يزيد إلى المدينة فقدم عليه ذوي السن من موالي بني هاشم ومن موالي بني علي[14]، وبعد أن وصل الموالي أمر يزيد بنساء الحسين وبناته أن يتجهزن، وأعطاهن كل ما طلبن حتى لم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر بها[15]، ثم أمر النعمان بن بشير أن يقوم بتجهيزهم[16]،وقبل أن يغادروا قال يزيد لعلي بن الحسين إن أحببت أن تقيم عندنا فصل رحمك وتعرف لك حقك فعلت[17]. ولكن علي بن الحسين اختار الرجوع إلى المدينة، وأكرم أبناء الحسين وخيّرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة فاختاروا الرجوع إلى المدينة[18]، وعند مغادرتهم دمشق كرّر يزيد الاعتذار من علي بن الحسين وقال: لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبداً إلا أعطيتها إياه، ولدفعت عنه الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني بكل حاجة تكون لك[19].
وأمر يزيد بأن يرافق ذرية الحسين وفد من موالي بني سفيان[20]، وكان عددهم ثلاثين فارساً، وأمر المصاحبين لهم أن ينزلوا حيث شاءوا ومتى شاءوا وبعث معهم أيضاً محرز بن حريث الكلبي ورجل من بهرا، وكانا من أفاضل أهل الشام[21] وخرج آل الحسين من دمشق محفوفين بأسباب الاحترام والتقدير حتى وصلوا إلى المدينة[22]. قال ابن كثير في يزيد: وأكرم آل بيت الحسين ورد عليهم جميع ما فقد لهم وأضعفه، وردهم إلى المدينة في محامل وأبهة عظيمة، وقد ناح أهله على الحسين[23].

الحادي عشر : من المسئول عن قتل الحسين رضي الله عنه:
إن المسئول عن قتل الحسين أطراف متعددة منها:
1 ـ أهل الكوفة: إن أهل الكوفة هم الذين كاتبوا الحسين بن علي وهو في المدينة ومنّوه بالخروج حتى خرج إليهم بالرغم من تحذيرات الصحابة له بعدم الخروج ولما عين ابن زياد أميراً على الكوفة تأخر الناس عن نصرة الحسين وعن تأييده بل وانخرطوا في الجيش الذي حاربه وقتله، ولذا عبّر الحافظ ابن حجر عن موقف أهل الكوفة من الحسين بقول: فخُذِل غالب الناس عنه فتأخروا رغبة ورهبة، ولما تقابل الحسن ومن معه مع جند الكوفة نادى الحسين زعماء أهل الكوفة قائلاً لهم: يا شبث بن ربعي، وياحجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلى أنه قد أينعت الثمار، وأخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تقدم على جند لك مجند، فأقبل. قالوا: لم نفعل، فقال سبحان الله بلى والله لقد فعلتم ثم قال: أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني[24]. وبالنظر إلى أقوال الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فإن الاتهام موجه إلى أهل العراق، وذلك في المسؤولية المتعلقة بقتل الحسين رضي الله عنه، فهذه أم سلمة رضي الله عنها لما جاء نعي الحسين بن علي لعنت أهل العراق وقالت: قتلوه قتلهم الله عز وجل غروه ودلوه لعنهم الله[25]. وابن عمر رضي الله عنهما يقول لوفد من أهل العراق حينما سألوه عن دم البعوض في الإحرام فقال: عجباً لكم يا أهل العراق تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم البعوض[26]. ويقول البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق: روافض الكوفة موصوفون بالغدر والبخل، وقد سار المثل بهم فيها، حتى قيل أبخل من كوفي، وأغدر من كوفي، والمشهور من غدرهم ثلاثة أمور هي:
أ ـ بعد مقتل علي رضي الله عنه، بايعوا الحسن، وغدروا به في ساباط المدائن، فطعنه سنان الجعفي .
ب ـ كاتبوا الحسين رضي الله عنه، ودعوه إلى الكوفة لينصروه على يزيد، فاغتر بهم، وخرج إليهم، فلما بلغ كربلاء غدروا به وصاروا مع عبيد الله يداً واحدة عليه. حتى قتل الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء .
جـ ـ غدرهم بزيد بن علي بن الحسين، نكثوا بيعته، وأسلموه عند اشتداد القتال[27].
إن جزءاً كبيراً من المسئولسية يقع على أهل الكوفة، الذين جبنوا ونقضوا عهودهم.
2 ـ عبيد الله بن زياد:
استمد عبيد الله جبروته وبطشه بالمعارضين من موافقة الخليفة يزيد بن معاوية، فعندما أقدم على قتل مسلم بن عقيل النائب الأول عن الحسين بالكوفة، وداعيته هانيء بن عروة الزعيم لقبيلة مراد المشهورة، استحسن يزيد هذا الفعل ولم يعترض عليه بل إنه لم يخف إعجابه به وبطشه وعسفه، فقد قال في ردّه على رسالته: أما بعد فإنك لم تعد إن كنت كما أحببت، عملت عمل الحازم، وصلت صولت الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت وكفيت، وصدقت ظني بك، ورأي فيك[28].. فهذا التشيع دفع ابن زياد للشر أكثر خصوصاً وأن نفسه كانت ميالة للشر بطبيعتها، متطلعة إلى الغلو في مسيرتها، متعطشة إلى الدماء في سلطانها، وإلا فماذا كان عليه لو أنه نهر شمر وعنفه وردعه على قوله، واستمر في قبول خطة السلم التي عرضها الحسين رضي الله عنه. إن النفوس الدنية التي ارتفعت بعد انحطاط، وعزت بعد ذل، وتمكنت بعد حرمان، يعزّ عليها أن ترى الشرفاء الأمجاد، يتمتعون باحترام الناس وتقديرهم فتحاول أن تضع من مكانتهم، وتحط من منزلتهم إشباعاً لعقدة النقص التي تطاردهم في حياتهم، ولم يكن ابن زياد إلا واحداً من أصحاب هذه النفوس الدنية، فمن ابن زياد هذا ـ مهما كانت منزلته ـ إذا قورن بالحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ لهذا رفض الحسين أن يضع يده في يد ابن زياد، وقال لا أعطيهم بيدي إعطاء العبد الذليل، وقال عمر بن سعد لما وصله كتاب ابن زياد: لا يستسلم والله الحسين، إن نفساً أبية لبين جنبيه[29]، لقد كان عبيد الله بن زياد والياً ظالماً قبيح السريرة وهو الذي دخل عليه ـ عائذ بن عمرو المزني، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعبيد الله: أي بني: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن شر الرِّعاء الحُطمة فإياك أن تكون منهم، فقال له، اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: هل كانت لهم نخالة[30]؟ إنما كانت النخالة بعدهم، وفي غيرهم[31].
لقد كان يتوجب على ابن زياد أن يلبي مطالب الحسين، وأن يتركه يذهب إلى يزيد، أو أي مكان آخر، خاصة أنه لن يدخل الكوفة[32]، وقد قال ابن الصلاح في فتاويه: والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو ابن زياد[33]،وقال يوسف العش: وينبغي لنا أن نقول أن المسؤول عن قتل الحسين هو أولاً شمر، وثانياً عبيد الله بن زياد[34]. والصحيح أن المسئولية الأولى والإثم الأكبر في هذه المذبحة تقع على عاتق ابن زياد لأنه مدبر هذا الأمر كله وهو الذي رفض عروض الحسين، والتاريخ يستنكر كل ما فعله، ويذمه أشد الذم، ويدمغه بالبغي والطغيان[35]. ويقول الذهبي في نهاية ترجمة عبيد الله: الشيعي لا يطيب عيشه حتى يلعن هذا ودونه، ونحن نبغضهم في الله، ونبرأ منهم/ ولا نلعنهم وأمرهم إلى الله[36].
3 ـ عمر بن سعد بن أبي وقاص قائد الجيش:
ومن المسئولين على قتل الحسين رضي الله عنه قائد جيشه عمر بن سعد بن أبي وقاص، وبئس الخلف للسلف أو الابن لأبيه ثم الجنود الذين نفذوا أوامرهم في غيرما رحمة وكان لهم مندوحة أن ينأوا عن ذلك، أو ينضموا إلى جانب الحسين، كما فعل الحر بن يزيد التميمي القائد الأول الذي أرسله بن زياد، ثم رأى أن ابن زياد وصحبه اعتدوا وطغوا حين رفضوا عروض الحسين المنصفة، فتحول إلى معسكر الحسين وقاتل معه حتى قتل شهيداً[37].
إن عمر بن سعد لم يخرج ابتداءً لقتال الحسين، ولكنه كان خارجاً لقتال الديلم في أربعة آلاف مقاتل، فلما بلغ ابن زياد أمر حسين سيره إليه، وقال له: قاتل حسيناً فإذا انتهيت فانصرف إلى الديلم، وكان قد ولاه إمارة الرَّيّ واستعفى عمر ابن زياد من قتال الحسين، ولكن ابن زياد هدده بخلعه عن إمارة الرّي فتراجع عمر، وقال له: حتى أنظر، وأخذ يستشير الناس، وكلهم نصحوه بعدم الخروج إلى الحسين، وقال له ابن أخته ـ حمزة بن المغيرة بن شعبة ـ: أنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك، وتقطع رحمك فوالله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها لو كان لك، خير لك من تلقى الله بدم الحسين[38]. فقال عمر بن سعد: فإني أفعل إن شاء الله وبرغم نصح الناصحين، وترهيب المرهبين، إلا أن نفس ابن سعد كانت متعلقة بالدنيا وحب الإمارة ومشغولة بالمنصب وتقلد الإدارة.. والحق يقال: إنه اجتهد في محاولة إيجاد مخرج يبتعد منه عن قتال الحسين ومن معه، ولكنه لم يوفق في شيء .
إن النفوس المتطلعة إلى الدنيا، تنسى في سبيلها شهامة الرجال، ومروءة الكرام بل تنسى ما هو أعظم من ذلك موقفها بين يدي الله عز وجل، وأنها ستحاسب على كل عمل تعمله، بل تنسى بديهيات الأمور، حيث تنسى فناء الدنيا، وزوال المنصب، وضياع الجاه والسلطان، لقد كان عمر بن سعد في غنى عن أن يقرن اسمه بأسماء الخونة الغادرين، وأن يسجل في سجل المعتدين الآثمين، لو أنه ضحى بالمنصب، وقبل طاعة الله ورسوله، ولو أنه فعل ما فاته شيء مما كتب له من متاع الدنيا، ولكان عند الله من الأبرار الصالحين[39].
[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 09:24 PM

4[align=justify]
ـ يزيد بن معاوية: وأما يزيد، فظاهر الأمر أنه كره قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ وحاول أن يمنعه من الخروج، فكتب إلى ابن عباس، يسأله أن يكف الحسين عن الخروج وحين وضعت الرأس الشريفة بين يديه وقال: لعن الله ابن مرجانة كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه[1]. وهذا البكاء على الحسين، وسب ابن مرجانة لا يرفع اللوم عن يزيد، ولا يخليه من تبعة قتل الحسين وأصحابه، ذلك لأنه كان قادراً على أن يوجه أوامر صريحة لابن زياد بعدم قتل الحسين رضي الله عنه، والتصرف معه بكل حكمة وتعقل، حفظاً لرحمه وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانته في قلوب المسلمين[2].
إن تحمل يزيد لمسؤولية قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ قائمة كيف وقد قتل في خلافته وعلى أرض تسيطر عليها جيوشه، وقد كان أمير المؤمنين ـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ يحمّل نفسه مسؤولية بغلة عثرة في العراق أو في الشام، لم يسو لها الطريق، فكيف إذا كان القتلة هم جند أمير المؤمنين[3]؟ إن مقتل الحسين رضي الله عنه سيظل وصمة عار ونقطة سوداء في عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.

الثاني عشر : أقوال الناس في يزيد وهل يجوز لعنه؟
افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق طرفان ووسط، فأحد الطرفين قالوا: إنه كان كافراً منافقاً، وأنه سعى في قتل سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم تشفياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتقاماً منه، وأخذاً بثأر جده عتبة وأخي جده شيبة، وخاله الوليد بن عتبة، وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر، وقالوا: تلك أحقاد بدرية، وآثار جاهلية وأنشدوا عنه:
لما بدت تلك الحمول وأشرفت
تلك الرؤوس على ربي جيروني
نعق الغراب، فقلت نح أولاً تنح
فلقد قضيت مـن النبي ديوني

وقالوا: إنه تمثل بشعر ابن الزَّبعري الذي أنشده يوم أحد:
ليت أشياخي ببـدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا الكثير من أشياخهم
وعـدلناه ببـدر فاعتـدل[4]

وأشياء من هذا النمط وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر، وعمر، وعثمان، فتكفير يزيد أسهل.
والطرف الثاني: يظنون أنه كان رجلاً صالحاً وإمام عدل، وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحمله على يديه وبرّك عليه، وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبياً، ويقولون عن الشيخ عدي أو حسن المقتول ـ كذباً عليه ـ إن سبعين ولياً صرفت وجوههم عن القبلة لتوقفهم في يزيد، وهذا قول غالية العدوية.. ونحوهم من الضلال، فإن الشيخ عدياً كان من بني أمية وكان رجلاً صالحاً عابداً فاضلاً، ولم يحفظ عنه أنه دعاهم إلا إلى السنة التي يقولها غيره كالشيخ أبي الفرج المقدسي، فإن عقيدته موافقة لعقيدته، لكن زادوا في السنة أشياء كذب وضلال، من الأحاديث الموضوعة، والتشبيه الباطل، والغلو في الشيخ عدي وفي يزيد، والغلو في ذم الرافضة، بأنه لا تقبل لهم توبة وأشياء أخر. وكلا القولين ظاهر البطلان عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور وسير المتقدمين، ولهذا لا ينسب إلى أحد من أهل العلم المعروفين بالسنة، ولا إلى ذي عقل من العقلاء الذين لهم رأي وخبرة[5]
والقول الثالث : أنه كان ملكاً من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يكن كافراً، ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين، وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحباً ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة. ثم افترقوا ثلاث فرق: فرقة لعنته، وفرقة أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين. قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: إن قوماً يقولون: إنهم يحبون يزيد، فقال: يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا ابت، فلماذا لا تلعنه؟ فقال: يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحداً. وقال منها: سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. فقال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل قلت: وما فعل؟ قال: قتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل. قلت: وما فعل؟ قال: نهبها. قلت: فيذكر عنه الحديث؟ لا يذكر عنه حديث. وهكذا ذكر القاضي أبو يعلي وغيره[6]، وقال أبو محمد المقدسي لما سئل عن يزيد: فيما بلغني لا يُسَبّ ولا يُحَبّ وقال ابن تيمية: وبلغني ـ أيضاً ـ أن جدنا أبا عبد الله بن تيمية سئل عن يزيد. فقال: لا تنقص ولا تزيد. وهذا أعدل الأقوال فيه وفي أمثاله وأحسنها وأما ترك سبه ولعنته فبناء على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه، أو بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه، إما تحريماً، وإما تنزيهاً. فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة ((حمار)) الذي تكرر منه شرب الخمر وجلده لما لعنه بعض الصحابة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولا تلعنه، فإنه يجب الله ورسوله[7]. وقال: لعنُ المؤمن كقتله[8] هذا مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عموماً شارب الخمر ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى، والزاني والسارق، فلا نشهد بها عامة على معين بأنه من أصحاب النار، لجواز تخلف المقتضَى عن المقتضيِ لمعارض راجع: إما توبة، وإما حسنات ماهية، وإما مصائب مكفرة وإما شفاعة مقبولة وإما غير ذلك[9]. ومن اللاعنين من يرى أن ترك لعنته مثل ترك سائر المباحات من فضول القول، لا لكراهة في اللعنة، وأما ترك محبته، فلأن المحبة الخاصة إنما تكون للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس واحداً منهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب[10]، ومن آمن بالله واليوم والآخر، لا يختار أن يكون مع يزيد ولا مع أمثاله من الملوك، الذين ليسوا بعادلين. ولترك المحبة مأخذان: أحدهما: أنه لم يصدر عنه من الأعمال الصالحة ما يوجب محبته، فبقى واحداً من الملوك المسلطين ومحبة أشخاص هذا النوع ليست مشروعة، وهذا المأخذ ومأخذ من لم يثبت عنده فسقة أعتقد تأويلاً. والثاني: أنه صدر عنه ما يقتضي ظلمه وفسقه في سيرته من أمر الحسين وأمر أهل الحرة[11].
وأما الذين لعنوه من العلماء كأبي الفرج الجوزي، والكيا الهراسي[12] وغيرهما، فلما صدر عنه من الأفعال التي تبيح لعنته، ثم قد يقولون: هو فاسق، وكل فاسق يلعن، وقد يقولون بلعن صاحب المعصية وإن لم يحكم بفسقة،... وقد يلعن لخصوص ذنوبه الكبار، وإن كان لا يلعن سائر الفساق، كما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنواعاً من أهل المعاصي، وأشخاصاً من العصاة وإن لم يلعن جميعهم فهذه ثلاثة مآخذ للعنته[13]
وأما الذين سوغوا محبته أو أحبوه، كالغزالي، والدستي فلهم مأخذان: أحدهما: أنه مسلم ولي أمر الأمة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم، وكانت فيه خصال محمودة وكان متأولاً فيما ينكر عليه من أمر الحرة وغيره، فيقولون: هو مجتهد مخطيء، ويقولون: إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أولاً وأنكر ذلك عليهم ابن عمر وغيره، وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرض به، بل ظهر منه التألم لقتله، وذم من قتله، ولم يحمل الرأس إليه، وإنما حمل إلى ابن زياد. والمأخذ الثاني: أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له[14]. وأول جيش غزاها كان أميره يزيد. والتحقيق أن هذين القولين يسوغ فيهما الاجتهاد، وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات، بل لا يتنافى عندنا[15] أن يجتمع في الرجل الحمد والذم، والثواب والعقاب، كذلك لا يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له وأن يلعن ويشتم أيضاً باعتبار وجهين. فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار ، أو استحقوا دخولها فإنهم ـ لا بد أن يدخلوا الجنة، فيجتمع فيهم الثواب والعقاب، ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك، وترى أن من استحق الثواب لا يستحق العقاب ومن استحق العقاب لا يستحق الثواب[16]. وأما جواز الدعاء للرجل وعليه... فإن موتى المسلمين يُصلي عليهم، برهم وفاجرهم، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأول أوسط وأعدل، وبذلك أجاب ابن تيمية رحمه الله مقدم المغول بولاي، لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة وجرت بينهما وبين غيره مخطابات، فسأل ابن تيمية: ما تقولون في يزيد؟ فقال: لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلاً صالحاً فنحبه ونحن لا نسب أحداً من المسلمين بعينه فقال أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالماً؟ أما قتل الحسين؟ فقلت له: نحن إذا ذكر الظالمون ـ كالحجاج بن يوسف وأمثاله ـ نقول كما قال الله في القرآن: ((ألا لعنة الله على الظالمين)) (هود ، الآية : 18) ولا نحب أن نعلن أحد بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن هذا القول أحب إلينا وأحسن وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. قال: فما تحبون أهل البيت؟ قلت محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى خمّا، بين مكة والمدينة فقال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله. فذكر كتاب الله وحض عليه،، ثم قال: وعترتي أهل بيتي[17] قال ابن تيمية لمقدم المغول: ونحن نقول في صلاتنا كل يوم: اللهم صلى على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد. قال مقدم المغول: فمن يبغض أهل البيت؟ قال: من أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. ثم قال ابن تيمية للوزير المغولي: لأي شيء قال عن يزيد وهذا تتريٌّ؟ قال: قد قالوا له: إن أهل دمشق نواصب، قال ابن تيمية بصوت عال: يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا، فعليه لعنة الله، والله ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبيا ولو تنقص أحد علياً بدمشق لقام المسلمون[18] عليه وعلينا أن نعرف أن لعن يزيد لم ينتشر إلا بعد أن قامت الدولة العباسية وأفسحت المجال للنيل من بني أمية[19]، وأما الحديث الذي ورد مرفوعاً: ((لا يزال أمر أمتي قائماً، حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له: يزيد، فهو حديث غير صحيح، لأن فيه أكثر من علة[20]، فقد رواه أبو يعلي في مسنده من طريق صدقة السمين، عن هشام، عن مكحول عن أبي عبيدة مرفوعاً وفيه علتان.
أ ـ ضعف صدقة السمين، وهو أبو معاوية، صدقة بن عبد الله السمين، الدمشقي، ضعفه ابن معين والبخاري وأبو زرعة والنسائي، وقال أحمد ما كان من حديثه مرفوعاً فهو منكر، وما كان من حديثه مرسلاً عن مكحول فهو أسهل وهو ضعيف جداً وقال أيضاً: ليس يسوى شيئاً، أحاديثه مناكير وقال الدّارقطني: متروك[21]
ب ـ أن هناك انقطاعاً بين مكحول وأبي عبيدة لأنه لم يدركه[22].
وقد تحدث ابن كثير عن الأحاديث في ذم يزيد فقال: وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذمّ يزيد بن معاوية كلها موضوعة لا يصح منها شيء، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه، والله أعلم[23]

[/align]3]

ميارى 15 - 5 - 2010 09:26 PM

[align=justify]الثالث عشر : التحذير من أساطير حول مقتل الحسين رضي الله عنه:
إن الشيعة بالغوا في نقل أخبار تلك الحادثة، وامتلأت كتب التاريخ بحوادث عجيبة قيل إنها وقعت إثر مقتل الحسين، من احمرار الأفق، وتدفق الدماء من تحت الحجارة، وبكاء الجنّ، إلى غير ذلك من الخيال الذي نسجته عقول الشيعة يومئذ، وما زالوا يردّدونه إلى اليوم تضخيماً لهذا الحادث على حساب غيره من الأحداث الأخرى[1]، وإن الذي يدرس أسانيد تلك الأخبار والرّوايات لا يرى إلا ضعفاً هالكاً، أو مجهولاً لا يعرف أصله أو مدلِّساً يريد تعمية الأبصار عن الحقائق[2]، ومن أكاذيب مؤرخي الشيعة على سبيل المثال في هذه الموقعة أن السبايا حملن على نجائب الأبل عرايا حتى أن الإبل البخاتي[3] إنما نبتت لها الأسنمة من ذلك اليوم لتستر عوارتهن من قبلهن ودبرهن[4]. وقال ابن كثير: ولقد بالغ الشِّيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة وكذباً فاحشاً، من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وإن أرجاء السماء احمرّت، وأن الشمس كانت تطلع وشُعاعُها كأنه الدم وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب صار يضرب بعضها بعضاً، وأمطرت السماء دماً أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذ.. وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دماً، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، ولم يُمسَّ زعفران ولا ورس مما كان معه يومئذ إلا احترق مسَّه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط. وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم. إلى غير ذلك من الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء[5].
  • انتقام الله من قتلة الحسين: وأما ما رُوِيَ من الأمور والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح فإنَّه قَلَّ من نجا منهم في الدنيا إلا أُصيب بمرض، وأكثرهم أصابه الجنون، وللشيعة والرافضة في صفة مصرع الحسين رضي الله عنه، كذب كثير وأخبار طويلة، وفيما ذكرناه كفاية وفي بعض ما أوردنا نظر، ولولا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ الأئمة ذكروه ما سُقته وأكثره من رواية أبي مخنف لوط ابن يحي، وقد كان شيعياً وهو ضعيف الحديث عند الأئمة ولكنه أخباري حافظ عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنَّفين ممَّن بعده والله أعلم[6]. ويقول ابن تيمية رحمه الله: وأما السؤال عن سَبْي أهل البيت وإراكابهم حتى نبت لها سنامان وهي البّخّاتي ليستتروا بذلك، فهذا من أقبح الكذب وأبينه وهو مما افتراه الزنادقة والمنافقون، الذين مقصودهم الطعن في الإسلام، وأهله من أهل البيت، وغيرهم، فإن من سمع مثل هذا وشهرته وما فيه من الكذب قد يظن أو يقول إن المنقول إلينا من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء هو من الجنس، ثم إذا تبين أن الأمة سّبَّتْ أهل بيت نبيها، كان فيها من الطعن في خير أمة أخرجت للناس ما لا يعلمه إلا الله، إذ كل عاقل يعلم أن الإبل البَخَاتي كانت مخلوقة موجودة قبل أن يبعث الله النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل وجود أهل البيت، كوجود غيرها من الإبل والغنم، والبقر والخيل والبغال[7]، وللأسف الشديد، فقد شحنت المصادر التاريخية الإسلامية، مثل تاريخ الطبري، وتاريخ ابن عساكر وغيرهما بمثل هذه الأباطيل والأكاذيب، ممّا يتطلب تحقيقاً علمياً لهذين الكتابين خاصة، ولغيرهما من كتب التاريخ[8].

الرابع عشر : ما قيل من رثاء في الحسين رضي الله عنه :
قال سليمان بن قَتّة التيمي:
وإن قتيل الطَّف مـن آل هاشم
أذل رقاباً مـن قريـش فذلّت
مـررت على أبيـات آل محمد
فألفيتها أمثـالها حيـن حُلّت
وكانوا لنـا عُنْمـاً فعادوا زبّـة
لقد عظمت تلك الرازيا وجَلّت
فـلا يبعـد الله الديـار وأهلها
وإن أصبحت منهم برغمي تخلت
إذا افتقـرت قيـسٌ جبرنا فقيرَها
وتقتلنا قيـس إذا النّعـلُ زلّت
وعنـد غِنيِّ قطـرة مـن دماءنا
سنجزيهم يوماً بها حيث حَلّت
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة
لفقد حسين والبلاد أقشعرت[9]

وقال أبو الأسود الدِّيْلي في قتل الحسين رضي الله عنه:
أقول وذاك من جزع ووجد
أزال الله ملـك بنـي زياد
وأبعدهم بما غدروا وخانوا
كما بعدت ثَمود وقوم عاد
هموا خَشَمُوا الأنوف وكنا شُمّا
لقتل ابن القُعَاسِ أخي مراد[10]
قتيل السوق يا لك من قتيل
به نضح من أحمر كالجِساد
وأهل نبينا من قبل كانوا
ذوي كرم دعائم للبلاد
حسين ذو الفضول وذو المعالي
يزين الحاضرين وكَّلَّ باد
أصاب العِزَّ مَهْلِكُهُ فأضحى
عميداً بعد مصرعه فؤادي[11]
وقال عبيد الله بن الحر أيضاً:
يا لكِ حسرة ما دمـت حيـا
تردّد بيـن حلقي والتّراقي
حسيناً حين يطلب بذل نصري
على أهـل العداوة والشّقاق
ولو أنـي أواسـيه بنفسـي
لنلت كرامة يـوم التّـلاق
مع ابن المصطفى نفسي فـداه
فولّى ثـم ودّعَ بالفــراق
غداة يقول لـي بالقصر[12] قولا
أتتركنا وتُزمـع بالظـلاق؟
فلو فلق التَلهّفُ قلـب حَيّ
لهـمَّ اليـومَ قلبـي بانطلاق
فقد فاز الأُولى نصروا حسيناً
وخاب الآخرون أولو النفاق[13]
وقال شاعر الإسلام محمد أقبال:
وحسين فـي الأبرار والأحرار
ما أزكى شمائله ومـا أنداها
فتعلموا ريّ اليقين من الحسين
إذا الحسين وقد أجاب نداها
الأمهات يلدن للشمس الضياء
وللجواهر حسنها وصفاها[14]

المبحث الرابع : أهم الدروس والعبر والفوائد:
أولاً : يوم عاشوراء: وهو اليوم العاشر من محرم الحرام،وقد ابتدع فيه بدع منكرة، وهلك فيه طائفتان بين إفراط وتفريط طائفة تجعله يوم فرح وسرور وأخرى يوم حزن ونياحة[15] .
لقد غلت الشيعة في مقتل الحسين رضي الله عنه غلواً مفرطاً فجعلوا يوم استشهاده رضي الله عنه العاشر من محرم مأتماً وحزناً ونياحة يكررونه في كل عام إلى يومنا هذا ورتبوا على هذا الفعل الأجر والثواب، فهو جالب للمغفرة والرحمة، مكفرة للذنوب والخطايا في زعمهم[16]. فقد روي الطوسي في أماليه بسنده عن الرضا عليه السَّلام أنه قال من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عز وجل يوم القيامة، يوم فرحه، وسروره وقرت بنا في الجنان عينه[17]، وبسنده أيضاً عن أبي عمارة الكوفي قال: سمعت جعفر بن محمد عليه السلام يقول: من دمعت عينه دمعة لدم سفك لنا أو حق لنا أنقضاه أو عرض انتهك لنا أو لأحد من شيعتنا بوأه الله تعالى بها في الجنة أحقاباً[18]. وروى البرفي بسنده عن جعفر الصادق أنه قال: من ذكر عنده الحسين فخرج من عينه دمع مثل جناح بعوضة غفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر[19]. وقد بوب المجلسي باباً قال فيه: باب ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء، وساق فيه أكثر من ثمان وثلاثين رواية[20] منها ما رواه بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين عليه السلام[21]. بل زعموا أن السماء والأرض بكت لقتله فأمطرت السماء دماً وتراباً أحمر، كما بكت الملائكة والجن وسائر المخلوقات[22]، ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا بتحريم يوم عاشوراء وأن من صامه فهو عدو للحسين وأهل بيته رضي الله عنهم أجمعين[23]، فقد روى الكليني بسنده عن جعفر بن عيسى قال: سألت الرضا عليه السلام عن صوم يوم عاشوراء وما يقول الناس فيه، فقال: عن صوم ابن مرجانة تسألني، ذلك يوم صامه الأدعياء من آل زياد لقتل الحسين عليه السلام وهو يوم يتشاءم به آل محمد صلى الله عليه وسلم ويتشاءم به أهل الإسلام لا يصام ولا يتبرك به ويوم الاثنين يوم نحس قبض الله عز وجل فيه نبيه وما أصيب آل محمد إلا في يوم الاثنين فتشاءمنا به وتبرك به ابن مرجانة وتشاءم به آل محمد صلى الله عليه وسلم، فمن صامهما أو تبرك بهما لقي الله تبارك وتعالى ممسوخ القلب وكان حشره مع الذين سنوا صومهما والتبرك بهما[24]. والأكاذيب في هذا الباب كثيرة. وهذه المآتم تظهر علناً كلما قويت شوكة الشيعة أو ظهرت لهم دولة ففي دولة بني بويه الشيعية في سنة اثنين وخمسين وثلاثمائة ألزم معز الدولة ابن بابويه يوم عاشوراء أهل بغداد بالنواح على الحسين رضي الله عنه، وأمر بغلق الأسواق ومنع الطباخين من عمل الأطعمة، وخرجت نساء الشيعة منشرات الشعور مضحمات الوجوه يلطمن ويفتن الناس، وهذا أول ما نيح عليه[25]، كما اتخذت الدولة العبيدية الفاطمية على كثرة أعيادها ومناسباتها يوم عاشوراء يوم حزن ونياحة فكانت تتعطل فيه الأسواق ويخرج فيه المنشدون في الطرقات، وكان الخليفة يجلس في ذلك اليوم متلثماً يرى به الحزن كما كان القضاة، والدعاة، والأشراف، والأمراء يظهرون وهم ملثمون حفاة، فيأخذ الشعراء بالإنشاد ورثاء أهل البيت وسرد الروايات والقصص التي اختلقوها في مقتل الحسين رضي الله عنه[26]. ومن مظاهرهم في هذه الأيام خروج المواكب العزائية في الطرقات والشوارع مظهرين اللطم بالأيدي على الخدود والصدور، والضرب بالسلاسل والحديد على الأكتاف حتى تسيل الدماء[27] وقد وصف ابن كثير ما يفعل الشيعة من تعدي لحدود الكتاب والسنة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها فقال: فكانت الدَّبادب[28] تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء ويُذَرُّ الرماد والتبن في الطرقات والأسواق وتعلق المسوح على الدكاكين ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلتئذ موافقه للحسين، لأنه قتل عطشان ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن حافيات في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة والأهواء الفظيعة والهتائك المخترعة وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يُشنِّعوا على دولة بني أمية، لأنه قتل في أيامهم[29].
وقد جوّز علماء الشيعة ما يسمونه بالمواكب العزائية فقد أجاب محمد حسين الغروي النائيني عندما وجهت إليه أسئلة حول المواكب العزائية إذ قال:
1 ـ خروج المواكب العزائية في عشرة عاشوراء ونحوها إلى الطرقات والشوارع مما لا شبهة في جوازه ورجحانه وكونه من أظهر مصاديق ما يقوم به عزاء المظلوم وأيسر الوسائل لتبليغ الدعوة الحسينية إلى كل قريب وبعيد.
2 ـ لا إشكال في جواز اللطم بالأيدي على الخدود والصدور حد الاحمرار والإسوداد بل يقوي جواز الضرب بالسلاسل أيضاً على الأكتاف والظهور إلى الحد المذكور بل وإن تأذى كل من اللطم والضرب إلى خروج دم يسير على الأقوى، وأما إخراج الدم من الناحية بالسيوف والقامات فالأقوى جواز ما كان ضرره مأموناً.
3 ـ الظاهر عدم الإشكال في جواز التشبيهات والتمثيلات التي جرت عادة الشيعة الإمامية باتخذها لإقامة العزاء والبكاء والإبكاء منذ قرون وإن تضمنت لبس الرجال ملابس النساء على الأقوى، فهذه الفتوى المعمول بها اليوم لدى الشيعة وعليها الإجماع وقد قرضها أكثر من إثني عشر من علمائهم[30]، وفي وصف هذه المظاهر يقول ناصر الدين شاه: وفي الهند وباكستان وإيران والعراق تكتسي هذه المآتم حللاً مركبة إذ يخرج الرجال في الطرقات وهم يسيرون وراء هودج قد يبالغون في ارتفاعه حتى يبلغ بضعة أمتار وهم عراة وفي أيديهم زناجير من حديد وفي رؤوسها شفرات صغيرة حادة يضربون بها صدورهم وظهورهم حتى تسيل الدماء منهم، وفي كثير من الأحيان يموت بعضهم، أما النساء فإنهن يجلسن في دورهن ينحن ويبكين ويلطمن صدورهن بأيديهن كل هذا تكريماً للحسين الذي قتل مظلوماً بزعمهم[31]، ويقول السيد محسن الأمين الحسيني العاملي معللاً إقامة المآتم، ونريد بإقامة المآتم البكاء لقتله (عليه السلام) بإخراج الدمع بصوت وبدونه والتعرض لما يسبب ذلك وإظهار شعار الحزن والتأسف والتألم لما صدر عليه، وتذكر مصابه ونظم الأشعار في رثائه، وتلاوتها واستماعها وتهييج النفوس بها للحزن والبكاء[32]. ولم يكتفوا بذلك يقول الخميني: إن البكاء على سيد الشهداء عليه السلام وإقامة المجالس الحسينية هي التي حفظت الإسلام منذ أربعة عشر قرناً[33]. فمتى كان البكاء دعوة ومتى كان العويل جهاداً فهذا معتقد الشيعة الإمامية في مقتل الحسين وفي يوم عاشوراء فهل هذا الفعل من الإسلام في شيء؟
إن الحسين رضي الله عنه بريء من تلك الأفعال المذكورة لئن الإسلام الذي جاء به جده عليه الصلاة والسلام لا يجوّز تلك الأفعال فقد قال صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدوى[34] الجاهلية وقال صلى الله عليه وسلم: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال[35] من قطران[36]، ودرع من جرب[37] ، وقال صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة[38]، كما أن ما يفعله الشيعة في الحسينيات والمآتم تحت مسمى الشعائر الحسينية مثل: اللطم والنياحة ولبس السواد، والتطبير وغيرها والتي أفتى علماؤهم وعظماؤهم بجوازها فإنها محرمة عل لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى ألسنة أئمة أهل البيت الكرام في المصادر الشيعية القديمة والحديثة، واعترف بهذا التحريم شيوخ وأعلام المذهب الشيعي الإثني عشر[39]، فهذا محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الملقب عند الشيعة بالصدوق قال: من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يسبق إليها: النياحة من عمل الجاهلية[40]. ورواه محمد باقر المجلسي بلفظ: النياحة عمل الجاهلية[41]، فالنوح الذي استمرت عليه الشيعة جيلاً بعد جيل بعد جيل من عمل الجاهلية كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم[42]. ومن هذه الروايات التي تنهي عما يقترفه الشيعة في الحسينيات ما قاله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: وإياك والنواح على الميت ببلد يكون لك به سلطان[43]، وقوله: ثلاث من أعمال الجاهلية لا يزال فيها الناس حتى تقوم الساعة: الاستسقاء بالنجوم والطعن في الأنساب والنياحة على الموتى[44]، ومن الأدلة قول الإمام الباقر: أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز الشعر من النواصي، ومن أقام النواحة فقد ترك الصبر وأخذ في غير طريقه[45]، وقد أنكر ما يحدث من ضرب الرؤوس بالخناجر والسيوف وإسالة الدماء الشيخ حسن مغنية: والواقع أن ضرب الرؤوس بالخناجر والسيوف وإسالة الدماء ليست من الإسلام في شيء ولم يرد فيها نص صريح ولكنها عاطفة نبيلة تجيش في نفوس المؤمنين لما أريق من الدماء الزكية على مذابح فاجعة كربلاء[46]، ولا شك إن هذه الأمور من المنكرات والبدع الشنيعة[47]. إن الإسلام علمنا آداب المصائب ومقتل الحسين رضي الله عنه مصيبة عظيمة، فمن آداب الإسلام في المصائب.
1 ـ الصبر عليها:
وهذا أعظم آدابها، أن يصبر المؤمن على المصيبة التي تنزل به، ومن هذا الصبر حبس القلب عن التسخط، وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عمّا يغضب الله تعالى من لطم الخدود، وشق الجيوب وخمش الوجوه، ونتف الشعر والدعاء بدعوة الجاهلية وينبغي أن يكون هذا الصبر عند سماع الإنسان خبر المصيبة لأول مرة وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى[48].
2 ـ احتساب المصيبة والصبر عليها: فينبغي أن يلتمس الأجر من الله تعالى في هذا الصبر، فيصبر ابتغاء موعود الله من الأجر والثواب ويصبر لأن الله أمره بالصبر، فقال عز وجل: ((واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور)) (لقمان الآية ، 17)، ويتذكر إن فقد عزيزاً لديه، قول النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة[49]، وصفيُّه: أي حبيبه من ولد أو والد أو نحوه. وهكذا فإن الله تعالى وعد بالأجر العظيم على الصبر على المصائب، ولكن بشرط أن يكون الصبر ابتغاء وجه الله تعالى، كما قال عز وجل ((وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)) (الرعد : 22) ، فينبغي أن يكون الصبر لله تعالى، ولا صبر المغلوب. بل صبر الراضي بقضاء الله، المسلِّم به[50].
3 ـ الاسترجاع ودعاء المصيبة: فيقول المرء عند نزول المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خير منها. فقد قال اله عز وجل ((وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)) (البقرة ، الآيات : 155 ـ 157). وقال صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها[51]، قالت أم سلمة: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله[52].
ويقول كذلك: الله ربي لا شريك له: فإن ذلك يكشف عنه المصائب والبلاء بإذن الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من أصابه هم أو غم، أو سقم، أو شدة فقال: الله ربي لا شريك له. كشف ذلك عنه[53]، ويدعو كذلك بدعاء المكروب الذي ذكره النبي صلى اله عليه وسلم حيث قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت[54]، ويقول كذلك كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فإنه صلى الله عليه وسلم: كان إذا كربه أمر قال: يا حي يا قيوم، برحمتك استغيث[55].
4 ـ اجتناب كل ما يغضب الله: وذلك من جنس الجهر بالسوء من القول، واللطم، وشق الجيوب، وحلق الشعور، والنياحة والشكوى إلى الناس والدعاء بالموت، والويل والثبور، وغير ذلك، فهذا كله يغضب الله تعالى، وينافي الصبر على المصائب والرضا بها[56].
5 ـ تهوين المصيبة على النفس بتذكرة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:
فإن وفاته وانقطاع وحي السماء من أعظم المصائب التي نزلت بالأمة، وبكل مسلم، وإذا تذكر المصاب بمصيبة ما تلك المصيبة العظيمة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهوَّن ذلك عليه مصيبته التي نزلت به، فإن المصيبة العظيمة لا تهون إلا بالنظر إلى ما هو أعظم منها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب[57].
6 ـ مشاهدة النعمة في المصيبة: فمن أدب المسلم مع المصيبة أن يشاهد فيها نعمة الله تعالى، ولئن كان قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ عظيماً وشرّاً كبيراً، فإنه بالنسبة له خير وإكرام يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما ـ يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية وأكرم الله تعالى الحسين بالشهادة كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته. أكرم بها حمزة وجعفراً وأباه علياً وغيرهم، وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خُفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة[58]. فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ـ ما سبق من المنزلة العالية، ولم يكن حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب، فإنهما وُلِدا في عز الإسلام، وتربيا في عز وكرامة، والمسلمون يعظمونهما، ويكرمونهما، ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستكملا سن التمييز، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يُلحقهما بأهل بيتهما، كما ابتلى من كان أفضل منهما فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما، وقد قُتل شهيداً[59].
7 ـ تذكر القضاء السابق: فإن المسلم متى ما أيقن إن هذه المصائب مكتوبة، ومقدرة، ومتى ما استحضر في ذهنه أن كل ما قدره الله فهو لابد كائن واقع لا محيد عنه، وأن لله تعالى حكمة في تقدير هذه المصائب، كلما تذكر هذه الأمور هانت عليه المصائب[60]، قال تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)) (الحديد ، الآيتان : 22 ـ 23) .
8 ـ رأي ابن تيمية وابن كثير في ما يحدثه الشيعة يوم عاشوراء:
أ ـ قال ابن تيمية: وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنه يحدث للناس بدعتين بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي وما يفضي إلى ذلك من سب السلف الصالح ولعنهم وإدخال من لا ذنب له من ذوي الذنوب حتى يسب السابقون الأولون وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب وقصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة، فإن هذا ليس واجباً ولا مستحباً باتفاق المسلمين بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرم الله ورسوله[61]. والذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم في المصيبة إذا كانت جديدة إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع... وإذا كان الله قد أمر بالصبر والاحتساب والاسترجاع... وإذا كان الله قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد بالمصيبة، فكيف مع طول الزمان؟ فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من إتخاذ يوم عاشور مأتماً وما يصنعون فيه من الندب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين، وكثرة الكذب والفتن في الدنيا[62].
ب ـ وأما ابن كثير فيقول: فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه هذا الذي وقع من قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين وعُلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل بناته، وقد كان عابداً وشجاعاً وسخياً ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء وقد كان أبوه أفضل منه وهم لا يتخذون مقتله مأتماً كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة وقد قُتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم مقتله مأتماً، وكذلك عمر بن الخطاب، وهو أفضل من عثمان وعلي، قُتل وهو قائم يُصليّ في المحراب صلاة الفجر وهو يقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، وكذلك الصديق كان أفضل منه، ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله ولم يتخذ أحد يوم موته مأتماً يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين، ولا ذكر أحد يوم موتهم وقبلهم شيء مما ادّعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة مثل كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء وغير ذلك وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب[63] وأمثالها ما رواه الحسين بن علي عن جدّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها، فيُحدثُ بها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب بها[64]. يقول ابن تيمية تعليقاً على هذا الحديث: هذا حديث رواه عن الحسين ابنته فاطمة التي شهدت مصرعه وقد علم أن المصيبة بالحسين تذكر مع تقادم العهد، فكان من محاسن الإسلام أن بلغ هو هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها، فيكون للإنسان من الأجر يوم أصيب بها المسلمون وأما من فعل مع تقادم العهد بها ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند حدثان العهد بالمصيبة فعقوبته أشد مثل لطم الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية[65].
9 ـ من يتخذ عاشوراء عيداً :
هم من النواصب، والنواصب إحدى طوائف أهل البدع التي أصيبت في معتقدها بعدم التوفيق للإعتقاد الصحيح في الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فقد زين لهم الشيطان عدم محبة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وحملهم على التدين ببغضه وعداوته والقول فيه بما هو بريء منه، كما تعدى بغضهم إلى غيره من أهل البيت كابنه الحسين بن علي رضي الله عنهما وغيره فالنصب هو بغض علي رضي الله عنه والنيل منه والإنحراف عنه، وسمي من كانت هذه صفته ناصبياً، فالنصب كالرفض لأن الرفض هو بغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والنيل منهم بالشتم والسب وكلاهما ضلال وابتعاد عن منهج الله، في وجوب حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة سابقتهم في الإسلام وجهادهم بأنفسهم وأموالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم[66]، فإذا كانت الشيعة اتخذت يوم عاشوراء مأتماً وحزناً اتخذته طائفة أخرى عيداً وموسماً للفرح والسرور وهم إما من النواصب المتعصبين على الحسين وأهل بيته رضي الله عنه، وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد والكذب بالكذب والشر بالشر والبدعة بالبدعة، فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والإختضاب وتوسيع النفقات على العيال وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم، فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسماً كمواسم الأعياد والأفراح مقابلة لأولئك وهي بدعة ثانية ومما ورد في ذلك من أحاديث موضوعة ومكذوبة ما يلي
أ ـ حديث: من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سنته[67].
ب ـ ابتداع صلاة مخصوصة في يومه وليلته: روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى لله يوم عاشوراء ما بين الظهر والعصر أربعين ركعة يقرأ في كل رقعة بفاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي عشر مرات وقل هو الله أحد إحدى عشرة مرة والمعوذتين خمس مرات فإذا سلم استغفر سبعين مرة أعطاه الله في الفردوس قبة بيضاء[68]، وغير ذلك من البدع التي أحدثت في ذلك اليوم والتي لا أصل لها في دين الله عز وجل[69]. وقد سئل ابن تيمية عما يفعله الناس في عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وعزوا ذلك إلى الشارع فهل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديث صحيح أم لا؟ وإذا لم يرد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين ولا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روي أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين لا صحيحاً ولا ضعيفاُ. ولا في كتب الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة وإنما حصلت هذه البدع في يوم عاشوراء، لأن الكوفة كان فيها طائفتان طائفة رافضة يظهرون موالاة أهل البيت وهم في الباطن إما ملاحدة زنادقة وإما جهال وأصحاب هوى وطائفة ناصبة تبغض علياً وأصحابه لما جرى من القتال في الفتنة ما جرى[70]. فوضعت الآثار في الاحتفال بعاشوراء لما ظهرت العصبية بين الناصبة والرافضة فإن هؤلاء اتخذوا يوم عاشوراء مأتماً، فوضع أولئك آثار تقتضي التوسع فيه واتخاذه عيداً وكلاهما باطل. فهؤلاء فيهم بدع وضلال وأولئك فيهم بدع وضلال[71]. فمن جعل يوم عاشوراء مأتماً وحزناً ونياحة، أو جعله يوم عيد وفرح وسرور فقد ابتدع في الدين وخالف سنة سيد المرسلين[72].
10 ـ هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء:
يوم عاشوراء من الأيام الفاضلة التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيامها، فجاء في الحديث الصحيح عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه قال: ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا الدهر كله، وصيام عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده، وصيام عاشوراء احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله[73]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء وهذا الشهر يعني شهر رمضان[74]، فالسنة إذا في اليوم هذا الصيام فحسب وقد صامه صلى الله عليه وسلم وأخبر بفضل صيامه كما في الحديث السابق وأمر بقيامه، فقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة.
أ ـ فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان فلما افترض رمضان. قال: صلى الله عليه وسلم: إن عاشوراء من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه[75].
ب ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه. وعنه أيضاً قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: بصوم يوم عاشوراء العاشر[76].
جـ ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا يوم التاسع. قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع[77]. وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا قبله يوماً وبعده يوماً[78].
ولقد ذكر العلماء أن صوم يوم عاشوراء على ثلاث مراتب:
أ ـ صوم التاسع والعاشر والحادي عشر لحديث: صوموا قبله يوماً وبعده يوماً.
ب ـ صوم التاسع والعاشر لحديث: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع.
جـ ـ إفراده بالصوم أي صوم يوم عاشوراء وحده، للأحاديث الدالة على تأكيد صومه[79].
فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء ومن هنا تتجلى وسطية أهل السنة والجماعة فلا إفراط ولا تفريط إنما هو تمسك بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وامتثال لأمره رجاء لثواب الله تعالى.

[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 09:28 PM

[align=justify]ثانياً : التحقيق في مكان رأس الحسين رضي الله عنه:
إن سبب الاختلاف في موضع رأس الحسين رضي الله عنه عند عامة الناس إنما هو ناتج عن تلك المشاهد المنتشرة في ديار المسلمين والتي أقيمت في عصور التخلف الفكري والعقدي ـ وكلها تدعي وجود رأس الحسين ثم إن الجهل بموضع رأس الحسين جعل كل طائفة تنتصر لرأيها في إدعاء وجود الرأس عندها وإذا أردنا التحقيق في مكان الرأس فإنه يلزمنا تتبع وجود الرأس منذ إنتهاء معركة كربلاء[1]. لقد ثبت أن رأس الحسين حمل إلى ابن زياد فجعل الرأس في طست وأخذ يضربه بقضيب كان في يده، فقام إليه أنس بن مالك رضي الله عنه وقال: لقد كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم[2]. ثم بعد ذلك تختلف الروايات والآراء اختلافاً بيناً بشأن رأس الحسين رضي الله عنه ولكن بعد دراسة الروايات التي ذكرت أن ابن زياد أرسل الرأس إلى يزيد بن معاوية وجدت أن الروايات على النحو التالي، هناك روايات ذكرت أن الرأس أرسل إلى يزيد بن معاوية، وأخذ يزيد ينكث بالقضيب في فم الحسين، الأمر الذي حدا بأبي برزة الأسلمي رضي الله عنه على أن ينكر على يزيد فعلته، ولكن هذه الرواية التي ذكرت وصول الرأس وتعامل يزيد معه بهذا النحو ضعيفة[3]. وقد استدل ابن تيمية على ضعف هذه الرواية: بأن الذين حضروا نكثه بالقضيب من الصحابة لم يكونوا بالشام، وإنما كانوا بالعراق[4]، ومما يدل على فساد متن هذه الرواية هو أن متنها مخالف لتلك الروايات الصحيحة، والتي بينت حسن معاملة يزيد لآل الحسين وتألمه وبكائه على قتل الحسين رضي الله عنه[5]، وقد قال ابن تيمية: ورأس الحسين إنما حمل إلى ابن زياد وهو الذي ضربه بالقضيب كما ثبت في الصحيح[6]، وأما ما حمله إلى عند يزيد فباطل، وإسناده[7] منقطع، وقد ذهب ابن كثير إلى ذهاب الرأس إلى يزيد فقد قال: وقد اختلف العلماء في رأس الحسين هل سيّره ابن زياد إلى الشام أم لا؟ على قولين الأظهر منها أنه سيّره إليه،، فقد ورد في ذلك آثار كثيرة والله أعلم[8]، وهو ما ذهب إليه الذهبي[9].
وقد ذكر بأن رأس الحسين مقبور في ستة مدن وهي:
1 ـ دمشق: ذكر البيهقي في المحاسن والمساوئ: أن يزيد أمر بغسل الرأس وجعله في حرير وضرب عليه خيمة ووكل به خمسين رجلاً[10]، وساق ابن عساكر بإسناده عن ريا حاضنة يزيد بن معاوية أن الرأس مكث في خزائن السلاح حتى ولي سليمان، فبعث فجيء به فبقي عظماً فطيبه وكفّنه، فلما وصلت المسودّة[11]، سألوا عن موضع الرأس ونبشوه فالله أعلم ما صنع به[12]، ورواية القصة ((ريا)) هذه ذكرها ابن عساكر ولم يذكر فيها جرحاً، ولا تعديلاً وتكون بذلك مجهولة[13]، وبذلك تكون رواية ساقطة لا يعتمد عليها بأي حال من الأحوال[14]، وقد أورد الذهبي بإسناده عن أبي كريب قال: كنت فيمن توثب على الوليد بن يزيد بدمشق، فأخذت سفطاً وقلت فيه غنائي، فركبت فرسي، وخرجت من باب توما، قال: ففتحته، فإذا فيه رأس مكتوب عليها، هذا رأس الحسين بن علي، فحفرت فيه بسيفي فدفنته[15]؟. وهي رواية ضعيفة جداً[16]. ومن ناحية أخرى ما هي فائدة يزيد في احتفاظه برأس الحسين وجعله في خزائن سلاحه[17].
2 ـ كربلاء: لم يقل أحد بأن الرأس في كربلاء إلا الشيعة الإمامية، فإنهم يقولون: بأن الرأس أعيد إلى كربلاء بعد أربعين يوماً من القتل، ودفن بجانب جسد الحسين[18] رضي الله عنه وهو يوم معروف عندهم يسمون فيه زيارة الأربعين ويكفي أن هذا القول إنما تفرد به الشيعة الإمامية وهم ليس عندهم في ذلك أي دليل أنما أقاويل عارية من الحجة والبرهان وقد أنكر أبو نعيم الفضل بن دكين على من زعم أنه يعرف قبر الحسين رضي الله عنه[19]، وقد ذكر ابن جرير وغيره أن موضع قتله عفي أثره حتى لم يطلع أحد على تعيينه[20].
3 ـ الرقة: لقد انفرد سبط ابن الجوزي بإيراد خبر يذكر أن الرأس قبر بالرقة وقال: إن الرأس بمسجد الرقة على الفرات وأنه جيء به بين يدي يزيد بن معاوية قال: لأبعثن إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان وكانوا بالرقة، فدفنوه في بعض دورهم ثم دخلت تلك الدار بالمسجد الجامع، وهو إلى جانب سور هناك[21]. وهذا خبر مستبعد فالرواية ليست مسنده ثم إن الخبر فيه نكارة واضحة لمخالفته النصوص الصحيحة، والتي ثبت فيها حسن معاملة يزيد لأسرة الحسين وتحسّره وندمه على قتله[22]، ثم إن سبط ابن الجوزي هذا قال عنه الذهبي: ورأيت له مصنفاً يدل على تشيعه[23].
4 ـ عسقلان: لقد أنكر جمع من المحققين الخبر القائل بأن رأس الحسين دفن في عسقلان قال القرطبي: وما ذكر أنه في عسقلان فشيء باطل[24]، وأنكر بن تيمية وجود الرأس بعسقلان[25]، وتابعه على ذلك ابن كثير[26].
5 ـ القاهرة: يبدو أن اللعبة التي قام بها العبيديون (الفاطميون) قد انطلت على الكثير من الناس، فبعد أن عزم الصليبيون الاستيلاء على عسقلان سنة تسع وأربعين وخمسمائة خرج الوزير الفاطمي صالح طلائع بن زريك خرج هو وعسكره حفاة إلى الصالحية، فتلقى الرأس ووضعه في كيس من الحرير الأخضر على كرسي من الأبنوس وفرش تحته المسك والعنبر والطيب، ودفن في المشهد الحسيني قريباً من خان الخليلي في القبر المعروف. وكان ذلك في يوم الأحد الثامن من جمادي الآخر سنة ثمان وأربعين وخمسمائة[27]، وقد ذكر الفارقي أن الخليفة الفاطمي نفسه قد خرج وحمل الرأس[28]، وذكر الشبلنجي أن الوزير الصالح طلائع افتدى الرأس من الأفرنج ونجح في ذلك بعد تغلبهم على عسقلان وافتداه بمال جزيل[29]، ولقد حاول بعض المؤرخين أن يؤكدوا على أن الرأس قد نقل فعلاً من عسقلان إلى مصر، وأن المشهد الحسيني في مصر إنما هو حقيقة مبني على رأس الحسين رضي الله عنه[30]وقد أثبت أحد المتأخرين وهو حسين محمد يوسف بأن الرأس الموجود في المشهد الحسيني هو حقيقة رأس الحسين وخطأ من يقول بغير ذلك وكان الاستدلال الذي جاء به: هي تلك المنامات والكشوفات التي تجلت لبعض الصوفية والتي جاء في تلك المنامات أن الرأس هو في الحقيقة رأس الحسين ثم أورد تأييداً لهذا القول، باستحداث قاعدة قال فيها: أن الرأس يوجد في القاهرة وذلك بسبب الشك الذي تعارض مع اليقين، واليقين هم أصحاب الكشف[31]. وهذا الاستدلال لا يخضع إلى عقل أو منطق أو حجة علمية، أو برهان علمي ـ فضلاً عن قواعد المنهج الإسلامي في الاستدلال إن الاستدلال على وجود رأس الحسين في القاهرة كان مبنياً على استناده بأن الرأس كان في عسقلان، وقد أثبتنا قبل قليل بطلان وجود الرأس بعسقلان، وبالتالي يكون الرأس الذي حمل إلى القاهرة، والمشهد المعروف اليوم والمقام عليه والمسمى بالمشهد الحسيني هو كذب، وليس له علاقة برأس الحسين رضي الله عنه وإذا ثبت أن الرأس الذي كان مدفوناً بعسقلات هو ليس في الحقيقة برأس الحسين، فإذا متى أدّعي أن رأس الحسين بعسقلان وإلى من يعود ذلك الرأس؟ يقول النويري: أن رجلاً رأى في منامه، وهو بعسقلان أن رأس الحسين في مكان بها، عُيّن له في منامه، فنبش ذلك الموضع، وذلك في أيام المستنصر بالله العبيدي صاحب مصر، ووزارة بدر الجمالي، فابتني له بدر الجمالي مشهداً بعسقلان[32]، وقام الأفضل بعد ذلك بإخراجه وعطّره ووضعه في مكان آخر من عسقلان وابتنى عليه مشهداً كبيراً[33]، ولعلك تعجب من إسراع العبيديين لأقامة المشهد على هذا الرأس، لمجرد رؤية رجل فقط؟ ولكن إذا عرفت تاريخ العبيديين فإن الأمر لا يستغرب لهذا الحد، فإحاسهم بأن الناس لا يصدقون نسبتهم إلى الحسين، جعلهم يلجؤون إلى تغطية هذا الجانب، باستحداث وجود رأس الحسين بعسقلان، ويظهروا من الاهتمام به وبناء المشهد عليه والإنفاق على ترميمه وتحسينه من الأموال الشيء الكثير حتى يصدقهم الناس، ويقولون: إنه لو لم يكن لهم نسب فيه لما اهتموا به إلى هذا الحد؟ ثم إن هناك بعداً سياسياً أخر باستحداث وادعاء وجود رأس الحسين بعسقلان دون غيرها من المناطق التي تقع تحت سيطرتهم وهو محاولة مجابهة الدويلات السنية التي قامت في بلاد الشام، ومن المعروف أن حكومة المنتصر بالله العبيدي قد صادفت قيام دولة السلاجقة السنية التي تمكن قائدها طغرلبك السلجوفي من دخول بغداد سنة سبع وأربعين وأربعمائة[34]. ومما يدل على أن استحداث وجود رأس الحسين بعسقلان ونقله إلى مصر ما هو إلا خطة عبيدية، هو أنه لم يرد بأن رأس الحسين وجد في عسقلان في أي كتاب قبل ولاية المنتصر الفاطمي. وهذا مما يعزز كذب العبيديين وتحقيق أغراض خاصة لهم بذلك[35] ، وقد ذكر ابن تيمية أن هذا الرأس المزعوم بأنه رأس الحسين ليس في الأصل سوى رأس راهب[36]. وقد نقل ابن دحية في كتابه ((العلم المشهور)) الإجماع على كذب وجود الرأس بعسقلان أو بمصر، ونقل الإجماع أيضاً على كذب المشهد الحسيني الموجود في القاهرة وذكر أنه من وضع العبيديين ولأنه لأغراض فاسدة وضعوا ذلك المشهد وقد أزال الله تلك الدولة وعاقبها بنقيض قصدها[37]. وقد أنكر وجود الرأس في مصر كل من: ابن دقيق العيد، وأبو محمد بن خلف الدمياطي، ,ابو محمد بن القسطلاني، وأبو عبد الله القرطبي وغيرهم[38]. وقال ابن كثير: وادعت الطائفة المسماة بالفاطميين الذين ملكوا مصر قبل سنة أربعمائة إلى سنة ستين وخمسمائة أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها وبنوا عليه المشهد المشهور بمصر، الذي يقال له تاج الحسين، بعد سنة خمسمائة، وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف، وهم في ذلك كذبة خونة، وقد نص على ذلك القاضي الباقلاني وغير واحد من أئمة العلماء في دولتهم، قلت: والناس أكثرهم يروّج عليهم مثل هذا، فإنهم جاءوا برأس فوضعوه في مكان هذا المسجد المذكور، وقالوا هذا رأس الحسين، فراج ذلك عليهم واعتقدوا ذلك والله أعلم[39].
6 ـ المدينة النبوية: إن المدن التي مرّ ذكرها لم يثبت لدينا أدنى دليل على وجود الرأس بها، ولم يبق أمامنا سوى المدينة، فقد ذكر ابن سعد بإسناد جمعي: أن يزيد بعث بالرأس إلى عمرو بن سعيد والي المدينة، فكفنه ودفنه بالبقيع إلى حيث قبر أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم[40]، وقال ابن تيمية: ثم إن دفنه بالبقيع: هو الذي تشهد له عادة القوم فإنهم كانوا في الفتن، إذا قتل الرجل منهم، ـ لم يكن منهم ـ سلموا رأسه وبدنه إلى أهله كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه، ثم سلموه إلى أهله، وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير، وأن ما كان بينهما من الحروب أعظم بكثير مما كان بين الحسين وبين خصومه[41]. كما أننا لا نجد انتقاداً واحداً انتقد فيه يزيد سواءً من آل البيت أو من الصحابة أو من التابعين فيما يتعلق بتعامله مع الرأس، فظني أن يزيد لو أنه تعامل مع الرأس كما تزعم بعض الروايات من الطوفان به بين المدن والتشهير برأسه، لتصرف الصحابة والتابعين تصرفاً آخر على أثر هذا الفعل، ولما رفض كبارهم الخروج عليه يوم الحرة ولرأيناهم ينضمون مع ابن الزبير المعارض الرئيسي ليزيد[42]، ويؤيد هذا الرأي قول الحافظ أبو يعلي الهمداني: إن الرأس قبر عند أمه فاطمة رضي الله عنهما وهو أصح ما قيل في ذلك[43]، وهو ما ذهب إليه علماء النسب مثل الزبير بن بكار ومحمد بن الحسن المخزومي[44]، وذكر ابن أبي المعالي أسعد بن عمار في كتابه ((الفاصل بين الصدق، والمَيْن في مقر رأس الحسين)) أن جمعاً من العلماء الثقات كابن أبي الدنيا وأبي المؤيد الخوارزمي، وأبي الفرج بن الجوزي قد أكدوا أن الرأس مقبور في البقيع بالمدينة[45]، وتابعهم على ذلك القرطبي[46]، وقال الزرقاني: قال ابن دحية ولا يصح غيره[47]، وابن تيمية يميل إلى أن الرأس قد بعث به يزيد إلى واليه على المدينة عمر بن سعيد وطلب منه أن يقبره بجانب أمه فاطمة رضي الله عنها والذي جعل ابن تيمية برأي ذلك هو: أن الذي ذكر أن الرأس نقل إلى المدينة هم من العلماء والمؤرخين الذين يعتمد عليهم مثل الزبير بن بكار، صاحب كتاب الأنساب، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي صاحب الطبقات ونحوهما من المعروفين بالعلم والثقة والاطلاع، وهم أعلم بهذا الباب، واصدق فيما ينقلونه من المجاهيل والكذابين، وبعض أهل التاريخ، الذين لا يوثق بعلمهم، وقد يكون الرجل صادقاً، ولكن لا خبرة له بالأسانيد، حتى يميز بين المقبول والمردود أو يكون سيء الحفظ أو متهماً بالكذب أو بالتزوير في الرواية، كحال كثير من الأخباريين والمؤرخين[48].
وقال ابو عمر عبد الله بن محمد الحمادي: وهكذا اختلفوا في موقع رأس الحسين على ثلاثة أماكن وكل واحد منهم يريد أن يكون الرأس عنده حتى تكثر الزيارات فيكثر رمي الأموال على القبر ليتقاسمه السدنة، وحرّاس القبور وبهذا الاختلاف جعلوا للحسين ثلاثة رؤوس ومعلوم يقيناً أنه كان رضي الله عنه له رأس واحد[49]. ومن خلال البحث، فإنه يتضح أن جسد الحسين رضي الله عنه بكربلاء وأما رأسه بالبقيع في المدينة والله أعلم.
[/align]




ميارى 15 - 5 - 2010 09:31 PM

[align=justify]ثالثاً : تقديس أضرحة الأئمة وزيارة قبر الحسين رضي الله عنه عند الشيعة:
بالغ الشيعة في تعظيم مراقد الأئمة ومنحوها من القداسة والشرف ما لم تحظ به الكعبة المشرفة والمدينة المنورة، فقد نسبوا زوراً وبهتاناً إلى علي بن الحسين أنه قال: اتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام وقدسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق ـ مقدسة مباركة ولاتزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض الجنة وأفضل منزل ومسكن يسكن فيه أولياؤه في الجنة[1] ـ كما نسبوا إلى جعفر الصادق وهو بريء مما نسبوا إليه ـ: أن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بُني بيت الله على ظهري يأتيني الناس من كل فج عميق وجعلت حرم الله وأمنه، فأوحى الله إليها: أن كفّي وقرّي ما فضل ما فضلت به فيما أعطيت أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غرست في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك ولولا ما تضمنه أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي به افتخرت، فقري واستقري وكوني ذنباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم[2]. وهذه البقعة بالطبع لم تنل ما نالت إلا بكونها في معتقدهم مدفن الحسين رضي الله عنه: وقد جرت على ألسنة الشعراء وأقلام الكتاب من بعد الواقعة وإلى يومنا هذا المقارنة بينها وبين الكعبة وتفننوا بمختلف أساليب النثر والنظم في إثبات فضلها وقداستها وشرفها واستطالة أرضها على جميع الأقطار بالفضل والشرف، وهذه الأرض المباركة لم تنل هذا الشرف العظيم في الإسلام إلا بالحسين رضي الله عنه كما نص عليه الحديث: وزادها في تواضعها وشكرها لله بالحسين (ع) وأصحابه[3]، وبناء على غلوهم واعتقادهم في الأئمة ـ والتي قد مرّ بيان معتقدهم في ذلك في كتابي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ـ ولأجل ربط الناس بأضرحتهم ومشاهدهم، وضعوا الفضائل الكبيرة والأجور الكثيرة لمن زار تلك المشاهد، ومع الكثرة الكاثرة من النصوص في هذا الجانب والتي تتفاوت فيها الأجور والمقارنة بين زيارة كربلاء والحج والعمرة لبيت الله الحرام، فإنني[4] سأقتصر على نصين فقط لإحتوائهما على معظم تلك النصوص وتصوير مدى الكذب والافتراء عند القوم واستخفافهم بعقول اتباعهم وجرأتهم على الله عز وجل فيما نسبوه إلى أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين عليه السلام من الفضل لماتوا شوقاً وانقطعت أنفسهم عليه حسرات قلت: وما فيه؟ قال من زاره تشوقاً إليه كتب الله له ألف حجة متقبلة وألف عمرة مبرورة، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر، وأجر ألف صائم، وثواب ألف صدقة مقبولة وثواب ألف نسخة أريد بها وجه الله، ولم يزل محفوظاً سنته من كل آفة أهونها الشيطان، وكل به ملك كريم يحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وفوق رأسه وتحت قدمه، فإن مات من سنته حضرته ملائكة الرحمن يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له ويشيعونه إلى قبره بالاستغفار ويفسح له في قبره مد بصره ويؤمنه الله من ضغطة القبر ومن منكر ونكير يروعانه، ويفتح له باب إلى الجنة ويعطى كتابه بيمينه، ويعطي له يوم القيامة نور يضيء لنوره ما بين المشرق والمغرب، وينادي مناد هذا من زوار الحسين شوقاً إليه، فلا يبقى أحد يوم القيامة إلا تمنى يومئذ أنه كان من زوار الحسين عليه السلام[5]. وقد سوّغ هذه المبالغات أحد أئمتهم بذكر فضائلهم وما أعطوا من صفات فوق مستوى البشر فقال: إن هذا ليس بكثير على من جعله الله إماماً للمؤمنين، وله خلق السماوات والأرضين، وجعله صراطه وسبيله وعينه ودليله وبابه الذي يؤتي منه وجعله المتصل بينه وبين عباده من رسل وأنبياء وحجج وأولياء، هذا مع أن مقابرهم رضي الله عنهم فيها أيضاً إنفاق أموال ورجاء آمال وأشخاص أبدان وهجران أوطان وتحمل مشاق، وتجديد ميثاق، وشهود شعائر وحضور مشاعر[6]. ومبالغة في تقديس تلك القبور جعلوا لها مناسك خاصة بها وهذه المناسك ليست خاصة بقبر الحسين فقط، بل إنها عامة بجميع مشاهد أئمتهم[7]، وقد قال آغا بزرك الطهراني أحد شيوخ الشيعة، أن ما صنفه شيوخهم في المزار، ومناسكه قد بلغ ستين كتاباً[8]، وإليك منسكاً من تلك المناسك التي يؤدونها عند المشاهد باختصار: قال الصادق عليه السلام: إذا أردت المسير إلى قبر الحسين عليه السلام فصُم يوم الأربعاء والخميس والجمعة، فإذا أردت الخروج فاجمع أهلك وولدك وادع بدعاء السفر، واغتسل قبل خروجك، وقل حين تغتسل كذا، وكذا، فإذا خرجت فقل كذا وكذا، ولا تدّهن ولا تكتحل حتى تأتي الفرات، وأقِلْ من الكلام والمزاح، وأكثر من ذكر الله تعالى، وإياك والمزاح والخصومة، فإذا كنت راكباً أو ماشياً.. فإذا خفت شيئاً فقل.. فإذا أتيت الفرات فقل قبل أن تعبره... ثم أعبر الفرات.. ثم تفصيل إلى أن يقول واصنع هذه المناسك:.. ثم ضع خدك على القبر ((قبر علي بن الحسين)) وقل:.. ثم تدور من خلف الحسين عليه السلام إلى عند رأسه وصلّ عند رأسه ركعتين.. ثم تنكب على القبر وتقول.. ثم تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتوميء إليهم أجمعين[9] إلى غير ذلك من تفاصيل لبعض ما يفعلون عند المشاهد من طواف بها واستقبال لها حال الصلاة وغير ذلك آثرت تركها اختصاراً[10]، وانظر بعضها في أصول مذهب الشيعة[11]، كما أن الشيعة تعتقد أن بناء الأضرحة والقباب على مراقد الأنبياء والأئمة ـ والشخصيات الإسلامية من أفضل المقربات لله سبحانه وتعالى، وإليك الرد على كل من:
1 ـ قدسية كربلاء:
لا يوجد نص في كتاب الله ولا صح شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أو علماء الأمة في خير القرون يدل على قدسية كربلاء أو الفضائل المزعومة لها وغيرها كالنجف وما يسمى بالعتبات المقدسة، وأما الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله من قدسية وفضائل فهي، المسجد الحرام، والمشاعر المقدسة داخل المسجد الحرام وخارجه، كالكعبة، ومقام إبراهيم، بئر زمزم، الصفا والمروة، منى، رحاب عرفات، رحاب مزدلفة والمسجد النبوي وفضل الصلاة فيه، وفضل ما بين بيت الرسول ومنبره، وجواز شد الرحل إليه، وإلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وفضائل المدينة، وفضائل مسجد قباء، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة للمدينة، وجود البركة في صاع أهل المدينة والبقاء بها، تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وتحريم صيدها وشجرها، فضل وادي العقيق وبركته وفضائل المسجد الأقصى وبركاته، فضل الصلاة فيه، جواز شد الرحال إليه، وجود البركة حوله، وأنه ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام، الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وجاءت الآيات والأحاديث في فضل سائر المساجد وبيوت الله عز وجل، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كون المساجد بيوت الله في الأرض، وفضل السعي إلى المساجد وملازمتها وفضل بناءها[12]..ألخ أما ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدسية كربلاء وفضائلها فإنه لا يصح في ذلك، وهذا يجري حكمه على البلاد والمقابر والقبور والأضرحة مما يزعم الشيعة أو جهّال السنة.
2 ـ هدي الإسلام في زيارة القبور:
كما هو في سائر شرائع الإسلام أنها تكون في غاية من الاعتدال والسماحة، وصادرة عن حكمة بالغة تضمن لمن عمل بها على بصيرة الفوز، والنجاح، والسعادة، دون أن يتعرض بسببها لأي نوع من أنواع الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة، كذلك كانت شرعية زيارة القبور في الإسلام حينما كان الناس حدثاء عهد بالكفر والشرك وعبادة غير الله نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن الزيارة حتى يكون هناك برزخ فاصل بين العهدين عهد الشرك وعهد التوحيد، وعهد الجاهلية، وعهد الإسلام حتى يذهب ما في النفوس من الإلتفات إلى الأرض وما عليها ممّا يقدِّسه الناس، وعهد السموّ الروحي والصفاء القلبي والذهني الذي لا يبقى معه إلتفات إلى غير الله عز وجل[13]، وفعلاًُ حينما حصل ذلك، خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أمته قائلاً: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها[14] فإنها تذكر الموت. وفي رواية: فإن في زيارتها تذكرة، وفي أخرى: فإنها تذكر الآخرة[15]، وفي ثالثة: ((فزوروها ولتزدكم زيارتها خيراً[16]، وفي رواية رابعة: فإن فيها عبرة[17]، ومن حديث أنس رضي الله عنه: ثم بدا لي أنها تُرقّ القلب وتُدمع العين وتُذكر الموت، والدار الآخرة، وتزهِّد في الدنيا، وترق القلب وتدمع العين، وينبغي أن يحرص الزائر أن تزيده زيارته للمقابر خيراً، وهذا كله فيما يخص الزائر[18]، وأما الأموات فإن لهم فيها نصيب أيضاً حيث كان صلى الله عليه وسلم إذا زارهم الله عنها قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجَّلون وإنا إن شاء الله بكم للاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد[19]. ففي هذه الأحاديث بيان أن من مقاصد الزيارة وعللها السلام على الأموات والدعاء والاستغفار لهم، قال الإمام الصنعاني ـ في سبل السلام ـ بعد ما شرح أحاديث الإذن بالزيارة: والكل دالّ على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها وأنها للاعتبار.. فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعاً[20]. فهذه هي زيارة القبور في هدي الإسلام كما علمهم إيّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أتى بها على هذا الوجه ولهذه الغاية ظفر بالأجر والفائدة المترتبة عليها، ومن زارها لغير ذلك فهي ردٌّ عليه. ثم إنها إما أن تكون بدعية وإما أن تكون شركية بحسب ما يحصل فيها من أعمال ويقارنها من اعتقاد وقصد ذلك هو هدي الإسلام في زيارة القبور، وتلك هي أهداف وغايات الزيارة واضحة ناصعة بعيدة عن كل ذريعة تؤدي إلى الشرك بأربابها والغلوّ في أصحابها، وقد جاءت بعض القيود التي تسد الثغرات الموصلة إلى ذلك[21].
القيد الأول: ألا تتخذ أعياداً، قال صلى الله عليه وسلم: لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم[22]. فليس من هدي الإسلام تعيين يوم معين من سنة أو شهر، أو أسبوع يخصص لزيارة القبور كما هو شأن[23] بعض الناس.
القيد الثاني: ألا تُشَدّ إليها الرحال، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي[24]. فهذا النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة مقصود به أن يشد رحله مسافراً إلى مكان بعينه لعبادة الله تعالى فيه[25]، ولم يثبت أن أحداً من الصحابة أو التابعين، أو علماء أتباع التابعين سافر إلى قبر، أو مشهد لمجرد الزيارة، ولم يصرح أحد منهم باستحباب ذلك العمل[26]، وقال العلامة صديق حسن خان في كتابه السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم ابن الحجاج وبعد إيراد مختلف الأقوال ومناقشتها قال: وأما السفر لغير زيارة القبور كما تقدم نظائره، فقد ثبت بأدلة صحيحة، ووقع في عصره صلى الله عليه وسلم وقرره النبي صلى الله عليه وسلم فلا سبيل إلى المنع منه والنهي عنه، بخلاف السفر إلى زيارة القبور فإنه لم يقع في زمنه ولم يقر أحداً من أصحابه، ولم يشر في حديث واحد إلى فعله واختياره ولم يشرعه لأحد من أمته لا قولاً ولا فعلاً[27].
3 ـ البناء على القبور واتخاذها مساجد:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن البناء على القبور وتعظيمها بأي نوع من أنواع التعظيم، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يفعل ذلك إلا شرار الخلق عند الله تعالى، فعن جندب بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول:... ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك[28]، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه ويبنى عليه[29]. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد.[30] ففي هذه الأحاديث التي مرت النهي الصريح عن أي نوع من أنواع التعظيم للقبور ومن ذلك، النهي عن اتخاذها مساجد، والنهي عن مجرد البناء عليها، وعن تجصيصها، والكتابة عليها، وقد توجه النهي أول ما توجه إلى قبور الأنبياء والصالحين، لماذا؟ لأنها هي التي يخشى الغلو في أربابها عكس قبور سائر الناس، والفتنة لها أعظم من غيرها. وهذا هو الواقع المشاهد فإنه ما من مشهد إلا ويزعم أنه بني على ولي صالح، ذي مناقب وكرامات عظيمة يرجى نفعه ويخاف انتقامه، أو يزعم أنه على نبي من أنبياء الله كما ظهر ذلك تخميناً في أماكن كثيرة من بلاد الله، ولكثير من الأنبياء مع تصريح العلماء أنه لا يُعلم على التحقيق واليقين إلا قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وزاد بعضهم قبر الخليل عليه في الموضع المشهور باسمه في فلسطين[31]. وقد قال النووي في تعليقه على حديث رسول الله السابق: قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه، والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها، مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بنوا على القبر حيطاناً مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد، فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر، ولهذا قال في الحديث. ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجداً. والله أعلم بالصواب[32]، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور المشرفة مع قرن ذلك بطمس التماثيل، فعن أبي الهيّاج الأسدي ـ رحمه الله ـ قال: قال لي على بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته[33]. فهذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يبعث رئيس شرطته أبا الهياج الأسدي لطمس القبور كما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أنه يطبق ما عرفه وفهمه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك[34]. وقد صرّح العلماء بخلوّ القرون المفضلة من وجود المشاهد قال ابن تيمية وهو يتكلم عن مشهد رأس الحسين رضي الله عنه:... دع خلافة بني العباس في أوائلها وفي حال استقامتها فإنهم حينئذ في قوتهم وعنفوانهم ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام لا في الحجاز ولا اليمن ولا الشام والعراق ولا مصر ولا خراسان ولا المغرب ولم يكن قد أحدث مشهد لا على قبر نبي ولا صاحب ولا من أهل البيت وصالح أصلاً، بل عامة هذه المشاهد محدثة، بعد ذلك، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس وتفرقت الأمة وكثر فيهم الزنادقة والملبسون على المسلمين وفشت فيهم كلمة أهل البدع وذلك في دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب ثم جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر وقريباً من ذلك ظهر بنو بويه في كثير منهم زندقة وبدع قوية، وفي دولتهم قويَ بنو القداح بأرض مصر، وفي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي رضي الله عنه بناحية النجف، وإلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول إن قبر علي هناك وإنما دفن علي رضي الله عنه بقصر الإمارة بالكوفة، وإنما ذكروا أن بعضهم حكى عن الرشيد أنه جاء إلى بقعة هناك وجعل يعتذر إلى المدفون فيها، فقالوا إنه علي وإنه اعتذر إليه مما فعل بولده، فقالوا هذا قبر علي، وقد قال قوم إنه قبر المغيرة بن شعبة[35].. ويقول الذهبي في ترجمة عضد الدولة البويهي: وكان شيعياً جلداً أظهر بالنجف قبراً زعم أنه قبر الإمام علي وبنى عليه المشهد وأقام شعار الرفض ومأتم عاشوراء والاعتزال ثم قال: وبه ختم ترجمة عضد الدولة: قلت: فنحمد الله على العافية فلقد جرى على الإسلام في المائة الرابعة بلاء شديد بالدولة العبيدية بالمغرب، وبالدولة البويهية بالمشرق وبالأعراب القرامطة فالأمر لله تعالى[36]. وقال ابن كثير في حوادث سنة 347هـ: وقد امتلأت البلاد رفضاً وسباً للصحابة من بني بويه وبني حمدان والفاطميين، وكل ملوك البلاد مصراً وشاماً وعراقاً وخراسان وغير ذلك من البلاد كانوا رفضاً وكذلك الحجاز وغيره، وغالب بلاد المغرب، وكثر السب والتكفير منهم للصحابة[37]. ويؤيده كذلك ما ذكره السمهودي ـ رحمه الله ـ في كتابه وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، وهو يتحدث عن قبر فاطمة رضي الله عنها قال: وإنما أوجب عدم العلم بعين قبر فاطمة رضي الله عنها وغيرها من السلف ما كنوا عليه من عدم البناء على القبور وتجصيصها[38]. وقال الشافعي ـ رحمه الله : ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة، قال الراوي عن طاووس : ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تبنى القبور أو تجصص ـ قال الشافعي: وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها فلم أرَ الفقهاء يعيبون ذلك[39]
إن الحقيقة التاريخية تقول أن القرون الثلاثة المفضلة مضت وليس هناك قبور معظمة ولا مشاهد أو قباب ولا غيرها من مظاهر القبورية، ولا شيء من طقوس ومراسيم العبادات القبورية، وما حاول فعله الشيعة من ذلك فقد جُوبه بردع قوي من خلفاء المسلمين وأمرائهم، كأبي جعفر المنصور العباسي، وهارون الرشيد[40].



[/align]



ميارى 15 - 5 - 2010 09:33 PM

رابعاً : خروج الحسين رضي الله عنه في الميزان الشرعي:

إن عدم التمعن في معارضة الحسين ليزيد، والتأمل في دراسة الروايات التاريخية الخاصة بهذه الحادثة، قد جعلت البعض يجنح إلى اعتبار الحسين خارجاً على الإمام، وأن ما أصابه كان جزاءً عادلاً وذلك وفق ما ثبت من نصوص نبوية تدين الخروج على الولاة، فقد صلى الله عليه وسلم: من أراد أن يفرق بين المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان[1]. قال السيوطي: أي فاضربوه شريفاً أو وضيعاً على إفادة معنى العموم[2]. وقال النووي معلقاً على هذا الحديث: الأمر بقتال من خرج على الإمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك وينهي عن ذلك فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بالقتل قتل وكان دمه هدراً[3]، وفي الحديث وغيره من الأحاديث المشابهة له جاء تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على أن الخارج على سلطان المسلمين يكون جزاؤه القتل، وذلك لأنه جاء ليفرق كلمة المسلمين، والتعلق المبدئي بهذه النصوص جعلت الكثير يظنون أنا أبا بكر بن العربي يقول: إن الحسين قتل بسيف جده صلى الله عليه وسلم[4]. وإن الجمود على هذه الأحاديث جعلت الكرامية مثلاً يقولون: إن الحسين رضي الله عنه باغ على يزيد، فيصدق بحقه من جزاء وقتل[5]. وأما البعض فقد ذهبوا إلى تجويز خروج الحسين رضي الله عنه واعتبر عمله هذا مشروعاً، وجعلوا المستند في ذلك إلى أفضلية الحسين وإلى عدم التكافؤ مع يزيد[6]، وأما البعض فقد جعل خروج الحسين خروجاً شرعياً بسبب ظهور المنكرات من يزيد[7]. ولكن إذا أتينا لتحليل مخرج الحسين رضي الله عنه ومقتله، نجد أن الأمر ليس كما ذهب إليه هؤلاء ولا هؤلاء، فالحسين لم يبايع يزيد أصلاً، واعترض على فكرة التوريث دفاعاً عن الشورى ومبادئ الإسلام الداعمة لحق الأمة في اختيار من تريد وخرج معه إلى مكة عبد الله بن الزبير وذهبا لأجل جمع الأتباع وحث المسلمين على الوقوف في وجه الانحراف الذي أحدث في نظام الحكم وقلبه من الشورى إلى الوراثة، واستنهض الهمم لتصحيح هذا الخلل الذي استجد في عالم الإسلام وبدأت رحلة الحسين لجمع الأتباع والأنصار نحو التصحيح وإعادة نظام الشورى ومنهاج الخلافة الراشدة والمبادئ الكريمة، لا كما يزعم البعض من كونه خرج طمعاً في الحكم والسلطة لأنه ينبغي أن تكون فيه وفي ذريته. بتلك النظرة فيها بخس للحسين ومنهجه ولأهل البيت ومنهج القرآن وهدي جده عليه الصلاة والسلام[8].

إن القول بنظرية النص في علي وذريته قول باطل ولا توجد أية آثار ـ صحيحة لنظرية النص في قصة كربلاء ـ ولا في غيرها ـ وقد تحدث عن ذلك الأستاذ أحمد الكاتب في كتابه تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه[9]، وقد ناقشت نظرية النص على ولاية علي وذريته وأدله الشيعة في ذلك في كتابي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.

إن الحسين رضي الله عنه لم يبايع يزيد بن معاوية وشرع في إعداده العدة ولم يخرج عن تعاليم الإسلام التي تشترط الإعداد الجيد لإزاحة الحاكم الجائر حتى يغلب الظن على القدرة على ذلك،، فهو قد أعد القوة كما تصورها حتى ظنها كافية لتحقيق غرضه، ولكن حساباته ـ بلا شك ـ كانت[10] خاطئة فالحسين لم يقم خطأ شرعي مخالف للنصوص، وخاصة إذا عرفنا أن جزءً من الأحاديث جاءت مبينة لنوع الخروج، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة المكتوبة إلى الصلاة التي بعدها كفارة لما بينهما، والجمعة إلى الجمعة، والشهر إلى الشهر يعني رمضان كفارة لما بينهما قال: ثم قال بعد ذلك: إلا من ثلاث قال: فعرفت أن ذلك الأمر حدث ـ إلا من الإشراك بالله، ونكث الصفقة، وترك السنة: قال: أما نكث الصفقة: أن تبايع رجلاً ثم تخالف إليه تقاتله بسيفك، وأما ترك السنة فالخروج من الجماعة[11].

والحسين رضي الله عنه ما خرج يريد القتال ولكن ظن أن الناس يطيعونه، فلما رأى انصرافهم عنه، طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر، أو إتيان يزيد[12]، ولقد تعنّت ابن زياد أمام مرونة الحسين وسهولته وكان من الواجب عليه أن يجيبه لأحد مطالبه، ولكن ابن زياد طلب أمراً عظيماً من الحسين، وهو أن ينزل على حكمه، وكان من الطبيعي أن يرفض الحسين هذا الطلب، وحُقّ للحسين أن يرفض ذلك، ذلك لأن النزول على حكم ابن زياد لا يعلم نهايته إلا الله، ولربما كان حكمه فيه القتل، ثم إن هذا العرض إنما كان يعرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكفار المحاربين أعداء الإسلام، والحسين رضي اله عنه ليس من هذا الصنف بل هو من أفاضل المسلمين وسيدهم[13]، ولهذا قال ابن تيمية: وطلبه أن يستأسر لهم، وهذا لم يكن واجباً عليه[14]. والحقيقة أن ابن زياد خالف الوجهة الشرعية والسياسية حين أقدم على قتل الحسين رضي الله عنه[15]. فالظالم هو ابن زياد وجيشه الذين قدموا على قتل الحسين رضي الله عنه بعد أن رفضوا ما عرض الحسين من الصلح. ثم إن نصح الصحابة للحسين يجب أن لا يفهم على أنهم يرونه خارجاً على الإمام كما ذهب لذلك يوسف العش[16]. بل إن الصحابة رضوان الله عليهم أدركوا خطورة أهل الكوفة على الحسين وعرفوا أن أهل الكوفة كذبة، وقد حملت تعابير نصائحهم هذه المفاهيم[17]. يقول ابن خلدون: فتبين بذلك غلط الحسين، إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه، لأنه منوط بظنه، وكان ظنه القدرة على ذلك[18]. وأما الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا بالحجاز ومصر والعراق والشام والذين لم يتابعوا الحسين رضوان الله عليه، فلم ينكروا عليه، ولا أثّموه، لأنه مجتهد، وهو أسوة للمجتهدين به[19]. قال ابن تيمية: وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله، فإنه رضي الله عنه لم يفارق الجماعة، ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع، إلى بلدة، أو إلى الثغر، أو إلى يزيد، داخلاً في الجماعة، معرضاً عن تفريق الأمة، ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك، فكيف لا تجب إجابة الحسين[20]، ولم يقاتل وهو طالب الولاية، بل قتل بعد أن عرض الانصراف بإحدى ثلاث... بل قتل وهو يدفع الأسر عن نفسه، فقتل مظلوماً[21].



خامساً : بعض الرؤى في قصة الحسين رضي الله عنه:

ومن هذه الرؤى المتعلقة بقصة مقتل الحسين رضي الله عنه، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بنصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه، قلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه لم أزل أتتبعه منذ اليوم قال عمار راوي ذلك الحديث: فحفظنا ذلك فوجدناه قُتِل ذلك اليوم[22]، وهذا سنده صحيح عن ابن عباس[23]، وروى ابن سعد بأسانيده: قالوا: وأخذ الحسين طريق العُذيب[24] حتى نزل قصر أبي مقاتل[25]، فخفق خفقة، ثم استرجع، وقال: رأيت كأن فارساً يُسايرنا، ويقول: القوم يسيرون، والمنايا تًسري إليهم[26]، وقال بعض الناس أن الحسين رضي الله عنه بني خروجه على يزيد على رؤية رآها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأن رسول الله أمره بأمر وهو ماضٍ له[27]، وقد اعتمد على الرؤى قوم في أخذهم الأحكام ويقول الشاطبي: وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها فيقولون: رأينا فلاناً الرجل الصالح، فقال لنا: أتركوا كذا واعملوا كذا، ويتفق مثل هذا كثيراً للمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي كذا وأمرني بكذا، فيعمل بها ويترك بها، معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ، لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال إلاَّ أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عمل بمقتضاها، وإلاَّ وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأما استفاده الأحكام فلا[28]. وعليه فلا عصمة فيما يراه النائم، بل لا بد من عرضه على الشرع فإن وافقه فالحكم بما استقر، لأن الأحكام ليست موقوفة على ما يرى من المنامات، وإن خالف رد مهما كان حال الرائي أو المرئي، ويحكم على تلك الرؤيا بأنها حلم من الشيطان وأنها كاذبة وأضغاث أحلام[29]. ولكن يبقى أن يقال: ما فائدة الرؤيا الموافقة للشريعة، إذا كان الحكم بما استقر عليه الشرع[30]؟. فائدتها التنبيه والبشرى كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة[31]، فإن الرجل الصالح قد يرى في النوم ما يؤنسه أو يزعجه فيكون ذلك دافعاً له إلى فعل مطلوب أن ترك محظور[32].



سادساً : أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتل الحسين رضي الله عنه:

عن أم سلمة قالت: كان جبريل عند النبي صلى اله عليه وسلم والحسين معي فبكى الحسين فتركته فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فدنى من النبي صلى الله عليه وسلم فقال جبريل: أتحبه يا محمد؟ فقال: نعم. قال: إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها فأراه إياها فإذا الأرض يقال لها كربلاء[33]، وقد وقع الأمر كذلك بعد مضي سنين طويلة، وهذه معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم الدالة على نبوته وأنه رسول الله حقاً وصدقاً، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عن طريق الوحي[34].



سابعاً : انتقام الله من قتلة الحسين رضي الله عنه:

لقد انتقم الله للحسين الشهيد رضي الله عنه من قاتليه وعلى رأسهم عبيد الله بن زياد، ويزيد بن معاوية، وكل من شارك في قتله لم يَسلم، أما عبيد الله بن زياد فقد قتله إبراهيم بن الأشتر وحز رأسه وأرسل به إلى المختار ـ بن أبي عبيد الله الثقفي يقول بن عبد البر ـ قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ يوم الأحد لعشر مضين من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى وستين ...وقضي الله ـ عز وجل ـ أن قتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة سبع وستين، قتله إبراهيم بن الأشتر في الحرب، وبعث برأسه إلى المختار، وبعث به المختار إلى بن الزبير وبعث به ابن الزبير إلى علي بن الحسين[35]،وقد صحَّ من حديث عمار بن عمير قال: جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه فأتيناهم وهم يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حية تخلل الرؤوس حتى دخلت منخر عبيد الله فمكثت هُنيَّهة ثم خرجت وغابت. ثم قالوا: قد جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً[36]. أما يزيد بن معاوية فقد مقته الناس وأبغضوه لمقتل الحسين وثار عليه غير واحد، وثار عليه أهل المدينة النبوية الشريفة، فارتكب جريمة أخرى هي موقعة الحرة بالمدينة فلم يمهله الله تعالى، وكانت دولته أقل من أربع سنين[37]، وجاء عن أبي رجاء العطاردي قال: لا تسبوا علياً ولا أحداً من أهل البيت، كان لنا دار من بلهجيم قال: ألم تروا إلى هذا الفاسق الحسين ابن على قتله الله؟ فرماه الله بكوكبين في عينيه فطمس بصره[38]. قال ابن كثير: وأما ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح، فإنه قلّ من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة أوعاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض وأكثرهم أصابه الجنون[39].





ميارى 15 - 5 - 2010 09:39 PM

ثامناً : القوى المضادة للإسلام ومصيبة كربلاء:

نجحت القوى المضادة لدولة الإسلام في حدوث واقعة كربلاء ثم وجدوا فيها الفرصة السانحة لتمزيق الجماعة الإسلامية، وتفريق الكلمة بتحويل النزاع بين المسلمين، فقد كانت الكوفة مجمع شذاذ الناس وأشرارهم مع خيارهم فقد أتى إليها الصحابة، كما أتى النصارى واليهود، وأقبلت القبائل العربية، كما أقبل الموالي وانتشرت الزندقة والسحر وانتشرت الحلقات المتعارضة والمجامع المتنافرة، وشرع اليهود بالكوفة في نشر التلمود، والنصارى كانوا ينادون بتجسيد الألوهية، فأطلت رؤوس مجامعهم السرية مع المراكز المتطفلة الخفية واستغل دم الحسين واعتبروه ذا قيمة في التضحية تشبه دم المسيح عند النصارى، وتسلل إلى نفوس من أسلم من الفرس من هذا الطريق يستثيرونهم ضد الدولة بحجة أن الحسين كان قد تزوج جيهان شاه ابنة يزدجرد أم علي بن الحسين[1]، فارتفعوا بهذه الفاجعة عن مصائب البشر الاعتيادية فشبهوها بمصائب الأنبياء[2]، وتسللت من خلالها أفكار أهل الكتاب بسهولة.. واعتبروا أن الحسين لم يتألم لما أصاب أهله ونفسه من القتل والإيذاء بل أنه تألم لأن أمة جدّه المسئول عن هدايتها بصفته الإمام والحجة ضلت بحربها إياه[3]، وهذا يذكرنا بفكرة النصارى عن صلب المسيح وتعذيبه ـ فكان من السهل بذر هذه الفكرة من قبل أهل الكتاب في نفس من أسلم حديثاً، فأقبل الموالي على التشيع ورأوا في الحسين إنساناً روحانياً قدر له الله منذ الأزل أن يفتدي الإسلام بدمه ويحفظه بتضحية نفسه فقرن بدور المسيح المخلص[4]... وكان لمستشاري يزيد من النصارى مثل سرجون أثر في تلك الأحاديث الدامية وما ترتب عليها من نكبات ومصائب[5].



تاسعاً : استشهاد الحسين رضي الله عنه نقطة تحول في التاريخ الفكري والعقدي للتشيع :

يعتبر استشهاد الحسين رضي الله عنه نقطة تحول في التاريخ الفكري والعقدي للتشيع، إذ لم يقتصر أثر هذه الحادثة الأليمة على إذكاء التشيع في نفوس الشيعة وتوحيد صفوفهم بل ترجع أهمية هذه الحادثة إلى أن التشيع كان قبل مقتل الحسين مجرد رأي سياسي لم يصل إلى عقائد الشيعة، فلما قتل الحسين امتزج التشيع بدمائهم وتغلغل في أعماق قلوبهم، وأصبح عقيدة راسخة في نفوسهم[6] لقد نظر الشيعة إلى استشهاد الحسين على أنه أهم من استشهاد علي بن أبي طالب نفسه، لأن الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم[7]، وقد اعتنق الفرس مبدأ التشيع وبذلك تمركزت العقيدة الشيعية حول الحسين وسلالته دون الحسن وذريته، وإلى اعتناق مبدأ حق الحسين بن علي الإلهي وذريته في الخلافة،وأن الإمامة بالنص لا بالاختيار[8]، بل اعتبر الشيعة سفك دم الحسين في سهل كربلاء ذا قيمة في التضحية تشبه سفك دم المسيح المزعومة عند المسيحية[9]، ولم يقتصر التمايز الفكري والعقدي بين أهل السنة والشيعة بعد مقتل الحسين، بل إن الشيعة أنفسهم قد أثر فيهم مصرع الحسين، وانقسموا على أنفسهم، وافترقوا بعد مقتله إلى فرق[10]، ولكي يكون لمقتل الحسين أهمية خاصة عند الشيعة فقد أكدوا على أهمية يوم عاشوراء، وتفننوا في إظهار الحزن في ذلك اليوم كما ابتدعوا لفضائل ذلك اليوم من الأحاديث والآثار ما لا يقع عليه الحصر، وقد جعلوا البكاء على الحسين يوم عاشوراء يمسح الذنوب ويغفر ما تقدم منها، مما جعل الاحتفال بيوم عاشوراء واجباً دينياً يقوم به الحكام والمحكومين على السواء ويبالغون في إظهار عواطفهم المذهبية في هذا اليوم الحزين[11]، لقد أراد واضعو التشيع وعقائده التأكيد على يوم عاشوراء[12] ويكون التشيع عقيدة ملتهبة في نفوس أتباعها وكانت دولهم تهتم بهذا الأمر، كالدولة البويهية بالعراق والدولة العبيدية الفاطمية بمصر[13]، وقد تعرضت لعقائد الشيعة بنوع من التفصيل في كتابي عن أمير المؤممين علي رضي الله عنه .



عاشراً : من دعاء الحسين رضي الله عنه :

دعا الحسين رضي الله عنه بهذا الدعاء قبل المعركة: الله أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة[14]. إن الحسين رضي الله عنه يعلمنا حسن الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى والثقة به والتوكل عليه والرغبة إليه فجدّه صلى الله عليه وسلم، قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء[15]، وقد تعلم الحسين رضي الله عنه من تعاليم جدّه صلى الله عليه وسلم، بأن الاستعانة لا تكون إلا بالله والشكوى لا تكون إلا إليه سبحانه، فلا يستعين المرء ولا يشكو إلا إلى لله وحده دون غيره من نبي أو إمام أو صالح.. ويعلمنا الحسين رضي الله عنه أن الدعاء لا يصرف إلا لله وحده دون سواه، فهذا الحسين رضي الله عنه لم يدعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أباه علياً، وهو في هذا الموقف العصيب الذي يودع فيه الحياة، بل دعا الله وحده وتوسل إليه فقط وفي هذا يعلمنا الحسين رضي الله عنه منهجاً يجب ألا نحيد عنه، وهو عند الدعاء لحاجة المرء أو طلب رزق أو شفاء مريض أو غيرها عليه أن يدعو الله وحده ولا يشرك في دعائه أحداً كائناً من كان هذا المدعو[16]، فمن أحب الحسين رضي الله عنه فعليه أن يدعو الله كما دعا الحسين رضي الله عنه، ولا يقول يا حسين أو يا علي، فإن دعاء المخلوقين انحراف عظيم عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي العلماء الربانيين وعلى رأسهم أئمة أهل البيت الأطهار

قال الشاعر :

وأفنيــة الملـوك محجبـات

وبـاب الله مبذول الفِنَاءِ

فما أرجو سواه لكشف ضٌريِّ

ولا أفزعُ إلى غير الدُّعاء[17]



المبحث الخامس: وقعة الحرّة: 63هـ

إن ثورة أهل المدينة ومعارضتهم للحكم الأموي وخلافة يزيد بن معاوية ما هي إلا امتداد طبيعي لمعارضة ابن الزبير التي بدأها في مكة، ثم إن قرب فترة يزيد بن معاوية (60هـ) بالخلافة الراشدة جعل أبناء الصحابة أكثر شوقاً لإعادة الشورى وتمكينها بين الناس، وعندما قتل الحسين رضي الله عنه بتلك الصورة الشنيعة ومعه أخوته وأبناء عمه على يد عبيد الله بن زياد أحس الكثير من أبناء الصحابة بحجم الاستبداد والتسلط الذي بدأت تمارسه الدولة الأمر الذي جعل الناس في الحجاز يتعاطفون مع ابن الزبير رضي الله عنه، ورفعه شعار الشورى، في الوقت الذي لم يحاكم يزيد عبيد الله بن زياد كأحد المسئولين المباشرين عن الجريمة النكراء التي لحقت بالحسين وأهله في كربلاء واعتبر الناس هذا التصرف محاباة لابن زياد من قبل ابن عمه يزيد بن معاوية[18].

ومما لا شك فيه أن مقتل الحسين ومن معه بتلك الصورة قد أهاج الناس جميعاً، وولد لديهم شعوراً بالحزن والأسى العميق على فقدانه بتلك الطريقة البشعة[19].



أولاً : وفد المدينة يزور يزيد بدمشق:

أراد والي المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان أن يثبت ولاء أهل المدينة ليزيد، فاختار منها وفداً وأرسلهم إلى دمشق، وهناك استقبلهم يزيد استقبالاً حسناً، فأكرم وفادتهم، وأحسن جوائزهم وأجزل عطاءهم وكان في وفد المدينة عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص المغيرة الحضرمي، والمنذر بن الزبير، ورجال كثير من أشراف أهل المدينة، وبعد أن أخذوا جوائزهم انصرفوا إلى المدينة، وهناك عابوا يزيد وشتموه، وأظهروا العداء له، وخلعوه[20]، وأخرج أهل المدينة عامل يزيد عثمان بن محمد من المدينة كما أخرجوا مروان ابن الحكم وسائر بني أمية وبلغ الأمر يزيد، وعلم بما كان من أهل المدينة من خلعه، والميل إلى ابن الزبير فأعد جيشاً لغزو المدينة أسند قيادته لمسلم بن عقبة المري[21].



ثانياً : موقف علماء أهل المدينة المعارضين للخروج:

1 ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه:

اعترض بعض علماء المدينة عن خلع يزيد والخروج عليه ولم يؤيدوا من قام بالخروج، وقاموا بنصح إخوانهم واعتزلوا الفتنة وكان أغلب هذا الرأي من أهل العلم والفقه في الدين وفي مقدمة هؤلاء العالم الجليل الإمام القدوة عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد اشتهر عنه إنكاره على الذين رفضوا البيعة ليزيد وسعوا في خلعه[22]، فعندما أراد عبد الله بن مطيع الفرار من المدينة تهرباً من البيعة ليزيد وسمع ذلك عبد الله بن عمر خرج إليه حتى جاءه فقال له: أين تريد يا ابن عم؟ فقال: لا أعطيهم طاعة أبداً. فقال له: أين تريد يا ابن عم؟ لا تفعل فإني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات ولا بيعة عليه مات ميتة جاهلية[23] ، وعندما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله وإني لا أعلم غدر أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه[24]. فقد عارض ابن عمر من خرج من أهل المدينة لسببين:

الأول: نقضهم البيعة، وهو يرى أنهم أعطوا البيعة عن رضى واختيار، ولم يفعلوا مثل الحسين رضي الله عنه، حيث كان موقفه واضحاً منذ البداية، ولم يعط البيعة، وذلك عند ابن عمر خيانة وغدر، ويتضح ذلك في قوله لعبد الله بن مطيع: إني سمعت رسو الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية[25]. وأوجب على أهله الوفاء بالبيعة مذكراً لهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة. وإنا قد بايعنا هذا الرجل، ولا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيعة الله ورسوله، ثم ينصب له القتال[26]

الثاني: هو تعظيم حرمة دماء المسلمين وحرمة الاقتتال بينهم وتزداد هذه الحرمة في الأماكن المقدسة كمكة والمدينة، ولقد استدل ابن حجر بموقف ابن عمر السابق والأحاديث التي أستشهد بها على وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه، ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق[27]. والواقع أن موقف ابن عمر لا يدل على جواز بيعة رئيسي الدولة الفاسق الظالم، ولا على تحريم خلعه بسبب فسقه وظلمه، وإنما يدل على تحريم الغدر بكل أشكاله، وفي جميع مواضعه، بما فيها غدر الأمة برئيس الدولة الذي اختارته وبايعته[28]، وكأن لسان حال ابن عمر يقول: إذا كنتم تعلمون من يزيد الفسق والظلم فلماذا بايعتموه في أول الأمر وجعلتموني أبايعه؟ لأن ابن عمر لم يبايع حتى بايع أهل المدينة جميعهم ـ أما وقد بايعتموه فيلزمكم الوفاء بالبيعة، وكان ابن عمر يشك في أقوالهم عن فسق يزيد، ولم يكن وحده في هذا الشك، بل كان محمد ابن الحنفية ينكر عليهم اتهام يزيد بترك الصلوات وشرب الخمر[29]، ولعل ذلك هو ورع ابن عمر في أن يتهم أحداً في دينه ما لم يبلغ عنده ذلك الأمر مرحلة اليقين ومع ذلك فإنه، مع بقائه بيعة يزيد، اعتزل القتال ولم يشارك أياً من الطرفين[30] فهذا موقف شيخ الصحابة في عصره، وأروع الناس وأزهدهم وأفقههم في دين الله، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح والتقوى[31]. وقالت عنه عائشة ما رأيت ألزم للأمر الأول من عبد الله بن عمر[32]، وقال عنه سعيد بن المسيب: لو شهدت على أحد أنه من أهل الجنة لشهدت على ابن عمر[33]،وقال عنه علي بن الحسين إن بن عمر أزهد القوم وأصوب القوم[34]، وقال عنه مالك أقام ابن عمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة يفتي الناس في الموسم، وكان من أئمة الدين[35].

2 ـ محمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية):

فإنه لم ير خروج أهل المدينة على يزيد ولم يستجب لدعوتهم إياه بالخروج معهم بل جادلهم في نفي التهم التي أشاعوها عن يزيد، ولما رجع وفد أهل المدينة من يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية، فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته واقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة، متحرياً للخير، يسأل عن الفقه، ملازماً للسنة، قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعاً لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر لي الخشوع؟ فأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق، وإن لم يكن رأيناه فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال: ((إلا من شهد بالحق وهم يعلمون)) (الزخرف ، الآية : 86) ولست من أمركم في شيء[36]. قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك فنحن نوليك أمرنا. قال: ما أستحل القتال على ما تريدون عليه تابعاً ولا متبوعاً. قالوا: فقد قاتلت مع أبيك، قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على ما قاتل عليه، فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا قال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقاماً تحض الناس فيه على القتال، قال: سبحان الله آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذا ما نصحت لله في عباده. قالوا إذا نكرهك. قال: إذا آمر الناس بتقوى الله ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق ولما رأى محمد بن الحنفية الأمور تسير في الاتجاه الذي لا يريده، وبدا يظهر له سوء عاقبة تصرفات المخالفين له من أهل المدينة حينما ترامى إلى الأسماع قدوم جيش أهل الشام إلى المدينة، لذلك قرر ترك المدينة وتوجه إلى مكة[37]، وسار أهل بيت النبوة على هذا المنوال ولزموا الطاعة، ولم يخرجوا مع أهل المدينة ضد يزيد، فعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لم يخرج مع أهل المدينة ولزم الطاعة ليزيد[38]، وهو الذي قال فيه الزهري: كان أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة، وقال عنه: لم أدرك من آل البيت أفضل من علي بن الحسين[39]، وكذلك ابن عباس رضي الله عنه وهو فقيه الأمة وحبرها وعالمها لم ينقل عنه تأييد لأهل المدينة كما أنه لم يذكر عنه أنه نزع بيعة يزيد بن معاوية، فهؤلاء أفضل آل بيت النبوة في زمانهم ومع ذلك لم يخرجوا مع أهل المدينة ومسوغات الخروج على يزيد عندهم هي أكثر من غيرهم[40].



ميارى 15 - 5 - 2010 09:41 PM

3 ـ النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه:

وممن عاب على أهل المدينة خروجهم وعارضه الصحابي الجليل النعمان بن بشير الأنصاري وقد كان إبان خروج أهل المدينة في الشام، فاستغل يزيد فرصة وجوده فبعثه إلى أهل المدينة لعله يفلح في صدهم عن الخروج ويعيدهم إلى الطاعة ولزوم الجماعة، فاستجاب النعمان لذلك وقدم المدينة فجمع عامة الناس، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة، وخوفهم الفتنة وقال لهم: إنه لا طاقة لكم بأهل الشام فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا، وفساد ما أصلح الله من أمرنا، فقال النعمان: أما والله لكأني بك لو قد نزلت تلك التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحى الموت بين الفريقين قد هربت على بغلتك تضرب جبينها إلى مكة، وقد خلفت هؤلاء المساكين[1] يقتلون في سككهم ومساجدهم وعلى أبواب دورهم فعصاه الناس، فانصرف، وكان والله كما قال[2].

4 ـ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه:

فقد كان بالشام عندما عزم يزيد أن يبعث جيشاً إلى المدينة، فحاول عبد الله بن جعفر أن يتدخل في الأمر ليجنب أهل المدينة شر القتال، فكلم يزيد وطلب منه الرفق بأهل المدينة ورققه عليهم، وقال: إنما تقتتل بهم نفسك وقد تجاوب معه يزيد حين قال: فأني أبعث أول جيش وآمرهم أن يمروا بالمدينة إلى ابن الزبير، فإنه قد نصب لنا الحرب ويجعلونها طريقاً ولا يقاتلهم فإن أقر أهل المدينة بالسمع والطاعة تركهم، وقد وجد عبد الله بن جعفر مدخلاً لكف القتال والأذى عن أهل المدينة، فكتب على الفور إلى زعماء أهل المدينة يخبرهم بذلك ويقول: استقبلوا ما سلف واغنموا السلامة والأمن، ولا تعرضوا لجنده ودعوهم يمضون عنكم[3] وكان ردهم عليه: لا يدخلها علينا أبداً[4].

5 ـ سعيد بن المسيب رحمه الله:

فإنه قد اعتزل فتنة خروج أهل المدينة ولم يدخل فيما دخلوا فيه، ولم يكن يحضر لهم أمراً من أمورهم إلا الجمعة والعيد، وقد لزم المسجد نهاره ولا يبرحه إلى الليل والناس في قتالهم أيام الحرة[5].

ومن كل ما سبق ندرك أن أهل المدينة انقسموا تجاه البيعة ليزيد والدخول في طاعته إلى قسمين، القسم الأول منهم تزعمه عدد من دفعه الحماس والغيرة على الدين إلى خلع يزيد ولقد اشترك بعض الفقهاء في موقعة الحرة، وانضم إلى أهل المدينة وخلع يزيد، وقاتل الجيش الأموي، ومن أبرزهم محمد بن عمرو بن حزم[6]، وهذا يعطي لحركة أهل المدينة خصوصية الارتكاز على المرجعية الشرعية للفقهاء في مقاومة حكم يزيد بن معاوية ولقد اعتمدت ثورة أهل المدينة على فتوى هؤلاء العلماء ومن قبلهم الحسين بن علي في وجوب مقاومة المنكر ويتضح ذلك في خطاب عبد الله بن حنظلة حين قال: يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بحجارة من السماء[7]، وقد شارك في ثورة أهل المدينة عدد من صغار الصحابة هم: عبد الله بن زيد وعبد الرحمن بن أزهر وعبد الله بن حنظلة[8]، إلا أن معظم الصحابة ممن عاش إلى وقعة الحرة لم يشتركوا فيها، وحاولوا إقناع الثائرين بعدم خلع يزيد والخروج على حكمه[9].

ومع أن الأسس الشرعية، التي قامت عليها حركة أهل المدينة وفتاويهم في الخروج على يزيد هي نفس الأسس التي بنى عليها الحسين موقفه، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب على علماء الأمة وقادتها، وأن بني أمية قد تجاوزوا في حكمهم حدود الشريعة، سواء على الصعيد السياسي وطريقة الحكم كالانفراد بالسلطة وغياب الشورى، والاستبداد.. أو على الصعيد الشخصي، كانعدام الكفاءة والعدالة في شخص يزيد، إلا أن هناك اختلافاً كبيراً من الناحية الشرعية في الأصل الذي بنى عليه الحسين فتواه ومن ثم اتخذ قراره في مقاومة يزيد، فالحسين لم يعط البيعة ليزيد منذ البداية، وعلى ذلك فإنه كان يرى أنه يحق له ـ من هذا المنطق ـ حرية التصرف في مقاومة الحكم الأموي، بينما نجد أن أهل المدينة قد أعطوا البيعة ليزيد، ومن بعد ذلك رأوا أنهم يجوز لهم نقض البيعة وخلع يزيد نظراً لعدم كفاءته وصلاحه للحكم فأضافوا بذلك بعداً جديداً إلى فتوى الحسين، وهي أنه يجوز خلع الحاكم المسلم الذي يعتقد بفساده وفسوقه وهو أمر خالفهم فيه بقية الصحابة أي القسم الثاني من أهل المدينة ولعل ذلك هو السبب الرئيس الذي جعل فقهاء المدينة من الصحابة ينددون بقوة بخروج أهل المدينةـ فهم يرون أن نقض البيعة لا يجوز، وأن فسوق الحاكم لا يوجب عليه الخروج[10]، يضاف إلى ذلك خوف كثير من فقهاء ومفتي الصحابة ممن حضر موقعة الحرة على أهل المدينة من القتل والخوف على انتهاك قدسية مدينة رسول الله صلى اله عليه وسلم، وقد وقع ذلك بالفعل[11]، ومع ذلك فإن جميع الصحابة وفقهاء المسلمين لم يرضوا عن تصرف يزيد وقتله أهل الحرة واستباحته المدينة[12] بل إن ابن تيمية يعتبر هذا التصرف من كبائر الذنوب التي اقترفها يزيد[13] .

ثالثاً : معركة الحرّة:

اشتد الأمر على يزيد حين علم بأن بني أمية في المدينة محاصرون في دار مروان بن الحكم، فأرد أن يخلصهم من هذا الحصار قبل أن يقتلوا أو يحل بهم مكروه ـ وكانوا ألف رجل ـ فعز عليه أن يقتل هؤلاء، وفي سلطانه دون أن يقدم لهم عوناً فأمر بتجهيز جيش ليذهب إلى المدينة، فيخلص بني أمية، ويرد هؤلاء المتمردين إلى الطاعة وطلب عمرو بن سعيد ليقود الجيش فأبى، وأرسل إلى عبيد الله بن زياد ليرد أهل المدينة إلى الأهل الطاعة ثم يغزو ابن الزبير، فقال: لا أجمعهما للفاسق أبداً، أقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغزو البيت[14] ثم استقر الرأي على إرسال مسلم بن عقبة المرِّي[15].

1 ـ وصية يزيد لمسلم :

اجتمع الجيش، وهمّ مسلم بن عقبة أن ينطلق بهم إلى المدينة فقال له يزيد: ادع القوم ثلاثاً، فإن رجعوا إلى الطاعة، فاقبل وكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثاً، ثم أكفف عن الناس، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه، واستوصي به خيراً، وأدن مجلسه فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه وأمر مسلماً إذا فرغ من المدينة أن يذهب لحصار ابن الزبير، وقال له إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السكوني[16].

2 ـ مسلم يستعرض الجيش:

ركب مسلم بن عقبة فرسه واستعرض جيشه الذي سيحارب به أهل المدينة، فجعل على هل دمشق عبد الله بن مسعدة الفزاري، وعلى أهل حمص حصين بن نمير السكوني، وعلى أهل الأردن حبيس بن دلجة القيني، وعلى أهل فلسطين روح بن زنباع الجذامي، وشريك الكناني، وعلى أهل قنسرين طريف بن الحسحاس الهلالي، وعليهم جميعاً مسلم بن الوليد بن عقبة المرِّيّ الغطفاني[17]، وسار مسلم إلى المدينة فوجد بني أمية وقد أخرجوا منها، وساروا في اتجاه الشام، فاستوقفهم وسألهم عن الوضع في المدينة، فلم ينطقوا بجواب، وكان أهل المدينة، قد أطلقوا حصارهم بعد أن أخذوا عليهم العهود والمواثيق ألاَّ يدلوا على عورة ولا يعاونوا عدواً، وطلب مسلم منهم أن يدلوه على ما ورائهم فلم يستجيبوا، فغضب مسلم منهم غضباً شديداً، فلم يبرد غضبه إلا عبد الملك بن مروان الذي دلَّه على الخطة التي يجب إتباعها في حرب المدينة، فأشار إليه بأن يأتيها من جهتها الشرقية، ويلحق في الجنوب منها، يواجه أهل المدينة، في مكان يسمى الحرَّة، وتأتي الشمس أمام جيش الشام فتلمع خوذهم وسلاحهم فيرهبون عدوهم، ويكون لهم السيطرة من الوجهة الحربية[18].

3 ـ بدء المعركة : وفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر ذي الحجة 63هـ وقعت المعركة المشؤومة، فوجه مسلم خيله نحو أهل المدينة والتقى الجيشان، وحمل عبد الله بن حنظلة الغسيل على خيل الشام، فانكشفت الخيل، وانهزموا حتى انتهوا إلى مسلم، فنهض مسلم بمن معه وقاتلوا قتالاً شديداً، وانكشف أهل المدينة من كل جانب وجاء الفضل بن عباس بن ربيعة إلى ابن الغسيل فقاتل معه، وطلب منه أن يجمع الفرسان ليقاتلوا معه وكان قد عزم على الوصول إلى مسلم بن عقبة ليقتله، فأمر بن الغسيل أن يجتمع الفرسان حول الفضل، وحمل الفضل بهم على أهل الشام فانفرجوا وجثث الرجال أمامه على الركب، ومضى نحو راية مسلم فقتل صاحبها وهو يظنه مسلماً[19]، وكان الذي قتله الفضل غلاماً لمسلم اسمه رومي وأخذ مسلم الراية ونادى في جيشه يحضهم على القتال وأمر أحد قادته أن ينضحوا ابن الغسيل بالنبل ونادى مسلم: يا أهل الشام، أهذا هو قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم، وأن يُعزّوا به نصر إمامهم، قبح الله قتالكم منذ اليوم، ما أوجعه لقلبي، وأغيظه لنفسي، أما والله ما جزاؤكم عليه إلا أن تُحرموا العطاء، وأن تجمروا[20] في أقاصي الثغور، شدوا مع هذه الراية، ومشى برايته، وشدت الرجال أمام الراية، وصرع الفضل ابن عباس بن ربيعة وما بينه وبين أطناب مسلم إلا عشر أذرع، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف وإبراهيم بن نعيم العدوي في رجال من أهل المدينة كثير[21]، ثم أن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو عبد الله بن حنظلة الغسيل ورجاله حتى دنوا منه، وركب مسلم بن عقبة فرساً له، فأخذ يسير في أهل الشام ويحرضهم ويقول: يا أهل الشام إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها وأنسابها، ولا أكثرها عدداً، ولا أوسعها بلداً، ولم يخصكم الله بالذي خصكم به من النصر عل عدوكم وحسن المنزلة عند أئمتكم إلا بطاعتكم واستقامتكم وإن هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيَّروا فغير الله بهم، فتموا على أحسن ما كنتم عليه من الطاعة يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والظفر[22]. وأمر مسلم أجدر رماته أن يصوب رميه نحو ابن الغسيل فقال ابن الغسيل: علام تستهدنون لهم؟ من أراد التعجل فليلزم هذه الراية، فقام إليه كل مستميت، فقال الغدوُّ إلى ربكم. فوالله إني لأرجو أن تكونوا عن ساعه قريري عين، فنهض القوم واقتتلوا أشد قتال رئي في ذلك الزمان، وأخذ ابن الغسيل يقدم بنيه أمامه واحد بعد واحد حتى قتلوا بين يديه وقتل هو وقتل معه أخوه[23].

4 ـ نهاية المعركة :

انتهت المعركة لصالح جيش الشام، وهزم أهل المدينة هزيمة ماحقة، قتل فيها خلق كثير من القادة ووجوه الناس ولم يخف مروان أسفه على ابن حنظلة ومحمد بن عمرو بن حزم، وإبراهيم بن نعيم بن النحام، وغيرهم، بل كان يثنى عليهم ويذكرهم بأحسن صفاتهم التي اشتهروا بها[24]، وكان القتل ذريعاً في المدنيين وقد شبهتهم الرواية بنعام الشرد، وأهل الشام يقتلونهم في كل وجه[25]،وقد قتل في هذه المعركة، عدد من الصحابة رضوان الله عليهم ويشهد لذلك ما ذكره سعيد بن المسيب حينما قال: وقعت الفتنة الأولى يعني مقتل عثمان ـ فلم تبق من أصحاب بدر أحداً، ثم وقعت الفتنة الثانية ـ يعني الحرَّة ـ فلم تبق من أصحاب الحديبية أحداً، ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع وللناس طبّاخ[26]، ولقد أورد خليفة في تاريخه قوائم بأسماء قتلى الحرَّة ثم قال: فجميع من أصيب من قريش والأنصار ثلاثمائة رجل وستة رجال[27]، وقد تابعه على ذلك أبو العرب[28]، والأتابكي[29]، وهناك رواية مسندة عن الإمام مالك قال فيها: إن قتلى الحرَّة سبعمائة رجل من حملة القرآن وقال الراوي: وحسبت أنّه قال: وكان معهم ثلاثة أو أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم[30] ورواية مالك أقرب إلى الصحة من الذي ذكر خليفة[31].

5 ـ المبالغات التي أوردها البعض في تقدير نسبة القتلى من المدنيين:

ومن الغريب تلك المبالغات التي أوردها البعض في تقدير نسبة القتلى من المدنيين فمثلاً هناك رواية الواقدي والتي أخذ بها غالب المتقدمين والمتأخرين قال الواقدي عن عبد الله بن جعفر قال: سألت الزهري: كم بلغ القتلى يوم الحرَّة؟ قال: أما من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجوه الناس فسبعمائة، وسائر ذلك عشرة آلاف، وأصيب بها نساء وصبيان بالقتل[32] والسند عن الواقدي وهو متروك، ثم إنه عورض بسند أصح منه، وهي رواية مالك، فتعتبر رواية الواقدي رواية منكرة لا يعتمد عليها في تقدير عدد القتلى[33]، ولقد أنكر ابن تيمية صحة ما ذكر الواقدي، واستبعد أن يصل العدد إلى هذا الحد[34].

6 ـ نهب المدينة: لقد أشتهر أن مسلم بن عقبة المري، أمر بانتهاب المدينة، فمكثوا ثلاثة أيام من شهر ذي الحجة ينتهبون المدينة حتى رأوا هلال محرم، فأمر الناس فكفوا، وذلك لأن معركة كانت لثلاث يقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين للهجرة وتعتبر رواية نافع مولى بن عمر هي أصح رواية نصت على حدوث الإنتهاب فقد قال: .. وظفر ـ مسلم بن عقبة ـ بأهل المدينة وقتلوا وانتهبت المدينة ثلاثا[35]. وقد وردت لفظة الاستباحة عند السلف لتعني النهب، كما ورد على لسان عبد الله بن يزيد بن الشخير حين قال: ولما استبيحت المدينةـ يعني الحرة ـ دخل أبو سعيد الخدري غاراً[36]، ومن هنا يعلم أن الاستباحة والنهب جاءت بمعنى واحد حيث جاءت هاتان اللفظتان في غالب المصادر المتقدمة[37]، وقرار انتهاب المدينة الذي اتخذه هو يزيد بن معاوية، وقد حمله الإمام أحمد مسؤولية انتهاب المدينة، فعند ما سأله مهنا بن يحيى الشامي السلمي عن يزيد قال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل. قلت: وما فعل؟ قال نهبها[38]. وقال بن تميمة: فبعث إليهم ـ أي أهل المدينةـ جيشاً وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثا[39]وذهب إلى ذلك بن حجر[40]ولا يشك أن انعدام الأمن والخوف في المدينة قد أدّى بالبعض إلى الهروب من المدينة والالتجاء إلى الجبال المجاورة، كما حدث لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فقد هرب من المدينة ودخل غاراً والسيف في عنقه ودخل عليه شامي فأمره بالخروج، فقال: لا أخرج وإن تدخل قتلتك، فدخل عليه فوضع أبو سعيد السيف وقال: بؤ بإثمي وإثمك قال: أنت أبو سعيد الخدري قال نعم: قال: فاستغفر لي فخرج[41]. وقد ذكر الواقدي أنّ أهل الشام نتفوا لحيته انتقاماً منه ولكن هذا لم يرد من طريق صحيحة[42]. ولكن الشيء الذي يجب التنبه إليه هو أن النهب لم يمثل كل أهل المدينة، فلم نسمع أن ابن عمر قد انتهبت داره أو علي بن الحسين، أو غيره من الذين لم يقفوا بجانب المعارضين وإنما كان الانتهاب في الأماكن التي يدور فيها القتال وتعرف للمعارضة للحكم الأموي[43].

لقد أخطأ يزيد خطأ فاحشاً في قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام وهذا خطأ كبير، فإنه وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يُحَدُّ ولا يُوصَفُ، مما لا يعلمه إلا الله عز وجل وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه وملكه ودوام أيامه، فعاقبه الله بنقيض قصده فقصمه الله قاصم الجبابرة وأخذه أخذ عزيز مقتدر[44]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء[45]ومن الأحاديث التي تدل على شناعة جريمة إخافة أهل المدينة وتبين سوء عاقبة فاعلها[46]قوله صلى الله عليه وسلم: من أخاف أهل المدينة أخافه الله عز وجل، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً[47].





ميارى 15 - 5 - 2010 09:42 PM

7 ـ ما قيل حول انتهاك الأعراض:

لم نجد في كتب السنة أو في تلك الكتب التي ألفت في الفتن[1]وكذلك لم نجد في المصدرين التاريخيين المهمين عن هذه الفترة وهما (الطبري والبلاذري) أي إشارة لوقوع شيء من ذلك، وهما قد اعتمد على روايات الإخبار بين المشهورين مثل عوانة بن الحكم وأبي مخنف الشيعي وغيرهما[2]، وأول من أشار إلى انتهاك الأعراض، المدائني المتوفي سنة 225هـ حيث قال المدائني عن أبي قرة عن هشام بن حسان قال: وَلَدت بعد الحرة ألف امرأة من غير زوج، ويعتبر ابن الجوزي هو أول من أورد هذا الخبر في تاريخه[3]، وفي رسالته الخاصة التي ألفها في الطعن على يزيد بن معاوية وإظهار مثالبه[4]، وقد نقلها عن ابن الجوزي السمهودي مؤرخ المدينة المتوفي في القرن العاشر الهجري[5]، ويبدو أن الطبري، والبلاذري وخليفة بن خياط وغيرهم، لم يقتنعوا بصحة هذا الخبر ، فإنهم قد أعرضوا عنه ولم يدخلوه في كتبهم ولا يوجد خبر صحيح الإسناد في حادثة الاغتصاب المزعومة وقد ورد في دلائل النبوة للبيهقي من طريق يعقوب بن سفيان قال: حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير بن المغيرة قال: أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، فزعم المغيرة أنه افتض فيها ألف عذراء[6]، ومن الجدير بالذكر أن كل من أورد خبر انتهاك أعراض أهل المدينة في معركة الحرَّة قد اعتمد على رواية يعقوب أو رواية المدائني فقط[7]، وكلاهما لا تصح ولا تثبت وقد ذكر العصامي فرية لم يسبق إليها حيث قال: وافتض فيها ألف عذراء وإن مفتضها فعل ذلك أمام الوجه الشريف، والتمس ما يمسح به الدم فلم يجد ففتح مصحفاً قريباً منه ثم أخذ من أوراقه ورقة فمسح بها، نعوذ بالله ما هذا إلا صريح الكفر وأنتنه[8]، وقد أطلق العنان بعض الكتّاب لرغباتهم وأهوائهم ولم يستندوا إلى إي دليل والروايات المتعلقة بالاغتصاب لا يمكن الاعتماد عليها[9]، ثم إن القرائن المصاحبة لمعركة الحرّة تنفي وجود أي نوع من الاغتصاب، وقد رأينا أن الروايات الحسنة التي ذكرت إنتهاب المدينة وأثبتناها في موضعها، لم يرد فيها ذكر لانتهاك الأعراض[10].

إن انتهاك أعراض نساء المدينة لا أساس لها من الصحة، وأنها روايات جاءت متأخرة، وبدافع حزبي بغيض، يتخذ من الكره والتعصب ضد التاريخ الأموي دافعاً له وتهدف إلى إظهار جيش الشام، الذي يمثل الجيش الأموي جيشاً بربرياً لا يستند لأسس دينية أو عقائدية أو أخلاقية، وهذا الاتهام لا يقصد به اتهام الجيش الأموي فقط، بل إنَّ الخطورة التي يحملها هذا الاتهام تتعدى إلى ما هو أعظم من مجرد اتهام الجيش الأموي، إلى اتهام الجيش الإسلامي الذي فتح أصقاعاً شاسعة في تلك الفترة[11]، وقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى إنكار ذلك مثل د.نبيه عاقل[12]، ود.العرينان[13]. ود. العقيلي[14]، وكذلك فلها وزن[15]، وقام الشيباني بدراسة عميقة حول الموضوع وأثبت بطلان هذه الأكاذيب[16].



8 ـ أخذ البيعة من أهل المدينة ليزيد بن معاوية:

تعتبر الكيفية التي تمّ بها أخذ البيعة من المدنيين من أكبر الأمور التي انتقد فيها يزيد معاوية، فقد وردت الروايات لتبين أن مسلم بن عقبة أخذ البيعة من أهل المدينة على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية، يتصرف في دمائهم وأموالهم كيفما يشاء، فهناك رواية مجملة تفيد بأن مسلم بن عقبة أخذ البيعة من أهل المدينة على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية، وذلك بعد انتهاء معركة الحرّة وتضيف الرواية: على أن البيعة تضمنت الحرية الكاملة ليزيد بن معاوية للتصرف في دمائهم وأمواله وأهلهم[17]، وتضيف إحدى الروايات صيغة أخرى لأخذ البيعة من أهل المدينة، فتذكر الرواية: أنهم بايعوا كعبيد ليزيد في طاعة الله ومعصيته. وهذه الروايات أسانيدها ضعيفة جداً، ثم إن متونها يكتنفها الغموض، فليس هناك تفصيل وبيان عمن بايع على هذه الصفة، وهل كل المدنيين بايعوا هذه البيعة بمن فيهم ابن عمر وعلي بن الحسين وأبي سعيد الخدري وسعيد بن المسيب، وغيرهم من الذين لم يشتركوا في محاربة أهل الشام؟ والذي يبدو من خلال مجمل الروايات أنه فور انتهاء معركة الحرّة دعا مسلم بن عقبة الناس للبيعة، كما يبدو أن البيعة أخذت من جميع الناس[18]، وحتى أن علي بن الحسين قد أتي به إلى مسلم بن عقبة فأكرمه مسلم، وذلك بسبب وصية يزيد لمسلم بوجوب حسن معاملة الحسين بن علي مما يدل عل أن أهل المدينة ـ الخارج على طاعة يزيد والمقر بطاعة يزيد كلهم قد دعوا إلى مسلم بن عقبة[19]، ولقد وردت روايات أخرى تفصل وتبين هذه البيعة، وتجعل هذه البيعة لفئة مخصوصة، وكان الدافع لذلك هو غضب مسلم بن عقبة على هذه الفئة ومحاولته الخلاص إلى قتلهم بتلك البيعة[20]، يقول الدكتور يوسف العش: وبعد انتهاء معركة الحرّة أحضر مسلم مدبري الفتن واستعرضهم، وطلب إليهم أن يبايعوه على أنّهم خول ليزيد، ويحكم في أهلهم ودمائهم وأموالهم ما يشاء، فلم يقبلوا بأن يبايعوا هذه البيعة فقتلهم، وكان يريد أن يقضي على فتنتهم بالصغار، والحط من منزلتهم والتحقير من شأنهم، بحيث يعتبرون عبيداً، هم وما يملكون[21]. وهذا انحراف عظيم عن شرع الله تعالى، ودليل على عسف الدولة وظلمها وجبروتها وقسوتها وتجاوزنها الحدود المعقولة والمنقولة بسبب غضبها وحنقها على أهل المدينة.



9 ـ وفاة مسلم بن عقبة: 64هـ:

نفذ مسلم وصية يزيد بحذافيرها، فلم يفاجيء أهل المدينة بالقتال، ولكنه أنذرهم وحذرهم، ولما مضت الثلاث، حاول إقناعهم وألحّ عليهم أن يقبلوا السلام، وأن يكفوا عن القتال، ولكنهم سبوه وشتموه وردوا عليه أمانه، ويا ليت مسلماً تروى واستمر في حصار المدينة المحرمة، ولكن غلبه حبه لسفك الدماء، فدخل المعركة وأنزل بأهل المدينة روعاً عظيماً، وأعمل فيهم السيوف وقتل خيارهم، وشتتوا شملهم ولم ينج منهم إلا أسير أو هارب إلى مكة لينضم إلى ابن الزبير وقد أسرف مسلم في قتل المسلمين حتى بعد انتهاء المعركة فقتل رجالاً خرجوا من المعركة سالمين، ولم يكن له ليقتلهم وقد انتهت المعركة، واستسلمت المدينة، ولكن غلب عليه طبعه، وجرى في عروقه دم الشر الذي فطر عليه، فكان يقتل الرجل لمجرد أن يقول إنه يبايع على كتاب الله وسنه رسوله، أو يبايع على سنة أبو بكر وعمر، وبالطبع لم يكن هذا أبداً مبرراً لسفك دماء وإزهاق أرواح[22]، ولكنه الظلم والعسف والتجبر والطغيان.

وفي أوّل المحرم من عام 64هـ بعد فراغ مسلم من حرب المدينةـ سار إلى مكة قاصداً قتال ابن الزبير، ولما بلغ ثنيَّة هرْش[23]، بعث إلى رؤوس الأجناد فجمعهم فقال: إنّ أمير المؤمنين عهد إليَّ إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السَّكوني ووالله لو كان الأمر لي ما فعلت. ثم دعابه فقال: انظر يا بن بردعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به. ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز بن الزبير قبل ثلاث، ثم قال: اللهم إني لم أعمل عملاً قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله أحب إليّ من قتلي أهل المدينة ولا أرجى عندي في الآخرة، وإن دخلت النار بعد ذلك إني لشقيُّ. ثم مات قبحه الله ودفن بالمُشلل[24]. انظر إلى شدة جهله وحماقته وكيف كان يعتقد أنه يتقرب بقتل هؤلاء إلى الله، وأنه يزداد بقتلهم قربى منه ـ سبحانه ـ والناظر في دعائه يستشعر الأسباب التي جعلت مسلماً يدير المعركة بشراسة، ويسرف في دماء المسلمين من غير وازع ولا رادع فقد كان مسلم يعتقد أن قتل أهل المدينة قربى إلى الله، فأسرف في القتلى وكان يؤمن بأن قتلهم هو السبيل إلى الجنة، فأمعن في سفك الدماء ولو أن الأحمق الجاهل الذي كان حريصاً أشد الحرص على طاعة أمير المؤمنين ولم يحرص قط على طاعة الله، وكان يكره معصية أمير المؤمنين عند الموت، بقدر ما كان يكره طاعة الله في عباده، لو أنه فقه أن زوال الدنيا عند الله أهون من سفك دم امرىء مسلم، ولو أنه علم أن ما فعله أهل المدينة لا يبيح دماءهم ولا تستباح أموالهم لو أنه علم ذلك لكان يكفيه من إدارة المعركة القدر الذي يخضع الناس ليزيد[25].

10 ـ كيف استقبل يزيد خبر موقعة الحرّة؟

ولما بلغ يزيد خبر أهل المدينة وما وقع بهم قال: واقوْماه ثم دعا الضّحَّاك بن قيس الفهري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة، فما الرأي الذي يجبرهم؟ قال الطعام والأعطية فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته. وهذا خلاف ما ذكره كذبة ـ الشيعة ـ عنه من أنه شمت بهم وشقى بقتلهم[26]، وأنه أنشد من شعر ابن الزِّبَعْرَي:

ليت أشياخي ببـدر شهدوا

جزِع الخزرج من وقع الأَسَلْ

حيـن حَكَّت بقُبـاء بَرْكها

واستحر القتل في عبد الأَشَلْ

وقد قتلنا الضّعف من أشرافهم

وعَدَلْنا ميـل بـدر فاعتدل

وقد زاد بعض ـ كذبة الشيعة فيها ـ:

لعبـت هاشـم بالملك فـلا

مَلَكُ جاء ولا وحـي نزل[27]



قال ابن كثير: فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة الله عليه ولعنة اللاَّعنين، وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه ليُشنِّع عليه به وعلى ملوك المسلمين[28]، وقال ابن تيمية على أبيات الشعر: ويعلم بطلانه كل عاقل[29]، لقد وقع يزيد في خطأ مرّوع، لا تهون منه الاعتذارات والمواساة، وهو الأمر باستباحة المدينة للمحاربين ثلاثة أيام ينهبون ويسرقون، مما أدى إلى فساد خطير وشر مستطير، وفتح على يزيد باباً أدى إلى تشويه سمعته، وبغض المسلمين في خلافته، وبخاصة أن المسلمين لم ينسوا بعد مقتل الحسين بن علي ـ رضي الله عنه ـ حيث لم تجف دماؤه على ثرى كربلاء[30].



رابعاً : أهم الدروس والعبر والفوائد:

1 ـ دواعي فشل أهل المدينة:

لقد كان محكوماً على حركة المدينة بالفشل، لأنهم لم يوحّدوا صفوفهم ولم يكن لهم قائد واحد، لأن تعدد القوّاد في المعركة من دواعي الهزيمة وهذا ما تنبأ به عبد الله بن عباس عندما سأل عن حالهم: فقيل استعملوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظله على الأنصار. فقال ابن عباس: أميران؟ هلك القوم[31]، ولو حصل الانتصار، فدواعي اشتعال الفتنة موجودة ممن يكون الخليفة؟ هل يتولاها رجل من قريش أو من الانصار؟ فهم لم يعلنوا أنهم تبع لابن الزبير[32]، ومن دواعي الفشل: قلت ما تحت أيديهم من الأرزاق ولو أستمر الحصار مدة طويلة لهلك الناس من الجوع، لأن ما بها من الميرة لا يكفيها لسد حاجتها أياماً وجل طعامها يأتيها من التجارة، أو من بساتين خارج حدود المدينة، فكيف يغادر هؤلاء في حرب ليس عندهم مؤونة لها، يقفون أمام جند الشام المدعمين بالسلاح والمال؟ ومن دواعي فشلهم: عدم بروز هدف يريدون تحقيقه بعد خلع يزيد والنصر: وإذا كان هدفهم خلع يزيد: هل كانوا يريدون أن تكون إمارة مستقلة؟ وهذا غير ممكن. وإذا كان هدفهم تولية ابن الزبير، لماذا لم يرفعوا راية واحدة باسم ابن الزبير ، ولماذا لم يطلبوا المدد منه؟ ولو ضم ابن الزبير جنده إلى جند المدينة، لتكونت قوة تستطيع أن تقف أمام جيش مسلم بن عقبة، ولكنهم عندما وزعوا قواتهم وعددوا معاركهم استطاع الأمويون أن ينتصروا عليهم وهم متفرقون[33].

2 ـ موقف زعامة المدينة المنورة:

لم تكن زعامة المدينة المنورة، راضية عن هذه الثورة، فهناك أسرتان كبيرتان من المهاجرين عارضتا أهل المدينة، وهما آل الخطاب، وآل هاشم وعلى رأس آل الخطاب، شيخ الصحابة في زمانه وفقيههم عبد الله بن عمر، ومن آل هاشم عبد الله بن العباس وعلى بن الحسين ومحمد بن الحنيفة[34].

3 ـ رأي بن تيمية: .. وقلّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا وكان ما تولد على فعله من الشرّ أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة فإنهم هزموا وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دنيا، ولا أبقوا دينا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل فيه صلاح الدين ولا صلاح الدنيا.. وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين، وغيرهم، ينهون عام الحرّة عن الخروج على يزيد[35].

4 ـ عناية المؤرخين بمعركة الحرّة:

لم تجد معركة الحرّة من المؤرخين، كما لاقى غيرهما من الحوادث التي حصلت أيام يزيد بن معاوية، ولم يفرد المؤرخون المحدثون عنها أبحاثا، كما أفردوا عن الحركات الأخرى، ولو قارنا بينها وبين حركة الحسين لوجدنا فرقاً كبيراً في النتائج، فمجموع ما قتل في معركة الحرّة أضعاف ما قتل مع الحسين، وقتل في معركة الحرّة رجال مشاهير لهم منزلة صحبة وجهاد من هؤلاء عبد الله بن زيد حاكي وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم[36]، ومعقل بن سنان[37]وفيه يقول الشاعر:

وأصبحت الأنصار تبكي سراتها

وأشجع تبكي معقل بن سنان

وعبد الله بن حنظله الغسيل مع ثمانية من بنيه، وهؤلاء الرجال مكانتهم في الإسلام عالية ومصيبة المسلمين فيهم عظيمة وهي مصيبة تضاف إلى مصيبة المسلمين في الحسين رضي الله على مكانته وفضله وسيادته عند المسلمين وهذا ما يجعل معركة الحرّة فاجعة كبيره كما هي معركة كربلاء.





ميارى 15 - 5 - 2010 09:44 PM

المبحث السادس: حركة عبد الله بن الزبير في عهد يزيد:

كان ابن الزبير رضي الله عنه قد عقد العزم على عدم البيعة ليزيد واختار الذهاب والاستقرار بمكة.

أولاً: أسباب اختيار ابن الزبير لمكة:

اجتمعت عدة أسباب جعلت مكة أنسب مكان يمكن أن يتجه إليه ابن الزبيرـ في نظره ـ ومن أهمها ما يلي:

1 ـ أنها المكان الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه في هذه الفترة وذلك لأن الأقاليم الأخرى ليست مناسبة، فالعراق ـ بمصريه الكوفة والبصرة لا يمكن ضمان ولاء أهلها لأي زعيم معارضة ضد بني أمية، وما فعلوه مع الحسين خير دليل على ذلك، وكان ابن الزبير يعي ذلك تماماً حينما نصح الحسين بعدم الذهاب إلى العراق[1]، أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطغوا أخاك؟ أما مصر واليمن فقد كانتا بعيدتين عن مسرح الأحداث، ولم يكن لابن الزبير في هذين الإقليمين أنصار ومؤيدون يمكن أن يعتمد عليهم وأما الشام فكما هو معروف كان معقل الأمويين.

2 ـ إن مكةـ لوجود بيت الله فيها ـ كانت بلداً حراماً ولا يجوز سفك الدماء بها، وهذا يكفل لمن يعتصم بها حماية من القتل إلا إذا ارتكب حدا يوجب ذلك، وعلى أقل تقدير فوجود هذا الحكم الخاص بمكة يجعل التفكير باستخدام القوة هو آخر حل يُلجا إليه.

3 ـ وكما أن مكة بلد له مكانته وقدسيته في نفوس المسلمين فإن من يتعرض له بالإيذاء سيواجه معارضة من قبل العديد من المسلمين الذين سيهبون للدفاع عن بيت الله الحرام بغض النظر عمن يعتصم به، وقد أفاد ابن الزبير من هذه النقطة كثيراً.

4 ـ أنه يجتمع بمكة في موسم الحج كل عام الألوف من المسلمين من مختلف الأقاليم، ويمكن من خلال هذا الموسم التأثير على الرأي العام وتوجيهه وهو ما لا يمكن توفره في أي إقليم.

5 ـ أن مكة بدأت منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة إلى المدينة تفقد دورها السياسي وبالتالي فإن قبضة الأمويين عليها لم تكن قوية بعكس وضع المدينة.

6 ـ وأخيراً فإن معارضة ابن الزبير مرتبطة بأهل المدينة الذين يقفون معه الموقف نفسه ضد بني أمية، وبالتالي كان من المناسب أن يكون ابن الزبير قريباً من المدينة ليضمن استمرار تأييد أهلها له ولكي يتمكن من الاتصال المستمر بهم[2].
ثانياً أسباب خروج ابن الزبير ومن معه:


كان مقصد ابن الزبير رضي الله عنه ومن معه ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين كالمسور بن مخرمة، وعبد الله بن صفوان، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من فضلاء عصرهم هو تغيير الواقع بالسيف لما رأوا تحول الخلافة إلى وراثة ملك، ولما أشيع حول يزيد من إشاعات أعطت صورة سيئة للخليفة الأموي في دمشق والذي ينبغي أن يفهم أن ابن الزبير قام لله وليس كما يقول البعض، مثل محمد ماهر حمادة عندما قال: وعلى الرغم من أن حركة ابن الزبير لم تكن سوى مزيج عجيب، من عدد من العناصر، يحركها طموح شخصي، وصراع قلبي،التقتا في نفس ابن الزبير، وشخصيته[3]. لقد كان رضي الله عنه يهدف من وراء المعارضة أن تعود الأمة إلى حياة الشورى ويتولى الأمة حينئذ أفضلها وكان يخشى من تحول الخلافة إلى ملك، وكان يرى رضي الله عنه أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله ويضع حداً لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة ولهذا لم يدع لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية[4]. وكان ابن الزبير يخطب ويقول: والله لا أريد إلا الإصلاح وإقامة الحق، ولا التمس جمع مالاً ولا إدخاره[5] وكان يقول: اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي، وجاهدت فيك عدوك فاثبني ثواب المجاهدين[6]. وقال عبد الله بن صفوان بن أمية لابن الزبير: إني والله ما قاتلت معك إلا عن ديني[7]، والروايات في هذا المجال كثيرة جداً وهي تدل على النظرة الحقيقية لمعارضة ابن الزبير وكذلك أهل المدينة حيث اعتبروها جهاداً في سبيل الله[8]، إن الحسين بن علي وابن الزبير وأهل الحرَّة رضي الله عنهم كان خروجهم من أجل الشورى لأسباب مشروعة منها:

1 ـ دفاعاً عن حقهم الذي جعل الله لهم ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).

2 ـ أن هذا الاغتصاب منكر وظلم تجب إزالته .

3 ـ تمسكا بالسنة وهدى الخلفاء الراشدين في باب الخلافة[9].

وساعد في تحقيق أهداف ابن الزبير والتفاف الناس من حوله عدة أمور منها: ردة الفعل الذي أحدثته معركة كربلاء، سوء سيرة يزيد، سرعة يزيد في عزل ولاة الحجاز مركز الثقل السياسي كما كان زمن الرسول والخلفاء الراشدين[10].



ثالثاً : الجهود السلمية التي بذلها يزيد لاحتواء ابن الزبير:

كان ابن الزبير يدرك الخطورة التي ستلحق بالحسين إذا خرج إلى الكوفة، ولذا ناشده عدم الذهاب إلى الكوفة قائلاً: أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك[11]. وكان ابن الزبير يدرك أن الحسين إذا أصيب في العراق، فإن النتائج ستنعكس عليه وسيكون المنفرد في الساحة، وبالتالي يسهل القضاء عليه وقد حرص ابن الزبير على إشعار الحسين بمكانته وأن وجوده في مكة يحظى بالتأييد من أهلها وبالأخص من ابن الزبير نفسه، ولذا فقد بادره بفكرة جريئة فقال للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك، وبايعناك[12]، ويبدو أن ابن الزبير رغب أن تكون القيادة العامة بيد الحسين نظراً لمكانته ووجاهته، واحترام المسلمين له. ويكون بيده التخطيط لمجابهة يزيد بن معاوية، وبالأخص أنه يملك رصيداً كبيراً من المشاركات الحربية الناجحة في عمليات الجهاد الإسلامي، وكان يرغب في جعل ركيزة الانطلاق في المعارضة هي بلاد الحجاز، وذلك نظراً لصدق أهلها، ووجود العباد والصالحين والعلماء من الصحابة وكبار التابعين بها، ثم وجود الحرمين ومكانتهما، فإذا تمت لهما السيطرة على بلاد الحجاز، فإن قضيتهما ستكسب بعداً كبيراً في الأقاليم الإسلامية، فالناس تؤم الحرمين للعمرة والحج والزيارة، وبالتأكيد سينقلون أخبار المعارضين ومكانتهما، مما سيؤدي إلى تعاطف وتأييد وأنصار تلك الأقاليم، ولما خرج الحسين رضي الله عنه إلى الكوفة وقتل يوم عاشوراء من سنة إحدى وستين بكربلاء كان لذلك وقع كبير على ابن الزبير، فالذي يخشاه ابن الزبير وهو انفراد الأمويين به قد حدث، ثم إن الرجل الذي كان يضفي مكانة ومنزلة على المعارضة قد قتل ومع ذلك لم يحدث تحرك من الناس ضد الأمويين بسبب قتل الحسين رضي الله عنه[13]، ولعل إنفراده بالمعارضة ضد يزيد هي التي جعلت ابن خلدون يقول: ولم يبق في المخالفة لهذا العهد ـ الذي اتفق عليه الجمهور ـ إلا ابن الزبير، وندور المخالف معروف[14]، وقد أحس ابن الزبير بخطورة موقفه، ولكنه حاول أن يستفيد من دوافع الكره والمقت التي تعتلج في نفوس الناس ضد الأمويين بسبب قتل الحسين[15].

1 ـ أول هجوم مباشر وصريح من ابن الزبير على يزيد:

عندما سمع ابن الزبير مقتل الحسين رضي الله عنه قام خطيباً في مكة وترحم على الحسين وذم قاتليه وقال: أما والله لقد قتلوه طويلاً قيامه، وكثيراً في النهار صيامه، أحق بما هم فيه منهم، وأولى بما هم فيه منهم، وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء ولا البكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شراب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر ـ الركض في طلب الصيد ـ يعرّض بيزيد ـ فسوف يلقون غياً[16]. ونظراً للمشاعر العاطفية التي أثرت على أهل الحجاز عموماً بسبب قتل الحسين رضي الله عنه فقد أبدى البعض استعداده لبيعة ابن الزبير[17]، ولاحظ ابن الزبير مشاعر السخط التي عمّت أهل الحجاز بسبب قتل الحسين رضي الله عنه، فأخذ يدعو إلى الشورى وينال من يزيد ويشتمه[18]، ويذكر شربه للخمر ويثبط الناس عنه، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوئ بني أمية ويطنب في ذلك[19].

2 ـ مساعي يزيد السلمية :

لم يحاول يزيد في بداية الأمر أن يعمل عملاً من شأنه أن يعقّد النزاع مع ابن الزبير، ولهذا فلقد أرسل إليه رسالة يذكّره فيها بفضائله ومآثره في الإسلام، ويحذره في الفتنة والسعي فيها، وكان مما قال له: أذكرك الله في نفسك فإنك ذو سن من قريش وقد مضى لك سلف صالح، وقدم صدق من اجتهاد وعبادة، فأربب صالح ما مضى ولا تبطل ما قدمت من حسن، وأدخل فيما دخل فيه الناس، ولا تردهم في فتنة، ولا تحل ما حرم الله، فأبى أن يبايع[20].

3 ـ غضب يزيد على ابن الزبير:

لم يستجب ابن الزبير لدعوة يزيد السلمية ورفض بيعته وأقسم يزيد على أنه لا يقبل بيعة ابن الزبير حتى يأتي إليه مغلولاً[21]، ولقد حاول معاوية بن يزيد أن يثني والده عن هذا القسم، وذلك لمعرفته بابن الزبير، وأنه سيرفض القدوم على يزيد وهو في الغل، وكان معاوية بن يزيد صالحاً تقياً ورعاً يجنح للسلم ويخشى من سفك دماء المسلمين، وساند معاوية في رأيه عبد الله بن جعفر، ولكن يزيد أصر عل رأيه، وحتى يخفف يزيد من صعوبة الموقف على ابن الزبير، فقد بعث بعشرة من أشراف أهل الشام، وأعطاهم جامعة من فضة، وبرنس خز[22] وفي رواية أخرى: أن يزيد بعث لابن الزبير بسلسلة من فضة وقيد من ذهب، وجامعة من فضة[23]. وعند وصول أعضاء الوفد إلى مكة تكلم ابن عضاة الأشعري، وقال: يا أبا بكر: قد كان من أثرك في أمر أمير الخليفة المظلوم ـ يعني عثمان بن عفان ـ ونصرتك إياه يوم الدار مالا يجهل، وقد غضب أمير المؤمنين بما كان من إبائك مما قدم عليك فيه النعمان بن بشير، وحلف أن تأتيه في جامعة خفيفة لتحل يمينه، فالبس عليها برنساً فلا ترى، ثم أنت الأثير عند أمير المؤمنين الذي لا يخالف في ولاية ولا مال[24].

4 ـ ابن الزبير يفكر ويستشير في عرض يزيد:

استأذن ابن الزبير الوفد بضعة أيام يفكر ويستشير، فعرض الأمر على والدته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها فقالت: يا بني عش كريماً ومت كريماً ولا تمكن بني أمية من نفسك، فتلعب بك، فالموت أحسن من هذا[25]

وكان مروان بن الحكم قد بعث ابنه عبد العزيز وقال له: قل لابن الزبير إن أبي أرسلني عناية بأمرك وحفظاً لحرمتك، فابرر يمين أمير المؤمنين ،فإنما يجعل عليك جامعة من فضة أو ذهب وتكسى عليه برنساً فلا تبدو إلا أن يسمع صوتها، فكتب ابن الزبير إلى مروان يشكره[26] وجاء رد ابن الزبير على الوفد بالمنع[27].

5 ـ تهديد الوفد لابن الزبير ورده عليهم:

بعدما أجاب بن الزبير على الوفد بالمنع قال لابن عضاة: إنما أنا بمنزلة حمام من حمام مكة أفكنت قاتلاً حماماً من حمام مكة؟ قال: نعم، وما حرمة حمام مكة: يا غلام ائتني بقوسي وأسهمي فأتاه بقوسه واسهمه، فأخذ سهماً فوضعه في كبد القوس ثمّ سدده نحو حمامة من حمام المسجد وقال: يا حمامة، أيشرب يزيد الخمر، قولي: نعم. فوالله: لئن فعلت لأرمينك. يا حمامة أتخلعين يزيد بن معاوية وتفارقين أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وتقيمين في الحرم حتى يستحل بك؟ والله لئن فعلت لأرمينك. فقال ابن الزبير: ويحك أو يتكلم الطائر؟ قال: لا، ولكنك يا ابن الزبير تتكلم، أقسم بالله لتبايعن طائعاً أو مكرهاً أو لتعرفن راية الأشعريين في هذه البطحاء، ولئن أمرنا بقتالك ثم دخلت الكعبة لنهدمنها أو لنحرقنها عليك أو كما قال. فقال ابن الزبير: أو تحل الحرم البيت، قال: إنما يحله من ألحد فيه[28]. ثم قال ابن الزبير: إنه ليست في عنقي بيعة ليزيد. فقال ابن عضاة: يا معشر قريش قد سمعتم ما قال: وقد بايعتم وهو يأمركم بالرجوع عن البيعة[29]، وأخذ ابن الزبير يبسط لسانه في تنقص يزيد وقال: لقد بلغني أنه يصبح سكران ويمسي كذلك ثم قال: يا ابن عضاة: والله ما أصبحت أرهب الناس ولا البأس، وإني لعلى بينة من ربي، فإن أقتل فهو خير لي، وإن أمت حتف أنفي فلله يعلم إرادتي وكراهتي لأن يعمل في أرضه بالمعاصي، وأجاب الباقين بنحو جوابه[30]. ثم قال ابن الزبير: اللهم إني عائد ببيتك[31]، ولقب نفسه عائذ الله[32]، وكان يسمى العائذ[33].

رابعاً: الجهود الحربية ضد بن الزبير:

1 ـ حملة عمرو بن الزبير:

رأى يزيد أنه لابد من القيام بعمل عسكري، يكون الهدف منه القبض أو القضاء على ابن الزبير أو حمله على الامتثال لقسم يزيد ووضع الأغلال في عنقه ولما حج عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة في تلك السنةـ والمرجح سنة إحدى وستين ـ حج ابن الزبير معه، فلم يصل بصلاة عمرو، ولا أفاض بإفاضته[34]، وهذا العمل من ابن الزبير يعني المفارقة الواضحة لسلطة الدولة، وعدم الاعتراف بها، وخصوصاً أن إقامة الحج تمثل الدليل الأقوى على شرعية الدولة وقوة سلطانها، مثله مثل إقامته الجهاد في سبيل الله[35]، ثم منع ابن الزبير الحارث بن خالد المخزومي من أن يصلي بأهل مكة وكان الحارث بن خالد المخزومي نائب لعمرو بن سعيد على أهل مكة[36]، وكان ابن الزبير يتصرف وكأنه مستقل عن الدولة، وكان لا يقطع أمراً دون المسور بن مخرمة[37]، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وجبير بن شيبة، وعبد الله بن صفوان بن أمية، وكان يريهم أن الأمر شورى فيما بينهم، وكان يلي بهم الصلوات، والجمع ويحج بهم[38]، فكتب يزيد إلى عمرو بن سعيد بن العاص واليه على المدينة أن يوجه له جُنداً، فعين عمرو بن سعيد بن العاص على قيادة هذه الحملة عمرو بن الزبير بن العوام أخو عبد الله بن الزبير، وكان عمرو بن الزبير قد ولي شرطة المدينة لعمرو بن سعيد، وكان شديد العداوة لأخيه عبد الله وقام بضرب كل من كان يتعاطف مع ابن الزبير، وكان ممن ضرب المنذر بن الزبير، وابنه محمد بن المنذر وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوت[39]، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام[40]، وخبيب بن عبد الله بن الزبير[41]، وفر منه عبد الرحمن بن عثمان، وعبد الرحمن بن عمرو بن سهيل وغيرهم إلى مكة فالتجأوا إلى ابن الزبير[42]، وكان تعيين عمرو بن الزبير على قيادة الجيش المتجه لمحاربة ابن الزبير جاء بناءً عل طلب من عمرو بن الزبير نفسه[43]، واتجه جيش عمرو بن الزبير إلى مكة وكان قوامه ألف رجل، وجعل على مقدمته أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة من الجند[44]، فسار عمرو بن أنيس الأسلمي حتى نزل بذي طوى، وسار عمرو بن الزبير حتى نزل بالأبطح[45]، وأرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه (عبد الله) يطلب منه الامتثال ليمين يزيد بن معاوية وحذره من القتال في البلد الحرام[46] وكان عمرو بن الزبير يخرج من معسكره فيصلي بالناس خلال المفاوضات مع أخيه عبد الله. وكان عبد الله يسير معه ويلين له، ويقول: إني سامع مطيع وأنت عامل يزيد، وأنا أصلي خلفك، وما عندي خلاف، فأما أن تجعل في عنقي جامعة، ثم أقاد إلى الشام، فإني نظرت في ذلك، فرأيت أنه لا يحل لي أن أحله بنفسي فراجع صاحبك واكتب إليه ولكن عمرو بن الزبير اعتذر من الكتابة ليزيد، وذلك لأنه جاء في مهمة محددة مطلوب منه تنفيذها. وكان عبد الله بن الزبير قد أرسل عبد الله بن صفوان الجمحي ومعه بعض الجند، وأخذوا أسفل مكة، وأحاطوا بأنيس بن عمرو الأسلمي، ولم يشعر بهم أنيس إلا وقد أحاطوا به، فقتل أنيس وانهزم أصحابه، وفي الوقت الذي قتل فيه وانهزم جيش أنيس بن عمرو الأسلمي، كان مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، يقود طائفة أخرى من الجند نحو عمرو بن الزبير، الذي كان معسكراً في الأبطح، فانهزم عمرو بن الزبير، ودخل دار رجل يقال له علقمة، فجاءه أخوه عبيدة بن الزبير فأجاره، فأخذه إلى عبد الله، وذكر له أنه أجاره، فقال عبد الله، أما حقي فنعم، وأما حق الناس فلأقتص منه لمن أذاه في المدينة[47]، وأقام عبد الله عمرو بن الزبير ليقتص الناس منه، فكل من ادعى على عمرو بأنه فعل به كذا وكذا وكذا قال له عبد الله بن الزبير افعل به مثلما فعل بك وتذكر المصادر أن عمرو بن الزبير تعرض لتعذيب شديد من جراء ذلك ومات تحت الضرب[48]، لقد أثبت ابن الزبير رضي الله عنه أنه يملك ذكاء ودهاء بارزين، الأمر الذي مكّنه من تحويل القضية لصالحه، بعدما كانت في يد يزيد بن معاوية، وكان ابن الزبير في بداية معارضته يعتمد على أن البيعة التي تمت ليزيد بن معاوية لم تكن بموافقة الناس، ولا بد من مشاركة الناس وكان يدعو إلى الشورى ولم تحقق معارضة ابن الزبير أي نجاح يذكر، فخلال سنتين أو أكثر من معارضته ليزيد لم يحدث أي تغير بشأن هيمنة الدولة على الحجاز، فضلاً عن غيره من الأقطار ولكن ابن الزبير كان يهدف من التحرش بالأمويين إلى إيقاع يزيد في مأزق المواجهة، لقد ارتكب يزيد خطأً فادحاً عندما أقسم يزيد أن يأتيه ابن الزبير إلى دمشق في جامعة، فكيف يعقل من صحابي جليل تجاوز الستين من عمره أن يرضخ لطلب يزيد بن معاوية، ولقد استطاع ابن الزبير أن يظهر يزيد أمام أهل الحجاز بأنه شخص متسلط ليس أهلاً لولاية المسلمين، وجعلت هذه الحادثة من ابن الزبير ـ في نظر الكثير من المتمردين في موقفهم من ابن الزبير، على أنه طالب حق يواجه خليفة يحمل الظلم في أحكامه والتعسف في قراراته والذي مكّن ابن الزبير وأكسبه الكثير من التعاطف هو موقف أمير المدينة ـ عمرو بن سعيد ـ فكان هذا الأمير ـ كما تذكر الروايات ـ شديداً على أهل المدينة معرضاً على نصحهم متكبراً عليهم[49]. ثم ذلك الخطأ الكبير الذي وقع فيه عمرو بن الزبير، الذي تصنعه الروايات أيضاً بأنه: عظيم الكبر شديد العجب، ظلوماً قد اساء السيرة وعسف الناس وأخذ من عرفه بمولاة عبد الله والميل إليه، فضربهم بالسياط ويقال: عمرو لا يكلم من يكلمه يندم[50]، ومن الأخطاء التي وقع فيها يزيد بن معاوية، وعمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة، واستطاع ابن الزبير أن يوظفها لصالحه غزو مكة بجيش، فمكة لها حرمتها وخصوصيتها في الجاهلية ثم جاء الإسلام فزادها مكانة وقداسة على مكانتها تلك التي كانت في الجاهلية، وقام عمرو بن سعيد يتحدى مشاعر المسلمين في المدينة حين رقى المنبر في أول يوم من ولايته على المدينة، فقال عن ابن الزبير: تعوذ بمكة، فوالله لنغزونه، ثم والله لئن دخل الكعبة لنحرقنها عليه، على رغم أنف من رغم[51]. ولما جهّز الحملة التي سيوجهها لابن الزبير في مكة، نصحه بعض الصحابة وحذّروه وذكّروه بحرمة الكعبة وبحديث رسول الله صلى اله عليه وسلم في بيان حرمتها ولكنه رفض السماع لنصحهم[52]، وكان مروان بن الحكم وهو الأمير المحنك والسياسي الداهية قد حذّر عمرو بن سعيد من غزو البيت وقال له: لا تغزو مكة، واتق الله ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبر، هذا له بضع وستون سنة، وهو رجل لجوج، والله لئن لم تقتلوه ليموتن، فقال له عمرو: والله لنقاتلنّه، ولنغزونّه في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم، فقال مروان: والله إن ذلك يسوؤني[53]. وكان عبد الله بن الزبير قد اختار لقباً مؤثراً حين أطلق على نفسه ((العائذ بالله)) فأصبح المساس بحرمة مكة أمر لا يوافق عليه الصحابة والتابعون وكان لا بد من الدفاع عن مكة، في وجه جيش يريد استحلال حرمتها وحتى الذي لا يستطيع أن يدافع عن مكة فسوف يكون متعاطفاً مع ابن الزبير بصفته يدافع عن بيت الله[54]، وتدافع الناس نحو ابن الزبير من نواحي الطائف يعاونونه ويدافعون عن الحرم[55]، وهذه القضايا المعنوية والحسية كان لها الأثر البالغ في تعاظم مكانة ابن الزبير لدى أهل الحجاز الأمر الذي جعله يحقق نصراً ساحقاً وسهلاً على جيش عمرو بن الزبير[56].




ميارى 15 - 5 - 2010 09:45 PM

2 ـ حملة الحصين بن نمير وحصار ابن الزبير وحريق الكعبة:

هلك مسلم بن عقبة النميري في طريقه لابن الزبير وتولى القيادة من بعده الحصين بن نمير السكوني ووصل إلى مكة قبل انقضاء شهر محرم بأربع ليالي. وعسكر الحصين بن نمير بالحجون[1]إلى بئر ميمون[2]، وبذلك فقد عمل الحصين بن نمير على نشر جيشه على مسافة واسعة والذي دفعه إلى ذلك طبيعة الحرب التي ستدور في مكة وقام ابن الزبير يحث الناس على قتال جيش أهل الشام وانضم المنهزمون من معركة الحرّة إلى ابن الزبير، وقدم على ابن الزبير أيضاً نجدة بن عامر الحنفي في ناس من الخوارج، وذلك لمنع البيت من أهل الشام[3]، وكان عدد المقاتلين الذين اشتركوا مع ابن الزبير أقل بكثير من المقاتلين الذين اشتركوا في معركة الحرّة، ولم تكن القوات متكافئة وتحول الوضع لصالح الحصين بن نمير، بعد أن مني ابن الزبير بفقد خيرة أصحابه، مثل أخواه المنذر وأبو بكر ابنا الزبير، ومصعب بن عبد الرحمن، وحذافة بن عبد الرحمن بن العوام، وعمرو بن عروة بن الزبير[4]، وبعد ثلاثة أيام من ربيع الأول سنة 64هـ قام الحصين بن نمير بنصب المنجنيق على جبل أبي قبيس[5]، وجبل قعيقعان[6] وفقد ابن الزبير أهم مستشاريه ومناصريه، وهو المسور بن مخرمة بعد أن أصابه بعض أحجار المنجنيق، وانكشفت مواقع ابن الزبير أمام الحصين بن نمير، ولم يبق مأمن لابن الزبير من أحجار المنجنيق سوى الحجر[7]، وحوصر ابن الزبير حصاراً شديداً ولم يعد يملك إلا المسجد الحرام فقط بعد أن فقد مواقعه المتقدمة في الأبطح[8]، وفي أثناء احتدام المعارك بين ابن الزبير والحصين بن نمير احترقت الكعبة وهذه مصيبة أضيفت إلى مصائب المسلمين التي نتجت عن استحلال القتال في البلد الحرام الذي حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم القتال فيه[9]، وكان يزيد بن معاوية قد مات في منتصف شهر ربيع الأول[10]، ولم يعلم أحد بموته نظراً لبعد المسافة بين مكة ودمشق، وقد جاء الخبر بموت يزيد إلى مكة لهلال شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين[11].

ولم تكن الكعبة مقصودة في ذاتها بالإحراق والدليل على ذلك ما أحدثه حريق الكعبة من ذهول وخوف من الله في كلا الطائفتين[12] جيش الحصين بن نمير، وجيش ابن الزبير، فقد نادى رجل من أهل الشام بعد أن احترقت الكعبة وقال: هلك الفريقان والذي نفس محمد بيده[13]، وأما أصحاب ابن الزبير، فقد خرجوا كلهم في جنازة امرأة ماتت في صبيحة ليلة الحريق خوفاً من أن ينزل العذاب بهم، وأصبح ابن الزبير ساجداً ويقول: اللهم إني لم أتعمد ما جرى فلا تهلك عبادك بذنبي، وهذه ناصيتي بين يديك[14]. وأهل الشام بالرغم من جهل بعضهم بابن الزبير ومكانته[15]، إلا أنه من المستحيل أن يجهل أحد منهم مكانة الكعبة وأهميتها، كيف وهم يتجهون إليها في صلاتهم عندما كانوا يحاصرون ابن الزبير، فمن المستحيل أن يعمد أحدهم إلى حرق الكعبة، أو كان ذلك يدور في تفكير الحصين بن نمير، وقد وردت تصريحات لبعض اقارب ابن الزبير وبعض السلف والعلماء المتحققين بأنهم لم ينسبوا إلى أحد من الطائفتين قصد حريق الكعبة، فهذا هشام بن عروة يقول:.. فقاتلوا ابن الزبير واحترقت الكعبة أيام ذلك الحصار[16]، وقال ابن عبد البر: وفي هذا الحصار احترقت الكعبة[17]، وقال ابن حجر: ثم سارت الجيوش إلى مكة لقتال ابن الزبير، فحاصروه بمكة وأحرقت الكعبة[18]. ولا شك أن أحداً من أهل الشام لم يقصد إهانة الكعبة، بل كل المسلمين معظمين لها، وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير، والضرب بالمنجنيق كان لابن الزبير لا للكعبة/، ويزيد لم يهدم الكعبة، ولم يقصد إحراقها لا هو ولا نوابه باتفاق المسلمين[19]. وهكذا كانت أحد نتائج تلك الحرب التي دارت بين ابن الزبير والحصين بن نمير إحراق البيت الحرام[20]. ولما وصل الحصين خبر موت الخليفة بعث إلى ابن الزبير فقال: موعد ما بيننا الليلة الأبطح، وكان يريد أن يجتمع به ويفاوضه في الخلافة فالتقيا وتحادثا طويلاً واشتد بينهما الجدل وكان فيما قال الحصين لابن الزبير وهو يدعوه للخلافة: إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلم فلنبايعك ثم أخرج معي إلى الشام، فإن هذا الجند الذي معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس، وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أهل هذه الحرة. فقال عبد الله: أنا أهدر تلك الدماء؟ أما والله لا أرضى أن أقتل كل رجل منهم عشرة منكم، وكان الحصين يكلمه سراً، وهو يجهر جهراً ويقول: لا والله لا أفعل. فقال له الحصين: قبح الله من يعدك بعد هذه داهياً قط أو أديباً، قد كنت أظن لك رأياً، ألا أراني أكلمك سراً وتكلمني جهراً وأدعوك للخلافة وتعدني للقتل والهلكة[21]، بعد أن افترقا، أدرك عبد الله خطأه في موقفه مع الحصين عندما عرض عليه الخلافة ومرافقته إلى بلاد الشام، وأراد أن يصحح هذا الموقف وكان الحصين يستعد للعودة بجنده إلى دمشق، فأرسل إليه يقول: أما أن أسير إلى الشام فليس فاعلاً وأكره الخروج من مكة، ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم وعادل فيكم، فرد الحصين بقوله: أرأيت إن لم تقدم بنفسك، ووجدت هناك أناساً كثيراً من أهل هذا البيت يطلبونها ويجيبهم الناس، فما أنا صانع[22]؟ وذكر البلاذري: أن عبد الله بن الزبير طلب من الحصين مهلة لاستشارة أصحابه عندما عرض عليه الحصين الأمر، ولكن أصحابه رفضوا الخروج إلى الشام[23]. ويصعب على المرء أن ينفذ إلى أعماق ابن الزبير ويعرف ما كان يدور في خلده والأسباب التي دفعته لرفض عرض الحصين ولكن هناك مؤشرات عديدة تؤخذ بعين الاعتبار من الواقع السياسي في بلاد الحجاز[24]، منها:

أ ـ لم تكن للحصين صفة رسمية عندما عرض الخلافة على ابن الزبير، ولم يكن يمثل الأمويين كلهم، رغم أنه قال: إن الجند الذين معه هم وجوه أهل الشام وفرسانهم. فكيف يثق ابن الزبير بقائد حملة كان يقاتله قبل أيام ويريد أن يفتك به، وقد ظهرت المناقضة عند الحصين بقوله بعد ذلك: أرأيت إن لم تقدم بنفسك ووجدت هناك أناساً كثيراً من أهل هذا البيت يطلبونها ويجيبهم الناس[25].

ب ـ إن الذي عرض عليه الخلافة هو أحد قادة معركة الحرّة، وكان حول ابن الزبير عدد من أهل المدينة الذين هربوا من وحشية تلك المعركة، لذلك كان ابن الزبير يرد على الحصين بصوت جهوري، يسمعه من حوله من أنصاره ليدفع الشك عن نفوسهم، ويطمئنهم على موقفه من الحصين، فقال: إنه لا يرضى قتل عشرة من جيش الحصين بكل واحد من أهل المدينة[26].

جـ ـ عدم وجود أنصار ـ حتى الآن ـ له في بلاد الشام يمكن أن يعتمد عليهم وينصرونه كما هو الحال في بلاد الحجاز، فأهل الشام كانوا يدينون بالولاء والمحبة والتقدير للأمويين.

ر ـ عدم وجود جيش منظم حقيقي كالجيش الأموي عند ابن الزبير، وكل ما نستطيع أن نسمي المدافعين عن ابن الزبير عن مكة، بأنهم من المقاتلين الذين يجتمعون وقت الشدة ويتفرقون عند زوالها، وهل هناك شدة أكبر من غزو الكعبة؟ وأعتقد لو كان لابن الزبير جيش منظم حقيقي ومدرب مسلح بحيث يستطيع هذا الجيش نصرة ابن الزبير لتوجه مع حصين بن نمير، لتم له النجاح[27].



المبحث السابع : وفاة يزيد بن معاوية وخلافة معاوية بن يزيد:

أولاً : وفاة يزيد بن معاوية:

في عام 64هـ هلك يزيد بن معاوية وكانت وفاته بقرية من قرى حمص يقال لها حوّارين من أرض الشام، لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة 64هـ وهو ابن 38سنة في قول بعضهم، وعن هشام بن الوليد المخزومي، أن الزهري كتب لجده أسنان الخلفاء، فكان فيما كتب من ذلك: ومات يزيد بن معاوية وهو ابن تسع وثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر في قول بعضهم، ويقال: ثمانية أشهر[28]، وعن أبي معشر أنه قال: توفي يزيد بن معاوية يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وكانت خلافته ثلاث سنين وثمانية أشهر إلا ثمان ليالٍ، وصلى على يزيد ابنه معاوية بن يزيد[29]، وقيل وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر إلا أياماً[30]، وكان نقش خاتمه: ربنا الله[31].



ثانياً : خلافة معاوية بن يزيد:

معاوية بن يزيد: هو ثالث الخلفاء الأمويين، وكنيته أبو يزيد أو عبد الرحمن، أبوه يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم ابن عتبة بن ربيعة[32]، ويسمى معاوية الأصغر[33]. ولد سنة 44هـ ونشأ في بيت الخلافة، بويع له بالخلافة بعد موت أبيه، في رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين هجرية، وكان رحمه الله ـ أبيض شديد البياض، كثير الشعر، كبير العينين، جعد الشعر، أقنى الأنف، مدور الرأس، جميل الوجه، كثير شعر الوجه، دقيقه، حسن الجسم، وكان رجلاً صالحاً ناسكاً[34].

1 ـ مدة حكمه: يختلف المؤرخون كثيراً في المدة التي حكمها معاوية بن يزيد، ويتراوح الخلاف بين عشرين يوماً وثلاثة أشهر، ويبدو أن مدة ثلاثة الأشهر هي الأرجح، ويرجع بعض المؤرخين مدة الأربعين يوماً[35]وكان مريضاً مدة ولايته، ولهذا لم يؤثر له عمل ما مدة خلافته، حتى الصلاة، فإن الضحاك بن قيس هو الذي كان يصلي بالناس، ويسيّر الأمور، وظل الضحاك يصلي بالناس حتى بعد وفاة معاوية، حتى استقر الأمر لمروان بالشام[36].

2 ـ تنازله عن الخلافة وتركه للأمر شورى :

ولما أحس معاوية بن يزيد بالموت نادي في الناس الصلاة جامعة، وخطب فيهم، وكان مما قال: أيها الناس إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي، كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم من هو صالح لذلك وقد تركت أمركم، فولوا عليكم من يصلح لكم، ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج حتى مات رحمه الله تعالى[37]، قد أراد معاوية بن يزيد أن يقول لهم: أنه لم يجد مثل عمر، ولا مثل أهل الشورى، فترك لهم أمرهم يولون من يشاءون وقد جاء ذلك صريحاً في رواية أخرى للخطبة عند ابن الأثير قال فيها: أما بعد فإني ضعفت عن أمركم فابتغيت مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورة فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له من أحببتم، ثم دخل منزله وتغيب حتى مات[38]. واعتبر هذا الموقف منه دليلاً على عدم رضاه عن تحويل الخلافة من الشورى إلى الوراثة[39]، فقد رفض أن يعهد لأحد من أهل بيته حينما قالوا له أعهد إلى أحد من أهل بيتك، فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم، فكيف أتقلد وزرها، وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها، اللهم أني بريء منها، مُتخلِّ عنها[40]، وجاء في رواية: قيل له ألا توصي؟ فقال: لا أتزوّد مرارتها واترك حلاوتها لبني أمية[41]، وتعتبر حادثة تنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة حادثة نادرة في التاريخ الإنساني لقد عرفت استقالات، فيها إكراه مادي أو معنوي. أما أن ملكاً استقال، لأن في أمته من هو خير منه، فهذا ما لم نقع عليه وأية محاسبة للنفس أرفع من هذه[42]؟

وإذا كان معاوية بن أبي سفيان أول الخلفاء الأمويين قد حول الخلافة من الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية الثاني، ثالث خلفاء الأمويين أيضاً، قد أعاد الخلافة من الملك العضوض إلى الشورى الكاملة، وإنه لمما يستوجب الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً من التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط[43].

3 ـ كم كان عمره لما مات؟ ومن صلى عليه؟

مات معاوية بن يزيد عن إحدى وعشرين سنة وقيل: ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يوماً. وقيل: تسع عشرة سنة. وقيل عشرين سنة. وقيل ثلاث وعشرين سنة. وقيل إنما عاش ثماني عشرة سنة وقيل: خمس عشرة سنة. فالله أعلم. وصلى عليه أخوه خالد؟ وقيل عثمان بن عنبسة. وقيل: الوليد بن عُتبة. وهذا هو الصحيح، فإنه أوصى إليه بذلك وشهد دفنه مروان بن الحكم[44]، فلما فُرغ منه قال مروان: أتدرون من دفنتم؟ قالوا: نعم، معاوية بن يزيد. فقال مروان: هو أبو ليلى الذي قال فيه أَزْنَمُ الفزاري:

إني أرى فتنة تغلي مراجلها

والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا[45]

4 ـ أزمة خطيرة بعد وفاة معاوية بن يزيد:

كان معاوية بن يزيد قد أحدث أزمة خطيرة، فقد كان أخوه خالد بن يزيد صبياً صغيراً. وكان أمر بن الزبير قد استفحل وبايع له الناس من أنحاء الدولة، فرأى فريق من جند الشام على رأسهم الضحاك بن قيس أمير دمشق أن يبايعوا لابن الزبير، وحتى مروان بن الحكم كبير بني أمية فكر في الذهاب إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ منه الأمان ولكن سائر الجند والقادة بزعامة حسان بن مالك زعيم القبائل اليمنية ـ الذين كانوا أقوى المؤيدين لبني أمية وهم أخوال يزيد رفضوا أن يخرج الأمر عن بني أمية وأن يبايعوا لابن الزبير، فحدث خلاف شديد ولبث الشام ستة أشهر بدون إمام، وأخيراً اتفق القوم على أن يعقدوا مؤتمراً للشورى، يبحثون فيه عمن يصلح للخلافة ويصلوا في ذلك إلى قرار[46]. ويعتبر معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان آخر خلفاء الفرع السفياني، وانتقلت الخلافة بعده إلى الفرع الثاني من بني أمية بالمروانيين، وأولهم مروان بن الحكم، ولا يُعد عند كثير من المحققين والمؤرخين خليفة، حيث يعتبرونه باغياً خرج على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، وكذلك ولده عبد الملك لا يعتبر خليفة إلا بعد موت ابن الزبير، واجتماع المسلمين عليه[47]، وبوفاة معاوية بن يزيد انتهت الدولة السفيانية وظهرت الدولة الزبيرية ولكنها لم تستمر، فقد استطاع بنو مروان القضاء عليها وسيأتي التفصيل في الصفحات القادمة بإذن الله تعالى.







ميارى 15 - 5 - 2010 09:47 PM

الفصل السادس

عهد أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنه



المبحث الأول: اسمه ونسبه وكنيته ونشأته وبيعته

أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:

هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة، أمير المؤمنين، أبو بكر، وأبو خبيب، القرشي الأسدي المكي، ثم المدني، أحد الأعلام، ولد حواري رسول الله وابن عمته[1].

ثانياً: مولده ومبايعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: أنها حملت بعبد الله بن الزبير في مكة، قالت: فخرجت وأنا مُتمُّ فأتيت المدينة، فنزلت قباء، فولدت بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة، فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له، فبرّك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام، ففرحوا به فرحاً شديداً لأنهم قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم، فلا يولد لكم[2]. وسماه عبد الله، ثم جاء بعد وهو ابن سبع، أو ابن ثمان سنين، يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، أمره الزبير رضي الله عنه بذلك، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حين رأه مقبلاً، وبايعه. وكان أول من ولد في الإسلام في المدينة بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت اليهود تقول: قد أخذناهم، فلا يولد لهم بالمدينة ولد ذكر، فكبّر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد عبد الله[3]، وقد طاف به الصديق رضي الله عنه بالمدينة بعد ولادته ليشتهر أمر ميلاده على خلاف ما زعمت اليهود[4] وهذا أسلوب إعلامي عملي للقضاء على شائعات اليهود التي روجوا لها بالمدينة وكان ابن الزبير ملازماً للدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه من آله، فكان يتردد إلى بيت خالته عائشة[5]زوج الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: الزبير بن العوام والد عبد الله رضي الله عنهما:

هو أبو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي[6]، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي وهو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، وأمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد أصحاب الشورى[7]، أسلم وهو حدث وله ستة عشر سنة[8]، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم[9]، وقد تعرض بعد إسلامه للتعذيب، فقد روي أن عم الزبير، كان يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار وهو يقول: أرجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبداً[10]، وقال في حقه رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري، وحواري الزبير[11]. أي خاصتي من أصحابي وناصري ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه السلام أي خلصاه وأنصاره فالحواري هو الناصر المخلص، فالحديث أشتمل على هذه المنقبة، العظيمة التي تميز بها الزبير رضي الله عنه، ولذلك سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً يقول: أنا ابن الحواري فقال: إن كنت من ولد الزبير، وإلا فلا[12]، وكان الزبير بن العوام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل المهمات الصعبة وكان في عهد الراشدين من أعمدة الدولة وشارك في فتوحاتها الكبيرة[13] وقد عرض عليه عمر بن الخطاب ولاية مصر في عهده فقال الزبير: لا حاجة لي فيها، ولكني أخرج مجاهداً وللمسلمين معاوناً، فإن وجدت عمرو بن العاص فتحها (مصر) لم أعرض لعمله، وقصدت إلى بعض السواحل فرابطتُ به، وإن وجدته في جهاد كنت معه[14]، وقد تحدثت عن سيرته في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فمن أراد المزيد فليرجع إليه مشكوراً[15].

رابعاً: أسماء بنت الصديق والدة بن الزبير رضي الله عنهم جميعاً:

هي أسماء بنت عبد الله بن أبي قحافة بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة[16]، وكانت من أوائل المسلمات حيث أسلمت وأختها عائشة وهي يومئذ صغيرة[17]. ولها مواقف مشهودة، وآثار محمودة في تاريخنا الإسلامي المجيد ومن هذه المواقف:

1 ـ في الهجرة النبوية: قالت السيدة عائشة في حديث طويل منه: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر، عند الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعاً[18] في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر إلى أن قالت: ..فجهزناهما أحث الجهاز (من الحثّ وهو الإسراع) وضعنا لهم سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت بذات النطاقين[19]. فقد أسهمت السيدة أسماء رضي الله عنها في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله، فقد حدثتنا عن ذلك فقالت:لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت ليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت لا أدري والله أين أبي قالت: فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشاً ـ فلطم خدّي لطمة، طرح منها قرطي، قالت: ثم انصرفوا[20]، فهذا درس من أسماء والدة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، تعلّمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل، كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم، وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لا أراه قد فجعكم بماله ونفسه. قالت: كلا يا أبت ضع يديك على هذا المال، قالت: ووضع يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا، فقد أحسن. وفي هذا بلاغ لكم، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكت الشيخ بذلك[21]، وبهذه الفطنة، والحكمة، سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد تركت لهم حقاً هذه الأحجار التي كومتها، لتطمئن لها نفس الشيخ! إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً، وثقة بلا حدٍ لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعال الأمور ولا تلتفت إلى سفاسفها[22]، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلاً هن في أمس الحاجة إلى الإقتداء به والنسج على منواله[23].

2 ـ صلة أسماء لأمها المشركة: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى اله عليه وسلم، قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك[24]، قال ابن حجر: وفي قولها وهي راغبة أقوال، والذي عليه الجمهور من هذه الأقوال أنها قدمت طالبة من بر ابنتها لها، خائفة من ردها إياها خائبة. وفي هذا الحديث من الفوائد ما ذكره الخطابي: إن الرحم الكافرة توصل بالمال ونحوه كما توصل المسلمة[25]. وقد قال تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولن يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)) (الممتحنة ، الآيتان 8 ، 9). وهذه الآيتان رخصة في الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة[26].

3 ـ شجاعتها وجهادها في اليرموك مع زوجها:

وأما شجاعتها وجراءتها وجهادها في سبيل الله فأمر يفوق الخيال: فمن ذلك خروجها مع الجيش يوم اليرموك، فلقد شهدت اليرموك مع زوجها الزبير وابنها عبد الله[27]، ومن شجاعتها استعدادُها التام لمواجهة اللصوص الذين كثروا في يوم من الأيام بالمدينة، عن فاطمة بنت المنذر أن أسماء بنت أبي بكر اتخذت خنجراً زمن سعيد بن العاص ـ أي في زمن إمارته المدينة وكانوا قد كثروا في المدينة، فكانت تجعله تحت رأسها[28].

4 ـ علاقتها بالقرآن الكريم :

كانت رضي الله عنها قد تربت على كتاب الله وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وإليك هذه الصورة المشرقة من حياتها مع القرآن الكريم فذات يوم دخل عليها ابنها وهي تُصلي فسمعها تقرأ هذه الآية ((فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) (الطور ، الآية : 27). فبكت واستعاذت... فقام وهي تستعيذ. فلما طال عليه أتى السوق وقضى منه حاجته.. ثم رجع فوجدها ما تزال في بكائها تستعيذ[29]. وكانت إذا أُصيبت بالصُّدَاع تضع يدها على رأسها وهي تقول: بذنبي وما يغفر الله أكثر[30]. وهذا فهم عميق لقول الله تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30) وقد أفرد الدكتور محمد بن لطفي الصبّاغ رساله قيمة في حياة السيدة أسماء رضي الله عنها، وسيأتي الحديث عن بعض الدروس والعبر في حصار الحجاج لأبنها عبد الله بمكة بإذن الله.

خامساً: أولاد ابن الزبير وزوجاته:

كان له من الولد خُبيبُ وحمزة وعباد وثابت وأمهم تماضر بنت منظور الفزاري، وهاشم وقيس وعروة ـ قتل مع أبيه ـ والزبير، وأمهم أم هاشم بنت حلة بن منظور وعامر وموسى وأمّ حكيم وفاطمة وفاختة، وأمهم جثيمة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وبكر ورقية وأمهم عائشة بنت عثمان بن عفان، وعبد الله ومصعب من أم ولد[31].



سادساً : ابن الزبير في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية رضي الله عنهم:

1 ـ في اليرموك:

لا نجد في كتب السيرة أي خبر عن اشتراك عبد الله بن الزبير في الحروب والغزوات رغم حضوره مع والده غزوة الأحزاب وفتح مكة، فقد كان في مقتبل العمر ولم يتجاوز عمره عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إحدى عشر سنة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجيز أحداً من الغلمان لم يبلغ الخامسة عشر وأول ما يرد من أخبار تتعلق بخروجه مع الجيوش، ومرافقته لوالده في تحرير بلاد الشام وحضوره معركة اليرموك إذ يقول عبد الله: كنت مع أبي عام اليرموك، فلما تعبأ المسلمون للقتال، لبس الزبير لآمته ثم جلس على فرسه ثم قال لموليين له: أحبسا عبد الله بن الزبير معكما في الرحل، فإنه غلام صغير[32]. وبعد انتهاء القتال شارك عبد الله في علاج الجرحى بعد انهزام المشركين[33] وإن لم يشارك في القتال لصغر سنه فإنه ألف القتال والعراك وصليل السيوف منذ نشأته مما زاد في شجاعته وخبرته العسكرية[34].

2 ـ ابن الزبير مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم:

مرّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن الزبير يلعب مع الصبيان، ففروا ووقف ابن الزبير فقال له عمر: مالك لم تفر معهم، فقال لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك[35]، وتروى المصادر حادثة أخرى تبين شجاعته منذ صباه الباكر، فقد ذكرت المصادر التاريخية إنه كان ذات يومٍ يلعب مع الصبيان وهو صبي، فمر بهم رجل فصاح عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقري وقال: يا صبيان أجعلوني أميركم وشّدوا بنا عليه ففعلوا[36].

3 ـ كتابة المصاحف في عهد عثمان :

عن أنس: أن عثمان أمر زيداً، وابن الزبير، وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوا المصاحف، وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم[37]، ومن أراد التفصيل في جمع سيدنا عثمان رضي الله عنه للمصاحف فليراجع كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.

4 ـ جهاده في شمال أفريقيا في عهد عثمان رضي الله عنه:

انقطع خبر المسلمين في إفريقية عن عثمان بن عفان رضي الله عنه فسيّر إليهم عبد الله بن الزبير في جماعة ليأتيهم بأخبارهم، فسار مجداً ووصل إليهم، وأقام معهم، ولمّا وصل، كثر الصَّياح، والتكبير في المسلمين، فسأل جرجير عن الخبر، فقيل: قد أتاهم عسكر، ففتَّ ذلك في عضده، ورأى عبد الله بن الزبير قتال المسلمين كلّ يوم من بكرة إلى الظُّهر فإذا أُذِّن بالظهر عاد كل فريق إلى خيامه، وشهد القتال من الغد فلم ير ابن سعد معهم فسأل عنه فقيل: إنه سمع منادي جرجير يقول: من قتل عبد الله بن سعد، فله مئة ألف دينار، وأزوِّجه ابنتي وهو يخاف فحضر عنده، وقال له: تأمر منادياً ينادي: من أتاني برأس جرجير، نفّلته مئة ألف، وزوجّته ابنته واستعملته على بلاده ففعل ذلك فصار جرجير يخاف أشدَّ من عبد الله[38]. ثمّ إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إنَّ أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين، وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غداً جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهِّبين، ونقاتل نحن الرُّوم في باطن العسكر إلى أن يضجروا ويملُّوا فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون، ركب من كان في الخيام من المسلمين، ولم يشهدوا القتال، وهم مستريحون ونقصدهم على غرّة فلعلَّ الله أن ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصّحابة، واستشارهم، فوافقوه على ذلك، فلمَّا كان الغد، فعل عبد الله ما اتفقوا عليه وأقام جميع شُجعان المسلمين في خيامهم، وخيولهم عندهم مُسَرَّجة مضى الباقون، فقاتلوا الرّوم بالانصراف على العادة فلم يمكنهم ابن الزٌّبير، وألح عليهم بالقتال، حتى أتعبهم، ثم عاد عنهم، والمسلمون، فكل الطائفتين ألقى سلاحه، ووقع تعباً فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزير من كان مستريحاً من شجعان المسلمين وقصد الرّوم فلم يشعروا بهم حتى خالطهم، وحملوا حملة رجل واحد وكبَّروا فلم يتمكن الرّوم من لبس سلاحهم حتى غشيهم المسلمون وقتل جرجير قتله ابن الزبير، وانهزم الرّوم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذت ابنة الملك جرجير سبية، ونزل عبد الله بن سعد المدينة، وحاصرها حتى فتحها، ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الرَّاجل ألف دينار، ولما فتح مدينة سبيطلة، بثَّ جيوشه في البلاد فبلغت قفصة، فسبوا، وغنموا وسيَّر عسكراً إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد، فحصره، وفتحه بالأمان، فصالحه أهل إفريقية ـ ونفّل عبد الله بن الزبير ابنة الملك، وأرسله ابن سعد إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية[39]. قال ابن كثير: فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه وعن أبيه، وأصحابهما أجمعين[40]، وكان الشاعر أبو ذؤيب الهذلي قد خرج مع ابن الزبير في مغزّى نحو المغرب ـ في عهد عثمان ـ فمات فدلاّه عبد الله بن الزبير في حفرته وقد قال الشاعر أبو ذؤيب في تلك الغزاة في عبد الله بن الزبير:

وصاحبِ صدق كسيد[41] الضَّرَاءِ[42]

ينهض في الغزو نهضاً نجيحا[43]

وشيكِ الفصول بطـيِّ القفول

إلا مشاحاً بـه أو مُشِيحا[44]



5 ـ دفاعه عن عثمان يوم الدار: كان ابن الزبير من الذين كانوا مع عثمان بن عفان يوم حصر من قبل الغوغاء، وكان يلح على عثمان أن يسمح له بقتال الغوغاء ولكن عثمان كان يرفض ذلك[45]، ولما أمر عثمان من في الدار بالخروج أصر ابن الزبير ومروان بن الحكم على البقاء معه والدفاع عنه[46]، وقد أصيب ابن الزبير أثناء الحصار بإصابات بالغة كادت تودي بحياته، فقد روي المدائني أن كنانة ـ مولى صفية بنت حيي ـ أخرج أربعة محمولين وكان ابن الزبير منهم[47]،وكان ابن الزبير يخطب بمكة ويقول في خطبته: فجرحت بضعة عشر جرحاً وإني لأضع يدي اليوم على تلك الجراحات التي جرحت مع عثمان، فأرجوا أن تكون خير أعمالي[48]، وفي هذا وضوح موقف ابن الزبير من عثمان وأنه يراه إمام حق ورشد وأن المعتدين عليه مجرمون وأن قتالهم من أفضل الأعمال عند الله ومنها نستفيد أن الدفاع عن أولياء الصالحين بأي وسيلة شرعية من الذب عن أعراضهم وشدّ أزرهم من الأعمال الصالحة. ومما يدل على أهمية الدور الذي كان يقوم به ابن الزبير في الذود عن عثمان ما ذكرته الروايات من أن عثمان أمّر ابن الزبير يوم الدار وقال: من كانت لي عليه طاعة فليطع عبد الله بن الزبير[49]. وفي رواية: أنه أمره أن يصلي بأهل داره فترة الحصار، وكان ابن الزبير يصلي بهم في صحن الدار[50].

6 ـ في معركة الجمل :

كان ابن الزبير يوم الجمل على الرجّالة وجُرح يومئذ تسع عشرة جراحة، وقد تبارز يومئذ هو ومالك بن الحارث بن الأشتر، فاتَّحدا فصرع الأشتر ابن الزبير فلم يتمكن الأشتر من القيام عنه، بل احتضنه ابن الزبير وجعل ينادي ويقول: اقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي[51].

فأرسلها مثلاً. ثم تفرَّقاً ولم يقدر عليه الأشتر وقد قيل: إنه جرح يومئذ بضعاً وأربعين جراحة ولم يوجد إلا بين القتلى وبه رمق، وقد أعطت عائشة لم بشَّرها أنه لم يقتل عشرة آلاف درهم وسجدت لله شكراً وقد كانت تحبه حباً شديداً، لأنَّه ابن أختها، وكان عزيزاً عليها وقد رُوِيَ عن عُروة أنّه قال: لم تكن عائشة تحب أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مثل حُبِّها عبد الله بن الزبير وقال عروة: وما رأيت أبي وعائشة يدعوان لأحد من الخلق مثل دعائهما لابن الزبير[52].

7 ـ جهاده أيام معاوية رضي الله عنهما:

تولى أمر إفريقية معاوية بن حديج، فكان عبد الله بن الزبير ساعده الأيمن بالفتح والجهاد وقد سار معاوية بن حديج في جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل، وفتح بنزرت ـ سنة أحد وأربعين، كما دخل ((القيروان)) سنة خمس وأربعين، وبث السرايا في البلاد، وبعث إلى ((سوسة)) عبد الله بن الزبير ففتحها[53]. وكان عبد الله بن الزبير كذلك في جيش يزيد بن معاوية الذي سار نحو القسطنطينية، وكان في ذلك الجيش عدد من الصحابة أيضاً منهم: أبو أيوب الأنصاري، والحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وابن عباس[54].




ميارى 15 - 5 - 2010 09:49 PM

سابعاً: وصف ابن الزبير وأهم صفاته:

كان آدم[1]نحيفاً ليس بالطويل، وكان بين عينيه أثر السجود، كثير العبادة مجتهداً شهماً فصيحاً، صوّاماً قوّاماً، شديد البأس ذا أنفة، له نفس شريفة وهمّة عالية، وكان خفيف اللحية ليس في وجهه من الشعر إلا قليلاً، وكانت له جُمة وكان له لحية صفراء[2]، وكان عالماً عابداً مهيباً وقوراً، كثير الصيام والصّلاة شديد الخشوع قويَّ السياسية[3]، وكان لأبيه الزبير وأمه أسماء وخالته عائشة وجده أبي بكر، وجدته صفية عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر الأثر على شخصيته من جميع النواحي وهذا ما نلمسه من صفات ابن الزبير التي أهمها:



1 ـ فقهه وعلمه: كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة تفقهوا في أمور الدين في المدينة، المنورة وهم عبد الله بن الزبير وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، ولابن الزبير في الصحيحين أحاديث اتفقا له على حديث واحد وأنفرد البخاري بستة أحاديث، ومسلم بحديثين[4]، حدث عن رسول الله وهو صغير وكذلك حدث عن أبيه الزبير وعن جده أبي بكر وعمر وعثمان وخالته أم المؤمنين عائشة وغيرهم رضي الله عنهم وروى عنه مشاهير التابعين منهم أخوة عروة، وطاووس بن كيسان وعمرو بن دينار، وابن أبي مليكة، وثابت البناني، وغيرهم كثير[5]، وقد كان رضي الله عنه فقيهاً وقد قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو العاص صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي[6]، وعرف ابن الزبير بأنه واسع المعرفة بالقرآن والسنة، وكان رضي الله عنه من العلماء المجتهدين، عالماً عابداً ولا غرور في ذلك إذ كان كثير الدخول على خالته عائشة، أم المؤمنين، رضي الله عنها، وهي العالمة الفقهية وكانت تحدثه وهو من أحب الناس إليها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أبيها أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وعنها، وكانت مدة خلافة عبد الله بن الزبير تسع سنوات وقد حج خلالها ثمان مرات، وفي السنة الأخيرة كان محاصراً فلم يستطع الحج. خطب ابن الزبير مرة الحُجّاج فقال: يا معشر الحجاج سلوني فعلينا كان التنزيل ونحن حضرنا التأويل، فقال رجل من أهل العراق: انحلّ جرابي فدخلت فيه فأرة فقتلتها، وأنا محرم، فقال: اقتلوا الفويسقة، فقال: أخبرنا بالشفع والوتر والليالي العشر، فقال: العشر: الثمان وعرفة والنحر، والشفع من تعجّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، والوتر: هو هذا اليوم ((يعني عرفة))، ولم يكن أحد أعلم بالمناسك من ابن الزبير في عهده[7]. وقال عنه ابن عباس رضي الله عنه: كان قارئاً لكتاب الله متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قانتاً لله صائماً في الهواجر من مخافة الله ابن حواري رسول الله وأمه بنت الصديق، وخالته عائشة حبيبة حبيب الله زوجة رسول الله صلى اله عليه وسلم، فلا يجهل حقه إلا من أعمى الله بصيرته[8]وكتب في فقه رسالة علمية للطلب محمد عبد الرضا هادي بالعراق.

2 ـ عبادته وتقواه: تواترت الروايات التي تصور لنا حرص ابن الزبير على العبادة من صلاة وصيام وغيرها، حتى أنها أصبحت معالم شخصيته[9]، قال عنه مجاهد: لم يكن أحد يطيق ما يطيقه ابن الزبير من العبادة[10] (رضي الله عنه) وقال: جاء سيل مرة فطبق أبنية الكعبة فجعل ابن الزبير يطوف سباحة[11]، وكان ابن الزبير رضي الله عنه كثير العبادة إذا قام إلى الصلاة انقطع عن الدنيا ونسي مشاغلها وما فيها من حلو ومر وخرج من كل شيء إليها، فقد روي ابن الزبير كان يوماً يصلي فسقطت حية من السقف فطوقت بطن ابنه هاشم فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل واجتمعوا على قتل تلك الحية، فقتلوها وسلم الولد، فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت ولا درى بما جرى حتى سلّم[12]. وقال عنه ثابت البناني: كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنَّه خشبة منصوبة لا تتحرك[13]، وقال يزيد بن إبراهيم عن عمرو بن دينار، قال: كان ابن الزبير يصلي في الحجر والمنجنيق يصيب ثوبه، فما يلتفت يعني: لما حاصروه[14]، وعن ابن أبي مليكة: قال لي عمر بن عبد العزيز إن في قلبك من ابن الزبير: قلت: لو رأيته ما رأيت مناجياً ولا مصلياً مثله[15]، وعن ابن أبي مليكة قال: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام، ويصبح في اليوم السابع وهو أليَثُنا[16]. وعلق الذهبي على ذلك فقال: لعله ما بلغه النهي عن الوصال ونبيك صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم، وكل من واصل، وبالغ في تجويع نفسه، انحرف مزاجه وضاق خلقه، فاتباع السنة أولى، ولقد كان ابن الزبير مع مُلكه صِنفاً في العبادة[17].

3 ـ جرأته وشجاعته: كان عبد الله بن الزبير فارس قريش في زمانه، وكان يشتد بالسيف وقد ناهز السبعين كأنه فتى في ربيع العمر، قال عنه عثمان بن طلحة: كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاثة لا شجاعة ولا عبادة ولا بلاغة[18]، وعن هشام بن عروة قال: كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف، فكان لا يضعه من فيه، فكان أبوه إذا سمع ذلك منه يقول: أما والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام[19]، وكان مشهود له بالشجاعة منذ كان صغيراً، وقد مرّت شجاعته في اليرموك وفي حصار القسطنطينية وفي فتح إفريقية، وفي دفاعه عن عثمان يوم الدار وفي قتاله في الجمل وسيأتي الحديث عن شجاعته أكثر بإذن الله في حصار الحجاج له بمكة وكان يقول: والله إني لا أبالي إذا وجدت ثلاث مئة يصبرون صبري لو أجلب عليَّ أهل الأرض[20]، وكان يضرب بشجاعته المثل[21]، وكان ابن الزبير متأثراً بشجاعة أبيه وإقدامه وشجاعة جده الصديق، وأمه وأخواله وعلى رأسهم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.

4 ـ فصاحته وخطابته: كان ابن الزبير رضي الله عنه لا ينازع وكان من خطباء قريش المعدودين وكان إذا خطب يشبه بجده أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) في حركاته وإشاراته ونبرات صوته وكان صيتاً إذا خطب ويروي أن المسلمين عندما انتصروا على البربر فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وغنموا أموالاً وغنائم كثيرة جداً فبعث ابن أبي سرح بالبشارة مع ابن الزبير إلى عثمان فقص على عثمان الخبر وكيف جرى، فقال له عثمان: إن استطعت أن تؤدي هذا للناس فوق المنبر، قال: نعم فصعد ابن الزبير فوق المنبر فخطب وذكر لهم كيفية ما جرى، قال عبد الله فالتفت فإذا أبي الزبير في جملة من حضر، فلما تبينت وجهه كاد يرتع عليّ في الكلام من هيبته في قلبي، فزبرني بعينه وأشار إلي ليحظنني، فمضيت في الخطبة كما كنت، فلما نزلت قال: والله لكأني أسمع خطبة أبي بكر الصديق حين سمعت خطبتك يا بني[22]، وعن محمد بن عبد الله الثقفي قال: شهدت ابن الزبير بالموسم خرج علينا قبل التروية بيوم وهو محرم فلبى بأحسن تلبية سمعتها قط ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم جئتم من آفاق شتى وفوداً إلى الله عز وجل فحق على الله أن يكرم وفده فمن كان منكم يطلب ما عند الله فإن طالب ما عند الله لا يخيب فاصدقوا قولكم بفعل فإن ملاك القول الفعل والنية النية، القلوب القلوب، الله الله في أيامكم هذه فإنها أيام تغفر فيها الذنوب، جئتم من آفاق شتى في غير تجارة ولا طلب مال ولا دنيا ترجون هاهنا، ثم لبى ولبى الناس، فما رأيت باكيا أكثر من يومئذ[23]، وقال سعيد بن المسيب خطباء قريش في الإسلام: معاوية وابنه وسعيد وابنه وعبد الله بن الزبير[24]، ومن خطبه المشهورة، خطبته في أهل مكة بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، وخطبته في الخوارج حين ناظرهم وخطبته بعد مقتل أخيه مصعب في العراق[25]، ومن مواعظه المشهورة ما كتبه لوهب بن كيسان حيث قال: كتب إليّ عبد الله بن الزبير بموعظة: أما بعد فإن لأهل التقوى علامات يُعرفون بها، ويعرفونها من أنفسهم، صدق الحديث، وأداء الأمانة، وكظم الغيظ، وصبر على البلاء ورضي بالقضاء، وشكر للنعماء، وذلّ لحكم القرآن، وإنما الأيام كالسوق ما نفق فيها حمل إليها، إن نفق الحق عنده حمل إليه وجاءه أهله وإن نفق الباطل حمل إليه وجاءه أهله[26]. ولا شك: أن صفة الخطابة والقدرة على الإقناع من أهم الأمور التي يجب أن يتحلى بها أي زعيم، وقد أفاد ابن الزبير من ذلك كثيراً وكانت فصاحته وقدرته الخطابية عاملاً من عوامل نشر أفكاره والقيم التي آمن بها في حياته.

5 ـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وجوده:

كان عبد الله بن الزبير كريماً يعطي حقوق الرعية كاملة، ويزيد إلى من يستحق، ولا يدفع إلا بطرق مشروعة، ولكن اتهمه بعضهم بالبخل إذ لم يكن مبذراً يعطي عن يمين وعن شمال من لا يستحق، ولم يكن مسرفاً فلا يدفع إلا قدر الحاجة، ولا يُقدّم للمدّاحين والمتزلّفين، وهم عادة أصحاب ألسنة حادة ومنها تخرج الشائعات الهادفة، غير أن ابن الزبير لم يكن يُبالي بما يُقال، ما دام أنه على الجادة[27]، وقد إنساق كثير من الباحثين وراء روايات الخصوم واتهموا ابن الزبير بالبخل وهذا الوصف فيه تجني على حقيقة ابن الزبير، وللأسف أن أصحاب الدراسات الحديثة لم يلتفتوا إلى الروايات الأخرى التي تنفي صفة البخل عن ابن الزبير[28]، والذي يظهر أن صفة البخل التي وصف بها ابن الزبير كانت بسبب سياسته المالية المتشددة، ذلك أن ابن الزبير كان يتأسى بالخلفاء الراشدين وينظر إلى ما بيده من مال أنه ليس ملكاً له وإنما هو للمسلمين ومن ثمّ لا ينفقه إلا في وجوهه الشرعية[29] فالذين عاشوا في ذلك العصر ورأوا سياسة ابن الزبير المتشددة وقارنوها بسياسة الأمويين في الإنفاق لكسب الأنصار والمؤيدين والشعراء اتهم بعضهم ابن الزبير بالبخل وهذه الآثار تدل على كرم وجود ابن الزبير رضي الله عنه حرصه على أموال المسلمين:

أ ـ شهادة السيدة عائشة في كرم ابن الزبير:

قالت عائشة بنت طلحة خرجت مع أم المؤمنين عائشة وهي خالة عائشة بنت طلحة، فبينما نحن كذلك إذا براجز يقول:

أنشد من كان يعيد الهمّ

يدلني اليوم على ابن أمّ

له أب فـي باذخ أَشَمِّ

وأمـه كالبدر ليل تمَّ

مقابل الخال كريم العمّ

جرّعه أكوسه بسـمّ



قالت: فلما سمعت أم المؤمنين أبيات دعت به، فقالت له من وراء حجابها: يا عبد الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الدّال على الخير كفاعله. فحاجتك رجل بين يديك، فسئل عن عبد الله بن الزبير، فإنه شرطك، فخرج الرجل حتى أدرك عبد الله بن الزبير فحمله على راحلة وصنع إليه معروفاً[30].

ب ـ شهادة معاوية بن أبي سفيان في ابن الزبير رضي الله عنهم:

سمع معاوية رضي الله عنه رجلاً وهو يقول:

ابن رقاش ماجـد سَمَيْدع

يأتي فيعطي عن يدٍ أو يمنع

فقال: ذاك عبد الله بن الزبير[31].

جـ ـ نابغة بني جعدة وابن الزبير:

عن عبد الله بن عروة قال: أقحمت السنة نابغة بني جعْدة فدخل على عبد الله بن الزبير المسجد الحرام فأنشده:

حكيـت لنـا الصديق لمـا وليتنا

وعثمان والفاروق فارتاح مُعْدِمُ

وسوُيت بين الناس في الحق فاستووا

فعاد صباحاً حَالك اللون مظلم

أتاك أبـو ليلى يجوب بـه الدٌّجى

دُجى الليل جوّاب الفلاة عَثمثمُ

لتجبر منـه جـانباً دعدعتْ بـه

صُروف الليالي والزمان المُصَمّم



فقال ابن الزبير: هوّن عليك أبا ليلى فإن الشعر أهون وسائلك عندنا، أمّا صفوة مالنا فلآل الزبير وأمّا عفوته فإن بني أسد تشغلها عنك، وتيماً، ولكن لك في مال الله حقان: حق برؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق لشركتك أهل الإسلام في فيئهم، ثم أخذ بيده فدخل به دار النَّعَم، فأعطاه قلائص سبعاً وجملاً رحيلاً، وأوقر له الركاب براً وتمراً وثياباً فجعل التابغة يستعجل ويأكل الحب صِرْفاً، فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى، لقد بلغ الجهد[32]. فهذا الخبر ينفي ما روى عن بخل ابن الزبير ففرق بين البخل والحفاظ على مال المسلمين، فقد بدا واصخاً من كلام عبد الله بن الزبير تبريره حق النابغة الجعدي فيما منحه إياه دون أي اعتبار لما مدحه به من شعر[33].

ش ـ عبد الله بن عروة ابن أخ ابن الزبير:

جاء في رواية للزبير بن بكار أن عبد الله بن الزبير زوّج ابنته أم حكيم ـ من ابن أخيه عبد الله بن عروة فأرسل عروة إلى أخيه عبد الله عشرين ألف درهم فردها عبد الله قائلاً: لو أردت المال لوجدته عند غيرك[34].

ر ـ حمزة بن عبد الله بن الزبير في سجن أبيه:

قدم حمزة بن عبد الله بن الزبير على أبيه بعد أن عزل من العراق فلما سأله أبوه عن المال أخبره بأنه وزعه على قومه فوصلهم به فقال له ابن الزبير: مال ليس لك ولا لأبيك ثم[35]سجنه وهكذا يتضح حرص ابن الزبير على مال العام، وإنفاقه وكرمه الذي لا تجاوز فيه لشرع الله في الإنفاق.





ميارى 15 - 5 - 2010 09:50 PM

ثامناً: بيعة ابن الزبير بالخلافة:

بعد موت يزيد بن معاوية لم يكن هناك من خليفة وإذا كان يزيد قد أوصى لابنه معاوية فإن هذا لا يكفي للبيعة، إذ لا بيعة دون شورى، إضافة إلى أن الذين قد بايعوا معاوية بن يزيد لا يزيدون على دمشق وما حولها وأعيان بني كلب. هذا مع أن معاوية بن يزيد لم يعش طويلاً وترك الأمر شورى ولم يستخلف أحدا، ولم يوصي إلى أحد، وكان عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما قد بويع له في الحجاز، وفي العراق وما يتبعه إلى أقصى مشارق ديار الإسلام، وفي مصر وما يتبعها إلى أقصى بلاد المغرب، وبايعت الشام أيضاً إلا بعض جهات منها، ففي دمشق بايع الضحاك بن قيس الفهري لابن الزبير، وفي حمص بايع النعمان بن بشير، وفي قنسرين زفر بن الحارث الكلابي، وفي فلسطين بايع ناتل بن قيس، وأخرج منها روح بن زنباع الجذامي، ولم يكن رافضاً بيعة ابن الزبير في الشام إلا منطقة البلقاء وفيها حسان بن مالك بن بحدل الكلبي[1]، وهكذا تمّت البيعة لعبد الله بن الزبير في ديار الإسلام وأصبح الخليفة الشرعي[2]وعين ابن الزبير نوّابه على الأقاليم، وتكاد تجمع المصادر على أن جميع الأمصار قد أطبقت على بيعة ابن الزبير خليفة المسلمين، ولذلك صرّح العديد من العلماء والمؤرخين بأن بيعة ابن الزبير بيعة شرعية، وأنه أولى بها من مروان بن الحكم[3]، فيروي ابن عبد البر عن مالك أنه قال: إن ابن الزبير كان أفضل من مروان وكان أولى بالأمر منه، ومن ابنه عبد الملك[4]. ويقول ابن كثير: ثم هو ـ أي ابن الزبير ـ الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة وهو أرشد من مروان بن الحكم حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الأمر[5]، ويؤكد كل ابن حزم[6]والسيوطي[7] شرعية ابن الزبير ويعتبران مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغيين عليه خارجين على خلافته كما يؤكد الذهبي شرعية ابن الزبير ويعتبره أمير المؤمنين[8]

1 ـ بيعة ابن الزبير بالحجاز: كان من الطبيعي أن يكون الحجاز أول المناطق خضوعاً وولاء لبيعة ابن الزبير لكونه مركز المعارضة ضد بني أمية وقد سارع أهل الحجاز إلى مبايعة ابن الزبير، ويروي ابن سعد أن من الأوائل الذين سارعوا إلى مبايعة ابن الزبير عبد الله بن مطيع العدوي، وعبد الله بن رضوان بن أمية الجمحي والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبيد بن عمير، وعبيد الله بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر[9]، وكان هناك بعض العناصر الذين امتنعوا عن بيعة ابن الزبير وعلى رأسهم ثلاث شخصيات لها مكانتها وتأثيرها لاسيما في الحجاز وهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وابن عباس، ومحمد بن الحنفية، وتكاد تجمع المصادر أن أياً من هؤلاء لم يبايع ابن الزبير طيلة حياته[10].

أ ـ موقف ابن عمر من بيعة ابن الزبير :

بايع ابن عمر يزيد بالخلافة، والتزم ببيعته، وحاول اقناع ابن الزبير بذلك، ونهاه عن إثارة الفتنة والخروج على خلافة يزيد[11]، وبعد وفاة معاوية بن يزيد بويع ابن الزبير بالخلافة، وطلب من ابن عمر أن يبايع له فرفض ابن عمر البيعة معللاً ذلك بقوله: لا أعطي صفقة يميني في فرقة ولا أمنعها في جماعة[12]. ولم يحاول ابن الزبير اجبار ابن عمر على البيعة، كما أن المصادر لم تشر إلى أي صدام أو مواجهة وقعت بين الاثنين[13]، وكان لامتناع ابن عمر على بيعة ابن الزبير تأثير سلبي، فقد كان ابن عمر يتمتع بمكانة عالية وبالأخص في الحجاز وكان تأثيره على الناس، فامتناعه عن البيعة يجعل البعض يقتدي به ويتخذ نفس الموقف، ومما يزيد من تأثيره السلبي على حركة ابن الزبير أن ابن عمر كان يجبر من له طاعة عليهم أن يتخذوا الموقف نفسه الذي يتخذه ومع كل ذلك فلم يكن ابن عمر يشكل خطراً حقيقياً على ابن الزبير فهو لم يكن ذا طموح للخلافة، كما أنه لا يملك أتباعاً يستطيع أن يواجه بهم ابن الزبير كما هو الحال عند محمد بن الحنفية[14].

ب ـ ابن عباس وبيعة ابن الزبير:

كان ابن عباس يختلف عن ابن عمر في مواقفه إزاء الفتن التي جرت في عصره، حيث خاض فيها وشهد مع علي صراعه ضد خصومه في موقعتي الجمل وصفين، ولما جاء الأمويون للحكم واستخلف معاوية يزيد بادر ابن عباس إلى بيعته، والتزم بها ولم يعرف أنه أيّد ابن الزبير الذي رفض البيعة، وفي نفس الوقت لم يعلن عداءه لابن الزبير، وبدأت العلاقة بين الاثنين تدخل طوراً جديداً بعد وفاة يزيد بن معاوية حيث بويع ابن الزبير بالخلافة سنة 64هـ وعندما طلب ابن الزبير من محمد بن الحنفية وابن عباس المبايعة قالا: حتى تجتمع لك البلاد ويتسق لك الناس[15]، ووعداه بعدم إظهار الخلاف له[16]. لم يحاول ابن الزبير في بداية الأمر إجبارهما على البيعة، وبدأت العلاقة بين ابن الزبير وابن عباس في تحسن تلمس ذلك في العديد من الروايات التي تدلل على شعور ابن عباس تجاه ابن الزبير والمتمثل في تأييده لبعض مواقفه[17]، أو في الثناء المباشر عليه[18]، ويروي عبد الرزاق في مصنفه أن ابن عباس كان قاضياً لابن الزبير بمكة، إلا أن العلاقة بينهما تعكرت، وقد وردت عدة روايات تدل على مظاهر تردي العلاقة بين الاثنين وإن كانت في مجموعها لا تخرج عن نطاق المناقشات الحادة[19]. ونظراً لتوافق ابن عباس مع محمد بن الحنفية في رفض بيعة ابن الزبير وتنامي خطر الأخير فقد انتهى الأمر بخروج ابن عباس إلى الطائف وبقي هناك إلى أن توفي[20]. وكان ابن عباس يثني على ابن الزبير، فعندما ذكر عنده قال ابن عباس: قاريء لكتاب الله، عفيف في الإسلام، أبوه الزبير، وأمه اسماء وجده أبو بكر، وعمّتُه خديجة، وخالته عائشة وجدّته صفية[21].

جـ ـ ابن الحنفية وبيعة ابن الزبير :

كان المبدأ الذي صرح به ابن الحنفية بعد وفاة يزيد أن لا يبايع أحداً إلا في حالة اجتماع الناس عليه[22]، لم يحاول ابن الزبير في بداية الأمر إكراه ابن الحنفية على البيعة ولم يستمر ابن الزبير في سياسته اللينة مع ابن الحنفية، فبعد أن علا شأن ابن الزبير وجاءته بيعة الأمصار، وكادت الأمة أن تجتمع عليه، أحس أن الوقت قد حان لأن يبايع ابن الحنفية بناء على وعده فعاود الكرّة مرّة أخرى ودعاه إلى البيعة سنة 65هـ ولكن ابن الحنفية أبى أن يبايع فلجأ ابن الزبير إلى حبسه في الشعب[23]، ويبدو أن ابن الزبير تخوّف من دعوة المختار بن أبي عبيد الثقفي بالكوفة، فقد كان المختار من أشد المدافعين عن ابن الزبير أيام حوصر في مكة سنة 64هـ من قبل جيش الحصين بن نمير السكوني، وكان المختار بالإضافة إلى شجاعته وجرأته يتمتع بمكر ودهاء كبيرين ويحمل بين جنبيه طموحات عالية للزعامة[24]، لم يجد المختار عند ابن الزبير ما يحقق طموحاته، فأخذ يبحث عن مكان آخر يمكن أن يحقق فيه ما تصبو نفسه إليه، فترك مكة بعد ستة أشهر من نهاية الحصار الأول ووصل العراق في رمضان 64هـ واستطاع عن طريق إدعائه نصرة آل البيت ورفع شعار الأخذ بثأر الحسين أن يجتمع حوله الأنصار والمؤيدون والناقمون على حكم بني أمية، واستطاع أن يستولي على الكوفة[25]، وكان المختار على علم بما جرى بين ابن الزبير وابن الحنفية في أمر البيعة، وأراد أن يستغل هذا الموقف لصالحه وادعى أنه موفد من محمد بن الحنفية للأخذ بثأر آل البيت، والواقع أن ابن الحنفية تبرأ من المختار وأنكر أن يكون قد أرسله إلى العراق[26]، ودعت الشيعة بالكوفة إلى ابن الحنفية، فخاف ابن الزبير أن تفتح بذلك جبهة جديدة عليه مما يزيد الأمر خطورة وتعقيداً[27]، وأرسل المختار جيشاً في عام 66هـ إلى مكة في موسم الحج واستطاع أن يخلص ابن الحنفية من سجنه، ومنع ابن الحنفية الجيش من قتال ابن الزبير لكونه لا يستحل القتال في الحرم[28]، والواقع إن ابن الحنفية أصبح يشكل خطراً على ابن الزبير بعد وصول نجدة العراق وتروي المصادر أنه كان لابن الحنفية لواء في الحج ينافس فيه لواء ابن الزبير[29]، أما بالنسبة لابن الزبير فقد أحس أن مصدر قوة ابن الحنفية يكمن في مساندة المختار بن أبي عبيد له، ولذلك فكر في القضاء عليه، فأرسل أخاه مصعباً والياً على البصرة، وأمره أن يقاتل المختار وفعلاً استطاع مصعب بن الزبير أن يقصي على المختار في الرابع عشر من رمضان سنة 67هـ[30] أدى مقتل المختار إلى تضعضع موقف ابن الحنفية بمكة، ويروي ابن سعد أن ابن الزبير أرسل إلى ابن الحنفية أخاه عروة يطلب منه أن يبايع وهدده بالحرب إن هو أصر على رفض البيعة[31]. ولاحت لابن الحنفية في هذه الأثناء فرصة رأى فيها مخرجاً من ضغوط ابن الزبير تمثلت في دعوة عبد الملك بن مروان له بأن يقدم إلى الشام، فاغتنم ابن الحنفية هذه الفرصة وتوجه إلى الشام هو وأتباعه، واختاروا المقام بأيلة[32]، وهذه البلدة وإن كانت من بلاد الشام منطقة نفوذ عبد الملك بن مروان إلا أنها في أطرافها نحو الحجاز وأصبح تقريباً في منطقة بعيدة عن الاثنين معاً، ولكن إتضح أن نوايا عبد الملك لم تكن تختلف عن نوايا ابن الزبير، فعرض عليه البيعة مقابل أموال وأعطيات سخية أو الخروج من بلاد الشام، وآثر بن الحنفية الخروج على البيعة حيث اشترط ذلك على ابن الزبير من قبل. وأراد ابن الحنفية العودة إلى مكة ولكن ابن الزبير منعه من دخولها فتوجه بمن معه إلى الطائف وقيل المدينة وبقي بها إلى أن قتل ابن الزبير سنة 72هـ[33].




ميارى 15 - 5 - 2010 09:52 PM

2 ـ بيعة ابن الزبير في العراق :

أدت وفاة يزيد بن معاوية إلى اضطراب الوضع في العراق ونشوب النزاع بين قبائله المختلفة حول السلطة، وهرب عبيد الله بن زياد إلى الشام، وخرج الخوارج قبل هروبه من السجن وبدأوا بإشاعة الفوضى والفساد، وبعد فتن وقتال اتفقت القبائل بالبصرة على أن يتولى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب الأمر[1]، ثم شرع ابن الزبير في تعيين نوابه بعد بيعة أهل البصرة له إلى أن استقر على ولايتها أخوه مصعب وعين أهل الكوفة عامر بن مسعود بن خلف القرشي[2] وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير فأقره. وهذا التصرف يعد في حقيقته إقرار أهل الكوفة بخلافة ابن الزبير[3]، وتعامل أهل البصرة وأهل الكوفة مع ابن الزبير، كخليفة للمسلمين[4]، وقد ساعدت عوامل عديدة على نشر بيعة ابن الزبير بالعراق، من أهمها، الفراغ السياسي في السلطة، بعد وفاة يزيد بن معاوية، وهروب عبيد الله بن زياد إلى الشام، كما أن التنافس القبلي على السلطة، واشتداد شوكة الخوارج وتهديدهم للأمن ساهم في حث أهل العراق على توحيد كلمتهم والانضواء تحت لواء ابن الزبير[5].

3 ـ بيعة ابن الزبير في الشام:

بعد وفاة معاوية بن يزيد وفي مناخ الشام المشوب بالفوضى والاضطراب وجدت بيعة ابن الزبير منفذاً لها في بلاد الشام، لاسيما وأن أخبار صمود ابن الزبير أمام جيش الحصين بن نمير في الحصار الأول، وبيعة أهل الحجاز له، قد تنامت إلى بلاد الشام، ويصور لنا البلاذري موقف أهل الشام من بيعة ابن الزبير في تلك الظروف فيقول: فلما مات معاوية بن يزيد ـ مال أكثر الناس إلى ابن الزبير وقالوا: هو رجل كامل السن، وقد نصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وهو ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه بنت أبي بكر بن أبي قحافة وله فضل في نفسه ليس لغيره، وتكاد تجمع المصادر على بيعة جميع أقاليم أهل الشام ما عدا الأردن، فقد بايع زمز بن الحارث الكلابي[6] بقنسرين، وبايع النعمان بن بشبر الأنصاري[7]، بحمص، واستطاع نائل بن قيس الجذامي[8] أن يسيطر على فلسطين ويدعو فيها لابن الزبير، ودعا الضحاك بن قيس الفهري لابن الزبير في دمشق[9]، وعين ابن الزبير الضحاك بن قيس والياً على الشام[10]، هذه أهم الأقاليم التي بايعت ابن الزبير.

4 ـ موقف الخوارج من بيعة ابن الزبير:

تحالف الخوارج مع ابن الزبير في الدفاع عن مكة حتى وفاة يزيد، فلما زال الخطر، دخل عليه قادتهم فأرادوا معرفة رأيه في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأجابهم فيه بما يسوءهم وذكر لهم ما كان متصفاً به من الإيمان والتصديق، والعدل والإحسان والسِّيرة الحسنة والرُّجوع إلى الحق إذا تبين له، فعند ذلك نفروا منه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها بابدانهم وأديانهم ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة التي لا تنضبط ولا تنحصر لأنها مفرّعة على الجهل وقوة النُّفوس والاعتقاد الفاسد، ومع هذا استحوذوا على كثير من البُلدان[11]، وتصدّى لقتالهم الفارس الهمام، البطل الكبير المهلب بن أبي صفرة، فقد كتب ابن الزبير له بأن يتولى حربهم فأستجاب لذلك، وكان على رأس الخوارج الأزارقة نافع بن الأزرق واستطاع المهلب أن يهزمهم وقتل أميرهم نافع بن الأزرق وانهزمت الخوارج نحو فارس[12]، وتسربت شائعات إلى أهل البصرة بأن المهلب قتل، فاضطرب المصر وهمّ أميرهم الحارث بن أبي ربيعة أن يهرب، وأقبل البشير إلى أهل البصرة بسلامة المهلّب، فاستبشروا بذلك واطمأنّوا وأقام أميرها، بعد أن همّ بالهرب وبلغ عبد الله بن الزبير ما كان من عزم عامله بالبصرة من الهرب، فعزله وولى أخاه مصعباً، فسار مصعب حتى قدمها وتولَّى أمر جميع العراقين وفارس والأهواز ومما قيل من الأشعار في قتال المهلب للخوارج الأزارقه:

إنّ ربّا أنجى المهلَّب ذا الطول

لأهلٌ أن تحمدوه كثيراً

لايزال المهلّب بن أبي صفرة

ما عاش بالعراق أميراً[13]

وقال رجل من الخوارج في قتل نافع بن الأزرق:

إن مات غير مداهن في دينه

ومتى يمـر بذكر نـار يصـعق

والموت أمـر لا محالة واقع

مـن لا يصبحه نهـاراً يطـرق

فلئن منينـا بالمهلب إنّـهُ

لاَءَخو الحروب وليث أهل المشرق[14]



المبحث الثاني : خروج مروان بن الحكم على ابن الزبير:

أولاً : اسمه ونسبه وحياته قبل خروجه على ابن الزبير:

هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الملك أبو عبد الملك القرشي الأموي[15]، يكنى أبا القاسم وأبا الحكم ولد بمكة وهو أصغر من ابن الزبير بأربعة أشهر، روى عن عمر وعثمان وعلي وزيد وروى عنه سهل بن سعد، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين، وعروة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عمر، ومجاهد بن جبر، وأبنه عبد الملك. وكان كاتب ابن عمه عثمان ودافع عن عثمان يوم الدار، وسأل عنه علي بن أبي طالب يوم الجمل وقال: يعطفني عليه رحم ماسة، وهو مع ذلك سيد من شباب قريش[16]، وكان يتتبع قضاء عمر[17]، وتولى ولاية المدينة في عهد معاوية وكان الحسن والحسين يصليان خلف مروان ولا يعيدان[18]، وكان إذا وقعت معضلة ـ أثناء ولايته على المدينة ـ جمع من عنده من الصحابة فاستشارهم فيها، وهو الذي جمع الصيعان فأخذ بأعدلها، فنسب إليه فقيل صاع مروان[19]، وكان ذا شهامة وشجاعة ومكر ودهاء[20]، وقد ذكرت شيء في سيرته في كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان شديد الحب لبني أمية، وكان متحمساً لبيعة يزيد بن معاوية ولما توفي يزيد خرج مروان وبنو أمية من المدينة إلى الشام بصحبة الجيش الأموي الراجع من حصار مكة الأول وكان خروج بني أمية برغبتهم[21]، ولم يبايع مروان ابن الزبير والتف زعماء القبائل وبنو أمية الموجودين بالشام حوله وبايعوه وكان يحمل بين جنبيه طموحات للزعامة وكانت هذه الطموحات مع رغبته في بقاء الخلافة في البيت الأموي هو الدافع لخروجه على ابن الزبير، وخير دليل على ذلك إقدامه على مبايعة ابنيه من بعده عبد الملك، وعبد العزيز ـ بولاية العهد[22]، وهناك روايات تذكر أن مروان بن الحكم كان قد عزم على مبايعة ابن الزبير لولا أن تدخل عبيد الله بن زياد وغيره في آخر لحظة وثنوه عن عزمه واقنعوه أن يدعو لنفسه[23]، والواقع وإن كنا لا نستبعد أن يكون مروان قد فكر في ذلك الأمر لاسيما بعد انتشار بيعة ابن الزبير في معظم الأقاليم مع تفرق كلمة بني أمية في بلاد الشام، وضعف موقفهم إلا أننا لا نعتبر ذلك مناقضاً لما ذهبنا إليه، لأن العبرة ليست فيما عزم عليه مروان بن الحكم، وإنما في الموقف الذي اتخذه وهو رفض بيعته لابن الزبير ومحاربته[24] والخروج عليه، ولقد سار مروان في محاربته لابن الزبير على الخطوات التالية:

1 ـ القضاء على أنصار ابن الزبير بالشام وأهم الأحداث بالشام كان مؤتمر الجابية ومعركة مرج راهط.

2 ـ إعادة مصر إلى الأمويين.

3 ـ محاولة إعادة العراق والحجاز.

4 ـ تولية العهد لعبد الملك وعبد العزيز.



ثانياً : القضاء على أنصار ابن الزبير بالشام وأهمية مؤتمر الجابية ومعركة مرج راهط:

بدأ مروان بن الحكم ـ بعد أن تزعم المعارضة الأموية بتوحيد صفوفه والدخول في صراع ضد ابن الزبير، ولم يبدأ مروان بمواجهة ابن الزبير في الحجاز وإنما لجأ إلى انتزاع الأقاليم البعيدة وذلك ليحسر نفوذه أولاً ومن ثم يتيسر له القضاء عليه[25]، وجاء مروان بن الحكم إلى الحكم بعد عقد مؤتمر الجابية لأهل الشام ولأهمية مؤتمر الجابية إليك تفصيل ما جرى فيه.

1 ـ مؤتمر الجابية:

ظلت الأردن موطن الكلبيين على ولائها للأسرة الأموية وكان بعض زعماء الشام حريصاً على الاحتفاظ بالخلافة في الشام دون غيرها، ومثال ذلك الحصين بن نمير الذي عرض على ابن الزبير مبايعته بشرط الانتقال للشام، ويبدو أن تمسك بعض زعماء أهل الشام باستمرار دمشق مركزاً للخلافة لم يكن أمراً عاطفياً غير مبرر، بل كان يستند إلى قناعة أكيدة، أثبت الأيام صدقها، بمقدرة أهل الشام على تحقيق الحسم التاريخي، وبعمق الالتحام بين بنائها القبلي اليماني، والوجود الأموي بها، رغم ما تعرضت له الوحدة القبلية لأبناء الشام من هزات عنيفة، وتشقق مريع، حيث أفرزت الأحداث السياسية السريعة آنذاك صراعاً عنيفاً بين القبائل القيسية واليمانية ظل يرسل انعكاساته على الحياة السياسية بعد ذلك، فقد بايع القيسيون في شمال الشام ابن الزبير المرشح الوحيد الظاهر القوة والقبول في هذه المرحلة، وازدادت قوة القيسيين بانضمام الضحاك بن قيس الفهري إليهم، وهو الرجل الذي أمضى تاريخه كله في الشام وفي خدمة معاوية وابنه يزيد، والذي كان يُشرف آنذاك على شئون دمشق منذ وفاة معاوية الثاني ـ بينما تشبث الكلبيون ، رغم الضعف الظاهري لمواقفهم في ظل هذه البيعة الجماعية لابن الزبير حتى من إخوانهم الشماليين والمصاهرة بينهم وبين الأمويين منذ تزوج معاوية منهم[26] وتربى فيهم يزيد[27].. ولكن الكلبيين فيما عدا ذلك يختلفون فبينما يهوى بعضهم البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، وهو غلام صغير السن، يستنكف بعضهم من البيعة لغلام، في الوقت الذي يدعو فيه الآخرون إلى شيخ قريش عبد الله بن الزبير ـ ويفضل هذا الفريق البيعة لمروان بن الحكم، وبعد محاولات لرأب الصدع بين القيسية واليمنية اتفق الطرفان على الالتقاء في الجابية[28]، للتشاور والاتفاق، فسار الكلبيون والأمويون إلى هناك، على حين غلب بعض أنصار ابن الزبير الضحاك بن قيس على رأيه فأطاعهم ومال نحو مرج راهط[29].

أ ـ الممارسة الشورية في مؤتمر الجابية:

في الجابية عقد الكلبيون مؤتمرهم وتشاوروا في أمر البيعة والخلافة، وكان مؤتمر الجابية مؤتمرا تاريخياً يمكن أن يوصف بلغة السياسية بأنه كان مؤتمر دستورياً وقد حضره أصحاب الشوكة والقوة والرأي من أهل الشام وتمت الدعوة إليه بالرضا من عناصر أهل الشام المؤثرة في القرار المصيري ونستطيع أن نلاحظ صورة لهذه التجربة الشورية النادرة حين نتصور أن أسماء المرشحين الآخرين للخلافة غير بني أمية قد عرضت للبحث، ولكن رجحت كفة مروان لعوامل كما يصور ذلك روح بن زنباع الجذامي أحد زعماء الشام. حيث قال: أيها الناس إنكم تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب وصحبته من رسول الله، وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل ضعيف، وليس بصاحب أمه محمد الضعيف، وأما ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير، ويدعون إليه من أمره، فهو والله كما يذكرون، إنه لابن الزبير،، حواري رسول الله وابن أسماء ابنة أبي بكر الصديق، ذات الناطقين، وهو بعد كما تذكرون في قدمه وفضله ولكن ابن الزبير منافق قد خلع خليفتين، يزيد وابنه معاوية بن يزيد، وسفك الدماء وشق عصا المسلمين، وليس بصاحب أمر أمه محمد منافق، وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدع قط إلا كان مروان بن الحكم ممن يشعب ذلك الصدع، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير، ويستشبّوا الصغير، يعني بالكبير مروان بن الحكم وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية، فاجتمع رأي الناس على البيعة لمروان ومن بعده لخالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص بعد خالد[30]، فكانت تلك المعادلة هي التي جمعت بين مختلف الآراء وأرضت جميع الاتجاهات[31]، وقد دارت نقشات كثيرة، وكان العديد من زعماء القبائل وقادة بني أمية قد حضروا. ومن هؤلاء الزعماء، حسان بن مالك بن بحدل الكلبي والحصين بن نمير السكوني، وروح بن زبناع الجذامي[32]، ومالك بن هبيرة السكوني وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وعبد الله بن عضاة الأشعري، وغيرهم من الشخصيات المؤثرة[33] والمعارضة لابن الزبير، وقد قلبت آراء عديدة وكثيرة حتى استقر الرأي على مروان[34]، ولم يمتنع مروان عن تقديم امتيازات لقبائل كلب وكندة لكي يستميلهم، وكانت له اتفاقات سرية وخاصة مع بعض الزعماء مما كان له الأثر الكبير في كسب المؤيدين له فمروان خطط واستطاع بشتى الطرق الوصول إلى الحكم في بلاد الشام رغم الظروف الصعبة آنذاك[35].

ب ـ أهم قرارات مؤتمر الجابية:

كانت أهم قرارات مؤتمر الجابية، عدم مبايعة ابن الزبير، استبعاد خالد بن يزيد من الخلافة لأنه غلام والعرب لا تحب مبايعة الأطفال من ناحية ومن الناحية الأخرى هم الآن في أزمة وهم أحوج إلى الرجل المجرب الخبير علّه يقودهم إلى النصر وينقذهم من وضعهم المتدهور، مبايعة مروان بن الحكم وهو الشيخ المحنك، أن يتولى الخلافة بعد مروان على هذا الشرط شفوياً، الاستعداد لمجابهة وقتال المخالفين إتباع ابن الزبير في الشام بادي الأمر[36]

جـ ـ زعامة مروان لمعارضي أهل الشام قامت على الشورى:

قامت زعامة مروان لمعارضي ابن الزبير على أساس الشورى، إذ انتخب بالاختيار الحر من الذين شهدوا المؤتمر وهم أهل الحل والعقد والشوكة والقوة في الشام، وبويع بإجماع الحاضرين، فكانت طريقة توليته، شورية دستورية اتخذتها المعارضة لتقوية صفها، وبذلك صار في العالم الإسلامي إذ ذاك خليفتان عبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي والمنتخب من قبل الأغلبية الساحقة للأمة والزعيم المعارض لابن الزبير والمنتخب من أهل الشوكة والقوة في عاصمة الخلافة ولما كان لابد من توحيد الدولة الإسلامية فقد كان على أحدهما أن يتغلب على الآخر ويتم التوحيد ويجمع كلمة الأمة، فكانت الحروب والمعارك الطاحنة فيما بعد حتى استقر الأمر لعبد الملك بن مروان بعد مقتل الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، ويبدو أن أهل الشام الذين عارضوا ابن الزبير واجتمعوا بالجابية قد ذهبوا إلى أن بيعة أهل الشوكة والقوة من عاصمة الخلافة ملزم لبقية الأقطار والأمصار كلها وعلى الآخرين أن يسلموا لمن بايعوه لئلا ينتشر الأمر باختلاف الآراء وتباين الأهواء[37]، وقد نسب ابن حزم هذا الرأي لأهل الشام قائلاً: كانوا قد ادعوا ذلك لأنفسهم حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام[38]

والصحيح بالنسبة لعهد ابن الزبير هو الأخذ بمبدأ الأكثرية أو الأغلبية، وإن كان حجية إقرار بيعة أهل عاصمة الخلافة أخذ به في بيعة الصديق والفاروق وذي النورين والحسن بن علي، إلا أن الأمور قد تغيرت كثيراً فالأخذ بمبدأ الأكثرية للترجيح في تنازع قد قرره الإمام الغزالي حيث قال: يتم الترجيح بينهم بتقديم من انعقدت له البيعة من الأكثر والمخالف للأكثر باغٍ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق[39]. وذلك هو الرأي الذي نؤيده، لأن حسم النزاع بترجيح أكثرهم حوزاً لرضا المسلمين هو ما يقضي به مبدأ حق الأمة الإسلامية في اختيار الخليفة[40]، فضلاً عن الأدلة الشرعية المؤكدة لترجيح رأي الأكثرية أو الأغلبية نذكر منها: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ بما انعقد عليه رأي أغلبية المسلمين وإن بدا مخالفاً لرأيه وذلك حيث علم بتحريك قوات المشركين في اتجاه المدينة لحربهم، فاستشار المسلمين فرأى فريق منهم وكان أكثرهم الخروج إليهم، وفريق آخر رأى ما رأه الرسول نفسه وهو أن يظلوا بالمدينة، فلما رأى الرسول أن رأي الأغلبية مع الخروج أخذ برأيهم ووافق على الخروج للمشركين في أحد[41]، وغير ذلك من الأدلة وقد أخذ مشروع الدستور الإسلامي الذي أعده مجمع البحوث الإسلامية والأزهر بفكرة الإلزام برأي الأغلبية حيث نصت المادة (46) منه على أن تكون البيعة بالأغلبية المطلوبة لأصوات المشتركين في البيعة[42].


]

ميارى 15 - 5 - 2010 09:53 PM

2 ـ معركة مرج راهط:

تمخض مؤتمر الجابية عن انتقال الخلافة الأموية من البيت السفياني إلى البيت المرواني وانعقدت البيعة لمروان وحل مؤتمر الجابية، مشكلة الخلافة بين بني أمية ـ وكانت هذه خطوة حاسمة ولكن لم يكن تثبيت هذا الأمر سهلاً فلا زالت تعترضه صعوبات كبيرة، فالضحاك بن قيس، زعيم القيسيين المناصر لابن الزبير قد ذهب إلى مرج راهط وأنضم إليه النعمان بن بشير الأنصاري والي حمص وزفر بن الحارث الكلابي، أمير قنسرين، وكان واضحاً أنهم يستعدون لمواجهة الأمويين فكان على مروان أن يثبت أنه أهل للمسئولية وحمل أعباء الخلافة، والدفاع عنها وقد حقق أنصار مروان أول نجاح لهم بالاستيلاء على دمشق وطرد عامل الضحاك عنها، وكان أول فتح على بني أمية على حد تعبير ابن الأثير[1] ولم يضيع مروان وقتاً، فقد عبأ أنصاره من قبائل اليمن في الشام كلب وغسان والسكاسك والسكون، وجعل على ميمنته، عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد, واتجه إلى مرج راهط، فدارت المعركة الشهيرة التي حسمت الموقف في الشام لبني أمية ومروان حيث هزم القيسيون، أنصار بن الزبير، وقتل الضحاك بن قيس، وعدد كبير من أشراف قيس في الشام، واستمرت المعركة حوالي عشرين يوماً، وكانت في نهاية سنة 64 هـ ، وقيل في المحرم سنة 65 هـ[2].

أ ـ نتائج مرج راهط:

ـ أعادت هذه المعركة الملك لبني أمية بعد أن كان مهدداً بالزوال، وحوّلت السلطة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني.

ـ تخلص الأمويين من الضحاك بن قيس الذي كان يعتبر معارضاً قوياً للأمويين، وتابعاً مخلصاً لابن الزبير.

ـ سقطت قنسرين في يد الأمويين وهرب واليها زفر بن الحارث فتوجه إلى قرقيسيا وكان عليها عياض الحرثي حسب قول ابن الأثير.

ـ سقطت فلسطين وهرب ناتل بن قيس الجذامي إلى ابن الزبير.

ـ سقطت حمص وقتل واليها النعمان بن بشير[3].

ـ اندلع الصراع بين اليمنية والقيسية ودخلت العصبية القبلية مسرح السياسة العليا للدولة وإذا كان يوم مرج راهط قد انتصر فيه الكلبيين فقد كان نصراً مؤقتاً، وكان الصراع بين العصبتين القيسية واليمنية من أسباب انهيار الدولة الأموية[4].

بـ ـ أسباب هزيمة القيسيين:

لم يرم ابن الزبير بثقله في تلك المعركة وكان عليه أن يجيش الجيوش ويمد أتباعه بالرجال والأموال والسلاح ليقضي على المعارضين بالشام عندما كانت المعارضة لم توحد صفوفها بعد.

ـ اعتماد مروان على رجال دهاة خبراء في الحرب من أمثال حصين بن نمير وعمرو بن سعيد.

ـ عدم اشتراك أتباع ابن الزبير في الشام كلهم، فقد شارك ولاة الشام التابعين لابن الزبير بأعداد من الجنود فقط.

ـ ترك الضحاك مدينة دمشق بدون قوة تستطيع المحافظة عليها رغم أهميتها، وهذا سهل للأمويين الاستيلاء عليها وعلى ما فيها من أموال مكنت الأمويين من الاستفادة من هذا الخطأ[5].

جـ ـ بكاء مروان بن الحكم في مرج راهط:

وروي أن مروان بن الحكم لما جيء برأس الضحاك إليه ساءه ذلك وقال: الآن حين كبرت سني ودق عظمي، وصرت في مثل ظمء الحمار[6]، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض[7] وروي أنه بكى على نفسه يوم مرج راهط[8]: أبعد ما كبرت وضعفت صرت إلى أن أقتل بالسيوف على الملك[9] وفي رواية عن مالك قال: قال مروان: قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة، ثم أصبحت فيما أنا فيه من إهراق الدماء، وهذا الشأن[10]. إن ندم مروان في مثل هذا الموقف وبعد أن تحقق له، وتأكدت له طرق الحكم، وتمهدت له سبل الوصول إلى غايته لدليل قاطع على ما كان يجيش به قلب مروان من عامل الخير، لقد كان هذا النصر جديراً أن ينسيه كل منغصات الحياة، وكان فوزه بالخلافة حقيقاً بأن ينفي عنه كل ما يسبب له الندم، ويعكر له الصفو، فما بال مروان يندم وهو في هذه الظروف التي تزيل الهم عن النفس وتبعد الندم[11]، لطالبي الملك والزعامة والسلطان وأغلب الظن أنه تورط في طلبه للخلافة، ودفعه إلى هذا المستنقع الآسن أناس لهم مصالح دنيوية لا تخفي، فشعر بوخز الضمير وخاف على نفسه من سوء الخاتمة بعد أن ولغت يده في دماء المسلمين من أجل الحطام الزائل.



ثالثاً : ضم مصر إلى الدولة الأموية ومحاولة إعادة العراق والحجاز:

مكّن انتظار مروان في معركة مرج راهط لدولته في الشام فبسط نفوذه عليها، وكانت خطواته التالية المسير إلى مصر لاستردادها من عامل ابن الزبير، وكانت هذه خطوة تدل على ذكاء مروان، فلمصر أهميتها الكبيرة واستيلاؤه عليها يدعم موقفه في مواجهة ابن الزبير، ولم يكن استيلاؤه عليها صعباً، فمعظم المصريين هواهم مع بني أمية، وبيعتهم لابن الزبير لم تكن خالصة وإنما كانت بيعة ضرورة[12]، ودعا مروان شيعة بني أمية بمصر سراً[13]وهذا ما يفسر سهولة استيلاء مروان على مصر فقد سار إليها بجيشه، ومعه عمرو بن سعيد، وخالد بن يزيد بن معاوية وحسان بن مالك ومالك بن هبيرة وابنه عبد العزيز [14]، ودارت بين مروان وابن جحدم عدة معارك انتصر فيها مروان وهرب ابن جحدم، ثم جاء إلى مروان طالباً العفو على أن يخرج إلى مكة، فعفا عنه، وكان نجاح مروان في استرداد مصر من جمادي الآخرة سنة 65هـ[15]، وأقام في مصر شهرين لترتيب الأوضاع والاطمئنان عليها، ولما عزم على العودة إلى الشام عين ابنه عبد العزيز والياً عليها، وأوصاه وصية تدل على حنكة سياسية، وخبرة واسعة، وكان عبد العزيز قد توجس وأخذته وحشة من بقائه في مصر فقال لأبيه: يا أمير المؤمنين كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أبي؟ فقال له: يا بني عمهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك واجعل وجهك طلقاً تصف لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره، يكن لك عيناً على غيره، وينقاد قومه إليك وقد جعلت معك أخاك بشراً مؤنساً، وجعلت موسى بن نصير وزيراً ومشيراً وما عليك يا بني أن تكون أميراً بأقصى الأرض، أليس أحسن من إغلاق بابك وخمولك في منزلك[16]؟ بعد رجوع مروان بن الحكم قافلاً من مصر أقدم على تجهيز حملتين ضد ابن الزبير في محاولة منه لإعادة العراق والحجاز، فكانت الحملة ضد العراق بقيادة عبيد الله بن زياد وكانت مهمتها الأولى هي محاصرة زفر بن الحارث الكلابي والتخلص منه ثم التقدم نحو العراق، حيث مصعب بن الزبير ولكن هذه الحملة لم تحقق شيئاً من أهدافها في عهد مروان إذ سارع إليه الأجل وتوفى وهي في طريقها لمحاصرة زفر بن الحارث في قرقيسيا وعند مجيء عبد الملك أقر هذه الحملة التي سوف نعرض للحديث عنها فيما بعد، أما ما يتعلق بالحجاز فقد جهز مروان جيشاً من فلسطين يقدر بستة آلاف وأربعمائة فارس بقيادة حبيش بن دلجة القيني، وكان في الجيش الحجاج بن يوسف ووالده، اتجه هذا الجيش نحو الحجاز ولما وصل إلى وادي القرى هرب عامل بن الزبير على المدينة[17]، واستمرت الحملة إلى عهد عبد الملك بن مروان[18].



رابعاً : تولية العهد لعبد الملك ووفاة مروان بن الحكم:

ختم مروان بن الحكم أعماله بعقد البيعة لولديه عبد الملك بن مروان وعبد العزيز بن مروان مجسداً لمبدأ التوريث، وكان ذلك قبل وفاته بأقل من شهرين[19]، وبعد نجاحه بإعادة مصر إلى الحكم الأموي، بدأ مروان بالتخطيط لاستبعاد خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد الأشدق من ولاية العهد الذي قرر في مؤتمر الجابية، فتزوج أم خالد بن يزيد وعمل للحصول على موافقة حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بتولية العهد لولديه وإبعاد خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد الأشدق فوافقه حسان على ذلك، وقد كان عمرو بن سعيد الأشدق هو الذي كان يطالب بولاية العهد بعد مروان وأعلن ذلك بعد رجوعه من قتال مصعب بن الزبير عندما حاول إعادة ناتل بن قيس الجذامي إلى فلسطين[20]، مما دعا مروان بن الحكم إلى أن يعهد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز وذلك سنة 65هـ مستعيناً بحسان بن مالك بن بحدل بعد أن أخبره بما يردده عمرو بن سعيد بن الأشدق بأن الأخير هو ولي العهد فقال حسان: أنا أكفيك عمرو. لهذا جمع الناس وخطبهم فبايع الجميع لعبد الملك ثم لعبد العزيز ولم يتخلف أحد[21]، ويعتبر بعض المؤرخين أن من أهم أعمال مروان بن الحكم تولية ولديه ولاية العهد، لولديه وذلك لحفظ الخلافة في البيت المرواني من جهة ولوضع حداً للتنافس على الخلافة بين بني أمية من جهة ثانية، ولتفادي المشاكل التي ربما تحدث بشأن الخلافة، كما حدثت بعد موت معاوية الثاني[22]، والملاحظ أن مروان بن الحكم نقض بعض مقررات مؤتمر الجابية المتعلقة بولاية العهد ولم يلتزم بعهوده وكان راغباً في حصر الخلافة في أبنائه، فآثر إسقاط وعوده ونقضها على المحافظة على طموحاته ورغباته وأوجد معادلة فيها مطامع ومصالح مشتركة مع المعارضين له مما جعلهم يستجيبون لدعوته إلى تولية أبنائه ولاية العهد من بعده، فقد عمل على التحرش بخالد بن يزيد وتعمّد أهانته أمام الآخرين، بغية تحجيمه وإعطاء صورة للناس بعدم صلاحيته للخلافة ثم خطا الخطوة التالية فأخذ البيعة لولديه عبد الملك وعبد العزيز في بداية سنة 65هـ[23]، لقد استطاع مروان بدهائه ومكره وجهوده المتوالية الخروج بأزمة الحكم الأموي من حالة الضياع إلى مركز الصدارة والقيادة، وهذا لم يكن حدثاً عادياً محدود التأثير، وإنما هو عودة جديدة للحكم بعد تثبيته في الشام ومصر من جهة، وتجريد السفيانيين من الخلافة وتحويلها إلى المروانيين من جهة ثانية، ولم يكن ثمة ما يحول دون استمرار التقدم عند ابنه عبد الملك لنزع الخلافة من الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير ثم يتفرغ للقيام بالعديد من الإصلاحات التي جعلته المؤسس والمجدد الحقيق لمؤسسات الدولة الأموية، وتعميق الحكم العضوض بها مع وجود بعض الحسنات التي لا تنكر للملك الأموي الجديد.

توفي مروان بن الحكم بدمشق لثلاث خلون من شهر رمضان سنة 65هـ وهو ابن ثلاث وستين سنه، وصلى عليه ابنه عبد الملك وكانت مدة حكمه تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً ودفن بين باب الجابية وباب الصغير[24]، وكان آخر ما تكلم به مروان: وجبت الجنة لمن خاف النار. وكان نقش خاتمه: العزة لله وفي رواية : آمنت بالله العزيز الرحيم[25]، وقد اختلف في سبب وفاته إذ وردت ثلاث روايات فيها الأولى ـ ترى أنه توفي بالطاعون[26]؟، وتذهب الأخرى إلى أن زوجته أم خالد بن يزيد سقته سماً فمات أو وضعت وسادته على رأسه حتى مات[27]، وثالثة ترى أنه توفي وفاة طبيعية[28]، إن تناقض الروايات تدل على أن الحقيقة غير معروفة، وأما الرواية التي تتهم زوجته بالقتل تبدو كأنها أسطورة مختلقة ردّدتها الألسن، إما حباً في الثرثرة وإما طعناً في الأسرة الأموية وهذه الرواية غير مقبولة للأسباب الآتية:

1 ـ أنه لم يعرف عن نساء العرب مثل هذا الفعل فضلاً عن كونها سيدة حرة شريفة تلتقي وإياه في عبد شمس .

2 ـ مكانة مروان بن الحكم من قومه وتوليته الخلافة يجعل من الصعوبة بمكان الإقدام على مثل هذا الفعل له وذلك للنتائج المترتبة عليه فيما بعد.

3 ـ لم يظهر أي أثر لهذا الاغتيال في الأسرة الأموية وخاصة بين خالد بن يزيد وعبد الملك بن مروان، مما يدل على أن هذه الرواية غير صحيحة أما الرواية التي تشير إلى موته الطبيعي وإصابته بالطاعون فأنها محتملة لأنه كان قد تجاوز الستين من العمر[29]، فضلاً عن الجهد الذي بذله في أواخر أيامه مما جعل التعويل على موته الطبيعي[30]





ميارى 15 - 5 - 2010 09:56 PM

[align=justify]المبحث الثالث : عبد الملك بن مروان وصراعه مع ابن الزبير:
أولاً اسمه ونسبه وكنيته وشيء من حياته:
1 ـ اسمه ونسبه وكنيته: هو عبد الملك بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو الوليد الأموي وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية[1].
2 ـ مولده ووصفه: كان مولده ومولد يزيد بن معاوية في سنة ستٍّ وعشرين، وقد كان عبد الملك قبل الخلافة من العباد الزهاد الفقهاء، الملازمين للمسجد، التالين للقرآن، وكان ربعة من الرجال أقرب إلى القصر، وكانت أسنانه مشبكة بالذهب، وكان أفوه مفتوح الفم، فربَّما غفل فينفتح فمه فيدخل فيه الذباب، فلهذا كان يقال له: أبو الذِّبان وكان أبيض ربعة ليس بالنحيف ولا البادن، مقرون الحاجبين، أشهل[2] كبير العينين، دقيق الأنف، مشرق الوجه، أبيض الرأس واللحية حسن الوجه لم يخضب ويقال: إنه خضب بعد ذلك[3].
3 ـ طلبه للعلم وعبادته قبل الإمارة وثناء الناس عليه:
قال نافع: لقد رأيت المدينة ما فيها شاب أشدُّ تشميراً، ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان[4]. وقال الأعمش عن أبي الزناد: كان فقهاء المدينة أربعة، سعيد بن المسيِّب، وعروة، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك قبل أن يدخل الإمارة[5]، وعن ابن عمر أنه قال: ولد الناس أبناء وولد مروان أبا ـ يعني عبد الملك[6] ـ ويقصد ابن عمر أن عبد الملك كان يفوق سنه، ويعلو فوق أقرانه[7]، وعن يحي بن سعيد قال: أول من صلّى ما بين الظهر والعصر عبد الملك بن مروان وفتيان معه. فقال سعيد بن المسيب: ليست العبادة بكثرة الصلاة والصيام، إنما العبادة التفكر، في أمر الله، والورع عن محارم الله[8]. وقد صدق رحمه الله. وقال الشعبي: ما جالست أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك ابن مروان، فإنِّني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه[9].
4 ـ تعظيمه لاسم الله تعالى: روى البيهقي: أن عبد الملك وقع منه فلس في بئر قذرة، فاكترى عليه بثلاثة عشر ديناراً حتى أخرجه منها، فقيل له في ذلك، فقال: إنه كان عليه اسم الله عز وجل[10].

5 ـ التسبيح والتكبير في الأسفار: روى ابن أبي الدينا، أن عبد الملك كان يقول لمن يسايره في سفره إذا رفعت له شجرة سبِّحوا بنا حتى نأتي تلك الشجرة، وكبَّروا بنا حتى نأتي تلك الحجر، ونحو ذلك[11].

6 ـ هل يصح هجره للقرآن الكريم؟ قيل: إنه لمّا وضع المصحف من حجره قال: هذا آخر العهد منك[12]. وهذه رواية ضعفها ابن كثير ورواها بصيغة التمريض قيل[13]، كما أن عبد الملك قال لمؤدِّب أولاده وهو إسماعيل بن عبيد الله ابن أبي المهاجر:ـ علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن[14].

7 ـ ما آدب هذا الفتى وأحسن مرؤته:
روى ابن سعد ما يدل على أن عبد الملك كان محبوباً مرغوباً من عمومته كبار بني أمية، فذكر أنه: كان معاوية بن أبي سفيان جالساً يوماً ومعه عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فمر بهما عبد الملك بن مروان فقال معاوية: ما آدب هذا الفتى وأحسن مرؤته فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إن هذا الفتى أخذ بخصال أربع وترك خصالاً ثلاثاً: أخذ بحسن الحديث إذا حدّث، وحسن الاستماع إذا حُدِّث وبحسن البشر إذا لقي، وخفة المؤونة إذا خولف، وترك من القول ما يعتذر عنه، وترك مخالطة اللئام من الناس وترك ممازحة من لا يوثق بعقله ولا مروءته[15].

8 ـ وصيته لمؤدب أولاده: قال عبد الملك لمؤدِّب أولاده ـ وهو إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجرـ علمهم الصِّدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم السَّفِلَةَ فإنهم أسوأ الناس رِعة[16] ، وأقلهم أدباً، وجنِّبهن الحشم، فإنَّهم بهم مفسدة، وأحفِ شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقْوَوا وعلمهم الشعر يمجُدُوا وينجُدُوا ومُرْهم أن يستاكوا عَرْضاً ويمصوا الماء مصَّاً ولا يُعبُّوا عبّاً، وإذا احتجت أن تتناولهم بأدب فليكن ذلك في سرٍّ لا يعلم بهم أحد من الحاشية فيهونوا عليهم[17].
9 ـ موقفه من ابن الزبير قبل الإمارة وبعدها:
فقد كان له من ابن الزبير موقفان متناقضان: أما الأول: فكان قبل أن يتولى الخلافة يستعيذ بالله أن يبعث خليفة إلى مكة جيشاً ليقتل ابن الزبير ومن معه، وكان يرى في ذلك إثماً كبيراً[18]، قال يحي الغساني: لما نزل مسلم بن عقبة المدينة، دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إلى جنب عبد الملك فقال لي عبد الملك: أمن هذا الجيش أنت؟ فقلت: نعم قال: ثكلتك أمك!! أتدري إلى من تسير؟ إلى أول مولود ولد في الإسلام (بعد الهجرة) وإلى ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى ابن ذات النطاقين، وإلى من حنّكه رسول الله صلى اله عليه وسلم، أما والله لو جئته نهاراً لوجدته صائماً، ولئن جئته ليلاً لوجدته قائماً، فلو أن أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبَّهم الله جميعاً في النار[19]. وأما موقفه الثاني: فكان بعد الخلافة ويأتي عكس الأول تماماً، عندما جهز عبد الملك جيشاً يقوده الحجاج بن يوسف الثقفي، وبعث به إلى مكة حيث كان يتحصن ابن الزبير بالكعبة، وظل محاصراً مكة حتى قُتل عبد الله بن الزبير[20].

ثانياً : حياته السياسية قبل الأمارة :
كان أول حادث سياسي أثر في حياته عندما كان عمره عشر سنوات، فقد شهد مقتل عثمان رضي الله عنه، وكان لهذا الحادث اثر في سياسته لما تولى الإمارة فقد خطب في إحدى خطبه: أيها الناس أنا نحتمل لكم كل اللغوبة ما لم يكن رأيه أو وثوب على منبر[21]. وأول منصب إداري تولاه في الدولة في عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد كان عاملاً على هجر[22] ثم تولى ديوان المدينة بعد وفاة زيد بن ثابت[23]، وشارك في الجهاد فقد خرج على رأس حملة إلى أرض الروم ويشتي هناك في سنة 42هـ[24]،كما يذكر أنه غزا إفريقية مع معاوية بن حديج وكلفه بفتح جلولا في بلاد الشمال الإفريقي وفي عهد يزيد كان يقول على ابن الزبير ما على الأرض اليوم خيراً منه[25]، كما أن علاقته بمصعب بن الزبير كانت حسنة، وأما عن دوره السياسي في عهد مروان بن الحكم، فقد تولى فلسطين وكان يبعث نائباً عنه روح بن زنباع[26] ، ويمكن أن يكون ذلك ليبقى في دمشق قريباً من إدارة الدولة لمساعدة والده هناك لاسيما أن الفترة التي تولى فيها والده الحكم كانت الدولة محاطة فيها بالأعداء من الداخل والخارج، وتولى أمرة دمشق عند ذهاب والده لفتح مصر[27]، وهذه المهمة تدل على كفايته الإدارية وحزمه[28].

ثالثاً : العلماء الذين كانوا مع عبد الملك:
بايع بعض العلماء لعبد الملك بن مروان بالشام وكانوا قلة لا يعدون شيئاً أمام العلماء الذين بايعوا ابن الزبير أو الذين اعتزلوا حتى تجتمع الأمة على خليفة، وانحصر وجود هؤلاء في إقليم الشام، وقد ذكر من هؤلاء العالم الجليل قبيصة بن ذؤيب ـ رحمه الله ـ فكان من المبايعين لعبد الملك وأحد المقربين إليه[29]، ومنهم يزيد بن الأسود الجرشي ـ رحمه الله ـ فورد أنه كان مع عبد الملك في خروجه لقتال مصعب بن الزبير وروي عنه أنه حين رأى الجيشين قد التقيا قال: اللهم أحجز بين هذين الجبلين وول الأمر أحبهما إليك[30].

رابعاً : حركة التوابين ومعركة عين الوردة 65هـ:
عندما عمّ الاضطراب أنحاء البلاد بعد موت يزيد وفرار عبيد الله بن زياد، شرع أنصار الحسين يتصلون ببعضهم البعض بهدف وضع خطة للثأر لدمه، إذ بعد استشهاده هزتهم الفاجعة وندموا على تقاعسهم عن نصرته، والدفاع عنه، معترفين بخطيئتهم بحماسة شديدة، لذلك لم يجدوا وسيلة يكفرون بها عن هذا التقصير ويتوبون إلى الله بها من هذا الذنب الكبير سوى الثأر للحسين[31]، وأخذ الشيعة يعقدون الاجتماعات برئاسة سليمان بن صرد الخزاعي لدراسة الموقف، وأسلوب العمل الذي سيتبعونه وغلب على هذه الاجتماعات موضوع التوبة والغفران، وثم شرعوا في تجييش الناس، وخرج التوابون من معسكرهم في النخيلة في شهر ربيع الأول 65هـ وهو الموعد الذي حددوه لخروجهم وكانت المحطة الأولى في مسيرتهم الانتقامية في كربلاء حيث بلغوا قبر الحسين فاسترحموا عليه وبكوا وتابوا عن خذلانهم له، وبعد يوم وليلة من البكاء كان الحماس قد أخذ منهم حق العمق، فقرروا السير إلى الشام لقتال عبيد الله بن زياد باعتباره الرجل الذي أصدر الأمر بقتل الحسين، لأنهم وجدوا أنه الطريق الأجدى لتحقيق الانتقام[32]، ومرّ جيش التوابين ببلدة هيت على الفرات ثم صعد مع النهر إلى أن وصل إلى قرقيسياء[33]. وكانت هذه المدينة هي أبعد المناطق في هذا الاتجاه التي اعترفت ولو اسمياً ببيعة ابن الزبير[34]، واستقبل أمير قرقيسياء زفر بن الحارث الكلابي، جيش التوابين بحماسة خاصة وأنه قد جمعت الفريقين مصلحة مشتركة هي مقاتلة الأمويين واقترح زفر عليهم توحيد صفوفهم مع أنصار ابن الزبير، إلا أنهم اعتذروا عن قبول اقتراحه كما رفضوا نصيحته بالعدول عن قرارهم الانتحاري، واكتفوا بالتزود بما يحتاجون إليه من المدينة ثم مضوا إلى مصيرهم[35]، والتقى التوابون بالجيش الأموي في عين الوردة من أرض الجزيرة إلى الشمال الغربي من صفين في عام 65هـ وخاضوا ضده معركة ضارية غير متكافئة بفعل قلة عددهم بالمقارنة مع عدد أفراد الجيش الأموي، أسفرت عن تدميرهم ومقتل زعمائهم باستثناء رفاعة بن شداد الذي تراجع بالبقية القليلة منهم إلى الكوفة[36]وقد علق الذهبي على سليمان بن صرد زعيم جيش التوابين بقوله: كان ديناً عابداً، خرج في جيش تابوا إلى الله من خذلانهم الحسين الشهيد، وساروا للطلب بدمه، وسُمُّوا جيش التوابين[37]. وعلق ابن كثير على جيش التوابين بقوله: لو كان هذا العزم والاجتماع قبل وصول الحسين إلى تلك المنزلة لكان أنفع له وأنصر من اجتماعهم لنصرته بعد أربع سنين[38]، وكان عمر سليمان بن صرد رضي الله عنه يوم قتل ثلاثاً وتسعين سنة[39].
والحق أن الإنسان يقف مبهوراً أمام شجاعة التوابين وجرأتهم فقد كان عددهم لا يتجاوز أربعة الآف رجل، وخاضوا هذه المعركة بإيمان صادق، وعقيدة راسخة، وشجاعة نادرة، وصبر فائق، مع عشرين ألف جندي على اقل تقدير من أهل الشام، وأنزلوا بهم خسائر فادحة في الأرواح، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء، ولولا كثرة جيش الشام، حتى استطاعوا أن يلتفوا حولهم، ويضربوا عليهم طوقاً، وأحاطوا بهم من كل جانب، ثم رموهم بالنُّبل لما استطاعوا الانتصار عليهم[40]، ولكنا إزاء هذا الإعجاب بشجاعتهم، وإخلاصهم وتقانيهم في القتال، لا نملك إلا أن نتساءل، أين كانت هذه الشجاعة يوم تركوا الحسين رضي الله عنه ـ يواجه الموت هو وأهل بيته، دون أن يتحرك منهم أحد[41]؟ وأما أهم أسباب فشل التوابين فهي:
1 ـ قلة عددهم إذا قورنوا بجيش الشام، فكان عدد التوابين أربعة الآف مقاتل بينما كان جيش خصمهم الذين اشتبكوا معهم عشرين ألفاً عدا من كان ينتظر مع عبيد الله بن زياد على سبيل الاحتياط.
2 ـ ضعف التوابين من الناحية العسكرية، فلا نستطيع أن نقارن أي واحد من قادة التوابين بقدرة ابن زياد أو حصين بن نمير من حيث الخبرة والقدرة العسكرية، وهذا يتفق مع وصف المختار الثقفي لسلمان بن صرد: إن سليمان رجل لا علم له بالحرب وسياسة الرجال[42].
3 ـ تخاذل التوابين عن الاشتراك، فعندما أحصى ابن صرد من بايعوا وجدهم ستة عشر ألفاً عداً أهل المدائن والبصرة الذين لم يتم تنسيقهم مع الآخرين مع أن المشركين في القتال هم أربعة الآف .
4 ـ عدم اشتراك المختار الثقفي في القتال وليت الأمر كذلك ولكنه كان يثبط الناس عن سليمان بن صُرد[43].

خامساً: حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي:
هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذَّاب، كان والده الأمير أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة الثقفي، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم نعلم له صحبة استعمله عمر بن الخطاب على جيشٍ، فغزا العراق، وإليه تنسب وقعة جسر أبي عبيد، ونشأ المختار، فكان من كبراء ثقيف، وذوي الرأي، والفصاحة، والشجاعة والدّهاء وقلة الدين[44]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يكون في ثقيف كذاب ومبير[45]، فكان الكذاب هذا، ادَّعى أنَّ الوحي يأتيه، وأنه يعلم الغيب، وكان المبير الحجاج، قبّحهما الله[46]، ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي على مسرح الأحداث بعد موت يزيد بن معاوية سنة 64هـ، وهو من الشخصيات التي حفل بها العصر الأموي، والتي كانت تسعى لها عن دور، وتسعى إلى السلطان بأي ثمن، فتقلب من العداء الشديد لآل البيت إلى ادعاء حبهم والمطالبة بثأر الحسين[47]. فقد مر بنا في كتابي عن الحسن بن علي بن أبي طالب بأنه أشار على عمه سعد بن مسعود الثقفي بالقبض على الحسن بن علي وتسليمه إلى معاوية، لينال بذلك الحظوة عنده[48]، ثم حاول الاتصال بعبد الله بن الزبير والانضمام إليه، وشرط عليه شروطاً، منها أن يكون أول داخل عليه وألا يقضي الأمور دونه، وإذا ظهر استعان به على أفضل أعماله[49]، وباختصار أراد أن تكون له كلمة في دولته، ولكنه لم يجد تجاوباً من ابن الزبير، فانصرف عنه إلى الكوفة[50]، حيث كان الأمر فيها مضطرباً فأراد أن يصطاد في المياه العكرة، ولم يجد فيها ورقة رابحة سوى الادعاء بالمطالبة بدم الحسين وآل البيت وأدعى أن لديه تفويضاً بذلك من محمد بن على بن أبي طالب، الملقب بابن الحنفية، ولكنه لم يكن صادقاً في ذلك، بل قرر أن يركب تيار الشيعة ليصل إلى هدفه وهو الحكم والسلطان. وقد عبر هو نفسه عن ذلك في حواره مع رجال من رجاله الذين أخلصوا له، وكانوا يظنونه صادقاً في دعوته للثأر لآل البيت، وهو السائب بن مالك الأشعري. فقد قال له المختار عندما ضيق عليه وصعب الخناق واقتربت نهايته. ماذا ترى؟ فقال له السائب الرأي لك؟ قال: أنا أرى أم الله يرى: قال: الله يرى قال: ويحك أحمق أنت! إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة ومروان على الشام، فلم أكن دون أحد من رجال العرب، فأخذت هذه البلاد، فكنت كأحدهم إلا أني قد طلبت وبالغت في ذلك إلى يومي هذا، فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نية فقال السائب: إنا لله وإنا إليه راجعون[51]. قال السائب ذلك لما تبين له أن المختار صنع كل ما صنع من أجل السلطان وحده، ولذلك يصف الذهبي المختار بالكذب وقلة الدين[52]، ظهر المختار في الكوفة في الوقت الذي كان فيه سليمان بن صرد الخزاعي زعيم التوابين يستعد للذهاب إلى الشام، لقتال عبيد الله بن زياد، فحاول تثبيط الناس عنه، وقد نجحت دعايته وتجمع حوله نحو ألفين من الشيعة وبقيت غالبيتهم مع سليمان بن صرد، وكانت نتيجة معركة عين الوردة من مصلحة المختار، فقد جاءته مصدقة لتوقعاته كما أنه انفرد بزعامة الشيعة ولجأ إليه الفارون من المعركة، فقويت حركته وكثر أتباعه، ثم ازداد مركزه قوة بانضمام إبراهيم بن الأشتر النخعي إليه، وهو من زعماء الكوفة فثار على عبد الله بن مطيع العدوي، أمير الكوفة من قبل عبد الله بن الزبير فأخرجه منها وأحكم سيطرته عليها.
[/align]

يتبع


أبو جمال 13 - 9 - 2010 08:56 PM

اختي الفاضله ميارى
بارك الله فيك على هذه الصفحات التاريخية
لي عودة مع خالص الشكر والتقدير لك
اخوك

ابو جمال


الساعة الآن 03:40 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى