منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب كليلة ودمنة (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=13899)

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:26 PM

باب الناسك وابن عرس

قال الملك للفيلسوف: قد سمعت هذا المثل فاضرب لي إن رأيت مثل العجول في أمره العامل بغير تثبيت ولا روية.

قال بيدبا الفيلسوف: من لم يكن في أمره متثبتاً لم يبرح نادماً. ومن امثال ذلك مثل الناسك وابن عرس.

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

قال الفيلسوف: زعموا أنه كان بأرض جرجان ناسك، وكانت له امرأة لبثت عنده زماناً لا تحمل، ثم حملت فاستبشر الناسك بذلك وقال لها: أبشري فإني أرجو أن تلدي غلاماً ويكون لنا فيه متعة وقرة عين، وأنا متقدم في التماس الظؤورة ومتخيّرٌ من الأسماء اسماً حسنا.

قالت المرأة: أيها الرجل من علّمك أن تتكلم فيما لا تدري؟ ومن يعلم أيكون المولود ذكراً أم لا؟ اسكت عن هذا وارض بما الله قاسم لك، فإن الرجل العاقل لا يتكلم فيما لا يدري. فمن تكلم بما لا يدري وقضى على الأمر في نفسه بالتقدير أصابه ما أصاب الناسك المهريق على رأسه السمن والعسل.

قال الناسك: وكيف كان ذلك؟

الناسك وجرة السمن

قالت المرأة: زعموا أن ناسكاً كان يجري عليه من بين رجل من التجار رزق من السمن والعسل والسويق. وكان يُبقي من ذلك السمن والعسل فيجعلهما في كوز له قد علّقه حتى امتلأ الكوز من ذلك. ووافق غلاء في السمن والعسل فقال: "أنا بائع ما في هذه الجرة بدينار أقل ما أنا بائعه فأشتري بالدينار عشرة أعنز فيحملن ويلدن لخمسة أشهر". فحزر على هذا الحساب لخمس سنين فوجد ذلك أكثر من أربعمائة عنز في حسابه، ثم قال: "فاشتري مئة من البقر بكل أربعة أعنز ثوراً وبقرة فأصيب بذراً فأزرع على الثيران وأنتفع ببطون الإناث وألبانها. فلا يأتي علي خمس سنين، إلا وقد أصبت منها ومن الزرع مالاً كثيراً، فأبتني بيتاً فاخراً وأشتري عبيداً ورياشاً ومتاعاً. فإذا فرغت من ذلك تزوجت من امرأة ذات حسب ونسب. ثم تلد لي ابناً سوياً مباركاً مصلحاً فأسميه بما فيه وأؤدبه أدباً حسناً، وأشد عليه في الأدب. فإن رأيته عقوقاً مهتبلاً ضربت رأسه بهذا العصاة هكذا". ورفع العصا يشير بها فأصابت الكوز فانكسر وانصبّ السمن والعسل على رأسه، وذهب تدبيره وكل أمانيه باطلاً.

وإنما ضربت لك هذا المثل لتنتهي عن التكلم فيما لا تدري، وما لا يوافق القدر، فاتّعظ بما اتعظ الناسك.

ثم إن المرأة ولدت غلاماً سوياً فسرّ به أبوه، حتى إذا كان بعد أيام قالت المرأة لزوجها: اقعد عند الصبي حتى أغتسل وأرجع إليك. فانطلقت المرأة ولم يقعد الرجل إلا قليلاً حتى جاء رسول السلطان فذهب به ولم ابنه أحداً، إلا أنه قد كان له ابن عرس داجن عنده يقوم عليه قيام الرجل على ولده. فتركه الرجل عنده وذهب إلى السلطان. وكان في بيته جحر أسود فخرج الأسود يريد الغلام فوثب عليه ابن عرس فقطعه. وأقبل الناسك عند انصرافه حتى أتى بيته، فدخله فتلقاه ابن عرس كالمبشّر له بما صنع. فلما نظر إليه الناسك متلطّخاً بالدم سلب عقله ولم يلبث ولم يتبين، وضرب ابن عرس ضربة على رأسه بعصاه فوقع منها ميتاً. ودخل الناسك بيته فرأى الغلام والأسود مقطعاً فعرف الأمر وأقبل على رأسه نتفاً وعلى صدره ضرباً وجعل يقول: ليت هذا الغلام لم يولد ولم أنل هذا الغدر والكفر. فدخلت المرأة وهو يبكي فقالت له: ما يبكيك؟ وما شأن هذا الأسود وابن عرس مقتولين؟ فأخبرها خبرها وقال: هذه ثمرة العجلة.

فهذا مثل من عمل عملاً بغير تثبّت ولا روية في أمره.

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:26 PM

باب إيلاذ وشادرم وإيراخت

قال الملك دبشليم لبيدبا الفيلسوف: قد فهمت ما ذكرت من أمر العجول غير المتأيد ولا المتثبت فأخبرني ما الذي إذا عمل به الملك كرم على رعيّته وثبّت ملكه، ألحلم أم المروءة أم الحميّة أم الجود؟

فقال الفيلسوف: إنّ أفضل ما يحفظ به الملك ملكه الحلم والعقل لأنهما رأس الأمور وملاكها مع مشاورة الملك. فإن الحلم أفضل ما يستعين به على أموره. ثم من صلاح المرء في معيشته المرأة الصالحة الفاضلة الرأي المؤاتية. فإن الرجل وإن كان شجاعاً رئيساً ثم لم يكن له من يشاوره حليماً عاقلاً وشاور غير لبيب، فإنه يبهظه الأمر اليسير حتى ترى فيه القبح والضعف لجاهلته وخطإ رأي أصحابه. فإن أصاب ظفراً أو لقي رشداً لقدر ساقه إليه صارت عاقبة أمره إلى ندامة. وإذا كان على خلاف ذلك من الفضل وآزره في التدبير وزير عاقل ثم أعانه القضاء أصاب الفلاح على من خاصمه والغلبة على من ناوأه والسرور لمن أحزنه، كما زعموا أنه جرى بين شادرم ملك الهند وإيراخت امراـه وإيلاذ صاحب سره ورأيه.

فقال الملك: وكيف كان ذلك؟

قال الفيلسوف: زعموا أن إيلاذ كان ناسكاً مجتهداص حسن الخلق ليّناً حليماً كاملاً. فبينما شادرم الملك ذات ليلة نائم في غرفة له إذ رأى ثمانية أحلام يستيقظ عند كل حلم منها. فلما أصبح دعا البراهمة، وهم النساك، فقص عليهم ما رأى وأمرهم أن يعبروها، فقالوا: قد رأيت أيها الملك أمراً منكراً معجباً لم نسمع بمثله فيما مضى. وإن أحببت أن تنطلق فنفكّر فيه ستة أيام ونأتيك في اليوم السابع فنخبرك به، ولعلنا نستطيع أن ندفع ما تتخوف منه.

قال الملك: فاعملوا برأيكم فيما تعلمون أنه يوافقني.

قالوا: نعم وخرجوا من عنده واجتمعوا وقالوا: لم يطل العهد منذ قتل منا اثني عشر ألفاً، وقد استمكنا منه إذ أفضى إلينا بسرّه وعرّفنا فرقه من رؤياه، ولعلنا ننتقم منه إن نحن أغلظنا له القول فيحمله الخوف على أن يتابعنا ما نريد، فنأمره أن يدفع إلينا من يكرم عليه من أهله ووزرائه ونقول له: إنا قد نظرنا في كتبنا فلم نجد شيئاً يصرف ما رأيت إلا قتل من ينتمي لك. إن قال: ومن تريدون؟ قلنا: إيراخت امرأتك وابنها جوبر وابن أختك إيلاذ صاحب أمرك، فإنه ذو حيلة وعلم، وكال كاتبك ولسانك. ونريد سيفك والفيل الأبيض الذي تقاتل عليه، وكنان أبزون الفقيه. فتجعل دماءهم في مرجل نقعدك فيه، فإذا أردنا أن نخرجك منه اجتمعنا معشر البرهميين من الآفاق الأربعة فرقيناك ومسحنا عليك وغسّلناك بالماء والدهن الطيب، ثم صيّرناك إلى مجلسك فيُذهب الله عنك ما تحذر مما رأيت. فإن أنت صبرت على هذا وطبت به نفساً خلصت من البلاء ونجوت من الأمر العظيم الذي قد رهقك وأشرف عليك واستخلفت مكانهم مثلهم. وإن لم تفعل فإنا نتخوف أن تغصب فتهلك وينزع ملكك ويستأصل عقبك.

فلما أبرم البرهميون ذلك من رأيهم اتفقوا عليه أتوا الملك فقالوا: إنا قد نظرنا في كتبنا وتبحّرناها وفكرنا في رؤياك وأعملنا العقول فيها، فلسنا نقدر على أن نعلمك ما رأينا حتى تخلينا. ففعل ذلك فقصوا عليه الأمر على ما هيّأوا له.

فقال الملك: الموت خير مما أسمع. كيف أبدأ فأقتل هذه النفوس التي هي عندي عدل نفسي وأحتمل الإصر والوزر. ولا بد من الموت على كل حال، ولست الدهر على ملكي هذا، وإنه سواء عليّ الهلاك وفراق الأحبة.

فقال الرهميون: إنت أنت لم تغضب أخبرناك أن رأيك مخطئ وأنك لم تصب إن أهنت نفسك وأكرمت عليها غيرها. أولست تعلم أن كل شيء معها يسير وأنه لا يفيدها شيء، وإن عظم خطره أو صغر. فلعمري لئن فديتها بمن سمّيناهم لك إنه لأمثل وأخير، فتبقى في ملكك وسلطانك ويصلح لك أمرك، فانظر لها ودع ما سواها فإنه لا شيء يعدلها.

فلما رأى الملك أن البرهميين قد أغلظوا في القول واجترأوا عليه فيه قام فدخل قصره ووقع وجهه، وجعل يتقلب مهموماً محزوناً ويفكر في رأيه لا يدري ما يصنع: أيخاطر بنفسه وملكه أو ينحاز إلى ما سألوا من قتل أحبائه. فمكث بذلك أياماً وفشا الحديث في أرضه وقيل: لقد نزل بالملك أمر هو فيه في كرب.

فلما رأى إيلاذ الذي قد وقع فيه الملك من ذلك فكّر ونظر وكان فطناً عالماً مجرّباً داهياً فقال: ما ينبغي أن أستقبل الملك بشيء دون أن يدعوني ولكني أنطلق إلى إيراخت امرأة الملك فأسألها عن ذلك. فأتاها فقال: إني أعلم أن الملك لم يركب أمراً صغيراً ولا كبيراً مذ كنت معه إلى بمشورتي. فإني كنت صاحب سره ولم يكن يكتمني شيئاً طرأ عليه، وكان إذا حاربه امر مفظع عزى نفسه فيه واصطبر على ما نزل به وذكر لي ذلك فأسليه عنه بأرفق ما أقدر عليه. وإني أراه مستخلياً بالبراهمة منذ سبعة أيام وقد احتجب فيها عن الناس. وأنا خائف أن يكون قد أطلعهم على دخلة أمره ولست آمن عليه منهم. فاذهبي إليه وسليه عن حاله وما بلغه وما الذي ذكروا له، ثم أعلميني، فإني لا استطيع أن أدخل عليه. وأحسبهم قد زيّنوا له أمراً قبيحاً وحملوه على عضيهة وأغضبوه بشيء شبهوا له فيه. فإن من أخلاق الملك إذا اغتاظ أن لا يلتفت إلى أحد ولا يسأل عن شيء ولا ينظر فيه، وسواء عليه جسيم الأمور وحقيرها. ولست أشك أنهم لم ينصحوه لما في قلوبهم من الحقد عليه والبغض له، وأنهم إن قدروا عليه وعلى هلكته التمسوا إنزالها فيه وإدخالها عليه.

قالت إيراخت: إنه كان بيني وبين الملك كلام ولست أريد أن آتيه ما دام مذنباً لم يرع لي خاطراً.

قال إيلاذ: لا تحملن الحقد في مثل يومك هذا. فلن يقدر أحد على أن يدخل عليه غيرك، وقد كنت سمعته يقول غير مرة: "إني إذا حزنت واهتتمت فأتني إيراخت أذهبت عني ذلك". فانطلقي إليه وكلميه بما تظنين أنه يطيب نفساً به وتجلّي عنه ما به.

فلما سمعت ذلك إيراخت نهضت إلى الملك ودخلت عليه، وجلست عند رأسه وقالت: ما أمرك أيها الملك السعيد الرشيد المحمود؟ وما الذي قال لك البرهميون؟ فإني أراك مهموماً حزيناً. إن كان الذي ينبغي أن تحتاله أمراً فيه جلاء همك وسرورك ونفعك فيه استئصال أنفسنا فافعل ذلك، وإن يكن بك غضب علينا نرضك ونأت ما يسرّك.

فقال الملك: لا تسأليني أيتها المرأة عن شيء فتزيديني خيالاً إلى ما بي. فإنه لا ينبغي أن تعلمي ذلك الأمر العظيم خطره، الشديد هوله، ولا تجديك معرفته نفعاً.

فقالت إيراخت: أو قد صار أمري عندك إلى أن تجيبني بمثل ما قد سمعت؟ أو ما تعلم بأن أفضل الرأي للملك إذا وقع بالأمر الذي يدهمه أن يشاور أهل نصيحته ومودّته ومن يهمه وما أحزنه؟ فإن المذنب لا يقنط من الرحمة ولكنه يتوب مما يخاف. فلا يدخلنك من الهم والحزن ما أرى بك. فإنهما لا يردان شيئاً بل يشتمان العدو ويسوءان الصديق. وأهل العلم والتجارب ينظرون في ذلك ويصبّرون أنفسهم على ما فاتهم من عرض الأطماع ونزل بهم من حوادث الأزمان.

فقال الملك: أيتها المرأة لا تسأليني عن شيء فإن في الذي تفحصين عنه دماري وهلاكك وهلاك ولدك وكثير من أهل ودي. فإن البرهميين زعموا أنه لا بد من قتلك وقتله ولا خير في العيش بعدكم ولا لذة لي عند فراقكم، وذلك أفظع الأمور وأجلها خطباً في نفسي.

فلما سمعت ذلك إيراخت جزعت ومنعها عقلها أن تظهر للملك جزعها، فقالت: لا يحزنك الله أيها الملك ولا يسؤك. أنفسها لك الفداء والوفاء. فإن ذلك يسير في بقائك وصلاحك. وقد جعل الله لك من الجواري ما فيه الخلف والعوض. ولكني أطلب إليك بعد موتي ألا تثق بالبرهميين ولا تستشيرهم ولا تقتل أحداً حتى تشاور فيه أهل نصيحتك والثقة لك وتعرف ما تقدم عليه. فإن القتل عظيم الخطب شديد الوزر، ولست تقدر على رد ما أهلكت. وقد قيل: "إن وجدت جوهراً لا تظن فيه خيراً وأردت أن تلقيه فلا تفعل ذلك حتى تريه من يبصره"، ولا تقرّ عين عدوك من البرهميين وغيرهم. واعلم أنهم لم ينصحوا لك أبداً وإنما قتلت منهذ منذ قريب اثني عشر ألفاً، أفتظن أنهم نسوا ذلك؟ ولعمري ما كنت جديراً أن تحدثهم برؤياك ولا تطلعهم على سرك، فإنهم يريدون بما عبّروا من رؤياك هلاكك وبوار أحبابك واستئصال وزرائك أهل الحلم والعلم والحكمة ومراكبك التي تقاتل عليها. ولكن انطلق إلى كنان أبزون فاذكر له أمرك وسله عما بدا لك، فإنه لبيب أمين وليس عند أحد شيء إلا عنده أفضل منه، وإن كان من البراهمة فإنه ناسك فقيه. فإن أشار عليك بمثل رأيهم فعلت، وإن خالف رأيه قولهم نظرت ولم تعجّل في أمرك.

فلما سمع الملك ذلك منها أعجبه فأمر بإسراج فرسه ثم ركب وانطلق إلى كنان أبزون حثيثاً. فلما انتهى إليه نزل عن فرسه ثم سجد له وحياه وطأطأ رأسه. فقال كنان أبزون: ما جاء بك أيها الملك؟ ومالي أراك متغير اللون ممتلئاً حزناً ولا أرى عليك تاجك ولا إكليل الملك؟

فقال له الملك: كنت ذات ليلة نائماً على ظهر إيواني فسمعت من الأرض ثمانية أصوات أستيقظ مع كل صوت منها ثم أرقد. فرأيت ثمانية أحلام فاقتصصتها على البرهميين. فأنا أخاف أن يصيبني أمر عظيم، إما أن أقتل في حرب وإما أن أغصب في ملكي فأغلب عليه.

ثم قصّ الملك عليه الرؤيا فقال له البرهمي: لا يحزنك هذا الأمر ولا يوجلنّك، فإنك لا تموت الآن ولن تسلب ملكك ولن يصيبك شيء من الآثام والشرور التي تحذر. فأما الأحلام الثمانية التي رأيت فإني منبئك بتأويلها. تدل السمكتان الحمراوان اللتان قامتا على ذنبيهما أنه يأتيك من قبل هميون رسول يهديك من قبله هدية ثمنها أربعة آلاف رطل من ذهب. وأما البطتان اللتان رأيت أنهما طارتا من وراء ظهرك فوقعتا بين يديك فإنه يأتيك من عند ملك بلخ من يقوم بين يديك بفرسين ليس في الأرض مثلهما. وأما الحية التي رأيتها دبّت على رجلك اليسرى فإنه يأتيك من قبل ملك صنجين من يقوم بين يديك بسيف خالص الحديدة لا يوجد مثله. وأما الدم الذي رأيت أنه يخضب جسمك فإنه يأتيك من قبل ملك كاسرون من يقوم بين يديك بلباس معجب يسمى حلة أرجوان يضيء في الظلمة. واما ما رأيت من غسلك جسمك بالماء فإنه يأتيك من قبل ملك راز من يقوم بين يديك بثياب من لباس الملوك. وأما ما رأيت من أنك على جبل أبيض فإنه يأتيك من خيار الملوك من يقوم بين يديك بإكليل من ذهب مكلل بالدر والياقوت. وأما الطير الأبيض الذي ضرب رأسك بمنقاره فلست بمفسّره لك اليوم وليس بضارّك فلا توجلنّ منه، ولكن فيه بعض السخط والإعراض عمن تحب. فأما البرد والرسل فإنهم يأتونك بعد سبعة أيام جميعاً فيقومون بين يديك.

فلما سمع الملك ذلك سجد بين يدي كنان أبزون وانصرف وقال: إني لناظر فيما قال. فلما كان اليوم السابع لبس الملك ثيابه وأخذ زينته وقعد في مجلسه وأذن للعظماء والأشراف، فجاءته تلك الهدايا التي أخبره عنها كنان أبزون فوضعت بين يديه. فلما رأى الملك أولئك البرد والرسل وتلك الهدايا اشتد فرحه لذلك وقال في نفسه: "لم أوفّق حين قصصت رؤياي على البرهميين فأمروني بما أمروني به. ولولا أن الله حماني ورحمني وتداركني برأي إيراخت كنت هلكت وزالت دنياي. فلذلك ينبغي لكل أحد أن يسمع من الأخلاء والأحباء وذوي القرابات رأيهم ويقبل مشورتهم. فإن إيراخت أشارت علي برأي فقبلته واغتبطت به فثبت لي ملكي بأي الأخلاء والنصحاء واستبان لي أيضاً علم كنان أبزون وصدق قوله". ثم دعا الملك جوبر وإيلاذ وكال الكاتب فقال لهم إنه لا ينبغي لنا أن ندخل هذه الهدايا خزائننا ولكني سأقسمها بينك أنت الذي وطّنتم أنفسكم على الموت في سببي وبين إيراخت التي أشارت عليّ بالرأي الذي انتفعت به في بقاء ملكي والذي ترون من الفرح والسرور.

فقال إيلاذ: إنه لا ينبغي لنا معاشر العبيد أن نعجب لما كان منا في ذلك. فإن العبد ينبغي له أن يسلم نفسه في الموت مكان سيده. فأما هذه العطية فلا ينبغي لنا معشر العبيد أن ندنو منها. فأما جوير ابنك فهو لنا أهل فليأخذ ما أعطيته.

فقال الملك: إنه قد شاع لنا في هذا ثناء وخير كبير فلا تحتشمنّ يا إيلاذ وخذ نصيبك وقرّ به عيناً.

فقال إيلاذ: ليكن من ذلك ما أحب الملك أن يبدأ بأخذ ما يريد فليفعل. فأخذ الملك الفيل الأبيض وأعطى جوبر أحد الفرسين وأعطى إيلاذ السيف الخالص الحديدة وأعطى كال الكاتب الفرس الآخر وبعث إلى كنان أبوزون باللباس الذي تلبسه الملوك. وأما الإكليل وسائر اللباس وما كان يصلح للنساء فقال لإيلاذ: خذ الإكليل والثياب احملها معي واتبعني إلى النساء. فدعا الملك زوجتيه إيراخت وكورقناه فجلستا بين يديه، وقال الملك: يا إيلاذ ضع الإكليل والكسوة بين يدي إيراخت فلتأخذ أيها شاءت. فلما نزرت إيراخت إلى الإكليل وعجبه نظرت إلى إيلاذ بمؤخر عينها ليريها أيهما أفضل فأراها إيلاذ الثياب وأشار إليها بأخذها، فحانت من الملك التفاتة فرأى إيلاذ. فلما رأت إيراخت أن الملك قد أبصر إيماءه إليها بعينه تركت الذي أراها إيلاذ وأخذت الإكليل. فعاش إيلاذ بد ذلك أربعين سنة كلما دخل على الملك كسر عينيه لئلا يظن الملك أنه أراها شيئاً. ولولا عقل إيراخت وعقل إيلاذ لم ينج واحد منهما من الموت.

وكان الملك يقضي ليلة عند إيراخت وليلة عند كورقناه، فأتى الملك إيراخت في ليلة وقد صنعت له أرزاً فدخلت على الملك وفي يدها صحفة من ذهب والإكليل على رأسها فقامت على رأس الملك بالصحفة وهو يطعم منها. فلما رأت كورقناه الإكليل على رأس إيراخت غارت على إيراخت فلبست تلك الثياب فظهر حسنها مثل الشمس ومرّت بين يدي الملك فاشتاق إلى كورقناه وقال لإيراخت: لقد كنت جاهلة حين أخذت الإكليل وتركت الكسوة التي ليس في خزائننا مثلها.

فلما سمعت إيراخت ذلك من قوله ومدحه كورقناه وتسفيه رأيها ألبست الغيظ والغضب فضربت الصحفة التي كانت في يدها رأس الملك فسال الأرز على رأسه وعلى جسمه. وكان ذلك تصديق الحلم الذي كان كنان أبوزن شرح للملك بطرف منه ولم يكن بيّنه له. فدعا الملك إيلاذ فقال: يا إيلاذ ألا ترى إلى ملك العالم كيف حقرته هذه المرأة وعملت به ما علمت، فانطلق بها واضرب عنقها ولا ترحمها.

فخرج إيلاذ بإيراخت من عند الملك وقال في نفسه: ما أنا بقاتلها حتى يسكن غضب الملك، فإنها امرأة عاقلة سعيدة من الملكات ليس لها من بين النساء عِدل في الحلم والعقل وليس الملك بصابر عنها. وقد خلص بها إلى اليوم أناس كثير من الموت وعملت أعمالاً صالحة ورجاؤنا فيها اليوم عظيم، ولست آمن أن يقول: "ما استطعت أن تؤخر قتلها؟". فلست قاتلها حتى أنظر ما رأي الملك فيها، فإن ندم على قتلها وحزن جئته بها حية، وكنت قد عملت ثلاثة أعمال عظام: نجيت إيراخت من القتل، وسليت حزن الملك، وافتخرت بذلك على الناس. وإن لم يذكر ها أمضيت أمره فيها.

فانطلق بها إيلاذ سراً إلى منزله فوكل بها رجلين من أمناء الملك الذي يلون نساءه وأمر أهله بحفظها وإكرامها حتى ينظر كيف يكون آخر أمرها. ثم خضّب إيلاذ سيفه بالدم ودخل على الملك كئيباً حزيناً، فقال للملك: قد أمضيت أمرك في إيراخت.

فلم يلبث الملك أن سكن غضبه فذكر جمال إيراخت ورأيها وعظم عنائها وجسيم منفعتها فاشتد حزنه وجعل يقوّي نفسه ويتجلد وهو على ذلك يستحيي أن يسأل إيلاذ: أأمضى أمره حقاً فيها أم لا. وجعل يرجو لها البقاء لعلمه بعقل إيلاذ أن لا يكون قتلها. ونظره إيلاذ بفضل علمه فقال: لا أحزن الله الملك ولا يهتمّنّ فإنه ليس في الغم والحزن منفعة، ولكنهما ينحلان الجسم ويفسدانه مع ما يدخل على أهل الملك أيضاَ من الحزن إذا حزن، وفرح أعداؤه وشمتوا به، وإنه إذا سمع بهم لم يعدم من صاحبه عقلاً ولا علماً. فاصبر أيها الملك ولا تحزن على ما لست بناظر إليه أبداً وإن أحبّ الملك حدّثته بحديث شبيه بأمره هذا.

قال الملك: حدثني به.

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:27 PM

مثل الحمامتين

قل إيلاذ: زعموا أن حمامتين ذكراً وأنثى ملآ عشهما من البر والشعير فقال الذكر للأنثى: إننا إذا وجدنا في الصحارى ما نعيش به فلسنا بآكلين مما في عشنا شيئاً. فإذا جاء الشتاء ولم نصب في الصحارى شيئاً أقبلنا على ما جمعناه فأكلناه. فرضيت الأنثى بذلك وقالت: نعم ما رأيت وسنفعل ما ذكرت. وكان البر والشعير ندياً حين وضعاه فامتلأ عشهما فانطلق الذكر إلى مكان تغيب فيه فأبطأ. فلما كان الصيف يبس ذلك الحب وذبل فنقص مما كان. ثم رجع الذكر فرأى ذلك الحب ناقصاً فقال للأنثى: قد كنا أجمعنا على أن لا نأكل من عشنا شيئاً فلم أكلت منه. فحلفت الأنثى أن "ما أكلت منه حبة"، فلم يصدقها وجعل ينقرها حتى قتلها. فلما جاء الشتاء والأمطار ندي الحب فامتلأ العش كما كان. فلما رأى الذكر أن العشّ قد امتلأ اضطجع إلى جانبها نادماً وقال: كيف ينبغي لي العيش إذا طلبتك فلم أقدر عليك. فمن كان عاقلاً علم أنه لا ينبغي أن يعجّل بالعذاب والعقوبة لا سيما بعذاب من يخاف أن يندم على عذابه كما ندم الحمام الذكر.

وقد سمعت أن رجلاً كان على ظهره كارة من عدس فدخل بين الشجر فوضع حمله ثم رقد. فنزل قرد من شجرة كانت فوق رأسه فأخذ ملء كفه من ذلك العدس ثم صعد إلى الشجرة فسقطت من يده حبة فطلبها فلم يجدهخا وانتثر العدس من يده. وأنت أيها الملك تحت أمرك عدد لا يحصى من الإماء وتطلب ما لا تجد.

فلما سمع الملك ذلك خشي أن تكون إيراخت قد هلكت فقال إيلاذ: في سقطة واحدة كانت مني فعلت ما أمرتك به من ساعتك وتعلقت بكلمة واحدة ولم تتثبت في الأمر؟

قال إيلاذ: إن الذي قوله واحد لا يختلف فيه هو واحد فقط.

قال الملك: ومن ذلك؟

قال إيلاذ: ذلك الله الذي لا يبدل كلامه ولا يخلف قوله.

قال الملك: لقد اشتد حزني بقتل إيراخت أم جوبر.

قال إيلاذ: إثنان فرحهما في الدنيا ونعيمهما قليل حين يعاينان الشر: الكافر الذي يقول لا حساب ولا عقاب والذي لم يعمل براً قط.

قال الملك: لئن رأيت إيراخت حية لا أحزن على شيء أبداً.

قال إيلاذ: إثنان لا ينبغي لهما أن يحزنا: المجتهد بالبر كل يوم والذي لم يأثم قط.

قال الملك: أفما أنا بناظر إلى إيراخت بعد هذا؟

قال إيلاذ: إثنان لا ينظران أبداً: الأعمى والذي لا عقل له. فكما أن الأعمى لا يبصر سماء ولا نجوماً ولا أرضاً ولا يبصر البعيد من القريب، ولا أمامه ولا خلفه، كذلك الذي لا عقل له لا يبصر ولا يعرف العالم من الجاهل ولا الحسن من القبيح ولا المحسن من المسيء.
قال الملك: لو رأيت إيراخت لاشتد فرحي.

قال إيلاذ: إثنان هما فرحان: البصير والعالم. فكما أن البصير يبصر نور العالم وما فيه، كذلك العالم يبصر البر والإثم ويعرف أمر الآخرة ويستبين له، ومتى تبعه نجّاه وهداه إلى صراط مستقيم.

فقال الملك: ما شعبت من رؤية إيراخت قط.

قال له إيلاذ: إثنان لا يشبعان أبدا: الذي لا همّ له إلا جمع المال والذي يأكل ما وجد ويسأل ما لا يجد.

فقال الملك: إنه لينبغي لنا أن نتباعد منك يا إيلاذ فإن من مثلك حذّر ونهي.

فقال إيلاذ: إثنان ينبغي أن نتباعد منهما: الذي يقول لا بر ولا إثم، والذي لا يستطيع صرف بصره عما ليس له ولا أذنه عن استماع السوء، ولا ميله إلى نساء غيره ولا قلبه عما تهمّ به نفسه من الإثم والحرص. وأخرى من ذلك الندامة الهرب من عذاب جهنم.

قال الملك: صرت من أمر إيراخت صفراً.

قال إيلاذ: أربعة أشياء هم أصفار: النهر الذي ليس فيه ماء، والأرض التي ليس فيها ملك، والمرأة التي ليس لها بعل، والجاهل الذي لا يعرف الخير من الشر.

قال الملك: إنك لتلقي الجواب يا إيلاذ.

فقال إيلاذ: ثلاثة يلقون الجواب: الملك الذي يقسم ويعطي من خزائنه، والمرأة المهيّاة لبعض من تهوى من ذوي الأحساب، والرجل العالم الموفّق المعلم دين الله.

قال الملك: إنك لتحزنني بتعزيتك يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة ينبغي لهم أن يحزنوا: الذي فرسه سمين حسن المنظر سيء المخبر، وصاحب المرقة التي كثر ماؤها وقلّ لحمها فصارت لا طعم لها، والذي لا يقدر على إكرام زوجته ذات الحسب فا تزال تسمعه ما يؤذيه.

قال الملك: أهلكت إيراخت ضيعة؟

قال إيلاذ: ثلاثة يضيعون في غير الحق: الرجل الذي يلبس الثياب البيض ولا يزال عند الكير جالساً فيسوّدها بالدخان، والقصّار الذي يلبس الخفّين الجديدتين ولا يزال قدماه في الماء، والرجل التاجر الغني الذي لا يزال غائباً بأرض بعيدة فلا يستمتع بغناه.

قال الملك: إنك لأهل أن تعذّب أشد العذاب يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة ينبغي لهم أن يعذّبوا: المجرم الذي يعاقب من لا ذنب له، والمتقدم إلى مائدة لم يدع إليها، والذي يسأل أصدقاءه ما ليس عندهم ولم يدع مسألتهم.

قال الملك: إنه لينبغي لك أن تسفّه يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة ينبغي لهم أن يسفّهوا: النجار الذي ينزل البيت الصغير بأهله ثم لا يزال ينجر الخشب فيملأ بيته من الحطب ويصير هو وامرأته في ضيق، والطبيب الذي يعمل بالوسى ولا يحسن الاتقاء فيقطع لحوم الناس، والغريب المقيم بين ظهر عدوه ولا يريد الرجوع إلى أهله ووطنه. وإن مات في غربته أيضاَ ورثوه فيصير ماله للغرباء وينسى ذكره.

قال الملك: كان ينبغي أن تسكن حتى يذهب غضبي يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة ينبغي لهم أن يسكنوا: الذي يرقى الجبل الطويل، والذي يصيد السمك، والذي يهمّ بالعمل الجسيم.

قال الملك: ليتني قد رأيت إيراخت.

قال إيلاذ: ثلاثة يتمنون ما لا يجدون: الفاجر الذي لا ورع له ويريد إذا مات منزلة الأبرار ويرجو مثل ثوابهم، والبخيل الذي ينزل نفسه منزلة الكري، والظالمون الذي يسفكون الدماء بغير حقها ويرجون أن تكون أرواحهم مع أرواح السعداء أهل الرأفة والرحمة.

قال الملك: أنا الذي أوجعت نفسي بإيراخت.

قال إيلاذ: ثلاثة هم الذين أوجعوا أنفسهم: الذي يأتي القتال ولا يتقي فيقتل، والكثير المال الذي لا ولد له ولا أخ وتجارته في الربا والغلاء على الناس فربما حسده بعضهم فأهلكه، والشيخ الكبير يخطب المرأة الشابة فلا تزال تتمنى موته.

قال الملك: إني لحقير في عينك يا إيلاذ حين تجترئ أن تقول مثل هذه المقالة بين يدي.

قال إيلاذ: ثلاثة يحقرون أربابهم: الذي يجترئ ويهذي بالكلام ويقول ما يعلم وما لا يعلم، والمملوك الغني الذي سيده فقير فلا يعطي سيده من ماله شيئاً ولا يعينه به، والعبد الذي يغلظ لسيده في القول ويخاصمه ثم يستطيل عليه في الخصومة.

قال الملك: إنك لتسخر بي يا إيلاذ، وددت أن إيراخت لم تكن ماتت.

قال إيلاذ: ثلاثة ينبغي لهم أن يسخر منهم: الذي يقول: "قد شهدت زحوفاً كثيرة فأكثرت القتل والسبي" فلا يُرى في جسده أثر من القتال، والذي يخبر أنه عالم بالدين ناسك مجتهد وهو يعيش التنعّم والرفاهية تراه أسمن من الأثمة الفجار، فذلك ينبغي أن يخسر منه ويتهم فيما أخبر عن نفسه. فإنّ من أذاب نفسه في طاعة الله يكون مهزول الجسم قليل الطعم، والمرأة التي تسخر من ذات الزوج ولعلها أن تكون بذيّة.

قال الملك: إنك لمتجبر يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة يتجبرون: الجاهل الذي يعلّم السفيه ويقبل منه ويماريه فيصير أمره إلى ندامة، والذي يهيج السفيه ويتحرّش به متعمداً أذاه فيؤذي بذلك نفسه، والذي يفضي سره إلى من لا يختبره ويدخله في الأمر العظيم ويثق به ثقته بنفسه.

قال الملك: أنا الذي جلبت المشقة على نفسي.

قال إيلاذ: إثنان هما اللذان يجلبان المشقة على أنفسهما: الذي ينكص على عقبيه ويمشي القهقري فربما عثر فيتردى في بئر أو يقع في مهواة، والذي يقول "أن من كماة الحرب" فيغرّ غيره، فإذا حضر الناس للقتال تلفّت يميناص وشمالاً فيحتال للفرار.

قال الملك: لقد تصرّم ما بيني وبينك يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة لا يلبث ودهم أن يتصرّم: الخليل الذي لا يلاقي خليله ولا يكاتبه ولا يراسله، والخل الذي يكرمه أحباؤه ولا ينزل ذلك منزلته ولا يقلبه بقبوله ولكنه يستهزئ بهم ويسخر منهم، والقاصد خلانه في النعيم والفرح وقرة العين يسألهم الأمر الذي يقدرون عليه ثم لا يثيبهم على ذلك شيئا.

قال الملك: قد عملت بقتل إيراخت عملاً يستدل به على خفة حلمك يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة يعملون بجرأتهم ما تستبين به خفة أحلامهم: المستودع ماله من لا يعرف أمانته، والأبله القليل العقل الجبان الذي يخبر الناس أنه شجاع مقاتل بصير بجمع المال واتخاذ الأخلاء وبناء البنيان وهو كاذب في كل ما ذكر، والذي يزعم أنه تارك أمور الجسد مقبل على أمور الروح وهو لا يلقى إلا متابعاً لهواه تاركاً لأمر الله وتنفيذ وصيته.

قال الملك: إن ك لغير عاقل يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة لا ينبغي لهم أن يعدوا من ذوي العقل: الإسكاف الذي يجلس على المكان المرتفع فإذا تدحرج شفاره أو شيء من أداته شغله عن كثير من عمله، والخياط الذي يطيل خيطه فإذا تعقّد شغله عن كثير من عمله، والذي يقص أشعار الناس ويلتفت يميناً وشمالاً فيفسد شعورهم فيستوجب بما أذنب العقوبة.

قال الملك: كأنك تريد يا إيلاذ أن تعلم الناس كلهم حتى يمهروا مثلك فتريد أن تعلمني حتى أكون ماهراً.

قال إيلاذ: ثلاثة زعموا أهم قد مهروا وينبغي أن يتعلموا: الذي يضرب بالصنج والعود والطبل ولا يوافق المزمار وسائر الألحان، والمصور الذي يحسن خط التصاوير ولا يحسن خلط الأصباغ، والذي يزعم أنه ليس محتاجاً إلى علم شيء من الأعمال وأنه بالأعمال والصناعات كلها عالم ولا يبصر غور الكلام وكيف هو وفي أي ساعة له أن يكلم من هو فوقه ومن هو دونه.

قال الملك: لم تعمل بحق إذا قتلت إيراخت.

قال إيلاذ: أربعة يعملون بغير حق: الذي لا يصدق لسانه ولا يحفظ قوله، والسريع في الأكل والبطيء في العمل وخدمة من فوقه، والذي لا يستطيع أن يسكن غضبه قبل خزي الذنب، والملك الذي يهمّ بالأمر العظيم ثم يتركه.

قال الملك: لو علمت بسنّتي لم تقتل إيراخت.

قال إيلاذ: أربعة يعملون بسنة: الذي يصنع الطعام لحينه ويهيّئه فيقدمه لسيده لأوانه، والذي يرضى بامرأة واحدة ويصرف نظره عن ساء غيره ممن لا يحل له، والملك الذي يعمل الأمر العظيم بمشاورة العلماء، والرجل الذي يقهر غضبه.

قال الملك: لقد عدمت الخير يا إيلاذ.

قال إيلاذ: أربعة هم الذي عدموا الخير: المملوء جسمه ظلماً وإثماً، والخسيع المعجب بنفسه، والذي قد تعوّد السرقة، والسريع الغضب البطيء الرضا.

قال الملك: ما ينبغي لنا أن نثق بك يا إيلاذ.

قال إيلاذ: أربعة لا يوثق بهم: الحية الماردة، وكل سبع مخوف من الحيوان، والأثمة الفجار، والجسد الذي قضي عليه بالموت.

قال الملك: إن ذوي الكرم من الناس لا ينبغي لهم أن يضاحكوا ولا يلاعبوا.

قال إيلاذ: أربعة لا ينبغي لهم أن يضاحكوا ولا يلاعبوا: الملك العظيم السلطان، والناسك المتعبد، والرجل الساحر الخسيع، واللئيم الخلق الشره الطبيعة.

قال الملك: ما ينبغي لنا مخالطتك يا إيلاذ بعد قتلك إيراخت.

قال إيلاذ: أربعة لا يخالط بعضهم بعضاَ: الليل والنهار، والبر والفاجر، والنور والظلمة، والخير والشر.

قال الملك: ما ينبغي لأحد أن يثق بك يا إيلاذ أبداً.
قال إيلاذ: أربعة لا يوثق بهم: اللص والكذوب والمذّاق والحقود المتسلط.

قال الملك: لم يصبني حزن كحزني على إيراخت.

قال إيلاذ: خمس من النساء ينبغي أن يحزن عليهن: الكريمة الحسب ذات الشرف العظيم، والعاقلة اللينة العالمة، والحليمة الطاهرة الجيب، والحصان الميمونة الطائر، والمؤاتية لبعلها الراضية المتحننة عليه.

قال الملك: من ردّ عليّ إيراخت حية فله عندي من المال ما أحب.

قال إيلاذ: خسمة المال أحب إليهم من أنفسهم: الذي يقاتل بالأجرة لا نية له في القتال إلا إصابة أجرته، واللص الذي ينقب البيوت ويقطع الطريق فتقطع يداه أو يقتل، والتاجر الذي يركب البحر يطلب جمع المال، وصاحب السجن الذي مُناه أن يكثر أهل سجنه ليصيب منهم، والمرتشي في الحكم.

قال الملك: قد أثبتّ في نفسي عليك حقداً بقتلك إيراخت يا إيلاذ.

قال إيلاذ: أربعة الحقد بينهم ثابت: الذئب والخروف، السنور والفأرة، البازي والدُّرّاج، والبوم والغراب.

قال الملك: ليس تأخذني سنة ولا نوم من حزني على إيراخت.

قال الملك: لقد كرهت قتل إيراخت.

قال إيلاذ: سبعة أشياء مكروهة: الشيخوخة التي تسلب الشباب البهاء، والوجع الذي ينحل الجسم وينزف الدم، والغضب الذي يفسد علم العلماء وحكم الحكماء، والهمّ الذي ينقص العقل ويسلّ الجسم، والبرد الذي يضرّ، والجوع والعطش اللذان يجهدان كلّ شيء ويخزيانه، والموت الذي يفسد جميع البشر.

قال الملك: غبنتني وغبنت نفسك يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثمانية يغبنون أنفسهم وغيرهم: ذو العلم القليل يتكلف أن يعلّم الناس كثيراً، والرجل العظيم ذو العقل وليس يدري فطنة، والذي يطلب ما لا يدرك ولا ينبغي له إدراكه، والبذيء الفجور الأشر العادي طوره المستغني برأيه عن مشاورة الأخلاء من أهل العقل والنصح له، وموارب الملوك والعظماء ولا حلم له ولا علم، ومطّلب العلم الذي يخاصم فيه من هو أعلم به منه ولا يقبل منه ما علّمه، ومجامل الملوك غير مانح لهم الصفاء ولا باذل للهم ودّ صدره، وملك قهرمانة وخازنه كذاب مهذار سيء الطبيعة لا يقبل الأدب من مؤدب.

ثم سكت إيلاذ وعليم أن الملك قد اشتدّ حزنه على إيراخت واشتاق إلى رؤيتها، فقال له الملك: ما بالك سكتّ يا إيلاذ.

قال: أيها الملك إني قد تطاولت عليك فيما امتحنتك به ما آل إليه أمرك في إيراخت. وأنا الآن حقيق بأن آتي الملك بهذه التي أحبها هذا الحب وحرص على رؤيتها أشد الحرص وحلم على عقوبتي مع طول تبصرتي إياه في أشياء كثيرة وتطرّفي له في القول. فإنه ليس في الأرض ملك مثلك ولا شبيه بك، ولا كان فيما مضى ولا يكون ذلك إلى آخر الأبد إذ لم يسلبك الغصب حلمك. وأنا مع رقّة شأني وصغر خطري أقول ما أقول ولكن لم تزل عليك السكينة والوقار مع سواك في العلم والحلم ولين الكنف لحب السلامة والخير مع جميع الناس. فإنك لكرم أصلك وسعة حلمك ملكت نفسك وصرت على ما سمعت مني مع صغر أمري ورقة شأني. فأشكر لك أيها الملك إذ لم تأمر بقتلي وها آنذا قائم بين يديك قد فعلت الذي فعلت لنصحي وحبي لك. فإن كانت دخلت هذه في معصية فإن لك الحجة والسلطان على عقوبتي وقتلي.

فلما سمع الملك أن إيراخت أم جوبر هي حية اشتد فرحه وقال لإيلاذ: إنه كان يمنعني من الغضب عليك ما علمت من نصيحتك وصدق حديثك. وكنت أرجو لمعرفتي بحلمك ألا تكون قتلك إيراخت. فإنها تفعل ذلك لعداوة ولا لطلب مضرّة لكنها فعلت لغيرة. وكان ينبغي لي أن أعرض عن ذلك وأحتلمه ولا أغضب لأن يعرفت أن الذنب كان لي، وإن كنت مستيقناً أنك تعلم أني لم آمرك بما أمرتك فيها من القتل إلا وأنا نادم على ما أمرتك، لكنك أردت أن تجرّب الملك أو تتركه في شكّ وخفت أن أعاقبلك إن قلت "لم أقتلها". ومعاذ الله أن يكون ذلك رأي وأن أكون فاعلاً ذلك بك. ولكن لك حق شاكر فانطلق فأتني بإيراخت وارددها عليّ.

فخرج إيلاذ من عند الملك وأمر إيراخت أن تتزين وتلبس ثيابها ففعلت ذلك. ثم انطلق بها إلى الملك فدخلت عليه وقبّلت رأسه. فلما رآها اشتد فرحه وقال: افعلي ما أحببت فلا أصرف هواك عن شيء.

قال إيراخت: أدامالله ملككم إلى الأبد فكيف لولا رأفتكم وسعة أحلامكم تندمون على ما كان منكم في أمري هذه الندامة. فإنكم لو لم تذكروني آخر الأبد لكنت لذلك أهلاً للذي كان مني حتى أمر الملك بقتلي. وبرأفتكم شرككم إيلاذ في كفه عن قتلي. ولولا ثقة إيلاذ بسعة أحلامكم مع رأفته وعدله ووفائه لأنفذ ذلك الأمر وأهلكني.

قال الملك لإيلاذ: إنك قد اصطنعت عندي ما وجب به شكرك ولما لم يره ملك من عبيده لم يصطنع إليّ أمر أعظم عندي من أنك لم تقتل إيراخت، بل أحييتها بعد ما قتلتها أنا فوهبتها إليّ اليوم ورددتها عليّ فلم أكن قطّ أرضى عنك مني اليوم.

قال إيلاذ: أنا عبدك وحاجتي اليوم ألا تعجل بعدها في الأمر العظيم الذي يندم عليه وتكون عاقبته الهم والحزن كما رأيت، ولا سيما في أمر هذه التي لا يوجد لها في الأرض شبيه.

قال الملك: لحقنا قلت يا إيلاذ وقد قبلت قولك في كل ما أمرت به فيكف في مثل هذا الأمر العظيم الذي قد مرّ بي. فإني لست عاملاً بعده صغيراً ولا كبيراً إلا بعد المؤامرة والنظر والتؤدة.
ثم إن الملك أعطى تلك الثياب إيراخت ودخل معها إلى مكان نسائه فرحاً مسروراً. ثم ائتمر بعد ذلك هو وإيلاذ في قتل أولئك البراهمة الذين أرادوا هلاك حشم الملك وأهله فقتلوا ونهبوا ونفوا من الأرض. وقرّت أعين عظماء أهل مملكته وحمد الله وأثنى عليه وشكر لكنان أبزون فضل علمه وسعة حلمه لأن بعلمه كان خلاص الملك وزوجته وولده والوزراء الصالحين الذين هم أحب الخلق إليه.

فهذا باب الحلم والعقل والأدب.

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:28 PM

باب السّنّور والجرذ

قال الملك: قد فهمت مثل من يعجّل بالأمر ولا يعمل بالتثبت، فاضرب إن رأيت مثل رجل كثر أعداؤه فأحدقوا به من كل جانب وأشفى على الهلكة فالتمس النجاة بموالاة بعض العدوّ ومصالحته فسلم مما تخوّف ووفى لمن صالحه منهم. فأخبرني عن موضع الصلح وكيف يُلتمس ذلك.

قال الفيلسوف: إن العداوة والولاء والمودة والبغض ليس كلها تثبت وتدوم. وكثير من المودة تتحول بغضاً، وكثير من البغض يتحول مودة. ولهذا حوادث وعلل وتجارب. وذو الرأي يجد لكل ما حدث من ذلك رأياً جديداً، فمن قبل العدو بالبأس وأما من قبل الصديق فبالاستئناس. فلا يمنعنّ ذا العقل عداوة كانت في نفسه لعدوه من مقاربته والتماس ما عنده إذا طمع فيه لدفع مخوف أو جرّ مرغوب. ولا يقصّر في الرأي في إحداث المواصلة والموادعة. ومن أبصر ذلك الرأي وأخذ فيه بالحزم ظفر بحاجته. ومن أمثال ذلك السنور والجرذ اللذان اصطلحا لما وقعا في ورطة شديدة فكان في ذلك صلاحهما جميعا ونجاتهما.

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

قال بيدبا الفيلسوف: زعموا أنه كان بمكان كذا وكذا شجرة من الدوح في أصلها جحر لسنور يقال له روميّ وجحرٌ لجرذ يقال له فريدون. وكان الصيادون ربما التمسوا صيد الوحوش والطير قرب تلك الشجرة. وإن صياداً نصب حبائل له فوقع فيها الرومي وخرج الجرذ ليبتغي ما يأكل وهو مع ذلك حذر يتلفّت وينظر. فلما رأى السنور مقتنصاً في الحبال فرح. ثم التفت خلفه فأبصر ابن عرس قد تبعه وكمن له. ونظر فوقه فإذا بومة على شجرة ترصده. فخاف إن انصرف عاجلاً راجعاً أن يثب عليه ابن عرس، وإن ذهب يميناً أو شمالاً أن تختطفه البومة، وإن تقدم فالسنور أمامه. فقال: هذا بلاء قد كنفني وأشرار تظاهروا عليّ ولا مفزع إلا إلى عقلي وحيلتي فلا يكونن من شأني الدهش ولا يذهبنّ قلبي شعاعاً، فإن العاقل لا يتفرّق رأيه ولا يعزب عنه عقله على حال وإنما عقول ذوي الألباب كالبحر الذي لا يدرك غوره ولا يبلغ البلاء من ذي الرأي مجهود عقله فيهلكه ولا ينبغي له أن يبلغ رجاؤه مبلغاً يبطره ويسكره ويغشي أمره. ثم قال: لا حيلة أقرب من التماس صلح السنور، فإن السنور قد نزل به بلاء، ولعلي أقدر على خلاصه، ولعله إن سمع مني ما أكلمه من الكلام الصحيح الصادق الذي لا خداع فيه وفهمه عني وطمع في معونتي يكون لي وله في ذلك خلاص.

ثم دنا من السنور فقال: كيف حالك؟

قال السنور: كما تحب أن تراني في الضنك والضيق.

قال الجرذ في نفسه: والله لا أكتمنّه شيئاً مما في فكري. ثم قال له: لعمري إن كنت سابقاً أسرّ بما يسوؤك وأعد كل ضيق عليك سعة لي، ولكني اليوم قد شاركتك في البلاء. فلا أرجو لنفسي خلاصاً إلا بالأمر الذي أرجو لك به الخلاص، فذلك الذي عطفني عليك، وستعرف مقالتي أنه ليس فيها كذب ولا مخادعة. قد ترى مكان ابن عرس كامناً لي، ومكان البومة تريد اختطافي وكلاهما لي ولك عدوّ وهما يخافانك ويتّقيانك. فإن أنت جعلت لي إن أنا دنوت منك أن تؤمنني فأنجو بذلك منهما، فأنا قاطع حبائلك ومخلصك مما أنت فيه. فاطمئن إلى ما ذكرت لك وثق به مني فإنه ليس أحد أبعد إلى الخير من اثنين منزلتهما واحدة وصفتهما مختلفة، أحدهما ممن لا يثق به أحد والآخر ممن لا يثق بأحد. ولك الوفاء عندي بما جعلت لك من نفسي فاقبل مني واسترسل إليّ ولا تؤخر، فإن العاقل لا يؤخر عمله. ولتطب نفسك ببقائي كما طابت نفسي ببقائك فإن كل واحد منا ينجو بصاحبه كالسفينة والركاب في البحر. فالسفينة تخرج الركاب من البحر وبهم تخرج السفينة إلى البر.

فلما سمع السنور مقالت الجرذ عرف أنه صادق وسرّه ذلك وقال للجرذ: أرى قولك شبيهاً بالحق والصدق وأنا راغب في هذا الصلح الذي أرجو به لنفسي ولك الخلاص. ثم سأشكر لك ما بقيت وأجازيك به أحسن الجزاء.

قال الجرذ: فإذا دنوت منك فلير ابن عرس والبومة ما يعرفان به صلحنا فينصرفان آئسين وأقبل على قرض حبائلك.

فلما دنا الجرذ من السنور واستبطأه هذا في قرض رباطه قال: ما لك لا تجدّ في قطع رباطي؟ فإن كنت حين ظفرت بحاجتك عدلت عما كنت عليه وتوانيت في حاجتي فليس هذا للكريم بخليق أن يتوانى في حاجة صاحبه إذا استمكن من حاجة نفسه. وقد كان لك في عاجل مودتي من النفع والاستنقاذ من الهلكة ما قد رأيت، وأنت حقيق أن تكافئني ولا تذكر عداوة كانت بيني وبينك. والكريم حقيق أن تنسيه الخلة الواحدة من الإحسان الخلال الكثيرة من الإساءة. وأعجل العقوبة عقوبة الغدر واليمين الكاذبة. ومن إذا تضرّع إليه وسُئل العفو لم يعف ولم يغفر فقد غدر.

قال الجرذ: الصديق صديقان: طائع ومضطرّ وكلاهما يلتمس المنافع ويحترس من المضار. فأما الطائع منهما فاسترسل إليه واعمل له على كل حال. وأما المضطر فإن له حالات يسترسل إليه فيها وحالات يتقى فيها فلا يزال يرتهن منه بعض حاجته ببعض ما قد يتقي ويخاف. وليس عامة التواصل والتحابّ بين الخلق إلا لالتماس عاجل النفع أو موجوه. وأنا واف لك بما وعدتك ومحترس في ذلك من أن يصيبني مثل ما ألجأني إلى صلحك. فإنّ لكل عمل حيناً وما لم يكن في حينه فلا عاقبة له، وأنا قاطع حبائلك لحينها غير أني تارك عقدة أرتهنها منك فلا أقطعها إلا في الساعة التي أعلم أنك عني فيها مشغول.

ففعل كما قال وقرض حبائل السنور. وبينما هو كذلك إذ رأى بالصياد قد أقبل من بعيد، فقال الجرذ: الآن جاء موضع الجد في قطع حبائلك. فجهد الجرذ نفسه في القرض، فما كاد ينتهي من العمل حتى وثب السنور إلى الشجرة فصعدها، وانجحر الجرذ في غفلة. فلما وصل الصياد وجد حبائله مقطوعة فانصرف خائباً.

ثم خرج الجرذ من بعد ذلك من جحره فرأى السنور من بعيد فكره أن يدنو منه فناداه السنور: أيها الصديق ذا البلاء الحسن ما يمنعك من الدنو مني لأجزيك بأحسن ما أبليتني؟ هلمّ إلي ولا تقطع إخائي فإنه من اتخذ صديقاً وأضاع صداقته حرم ثمرة الإخاء وأئس من نفعه الإخوان. وإن لك عندي اليد التي لا تنسى. فأنت جدير أن تلتمس مكافأة مني ومن أصدقائي فلا تخافنّ مني شيئاً. واعلم أن ما قبلي لك مبذول.

ثم حلف واجتهد على أن يثبت عنده صدقه بما قال فأجابه الجرذ: إنه ربّ عداوة باطنة ظاهرها صداقة وهي أشد ضررا من العداوة الظاهرة. ومن لم يحترس منها وقع موقع الرجل الذي يركب ناب الفيل ويقتله. وإنما سمي الصديق صديقاً لما يُرجى من نفعه والعدو عدواً لما يخاف من ضره. فإن العاقل إذا راجا العدوّ أظهر له الصداقة، وإذا خاف ضرّ الصديق أظهر له العداوة. أو لا ترى تبايع البهائم إنما تتبع أمهاتها رجاءً لألبانها، فإذا انقطع ذلك انصرفت عنها. وكما أن السحاب يتهيّأ ساعة وينقطع أخرى ويقطر ساعة ويمسك أخرى، كذلك العاقل يتلوّن مع متلوّنات الأمور على اختلاف الحالات بين الإخوان والأصحاب، فينبسط مرة وينقبض أخرى، ويتجلّد مرة ويستنكر أخرى. وربما قطع الصديق عن صديق ما كان يصله به فلا يخاف شره لأن أصل أمره لم يكن عداوة. فأما من كان أصر أمره عداوة ثم أحدث صداقة لحاجة حملته على ذلك فإنه إذا ذهب الأمر الذي أحدث ذلك صار إلى أصل أمره كالماء الذي يسخّن بالنار، فإذا رفع عنها عاد بارداً. ولا عدوّ أضر لي من عداوة مثلك بعد أن كان بيننا من الود والصفاء ما قد كان، وبعد ائتلافنا واسترسال بعضنا إلى بعض. وقد اضطرّني وإياك حاجة أجدت كل واحد منا إلى صاحبه ما أجدتنا من المصالحة. فقد ذهب الامر الذي احتجت إليّ فيه واحتجت إليك فيه فأخاف مع ذهابه عود العداوة. ولا خير للضعيف في قرب العدو القوي ولا للذليل في قرب العدو العزيز، ولا أعلم لك حاجة إليّ إلا أن تريد أكلي ولا أرى لك الثقة بي. فإني قد علمت أن العدو الضعيف أقرب إلى أن يسلم من العدو القوي إذا احترس منه ولم يغترر به من القويّ إذا اغترّ بالعدو الضعيف واسترسل إليه. والعاقل يصانع عدوّه إذا اضطرّ إليه ويظهر له ودّه ويريد من نفسه الاسترسال إليه، إذا لم يجد من ذلك بداً، ويعجّل الانصراف عنه إذا وجد إلى ذلك سبيلاً. واعلم أن صريع الاسترسال لا يكاد تستقيل صرعته والعاقل يفي لمن صالح بما جعل له ولا يثق لنفسه بمثل ذلك من أحد ولا يؤثر على البعد من عدوه ما استطاع. فالبعد لك من الصياد والبعد لي منك أحزم الرأي. وأنا أودك من بعيد وعليك أن تجزيني بمثل ذلك إن رأيت ولا سبيل إلى اجتماعنا.

فهذا باب مبصر فرصته في مصالحة عدوّه والأخذ بالاحتراس منه.

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:29 PM

باب الملك والطير فنزة

قال الملك للفيلسوف: قد سمعت مثل الرجل يحيط به أعداؤه فيستظهر من بعضهم ويصالحه حتى يتخلص بذلك مما يخاف ويسلم. فاضرب لي إن رأيت مثل أهل التراث الذين ينبغي لبعضهم أن يتقي بعضاَ.

قال الفيلسوف: زعموا أن ملكاً من الملوك يقال له برهمون كان له طائر يقال له فنزة وكان ناطقاً كيّساً وكان معه فرخ له. فأمر الملك بفنزة وفرخه أن يجعلا بمكان عند امرأته سيدة نسائه وأوصاها بهما. واتفق أن امرأته ولدت غلاماً فألف الفرخ الغلام فجعلا يلعبان جميعاً ويطعمان جميعاً. وكان فنزة يذهب كل يوم إلى الجبل فيجيء بثمرين من الفاكهة فيطعم أحدهما فرخه والآخر ابن الملك. فأثّر ذلك في نموتهما وقوتهما حتى استبان ذلك للملك فزادت عنده كرامة فنزة، حتى إذا كان ذات يوم وفنزة غائب في اجتناء الثمر وثب فرخه من حجر الغلام طائراً فارتاع الغلام من ذلك وغضب فأخذ الفرخ وضرب به الأرض فقتله. فلما جاء فنزة ورأى فرخه مقتولاً حزن وصاح وقال: "ترحاً للملوك الذين لا عهد لهم ولا وفاء. وويل لمن ابتلي بصحبة الملوك الذين لا حميم لهم ولا رحيم ولا يحبون أحداً. ولا يكرم عليهم إلا من قضوا منه حاجتهم فلا ودّ ولا إخاء. ولا البلاء الحسن مجازًى عندهم ولا الذنب مغفور. وليس أمرهم إلا الفخر والرياء والسمعة. وكأنّ عظيماً من الذنوب يركبونه هو عندهم صغير وعليهم هين. وإني لأنتقمنّ اليوم من الكفور الذي لا رحمة له، الغادر بإلفه وتربه وصاحبه وملاعبه ومؤاكله". ثم وثب في وجه الغلام ففقأ عينه بمخلبه، ثم طار إلى مكان مشرف حزيناً.

فبلغ ذلك الملك فجزع أشد الجزع ثم طمع أن يحتال لفنزة فيظفر به. فركب إليه ووقف عليه وناداه باسمه وقال: أنت آمن فأقبل. فأبى ذلك فنزة وقال: أيها الملك، إن الغادر مأخوذ بغدره وإن أخطأه عاجل العقوبة في الدنيا لم يخطئه آجلها، حتى إن عقوبة ذلك لتدرك الأعقاب وأعقاب الأعقاب وإن ابنك غدر فعجّلت له العقوبة.

قال الملك: لقد فعلنا ذلك بك لعمري فانتقمت منا فليس لك قبلنا ولا لنا قبلك وتر فارجع إلينا آمناً.

قال فنزة: لست أرجع إليك، فإن ذوي الرأي قد نهوا عن قرب الموتور وقالوا: "لا تجد للموتور الحقود أماناً أوثق من الذعر والبعد والاحتراس منه". وكان يقال: "إن العاقل إنما يعدّ أبويه من الأصدقاء ويعدّ الأخوة رفقاء والأزواج ألاّفاً والبنين ذكراً والبنات خصمات والأقارب غرماء، ويعد نفسه فرداً وحيداً". فأنا الفريد الوحيد تزودت عندكم من الحزن عبئاً ثقيلاً لا يحمله معي أحد. فأنا ذاهب فعليك السلام.

قال الملك: إنك لو لم تكن اجترأت بما صنعنا بك أو لو كان صنيعك بنا غير ابتداء منا بالغدر كان الأمر كما ذكرت. فأما إذا كنا نحن بدأنا فما ذنبك وما الذي يمنعك من الثقة بنا؟ فارجع فإنك آمن.

قال فنزة: إن للأحقاد في القلوب مواقع موجعة منكية. والألسن تصدق عن القلوب، والقلب أعدل على القلب شهادة من اللسان. وقد علمت أن قلبي لا يشهد للسانك ولا قلبك للساني.
قال الملك: ألست تعلم أن الضغائن والأحقاد تكون بين كثير من الناس؟ فمن كان له عقل كان على إماتة الحقد فيه أحرص منه على تربيته.

قال فنزة: إن ذلك لكما ذكرت وليس ذو الرأي عن ذلك بحقيق أن يظن، بالمحقود الموتور، إنه ناس ما وتر به ومنصرف عنه، وذو الرأي يتخوف الحبائل والخداع ويعلم أن كثيراً من الأعداء لا يناصب بالشدة والمكابرة حتى يصاد بالرفق والملاينة كما يصاد الفيل الوحشي بالفيل الداريّ.

قال الملك: إن الكريم لا يترك إلفه ولا يقطع إخوانه ولا يضيع الحفّاظ وإن هو خاف على نفسه. إن هذا الخلق ليكون في أوضع الدوابّ منزلة. قد عرفنا أن ناساً يذبحون الكلاب فيأكلونها، فربما نظروا إلى كلب قد ألفهم فيمنعه ألاّفه إياهم أن يفتكوا به.

قال فنزة: إن الأحقاد مخوفة حيثما كانت وأخوفها وأشدها ما كان في أنفس الملوك. وإن الملوك يدينون بالانتقام ويرون الطلب بالوتر مكرمة وفخراً، ولا ينبغي للعاقل أن يغترّ بسكون الحقد. فإنما مثل الحقد في القلب ما لم يجد متحرّكاً مثل الجمر المكنون ما لم يجد حطباً. ولا يزال الحقد يتطلّع إلى العلل كما تبغي النار الحطب. فإذا وجد علله استعار النار فلا يطفئه ماء ولا كلام ولا لين ولا رفق ولا خضوع ولا تضرّع ولا شيء دون الأنفس، مع أنه ربّ واترٍ يطمع في مراجعة الموتور لما يرجو أن يقدر عليه من النفع له والدفع عنه، ولكني أضعف من أن أقٌدر على أن أزيل ما في نفسك. ولو كانت نفسك لي على ما تقول كان ذلك عليّ متغيّباً لأني لا أزال في خوف وسوء ظنّ ما اصطحبنا. فليس الرأي إلا الفراق وأنا أقرأ السلام عليك.

قال الملك: لقد علمت أنه ليس يستطيع أحد لأحد ضراً ولا نفعاً. فإنه لا شيء من الأشياء صغير ولا كبير يصيب أحداً إلا بقدر مقدور. وكما أن خلق ما يخلق ويولد وبقاء ما يبقى ليس إلى الخلائق منه شيء، كذلك فناء ما يفنى وهلاك ما يهلك. فليس لك فيما صنعت بابني ولا لابني في إهلاك فرخك ذنب إنما كان ذلك قدراً مقدوراً وكنا له عللاً. فلا تؤاخذنا بما أتاك به القدر.

قال فنزة: إن في القدر ما ذكرت ولكنّ ذلك لا يمنع الحازم في توقي المخوف والاحتراس من المحترس منه، ولكنه يجمع تصديقاً بالقدر وأخذاّ بالقوة والحزم. وأنا أعلم أنك تحدّثني بغير ما في نفسك. والأمر فيما بيني وبينك أن ابنك قتل فرخي ففقأت عين ابنك. فأنت الآن تريد لي القتل وتحاولني عن نفسي والنفس تأبى الموت. وكان يقال: الفاقة بلاء والحزن بلاء وفراق الأحبة بلاء والسقم بلاء والعدم بلاء، ورأس البلاء بلاء الموت، وليس أحد أعلم بما في نفس الموجع الحرّان ممن قد ذاق مثل ما به. وأنا بما في نفسك من أمري عالم للمثال الذي عندي من ذلك، فلا خير لي في صحبتك. فإنك لن تذكر صنيعي بابنك ولن أذكر صنيع ابنك بفرخي إلا أحدث ذلك لقلوبنا وغراً.

قال الملك: إنه لا خير لمن لا يستطيع الإعراض عما في نفسه فيتناساه ويميته حتى لا يذكر منه شيئاُ ولا يكون له في نفسه موقع.

قال فنزة: إن الرجل الذي في باطن قدمه قرحة إن هو حرص على خفة المشي فلا بد أن ينكأها. والرجل الرمد إن استقبل الريح فقد تعرّض لإنكاء عينه. وكذلك الموتور إذا دنا من عدوه فقد عرّض قرحته لإنكائها. ولا يستطيع صاحب الدنيا توقي المتالف وتقدير الأمور والاتكال على القوة والحيلة وقلة الاغترار بما لا يأمن منه. فإنه من اتكل على قوته حمله ذلك على أن يسلك الطريق المخوف فقد سعى في حتف نفسه. ومن لا يقدر على طعامه وشرابه فحمل على نفسه ما لا يحمل ولا يطيق فربما قتل نفسه. ومن لا يقدر لقمة فيعظمها أول ما يسيغ يغصّ بها فيموت. ومن اغترّ بكلام غيره وضيّع الحذر فهو أعدى العدو لنفسه. وليس على الرجل النظر في القدر الذي لا يدرى ما يأتيه منه وما يصرف عنه ولكن عليه العمل بالحزم والأخذ بالقوة في أمره ومحاسبة نفسه في ذلك. والعاقل لا يخيف أحداً ما استطاع ولا يقيم على الخوف وهو يجد مذهباً. وأنا كثير المذاهب أرجو ألاّ أتوجه وجهاً إلا وجدت فيه ما يغنيني. فإن خلالاً خمساً من تزوّدها بلّغنه كل وجه وقرّبن له البعيد وآنسن له الغربة وكسّبنه المعيشة والإخوان: كفّ الأذى وحسن الأدب ومجانبة الريبة وكرم الخلق والنبل في العمل. فإذا خاف العاقل على نفسه طابت نفسه عن الأهل والولد والوطن والمال. فإنه يرجو من ذلك كله خلفاً ولا يرجو من النفس خلفاً. وشرّ المال ما لا ينفق منه، وشر الأزواج التي لا تؤاتي البعل، وشر الولد العاصي، وشر الإخوان الخاذل، وشر الملوك الذي يخافه البريء، وشر البلاد بلاد ليس فيها أمن، وأنت لا أمن لي معك ولا طمأنينة لنفسي في جوارك. ثم ودّع الملك وطار.

فهذا مثل الترات وما يوجب على أهلها حذر بعضهم من بعض.

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:29 PM

باب الأسد والشعهر الصوّام

قال الملك للفيلسوف: قد فهم مثل أهل الترات وحذر بعضهم بعضاً فاضرب لي إن رأيت مثل الملوك فيما بينهم وبين قرائبهم، وفي مراجعة من تراجع منهم بعد عقوبة أو جفوة تكون عن ذنب يذنبه أو ظلم يظلمه.

قال الفيلسوف: إن الملك إذا لم يراجع من أصابته جفوة أو عقوبة عن جرم اجترمه أو ظلم ظلمه أضرّ ذلك بالأمور والأعمال. وكان الملك حقيقاً بالنظر في حال من ابتلي بشيء من ذلك ويبلو ما عنده من العناء والذي يرجو منه النفع. فإن كان ممن يستعان به ويوثق برأيه وأمانته كان الملك حقيقاً بالحرص على مراجعته. فإن الملك لا يستطاع إلا بالوزراء والأعوان. ولا ينتفع بالوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة. ولا تصلح النصيحة والمودة إلا مع إصابة الرأي والعفاف الكثير. ومن يحتاج إليهم من العمال والأعمال كثير. ومن يجمع منهم الذي ذكرت من النصيحة وإصابة الرأي قليل. وإنما التمسك بالوجه الذي به يستقيم العمل أن يكون الملك عالماً من يريد الاستعانة به وما عند كل رجل منهم من الغناء والرأي، وما فيه من العيوب. فإذا استقر ذلك عنده من علمه أو علم من يؤتمن به وعمل ما يستقيم به وجّه لكل عمل من قد عرف أنّ عنده من الأمانة والنجدة والرأي ما يستقل بذلك، وإن الذي فيه من العيب لا يضرّ بذلك العمل. ويتحفّظ من أن يوجه عيوبه وعاقبة ما يكره منه. ثم على الملك بعد ذلك ألا يترك تعاهد عمّاله والتفقد لهم ولأمورهم حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسيء. ثم عليهم بعد ذلك ألا يتركوا محسناً بغير جزاء ولا يقروا مسيئاً ولا عاجزاً على العجز والإساءة، فإنهم إن صنعوا ذلك تهاون المحسن وجترأ المسيء ففسد الأمر وضاع العمل. ومثل ذلك مثل الأسد والشعهر وهو ابن آوى.

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

قال الفيلسوف: زعموا أنه كان بأرض كذا وكذا ابن آوى وكان متألّهاً متعففاً في بنات آوى وثعالب وذئاب. ولم يكن يصنع ما يصنعن ولا يغير كما يغرن ولا يريق دماً ولا يأكل لحماً. فخاصمته تلك السباع وقلن: لا نرضى بسيرتك ولا رأيك الذي أنت عليه من تألهك مع أن تألهك لا يغني شيئاً. وأنت لا تستطيع أن تكون أحدنا فتسعى معنا وتفعل فعلنا. فما الذي يمسك كفك عن الدماء واللحم؟

قال ابن آوى: إن صحبتي إياكم لا تؤثمني إذا لم أؤثم نفسي لأن الآثام ليست من قبل الأماكن والأصحاب، ولكنها من قبل القلوب والأعمال. ولو كان صاحب المكان الصالح يكون عمله فيه صالحاً وصاحب المكان السوء يكون عمله فيه سيئاً، إذاً كان من قتل الناسك في محرابه لم يأثم ومن استحياه في معركة القتال أثم. أترونني إن صحبتكم بنفسي لم يصحبكم مني قلب ولا عمل لأني أعرف ثمرة الأعمال.

فما عاش ابن آوى على حالته تلك وشهر النسك والنبالة في الرأي حتى بلغ ذلك الأسد، وكان ملك السباع بتلك الناحية. فرغب فيه للذي بلغه عنه من العفاف والصدق والأمانة. فأرسل إليه فكلّمه وفحصه ثم دعاه بعد أيام إلى صحبته، وقال: إن ملكي عظيم وأعمالي كثيرة وأنا إلى الأعوان محتاج، وقد بلغني عنك عقل وعفاف. ثم قدمت عليّ فازددت فيك رغبة، وأنا موليك من عملي جسيماً ورافع منزلتك إلى منزلة الأشراف وجاعل لك مني خاصة.

قال ابن آوى: إن الملوك أحقاء باختيار الاعوان لما يهتمون به من أعمالهم وأمورهم من غير أن يكرهوا على ذلك أحدا، لأن المكره لا يستطيع المبالغة في العمل. وأنا لعمل السلطان كاره وليست لي به تجربة ولا بالسلطان رفق. وأنت ملك السباع عندك من أجناس السباع عدد كثير، وفيهم أهل نبل وقوة وبهم على العمل حرص ولهم به رفق، فإن استعملتهم أغنوا عنك واغتبطوا لأنفسهم بما أصابوا من ذلك.

قال الأسد: دع عنك هذه المقالة، فإني غير معفيك من العمل.

قال ابن آوى: إنما يستطيع صحبة السلطان رجلان: أحدهما فاجر مصانع ينال حاجته ويسلم بمصانعته، والآخر رجل مهين مغفل لا يحسده أحد. فأما من أراد صحبة السلطان بالصحة والنصيحة والعفاف، ثم لا يخلط ذلك بمصانعة، فقلّ ما يسلم بصحته لأنه يجمع له عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد. فأما الصديق فينافسه في منزلته ويبغي عليه فيها ويعاديه لها. وأما عدوّ السلطان فيضطغن عليه بنصيحته لسلطانه وإغنائه عنه. فإذا اجتمع عليه هذا الصفان تعرّض للهلاك.

قال الملك: لا يكونن بغي أصحابي عليك وحسدهم إياك وعداوة أعدائي لك مما يعرض في قلبك، فإني كافيك وبالغ بك في الكرامة والإحسان بهمتك.

قال ابن آوى: إن كان الملك يريد بي الإحسان والكرامة فليتركني أعيش في هذه البرية آمناً راضياً بعيشتي من الماء والحشيش. وقد علمت أن صاحب السلطان يصل إليه في ساعة واحدة من الأذى والخوف ما لا يصل إلى غيره طول عمره. وإن قليل العيش في أمر وطمأنينة خير من كثيره في خوف ونصب.

قال الأسد: قد سمعت مقالتك فلا تخافنّ شيئاص مما أراك تتخوفه. فلا بد من الاستعانة بك.

قال ابن آوى: أما إذا أبى الملك أن يعفيني فليجعل لي عهداً إن بغى علي أحد من أصحابه ممن هو فوقي خوفاً على منزلته، أو ممن هو دوني فنازعني منزلتي وذاكر الملك بلسانه أو لسان غيره مما يريد به تحميل الملك عليّ ألاّ يعجّل عليّ ويتثبّت فيما يرفع إليه من ذلك، ويفحص عنه ثم يقضي الملك فيما بدا له. فإني إذا وثقت بذلك من الملك أعنته بنفسي وعملت له فيما ولأني بنصيحة واجتهاد وحرصت على أن لا أجعل على نفسي سبيلاً.

قال الأسد: إن ذلك لك علي. فولاّه خزائنه واختصّه دون أصحابه في المشاوة والرأي في المنزلة وازداد به على الأيام عجباً وزاده كرامة وعملاً. فثقل ذلك على من يطيف بالأسد من قرائبه وأصحابه وعمّاله وعادوه وحسدوه وائتمروا به ليهلكوه. فلما أجمعوا على ذلك لكيدهم دسّوا ذات يوم للحم كان الأسد استطرفه واستطابه فأمر برفعه في موضع طعامه ليعاد عليه فسرقوه ثم أرسلوا به إلى بيت ابن آوى فخبأوه مخبّأ لا يطّلع عليه أحد. فلما كان من الغد ودعا الأسد بغدائه التمس ذلك اللحم فلم يجده وابن آوى غائب والقوم الذي أرادوا المكر به والمكيدة حضور. فألحّ الأسد في طلب اللحم حتى غضب. فنظر بعضهم إلى بعض، فقال أحدهم قول المخبر الناصح: إنه لا بد لنا من أن نخبر الملك بعلمنا فيما يضره وينفعه وإن شقّ ذلك عليه. إنه بلغني أن ابن آوى كان ذهب بذلك اللحم إلى منزله.

قال آخر: أراه شبيهاً أن يكون فعل هذا، ولكن انظروا وافحصوا فإن معرفة الخلائق شديدة.

قال آخر: لعمري ما تكاد السرائر يطّلع عليها أحد ولعلكم إن فحصتم وجدتم ذلك وثبت عندنا كل شيء كان يذكر لنا من عيوبه وخيانته، ونحن أحقاء أن نخذله ونقضي بكل ما كان يقال عنه.

قال آخر: ما ينبغي لأحد أن يغترّ بما يعلم في نفسه من المختالة. فإن المختالة لا يسلم صاحبها ولا تخفى له.

قال آخر: وكيف يسلم من خاتل السلطان أو كيف يخفي ذلك، ومخاتلة الأصحاب لا تكاد تخفى؟

قال آخر: لقد أخبرني مخبرٌ عن ابن آوى بأمر عظيم مما وقع في نفسي حتى سمعت كلامكم.

قال آخر: لكني لم يخف عليّ أمره وخبّه أول ما رأيته وقد قلت مراراً واستشهدت فلاناً أن هذا المخادع المتخشّع لا يسلم من الحيلة والخيانة.

قال آخر: لئن وجد هذا حقاً ما هي الخيانة فقط بل مع الخيانة كفر النعمة والجرأة على الذنوب.

قال آخر: أنت أهل العدل والفضل ولا أستطيع أن أكذبكم، ولكن سيتبين صدق هذا وكذبه لو أرسل الملك إلى بيت ابن آوى ففتشه.

قال آخر: إن وجب تفتيش منزله فالعجل العجل. فإن عيونه وجواسيسه مبثوثة بكل مكان.

قال آخر: إني قد علمت بأن ابن آوى لو فتش منزله واطلع على خيانته سيحتال بحيلته ومكره حتى يشبه على الملك فيعذره ويكفّ عنه.

فلم يزالوا بهذا الكلام وأشباهه حتى أوقعوا ذلك في نفس الأسد بالأتهام لابن آوى فدعاه فقال له: ما صنعت باللحم الذي أمرتك بالاحتفاظ به؟

فقال: دفعته إلى صاحب الطعام فلان ليقرّبه إلى الملك.

فدعا الملك صاحب الطعام وكان ممن شايع القوم، فسأله الملك عن اللحم فقال: ما دفع إليّ شيئاً.

فأرسل الملك أمناءه ليفتشوا منزل ابن آوى فوجدوا فيه اللحم فأتوه به. فدنا من الأسد ذئب لم يتكلم في شيء من تلك الأمور، وكان يظهر أنه من أهل العد ل والذين لم يتكلموا إلا فيما استبان لهم أنه حق فقال للأسد: إذا اطلع الملك على خيانة ابن آوى فلا يعفونّ عنه، فإنه إن عفا عنه لم يعد أحد يطلع الملك على خيانة خائن أو ذنب مذنب.

فأمر الأسد بابن آوى أن يخرج من عنده ويحتفظ به حتى يرى رأيه فيه.

قال عند ذلك بعض جلساء الأسد: إني لأعجب من رأي الأسد ومعرفته بالأمور وكيف خفي عليه أمر هذا فلم يعرف خبثه ومخادعته.

قال آخر: بل أعجب من هذا أني لا أراه إلا بتنصّل عنه بعد الذي ظهر عليه منه.

ثم إن الأسد أرسل بعضهم إلى ابن آوى يسأله عن عذره فرجع إليه من ابن آوى برسالة كاذبة غضب منها الأسد فأمر بابن آوى أن يقتل.

فبلغ ذلك أم الأسد فعرفت أن الأسد قد عجّل في أمره فأرسلت إلى الذين أمروا بقتله أن يؤخروه ودخلت على ابنها فقالت: لأي ذنب أمرت بابن آوى أن يقتل؟

فأخبرها الأسد بالأمر.

قالت: "عجّلت يا بني وإنما يسلم العاقل من الندامة بترك العجلة وبالأخذ بالأناة. وليس أحد أحوج إلى التؤدة والتثبيت من الملوك. فإن المرأة بزوجها والولد بالوالدين والمتعلم بالمعلم والجند بالقائد والناسك بالدين والعامة بالملوك والملوك بالتقوى والتقوى بالعقل والعقل بالتثبيت. ورأس الحزم للملك معرف أصحابه وإنزاله إياهم منزلتهم واتهام ببعضهم ببعض. فإنه إن وجد بعضهم إلى هلاك صاحبه سبيلاً وإلى تهجين بلاء المبلين وإحسان المحسنين والتغطية على إساءة المسيئين لم يدعوا ذلك ويؤثر ذلك سريعاً في ضياع الأمر وانتشاره وجلب عظيم الضرر والعيب.

"وقد كنت بلوت ابن آوى واختبرت أدبه ومروءته قبل استعانتك به وتفويضك إليه، فلم تزل عنه راضياً ولا تزداد على مر الأيام إلا استصلاحاً وإليه استرسالاً وفيه رغبة. فأمرت بقتله في طابق من لحم فقدته. عسى أصحابه أن يكونوا قد ألزموه عندك ذنباً باطلاً لحسدهم وتعاونهم عليه.

"فاعلم أن الملوك إذا وكلوا إلى غيرهم ما ينبغي مباشرته من أمورهم والزموا أنفسهم مباشرة ما ينبغي لهم تفويضه إلى الكفاة ضاعت أمورهم ودعوا الفساد إلى أنفسهم. إن الملوك يحتاجون إلى النظر في وجوه شتى من الأمور، فإذا آثروا بعض تلك الوجوه على بعض لم يأمنوا خطأ البصر وزلل الرأي، كصاحب الخمر الذي إذا أراد أن يشتريها احتاج إلى اختيار لونها وريحها. فإن هو أهمل الاختيار أو بعض ذلك لم يأمن الغبن والخسران. وكاليراعة يراها الجاهل في ظلمة فيقضي عليها بالمعاينة قبل أن يلمسها أنها نار، فإذا لمسها تبين له خطأ قضائه. وكنت حقيقاً أن تنظر في أمر ابن آوى نظر تثبيت فتعلم أنه لم يكن يأكل اللحم الذي كنت ربما أمرت له بالكثير منه بل يجلعه في طعامك وطعام جندك، وأنه ليس خليقاً لسرقة قليل من اللحم أمرته بالاحتفاظ به. فافحص عن أمره فإنه لم تزل عادة الأرذال والأنذال حسد أهل المودة والفضل والأذى لهم والاشتغال بهم. ولابن آوى مروءة وفضل فعسى أعداؤه من أصحابك أن يكونوا ائتمروا لوضع ذلك اللحم إذا أصابت البضعة من اللحم نافسها كثير من الطير. والكلب إذا أصاب العظم وأخذه في فيه اجتمعت عليه عدة من الكلاب. فإذا لم تنظر إلى أعداء ابن آوى من أصحابك فانظر لنفسك ولا تنقادنّ لهم فيما تدعو به الضرر إلى نفسك. فإن أعظم الأشياء على الناس عامة والولاة خاصة أمران: أن يحرموا صالح الأعوان والوزراء والأخوان، وأن يكون وزراؤهم وأخوانهم غير ذوي مروءة ولا غناء. ولم يزل غناء ابن آوى عنك عظيما يؤثر منفعتك على هواه ويشتري راحتك بمصلحته ورضاك بسخط الأصحاب ولا يكتمك سراً ولا يطوي عنك أمراً ولا يرى شيئاً إلا احتمله منك أو بذله وإن عظم عظماً كبيراً. فمن كان من الأصحاب هذه صفته فإنما منزلته منزلة الآباء والأبناء والإخوان".

فبينما أم الأسد في كلامها إذ دخل على الملك بعض ثقاته فأطلع الأسد على براءة ابن آوى. فلما علمت أم الأسد أن الأسد قد وقف على براءة ابن آوى قالت: "أما وقد اطلعت على جرأة أصحابك وتعاونهم عليه فلا ترضينّ بذلك منهم ولا تدعنّ تشتيت ذات بينهم حتى تقطع منك الشفة عليهم. فلا يتخذوك مركباً فتعوّدهم الاحتمال على ضرك بوشهيم. ولا تغترّنّ بسلطانك فيدعوك ذلك إلى استصغارهم والتهاون بأمرهم. فإن الحشيش الضعيف إذا جمع فقتل صار منه الحبل القوي الذي يوثق به الفيل الشديد.

"وأعد لابن آوى منزلته وخاصته ولا يؤيسنّك من مناصته ما فرط إليه منك من الإساءة. فإنه ليس كل من أساء ينبغي له أن يتخوف غشّ من أسيء إليه وعداوته وييأس من نصيحته ومودته. ولكن ينبغي أن ينزل الناس في ذلك منازلهم على اختلاف ما بينهم. فإن منهم من إذا ظفر بقطيعته كان الرأي أن تقطع صلته ويمتنع عن معاودته، ومنه من لا ينبغي تركه وقطيعته على حال من الأحوال. ومن عرف بالشرارة ولؤم العهد وقلة الوفاء والشكر والبعد من الورع وقلة الاحتمال للأصحاب والإخوان وإن لم يكن عليه منهم مؤونة، فهذا حقيق أن تغتنم قطيعته ويمنع من وصله. ومن لم يكن فيه شيء من هذه الخلال وبذل الإخوانم معروفة واحتمل مكروهاً إن كان منهم ومؤونتهم وإن ثقلت، وعرف فضله على غيره في الورع والمساعدة على الدهر في جميع الأمور والحالات، فهذا حقيق أن يغتنم وصله ويمتنع من قطيعته".

فدعا الأسد بابن آوى واعتذر إليه مما كان منه وأخبره أنه معيده إلى منزلته وولايته. فقال ابن آوى: "إن شرّ الأخلاء من التمس منفعة نفسه بضر أخيه ومن كان غير ناظر له كنظره لنفسه أو كان يريد أن يرضيه بغير الحق واتباع هواه. وكثيراً ما يقع ذلك بين الأخلاء وقد كان من الملك إليّ ما علم فلا يغلظنّ على نفسه ما أخبره به أني به غير واثق. فإن من كان قد أصيب بعظيم من البلاء غير مستوجب له أو كان قد أزيل عن مرتبته وولايته أو كان قد سلب ماله ظلماً أو كان مقرّباً فأقصي من غير علة أو كان قد استحق من نظرائه ثواباً فأثيبوا دونه وفضّلوا عليه، أو كان معروفاً بإفراط الحرص والشره أو كان يرى في منفعة السلطان ضراً أو في ضره له نفعا، كل هؤلاء يحق على السلطان ألا يسترسل إليه ويثق بهم، لأن كل هؤلاء حقيق أن يكونوا عليه مع عدوه. وقد صرت اليوم في بادئ الرأي عرضاً لأعداء الملك وليس ما أنا عليه للملك من المودة والنصيحة بمناع الملك اتهامي وسوء الظن بي. وليس ما ظهر له من مودتي ونصيحتي يؤمّنني من عودة أعدائي بحمل الملك عليّ بالباطل والكذب إشفاقاً من مكافأتي لهم وحرصاً عليّ ألا يتقرر عند الملك كذبهم فيما حملوا به علي. فإن فعلوا ذلك لم يحتاجوا في قبول الملك ذلك منهم إلى عون أقوى من هذه التهمة التي قد وقعت في نفس الملك من تخوّفه لصحبتي وسوء ظنه بي وسرعته إلى تصديق أعدائي فيما نسبوه إلي. فإذا كان حال الملك بالثقة بي وحالي في الثقة به على ما وصف فلينظر أي وجه يريدني عليه من صحبته. فإن الملوك لا ينبغي لهم أن يصحبوا من عاقبوه أشدّ العقاب".

قال الأسد: إني قد بلوت طبائعك وأخلاقك، فمنزلتك في نفسي منزلة الكرماء الأخيار. والكريم تنسيه الخلة الواحدة من الإحسان ألف خلّة من الإساءة، واللئيم تنسيه خلة واحدة من الإساءة ألف خلة من الإحسان. فأنا واثق بك أنه سينسيك ما سلف من إحساننا إليك الذي فرط منا في أمرك وقد عدنا إلى الثقة بك فعد إلى الثقة بنا وبما قبلنا فإنه لك في ذل غبطة وسرور.

فعاد ابن آوى إلى ولاية ما كان يليه من أمر الأسد فلم تزل الأيام تزيده ارتفاعاً واغتباطاً حتى هلك.

فهذا باب وزراء السلطان وأعوانه وقرائبه.

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:30 PM

باب السائح والصائغ والقرد والببر والحية

قال الملك للفيلسوف: قد سمعت ما ذكرت من أمر الملوك فيما بينهم وبين قرابتهم وفي مراجعتهم من تراجع منهم فأخبرني عن الملك إلى من ينبغي له أن يصنع المعروف ومن يحق له أن يثق به ويرجو عونه.

قال الفيلسوف: إن الملك وغيره جدر أن يؤدوا الخير إلى أهله وأن يؤمّلوا من كان عنده شكر وحمد ولا ينظروا إلى قرابتهم وأهل خاصتهم ولا إلى أشراف الناس وأغنيائهم وذوي القوة منهم، ولا يمتنعوا أن يصطنعوا إلى أهل الضعف والجهد والضعة. وإن الرأي في ذلك أن يجربوا ويختبروا أصاغر الناس وعظماءهم في شكرهم أو قلة شكرهم وفي حفظهم الود أو غدرهم. ثم يكون عملهم في ذلك على قدر الذي يرون أو يبدو لهم. فإن الطبيب الرفيق لا يداوي المرضى بالمعاينة لهم فقط ولكنه ينظر إلى فضول البدن ويجسّ العرق ثم يكون العلاج على نحو المعرفة وقدرها. ويحق على المرء اللبيت إن وجد قوماً ذوي مهابة لهم وفاء وشكر من البهائم ما كان مألوفاً أنيساً أن يحسن فيما بينه وبينهم، ولعله يحتاج إليهم يوماً من الدهر فيكافئوه. فإن العاقل ربما حذر الناس ولم يأمن على نفسه أحدا منهم، وربما أخذ ابن عرس فأدخله كنّه والطير فوضعه على يده. وقد قيل: لا ينبغي لذي العقل أن يحتقر كبيراً ولا صغيرا من الناس ولا من البهائم، ولكنه جدير بأن يتولاهم ويكون ما يصنع إليهم على قدر الذي يرى منهم. وقد مضى في ذلك مثل ضربه بعض الحكماء.

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

قال الفيلسوف: ذكروا أن ناساً انطلقوا إلى مغارة فحفروا فيها ركيّة للسباع فوقع فيها رجل صائغ وببر وحي وقرد، فلم تتعرض البهائم لذلك الرجل بشيء. فمر رجل سائح بالبئر فاطلع فيها فلما رآهم فكّر في نفسه وقال: ما أراني مقدماً عملاً لآخرتي أفضل من أن أخلص الإنسان من بين هؤلاء الأعداء. فأخذ رسناً فأدلاه إليه فتعلق به القرد لخفته فأصعده. ثم أعاده الثانية فتشبث به الببر فأخرجه. ثم كرّه الثالثة فالتوت به الحية فاستنقذها. فشكرن له صنيعه وقلن: لا تخرج هذا الرجل فتخلصه من الركية فإنه ليس حيّ أقل شكراً من الإنسان. ثم قال له القرد: إن وطني بجانب مدينة يقال لها برجوان. وقال الببر أيضا: أنا في أجمة إلى جانبها. وقالت الحية: وأنا أيضاً في سورها فإن أتيتها يوماً من الدهر أو ممرت بنا فاحتجت إلينا فنوّه بنا حتى نأتيك ونجازيك بما أوليتنا وأحسنت إلينا.

ثم إن السائح أدلى الحبل إلى الرجل الصوّاغ ولم يلتفت إلى ما ذكر له القرد والببر والحية من قلة شكره، فاستخرجه فأثنى عليه وسجد له وقال: إنك أوليتني معروفاً جسيماً أنا حقيق بفعله، فإن قضي لك أن تأتي مدينة برجوان فسل عني بها لعلي أجازيك ببعض ما كان من الجميل علي.

ومضى كل واحد منهم لوجهه. فمكث السائح حينا، ثم عرضت له حاجة نحو المدينة فسار إليها فلقيه القرد فسجد له ثم قبّل يده ورجله واعتذر إليه وقال: إني لا أملك شيئاً ولكن اطمئن ساعة حتى آتيك ببعض ما نصيب منه. ثم انطلق فلم يلبث أن جاء بفاكهة طيبة فوضعها قدامه وحياه.
ثم توجه السائح نحو المدينة فلقي الببر فسجد له وحياه وقال: لقد أوليتني معروفاً جسيماً كبيراً فلا تبرح حتى أرجع. فلم يستبطئه حتى ذهب إلى ابنة الملك فقتلها وأخذ حليها ثم أتاه فدفعه له من غير أن يعلمه من أين هو.

فقال السائح في نفسه: هذه البهائم قد أولتني هذا وصنعته بي فكيف لو انتهيت إلى الصواغ فإنه إن كان معسراً لا شيء عند سيبيع لي هذا الحلي بثمنه فيعطيني بعضه ويأخذ بعضه.

ثم إن السائح دخل المدينة فأتى منزل الصائغ فرحّب به وأدخله بيته، فلما أبصر بالحلي معه عرفه فقال: اطمئن حتى آتيك بطعام تأكله فإني لست أرضى لك بما في البيت.

فانطلق الصواغ حتى أتى باب الملك فأرسل إلى الملك برسالة "أن الرجل الذي قتل ابنتك وأخذ حليها قد أخذته وهو عندي محبوس".

فأرسل الملك إلى السائح فأخذه. فلما رأى الحلي معه أمر به أن يعذّب ويطاف به في المدينة ثم يصلب. فلما وقع ذلك به وطيف بالمدينة جعل يبكي ويقول بأعلى صوته: لو أني أطلعت القرد والحية والببر فيما أمروني به لم يصيبني هذا البلاء.

فسمعت الحية هذه المقالة وخرجت للحال من جحرها. فلما أبصرته اشتد عليها أمره وفكرت في الاحتيال لخلاصه فانطلقت إلى ابن الملك فلدغته في رجله. فبلغ ذلك الملك فدعا أهل العلم ليرقوه فرقوه فم يغنوا عنه شيئاً. ثم إنهم نظروا في النجوم واحتالوا له حتى تكلم الغلام فقال: لا أبرأ حتى يأتيني هذا السائح فيرقيني ويمسحين بيده. وقد أمر الملك بقتله ظلماً وعدواناً.

وقد كانت الحية ذهبت إلى أخت لها من الجن فأخبرتها بحالها وبما صنع إليها ذلك السائح من المعروف. فرقّت له الجنة وانطلقت إلى ابن الملك فتحيّلت حتى وصلت إليه فقالت له: إعلم أنك لا تبرأ حتى يرقيك هذا السائح المظلوم.

وانطلقت الحية إلى السائح فأخبرته بذلك وقالت: ألم أنهك عن الإنسان فلم تطعني. وأعطته شجرة تنفع من سمها وقالت له: إذا صرت إلى الملك فارق الغلام واسقه من ماء هذه الشجرة فإنه يبرأ، ثم أصدق الملك الحديث فإنك تنجو إن شاء الله.

وإن الملك لما دعا الرقاة ولم ينتفع بشيء قال له ابنه: "إن شفائي عند هذا الناسك الذي قد أخذته وأمرت بعذابه". فأمر الملك أن يكف عن عقوبته وأن يؤتى به. فلما أوتي به أمره أن يرقي ابنه فقال: لست أحسن الرقيّ ولكني أدعو له بدعوة أرجو أن يكون فيها شفاؤه. فقال: إنما دعوتك لتخبرني بحاجتك. فقصّ السائح على الملك أمره والذي كان من صنيعه إلى الصواغ والببر والحية والقرد والذي قلن له في أمره، والذي حمله على أن يأتي مينته ثم قال: "اللهم إن كنت تعلم أني صادق فيما ذكرت فعجل لابن الملك الخلاص مما هو فيه والشفاء والعافية". ثم سقاه من ماء الشجرة فبرئ الغلام مما كان به وكشف الله عنه. فأكرم الملك السائح ووصله وأحسن إليه وأمر بالصائغ أن يصلب فصلب.

ثم قال الفيلسوف للملك: ففي صنيع الصواغ بالسائح وكفره له بعد استنقاذه إياه وشكر البهائم له وتخليص بعضها إياه عبرة للمعتبرين وفكرة لمن فكروا في وضع المعروف والإحسان عند أهل الوفاء والكرم، قربوا أو بعدوا، لما في ذلك صواب الرأي وجلب الخير وصرف المكروه. فهذه عاقبة المعروف.

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:31 PM

باب ابن الملك وابن الشريف وابن التاجر وابن الأكّار

قال الملك: قد فهمت ما ذكرت مما يحق على الملك في التوخي لمعروفه ليضعه عند أهل الشكر قربوا أو بعدوا، فأخبرني ما بال الجاهل والسفيه يصيبان الرفعة والشرف والخير العظيم، والرجل الحكيم العليم يلحقه البلاء والجهد والغرم الثقيل.

قال الفيلسوف: كما أن الرجل لا يبصر إلا بعينيه ولا يسمع إلا بأذنيه فكذلك العلم إنما تمامه بالحلم والعقل والتثبيت. غير أن القضاء والقدر يغلبان على ذلك، كما نرى أحياناً البصير يعثر والضرير يسلم. ومثل ذلك مثل ابن الملك الذي ربي على باب مدينة يقال لها مطون جالساً، وثم كتب عليه بعد أن تم أمره "إن العقل والجمال والاجتهاد والقوة وما سوى ذلك فإنما ملاكه القضاء والقدر".

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

قال الفيلسوف: زعموا أن أربعة نفر اصطحبوا، أحدهم ابن الملك والثاني ابن الشريف والثالث ابن تارجر والرابع ابن أكّار، وكانوا جميعاً محتاجين وقد أصابهم ضرّ وجهد لا يملكون شيئاً إلا ما عليهم من ثيابهم. فبينما هم يمشون إذ قال ابن الملك: إن أمر الدنيا كله بالقضاء والقدر وانتظارهما أفضل الأمور. قال ابن التاجر: بل العقل أفضل من كل شيء. قال ابن الشريف: الجمال خيرٌ مما ذكرتم. قال ابن الأكّار: الاجتهاد أفضل من ذلك كله.

ثم مضوا نحو مدينة يقال لها مطون. فلما انتهوا إليها أقاموا في ناحية منها وقالوا لابن الأكال: انطلق فاكتسب لنا باجتهادك طعاماً ليومنا هذا. فانطلق فسأل: أي عمله إذا عمله الرجل من غدوّه إلى الليل به ما يشبع أربعة نفع؟ فقيل له: ليس شيء بأعز من الحطب. وكان على رأس فراسخ منها فتوجه إليه فحمل حملاً من الحطب الجزل فباعه بنصف درهم ثم اشترى به ما يصلح أصحابه، وكتب على باب المدينة: "إجتهاد يوم واحد يبلغ ثمنه نصف درهم"، وأتاهم بما اشترى فأصابوا منه وأكلوا.

فلما أصبحوا قالوا لابن الشريف: انطلق بجمالك فاكتسب بعض ما يوقتنا. فانطلق وتفكّر في نفسه وقال: لست أحسن من الأعمال شيئاً، وأستحي أن أرجع إلى أصحابي بغير طعام، فهمّ أن يفارقهم فأسند ظهره إلى شجرة في المدينة من الهم. فمر عليه مصوّر فأعجبه جماله فأرسل إليه خادمه فأتى به وأدخله داره ثم أمر فنظّف وظل معه يومه ذلك وأخذ رسمه ليعرض صورته على أهل المدينة. فلما كان عند المساء أجازه بخمس مائة دينار، فتوجه إلى أصحابه وكتب على باب المدينة: "جمال يوم واحد ثمنه خمسة مائة دينار".

فلما أصبحوا قالوا لابن التاجر: انطلق أنت فاكتسب لنا بعقلك وتجارتك ليومنا هذا شيئاً. فذهب فلم يبرح إلا قليلاً حتى أبصر سفينة عظيمة في البحر قد أرست إلى الشط غير بعيدة من المدينة فخرج إليها أناس ليبتاعوا ما فيها فساوموا أصحابها فوجدوا ثمنها غالياً، ثم قال بعضهم لبعض: فلننصرف اليوم دون أن نبتاع منها شيئاً حتى تكسد البضاعة على أصحاب السفينة فيرخّصوا علينا. ففعلوا ذلك فخالف إليها ابن التاجر فاشترى منهم ما كان فيها بمائة ألف دينار. فلما بلغ التجار ما فعل أتوه فأربحوه مائة ألف دينار. فانتقدها وأحال بائعه عليهم ورجع إلى أصحابه. فلما مرّ بباب المدينة كتب عليه: "عقل يوم واحد ثمنه مائة ألف درهم". فتمتعوا بما أصابوا وأخصبوا.

فلما أصبحوا في اليوم الرابع قالوا لابن الملك: انطلق فاكتسب لنا شيئاً بالقضاء والقدر. فذهب حتى أتى باب المدينة فجلس على دكان من دكاكين باب المدينة فقضي أن ملكها هلك ولم يترك ولداً ولا أخاً ولا ذوي قرابة. فمروا عليهب جنازة الملك فبصروا به لا يتحرّك ولا يتحاشى ولا يحزن لموت الملك. فسأله البواب: من أنت؟ وما يقعدك على باب المدينة ولا يحزنك موت الملك؟ فلم يجبه فشتمه وطرده، فلما مضوا رجع إلى مكانه.

ثم انصرفوا من دفن الملك فبصر به البواب وقال له بغضب: ألم أنهك عن هذا المجلس؟ وتقدم إليه فأخذه وحبسه. فلما اجتمعوا في الغد ليملّكوا عليهم رجلاً يختارونه قام الذي كان ألقى الفتى بالحبس فحدثم بقصته فقال: إنت رأيت أمس غلاماص جالساً على الباب ولم أره يحزن لحزننا وتلوح عليه لوائح العزة والشرف، كلمته فلم يجبني فألقيته بالحبس وإني أتخوف أن يكون عيناً علينا فابعثوا إليه. فأتوا به فسألوه من هو وما أمره وما الذي أقدمه أرضهم. قال: "أنا صهر ملك قروناد. توفي والدي فغلبني أخي على الملك وأنا أكبر منه فهربت منه حذراً على نفسي حتى انتهيت إليك". فلما سمعوا ذلك منه لم يتحققوا صدق كلامه حتى عرفه بعض من كان منهم يغشى بلاد أبيه. فأثنوا عليه وملّكوه عليهم وقلّدوه أمرهمز وكانت سنتهم الطواف لمن ولّوه عليهم فحملوه على فيل وأجالوا به. فلما مرّ بباب المدينة بصر بما كتب عليه أصحابه فأمر أن يكتب: "الاجتهاد والعقل والعمل وما أصاب الانسان من خير أو شرّ يجري بقضاء الله وحكمه. إعتبر ذلك بما ساق إليّ من الخير والسعادة بفضله".

ثم إن الملك أتى مجلسه فقعد على سريره وأرسل إلى أصحابه فأتوه فموّلهم وأغناهم. ثم جمع عمّاله وأهل الفضل وذوي الرأي من أهل مملكته فقال: أما أصحابي فقد استيقنوا أن الذي رزقهم الله من الخير إنما كان بما أتوه بفضل عقلهم وجمالهم ونشاطهم. وأما أنا فإن الذي منحني الله وهيّأه لي لم يكن من الجمال ولا العقل ولا الاجتهاد وإنما كان يحكمه تعالى وقضائه. وما كنت أرجو إذ طردني أخي وجفاني أن أصيب هذه المنزلة ولا أكون بها لأني قد رأيت من أهل هذه الأرض من هو أفضل مني جمالاً وحسناً وعلمت أن فيها من هو أكمل مني رأياً وأشد مني اجتهاداً. فساقني الله وقضاؤه إلى أن اغتربت فملكت أمراً قد علمه الله وقدّره وقد كنت راضياً أن أعيش بحال خشونة وشظف معيشة.

فقام شيخ كان في أرضهم فقال: أيها الملك إنك قد تكلمت بحلم وعقل ورأي حسن ظناً بك ورجاؤنا فيك وعرفنا ما ذكرت وصدّقناك بما وصفت وعلمنا أنك قد كنت لما ساق الله إليك من ذاك أهلاً بفضل قسمته عندك وتتابع نعمته عليك. فإن أسعد الناس في الدنيا والآخرة أولاهما بالسرور فيها من رزقه الله ما رزقك وجعل عنده مثل الذي جعل عندك. وقد أرانا الله الذي نحب إذ ملّكك علينا وقلّدك أمرنا فنحمد الله على ما أكرمنا به من ذلك وامتنّ علينا فيه.

ثم قام شيخ آخر فحمد الله وأثنى عليه ومجّده وذكر آلاءه وقال: إيها الملك إني قد كنت وأنا غلام قبل أن أسيح في الأرض أخدم رجلاً من الناس. فلما بدا لي أن أرفض الدنيا فارقته. وقد كان أعطاني من أجرتي دينارين فأردت أن أتصدّق بأحدهما وأستنفق الآخر، فقلت: أليس أعظم لآخرتي أن أشتري نفساً بدينار فأعتقها لوجه الله. فأتيت السوق فوجدت مع صياد حمامتين فساومته فطلب بهما دينارين فجهدت على أن يعطيهما بدينار فأبى ذلك فقلت: لعلهما أن يكون زوجين أو أخوين فأخاف إن أعتقت أحدهما أن يموت الآخر. فابتعتهما منه بالثمن الذي سمّى. وأشفقت أن يطيرا مما لقيا من الجهد والهزال. فذهبت بهما إلى مكان كثير الرعي فسرّحتهما فطارا فوقعا على شجرة. ثم شكرا في وسمعت أحدهما يقول للآخر: لقد خلّصنا هذا السائح من البلاء الذي كنا فيه وإنا لخليقان أن نجازيه بفعله. ثم قالا لي: لأنك قد أتيت إلينا بما نحن أهل أن نشكرك به ونعرفه لك فاعلم أن في أصل هذه الشجرة جرة مملوءة دنانير فخذها.

فأتيت الشجرة وأنا في شك مما قالا لي، فلم أحفر إلا قليلاً حتى انتهيت إليها فاستخرجتها ودعوت الله لهما بالعافية وقلت لهما: إذا كان عملكما هذا العلم بما تحت الأرض وأنتما تطيران بين السماء والأرض فكيف وقعتما في هذه الورطة التي أنجيتكما منها؟ قالا: أما تعلم أيها العاقل أن القدر إذا نزل أغشى البصر. والقدر يغلب كل شيء ولا يستطيع أحد أن يجاوزه.

ثم قال الفيلسوف للملك: ليعرف أهل النظر أن الأمور والعلم بها أن الأشياء كلها بقضاء وقدر لا يجلب منها أحد على نفسه محبوباً ولا يدفع عنها مكروهاً إلا بإذن الله يفعل فيها ما أراد ويقضي منها ما أحب. فلتسكن إلى ذلك الأنفس ولتطمئن إليه القلوب فإن في ذلك لمن ألهمه الله ووفّق له سعة وراحة.

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:32 PM

باب الأسوار واللبوءة والشعهر

قال الملك للفيلسوف: قد سمعت ما ذكرت من أمر القضاء والقدر وغلبتهما الأشياء، فأخبرني عن من يدع ضرّ غيره لما يصيبه من الضر ويكون له في ما ينزل به واعظ وزاجر عن ارتكاب الظلم والعدوان في غيره.

فقال الفيلسوف: إنه لا يقدر على طلب ما يضر بالناس ويسوؤهم إلا أهل الجهالة والسفه وسوء النظر في عواقب الأمور من الدنيا والآخرة وقلة العلم بما يدخل عليهم في ذلك من حلول النقمة ويلزمهم من تبعة ما اكتسبوا مما لا يحيط به القول. فإن سلم بعضهم من بعض لفتنة عرضبت قبل نزول وبال ما صنعوا، اغترّ بهم الآخرون بما ينقطع فيه الكلام والوصف من الشدة وعظم الهول. وربما اتعظ الجاهل واعتبر بما يصيبه من المكروه من غيره فارتدع عن أن يغشى أحداً بمثل ذلك الظلم والعدوان وحصل له نفع بأن كفّ عنه في العاقبة. ونظير ذلك الحديث حديث الأسوار واللبؤة والشعهر.

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

قال بيدبا الفيلسوف: زعموا أن لبؤة كانت في غيضة ولها شبلان وأنها خرجت تطلب الصيد وخلّفتهما فمرّ بهما أسوار فحمل عليهما فقتلهما وسلخ جلدهما فاحتقبهما وانصرف بهما إلى منزله. فلما رجعت اللبؤة فرأت ماحل بهما من الأمر الفظيع الهائل الموجع للقلوب سخنت عينها واشتد غيظها وطال همها واضطربت ظهراً لبطن وصاحت. وكان إلى جانبها شعهر جار لها. فلما سمع صيحتها وجزعها قال: ما هذا الذي نزل بك وحل بعقوبتك؟ هلمي فأخبريني لأشركك فيه أو أسليه عنك.

فقال اللبؤة: شبلاي مرّ عليهما أسوار فقتلهما وأخذ جلدهما فاحتقبهما وألقاهما بالعراء.

قال الشعهر: لا تجزعي ولا تصرخي وأنصفي من نفسك واعلمي أن هذه الأسوار لم يأت إليك شيئاً إلى وقد فعلت بغيرك مثله ولم تجدي من الغيظ والحزن على شبليك شيئاً إلا وقد وجده غيرك بأحبابه لما تفعلين فوجدت اليوم مثله وأفضل منه. فاصبري من غيرك على ما صبر منك عليه غيرك. فإنه قد قيل: كما تدين تدان، وإن ثمرة العقل العقاب والثواب وهما على قدره في الكثرة والقلة كالنزاع الذي إذا حضر الحصاد أعطى كلا على حساب بذره.

قالت اللبؤة: صف لي ما تقول واشرحه لي.

قال الشعهر: كم أتى لك من العمر؟

قالت اللبؤة: مائة سنة.

فقال الشعهر: ما كان الذي يعيشك ويقوتك؟
قالت اللبؤة: لحوم الوحش.

قال الشعهر: أما كان لتلك الوحوش آباء وأمهات؟

قالت اللبؤة: بلى.

فقال الشعهر: ما لنا لا نسمع لأولئك الآباء والأمهات من الضجة والوجع والصراخ ما نرى منك. أما أنه لم يصبك ذلك إلا لسوء نظرك في العواقب وقلة تفكرك فيها وجهالتك بما يرجع عليك من ضرها.

فلما سمعت اللبؤة عرفت أنها هي التي جنت ذلك على نفسها وجرّته إليها، وأنها هي الضالة الجائرة، وأنه من عمل بغير العدل والحق انتقم منه وأديل عليه. فتركت الصيد وانصرفت عن أكل اللحم إلى الثمار وأخذت في النسك والعبادة.

ثم إن الشعهر وكان عيشته من الثمار رأى كثر أكلها منها فقال لها: لقد ظننت إن رأيت قلة الثمار أن الشجر لم يحل هذا العالم لقلة الماء، فلما رأيت أكلك إيها وأنت صاحبة لحم ورفضك رزقك وما قسم الله لك وتحولك إلى رزق غيرك فانتقصته ودخلت عليه فيه فعلمت أن الشجرة قد أثمر كما كان يثمر فيما خلا، وإنما أنت قلة الثمر في ذلك من قبلك. فويل للشجر والثمار ولمن كان عيشه منها ما أسرع هلاكهم ودمارهم إذ قد نازعهم في ذلك من لا حق له فيها ولا نصيب، وغلبهم عليها من كان معتاداً لأكل اللحوم. فانصرفت اللبؤة عن أكل الثمار وأقبلت على أكل الحشيش والعبادة.

وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن الجاهل ربما انصرف لمكروه حل به عن ضرّ الناس كاللبؤة التي تركت بما لقيت في شبليها عن أكل لحوم الوحوش ثم عدلت لقول الشعهر عن أكل الثمار فأكلت الحشيش وأقبلت على النسك والعبادة.

ثم قال الفيلسوف للملك: فالناس أحق بحسن النظر في ذلك والأخذ بالذي لهم الحظ فيه. فإن في ذلك العدل وفي العدل رضا الله والناس.

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:32 PM

باب الناسك والضيف

قال الملك للفيلسوف: قد سمعت ما ذكرت من امرئ كف عن ضر غيره لضر يصيبه أو بلية تدخل عليه، فأخبرني إن رأيت عن من يدع عمله الذي يليق به ويشاكله ويطلب سواه فلا يدركه فراجع الذي كان في يده فلا يقدر عليه فيبقى حيران متردداً.

قال الفيلسوف: زعموا أنه كان في أرض الكرخ ناسك مجتهد فنزل به ضيف ذات يوم فدعا بتمر ليطرفه به فأكلا منه جميعاً. ثم إن الضيف قال: ما أحلى هذا الثمر وأطيبه وليس في بلادي التي أسكنها نخل وبودي أن آخذ منه فأغرسه في أرضنا. قال الناسك: ليس لك في ذلك كبير منفعة، ولعل النخل لا يوافق أرضكم. وبلادكم كثيرة الأثمار مع وخامة التمر وقلة موافقته للجسد. ثم قال له الناسك: إنه لا يعد سعيداً من احتاج إلى ما لا يجد وليس بمعذور عليه فتشره لذلك نفسه ويقل عنه صبره ويصل إليه من ثقل ذلك واغتنامه ما يضرّه ويدله على المشقة عليه. وإنك أنت لعظيم الجد وجزيل الحظ لو قنعت بما رزقت وزهدت فيما لا تظفر به ولا تدرك طلبتك منه. فقال الضيف: وفقت ورشدت وقد سمعت منك كلاماً غريباً أعجبني واستحسنته. فلو علمتنيه فإن لي فيه رغبة وفي علمه حرصاً. فقال الناسك: ما أخلقك أن تقع بما تركت من كلامك وتكلفت من كلام العربانية في مثل ما أصاب الغراب.

قال الضيف: وكيف كان ذلك؟

قال الناسك: زعموا أن غراباً رأى مرة حجلة تمشي فأعجبته مشيتها وطمع في تعلّمها وراض نفسه عليها فلم يقدر على إحكامها. فانصرف إلى مشيته التي كان عليها فإذا هو قد نسيها فصار حيران مترددا لم يردك ما طلب ولم يحسن لما كان في يديه فصار أقبح الطير مشياً.

وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنك خليق إذ تركت لسانك الذي طبعت عليه وتكلفت عليه وتكلفت علم ما لا يشاكلك من كلام العبرانية ألا تدركه وتنسى الذي كان في يديك من غيره. فإنه قد قيل: "يعد جاهلاً من حاول من الأمور ما لا يشبهه وليس من أهله ولم يدركه آباؤه ولا أجداده من قبله ولم يعرفوا به قبلاً".

قال الفيلسوف للملك: إن الولاة في قلة تعاهدهم الرعية في هذا وأشباهه اليوم أسوأ تدبيراً لانتقال الناس من بعض المنازل إلى بعض وتركهم منها ما قد لزموه وجرت لهم المعايش فيه من قبل الملوك، والتماس أهل الطبقة السفلى مراتب الطبقة العليا وانتشار الأمور وفساد الأدب ومنازعة اللئيم للكريم. ثم الأشياء تجري على مثال ذلك حتى تنتهي إلى الخطر العظيم الجسيم من مزاحمة الملك في ملكه ومضادّته فيه.


الساعة الآن 04:56 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى