منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب تاريخ ابن خلدون (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8921)

ميارى 7 - 8 - 2010 05:11 PM

حصار الإفرنج طرابلس وغيرها
كان صنجيل من ملوك الإفرنج المذكورين قبل قد لازم حصار طرابلس وزحف إليه قليج أرسلان صاحب بلاد الروم فظفر به‏.‏ وعاد صنجيل مهزوماً فأرسل فخر الدولة بن عمار صاحب طرابلس إلى أمير آخر نائب جناح الدولة بحمص إلى دقاق بن تتش يدعوه إلى معالجته‏.‏ فجاء تاج الدولة بنفسه وجاء العسكر مدداً من عند دقاق واجتمعوا على طرابلس‏.‏ وفرق صنجيل الفل الذين معه على قتالهم فانهزموا كلهم وفتك هو في أهل طرابلس وشد حصارها‏.‏ وأعانه أهل الجبل والنصارى من أهل سوادها‏.‏ ثم صالحوه على مال وخيل‏.‏ ورحل عنهم إلى طرطوس من أعمال طرابلس فحاصرها عنوة واستباحها إلى حصن الطومار ومقدمه ابن العريض فامتنع عليهم وقاتلهم صنجيل فهزموا عسكره وأسروا زعيماً من زعماء الإفرنج بدل صنجيل فيه عشرة آلاف دينار وألف أسير ولم يعاوده‏.‏ وذلك كله سنة خمس وتسعين وأربعمائة‏.‏ ثم سار صنجيل إلى حصن الأكراد وحاصره ‏"‏ ‏"‏ جناح الدولة لغزوه فوثب عليه باطني بالمسجد وقتله‏.‏ ويقال إن رضوان بن تتش وضعه عليه فسار صنجيل إلى حمص وحاصرها وملك أعمالها‏.‏ ثم نزل القمص على عكا في جمادى الأخيرة من السنة فنفر المسلمون من جميع السواحل لقتاله وهزموه وأحرقوا أهله والمنجنيقات التي نصبت للحرب‏.‏ ثم سار القمص صاحب الرها إلى سروج وحاصرها فامتنعت عليه وزحف عساكر مصر إلى عسقلان للمدافعة عن سواحلهم فزحف إليهم بردويل صاحب القدس فهزمه المسلمون ونجا إلى الرملة وهم في اتباعه فحاصروه وخلص إلى يافا وفشل القتل والأسر في الإفرنج والله تعالى ولي حصار الإفرنج عسقلان وحروبهم مع عساكر مصر لما طمع الإفرنج في عسقلان واستفحل أمرهم بالشام جهز الأفضل أمير الجيوش عساكره من مصر لحربهم سنة ست وتسعين مع سعد الدولة القواسي مولى أبيه‏.‏ وزحف بقدوين ملك الإفرنج من القدس فلقيهم بين الرملة ويافا وهزمهم‏.‏ ومات سعد مترقباً عن فرسه واستولى الإفرنج على سواده‏.‏ وبعث الأفضل بعده ابنه شرف المعالي فلقيهم قي العساكر على بازور قرب الرملة فهزمهم ونال منهم ونجا كثير من أعيانهم إلى بعض الحصون هنالك فحاصرهم شرف المعالي خمس عشرة ليلة وملك الحصن فقتل وأسر‏.‏ ونجا بقدوين إلى يافا ثم إلى القدس فصادف وصول جمع كثير من الإفرنج لزيادة القدس فندبهم للغزو فساروا إلى عسقلان وبها شرف المعالي فامتنعت ورجعوا‏.‏ وبعث شرف المعالي إلى أبيه فبعث العساكر في البر مع تاج العجم مولى أبيه والأسطول في البحر لحصار يافا مع القاضي ابن دقاوس‏.‏ فلما وصل الأسطول إلى يافا بعث عن تاج العجم ليأتيه بالعساكر فامتنع فأرسل الأفضل من قبض عليه وولى على العساكر وعلى عسقلان جمال الملك من مواليهم فانصرفت السنة وبيد الإفرنج بيت المقدس غير عسقلان ولهم أيضاً من الشام يافا وارسوف وقيسارية وحيفا وطبرية والأردن واللاذقية وإنطاكية ولهم بالجزيرة الرها وسروج وصنجيل محاصر فخر الملك بن عمار بمدينة طرابلس وهو يرسل إسطوله للإغارة على بلاد الإفرنج في كل ناحية‏.‏ ثم دخلت سنة سبع وتسعين فخرج الإفرنج الذين بالرها فأغاروا على الرقة وقلعة جعبر واكتسحوا نواحيها‏.‏ وكانت لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد منذ ملكه السلطان ملك شاه إياها سنة تسع وسبعين كما مر والله أعلم‏.‏

استيلاء الإفرنج على جبيل وعكا
وفي سنة سبع وتسعين وصلت مراكب من بلاد الإفرنج تحمل خلقاً كثيراً من التجار والحجاج فاستعان بهم صنجيل على حصار طرابلس فحاصروها حتى يئسوا منها فارتحلوا إلى جبيل وملكوها بالأمان‏.‏ ثم غدروا بأهلها وأفحشوا في استباحتها‏.‏ ثم استنجدهم بقدوين ملك القدس على حصار عكا فحاصروها براً وبحراً وفيها بهاء الدولة الجيوشي من قبل ملك الجيوش الأفضل صاحب مصر فدافعهم حتى عجزوا وهرب عنها إلى دمشق وملك الإفرنج عكا عنوة وأفحشوا في استباحتها والله تعالى أعلم‏.‏

غزو أمراء السلجوقية بالجزيرة الإفرنج
كان المسلمون أيام تغلب الإفرنج على الشام في فتنة واختلاف تمكن فيها الإفرنج واستطالوا وكانت حران وحمص لمولى من موالي ملك شاه اسمه فواجا والموصل لجكرمش ‏"‏ ‏"‏ وحصن كيفا لسقمان بن أرتق وعصى في حران على قراجا بأمته فيها فاغتاله جاولي مولى من موالي الترك وقتله فطمع الإفرنج في حران وحاصروها‏.‏ وكان بين جكرمش وسقمان فتنة وحرب فوضعوا أوزارها لتلافي حران واجتمعا على الخابور وتحالفا ومع سقمان سبعة آلاف من قومه التركمان ومع جكرمش ثلاثة آلاف من قومه الترك ومن العرب والأكراد‏.‏ وسار إليهم الإفرنج من حران فاقتتلوا واستطردهم المسلمون بعيداً ثم كروا عليهم فأثخنوا فيهم واستباحوا أموالهم‏.‏ وكان اسمند صاحب إنطاكية وشكري ‏"‏ ‏"‏ صاحب الساحل قد أكمنوا للمسلمين وراء الجبل فلم يظهر لهم أنهم أصحابهم وأقاموا هنالك إلى الليل‏.‏ ثم هربوا وشعر بهم المسلمون فاتبعوهم وأثخنوا فيهم‏.‏ وأسر في تلك الواقعة القمص بردويل صاحب الرها أسره بعض التركمان من أصحاب سقمان فشق ذلك على أصحاب جكرمش لكثرة ما امتاز به التركمان من الغنائم وحسنوا له أخذ القمص من ‏"‏ ‏"‏ سقمان فأخذه وأراد التركمان محاربة جكرمش وأصحابه عليه فمنعهم سقمان حذراً من اختلاف المسلمين وسار مفارقاً لهم‏.‏ وكان يمر بحصون الإفرنج فيخرجون إليه ظناً بنصر أصحابهم فملكها عليهم‏.‏ وسار جكرمش إلى حران فملكها وولى عليها من قبله‏.‏ ثم سار إلى الرها وحاصرها أياماً وعاد إلى الموصل وفادى القمص بردويل حرب الإفرنج مع رضوان بن تتش صاحب حلب ثم سار سكري صاحب إنطاكية من الإفرنج سنة ثمان وتسعين إلى حصن أريام من حصون رضوان صاحب حلب فضاقت حالهم واستنجدوا برضوان فسار إليهم وخرج الإفرنج للقائه‏.‏ ثم طلب الصلح من رضوان فمنعه أصبهبد وصباوو من أمراء السلجوقية كان نزع إليه بعد قتل صاحبه أياز ولقيهم الإفرنج فانهزموا أولاً ثم استماتوا وكروا على المسلمين فهزموهم وأفحشوا في قتلهم وقتل الرجالة الذين دخلوا عسكرهم في الحملة الأولى‏.‏ ونجا رضوان وأصحابه إلى حلب ولحق صباوو بطغركين أتابك دمشق ورجع الإفرنج إلى حصار الحصن فهرب أهله إلى حلب وملكه الإفرنج والله تعالى ولي التوفيق‏.‏ حرب الإفرنج مع عساكر مصر كان الأفضل صاحب مصر قد بعث سنة ثمان وتسعين ابنه شرف المعالي في العساكر إلى الرملة فملكها وقهر الإفرنج‏.‏ ثم اختلف العسكر في ادعاء الظفر وكادوا يقتتلون وأغار عليهم الإفرنج فعاد شرف المعالي إلى مصر فبعث الأفضل ابنه الآخر سناء الملك حسيناً مكانه في العساكر وخرج معه جمال الدين صاحب عسقلان واستمدوا طغركين أتابك دمشق فجهز إليهم اصبهبد صباوو من أمراء السلجوقية‏.‏ وقصدهم بغدوين صاحب القدس وعكا فاقتتلوا وكثرت بينهم القتلى واستشهد جمال الملك نائب عسقلان وتحاجزوا وعاد كل إلى بلده‏.‏ وكان مع الإفرنج جماعة من المسلمين منهم بكياش بن تتش ذهب مغاضباً عن دمشق لما عدل عنه طغركين الأتابك بالملك إلى ابن أخيه دقاق وأقام عند الإفرنج والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بمنه‏.‏

حرب الإفرنج مع طغركين
كان قمص من قمامصة الإفرنج بالقرب من دمشق وكان كثيراً ما يغير عليها ويحارب عساكرها فسار إليه طغركين في العساكر وجاء بغدوين ملك القدس لإنجاده على المسلمين فرده ذلك القمص ثقة بكفاءته فرجع إلى عكا وسار طغركين إلى الإفرنج فقاتلهم وحجزهم في حصنهم‏.‏ ثم خرب الحصن وألقى حجارته في الوادي وأسر الحامية الذين به وقتل من سواهم من أهله وعاد إلى دمشق ظاهراً‏.‏ ثم سار بعد أسبوع إلى ‏"‏ ‏"‏ وبه ابن أخت صنجيل فملكه وقتل حاميته‏.‏

استيلاء الإفرنج على حصن أفامية
كان خلف بن ملاعب الكلابي متغلباً على حمص وملكها منه تتش كما مر وانتقلت الأحوال إلى مصر‏.‏ ثم إن رضوان صاحب حلب انتقض عليه واليه بحصن أفامية وكان من الرافضة فبعث بطاعته إلى صاحب مصر واستدعى منهم والياً فبعثوا خلف بن ملاعب لإيثاره الجهاد وأخذوا رهنه فعبى ‏"‏ ‏"‏ في أفامية واستبد بها واجتمع عليه المفسدون‏.‏ ثم ملك ‏"‏ ‏"‏ من أعمال حلب وأهله رافضة ولحق قاضيها بابن ملاعب في أفامية‏.‏ ثم أعمل التدبير عليه وبعث إلى أبي طاهر الصائغ من أصحاب رضوان وأعيان الرافضة ودعاتهم وداخله في الفتك بابن ملاعب وتسليم الحصن إلى رضوان‏.‏ وشعر بذلك ابنا ابن ملاعب وحذرا أباهما من تدبير القاضي عليه‏.‏ وجاء القاضي فحلف له على كذبه وصدقه وعاد القاضي إلى مداخلة أبي طاهر ورضوان في ذلك التدبير وبعثوا جماعة من أهل سرمين بخيول وسلاح يقصدون الخدمة عند ابن ملاعب فأنزلهم بربض أفامية حتى تم التدبير وأصعدهم القاضي وأصحابه ليلا إلى القلعة فملكوها وقتلوا ابن ملاعب‏.‏ وهرب ابناه فلحق أحدهما بأبي الحسن بن منقذ صاحب شيزر وقتل الأخر‏.‏ وجاء أبو طاهر الصائغ إلى القاضي يعتقد أن الحصن له فلم يمكنه القاضي وأقام عنده‏.‏ وكان بعض بني خلف بن ملاعب عند طغركين بدمشق مغاضباً لأبيه فولاه حصناً من حصونه فأظهر الفساد والعيث فطلبه طغركين فهرب إلى الإفرنج واستحثهم لملك أفامية فحاصروه حتى جهد أهله الجوع وقتلوا القاضي المتغلب فيه والصائغ وذلك سنة تسع وتسعين وخمسمائة‏.‏ خبر الإفرنج في حصار طرابلس كان صنجيل من ملوك الإفرنج ملازماً لحصار طرابلس وملك جبلة من يد ابن أبي صليحة وبنى على طرابلس حصناً وأقام عليها‏.‏ ثم هلك وحمل إلى القدس ودفن‏.‏ وأمر ملك الروم أهل اللاذقية أن يحملوا الميرة إلى الإفرنج المحاصرين طرابلس فحملوها في السفن‏.‏ وظفر أصحاب ابن عمار ببعضها فقتلوا وأسروا واستمر الحصن خمس سنين فعدمت الأقوات‏.‏ واستنفد أهل الثروة مكسوبهم في الإنفاق وضاقت أحوالهم وجاءتهم سنة خمسمائة ميرة في البحر من جزيرة قبرص وإنطاكية وجزائر البنادقة فحفظت أرماقهم‏.‏ ثم بلغ ابن عمار انتظام الأمر للسلطان محمد بن ملك شاه بعد أخيه بركيارق فارتحل إليه صريخاً واستخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب في طرابلس‏.‏ وخيم ابن عمار على دمشق وأكرمه طغركين‏.‏ ثم سار إلى بغداد فأكرمه السلطان محمد وأمر بتبليغه والإحتفال لقدومه ووعده بالانجاد‏.‏ ولم رحل عن بغداد أحضره عنده بالنهروان وأمر الأمير حسين بن أتابك قطلغتكين بالمسير معه وأن يستصحب العساكر التي بعثها مع الأمير مودود إلى الموصل لقتال جاولي سكاوو وأمره بإصلاح جاولي والمسير مع ابن عمار حسبما مر في أخبارهم‏.‏ ثم وقعت الحرب بين السلطان محمد وبين صدقة بن مزيد واصطلحوا وودعه ابن عمار بعد أن خلع عليه وسار معه الأمير حسين فلم يصل إلى قصده من عساكر الموصل ‏"‏ ‏"‏ مودود والانتقاض فعاد فخر الدين بن عمار إلى دمشق في محرم سنة اثنتين وخمسمائة وسار منها إلى‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ فملكها‏.‏ وبعث أهل طرابلس إلى الأفضل أمير الجيوش بمصر يستمدونه ويسألون الوالي عليهم فبعث إليهم شرف الدولة ابن أبي الطيب بالمدد والأقوات والسلاح وعدة الحصار واستولى على ذخائر ابن عمار وقبض على جماعة من أهله وحمل الجميع في البحر إلى مصر‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:12 PM

خبر القمص صاحب الرها مع جاولي ومع صاحب إنطاكية
كان جاولي قد ملك الموصل من يد أصحاب جكرمش ثم انتقض فبعث السلطان إليه مودود في العساكر فسار جاولي عن الموصل وحمل معه القمص بردويل صاحب الرها الذي كان أسره سقمان وأخذه منه جكرمش وأصحابه وترك الموصل‏.‏ ثم أطلق جاولي هذا القمص في سنة ثلاث وخمسمائة بعد خمس سنين من أسره على مال قرره عليه وأسرى من المسلمين عنده يطلقهم وعلى أن يمده بنفسه وعساكره وماله متى احتاج إلى ذلك‏.‏ ولما انبرم العقد بينهما بعث بوالي سالم بن مالك بقلعة جعبر حتى جاءه هناك ابن خاله جوسكين تل باشر ‏"‏ ‏"‏ فأقام رهينة مكانه‏.‏ ثم أطلقه جاولي ورهن مكانه أخا زوجته وزوجة القمص‏.‏ فلما وصل جوسكين إلى منبج أغار عليها ونهبها وسبى جماعة من أصحاب جاولي وسئل فاعتذر بأن هذه البلاد ليست لكم‏.‏ لما أطلق القمص سار إلى إنطاكية ليسترد الرها من يد لشكري لأنه أخذها بعد أسره فلم يردها وأعطاه ثلاثين ألف دينار‏.‏ ثم سار القمص إلى تل باشر وقدم عليه أخوه جوسكين الذي وضعه رهينة عند جاولي‏.‏ وسار لشكري صاحب إنطاكية لحربهما قبل أن يستفحل أمرهما وينجدهما جاولي فقاتلوه ورجع إلى إنطاكية وأطلق القمص مائة وستين من أسرى المسلمين‏.‏ ثم سار القمص وأخوه جوسكين وأغاروا على حصون إنطاكية وأمدهم صاحب زغبان وكيسوم وغيرهما من القلاع شمال حلب وهو من الأرمن بألف فارس والذي راجل وخرج إليهم لشكري وتراجعوا للحرب‏.‏ ثم حملهم الترك على الصلح وحكم على لشكري برد الرها على القمص صاحبها بعد أن شهد عنده جماعة من البطارقة والأساقفة بأن اسمند خال لشعري لما انصرف إلى بلاده أوصاه برد الرها على صاحبها إذا خلص من الأسر فردها لشكري على القمص في صفر سنة ثلاث ووفى القمص لجاولي بما كان بينهما‏.‏ ثم قصد جاولي الشام ليملكه وتنقل في نواحيه كما مر في أخباره‏.‏ وكتب رضوان صاحب حلب إلى لشكري صاحب إنطاكية يحذره من جاولي ويستنجده عليه فأجابه وبرز من إنطاكية وبعث إليه رضوان بالعساكر‏.‏ واستنجد جاولي القمص صاحب الرها فأنجده بنفسه ولحق به على منبج وجاءه الخبر هنالك باستيلاء عسكر السلطان على بلده الموصل وعلى خزائنه بها وفارقه كثير من أصحابه منهم زنكي بن أقسنقر فنزل جاولي تل باشر وتزاحف مع لشكري هنالك واشتد القتال‏.‏ واستمر أصحاب إنطاكية فتخاذل أصحاب جاولي وانهزموا وذهب الإفرنج بسوادهم فجاء القمص وجوسكين إلى تل باشر والله تعالى أعلم‏.‏

حروب الإفرنج مع طغركين كان طغركين
قد سار إلى طبرية سنة اثنتين وخمسمائة فسار إليه ابن أخت بغدوين ملك القدس واقتتلوا فانكشف المسلمون‏.‏ ثم استماتوا وهزموا الإفرنج وأسروا ابن أخت الملك فقتله طغركين بيده بعد أن فادى نفسه بثلاثين ألف دينار وخمسمائة أسير فلم يقبل منه إلا الإسلام أو القتل‏.‏ ثم اصطلح طغركين وبغدوين لمدة أربع سنين‏.‏ وكان حصن غزية من أعمال طرابلس بيد مولي ابن عمار فعصى عليه وانقطعت عنه الميرة بعيث الإفرنج في نواحيه فأرسل إلى طغركين بطاعته فبعث إسرائيل من أصحابه ليمتلك الحصن ونزل منه مولى ابن عمار فرماه إسرائيل في الزحام بسهم فقتله حذراً أن يطلع الأتابك على مخلفه‏.‏ وقصد طغركين الحصن لمشارفة أحواله فمنعه نزول الثلج حتى إذا انقشع وانجلى سار في أربعة آلاف فارس وفتح حصوناً للإفرنج منها حصن الأكمة وكان السرداني من الإفرنج يحاصر طرابلس فسار للقائه فلما أشرف عليه انهزم طغركين وأصحابه إلى حمص وملك السرداني حصن غزية بالأمان ووصل طغركين إلى دمشق فبعث إليه بغدوين من القدس بالبقاء على الصلح وذلك في شعبان سنة اثنتين‏.‏

استيلاء الإفرنج على طرابلس وبيروت وصيدا وجبيل وبانياس
ولما عادت طرابلس إلى صاحب مصر من يد ابن عمار وولي عليها نائبه والإفرنج يحاصرونها وزعيمهم السرداني ابن أخت صنجيل فلما كانت سنة ثلاث وخمسمائة في شعبان ووصل القمص والد صنجيل وليس صنجيل الأول وإنما هو قمص آخر بمراكب عديدة مشحونة بالرجال والسلاح والميرة وجرت بينه وبين السرداني فتنة واقتتلوا‏.‏ وجاء لشكري صاحب إنطاكية مدداً للسرداني‏.‏ ثم جاء بغدوين ملك القدس وأصلح بينهم وحاصروا طرابلس ونصبوا عليها الأبراج فاشتد بهم الحصار وعدموا القوت لتأخر الأسطول المصري بالميرة ثم زحفوا إلى قتالها بالأبراج وملكوها عنوة ثاني الأضحى واستباحوها وأثخنوا فيها‏.‏ وكان النائب بها قد استأمن إلى الإفرنج قبل ذلك بليال وملكها بالأمان ونزل على مدينة ولحق ابن عمار بشيزر فنزل على صاحبها سلطان بن علي بن منقذ الكناني ولحق منها بدمشق فأكرمه طغركين وأقطعه الزبداني من أعمال دمشق في محرم سنة أربع ووصل أسطول مصر بالميرة بعد أخذ طرابلس بثمانية أيام فأرسى بساحل صور وفرقت الغلال في جهاتها في صور وصيدا وبيروت‏.‏ ثم استولى الإفرنج على صيدا في ربيع الآخر سنة أربع وخمسمائة‏.‏ وذلك أنه وصل أسطول للإفرنج من ستين مركباً مشحونة بالرجال والذخائر وبها ملوكهم بقصد الحج والغزو فاجتمعوا مع بغدوين صاحب القدس ونازلوا صيدا براً وبحراً وأسطول مصر يعجز عن إنجادهم‏.‏ ثم زحفوا إلى صور في أبراج الخشب المصفحة فضعفت نفوسهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت فاستأمنوا فأمنهم الإفرنج في جمادى الأولى ولحقوا بدمشق بعد سبعة وأربعين يوماً من الحصار‏.‏ وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان وعاد بغدوين إلى القدس‏.‏

استيلاء أهل مصر على عسقلان
كانت عسقلان لخلفاء العلوية بمصر وقد ذكرنا حروب الإفرنج مع عساكرهم عليها وآخر من استشهد منهم جمال الملك نائبها كما مر آنفاً‏.‏ وولي عليها شمس الخلافة فراسل بغدوين ملك القدس وهاداه ليمتنع به من الخليفة بمصر‏.‏ وبعث الأفضل بن أمير الجيوش العساكر إليه سنة أربع وخمسمائة مع قائد من قوادهم مورياً بالغزو وأسر إليه بالقبض على شمس الخلافة والولاية مكانه بعسقلان‏.‏ وشعر شمس الخلافة بذلك فجاهر بالعصيان فخشي أن يملكها الإفرنج فراسله وأقره على عمله وعزل شمس الخلافة جند عسقلان واستنجد جماعة من الأرمن فاستوحش منه أهل البلد ووثبوا به فقتلوه وبعثوا إلى الأمير الأفضل صاحب مصر المستولي عليها بطاعتهم فجاءهم الوالي من قبله واستقامت أمورهم‏.‏

استيلاء الإفرنج على حصن الأثارب وغيره
ثم جمع لشكري صاحب إنطاكية واحتشد وسار إلى حصن الأقارب على ثلاثة فراسخ من حلب فحاصره وملكه عنوة وأثخن فيهم بالقتل والسبي‏.‏ ثم سار إلى حصن وزدناد ففعل فيه مثل ذلك وهرب أهله منه ومارس على بلديهما‏.‏ ثم سار عسكر من الإفرنج إلى مدينة صيدا فملكوها على الأمان وأشفق المسلمون من استيلاء الإفرنج على الشام‏.‏ وراسلوهم في الهدنة فامتنعوا إلا على الضريبة فصالحهم رضوان صاحب حلب على اثنين وثلاثين ألف دينار وعدة من الخيول والثياب وصاحب صور على سبعة آلاف دينار وابن منقذ صاحب شيزر على أربعة آلاف دينار وعلي الكردي صاحب ثم اعترضت مراكب الإفرنج التجار من مصر فأخذوها وأسروهم‏.‏ وسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد للنفير فدخلوها مستغيثين ومعهم خلق من الفقهاء والغوغاء وقصدوا جامع السلطان يوم الجمعة فمنعوا الناس من الصلاة بضجيجهم وكسروا المنبر فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد‏.‏ وبعث من دار الخلافة منبراً للجامع‏.‏ ثم قصدوا في الجمعة الثانية جامع القصر في مثل جمعهم ومنعهم صاحب الباب فدفعوا ودخلوا الجامع وكسروا شبابيك المقصورة والمنبر وبطلت الجمعة‏.‏ وأرسل الخليفة إلى السلطان في رفع هذا الحزن فأمر الأمراء بالتجهز للجهاد وأرسل ابنه الملك مسعوداً مع الأمير مودود صاحب الموصل ليلحق به الأمراء ويسيروا جميعاً إلى قتال الإفرنج‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:13 PM

مسير الأمراء السلجوقية إلى قتال الإفرنج
ولما سار مسعود بن السلطان مع الأمير مودود إلى الموصل اجتمع معهم الأمراء سقمان القطبي صاحب ديار بكر وابنا برسق ابلتكي وزنكي أصحاب همذان والأمير أحمد بك صاحب مراغة وأبو الهيجاء صاحب إربل واياز بن أبي الغازي بعثه أخوه صاحب ماردين‏.‏ وساروا جميعاً إلى سنجار وفتحوا عدة حصون للافرنج ونزلوا على مدينة الرها وحاصروها واجتمعوا مع الإفرنج على الفرات‏.‏ وخام الطائفتان عن اللقاء وتأخر المسلمون إلى حران يستطردون للإفرنج لعلهم يعبرون الفرات فخالفهم الإفرنج إلى الرها وشحنوها أقواتاً وعدة وأخرجوا الضعفاء منها‏.‏ ثم عبروا الفرات إلى نواحي حلب لأن الملك رضوان صاحبها لما عبروا إلى الجزيرة ارتجع بعض الحصون التي كان الإفرنج أخذوها بأعمال حلب فطرقوها الآن فاكتسحوا نواحيها‏.‏ وجاءت عساكر السلطان إلى الرها وقاتلوها فامتنعت عليهم فعبروا الفرات وحاصروا قلعة تل باشر شهراً ونصفاً فامتنعت فرحلوا إلى حلب فقعد الملك رضوان عن لقائهم ومرض هنالك سقمان القطبي ورجعوا فتوفي في بالس وحمل شلوه إلى بلده ونزلت العساكر السلطانية على معرة النعمان فخرج طغركين صاحب دمشق إلى موعود ونزل عليه‏.‏ ثم ارتاب لما رأى من الأمراء في حقه فدس للإفرنج بالمهادنة‏.‏ ثم افترقت العساكر كما ذكرنا في أخبارهم‏.‏ وبقي مودود مع طغركين على نهر العاصي‏.‏ وطمع الإفرنج بافتراقهم فساروا إلى أفامية‏.‏ وخرج سلطان بن منقذ صاحب شيزر إلى مودود وطغركين فرحل بهم إلى شيزر وهون عليهم أمر الإفرنج‏.‏ وضاقت الميرة على الإفرنج فرحلوا واتبعهم المسلمون يتخطفون من أعقابهم حتى أبعدوا والله تعالى أعلم‏.‏

حصار الإفرنج مدينة صور
ولما افترقت العساكر السلطانية خرج بغدوين ملك القدس وجمع الإفرنج ونزلوا على مدينة صور في جمادى الأولى من سنة خمس وهي للأمير الأفضل صاحب مصر ونائبه بها عز الملك الأغر ونصبوا عليها الأبراج والمجانيق‏.‏ وانتدب بعض الشجعان من أهل طرابلس كان عندهم في ألف رجل وصدقوا الحملة حتى وصلوا البرج المتصل بالسور فأحرقوه ورموا الآخرين بالنفط فأحرقوهم‏.‏ واشتد القتال بينهم وبعث أهل صور إلى طغركين صاحب دمشق يستنجدونه على أن يمكنوه من البلد فجاء إلى بانياس وبعث إليهم بمائتي فرس واشتد القتال وبعث نائب البلد إلى طغركين بالاستحثاث للوصول ليمكنه من البلد‏.‏ وكان طغركين يغير على أعمال الإفرنج في نواحيها وملك لهم حصناً من أعمال دمشق وقطع الميرة عنهم فساروا يحملونها في البحر‏.‏ ثم سار إلى صيدا وأغار عليها ونال منها‏.‏ ثم أزهت الثمرة وخشي الإفرنج من طغركين على بلادهم فأفرجوا عن صور إلى عكا‏.‏ وجاء طغركين إلى صور فأعطى الأموال واشتغلوا بإصلاح سورهم وخندقهم والله أعلم‏.‏ أخبار مودود مع الإفرنج ومقتله ووفاة صاحب إنطاكية ثم سار الأمير مودود صاحب الموصل سنة ست إلى سروج وعاث في نواحيها فخرج جكرمش صاحب تل باشر وأغار على ثوابهم فاستاقها من راعيها وقتل كثيراً من العسكر ورجع‏.‏ ثم توفي الأمير الأرمني صاحب الدروب ببلاد ابن كاور فسار لشكري صاحب إنطاكية من الإفرنج إلى بلاده ليملكها فمرض وعاد إلى إنطاكية ومات منتصف سنة ست وملكها بعده ابن أخته سرجان واستقام أمره‏.‏ ثم جمع الأمير مودود صاحب الموصل العساكر واحتشد وجاءه تميرك صاحب سنجار واياز بن أبي الغازي صاحب ماردين وطغركين صاحب دمشق ودخلوا في محرم سنة سبع إلى بلاد الإفرنج‏.‏ وخرج بغدوين ملك القدس وجوسكين صاحب القدس يغير على دمشق فعبروا الفرات وقصدوا القدس ونزلوا على الأردن والإفرنج عدوتهم واقتتلوا منتصف محرم فانهزم الإفرنج وهلك منهم كثير في بحيرة طبرية والأردن وغنم المسلمون سوادهم‏.‏ وساروا منهزمين فلاقيهم عسكر طرابلس وإنطاكية فشردوا معهم وأقاموا على جبل طبرية وحاصرهم المسلمون نحواً من شهر فلم يظفروا بهم فتركوهم وانساحوا في بلاد الإفرنج ما بين عكا والقدس واكتسحوها‏.‏ ثم انقطعت المواد عنهم للبعد عن بلادهم فعادوا إلى مرج الصفر على نية العود للغزاة في فصل الربيع وأذنوا للعساكر في الانطلاق‏.‏ ودخل مودود إلى دمشق يقيم بها إلى أوان اجتماعهم فطعنه باطني في الجامع حين منصرفه من صلاة الجمعة آخر ربيع الأول من السنة ومات من يومه واتهم أخبار البرسقي مع الإفرنج ولما قتل مودود بعث السلطان محمد مكانه أقسنقر البرسقي ومعه ابنه السلطان مسعود في العساكر لقتال الإفرنج‏.‏ وبعث إلى الأمراء بطاعته فجاءه عماد الدين زنكي بن أقسنقر وتميرك صاحب سنجار‏.‏ وسار إلى جزيرة ابن عمر وملكها من يد نائب مودود‏.‏ ثم سار إلى ماردين فحاصرها إلى أن أذعن أبو الغازي صاحبها وبعث معه ابنه أيازاً في العساكر فساروا إلى الرها وحاصروها في ذي الحجة سنة ثمان مدة سبعين يوماً فامتنعت وضاقت الميرة على المسلمين فرحلوا إلى شمشاط وسروج وعاثوا في تلك النواحي وهلك في خلال ذلك بكواسيل صاحب مرعش وكيسوم وزغبان من الإفرنج وملكت زوجته بعده وامتنعت من الإفرنج‏.‏ وأرسلت إلى البرسقي على الرها بطاعته فبعث إليها صاحب الخابور فردته بالأموال والهدايا وبطاعتها فعاد من كان عندها من الإفرنج إلى إنطاكية والله أعلم‏.‏ الحرب بين العساكر السلطانية والفرنج كان السلطان محمد قد تنكر لطغركين صاحب دمشق لاتهامه إياه بقتل مودود فعصى وأظهر الخلاف وتابعه أبو الغازي صاحب ماردين لما كان بينه وبين البرسقي فأهم السلطان شأنهما وشأن الإفرنج وقوتهم وجهز العساكر مع الأمير برسق صاحب همذان وبعث معه الأمير حيوس بك والأمير كسكري وعساكر الموصل والجزيرة وأمرهم بغزو الإفرنج بعد الفراغ من شأن أبي الغازي وطغركين فساروا في رمضان سنة ثمان وعبروا الفرات عند الرملة‏.‏ وجاءوا إلى حلب وبها لؤلؤ الخادم بعد رضوان ومقدم العساكر شمس الخواص وعرضوا عليهما كتب السلطان بتسليم البلد فدافعا بالجواب واستنجدا أبا الغازي وطغركين فوصلا إليهما في ألفي فارس وامتنعا بها على العسكر فسار الأمير برسق إلى حماة من أعمال طغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثاً وسلمها للأمير قرجان صاحب حمص بأمر السلطان بذلك في كل بلد يفتحونه فنفس عليه الأمراء ذلك وفسدت ضمائرهم‏.‏ وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص قد ساروا إلى إنطاكية مستنجدين بصاحبها روميل على مدافعتهم عن حماة فبلغهم فتحها ووصل إليهم بإنطاكية بندوين ملك القدس وطرابلس وغيره من شياطين الإفرنج واجتمعوا على أفامية واتفقوا على مطاولة المسلمين إلى فصل الشتاء ليتفرقوا‏.‏ فلما أطل الشتاء والمسلمون مقيمون عاد أبو الغازي إلى ماردين وطغركين إلى دمشق والإفرنج إلى بلادهم وقصد المسلمون كفر طاب وكانت هي وأفامية للافرنج فملكوها عنوة وفتكوا بالإفرنج فيها وأسر صاحبها‏.‏ ثم ساروا إلى قلعة أفامية فاستعصت عليهم فعادوا إلى المعرة وهي للإفرنج‏.‏ وفارقهم الأمير حيوس بك إلى وادي مراغة فملكه وسارت العساكر من المعرة إلى حلب وأثقالهم ودوابهم وهم وكان روميل صاحب إنطاكية قد سار في خمسمائة فارس والذي راجل للمدافعة كل كفرطاب وأطل على خيام المسلمين قبل وصولهم فقتل من وجد بها من السوقة والغلمان وأقام الإفرنج بين الخيام يقتلون كل من لحق بها حتى وصل الأمير برسق وأخوه زنكي فصعدا ربوة هناك‏.‏ وأحاط الفل من المسلمين به وعزم برسق علم الاستماتة‏.‏ ثم غلبه أخوه زنكي على النجاة فنجا فيمن معه واتبعهم الإفرنج فرسخاً ورجعوا عنه وافترقت العساكر الإسلامية منهزمة إلى بلادها‏.‏ وأشفق أهل حلب وغيرها من بلاد الشام من الإفرنج بعد هذه الواقعة وسار الإفرنج إلى رميلة من أعمال دمشق فملكوها وبالغوا في تحصينها واعتزم طغركين على تخريب بلاد الإفرنج‏.‏ ثم بلغه الخبر عن خلو رميلة من الحامية فبادر إليها سنة تسع وملكها عنوة وقاتل وأسر وغنم وعاد إلى دمشق‏.‏ ولم تزل رميلة بيد المسلمين إلى أن حاصرها الإفرنج سنة عشرين وخمسمائة وملكوها والله أعلم‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:14 PM

وفاة ملك الإفرنج وأخبارهم بعده مع المسلمين
ثم توفي بغدوين ملك الإفرنج بالقدس آخر سنة إحدى عشرة وخمسمائة وكان قد زحف إلى ديار بكر طامعاً في ملكها فانتهى إلى تنيس وشج في الليل فانتقض عليه جرحه وعاد إلى القدس فمات‏.‏ وعاد القمص صاحب الرها الذي كان أسره جكرمش وأطلقه جاولي وكان حاضراً عنده لزيارة قمامة‏.‏ وكان أتابك طغركين قد سار لقتال الإفرنج ونزل اليرموك فبعث إليه قمص في المهادنة فاشترط طغركين ترك المناصفة من جبل عردة إلى الغور فلم يقبل القمص فسار طغركين إلى طبرية‏.‏ ونهب نواحيها وسار منها إلى عسقلان‏.‏ ولقي سبعة آلاف من عساكر مصر قد جاءوا في أثر بغدوين عندما ارتحل عن ديار بكر فاعلموا أن صاحبهم تقدم إليهم بالوقوف عند أمر طغركين فشكر لهم ذلك وعاد إلى دمشق وأتاه الخبر بأن الإفرنج قصدوا أذرعات ونهبوها بعد أن ملكوا حصناً من أعماله فأرسل إليهم تاج الملك بوري في أثرهم فحاصرهم في جبل هناك حتى يئسوا من أنفسهم‏.‏ وصدقوا الحملة عليهم فهزموهم وأفحشوا في القتل وعاد الفل إلى دمشق‏.‏ وسار طغركين إلى حلب يستنجد أبا الغازي فوعده بالمسير معه ثم جاء الخبر بأن الإفرنج قصدوا أعمال دمشق فنهبوا حوران واكتسحوها فرجع طغركين إلى دمشق وأبو الغازي إلى ماردين إلى حشد العساكر وقصدوا الاجتماع على حرب الإفرنج‏.‏ ثم سار الإفرنج سنة ثلاثة عشر إلى نواحي حلب فملكوا مراغة ونازلوا المدينة فصانعهم أهلها بمقاسمتهم أملاكهم وزحف أبو الغازي من ماردين في عشرين ألفاً من العساكر والمتطوعة ومعه أسامة بن مالك بن وسار الإفرنج إلى صنبيل عرمس قرب الأثارب فنزلوا به في موضع منقطع المسالك وعزموا على المطاولة فناجزهم أبو الغازي وسار إليهم ودخل عليهم في مجتمعهم وقاتلوه أشد القتال فلم يقاوموه وفتك بهم فتكة شنعاء‏.‏ وقتل فيهم سرحان صاحب إنطاكية وأسر سبعون من زعمائهم وذلك منتصف ربيع من السنة‏.‏ ثم اجتمع فل الإفرنج وعاودوا الحرب فهزمهم أبو الغازي وملك عليهم حصن الأثارب ورزدنا وجاء إلى حلب فأصلح أحوالها وعاد إلى ماردين‏.‏ ثم سار جوسكين صاحب تل باشر في مائتين من الإفرنج ليكبس حلة من أحياء طيء يعرفون ببني خالد فأغار عليهم وغنم أموالهم ودلوه على بقية قومهم من بني ربيعة فيما بين دمشق وطبرية فبعث أصحابه إليهم وسار هو من طريق آخر فضل عن الطريق ووصل أصحابه إليهم وأميرهم وعدة من ربيعة فقاتلهم وغلبهم وقتل منهم سبعين وأسر اثني عشر ففاداهم بمال جزيل من الأسرى وبلغ إلى جوسكين في طريقه فعاد إلى طرابلس وجمع جمعاً وأغار على عسقلان فهزمه المسلمون وعاد مفلولاً والله أعلم‏.‏

ارتجاع الرها من الإفرنج
ثم سار بهرام أخو أبي الغازي إلى مدينة الرها وحاصرها مدة فلم يظفر بها فرحل عنها‏.‏ ولقيه النذير بأن جوسكين صاحب الرها وسروج قد سار لاعتراضه وقد تفرق عن مالك أصحابه فاستجاب لما وصل إليه الإفرنج ودفعهم لأرض سبخة فوصلت فيهم خيولهم فلم يفلت منهم أحد وأسر جوسكين وخاط عليه جلد جمل وفادى نفسه بأموال جليلة فأبى مالك من فديته إلا أن يسلم حصن الرها فلم يفعل وحبسه في خرت برت ومعه كلمام ابن خالته وكان من شياطينهم وجماعة من زعمائهم والله تعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏

استيلاء الإفرنج على خرن برن وارتجاعها منهم
كان مالك بن بهرام صاحب خرت برت وكان في جواره الإفرنج في قلعة كوكر فحاصرهم بها وسار بغدوين إليه في جموعه فلقيه في صفر سنة سبعة عشر فهزم الإفرنج وأسر ملكهم وجماعة من زعمائهم وحبسهم مالك في قلعة خرت برت مع جوسكين صاحب الرها وأصحابه‏.‏ وسار مالك إلى حران في ربيع الأول وملكها ولما غاب من خرت برت تحيل الإفرنج وخرجوا من محبسهم بمداخلة بعض الجند‏.‏ وسار بغدوين إلى بلده وملك الآخرون القلعة فعاد مالك إليهم وحاصرها وارتجعها من أيديهم ورتب فيها الحامية والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

استيلاء الإفرنج على مدينة صور
كانت مدينة صور لخلفاء العلوية بمصر وكان بها عز الملك من قبل الأفضل بن أمير الجيوش المستبد على الأمر بمصر وتجهز الإفرنج لحصارها سنة ست فاستمدوا طغركين صاحب دمشق فأمدهم بعسكر ومال مع وال من قبله اسمه مسعود فجاء إليها ولم يغير دعوة العلوية بها في خطبة ولا سكة‏.‏ وكتب إلى الأفضل بذلك وسأله تردد الأسطول إليه بالمدد فأجابه وشكره‏.‏ ثم قتل الأفضل وجاء الأسطول إليها من مصر على عادته وقد أمر مقدمه أن يعمل الحيلة في القبض على مسعود الوالي بصور من قبل طغركين لشكوى أهل مصر منه فقبض عليه مقدم الأسطول وحمله إلى مصر وبعثوا به إلى دمشق‏.‏ وأقام الوالي من قبل أهل مصر في مدينة صور وكتب إلى طغركين بالعذر عن القبض على مسعود واليه وكان ذلك سنة ستة عشر‏.‏ ولما بلغ الإفرنج انصراف مسعود عن صور قوي طمعهم فيها وتجهزوا لحصارها‏.‏ وبعث الوالي الأمير بذلك وبعجزه عن مقاومة حصارهم لها‏.‏ وسار طغركين إلى بانياس ليكون قريباً من صريخها وبعث إلى أهل مصر يستنجدهم فراسل الإفرنج في تسليم البلد وخروج من فيها فدخلها الإفرنج آخر جمادى الأولى من السنة بعد أن حمل أهلها ما أطاقوا وتركوا ما عجزوا عنه والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

فتح البرسقي كفر طاب وانهزامه من الإفرنج
ثم جمع البرسقي عساكره وسار سنة تسعة عشر إلى كفر طاب وحاصرها فملكها من الإفرنج‏.‏ ثم سار إلى قلعة اعزاز شمالي حلب وبها جوسكين فحاصرها واجتمع الإفرنج وساروا لمدافعته فلقيهم وقاتلهم شديداً فمحص الله المسلمين وانهزموا‏.‏ وفتك النصارى فيهم ولحق البرسقي بحلب فاستخلف بها ابنه مسعوداً وعبر الفرات إلى الموصل ليستمد العساكر ويعود لغزوهم فقضى الله بمقتله وولي ابنه عز الدين بعده قليلا‏.‏ ثم مات سنة إحدى وعشرين وولى السلطان محمود عماد الدين زنكي بن أقسنقر مكانه على الموصل والجزيرة وديار بكر كما مر في أخبار دولة السلجوقية‏.‏ ثم استولى منها على الشام وأورث ملكها بنيه فكانت لهم دولة عظيمة بهذه الأعمال نذكرها إن شاء الله تعالى‏.‏ ونشأت عن دولتهم دولة بني أيوب وتفرعت منها كما نذكره‏.‏ ونحن الآن نترك من أخبار الإفرنج هنا جميع ما يتعلق بدولة بني زنكي وبني أيوب حتى نوردها في أخبار تينك الدولتين لئلا تتكرر الأخبار ونذكر في هذا الموضع من أخبار الإفرنج ما ليس له تعلق بالدولتين فإذا طالعه المتأمل علم كيف يرد كل خبر إلى مكانه بجودة قريحته وحسن تأنيه‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:17 PM

الحرب بين طغركين والإفرنج
ثم اجتمعت الإفرنج سنة عشرين وخمسمائة وساروا إلى دمشق ونزلوا مرج الصفر واستنجد طغركين صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها فجاؤوا إليه وكان هو قد سار إلى جهة الإفرنج آخر سنة عشرين وقاتلهم وسقط في المعترك فظن أصحابه أنه قتل فانهزموا وركب فرسه وسار معهم منهزماً والإفرنج في اتباعهم وقد أثخنوا في رجالة التركمان فلما اتبعوا المنهزمين خالف الرجالة إلى معسكرهم فنهبوا سوادهم وقتلوا من وجدوا فيه ولحقوا بدمشق‏.‏ ورجع الإفرنج من المنهزمين فوجدوا خيامهم منهوبة فساروا منهزمين‏.‏ ثم كان سنة ثلاث وعشرين واقعة المزدغاني والاسماعيلية بدمشق بعد أن طمع الإفرنج في ملكها فأسف ملوك الإفرنج على قتله وسار صاحب القدس وصاحب إنطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم من القمامصة ومن وصل في البحر للتجارة أو الزيارة وساروا إلى دمشق في الذي فارس ومن الرجال ما لا يحصى‏.‏ وجمع طغركين من العرب والتركمان ثمانية آلاف فارس وجاء الإفرنج آخر السنة ونازلوا دمشق وبثوا سراياهم للإغارة بالنواحي وجمع الميرة وسمع تاج الملك بسرية في حوران فبعث شمس الخواص من أمرائه ولقوا سرية الإفرنج وظفروا بهم وغنموا ما معهم وجاءوا إلى دمشق‏.‏ وبلغ الخبر إلى الإفرنج فأجفلوا عن دمشق بعد أن أحرقوا ما تعذر عليهم حمله وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون‏.‏ ثم إن اسمند صاحب إنطاكية سار إلى حصن القدموس وملكه والله تعالى يؤيد من هزيمة صاحب طرابلس ثم اجتمع سنة سبع وعشرين جمع كبير من تركمان الجزيرة وأغاروا على بلاد طرابلس وقتلوا وغنموا فخرج إليهم القمص صاحبها فاستطردوا له‏.‏ ثم كروا عليه فهزموه ونالوا منه‏.‏ ونجا إلى قلعة بقوين فتحصن بها وحاصره التركمان فيها فخرج من القلعة ليلا في عشرين من أعيان أصحابه ونجا إلى طرابلس واستصرخ الإفرنج من كل ناحية‏.‏ وسار بهم إلى بقوين لمدافعة التركمان فقاتلهم حتى أشرف الإفرنج على الهزيمة‏.‏ ثم تحيزوا إلى أرمينية وتعذر على التركمان اتباعهم فرجعوا عنهم انتهى‏.‏


فتح صاحب دمشق بانياس
كان بوري بن طغركين صاحب دمشق لما توفي سنة ست وعشرين وخمسمائة وولي مكانه ابنه شمس الملوك إسماعيل فاستضعفه الإفرنج وتعرضوا لنقض الهدنة‏.‏ ودخل بعض تجار المسلمين إلى سروب فأخذوا أموالهم‏.‏ وراسلهم شمس الملوك في ردها عليهم فلم يفعلوا فتجهز وسار إلى بانياس في صفر سنة سبع وعشرين فنازلها وشدد حصارها‏.‏ ونقب المسلمون سورها وملكوها عنوة واستلحموا الإفرنج بها‏.‏ واعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا بعد يومين‏.‏ وكان الإفرنج قد جمعوا لمدافعة شمس الملوك فجاءهم خبر فتحها فأقصروا‏.‏ ثم سار شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق إلى شقيف بيروت وهو في الجبل المطل على بيروت وصيدا وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم وهو ممتنع به‏.‏ وقد تحاماه المسلمون والإفرنج وهو يحتمي من كل منهما بالآخر فسار إليه شمس الملوك وملكه في المحرم سنة ثمان وعشرين‏.‏ وعظم ذلك على الإفرنج وخافوا شمس الملوك فساروا إلى بلد حوران وعاثوا في جهاتها‏.‏ ونهض شمس الملوك ببعض عساكره وجمر الباقي قبالة الإفرنج وقصد طبرية والناصرة وعكا فاكتسح نواحيها‏.‏ وجاء الخبر إلى الإفرنج فأجفلوا إلى بلادهم وعظم عليهم خرابها وراسلوا شمس الملوك في تجديد الهدنة فجددها لهم انتهى والله أعلم‏.‏

استيلاء الإفرنج على جزيرة جربة من إفريقية
كانت جزيرة جربة من أعمال أفريقية ما بين طرابلس وقابس وكان أهلها من قبائل البربر قد استبدوا بجزيرتهم عندما دخل العرب الهلاليون إفريقية ومزقوا ملك صنهاجة بها‏.‏ وقارن ذلك استفحال ملك الإفرنج برومة وما إليها من البلاد الشمالية‏.‏ وتطاولوا إلى ملك بلاد المسلمين فسار ملكهم بردويل فيمن معه من زعمائهم وأقماصهم إلى الشام فملكوا مدنه وحصونه كما ذكرناه آنفاً‏.‏ وكان من ملوكهم القمص رجار بن نيغر بن خميرة وكان كرسيه مدينة ميلكوا مقابل جزيرة صقلية‏.‏ ولما ضعف أمر المسلمين بها وانقرضت دولة بني أبي الحسين الكلبي منها سما رجار هذا إلى ملكها وأغراه المتغلبون بها على بعض نواحيها فأجاز إليها عساكره في الأسطول في سبيل التضريب بينهم‏.‏ ثم ملكها من أيديهم معقلا معقلا إلى أن كان آخرها فتخاطر ابنه ومازرعة من يد عبد الله بن الجواس أحد الثوار بها فملكها من يده صالحاً سنة أربع وستين وأربعمائة وانقطعت كلمه الإسلام بها‏.‏ ثم مات رجار سنة أربع وتسعين فولى ابنه رجار مكانه وطالت أيامه واستفحل ملكه وذلك عندما هبت ريح الإفرنج بالشام وجاسوا خلالها وصاروا يتغلبون على ما يقدرون عليه من بلاد المسلمين‏.‏ وكان رجار بن رجار يتعاهد سواحل إفريقية بالغزو فبعث سنة ثلاث وخمسين أسطول صقلية إلى جزيرة جربة وقد تقلص عنها ظل الدولة الصنهاجية فأحاطوا بها واشتد القتال‏.‏ ثم اقتحموا الجزيرة عليهم عنوة وضموا وسبوا واستأمن الباقون وأقرهم الإفرنج في جزيرتهم على جزية وملكوا عليهم أمرهم والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده‏.‏

فتح صاحب دمشق بعض حصون الإفرنج
ثم بعث شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق عساكره مع الأمير خزواش سنة إحدى وثلاثين إلى طرابلس الشام ومعه جمع كثير من التركمان والمتطوعة‏.‏ وسار إليه القمص صاحب طرابلس فقاتلوه وهزموه وأثخنوا في عساكره وأحجزه بطرابلس وعاثوا في أعماله وفتحوا حصن وادي ابن الأحمر من حصونه عنوة واستباحوه واستلحموا من فيه من الإفرنج‏.‏ ثم سار الإفرنج سنة خمس وثلاثين إلى عسقلان وأغاروا في نواحيها‏.‏ وخرج إليهم عسكر مصر الذين بها فهزموا الإفرنج وظفروا بهم وعادوا منهزمين وكفى الله شرهم بمنه وكرمه‏.‏

استيلاء الإفرنج على طرابلس الغرب
كان أهل طرابلس الغرب لما انحل نظام الدولة الصنهاجية بأفريقية وتقلص ظلها عنهم قد استبحوا بأنفسهم وكان بالمهدية آخر الملوك من بني باديس وهو الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز فاستبد لعهده في طرابلس أبو يحيى بن مطروح ورفضوا دعوة الحسن وقومه‏.‏ وذلك عندما تكالب الإفرنج على الجهات فطمع رجار في ملكها‏.‏ وبعث إسطوله في البحر فنازلها آخر سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فنقبوا سورها‏.‏ واستنجد أهلها بالعرب فأنجدوهم وخرجوا إلى الإفرنج فهزموهم وغنموا أسلحتهم ودوابهم‏.‏ ورجع الإفرنج إلى صقلية فتجهزوا إلى المغرب وطرقوا جيجيل من سواحل بجاية‏.‏ وهرب أهلها إلى الجبل ودخلوها فنهبوها وخربوا القصر الذي بناه بها يحيى بن العزيز بن حماد ويسمى النزهة ورجعوا إلى بلادهم‏.‏ ثم بعث رجار أسطوله إلى طرابلس سنة إحدى وأربعين فأرسى عليها ونزل المقاتلة وأحاطوا بها براً وبحراً وقاتلوها ثلاثاً‏.‏ وكان أهل البلد قد اختلفوا قبل وصول الإفرنج وأخرجوا بني مطروح وولوا عليهم رجلا من أمراء لمتونة قام حاجاً في قومه فولوه أمرهم فلما شغل أهل البلد بقتال الإفرنج اجتمعت شيعة بني مطروح وأدخلوهم البلد‏.‏ ووقع بينهم القتال فلما شعر الإفرنج بأمرهم بادروا إلى الأسوار فنصبوا عليها السلالم وتسنموها وفتحوا البلد عنوة وأفحشوا في القتل والسبي والنهب ونجا كثير من أهلها إلى البربر والعرب في نواحيها‏.‏ ثم رفعوا السيف ونادوا بالأمان فتراجع المسلمون إلى البلد وأقروهم على الجزية وأقاموا بها ستة أشهر حتى أصلحوا أسوارها وفنادقها وولوا عليها ابن مطروح وأخذوا رهنه على الطاعة ونادوا في صقلية بالمسير إلى طرابلس فسار إليها الناس وحسنت عمارتها‏.‏

استيلاء الإفرنج على المهدية
كانت قابس عندما اختل نظام الدولة الصنهاجية واستبد بها ‏"‏ ‏"‏ ابن كامل بن جامع من قبائل رياح إحدى بطون هلال الذين بعثهم الجرجاني وزير المستنصر بمصر على المعز بن باديس وقومه فأضرعوا الدولة وأفسدوا نظامها وملكوا بعض أعمالها‏.‏ واستبد‏!‏ آخرون من أهل البلاد بمواضعهم فكانت قابس هذه في قسمة بني دهمان هؤلاء‏.‏ وكان لهذا العهد رشيد أميراً بها كما ذكرنا ذلك في أخبار الدولة الصنهاجية من أخبار البربر‏.‏ وتوفي رشيد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ونصب مولاه يوسف ابنه الصغير محمد بن رشيد وأخرج ابنه الكبير معمراً واستبد على محمد وتعرض لحرمه سراً‏.‏ وكان فيهن امرأة رشيد وساروا إلى التمحض بصاحب المهدية يشكون فعله‏.‏ وكاتبه الحسن في ذلك فلم يجبه وتهدده بإدخال الإفرنج إلى قابس فجهز إليه العساكر‏.‏ وبعث يوسف إلى رجار صاحب طرابلس بطاعته وأن يوليه على قابس كما ولى ابن مطروح على طرابلس‏.‏ وشعر أهل البلد بمداخلته للإفرنج فلما وصل عساكر الحسن ثاروا به معهم وتحصن يوسف بالقصر فملكوه عنوة وأخذ يوسف أسيراً وملك معي قابس مكان أخيه محمد‏.‏ وامتحن يوسف بأنواع العذاب إلى أن هلك وأخذ بنو قرة أختهم ولحق عيسى أخو يوسف وولد يوسف برجار صاحب صقلية واستجاروا به وكان الغلاء قد اشتد بإفريقية سنة سبع وثلاثين‏.‏ ولحق أكثر أهلها بصقلية وأكل بعضهم بعضاً وكثر الموتان فاغتنم رجار الفرصة ونقض الصلح الذي كان بينه وبين الحسن بن علي صاحب المهدية لسنين‏.‏ وجهز أسطوله مائتين وخمسين من الشواني وشحنها بالمقاتلة والسلاح ومقدم الأسطول جرجي بن ميخاييل أصله من المتنصرة وقد ذكرنا خبره في أخبار صنهاجة والموحدين فقصد قوصرة وصادف بها مركباً من المهدية فغنمه ووجد عندهم حمام البطاقة فبعث الخبر إلى المهدية على أجنحتها بأن أسطول الإفرنج أقلع إلى القسطنطينية‏.‏ ثم أقلع فأصبح قريباً من المرسى في ثامن صفر سنة ثلاث وأربعين وقد بعث الله الريح فعاقتهم عن دخول المرسى ففاته غرضه‏.‏ وكتب إلى الحسن بأنه باق على الصلح وإنما جاء طالباً بثأر محمد بن رشيد ورده إلى بلده قابس فجمع الحسن الناس واستشارهم فأشاروا بالقتال فخام عنه واعتذر بقلة الأقوات وارتحل من البلد وقد حمل ما خف حمله وخرج الناس بأهاليهم وما خف من أموالهم واختفى كثير من المسلمين في الكنائس‏.‏ ثم ساعد الريح أسطول الإفرنج ووصلوا إلى المرسى ونزلوا إلى البلد من غير مدافع‏.‏ ودخل جرجي القصر فوجده على حاله مملوءا بالذخائر النفيسة التي يعز وجود مثلها‏.‏ وبعث بالأمان إلى كل من شرد من أهلها فرجعوا وأقرهم على الجزية‏.‏ وسار الحسن بأهله وولده إلى المعلقة وبها محرز بن زياد من أمراء الهلاليين ولقيه في طريقه حسن بن ثعلب من أمراء الهلاليين بمال انكسر له في ديوانه فأخذ ابنه يحيى رهينة به‏.‏ ولما وصل محرز بن زياد أكرم لقاءه وبر مقدمه جزاء بما كان يؤثره على العرب ويرفع محله وأقام عنده شهراً‏.‏ ثم عزم على المسير إلى مصر وبها يومئذ الحافظ فأرصد له جرجي الشواني في البحر فرجع عن ذلك واعتزم على قصد عبد المؤمن من ملوك لموحدين بالمغرب وفي طريقه يحيى بن عبد العزيز ببجاية من بني عمه حماد فأرسل إليه أبناءه يحيى وتميماً وعلياً يستأذنه في الوصول فأذن له وبعث إليه من أوصله إلى جزائر بني مذغنة ووكل به وبولده حتى ملك عبد المؤمن بجاية سنة أربع وأربعين وأخبرهم مشروح هنالك‏.‏ ثم جهز جرجي أسطولاً آخر إلى صفاقس وجاء العرب لإنجادهم فلما توافوا لقتال استطرد لهم الإفرنج غير بعيد فهزموهم‏.‏ ومضى العرب عنهم وملك الإفرنج المدينة عنوة ثالث عشر صفر وفتحوا فيها‏.‏ ثم أمنوهم وفادوا أسراهم وأقروهم على الجزية وكذا أهل سوسة‏.‏ وكتب رجار صاحب صقلية إلى أهل سواحل إفريقية بالأمان المواعيد‏.‏ ثم سار جرجي إلى اقليبية من سواحل تونس واجتمع إليهما العرب فقاتلوا الإفرنج وهزموهم ورجعوا خائبين إلى المهدية‏.‏ وحدثت الفتنة بين رجار صاحب صقلية بين ملك الروم بالقسطنطينية فشغل رجار بها عن إفريقية‏.‏ وكان متولي كبرها جرجي بن ميخاييل صاحب المهدية‏.‏ ثم مات سنة ست وأربعين فسكنت تلك الفتنة ولم يقم لرجار بعده أحد مقامه والله تعالى أعلم‏.‏
استيلاء الإفرنج على بونة ووفاة رجار صاحب صقلية
وملك ابنه غليالم ثم سار أسطول رجار من صقلية سنة ثمان وأربعين إلى مدينة بونة وقائد الأسطول بها وقتات المهدوي فحاصرها واستعان عليها بالعرب فملكها واستباحها وأغضى عن جسماعة عن أهل العلم والدين فخرجوا بأموالهم وأهاليهم إلى القرى‏.‏ وأقام بها عشراً ورجع إلى المهدية ثم إلى صقلية فنكر عليه رجار رفقه بالمسلمين في بونة وحبسه‏.‏ ثم اتهم في دينه فاجتمع الأساقفة والقسوس وأحرقوه‏.‏ ومات رجار آخر هذه السنة لعشرين سنة من ملكه وولي ابنه غليالم مكانه‏.‏ وكان حسن السيرة واستوزر مائق البرقياني فأساء التدبير واختلفت عليه حصون من صقلية وبلاد قلورية وتعدى الأمراء على إفريقية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم‏.‏

استيلاء الإفرنج على عسقلان
كانت عسقلان في طاعة الظافر العلوي ومن جملة ممالكه وكان الإفرنج يتعاهدونها بالحصار مرة بعد مرة‏.‏ وكان الوزراء يمدونها بالأموال والرجال والأسلحة‏.‏ وكان لهم التحكم في الدولة على الخلفاء العلوية فلما قتل ابن السلار سنة ثمان وأربعين اضطرب الحال بمصر حتى ولي عباس الوزارة فسار الإفرنج خلال ذلك من بلادهها بالشام وحاصروا عسقلان وامتنعت عليهم‏.‏ ثم اختلف أهل البلد وآل أمرهم إلى القتال فاغتنم الإفرنج الفرصة وملكوا البلد وعاثوا فيها والله يؤيد بنصره من يشاء من عباده‏.‏ ثورة المسلمين بسواحل إفريقية على الإفرنج المتغلبين فيها قد قدم لنا وفاة رجار وملك ابنه غليالم وأنه ساء تدبير وزيره فاختلف عليه الناس وبلغ ذلك المسلمين الذين تغلبوا عليهم بإفريقية‏.‏ وكان رجار قد ولى على المسلمين بمدينة صفاقس لما تغلب عليها أبو الحسن الغرياني منهم وكان من أهل العلم والدين‏.‏ ثم عجز عن ذلك وطلب ولاية ابنه عمر فولاه رجار وحمل أبا الحسين إلى صقلية رهينة وأوصى ابنه عمر وقال يا بني أنا كبير السن وقد قرب أجلي فمتى أمكنتك الفرصة في إنقاذ المسلمين من ملكة العدو فافعل ولا تخش علي واحسبني قد مت‏.‏ فلما اختل أمر غليالم دعا عمر أهل صفاقس إلى الثورة بالإفرنج فثاروا بهم وقتلوهم سنة إحدى وخمسين واتبعه أبو يحيى بن مطروح بطرابلس ومحمد بن رشيد بقابس‏.‏ وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونة فملكها وذهب حكم الإفرنج عن إفريقية ما عدا المهدية وسوسة‏.‏ وأرسل عمر الفرياني إلى زويلة قريباً من المهدية يغريهم بالوثوب على الإفرنج الذين معهم فوثبوا وأعانهم أهل ضاحيتهم وقاتلوا الإفرنج بالمهدية وقطعوا الميرة عنهم‏.‏ وبلغ الخبر إلى غليالم فبعث إلى عمر الفرياني بصفاقس وأعذر إليه في أبيه فأظهر للرسول جنازة ودفنها وقال هذا قد دفنته فلما رجع الرسول بذلك صلب أبا الحسين ومات شهيداً رحمه الله تعالى‏.‏ وسار أهل صفاقس والعرب إلى زويلة واجتمعوا مع أهلها على حصار المهدية وأمدهم غليالم بالأقوات والأسلحة وصانعوا العرب بالمال على أن يخذلوا أصحابهم‏.‏ ثم خرجوا للقتال فانهزم العرب وركب أهل صفاقس البحر إلى بلدهم أيضاً واتبعهم الإفرنج فعاجلوهم عن زويلة وقتلوهم‏.‏ ثم اقتحموا البلد فقتلوا مخلفهم بها واستباحوه‏.‏ ارتجاع عبد المؤمن المهدية من يد الإفرنج ولما وقع بأهل زويلة من الإفرنج ما وقع لحقوا بعبد المؤمن ملك المغرب يستصرخونه فأجاب صريخهم ووعدهم وأقاموا في نزله وكرامته وتجهز للمسير وتقدم إلى ولاته وعماله بتحصيل الغلات وحفر الآبار‏.‏ ثم سار في صفر سنة أربع وخمسين في مائة ألف مقاتل وفي مقدمته الحسن بن علي صاحب المهدية ونازل تونس منتصف السنة وبها صاحبها أحمد بن خراسان من بقية دولة صنهاجة‏.‏ وجاء أسطول عبد المؤمن فحاصرها من البحر‏.‏ ثم نزل إليه من سورها عشرة رجال من أعيانها في السلالم مستأمنين لأهل البلد ولأنفسهم فأمنهم على مقاسمتهم في أموالهم وعلى أن يخرج إليه ابن خراسان فتم ذلك كله‏.‏ وسار عنها إلى المهدية وأسطوله محاذيه في البحر فوصلها منتصف رجب من السنة وبها أولاد الملوك والزعماء من الإفرنج وقد أخلوا زويلة وهي على غلوة من المهدية فعمرها عبد المؤمن لوقتها‏.‏ وامتلأ فضاء المهدية بالعساكر وحاصرها أياماً وضاق موضع القتال من البر لاستدارة البدر عليها لأنها صورة يد في البحر وذراعها في البر وأحاط الأسطول بها في البحر‏.‏ وركب عبد المؤمن البحر في الشواني ومعه الحسن بن علي فرأى حصانتها في البحر وأخذ في المطاولة وجمع الأقوات حتى كانت في ساحة معسكرة كالتلال‏.‏ وبعث إليه أهل صفاقس وطرابلس وجبال نفوسة بطاعتهم‏.‏ وبعث عسكراً إلى قابس فملكها عنوة وبعث ابنه عبد الله ففتح كثيراً من البلاد‏.‏ ثم وفد عليه يحيى بن تميم بن المقر بن الرند صاحب قفصة في جماعة من أعيانها فبذل طاعته ووصله عبد المؤمن بألف دينار‏.‏ ولما كان آخر شعبان وصل أسطول صقلية في مائة وخمسين من الشواني غير الطرائد كان في جزيرة يابسة فاستباحها وبعث إليه صاحب صقلية بقصد المهدية‏.‏ فلما أشرفوا على المرسى قذفت إليهم أساطيل عبد المؤمن ووقف عسكره على جانب البر وعبد المؤمن ساجد يعفر وجهه بالتراب ويجأر بالدعاء فانهزم أسطول الإفرنج وأقلعوا إلى بلادهم وعاد أسطول المسلمين ظافراً‏.‏ وآيس أهل المهدية من الإنجاد ثم صابروا إلى آخر السنة حتى جهدهم الحصار‏.‏ ثم استأمنوا إلى عبد المؤمن فعرض عليهم الإسلام فأبوا ولم يزالوا يخضعون له بالقول حتى أمنهم وأعطاهم السفن فركبوا فيها‏.‏ وكان فصل شتاء فمال عليهم البحر وغرقوا ولم يفلت منهم إلا ودخل عبد المؤمن المهدية في محرم سنة خمس وخمسين لاثنتي عشرة سنة من ملك الإفرنج وأقام بها عشرين يوماً فأصلح أمورها وشحنها بالحامية والأقوات واستعمل عليها بعض أصحابه وأنزل معه الحسن بن علي وأقطعه بأرضها له ولأولاده وأمر الوالي أن يقتدي برأيه ورجع إلى المغرب والله تعالى أعلم‏.‏


ميارى 7 - 8 - 2010 05:18 PM

حصار الإفرنج أسد الدين شيركوه في بلبيس
كان أسد الدين شيركوه بن شادي عم صلاح الدين قد بعثه نور الدين العادل سنة تسع وخمسمائة منجداً لشاور وزير العاضد صاحب مصر على قريعة الضرغام كما سيأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى‏.‏ وسار نور الدين من دمشق في عساكره إلى بلاد الإفرنج ليشغلهم عن أسد الدين شيركوه وخرج ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فهزمه أسد الدين على تنيس واتبعه إلى القاهرة ونزلها منتصف السنة‏.‏ وأعاد شاور إلى الوزارة ونقض ما بينه وبين أسد الدين وتأخر إلى تنيس‏.‏ وخشي منه ودس إلى الإفرنج يغريهم به وبذل لهم المال فطمعوا بذلك في ملك الديار المصرية‏.‏ وسار ملك القدس في عساكر الإفرنج واجتمعت معه عساكر المسلمين‏.‏ وساروا إلى أسد الدين فحاصروه في بلبيس ثلاثة ولم يظفروا منه بشيء‏.‏ ثم جاءهم الخبر بأن نور الدين العادل هزم أصحابهم على خارد وفتحها‏.‏ ثم سار إلى بانياس فسقط في أيديهم وطلبوا الصلح من أسد الدين ليعودوا إلى بلادهم لذلك وخرج من بلبيس سائراً إلى الشام‏.‏ ثم عاد إلى مصر سنة اثنتين وستين وعبر النيل من اطفيح ونزل الجزيرة‏.‏ واستمد شاور الإفرنج فساروا إليه بجموعهم‏.‏ وكان أسد الدين قد سار إلى الصعيد وانتهى إلى ‏"‏ ‏"‏ فسار الإفرنج والعساكر المصرية في أثره فأدركوه منتصف السنة واستشار أصحابه فاتفقوا على القتال وأدركته عساكر الإفرنج ومصر وهو على تعبيته وقد أقام مقامه في القلب راشد حفراً من حملة الإفرنج‏.‏ وانحاز فيمن يثق به من شجعان أصحابه إلى الميمنة فحمل الإفرنج على القلب فهزموهم واتبعوهم‏.‏ وخالفهم أسد الدين إلى من تركوا وراءهم من العساكر فهزمهم وأثخن فيهم ورجع الإفرنج من أثناء القلب فانهزموا وانهزم أصحابهم ولحقوا بمصر‏.‏ ولحق أسد الدين بالإسكندرية فملكها صلحاً وأنزل بها صلاح الدين ابن أخيه وحاصرته عساكر الإفرنج ومصر وزحف إليهم عمه أسد الدين من الصعيد فبعثوا إليه في الصلح فأجابهم على خمسين ألف دينار يعطونها إياه ولا يقيم في البلد أحد من الإفرنج ولا يملكون منها شيئاً فقبلوا ذلك وعادوا إلى الشام‏.‏ وملك أهل مصر الإسكندرية واستقر بينهم وبين الإفرنج أن ينزلوا بالقاهرة شحنة وأن يكون أبوابها في علقها وفتحها بأيديهم‏.‏ وأن لهم من خراج مصر مائة ألف دينار في كل سنة ولم ‏"‏ ‏"‏ ذلك منه حصار الإفرنج القاهرة ثم كان مسير أسد الدين إلى مصر وقتله شاور سنة أربع وستين باستدعاء العاضد لما رأى من تغلب الإفرنج كما نذكر في أخبار أسد الدين‏.‏ وأرسل إلى الإفرنج أصحابهم الذين بالقاهرة يستدعونهم لملكها ويهونونها عليهم‏.‏ وملك الإفرنج يومئذ بالشام مرى ولم يكن ظهر فيهم مثله شجاعة ورأياً فأشار بأن جبايتها لنا خير من ملكها‏.‏ وقد يضطرون فيملكون نور الدين منها وإن ملكها قبلنا احتاج إلى مصانعتنا فأبوا عليه وقالوا إنما نزداد بها قوة فرجع إلى رأيهم‏.‏ وساروا جميعاً إلى مصر وانتهوا إلى تنيس في صفر سنة أربع وستين فملكوها عنوة واستباحوها‏.‏ ثم ساروا إلى القاهرة وحاصروها وأمر شاور بإحراق مصر وانتقال أهلها إلى القاهرة فنهبت المدينة ونهب أموال أهلها وبغتهم قبل نزول الإفرنج عليهم بيوم فلم تخمد النار مدة شهرين‏.‏ وبعث العاضد بالصريخ إلى نور الدين واشتد عليه الحصار‏.‏ وبعث شاور إلى ملك الإفرنج يشير بالصلح على ألف ألف دينار مصرية ويهدده بعساكر نور الدين فأجابوا إلى ذلك‏.‏ ودفع إليهم مائة ألف دينار وتأخروا قريباً حتى يصل إليهم بقية المال وعجز عن تحصيله والإفرنج يستحثونه فبعثوا خلال ذلك إلى نور الدين يستنجدونه على الإفرنج بأن يرسل إليهم أسد الدين شيركوه في عسكر يقيمون عندهم على أن لنور الدين ثلث بلاد مصر ولأسد الدين إقطاعه وعطاء العساكر فاستدعى أسد الدين من حمص وكانت اقطاعه‏.‏ وأمر بالتجهز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الدواب والأسلحة وحكمه في العساكر والخزائن وما يحتاج إليه‏.‏ وسار في ستة آلاف وأزاح علل جنده وأعانهم أسد الدين بعشرين ديناراً لكل فارس‏.‏ وبعث معه جماعة من الأمراء منهم خرديك مولاه وعز الدين قليج وشرف الدين بن بخش وعين الدولة الباروقي وقطب الدين نيال بن حسان وصلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب‏.‏ وسار إلى مصر فلما قاربها ارتحل الإفرنج راجعين إلى بلادهم ودخل هو إليها منتصف السنة وخلع عليه العاضد وأجرى عليه وعلى عسكره الجرايات الوافرة‏.‏ ثم شرع شاور في مماطلة أسد الدين بما وقع اتفاقهم معه عليه وحدث نفسه بالقبض عليه واستخدام جنده لمدافعة الإفرنج ولم يتم له ذلك‏.‏ وشعر به أسد الدين فاعترضه صلاح الدين ابن أخيه وعز الدين خرديك مولاه عند قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه وقتلاه وفوض العاضد أمور دولته إلى أسد الدين وتقاصر الإفرنج عنها‏.‏ ومات أسد الدين واستولى صلاح الدين بعد ذلك على البلاد وارتجع البلاد الإسلامية من يد الإفرنج كما نذكر في أخبار دولته حصار الإفرنج دمياط ولما ملك أسد الدين شيركوه مصر خشية الإفرنج على ما بأيديهم من مدن الشام وسواحله وكاتبوا أهل ملتهم ونسبتهم بصقلية وافرنسة يستنجدونهم على مصر ليملكوها وبعثوا الأقسة والرهبان من بيت المقدس يستنفرونهم لحمايتها وواعدوهم بدمياط طمعاً في أن يملكوها ويتخذوها ركاباً للاستيلاء على مصر فاجتمعوا عليها وحاصروها لأول أيام صلاح الدين وأمدهم صلاح الدين بالعساكر والأموال‏.‏ وجاء بنفسه وبعث إلى نور الدين يستنجده ويخوفه على مصر فتابع إليه الأمداد وسار بنفسه إلى بلاد الإفرنج بالشام‏.‏ واكتسحها وخربها فعاد الفرنج إلى دمياط بعد حصار خمسين يوماً نفس الله عليهم ومن هذه القصة بقية أخبار الإفرنج متعلقة بالدولتين دولة بني زنكي بالشام ودولة بني أيوب بمصر فأخرت بقية أخبارهم إلى أن نسردها في الدولتين على مواقعها في مواضعها حسبما تراه‏.‏ ولم يبق إلا استيلاؤهم على القسطنطينية من يد الروم فأوردناه هاهنا‏.‏

استيلاء الإفرنج على القسطنطينية
كان هؤلاء الإفرنج بعد ما ملكوه من بلاد الشام اختلفت أحوالهم في الفتنة والمهادنة مع الروم بالقسطنطينية لاستيلائهم على الثغور من بلاد المسلمين التي تجاور الروم التي كانت بأيديهم من قبل وظاهرهم الروم على المسلمين في بعض المرات ثم غلبوا عليهم آخراً‏.‏ وملكوا القسطنطينية من أيديهم فأقامت في أيديهم مدة‏.‏ ثم ارتجعها الروم على يد لشكري من بطارقتهم‏.‏ وكيفية الخبر عن ذلك أن ملوك الروم أصهروا إلى ملوك الإفرنج وتزوجوا منهم بنتاً لملك الروم فولدت ذكراً خاله الافرنسيس وثب عليه أخوه فانتزع الملك من يده وحبسه ولحق الولد بملك الإفرنج خاله مستصرخاً به فوصل إليه وقد تجهز الإفرنج لاستنقاذ القدس من يد المسلمين‏.‏ وكان صلاح الدين قد ارتجعها منهم كما يأتي في أخباره إن شاء الله تعالى‏.‏ وانتدب لذلك ثلاثة من ملوكهم دوقص البنادقة وهو صاحب الأسطول الذي ركبوا فيه وكان شيخاً أعمى لا يركب ولا يمشي إلا بقائد‏.‏ ومقدم الفرنسيس ويسمى المركيش والثالث يسمى كبداقليد وهو أكثرهم عدداً فجعل الملك ابن أخته معهم وأوصاهم بمظاهرته على ملكه بالقسطنطينية ووصلوا إليها في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وخمسمائة فخرج عم الصبي وقاتلهم‏.‏ وأضرم شيعة الصبي النار في نواحي البلاد فاضطرب العسكر ورجعوا وفتح شيعة الصبي باب المدينة وأدخلوا الإفرنج‏.‏ وخرج عمه هارباً ونصب الإفرنج الصبي في الملك وأطلقوا أباه من السجن واستبدوا بالحكم وصادروا الناس وأخذوا مال البيع وما على الصلبان من الذهب وما على تماثيل المسيح والحواريين وما على الإنجيل فعظم ذلك على الروم ووثبوا وأقام الإفرنج بظاهرها محاصرين لهم‏.‏ وبعث الروم صريخاً إلى صاحب قونية ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان ينهض لذلك وكان بالمدينة متخلفون من الإفرنج يناهزون ثلاثين ألفاً فثاروا بالبلد عند شغل الروم بقتال أصحابهم وأضرموا النار ثانياً فاقتحم الإفرنج وأفحشوا في النهب والقتل‏.‏ ونجا كثير من الروم إلى الكنائس وأعظمها كنيسة سوميا فلم تغن عنهم‏.‏ وخرج القسيسون والأساقفة في أيديهم الإنجيل والصلبان فقتلوهم‏.‏ ثم تنازع الملوك الثلاثة على الملك بها وتقارعوا فخرجت القرعة على كبداقليد فملكها على أن يكون لدوقس البنادقة الجزائر البحرية اقريطش ورودس وغيرهما‏.‏ ويكون لمركيش الافرنسيس شرقي الخليج ولم يحصل أحد منهم شيئاً إلا ملك القسطنطينية كبداقليد وتغلب على شرقي الخليج بطريق من بطارقة الروم اسمه لشكري فلم يزل بيده إلى أن مات‏.‏ ثم غلب بعد ذلك على القسطنطينية وملكها من يد الإفرنج والله غالب على أمره‏.‏ الخبر عن دولة بني أرتق وملكهم لماردين وديار بكر ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم كان أرتق بن أكسك ويقال اكست والأول أصح‏.‏ كلمة أولها همزة ثم كافان الأولى ساكنة بينهما سين من مماليك السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان ملك السلجوقية وله مقام محمود في دولتهم وكان على حلوان وما إليها من أعمال العراق‏.‏ ولما بعث السلطان ملك شاه عساكره إلى حصار الموصل مع فخر الدولة بن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة أردفة بعسكر آخر مع أرتق فهزمه مسلم بن قريش فحاصره بآمد‏.‏ ثم داخله في الخروج من هذا الحصار على مال اشترطه ونجا إلى الرقة‏.‏ ثم خشي أرتق من فعلته تلك فلحق بتتش حتى سار إلى حلب طامعاً في ملكها فلقيه تتش وهزمه‏.‏ وكان لأرتق في تلك الواقعة المقام المحمود‏.‏ ثم سار تتش إلى حلب وملكها واستجار مقدمها ابن الحسين بأرتق فأجاره من السلطان تتش‏.‏ ثم هلك أرتق سنة ثلاث وثمانين بالقدس‏.‏ وملك من بعد أرتق ابناه أبو الغازي وسقمان‏.‏ وكان لهما معه الرها وسروج‏.‏ ولما ملك الإفرنج إنطاكية سنة إحدى وتسعين وأربعمائة اجتمعت الأمراء بالشام والجزيرة وديار بكر وحاصروها‏.‏ وكان لسقمان في ذلك المقام المحمود‏.‏ ثم تخاذلوا وافترقوا وطمع أهل مصر في ارتجاع القدس منهم‏.‏ وسار إليها الملك الأفضل المستولي على دولتهم فحاصرها أربعين يوماً وملكها بالأمان‏.‏ وخرج سقمان وأبو الغازي ابنا أرتق وابن أخيهما ياقوتي وابن عمهما سونج وأحسن إليهم الأفضل وولى على بيت المقدس ورجع إلى مصر‏.‏ وجاء الإفرنج فملكوها كما تقدم في أخبار الدولة السلجوقية‏.‏ ولحق أبو الغازي بالعراق فولي شحنة بغداد وسار سقمان إلى الرها فأقام بها وكان بينه وبين كربوقا صاحب الموصل فتن وحروب أسر في بعضها ياقوتي ابن أخيه‏.‏ ثم توفي كربوقا سنة خمسة وتسعين وولي الموصل بعده موسى التركماني وكان نائباً بحصن كيفا فزحف إليه جكرمش صاحب جزيرة ابن عامر وحاصره بالموصل واستنجد موسى سقمان على أن يعطيه حصن كيفا فأنجده وسار إليه وأفرج عنه جكرمش وخرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه غدراً ورجع سقمان إلى حصن كيفا فملكه تم كانت الفتنة بين أبي الغازي وكمستكين القيصري لما بعثه بركيارق شحنة على بغداد وكان هو شحنة من قبل السلطان محمد فمنع القيصري من الدخول واستنجد أخاه سقمان فجاء إليه من حصن كيفا في عساكره ونهب تكريت وخرج إليها أبو الغازي واجتمع معهم صدقة بن مزيد صاحب الخلة وعاثوا في نواحي بغداد وفتكوا بنفر من أهل البلد‏.‏ وبعث إليهم الخليفه في الصلح على أن يسير القيصري إلى واسط فسار إليه ودخل أبو الغازي بغداد ورجع سقمان إلى بلده وقد مر ذلك في أخبارهم‏.‏ ثم استولى مالك بن بهرام أخي سقمان على عامة الخرمية سنة سبع وتسعين وكان له مدينة سروج فملكها منه الإفرنج وسار إلى غانة فملكها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط‏.‏ واستصرخوا بصدقة بن مزيد وارتجعها لهم منه وعاد إلى الحلة فعاد مالك فملكها واستقرت في ملكه‏.‏ ثم اجتمع سقمان وجكرمش صاحب الموصل على جهاد الإفرنج سنة سبع وتسعين وهم محاصرون حران فتركوا المنافسة بينهم وقصدوهم وسقمان في سبعة آلاف من التركمان فهزموا الإفرنج وأسروا القمص بردويل صاحب الرها أسره أصحاب سقمان فتغلب عليهم أصحاب جكرمش وأخذوه وافترقوا بسبب ذلك وعادوا إلى ما كان بينهم من الفتن والله أعلم‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:18 PM

استيلاء سقمان بن أرتق على ماردين
كان هذا الحصن ماردين من ديار بكر وأقطعه السلطان بركيارق بجميع أعماله لمغن كان عنده وكان في ولاية الموصل وكان ينجر إليه خلق كثير من الأكراد يفسدون السابلة‏.‏ واتفق أن كربوقا صاحب الموصل سار لحصار آمد وهي لبعض التركمان فاستنجد صاحبها بسقمان فسار لإنجاده وقاتل كربوقا قتالا شديداً‏.‏ ثم هزمه وأسر ابن أخيه ياقوتي بن أرتق وحبسه بقلعة ماردين عند المغني فبقي محبوساً مدة طويلة وكثر ضرر الأكراد فبعث ياقوتي إلى المغني صاحب الحصن في أن يطلقه ويقيم عنده بالربض لدفاع الأكراد ففعل وصار يغير عليهم في سائر النواحي إلى خلاط‏.‏ وصار بعض أجناد القلعة يخرجون للإغارة معهم فلا يهيجهم‏.‏ ثم حدثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الأيام مرجعه من الإغارة ودنا من القلعة‏.‏ وعرضهم على القتل إن لم يفتحوا له ففتحها أهلوهم وملكها‏.‏ وجمع الجموع وسار إلى نصيبين وأغار على جزيرة ابن عمر وهي لجكرمش فكبسه جكرمش وأصحابه في الحرب بينهم فقتله وبكاه جكرمش‏.‏ وكان تحت ياقوتي ابنة عمه سقمان فمضت إلى أبيها وجمعت التركمان‏.‏ وجاء سقمان بهم إلى نصيبين فترك طلب الثأر فبعث إليه جكرمش ما أرضاه من المال في ديته ورجع وقدم بماردين بعد ياقوتي أخوه على بطاعة جكرمش وخرج منها لبعض المذاهب‏.‏ وكتب نائبه بها إلى عمه سقمان بأنه يملك ماردين لجكرمش فسار إليها سقمان وعوض علياً ابن أخته جبل جور وأقامت ماردين في ملكه مع حصن كيفا واستضاف إليهما نصيبين والله أعلم‏.‏

وفاة سقمان في أرتق وولاية أخيه أبي الغازي مكانه بماردين
ثم بعث فخر الدين بن عمار صاحب طرابلس يستنجد سقمان بن أرتق على الإفرنج وكان استبد بها على الخلفاء العلويين أهل مصر ونازله الإفرنج عندما ملكوا سواحل الشام فبعث بالصريخ إلى سقمان بن أرتق سنة ثمان وتسعين‏.‏ وأجابه وبينما هو يتجهز للمسير وافاه كتاب طغركين صاحب دمشق المستبد بها من موالي بني تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفاً على دمشق من الإفرنج فأسرع المسير إليه معتزماً على قصد طرابلس وبعدها دمشق فانتهى إلى القريتين وندم طغركين على استدعائه وجعل يدبر الرأي مع أصحابه في صرفه‏.‏ ومات هو بالقدس فكفاهم الله أمره وقد كان أصحابه عندما أشفى على الموت أشاروا عليه بالرجوع إلى كيفا فامتنع وقال هذا جهاد وإن مت كان لي ثواب شهيد‏.‏ فلما مات حمله ابنه إبراهيم إلى حصن كيفا فدفنه به‏.‏ وكان أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد كما قدمناه ولاه السلطان محمد أيام الفتنة بينه وبين أخيه بركيارق‏.‏ فلما اصطلح بركيارق وأخوه سنة تسع وتسعين على أن تكون بغداد له وممالك أخرى من الممالك الإسلامية ومن جملتها حلوان وهي إقطاع أبي الغازي فبادر وخطب لبركيارق ببغداد فنكر عليه ذلك صدقة بن مزيد وكان من شيعة السلطان محمد فجاء إلى بغداد ليزعج أبا الغازي عنها ففارقها إلى يعقوب وبعث إلى صدقة يعتذر بأنه صار في ولاية بركيارق ويحكم الصلح في إقطاعه وولايته فلم يمكنه غير ذلك‏.‏ ومات بركيارق على أثر ذلك فخطب أبو الغازي لابنه ملك شاه فنكر ذلك السلطان محمد منه فلما استولى على الأمر عزله عن شحنة بغداد فلحق بالشام وحمل رضوان بن تتش صاحب حلب على حصار نصيبين من بلاد جكرمش فحاصروها‏.‏ وبعث جكرمش إلى رضوان وأغراه بأبي الغازي ففسد ما بينهما ورحلوا مفترقين على نصيبين‏.‏ وسار أبو الغازي إلى ماردين وقد مات أخوه سقمان كما قلناه فاستولى عليها والله تعالى أعلم‏.‏ تعليق على بعض الأخبار المهمة ذكر وصول الفرنج من الغرب في البحر إلى عكا وفي هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج الذين على عكا وكان أول من وصل منهم الملك فيليب ملك افرنسيس وهو من أشرف ملوكهم نسباً وإن كان ملكه ليس بالكثير‏.‏ وكان وصوله إليها ثاني عشر ربيع الأول ولم يكن في الكثرة التي ظنوها وإنما كان معه ست بطس كبار عظيمة فقويت به نفوس من على عكا منهم ولحوا في قتال المسلمين الذين فيها وكان صلاح الدين بشفرعم فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال عن مزاحفة البلد‏.‏ وأرسل إلى الأمير أسامة مستحفظ بيروت يأمره بتجهيز ما عنده من الشواني والمراكب وتشحينها بالمقاتلة وتسييرها في البحر ليمنع الفرنج من الخروج إلى عكا ففعل ذلك وسير الشواني في البحر فصادفت خمسة مراكب مملوءة رجالا من أصحاب ملك إنكلترا الفرنج وكان قد سيرهم بين يديه وتأخر هو بجزيرة قبرس ليملكها فاقتتلت شواني المسلمين مع مراكب الفرنج فاستظهر المسلمون عليهم وأخذوهم وغنموا ما معهم من قوت ومتاع ومال وأسروا الرجال وكتب أيضاً صلاح الدين إلى من بالقرب من النواب له يأمرهم بمثل ذلك ففعلوا وأما الفرنج الذين على عكا فإنهم لازموا قتال من بها ونصبوا عليها سبع منجنيقات رابع جمادى الأولى فلما رأى صلاح الدين ذلك تحول من شفرعم ونزل عليهم لئلا يتعب العسكر كل يوم في المجيء إليهم والعود عنهم فقرب منهم وكانوا كلما تحركوا للقتال ركب وقاتلهم من وراء خندقهم فكانوا يشتغلون بقتالهم فيخف القتال عمن بالبلد‏.‏ ثم وصل ملك إنكلترا ثالث عشر جمادى الأولى وكان قد استولى في طريقه على جزيرة قبرس وأخذها من الروم فإنه لما وصل إليها غر بصاحبها وملكها جميعاً فكان ذلك زيادة في ملكه وقوة للفرنج‏.‏ فلما فرغ منها سار عنها إلى من على عكا من الفرنج فوصل إليهم في خمس وعشرين قطعة كباراً مملوءة رجالا وأموالا فعظم به شر الفرنج واشتدت نكايتهم في المسلمين وكان رجل زمانه شجاعة ومكراً وجلداً وصبراً وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها‏.‏ ولما وردت الأخبار بوصوله أمر صلاح الدين بتجهيز بسطة كبيرة مملوءة من الرجال والعدد والأقوات فتجهزت وسيرت من بيروت‏.‏ وفيها سبعمائة مقاتل فلقيها ملك إنكلترا مصادفة فقاتلها وصبر من فيها على قتالها فلما أيسوا من الخلاص ونزل مقدم من بها إلى أسفلها وهو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية يعرف بغلام ابن شقتين فخرقها خرقاً واسعاً لئلا يظفر الفرنج بمن فيها وما معهم من الذخائر فغرق جميع ما فيها وكانت عكا محتاجة إلى رجال لما ذكرناه من سبب نقصهم ثم إن الفرنج عملوا دبابات وزحفوا بها فخرج المسلمون وقاتلوهم بظاهر البلد وأخوا تلك الكباش فلما رأى الفرنج أن ذلك جميعه لا ينفعهم عملوا تلاً كبيراً من التراب مستطيلاً وما زالوا يقربونه إلى البلد ويقاتلون من وراءه لا ينالهم من البلد أذى حتى صار على نصف علوه فكانوا يستظلون به ويقاتلون من خلفه فلم يكن للمسلمين فيه حيلة لا بالنار ولا بغيرها‏.‏ فحينئذ عظمت المصيبة على من بعكا من المسلمين فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه حالهم فلم يقدر لهم على نفع‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:19 PM

ذكر ملك الفرنج عكا
في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة استولى الفرنج لعنهم الله على مدينة عكا وكان أول وهن دخل على من بالبلدان الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب كان فيها ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثلهم وأكبرهم فخرج إلى ملك افرنسيس وبذل تسليم البلد بما فيه على أن يطلق المسلمين الذين فيه ويكنهم من اللحاق بسلطانهم فلم يجبه إلى ذلك فعاد علي بن أحمد إلى البلد فوهن من فيه وضعفت نفوسهم وتخاذلوا وأهمتهم أنفسهم‏.‏ ثم إن أمراء ممن كان بعكا لما رأوا ما فعلوا بالمشطوب والفرنج لم يجيبوا إلى التسليم اتخذوا الليل جملا وركبوا في شيء صغير وخرجوا سراً من أصحابهم ولحقوا بعسكر المسلمين وهم عز الدين أرسل الأسدي وابن عز الدين جاولي وسنقر الوشاقي ومعهم غيرهم فلما أصبح الناس ورأوا ذلك ازدادوا وهناً إلى وهنهم وضعفاً إلى ضعفهم وأيقنوا بالعطب‏.‏ ثم إن الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليم البلد فأجابهم إلى ذلك والشرط بينهم أن يطلق من أسراهم بعدد من في البلد ليطلقوا هم من بعكا وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت فلم يقنعوا بما بدل فأرسل إلى من بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من عكا يداً واحدة ويتركوا البلد بما فيه ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره ويقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به فشرعوا في ذلك واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه فما فرغوا من أشغالهم حتى أسفر الصبح فبطل ما عزموا عليه لظهوره‏.‏ فلما عجز الناس من حفظ البلد زحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم فظهروا من البلد على سوره يحركون أعلامهم ليراها المسلمون وكانت هي العلامة إذا اخترمهم أمر‏.‏ فلما رأى المسلمون ذلك ضجوا بالبكاء والعويل وحملوا على الفرنج من جميع جهاتهم طلباً منهم أن الفرنج يشتغلون عن الذين بعكا وصلاح الدين يحرضهم وهو في أولهم‏.‏ وكان الفرنج قد خفوا عن خنادقهم ومالوا إلى جهة البلد فقرب المسلمون من خنادقهم حتى كادوا يدخلونها عليهم ويضعون السيف فيهم فوقع الصوت فعاد الفرنج ومنعوا المسلمين وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتلهم فلما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع ولا يدفع عنهم ضراً خرج إلى الفرنج وقرر معهم تسليم البلد وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم وبذل لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين وإعادة صليب الصلبوت وأربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور فأجابوه إلى ذلك وحلفوا له عليه وأن يكون مدة تحصيل المال والأسرى إلى شهرين‏.‏ فلما حلفوا له سلم البلد إليهم ودخلوه سلماً فلما ملكوه غدروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم وحبسوهم‏.‏ وأظهروا أنهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بذل لهم وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب حتى يطلقوا من عندهم فشرع في جمع المال وكان هو الأمان له إنما يخرج ما يحصك إليه من دخل البلاد أولا بأول‏.‏ فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار جمع الأمراء واستشارهم فأشاروا بأن لا يرسل شيئاً حتى يعاود يستحلفهم على إطلاق أصحابه وأن يضمن الداوية ذلك لأنهم أهل دين يرون الوفاء فراسلهم صلاح الدين في ذلك فقال الداوية لا نحلف ولا نضمن لأننا نخاف غدر من عندنا‏.‏ وقال ملوكهم إذا سلمتم إلينا المال والأسرى والصليب فلنا الخيار فيمن عندنا فحينئذ علم صلاح الدين عزمهم على الغدر فلم يرسل إليهم شيئاً وأعاد الرسالة إليهم وقال نحن نسلم إليكم هذا المال والأسرى والصليب ونعطيكم رهناً بالباقي وتطلقون أصحابنا وتضمن الداوية الرهن ويحلفون على الوفاء لهم فقالوا لا نحلف‏.‏ إنما نرسل المائة ألف دينار التي حصلت والأسرى والصليب ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال فعلم الناس حينئذ غدرهم وإنما يطلقون غلمان العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبه له ويمسكون عندهم الأمراء وأرباب الأموال ويطلبون منهم الفداء فلم يجبهم السلطان إلى ذلك فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب ركب الفرنج وخرجوا إلى ظاهر البلد بالفارس والراجل وركب المسلمون إليهم وقصدوهم وحملوا عليهم فانكشفوا عن مواقفهم وإذ أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف واستبقوا الأمراء والمقدمين ومن كان له مال وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم ومن لا مال له‏.‏ فلما رأى صلاح الدين ذلك تصرف في المال الذي كان جمعه وسير الأسرى والصليب إلى دمشق‏.‏ فكر رحيل الفرنج إلى ناحية عسقلان وتخريبها لما فرغ الفرنج لعنهم الله من إصلاح أمر عكا برزوا منها في الثامن والعشرين من رجب وساروا مستهل شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارقونه فلما سمع صلاح الدين برحيلهم نادى في عسكره بالرحيل فساروا وكان على اليزك ذلك اليوم الملك الأفضل ولد صلاح الدين ومعه سيف الدين اياز كوش وعز الدين جورديك وعدة من شجعان الأمراء فضايقوا الفرنج في مسيرهم وأرسلوا عليهم من السهام ما كان يحجب الشمس ووقعوا على ساقة الفرنج فقتلوا منها جماعة وأسروا جماعة‏.‏ وأرسل الأفضل إلى والده يستمده ويعرفه الحال فأمر العساكر بالمسير إليه فاعتذروا بأنهم ما ركبوا بأهبة الحرب وإنما كانوا على عزم المسير لا غير‏.‏ فبطل المدد وعاد ملك الانكلتار إلى ساقة الفرنج فحماها وجمعهم وساروا حتى أتوا حيفا فنزلوا بها ونزل المسلمون يقيمون بقرية بالقرب منهم وأحضر الفرنج من عكا عوض من قتل منهم وأسر ذلك اليوم وعوض ما هلك من الخيل‏.‏ ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهم من قدروا عليه فيقتلونهم لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنه لا يظفر بأحد منهم إلا قتلهم بمن قتلوا ممن كان بعكا فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون وقاتلوهم أشد قتال فنالوا منهم نيلا كثيراً‏.‏ ونزل الفرنج بها وبات المسلمون قريباً منهم فلما نزلوا خرج من الفرنج جماعة فأبعدوا عن جماعتهم فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك فقتلوا منهم وأسروا منهم‏.‏ ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف وكان المسلمون قد سبقوهم إليها ولم يمكنهم مسايرتهم لضيق الطريق‏.‏ فلما وصل الفرنج إليهم حمل المسلمون عليهم حملة منكرة الحقوهم بالبحر ودخله بعضهم فلما رأى الفرنج ذلك اجتمعوا وحملت الخيالة على المسلمين حملة رجل واحد فولوا منهزمين لا يلوي أحد على أحد‏.‏ وكان كثير من الخيالة والسوقة قد ألفوا القيام وقت الحرب قريباً من المعركة فلما كان ذلك اليوم كانوا على حالهم فلما انهزم المسلمون عنهم قتل منهم كثير والتجأ المنهزمون إلى القلب وفيه صلاح الدين فلو علم الفرنج أنها هزيمة لتبعتهم واشتهرت الهزيمة وهلك المسلمون‏.‏ لكن كان بالقرب من المسلمين شعرى كثيرة الشجر فدخلوها وظنها الفرنج مكيدة فعادوا وزال عنهم ما كانوا فيه من الضيق وقتل من الفرنج كند كبير من طواغيتهم وقتل من المسلمين مملوك لصلاح الدين اسمه اياز الطويل وهو من الموصوفين بالشجاعة والشهامة لم يكن في زمانه مثله فلما نزل المسلمون وأعنة خيلهم بأيديهم ثم سار الفرنج إلى يافا فنزلوها ولم يكن بها أحد من المسلمين فملكوها ولما كان من المسلمين بأرسوف من الهزيمة ما ذكرناه سار صلاح الدين عنهم إلى الرملة واجتمع بأثقاله بها وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بتخريب عسقلان وقالوا له قد رأيت ما منا بالأمس وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها فهم لا شك يقاتلونا لننزاح عنها وينزلون عليها فإذا كان ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه على عكا ويعظم الأمر علينا لأن العدو وقد قوي بأخذ عكا وما فيها من الأسلحة وغيرها ونحن قد ضعفنا بما خرج عن أيدينا ولم تطل المدة حتى نستجد غيرها فلم تسمح نفسه بتخريبها وندب الناس إلى دخولها وحفظها فلم يجبه أحد إلى ذلك‏.‏ وقالوا إن أردت حفظها فادخل أنت معنا أو بعض أولادك الكبار وإلا فما يدخلها منا أحد لئلا يصيبنا ما أصاب أهل عكا فلما رأى الأمر كذلك سار إلى عسقلان وأمر بتخريبها تاسع عشر شعبان والقيت حجارتها في البحر وهلك فيها من الأموال والذخائر التي للسلطان والرعية ما لا يمكن حصره وعفى أثرها حتى لا يبقى للفرنج في قصدها مطمع‏.‏ ولما سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانهم ولم يسيروا إليها‏.‏ وكان المركيس لعنه الله لما أخذ الفرنج عكا قد أحسن من ملك انكلتار بالغدر به فهرب من عنده إلى مدينة صور وهي له وبيده وكان رجل الفرنج رأياً وشجاعة‏.‏ وكل هذه الحروب هو اثارها فلما خربت عسقلان أرسل إلى ملك انكلتار يقول له مثلك لا ينبغي أن يكون ملكاً ويتقدم على الجيوش تسمع أن صلاح الدين قد خرب عسقلان وتقيم مكانك يا جاهل لما بلغك أنه قد شرع في تخريبها كنت سرت إليه مجداً فرحلته وملكتها صفواً عفواً بغير قتال ولا حصار فإنه ما خربها إلا وهو عاجز عن حفظها‏.‏ وحق المسيح لو أنني معك كانت عسقلان اليوم بأيدينا لم يخرب منها غير برج واحد فلما خربت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهر رمضان ومضى إلى الرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد‏.‏ وفي مدة مقامه لتخريب عسقلان كانت العساكر مع الملك العادل أبي بكر بن أيوب تجاه الفرنج ثم سار صلاح الدين إلى القدس بعد تخريب الرملة فاعتبره وما فيه من سلاح وذخائر وقرر قواعده وأسبابه وما يحتاج إليه وعاد إلى المخيم ثامن رمضان‏.‏ وفي هذه الأيام خرج ملك انكلتار من يافا ومعه نفر من الفرنج من معسكرهم فوقع به نفر من المسلمين فقاتلوهم قتالاً شديداً وكاد ملك انكلتار يؤسر ففداه بعض أصحابه بننسه فتخلص الملك وأسر ذلك الرجل وفيها أيضاً كانت وقعة بين طائفة من المسلمن وطائفة من الفرنج انتصر فيها المسلمون‏.‏ الموحدين بعده لأبي بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر ابن الأمير أبي زكرياء فاضطغنها على الموحدين وأغذ ااسير وانحاش إليه كافة أولاد أبي الليل‏.‏ واجتمع أقتالهم أولاد مهلهل إلى صاحب تونس وخرج معهم شيخ الدولة أبويعقوب بن يزدوتن والوزير أبو عبد الله بن يوؤيكبن في العسكر للتقاء ووقوا سلطانهم بأنفسهم‏.‏ فمما زحف إليهم السلطان أبو البقاءاختل مصافهم وانهزموا وانتهب المعسكر وقتلى الوزير ابن يرزيكن وأجفلت أحياء اللعوب إلى القفر ودخل العسكر إلى البلد واضطرب الأمر وخرج الأمير أبو بكر بن عبد الرحمن فوقف بساحة البلد قليلا‏.‏ ثم تفرق عنه العسكروتسايلوا إلى السلطان أبي البقاء‏.‏ وفر أبو بكر ثم أدرك ببعض الجنات فتل إلى السلطان واعتقله فى بعض الفازات وغدا على السلطان أهل الحضرة من مشيخة الموحدين والفقهاء والكافة فعقدوا بيعته‏.‏ وقتل الأمير أبو بكر فسمي الشهيد آخر الدهر وباشر قتله ابن عمه أبو زكرياء يحيى بن زكرياء شيخ الموحدين‏.‏ ودخل السلطان من الغد إلى الحضرة واستقل بالخلافة وتلقب الناصر لدين الله المنصور‏.‏ ثم استضاف إلى لقبه المتوكل - وأبقى أبا يعقوب بن يزدوتن في رياسته على الموحدين مشاركا لألى زكرياء يحيى بن أبي الأعلام الذيى كان رئيسا عنده قبلها وامشمرعلى خطة الحجابة أبو عبد الرحمن يعقوب بن غمر وولى على الأشغالى بالحضرة منصور بن فضل بن مزني وجرت الحال على ذلك إلى أن كان ما نذكره الخبر عن بيعة ابن مزني ليحيي بن خالد ومصادر أموره كان يحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحاق في جملة السلطان أبي البقاء خالد وتنكرت له الدولة لبعض النزعات فخشي البادرة وفر ولحق بمنصور بن مزني‏.‏ وكان منصور قد استوحش من ابن غمر فدعاه إلى القيام بأمره فأجاب وعقد له على حجابته وجمع له العرب وأجلب على قسطنطينة أياما وبها يومئذ ابن طفنل وكان قد اجتمعت ليحيى بن خالد زعنفة من الأوغاد واشتملوا عليه واشتمل عليهم وأغروه بابن مزني فوعدهم إلى حين ظفره واطلع ابن مزني على سوء دخلته ودخلتهم فقبض يده من طاعته و انصر ف عنه الى بلده انفضت جموعه‏.‏ فى راجع ابن مزني طاعة السلطان أبى البقاء ومخالصة بطانته وحاجبه فتقبلوه ولحق يحيى بن خالد بتلمسان مستجيشاً ونزل على أميرها أبي زيان محمد بن عثمان بن يغمراسن فهلك لأيام من مقدمه‏.‏ وولي أخوه أبو حمو موسى بن عثمان فأمده وزحف الى محاربة قسطنطينة فامتنعت عليه ثم استدعاه ابن مزني بسكرة فأقام عنده وأسنى له الجراية ورتب عليه الحرس‏.‏ وكان السلطان ابن اللحيلني يبعث إليه من تونس بالمجائزة مصانعة له في شانه حتى لقد أقطع له بتونس من قرى الضاحية فلم يزل في إسهام بنيه من بعده إلى أن هلك يحيى بن خالد بمكانه عنده سنة إحدى وعشرين‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:20 PM

الخبر عن بيعة السلطان أبي بكربقسطنطينة علي يد الحاجب ابن غمروأولية
ذلك لما نهض السلطان أبو البقاء إلى الحضرة عقد على بجاية لعبد اللرحمن يعقوب بن الخلوف مضافأ إلى رياسته على قومه كما كانوا يستخلفون أباه عليها عند سفرهم عنها وكان يلقب المزوار وجعله حاجبا لأخيه الأمير أبي بكرعلى قسطنطينة فانتقل إليها‏.‏ وعكف السلطان أبو البقاء بتونس علىلذاته وأرهف حده وعظم بطشه فقتل عدوان بن المهدي من رجالات سدويكش ودعا ابن حريز من رجالات الأثابج فتفاوض رجال الدولة في شأنه وخشوا بادرته وأعمل الحاجب ابن غمر وصعبه منصور بن فضل عامر الزاب الحيلة في التخلص في إيالته واستغضب راشد بن محمد أمير مغراوة نزع إليهم عند استتيلاء بني عبد الواد على وطنه فتلقوه من الكرامة بما يناسبه واستقز جملتهم وعليه وعلى قومه كانت تدوررحا حروبهم - واستصحبه السلطان أبو البقاء خالد إلى الحضرة أميرا على زناتة فرفع بعض حشمه إلى الحاجب في مقعدحكمه وقد استعدى عليه بعض الخدم فأمر بقتله لحينه‏.‏ وأحفظ ذلك الأمير راشد بن محمد فركب لها عزائمه وقوض خيامه لحيته مغاضبا فوجد الحاجب بذلك سبيلا إلى قصده وتمت حيلتهو حيلة صاحبه‏.‏ وأهم السلطان شأن بجابة ونواحيها وخشي عليهاعن راشد بما كان صديقا ملاطفا لعبد الرحمن بن الخلوف وفاوضهما فيمن يددفعه إليها فأشار عليه الحاجب بمنصور بن مزني وأشارمنصور بالحاجب وتدافعها أياما حتى دفعهما جميعا إليها‏.‏ وطلب ابن غمر من السلطان العقد لأخيه أبي بكر على قسطنطينة فعقد له وولى عليا ابن عمه على الحجابة بتونس نائبا وحاصره بماردين حتى استقام وبعث معه ابنه أياز في عسكر فحاصروا الرها وعاثوا في نواحيها ثم سروج وشمشاط وأطاعه صاحب مرعش وكيسوم ورجع فقبض على أياز بن أبي الغازي ونهب سواد ماردين فسار أبو الغازي من وقته إلى ركن الدولة داود ابن أخيه سقمان وهو بحصن كيفا مستنجداً به فأنجده وساروا إلى البرسقي آخر ثمان وخمسمائة فهزموهم وخلصوا ابنه أياز من الأسر‏.‏ وأرسل السلطان إلى أبي الغازي يتهدده فلحق بطغركين صاحب دمشق صريخاً وكان طغركين مستوحشاً لاتهامه بأمر مودود فاتفقا على الاستنجاد وبعثا بذلك إلى صاحب إنطاكية فجاء إليهما قرب حمص وتحالفا وعاد إلى إنطاكية‏.‏ وسار أبو الغازي إلى ديار بكر في خف من أصحابه فاعترضه قيرجان صاحب حمص فظفر به وأسره وبعث إلى السلطان بخبره وأبطأ عليه وصول جوابه‏.‏ فيه‏.‏ وجاء طغركين إلى حمص فدخل على قيرجان وألح عليه بقتل أبي الغازي ثم أطلقه فيرجان وأخذ عليه‏.‏ وسار أبو الغازي إلى حلب وبعث السلطان العساكر مع يوسف بن برسق صاحب همذان وغيره من الأمراء لقتال أبي الغازي وقتال الإفرنج بعده فساروا إلى حلب وبها لؤلؤ الخادم مولى رضوان بن تتش كفل ابنه ألب أرسلان بعد موته ومعه مقدم العساكر شمس الخواص فطالبوهما بتسليم حلب بكتاب السلطان إليهما في ذلك‏.‏ وبادر أبو الغازي وطغركين فدخلا إليهما فامتنعت عليهما فساروا إلى حماة من أعمال طغركين وبها ذخائره ففتحوها عنوة ونهبوها وسلموها إلى الأمير قيرجان صاحب حمص فأعطاهم أياز بن أبي الغازي وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص ساروا إلى روجيل صاحب إنطاكية يستنجدونه على حفظ حماة وجاءهم هنالك بغدوين صاحب القدس والقمص صاحب طرابلس وغيرهما‏.‏ واتفقوا على مطاولة العساكر ليتفرقوا عند هجوم الشتاء واجتمعوا عند قلعة أفامية فلم تبرح العساكر مكانها فافترقوا وعاد طغركين إلى دمشق وأبو الغازي إلى ماردين والإفرنج إلى بلادهم‏.‏ ثم كان أثر ذلك فتح كفر طاب على المسلمين واعتزموا على معاودة حلب فاعترضهم روجيل صاحب إنطاكية وقد جاء في خمسمائة فارس مدداً للإفرنج في كفر طاب فانهزم المسلمون وكان تمحيصهم ورجع برسق أمير العساكر وأخوه منهزمين إلى بلادهم‏.‏ وكان أياز بن أبي الغازي أسيراً عندهم فقتله الموكلون به يوم المعركة سنة تسع وخمسمائة والله تعالى أعلم‏.‏

استيلاء أبي الغازي على حلب
كان رضوان بن تتش صاحب حلب لما توفي سنة سبع وخمسمائة قام بأمر دولته لؤلؤ الخادم‏.‏ ونصب ابنه ألب أرسلان في ملكه‏.‏ ثم استوحش منه ونصب مكانه أخاه سلطان شاه واستبد عليه‏.‏ ثم سار لؤلؤ الخادم إلى قلعة جعبر سنة إحدى عشرة بينه وبين مالك بن سالم بن بدران فغدر به مماليك الأتراك وقتلوه عند خرت برت واستولوا على خزائنه‏.‏ واعترضهم أهل حلب واستنقذوا منهم ما أخذوه وولي شمس الخواص أتابك مكان لؤلؤ‏.‏ ثم عزل لشهر وولي أبو المعالي بن الملحي الدمشقي‏.‏ ثم عزل وصودر اضطربت الدولة وخشي أهل حلب على بلدهم من الإفرنج فاستدعوا أبا الغازي بن أرتق من ماردين وسلموا له البلد‏.‏ وانقرض ملك آل رضوان بن تتش منها فلم يملكها بعد واحد منهم‏.‏ ولما ملكها لم يجد فيها مالاً فصادر جماعة من الخدم وصانع الإفرنج مالهم‏.‏ ثم سار إلى ماردين بغية العودة إلى حمايتها واستخلف عليها ابنه حسام الدين مرتاش‏.‏ واقعة أبي الغازي مع الإفرنج ولما استولى أبو الغازي على حلب وسار عنها طمع في الإفرنج وساروا إليها فملكوا مراغة وغيرها من أعمالها وحاصروها فلم يكن لأهلها بد من مدافعتهم بقتال أو بمال فقاسموهم أملاكهم التي بضاحيتها في سبيل المصانعة‏.‏ وبعثوا إلى بغداد يستغيثون فلم يغاثوا‏.‏ وجمع أبو الغازي من العساكر والمتطوعة نحواً من عشرين ألفاً‏.‏ وسار بهم إلى الشام سنة ثلاثة عشرة ومعه أسامة بن مبارك بن منقذ الكناني وطغان أرسلان بن أسكين بن جناح صاحب أرزن الروم‏.‏ ونزل الإفرنج قريباً من حصون الأماري في ثلاثة آلاف فارس وتسعة آلاف راجل ونزلوا في تل عفرين حيث كان مقتل مسلم بن قريش وتحصنوا بالجبال من كل جهة إلا ثلاث مسارب فقصدهم أبو الغازي ودخل عليهم من تلك المسارب وهم غازون فركبوا وصدقوا الحملة فلقوا عساكر المسلمين متتابعة فولوا منهزمين وأخذهم السيف من كل جهة فلم يفلت إلا القليل وأسر من زعمائهم سبعون فاداهم أهل حلب بثلاثمائة ألف دينار وقتل سرجان صاحب إنطاكية‏.‏ ونجا فلهم من المعركة فاجتمع من الإفرنج وعاودوا اللقاء فهزمهم أبو الغازي وفتح حصن الأثارب ورزدنا وعاد إلى حلب فأصلح أمورها وعبر الفرات إلى ماردين وولى على حلب ابنه سليمان‏.‏ ثم وصل دبيس بن صدقة إلى أبي الغازي مستجيراً به‏.‏ فكتب إليه المسترشد مع سرير الدولة عبد أبي الغازي بإبعاد دبيس‏.‏ ثم وقع بينه وبين السلطان محمود الاتفاق ورهن ولده على الطاعة ورجع‏.‏ وسار أبو الغازي إلى الإفرنج عقب ذلك سنة أربع عشرة فقاتلهم بأعمال حلب وظفر بهم‏.‏ ثم سار هو وطغركين صاحب دمشق فحاصروا الإفرنج بالمثيرة وخشوا من استماتتهم فأفرج لهم أبو الغازي حتى خرجوا من الحصن وكان لا يطيل المقام بدار الحرب لأن أكثر الغزاة معه‏.‏ التركمان يأتون بجراب دقيق وقديد شاة فيستعجل العود إن فنيت أزوادهم والله أعلم‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:21 PM

انتقاض سليمان بن أبي الغازي بحلب
كان أبو الغازي قد ولي على حلب ابنه سليمان فحمله بطانته على الخلاف على أبيه‏.‏ وسار إليه أبوه تلقاه ابنه سليمان بالمعاذير فأمسك عنه وقبض على بطانته الذين داخلوه في ذلك‏.‏ وكان متولي كبرها أمير كان لقيطاً لأبيه ونشأ في بيته فسمله وقطع لسانه‏.‏ وكان منهم آخر من أهل حماة قدمه أبو الغازي على أهل حلب فقطعه وسمله فمات وأراد قتل ابنه‏.‏ ثم ثنته الشفقة عليه وهرب إلى دمشق وشفع فيه طغركين فلم يشفعه‏.‏ ثم استخلف على حلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار ولقبه بدر الدولة وعاد إلى ماردين وذلك سنة خمس عشرة ثم ابنه حسام الدين تمرتاش مع القاضي بهاء الدولة أبي الحسن الشهرزوري شافعاً في دبيس وضامناً في طاعته فلم يتم ذلك‏.‏ فلما انصرف تمرتاش إلى أبيه اقطع السلطان أباه أبا الغازي مدينة ميافارقين‏.‏ وكانت لسقمان القطبي صاحب خلاط فتسلمها أبو الغازي ولم تزل في يده إلى أن ملكها صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة والله تعالى أعلم‏.‏ واقعة مالك بن بهرام مع جوسكين صاحب الرها قد تقدم لنا أن جوسكين من الإفرنج كان صاحب الرها وسروج وأن مالك بن بهرام كان قد ملك مدينة عانة فسار سنة خمس عشرة إلى الرها وحاصرها أياماً فامتنعت عليه وسار جوسكين في اتباعه بعد أن جمع الإفرنج وقد تفرق عن مالك أصحابه‏.‏ ولم يبق معه إلا أربعمائة فلحقوه في أرض رخوة قد نضب عنها الماء فوحلت فيها خيولهم ولم يقدروا على التخلص فظفر بهم أصحاب مالك وأسروهم وجعل جوسكين في إهاب جمل وخيط عليه وطلبوا منه تسليم الرها فلم يفعل وحبسه في خرت برت بعد أن بذل في فديته أموالاً فلم يفادوه والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده‏.‏

وفاة أبي الغازي وملك بنيه من بعده
ثم توفي أبو الغازي بن أرتق صاحب ماردين في رمضان سنة ست عشرة وخمسمائة فولي بعده بماردين ابنه حسام الدين تمرتاش وملك سليمان ميافارقين‏.‏ وكان بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار فاستولى عليها‏.‏ ثم سار مالك بن بهرام بن أرتق إلى مدينة ران فحاصرها وملكها‏.‏ وبلغه أن سليمان ابن عمه عبد الجبار صاحب حلب قد عجز عن مدافعة الإفرنج وأعطاهم حصن الاماري فطمع في ملك بلاده وسار إليها في ربيع سنة عشرة وملكها من يده على الأمان‏.‏ ثم سار سنة ثمان عشرة إلى منبج وحاصرها وملك المدينة وحبس صاحبها حسان التغلبي‏.‏ وامتنع أهلها بالقلعة فحاصرها وسمع الإفرنج بذلك فساروا إليه فترك على القلعة من يحاصرها ونهض إليهم فهزمهم وأثخن فيهم وعاد إلى منبج فحاصرها‏.‏ وأصاحبه بعض الأيام سهم غرب فقتله فاضطرب العسكر فترقوا وخلص حسان من محبسه‏.‏ وكان تمرتاش ابن أبي الغازي صاحب ماردين معه على منبج فلما قتل حمل شلوه إلى حلب ودفنه بها واستولى عليها‏.‏ ثم استخلف عليها عاد إلى ماردين وجاء الإفرنج إلى مدينة صور فملكوها وطمعوا في غيرها من بلاد المسلمين‏.‏ ولحق بهم دبيس بن صدقة ناجياً من واقعته مع المسترشد فأطمعهم في ملك حلب وساروا معه فحاصروها وبنوا عليها المساكن‏.‏ وطال الحصار وقلت الأقوات واضطرب أهل البلد وظهر لهم العجز من صاحبهم ولم يكن في الوقت أظهر من برسقي صاحب الموصل ولا أكثر قوة وجمعاً منه فاستدعوه ليدافع عنهم ويملكوه‏.‏ وشرط عليهم أن يمكنوه من القلعة قبل وصوله‏.‏ ونزل فيها بوابه وسار فلما أشرف على الإفرنج ارتحلوا عائدين إلى بلادهم‏.‏ وخرج أهل حلب فتلقوا البرسقي فدخل واستولى على حلب وأعمالها ولم تزل بيده إلى أن هلك وملكها ابنه عز الدين‏.‏ ثم هلك فولى السلطان محمود عليها أتابك زنكي حسبما يأتي في أخبار دولته‏.‏ ورجع تمرتاش إلى ماردين واستمر ملكه بها وكان مستولياً على كثير من قلاع ديار بكر‏.‏ استولى سنة اثنتين ثلاثين على قلعة الساج من ديار بكر وكانت بيد بعض بني مروان من بقايا ملوك الأولين‏.‏ وكان هذا آخرهم بهذه القلعة وكان ملك ميافارقين قد سار لحسام الدين تمرتاش وملكها من يد أخيه سليمان ولم يزل تمرتاش ملكاً بماردين إلى أن هلك سنة سبع وأربعين وخمسمائة لإحدى وثلاثين سنة من ملكه والله تعالى ولي التوفيق‏.‏ ثم توفي حسام الدين تمرتاش سنة سبع وأربعين وخمسمائة كما قلنا فملك بعده ابنه بماردين ألبي بن تمرتاش وبقي ملكاً عليها إلى أن مات وولي بعده ابنه أبو الغازي بن ألبي إلى أن مات‏.‏ ولم يذكر ابن الأثير تاريخ وفاتهما‏.‏ وقال مؤرخ حماة لم يقع إلى تاريخ وفاتهما‏.‏

ولاية حسام الدين بولق أرسلان بن أبي الغازي بن ألبي
ولما توفي أبو الغازي بن ألبي قام بأمر ملكه نظام الملك البقش ونصب للملك مكانه ابنه بولق أرسلان طفلاً واستبد عليه‏.‏ وكان البقش غالباً على هواه حيث صار أمر الطفل في يده‏.‏ ولم تزل حالهم على ذلك إلى أن هلك حسام الدين في سنة خمس وتسعين وخمسمائة على عهد بولق هذا وكناه ابن الأثير حسام الدين ناصراً الملك قصد العادل أبو بكر بن أيوب ماردين وخشيت ملوك الجزيرة ولم يقدروا على منعه‏.‏ ثم توفي العزيز بن صلاح الدين صاحب مصر وولي أخوه الأفضل فاستنفر العادل أهل مصر ودمشق وأهل سنجار وبعثهم مع ابنه الكامل وحاصروا ماردين فبعث إليه البقش المستولي على بولق بالطاعة وتسليم القلعة لأجل معلوم على أن يدخل إليهم الأقوات‏.‏ ووضع العادل ابنه على بابها أن لا يدخلها زائد على القوت فصانعوا الولد بالمال وشحنوها بالأقوات‏.‏ وبينما هم في ذلك جاء نور الدين صاحب الموصل لإنجادهم وقاتلهم فانهزم عساكر العادل وخرج أهل القلعة فأوقعوا بعسكر الكامل ابنه فرحلوا جميعاً منهزمين‏.‏ ونزل حسام الدين بولق إلى نور الدين ولقيه وشكر وعاد‏.‏ ونزل نور الدين على دبيس ثم رحل عنها قاصداً حوران كما نذكره في أخبار دولته إن شاء الله تعالى والله أعلم‏.‏

وفاة بولق وولاية أخيه أرتق
ولما هلك بولق أرسلان نصب لؤلؤ الخادم بعده للملك أخاه الأصغر ناصر الدين أرتق أرسلان بن قطب الدين أبي الغازي‏.‏ ولم يذكر ابن الأثير خبر وفاته أيضاً وبقي مملكاً في كفالة البقش إلى سنة إحدى وستمائة والله أعلم‏.‏

مقتل البقش واستبداد أرتق المنصور واتصال الملك في عقبه
ثم استنكف أرتق من الحجر ومرض البقش سنة إحدى وستمائة فجاء أرتق لعيادته وقتل لؤلؤ خادمه في بعض زوايا بيته ورجع إلى البقش فقتله في فراشه استقل بملك ماردين وتلقب المنصور وتوفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وملك بعده ابنه لسعيد نجم الدين غازي بن أرتق وتوفي سنة ثمان أو ثلاث وخمسين وملك بعده أخوه المظفر قرا أرسلان بن أرتق فأقام سنة أو بعضها‏.‏ ثم هلك سنة ثلاث وسبعين وستمائة وملك بعده أخوه المنصور نجم الدين غازي بن قرا أرسلان إلى أن توفي سنة اثنتي عشرة سبعمائة لأربع وخمسين سنة من ولايته‏.‏ وملك بعده ابنه المنصور أحمد إلى أن توفي سنة تسع وستين لثلاث سنين من ولايته‏.‏ ثم ملك بعده ابنه الصالح محمود أربعة أشهر وخلعه عمه المظفر فخر الدين داود المنصور أحمد إلى أن توفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وملك بعده ابنه مجد الدين عيسى وهو السلطان بماردين لهذا العهد‏.‏ والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده‏.‏ ولما ملك هلاكو بن طلوخان بن جنكزخان مدينة بغداد وأعمالها أعطاه المظفر قرا أرسلان طاعته وخطب له في أعماله ولم يزالوا يدينون بطاعة بنيه إلى أن هلك أبو سعيد بن خربهر آخر ملوك التتر ببغداد سنة سبع وثلاثين فقطعوا الخطبة لهم واستبد أحمد المنصور منهم وهو الثاني عشر من لدن أبي الغازي جدهم الأول‏.‏ وأما داود بن سقمان فإنه ملك حصن كيفا من بعد سقمان أبيه وإبراهيم أخيه ولم أقف على خبر وفاته‏.‏ وملك بعده ابنه فخر الدين قرا أرسلان بن داود وملك أكثر ديار بكر مع حصن كيفا‏.‏ وتوفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة‏.‏ وملك بعده ابنه نور الدين محمد بعهده إليه بذلك وكانت بينه وبين صلاح الدين مواصلة ومظاهرة‏.‏ ظاهر صلاح الدين على الموصل على أن يظاهره على آمد فظاهره صلاح الدين وحاصرها من صاحبها ابن سنان سنة تسع وستين وصارت من أعمال نور الدين كما نذكر في دولة صلاح الدين‏.‏ ثم توفي نور الدين محمد سنة إحدى وثمانين وخلف ولدين فملك الأكبر منهما قطب الدين سقمان وأقام بتدبير دولته العوام ابن سماق الأسعد وزير أبيه وكان عماد الدين أخو نور الدين هو المرشح للإمارة إلا أنه سار في العساكر مدداً لصلاح الدين على حصار الموصل‏.‏ فلما بلغه الخبر بوفاة أخيه سار لملك البلد لصغر أولاد أخيه نور الدين فلم يظفر واستولى على خرت برت فانتزعها منهم وملكها وأورثها بنيه‏.‏ فلما أفرج صلاح الدين عن الموصل لقيه قطب الدين سقمان وأقره على ملك أبيه بكيفا وأبقى بيده آمد التي كان ملكها لأبيه وشرط عليه مراجعته في أحواله والوقوف عند أوامره‏.‏ وأقام أميراً من أصحاب ابنه قرا أرسلان اسمه صلاح الدين فقام بأمور دولته‏.‏ واستقر ملكه بكيفا وآمد وما إليهما إلى أن توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة تردى من جوسق له بحصن كيفا فمات‏.‏ وكان أخوه محمود مرشحاً لمكانه إلا أن قطب الدين سقمان كان شديد البغضاء له واشخصه إلى حصن منصور من آخر عملهم واصطفى مملوكه إياساً وزوجه بأخته وجعله ولي عهده‏.‏ ولما توفي ملك بعده مملوكه وشخص أهل الدولة فدسوا إلى محمود فسار إلى آمد وسبقه إياس إليها ليدافعه فلم يطق وملك محمود آمد واستولى على البلد كلها وحبس إياس إلى أن أطلقه بشفاعة صاحب بلاد الروم ولحق به وانتظم في أمرائه واستقل محمود بملك كيفا وآمد وأعمالهما ولقب ناصر الدين وكان ظالماً قبيح السيرة وكان ينتحل العلوم الفلسفية وتوفي سنة تسعة عشر وستمائة وولي مكانه المسعود وحدثت بينه وبين الأفضل بن عادل فتنة‏.‏ واستنجد عليه أخاه الكامل فسار في العساكر من مصر ومعه داود صاحب الكرك والمظفر صاحب حماة فحاصروه بآمد إلى أن نزل عنها وجاء إلى الكامل فاعتقله فلم يزل عنده حبيساً إلى أن مات الكامل فذهب إلى التتر فمات عندهم‏.‏ وأما عماد الدين بن قرا أرسلان الذي ملك خرت برت من يد قطب الدين سقمان ابن أخيه نور الدين فلم تزل في يده إلى أن توفي سنة إحدى وستمائة لعشرين سنة من ملكه إياها‏.‏ وملكها بعده ابنه نظام الدين أبو بكر وكانت بينه وبين ناصر الدين محمود ابن عمه نور الدين صاحب آمد وكيفا عداوة‏.‏ ودخل محمود في طاعة العادل بن أيوب وحضر مع ابنه الأشرف في حصار الموصل على أن يسير معه بعدها إلى خرت برت فيملكها له وكان نظام الدين مستنجداً به الدين قليج أرسلان صاحب بلاد الروم فمات وسار الأشرف مع محمود بعساكره وحاصروا خرت برت في شعبان سنة إحدى وستين وملكوا ربضها‏.‏ وبعث غياث الدين صاحب الروم إلى نظام الدين المدد بالعساكر مع الأفضل بن صلاح الدين صاحب سميساط فلما انتهوا إلى ملطية أفرج الأشرف ومحمود عن خرت برت إلى بعض حصون نظام الدين بالصحراء ببحيرة سهنين وفتحت في ذي الحجة سنة إحدى وستين فلما وصل الأفضل بعساكر غياث الدين ووصل الأشرف عن البحيرة راجعاً‏.‏ جاء نظام الدين بالعساكر إلى الحصن فامتنع عليه وبقي لصاحب آمد‏.‏ ثم ملك كيقباد صاحب الروم حصن خرت برت من أيديهم سنة إحدى وثلاثين وانقرض منها ملك بني سقمان والله وارث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون‏.‏


الساعة الآن 07:12 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى