![]() |
في ليلة النصف من شعبان
قال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كنت نائمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة النصف من شعبان، فلما ألصق جلدي بجلده، أغفيت ثم انتبهت، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عندي، فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة، فلففت مـُرْطـِي، أما والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا ديباجاً ولا قطناً ولا كتاناً، قيل فما كان يا أم المؤمنين، قالت: كان سداه من شعر، ولحمته من أوبار الإبل، قالت: فحنوت إليه أطلبه، حتى ألفيته كالثوب الساقط على وجهه في الأرض، وهو ساجد يقول: سجد لك خيالي وسوادي، وآمن بك فؤادي، هذه يدي وما جنيت بها على نفسي، يا عظيم تـُرجى لكل عظيم، فاغفر لي الذنب العظيم، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنك لفي شأن، وإني لفي شأن، فرفع رأسه ثم عاد ساجداً فقال: "أعوذ بوجهك الذي أضاءت له السموات السبع، والأرضون السبع، من فجاة نـِقمتك، وتحوّل عافيتك، ومن شرّ كتاب قد سبق، وأعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" فلما انصرف من صلاته، تقدمت أمامه، حتى دخلت البيت، ولي نـَفـَسٌ عال، فقال: ما لك يا عائشة؟ فأخبرته الخبر فقال: "ويح هاتين الركبتين ما لقيتا في هذه الليلة، ومسح عليهما، ثم قال: أتدرين أي ليلة هذه يا عائشة، فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: هذه الليلة، ليلة النصف من شعبان، فيها تؤقت الآجال، وتثبت الأعمال". |
في هذه الدنيا مَن هو أجود منك
قال معن بن زائدة: لما انتقلت الدولة إلى بني العباس، جَدَّ المنصورُ في طلبي، وجعل لمن يحملني إليه مالاً. فاضطررت لشدّة الطلب إلى أن تعرّضت للشمس حتى لوحت وجهي، وخَفَّـفتُ عارضي، ولبست جبـّة صوف، وركبت جملاً، وخرجت متوجهًا إلى البادية لأقيم بها. فلما خرجتُ من باب حرب، وهو أحد أبواب بغداد، تبعني أَسود متقلـِّد بسيف، حتى إذا غبت عن الحرس، قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض على يدي. فقلت له: ما بك؟ فقال: أنت طلبة أمير المؤمنين. فقلت: ومن أنا حتى أُطلب. قال: أنت معن بن زائدة. فقلت له: يا هذا، اتّق اللّه، وأين أنا من معن؟ فقال: دع هذا، فواللّه إني لأَعـْرَفُ بك منك. فلما رأيت منه الجد، قلت له: هذا جوهر قد حملته معي بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه بي. فخذه ولا تكن سببًا في سفك دمي. قال: هاته. فأخرجته إليه، فنظر فيه ساعة وقال: صدقتَ في قيمته، ولستُ قابلَه حتى أسألك عن شيء، فإن صَدَقتني أطلقتك. فقلت: قل. قال: إن الناس قد وصفوك بالجود. فأخبرني: هل وهبتَ مالك كله قط؟ قلت: لا. قال: فنصفه؟ قلت: لا. قال: فثلثه؟ قلت: لا. حتى بلغ العُشر، فاستحييت وقلت: أظن أني فعلتُ هذا. قال: وما ذاك بعظيم. أما عني فرزقي من الخليفة كل شهر عشرون درهمًا. وهذا الجوهر قيمته ألوف الدنانير. وقد وهبتـُه لك، ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس، ولتعلم أن في هذه الدنيا من هو أجود منك. فلا تُعجبك نفسك، ولتحقر بعد هذا كلَّ جود فعلتَه، ولا تتوقَّف عن مكرمة. ثم رمى العقد في حِجري، وترك خطام الجمل، وولّى منصرفًا. فقلت: يا هذا، قد واللّه فضحتني، ولَسَفْكُ دمي أهونُ عليّ مما فعلتَ. فخذ ما دفعتُه لك فإني غنيّ عنه. فضحك وقال: أردتَ أن تكذبني في مقالي هذا؟ واللّه لا أخذتُه ولا آخذ لمعروف ثمنًا أبدًا. ومضى سبيله. فواللّه لقد طلبتُه بعد أن أمنت ووليت بلاد اليمن، وبذلت لمن يجيء به ما شاء، فما عرفتُ له خبرًا، وكأنّ الأرضَ ابتلعته. من كتاب "وفيات الأعيان" لابن خلكان. |
فيه شفـاء للناس
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً بأن يسقي أخاه العسلَ لإسهالٍ كان به. فتزيّد الإسهال به لما سقاه العسل، فشكا ذلك إلى النبي، فقال عليه الصلاة والسلام: صدق الله، وكَذَبَ بطْنُ أخيك. من كتاب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" لابن رشد. |
قاطـع الطريـق
حدّث أبو أحمد الحارثي قال: كنت مسافرا في بعض الجبال مع جماعة من التجار، فخرج علينا ابن سيار الكردي قاطع الطريق، فقطع علينا. وكان بزيّ الأمراء لا بزيّ القطّاع. فقربت منه لأنظر إليه وأسمع كلامه، فوجدته يدلّ على فهم وأدب. فحادثته، فإذا هو رجل فاضل يروي الشعر ويفهم النحو. فطمعتُ فيه، وعملتُ في الحال أبياتا أمدحه بها. فقال لي: كيف أعرف إن كان هذا من شعرك؟ اعمل لي على قافية هذا البيت ووزنه شعرا الساعة لأعلم أنك قلته. وأنشد لي بيتا. فعملت له في الحال ثلاثة أبيات على قافيته ووزنه. فقال لي: أي شيء أخذ منك لأرده إليك؟ فذكرت له ما أخذ مني وما أخذ من رفيقين كانا معي. فرد لي جميع ذلك، ثم أخذ من أكياس التجار التي نهبها كيسا فيه ألف درهم، فوهبه لي. فجزيته خيرا ورَدَدْتُ عليه الكيس. فقال: لم لا تأخذه؟ فلما لم أُجِبه، قال: أحبُّ أن تصْدُقني. قلت: وأنا آمن. قال: وأنت آمن. فقلت: لأنك لا تملكه، وهو من أموال التجّار الذين أخذتها منهم الساعة ظُلما. فكيف يحل لي أن آخذه. قال: أما قرأت ما ذكره الجاحظ في "كتاب اللصوص" عن بعضهم؟ قال الجاحظ: "إن هؤلاء التجار خانوا أماناتهم، ومنعوا زكاة أموالهم، فصارت أموالهم مستهلكة بها، واللصوص فقراء إليها. فإذا أخذ اللصوص أموالهم كان ذلك مباحا لهم، لأن عين المال مستهلكة بالزكاة، وهؤلاء يستحقون أخذ الزكاة بالفقر، شاء أرباب الأموال أم كرهوا". قلت: بلى قد ذكر الجاحظ هذا. ولكن من أين يُعْلَم أن هؤلاء ممن استهلكت أموالهم الزكاة؟ فقال: لا عليك. أنا أحضر هؤلاء التجار وأُريك بالدليل الصحيح أن أموالهم لنا حلال. ثم قال لأصحابه: هاتوا التجار! فجاءوا. فقال لأحدهم: منذ كم أنت تتجر في هذا المال الذي أخذناه منك؟ قال: من كذا وكذا سنة. قال: فكيف كنت تُخْرِجُ زكاته؟ فتلجلج التاجر وتكلم بكلام من لا يعرف الزكاة على حقيقتها فضلا عن أن يُخرجها. ثم دعا آخر، وقال له: إذا كان معك ثلاثمائة درهم وعشرة دنانير، وحالت عليها السنة، فكم تُخرج منها للزكاة؟ فلم يحسن أن يجيب. ثم قال لآخر: إذا كان معك متاع للتجارة، ولك دَيْن على رجلين أحدهما ثري والآخر فقير، ومعك دراهم. وقد حالت السنة على الجميع، كيف تخرج زكاة مالك؟ فما فهم السؤال فضلا عن أن يجيب. فصرفهم، ثم قال لي: بان لك صدق حكاية الجاحظ، وأن هؤلاء التجار ما زكّوا قط؟ خذ الآن الكيس فأنت أَوْلَى به. فأخذتُه. وساق هو القافلة فانصرف بها. من كتاب "الفرج بعد الشدة" للتنوخي. |
قبـول الهديـة
بلغ الخليفةَ عبد الملك بن مروان أن بعض كُتّابه قَبِل هدية، فقال له: أَقَبِلْتَ هديةً منذ ولّيتك؟ فقال: أمورُك يا أمير المؤمنين مستقيمة، والأموال دارّة، والعمّال محمودون، وخَراجك مُوَفّر. قال عبد الملك: أَجِب عما سألتُك عنه. فقال: نعم، قد قبِلت. فقال: والله إن كنتَ قبلتَ هديةً لا تنوي مكافأةَ المُهْدِي لها، إنك لئيم دنيء؛ وإن كنت قبلتها تستكفي رجلا لم تكن تستكفيه لولاها، إنك لخائن؛ وإن كنت نويتَ تعويض المُهدِي عن هديته، وألا تخون أمانة، فلقد قبلتَ ما بسط عليك لسانَ مُعامِليك، وأطمع فيك سائر مُجاوريك، وسلَبك هيبة سلطانِك. وما في مَن أَتَى أمراً لم يخْلُ فيه من لوم أو دناءة أو خيانة أو جهل، مُصْطَنَع وصرفه عن عمله. من "كتاب الوزراء والكُتّاب" للجَهْشِياري. |
قصة أبي حسان الزيادي
حدّث أبو حسان الزيادي قال: ألمت بي ضائقةٌ بلغت الغاية، حتى ألحّ عليّ القصّاب والبقّال والخبّاز وسائر المعاملين ولم تبق لي حيلة لسداد الدين. فإني ليوما على هذا الحال، وأنا مفكر في الحيلة، إذ دخل عليّ الغلام فقال: رجل خراساني بالباب يستأذن. فقلت له: ائذن له. فدخل الخراساني فسلّم، ثم قال: ألست أبا حسان؟ قلت: نعم، فما حاجتُك؟ قال: أنا رجل غريب وأريد الحج، ومعي عشرة آلاف درهم، وأريد أن أودعها عندك إلى أن أقضي حجي وأرجع. فقلت: هاتها. فأحضرها وخرج بعد أن وزنها وخَتَمها. فلما خرج فككت الخاتم، ثم أحضرت المعاملين فقضيتُ كل ما كان له عليّ دين، واتسعتُ وأنفقتُ، وقلت: أضمن هذا المال للخراساني، وإلى أن يجيء يكون الله قد أتى بفرج من عنده. فلما أصبحتُ من غد ذلك اليوم، دخل إليّ الغلام فقال : الخراساني بالباب يستأذن. فقلت ائذن له. فدخل فقال: كنتُ عازما على ما أعلمتُك، ثم وَرَدَ عليّ الخبر بوفاة والدي، وقد عزمت على الرجوع إلى بلدي. فتأمر لي بالمال الذي أعطيتُك أمس! فَوَرَدَ عليّ أمرٌ لم يرد عليّ مثله قط، وتحيّرتُ فلم أدر بما أجيبه، وفكّرت: ماذا أقول للرجل؟ ثم قلت له: نعم، عافاك الله، ولكن منزلي هذا ليس بالحريز، ولما أخذتُ مالك أودعته في مكان آخر. فعُدْ إليّ في غدٍ لتأخذه. فانصرف، وبقيت متحيرا لا أدري ما أعمل. إن جَحَدْتُه وأنكرت أخذ المال كانت الفضيحة في الدنيا والآخرة. وأدركني الليل فلم يأخذني النوم ولا قدرت على الغمض لتفكيري في بكور الخرساني إليّ. فقمت إلى الغلام فقلت: أسرج البغلة. فقال: يامولاي، هذه العتمةُ بعد، وما مضى من الليل شيء ، فإلى أين تمضي؟ فرجعت إلى فراشي فإذا النوم ممتنع. فلم أزل أقوم إلى الغلام وهو يردّني إلى الفراش حتى فعلت ذلك ثلاث مرات وأنا لا يأخذني القرار. وطلع الفجر، وأسرج البغلة وركبت، وأنا لا أدري أين أتوجه. وطرحتُ عنان البغلة وأقبلتُ أفكر وهي تسير، حتى بلغتُ الجسر، فإذا البغلة تعدل إليه فتعبُرُه. قلت في نفسي إلى أين أعبر؟ وإلى أين أمضي؟ ولكن إن رجعتُ وجدتُ الخراساني على بابي. فلأدعها تمضي حيث شاءت! ومضت البغلة، فلما عَبَرَتْ الجسر أخَذَتْ بي يُمْنَةً ناحية دار المأمون، فلما قاربتْ دار المأمون والدنيا بعد مظلمة، إذا فارسٌ يقابلني، ثم إذا هو ينظر في وجهي، ثم يسير ويتركني، ثم يرجع إليّ ويقول: ألست بأبي حسان الزيادي؟ قلت: بلى. قال: الأمير الحسن بن سهل يطلبك. قلت في نفسي: وما يريد الحسن بن سهل مني ؟ فسرت معه حتى صرنا إلى بابه، واستأذن لي عليه فدخلت فقال لي: أبا حسان! ما خبرك؟ ولم انقطعت عنا؟ ومضيتُ أعتذر فقال: دع هذا فإني أراك في لوثة أو في أمر عسير، فما هو؟ فشرحت له قصتي من أولها إلى أن لقيني الفارس وأدخلني عليه. فقال: لا يغُمُّك الله يا أبا حسان. قد فرّج الله عنك. هذه بدرة للخراساني في مكان بدرته، وبدرة أخرى لك تتسع بها، وإذا نَفَذَتْ أعْلِمْنا! من كتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي. |
قصة الشيعـيّ مـع الأمـويّ
عـُرِض على الخليفة المنصور، وهو في مكة للحج، جوهرٌ فاخر، فعرفه، وقال: هذا الجوهر كان لهشام بن عبد الملك ثم صار إلى ابنه محمد الذي لم يبق من أهل هشام أحد غيره. ثم قال للربيع: إذا كان غداً وصلـّيتُ بالناس في المسجد الحرام واجتمع الناس فيه فأَغلـِق الأبواب ووكـّل بها ثقاتك من الشيعة، وافتح للناس بابـاً واحداً منها وقـِفْ عليه أنت فلا يخرج أحد إلا من قد عرفتـَه. فلما كان من غد فعل الربيع ذلك. وتبيـّن محمد بن هشام القصة وعلم أنه هو المطلوب، فتحيـّر. وأقبل محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فرأى محمد بن هشام متحيـّراً وهو لا يعرفه، فأنكر أمره، وقال له: يا هذا، أراك متحيـّراً تتلفـّت يمينـاً وشمالاً. فمن أنت؟ قال: أنا محمد بن هشام بن عبد الملك. فمن أنت؟ قال: أنا محمد بن زيد بن عليّ بن الحسين. قال: فعند الله أحتسب نفسي. قال: لا بأس عليك يا ابن عم، فإنك لست قاتل أبي ولا في قتلك إدراك ثأره، وأنا الآن بإنقاذك أَوْلـَى مني بإسلامك إليهم، ولكن تعذرني فيما أتناولك به من مكروه وقبيح خطاب أخاطبك به يكون فيه خلاصـُك بمشيئة الله. فقال: يا سيدي أنت وذاك. فطرح ابن زيد رداءه على رأس ابن هشام ووجهه، وأقبل يسحبه وهو يلطمه حتى جاء به إلى الربيع، فقال له: يا أبا الفضل، إن هذا الخبيث جمـّال من أهل الكوفة هرب مني دون أن يؤدّي إليّ حقي، ولي عليه بذلك شهود. فابعث معنا حـَرَسيـَّين يصيران بي معه إلي القاضي. فضمّ إليه الربيع حرسيـّين وقال: إمضيا به معه. فلما بعدوا من المسجد، قال ابن زيد لابن هشام. يا خبيث، أتؤدّى إليّ حقي؟ قال: نعم يا ابن رسول الله. فقال ابن زيد للحرسيـّين: انصرفا في حفظ الله. فانصرفا. فلما بعـُدا أطلقه، فقبـّل ابن هشام رأسه، ثم أخرج جوهراً له قدر عظيم فدفعه إليه وقال: تشرّفني يا سيدي بقبول هذا مني. فقال ابن زيد: اذهب بمتاعك يا ابن عم، فلستُ ممن يقبل على المعروف مكافأة. من كتاب "المستجاد من فعلات الأجواد" للتنوخي |
قطـر النـدى
كانت قطر الندى بنت خمارويه أكمل نساء عصرها في الجمال والأدب. وقد اتفق لها مع زوجها الخليفة المعتضد حكايات يجب أن تؤرّخ: وضع رأسه يوماً في حجرها فنام حتى غطّ في نومه. فتلطّفت في ميل رأسه من حجرها، ووضعته على مخدة، وقامت. وانتبه المعتضد من نومه فوجد رأسه على مخدة ولم يجد قطر الندى معه. فاشتد غيظه واستدعاها وقال لها: ما هذا الذي صنعت؟ أضع رأسي في حجرك فتتركيني؟ فقالت: إن فيما أوصاني به أبي ألا أجلس بين النيام، ولا أنام بين الجلوس فأعجب ذلك المعتضد وقال: نِعم ما أوصاك به أبوك. وصارت الأمثال في قصر الخليفة تُضرب بأدب قطر الندى. وناولها المعتضد يوما قدح خمر لتشربه، فقالت: يا أمير المؤمنين، ما شربتُه قط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن النساء: ناقصات عقل ودين، والرجال إن شربوا الخمر ففي عقولهم وأديانهم ما يحتمل حيفها، والنساء بضدّ ذلك. فاشتد ولعه بما سمع منها وأعفاها. ولما قُتل أبوها خمارويه، اتصل خبرُ ذبحه بالمعتضد قبل أن يتصل بقطر الندى. واتفق أن دخل المعتضد على قطر الندى في أثر ذلك، فأحست فتوراً منه في معاملته إياها. فقالت: أحسن الله عزاءك يا أمير المؤمنين في خمارويه، وجعل من غلمانك خير خلف منه. فقال لها: أبلغك قتلُه؟ قالت: لا والله. ما يدخل إليّ خبر من غير جهتك. قال: فمن أين عرفت ذلك؟ قالت: يعفيني أمير المؤمنين من هذا. قال: لا بد من ذكر ذلك. قالت: كان أمير المؤمنين طول حياة أبي يُبدي لي برّاً وتلطفاً، فأعلم باتصال ذلك رعية لمكان أبي. فلما رأيتك اليوم قد عاملتني بفتور ولم أعلم لي ذنباً أستوجب به ذلك، خطر بخاطري أن أبي مات. فاستحيا المعتضد واعتذر. ثم قال لها: فما بالك لا يظهر عليك أثر الحزن عليه؟ قالت: فرحي بك يغلب على حزني عليه، والرضا بحياتك يقهر السخط بموته. فقبّل رأسها وحلف لها أنه يرعاها في موت أبيها أكثر من رعيه لها في حياته. من كتاب "المُغْرِب في حُلى المغرب" لابن سعيد الأندلسي. |
قطـِّعوا الورقــة
كان ابن العلقمي وزير المستعصم آخر الخلفاء العباسيين ببغداد. وَلي الوزارة أربع عشرة سنة، فلما ضعف جانبه وقويت شوكة الدوادار بحاشية الخليفة، سعى في دمار الإسلام وخراب بغداد، وأخذ يكاتب التتار، إلى أن جرّ هولاكو وجرّأه على أخذ بغداد، وقرّر مع هولاكو أموراً انعكست عليه، وندم حيث لا ينفعه الندم، وكان كثيراً ما يقول عند ذلك: وجرى القضاءُ بعكس ما أَمـَّلـْتـُه. لأنه عومل بأنواع الهوان من أراذل التتار. حـُكي أنه كان في الديوان جالسـاً فدخله بعض التتار ممن لا وجاهة له، راكبـاً فرسه، فساق إلى أن وقف بفرسه على بساط الوزير، وخاطبه بما أراد، وبال الفرس على البساط، وأصاب الرشاش ثياب الوزير وهو صابر لهذا الهوان يتظاهر بقوة النفس وبأنه بلغ مراده.. ولم تطل مدته حتى مات غمـّا. ويحكى أنه لما كان يكاتب التتار، تحيـّل مرّة إلى أن أخذ رجلاً وحلق رأسه حلقـاً بليغـاً، وكتب ما أراد عليه بوخز الإبر كما يـُفعل بالوشم، ونفض عليه الكحل، وتركه عنده إلى أن طلع شعره وغطى ما كتب، فجهـّزه وقال له: إذا وصلت مـُرْهم بحلق رأسك ودعهم يقرءون ما فيه. وكان في آخر الكلام: "قطـّعوا الورقة". فضرب التتار عنقه. من كتاب "الوافي بالوفيات" للصفدي |
قميص القاضي وقميص الوزير
كان الوزير علي بن عيسى متزمّتًا متخشـِّـنًا. وكان يحب أن يَبِينَ فضلُه في هذا على كل أحد. دخل إليه يومًا أبو عمر القاضي، وعَلَى أبي عمر قميص فاخر. فأراد الوزيرُ أن يُخْجله، فقال له: يا أبا عمر، بكم اشتريتَ هذا القميص؟ فقال: بمائتي دينار. فقال الوزير: ولكني اشْتُرِيَت لي هذه الدّراعة وهذا القميص الذي تحتها بعشرين دينارًا. فقال له أبو عمر مسرعًا كأنه قد أعدّ له الجواب: الوزير أعزّه اللّه يُجَمِّل الثياب، ولا يحتاج إلى المبالغة فيها، والكل يعلم أنه يدع هذا عن قدرة. ونحن نتجمّل بالثياب فنحتاج إلى المبالغة فيها، لأنّا نلابس العوام ومن نحتاج إلى التفخيم عليه، وإقامة الهيبة في نفسه بها. فكأنما ألْقَم الوزير حجرًا، فسكت عنه. من كتاب "نشوار المحاضرة" للتنوخي. |
الساعة الآن 01:00 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |