![]() |
الفصل الثالث السياسة الداخلية لمعاوية رضي الله عنه المبحث الأول : الإحسان إلى كبار الشخصيات من شيوخ الصحابة وأبنائهم وبخاصة بنو هاشم فقد خطب مرة في أهل الحجاز بعد توليه الخلافة فاعتذر عن عدم سلوكه طريقة الخلفاء الراشدين قبله، فقال: وأين مثل هؤلاء؟ ومن يقدر على أعمالهم؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد من بعدهم؟ رحمة الله ورضوان الله عليهم، غير أني سلكت بها طريقاً لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك، ولكم فيه مؤاكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة: فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني بعضه.. وإياكم والفتنة فلا تهموا بها فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة، وتورث الاستئصال، استغفر الله لي ولكم[1]، وبمثل هذه السيرة صار خليفة المسلمين وانقاد له أبناء المهاجرين والأنصار، وكل من يعتقد أنه أولى منه بالخلافة، كان رضي الله عنه، يهتم بغزو القلوب والإحسان إليها، مع الوعي والحذر الشديدين أن لا تنتقض الأمة عليه، لقد كان يبذل المال بلا حساب لكبار الشخصيات القيادية في المجتمع ويعتبر أن عليها مسؤوليات ضخمة تجاه رعاياها من أبناء الأمة، فلا بد أن تكون مليئة لسد الخلّة وتلبي الحاجة، وتحلّ المعضلة، ولعل أشراف بني هاشم كانوا في هذا الصدد أكثر قيادات الأمة إغداقاً عليهم بالمال، ولا بدع فهم لايزالون في عرف الناس القيادات الشعبية التي تمثل جماهير الأمة، وتلجأ الأمة إليهم أكثر مما تلجأ إلى الولاة والأمراء، وهذه القيادات لم تشارك في الحكم ولم تكن لها رغبة في ذلك[2]. أولاً : العلاقة بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما بعد الصلح : كان الحسن بن علي يقدم على معاوية في خلافته، فقدم عليه ذات مرة فقال له معاوية: لأجيزنك بجائزة ما أجزت بها أحداً قبلك ولا أجيز بها أحداً بعدك، فأعطاه أربع مائة ألف فقبلها[3]، وجاء في رواية:... أن الحسن بن علي كان يفد كل سنة إلى معاوية فيصله بمائة ألف درهم، فقعد سنة عنه ولم يبعث إليه معاوية بشيء فدعا بدواة ليكتب إليه فأغفى قبل أن يكتب فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه كأنه يقول: يا حسن أتكتب لمخلوق تسأله حاجتك وتدع أن تسأل ربك؟ قال: فما أصنع يا رسول الله وقد كثر ديني؟ قال: قل اللهم إني أسألك من كل أمر ضعفت عنه قوتي وحيلتي ولم تنته إليه رغبتي، ولم يخطر ببالي ولم يبلغه أملي، ولم يجر على لساني من اليقين الذي أعطيته أحداً من المخلوقين الأولين والمهاجرين والآخرين إلا أخصصتني يا أرحم الراحمين. قال الحسن: فانتبهت وقد حفظت الدعاء، فكنت أدعو به فلم يلبث معاوية أن ذكرني فقيل له: لم يقدم السنة، فأمر له بمائتين ألف درهم[4]. وجاء في رواية: بأن الدعاء الذي علمه رسول الله للحسن في المنام هو: اللهم أقذف في قلبي رجاك، واقطع رجائي عمّن سواك لا أرجو أحداً غيرك اللهم وما ضعفت عنه قوتي وقصر عنه عملي ولم تنته إليه رغبتي، ولم تبلغه مسألتي ولم يجر على لساني مما أعطيت أحداً من الأولين والآخرين من اليقين فخصّني به يا رب العالمين قال: فوالله ما ألححت به أسبوعاً حتى بعث إليّ معاوية بألف ألف وخمس مائة ألف، فقلت: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، ولا يخيّب من دعاه، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا حسن كيف أنت؟ فقلت: بخير يا رسول الله وحدثته حديثي فقال: يا بُني هكذا من رجا الخالق ولم يرج المخلوق[5]. وروى الزهري:... لما قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجاء الحسن بن علي رضي الله عنهما إلى معاوية فقال له معاوية: لو لم يكن لك فضل على يزيد إلا أن أمك إمرأة من قريش وأمه إمرأة من كلب لكان لك عليه فضل، فكيف وأمك فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم[6] ثانياً : صلات معاوية للحسن وابن الزبير رضي الله عنهم : عن جعفر بن محمد عن أبيه أن الحسن والحسين رضي الله عنهما كانا يقبلان جوائز معاوية رضي الله عنه[7]، وكان يرسل للحسن والحسين، فقد أمر معاوية مرّة للحسن بن علي بمائة ألف فذهب بها إليه فقال لمن حوله: من أخذ شيئاً فهو له، وأمر للحسين بن علي بمائة ألف فذهب بها إليه وعنده عشرة فقسمها عليهم عشرة آلاف، عشرة آلاف، وأمر لعبد الله بمائة ألف[8]، وكان معاوية رضي الله عنه إذا لقي الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: مرحباً بابن رسول الله وأهلاً، ويأمر له بثلاثمائة ألف، ويلقي ابن الزبير رضي الله عنه فيقول: مرحباً بابن عمة رسول الله وابن حواريه، ويأمر له بمائة ألف[9]، وقد أشاد ابن الزبير بذكر معاوية بعد وفاته، فقد حدث هشام بن عروة بن الزبير قال: صلى يوماً عبد الله بن الزبير، فوجم بعد الصلاة ساعة، فقال الناس: لقد حدث نفسه ثم التفت إلينا فقال: لا يبعدن ابن هند: إن كانت فيه لمخارج لا نجدها في أحد بعده أبداً، والله إن كنا لنفرقه ـ أي نخوفه ـ وما الليث الحرب على براثنه بأجرأ منه فيتفارق لنا وإنا كنا لنخدعه، وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه فيتخاع لنا، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا حجر ـ وأشار إلى أبي قبيس[10]. وقول ابن الزبير هذا قاله عندما حصر في عهد عبد الملك بن مروان[11]. ثالثاً : عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مع معاوية : وكان معاوية يحترمه ويقدره وكان يفد على معاوية، فأكرمه وقرّبه واحترمه وعظّمه، وكان يلقي عليه المسائل المعضلة فيجيب عنها سريعاً، فكان معاوية يقول: ما رأيت أحداً أحضر جواباً منه. ولما جاء الكتاب بموت الحسن بن علي اتفق كون ابن عباس عند معاوية فعزّاه فيه بأحسن تعزية، وردّ عليه ابن عباس ردّاً حسناً[12]، وبعث معاوية ابنه يزيد فجلس بين يدي ابن عباس وعزّاه بعبارة فصيحة وجيزة شكره عليها ابن عباس[13]، أما تعزية معاوية رضي الله عنه وإجازته لابن عباس. فكما رواها قتادة: ثم قال لابن عباس: لا يسؤك الله ولا يحزنك في الحسن بن علي فقال ابن عباس لمعاوية: لا يحزنني الله ولا يسوءني ما أبقى الله أمير المؤمنين. قال: فأعطاه ألف ألف درهم وعروضاً وأشياء وقال: خذها فاقسمها في أهلك[14]. وكان ابن عباس رضي الله عنه من سادات المجتمع الإسلامي وقائد من قاداتها الكبار وكان معاوية رضي الله عنه يعرف مكانته الاجتماعية والعلمية، فابن عباس كان بمثابة المستشار للشئون العلمية للخليفة، وقد كان معاوية رضي الله عنه يعترف بفضل بني هاشم على بني أمية، فقد قيل له: أيكم كان أشرف، أنتم أو بنو هاشم؟ قال: كنا أكثر أشرافاً، وكانوا، وكانوا أشرف واحداً، لم يكن في عبد مناف مثل هاشم، فلم هلك كنا أكثر عدداً، وأكثر أشرافاً وكان فيهم عبد المطلب، ولم يكن فينا مثلهم، فصرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً ولم يكن فينا واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى جاء شيء لم يسمع الأوًّلون بمثله، ولا يسمع الآخرون بمثله، محمد صلى الله عليه وسلم[15]، وكان معاوية رضي الله عنه يحذر بني أمية من الإساءة إلى آل علي بن أبي طالب قائلاً: إن الحرب أولها نجوى، وأوسطها شكوى، وآخرها بلوى: وكان يطلب من خلصاء علي رضي الله عنه، وصفه وسرد روائع خصاله وأعماله[16]. |
رابعاً : هل عمّم معاوية سب أمير المؤمنين علي على منابر الدولة الأموية ؟
تذكر كتب التاريخ أن الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز كانوا يشتمون علي، وهذا الأثر الذي ذكره ابن سعد لا يصح، قال ابن سعد: أخبرنا علي بن محمد، عن لوط بن يحي، قال: كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضي الله عنه، فلما ولي هو ـ عمر بن عبد العزيز ـ أمسك عن ذلك، فقال كثير عزة الخزاعي: وليت فلم تشتم علياً ولم تخف بـرياً ولـم تتبـع مقـالة مجــرم تكلمت بالحـق المبين وإنمـا تبيـن آيــات الهــدى بالتـكلم فصدَّقت معروف الذي قلت بالذي فعلت فأضحى راضياً كل مسلم[1] فهذا الأثر واهٍ، فعلي بن محمد هو المدائني فيه ضعف وشيخه لوط بن يحي، واهٍ بمرة، قال عنه يحي بن معين: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال الدارقطني: أخباري ضعيف ووصفه في الميزان: أخبار تالف لا يوثق به[2]، وعامة روايته عن الضعفاء والهلكى والمجاهيل[3]، وقد اتهم الشيعة معاوية رضي الله عنه بحمل الناس على سب علي ولعنه فوق منابر المساجد، فهذه الدعوة لا أساس لها من الصحة، والذي يقصم الظهر أن الباحثين قد التقطوا هذه الفرية على هوانها دون إخضاعها للنقد والتحليل، حتى صارت عند المتأخرين من المُسلَّمات التي لا مجال لمناقشتها، ولم يثبت قط في رواية صحيحة، ولا يعول على ما جاء في كتب الدميري، واليعقوبي وأبي الفرج الأصفهاني، علماً بأن التاريخ الصحيح يؤكد خلاف ما ذكره هؤلاء[4]، من احترام وتقدير معاوية لأمير المؤمنين علي وأهل بيته الأطهار، فحاكيه لعن علي على منابر بني أمية لا تتفق مع منطق الحوادث، ولا طبيعة المتخاصمين، فإذا رجعنا إلى الكتب التاريخية المعاصرة لبني أمية، فإننا لا نجد فيها ذكراً لشيء من ذلك أبداً، وإنما نجده في كتب المتأخرين الذين كتبوا تاريخهم في عصر بني العباس بقصد أن يسيؤوا إلى سمعة بني أمية في نظر الجمهور الإسلامي، وقد كتب ذلك المسعودي في مروج الذهب وغيره من كتَّاب الشيعة وقد تسربت تلك الأكذوبة إلى كتب تاريخ أهل السنة ولا يوجد فيها رواية صحيحة صريحة، فهذه دعوة مفتقرة إلى صحة النقل، وسلامة السند من الجرح، والمتن من الاعتراض، ومعلوم وزن هذه الدعوة عند المحققين والباحثين، ومعاوية رضي الله عنه بعيد عن مثل هذه التهم بما ثبت من فضله في الدين، وكان محمود السيرة في الأمة، أثنى عليه بعض الصحابة ومدحه خيار التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم، وسائر خصال الخير[5] . وقد ثبت هذا في حق معاوية ـ رضي الله عنه ـ كما أنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته، أن يحمل الناس على لعن علي رضي الله عنه على المنابر وهو من هو في الفضل، ومن علم سيرة معاوية ـ رضي الله عنه في الملك، وما اشتهر به من الحلم والصفح، وحسن السياسة للرعية ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه، فقد بلغ معاوية ـ رضي الله عنه في الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال[6]، وقد فصلّنا في صفة الحلم في شخصية معاوية فيما مضى. وأما ما استدل به الشيعة على تلك الفرية من صحيح مسلم فليس ما يدل على زعمهم، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ذكرت ثلاثاُ قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحب إليّ من حمر النعم[7]، قال النووي: قول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب. كأنه يقول: هل امتنعت تورعاً أو خوفاً، أو غير ذلك، فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب، فأنت مصيب محسن، ولعل سعد رضي الله عنه وقد كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم، وعجز عن الإنكار أن أنكر عليهم، فسأله هذا السؤال: قالوا: ويحتمل تأويلاً آخر أن معناه: ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ[8]، وقال أبو العباس القرطبي صاحب المفهم معلقاً على وصف ضرار الصُّدائي لعلي رضي الله عنه وثنائه عليه بحضور معاوية، وبكاء معاوية من ذلك وتصديقه، لضرار فيما قال: وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنه ومنزلته، وعظيم حقه ومكانته، وعند ذلك يبعد عن معاوية أن يصرح بلعنه وسبّه، لما كان معاوية موصوفاً به من العقل والدين، والحلم وكرم الأخلاق وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح، وأصح ما فيها قوله لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ وهذا ليس بالتصريح بالسب، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه، ولما سمع ذلك معاوية، سكن وأذعن، وعرف الحق لمستحقه[9]، قال الدكتور الرحيلي في كتابه الصحب والآل: والذي يظهر لي في هذا والله أعلم: أن معاوية إنما قال ذلك على سبيل المداعبة لسعد، وأراد من ذلك استظهار بعض فضائل علي ـ رضي الله عنه ـ فإن معاوية ـ رضي الله عنه ـ كان رجلاً فطناً ذكياً، يحب مطارحة الرجال واستخراج ما عندهم، فأراد أن يعرف ما عند سعد في علي ـ رضي الله عنه ـ فألقى سؤاله بهذا الأسلوب المثير. وهذا مثل قوله ـ رضي الله عنه ـ لابن عباس:ـ أنت على ملة علي؟ فقال له ابن عباس ولا على ملة عثمان، أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم[10]. فظاهر أن قول معاوية هنا لابن عباس جاء على سبيل المداعبة، فكذلك قوله لسعد هو من هذا الباب، وأما ما إدّعى الشيعة من الأمر السب فحاشا معاوية رضي الله عنه أن يصدر منه مثل ذلك[11]، والمانع من هذا عدة أمور: 1 ـ أن معاوية رضي الله عنه ما كان يسب علياً ـ رضي الله عنه ـ كما تقدم حتى يأمر غيره بسبه، بل كان معظماً له، معترفاً له بالفضل والسبق إلى الإسلام، كما دلت على ذلك أقواله الثابته عنه، فقد قال ابن كثير: وقد ورد من غير وجه: أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: هل تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني[12]، وعن جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له إمرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال:": ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم[13]، فهل يسوغ في عقل ودين أن يسب معاوية علياً بل ويحمل الناس على سبه وهو يعتقد فيه هذا[14]. 2 ـ أنه لا يعرف بنقل صحيح عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ تعرض لعلي رضي الله عنه ـ بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته، فهل من المعقول أن يسبه بعد إنتهاء حربه معه ووفاته، فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول، وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه. 3 ـ أن معاوية رضي الله عنه كان رجلاً ذكياً مشهوراً بالعقل والدهاء، فلو أراد حمل الناس على سب علي ـ حاشاه ذلك ـ أفكان يطلب ذلك من مثل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو من هو في الشجاعة والفضل والورع، مع عدم دخوله في الفتنة أصلاً، فهذا لا يفعله أقل الناس عقلاً وتدبيراً، فكيف بمعاوية. 4 ـ أن معاوية ـ رضي الله عنه ـ انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما له واجتمعت عليه الكلمة ودانت له الأمصار بالملك، فإي نفع له في سب علي؟ بل الحكمة وحسن السياسة تقتضي عدم ذلك، لما فيه من تهدئة النفوس، وتسكين الأمور، ومثل هذا لا يخفى على معاوية. 5 ـ إنه كان بين معاوية ـ رضي الله عنه ـ بعد استقلاله بالخلافة وأبناء علي من الألفة والتقارب، ما هو مشهور في كتب السير والتاريخ[15]، ومن ذلك أن الحسن والحسين وفدا على معاوية فأجازهما بمائتي ألف. وقال لهما: ما أجاز بهما أحد قبلي فقال له الحسين رضي الله عنه: ولم تعط أحد أفضل منا[16]، ودخل مرة الحسن على معاوية فقال له: مرحباً وأهلاً بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر له بثلاثمائة ألف[17]. وهذا مما يقطع الكذب مما يدَّعي في حق معاوية من حملة الناس على سب علي، إذ كيف يحصل هذا مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم، وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة، وتتجلى الحقيقة[18]، كما أن المجتمع في عمومه مقيد بأحكام الشرع حريصاً على تنفيذها، ولذلك كانوا أبعد الناس عن الطعن واللعن والقول الفاحش والبذيء [19]، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الأموات المشركين فكيف بمن يسب أولياء الله المصلحين، فعن عائشة رضي الله عنها ـ مرفوعاً: لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا[20]. خامساً : معاوية وسِمَّ الحسن بن علي؟ ذكرت بعض الروايات أن الحسن بن علي توفي متأثراً بالسم الذي وضع له، وقد اتجهت أصابع الاتهام نحو زوجة الحسن جعدة بنت الأشعث بن قيس أمير كندة فهذه أم موسى سرية علي تتهم جعدة بأنها دست السم للحسن، فاشتكى منه شكاة: فكان يوضع تحته طست[21]، وترفع أخرى نحواً من أربعين يوماً[22]، وهذه رواية إسنادها لا يصح وهي ضعيفة[23]، وحاول البعض من الإخباريين والرواة أن يوجد علاقة بين البيعة ليزيد ووفاة الحسن، وزعموا أن يزيد بن معاوية أرسل إلى جعدة بنت قيس أن ُسمي حسناً فإني سأتزوجك، ففعلت، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى يزيد تسأله الوفاء: فقال: إنا والله لم نرضك له أفنرضاك لأنفسنا[24]؟، وفي سندها يزيد بن عياض بن جعدية، كذبه مالك وغيره[25]، وقد وردت هذه الروايات في كتب أهل السنة بدون تمحيص، مع العلم أن أسانيد تلك الروايات أسانيدها ضعيفة[26]. 1 ـ قال ابن العربي: فإن قيل: دس على الحسن من تسمَّه، قلنا هذا محال من وجهين: أحدهما: أنه ما كان ليتقي من الحسن بأساً وقد سلَّم الأمر، الثاني: أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله، فكيف تحملونه بغير بيَّنة على أحد من خلقه في زمن متباعد ولم نثق فيه بنقل ناقل، بين أيدي قوم ذوي أهواء، وفي حال فتنة وعصبية، ينسب كل واحد إلى صاحبه ما لا ينبغي، فلا يقبل منها إلا الصافي، ولا يسمع فيها إلا من العدل الصميم[27]. 2 ـ وقال ابن تيمية: وأما قوله: معاوية سمّ الحسن، فهذا ممن ذكره بعض الناس، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية، أو إقرار معتبر، ولا نقل يجزم به، وهذا مما لا يمكن العلم به، فالقول به قول بلا علم[28]. وقد جاء عن ابن تيمية في رده عن اتهام معاوية بسمّ الحسن وأنه أمر الأشعث بن قيس بتنفيذ هذه الجريمة وكانت ابنته تحت الحسن، حيث قال: وإذا قيل أن معاوية أمر أباها كان هذا ظناً محضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: أياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث. ثم أن الأشعث بن قيس مات سنة أربعين وقيل سنة إحدى وأربعين ولهذا لم يذكر في الصلح الذي كان بين معاوية والحسن بن علي، فلو كان شاهداً لكان يكون له ذكر في ذلك، وإذا كان قد مات قبل الحسن بنحو عشر سنين فكيف يكون هو الذي أمر بنته[29]. وهذا يدل على قدرة ابن تيمية للنقد العلمي القوي للروايات التاريخية . 3 ـ وقال الذهبي: قلت هذا شئ لا يصح فمن الذي أطلع عليه[30]. 4 ـ وقال ابن كثير: روي بعضهم أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث أن سُمَّي الحسن وأنا أتزوجك بعده ففعلت، فلما مات الحسن بعثت إليه فقال: إنا والله لم نرضك للحسن، أفنرضاك لأنفسنا؟ وعندي أن هذا ليس بصحيح، وعدم صحته عن أبيه معاوية بطريق الأولى والأحرى[31]. 5 ـ وقال ابن خلدون: وما نقل من أن معاوية دس إليه السم مع زوجته جعدة بنت الأشعث، فهو من أحاديث الشيعة، حاشا لمعاوية من ذلك[32]. 6 ـ د. جميل المصري : وقد علق على هذه القضية بقوله:... ثم حدث افتعال قضية سم الحسن من قبل معاوية أو يزيد.. ويبدو أن افتعال هذه القضية لم يكن شائعاً آنذاك، لأننا لا نلمس[33] لها أثراً في قضية قيام الحسن، أو حتى عتاباً من الحسين لمعاوية. وبالنسبة لسم الحسن رضي الله عنه، فنحن لا ننكر هذا، فإذا ثبت أنه مات مسموماً فهذه شهادة له وكرامة في حقه[34]، وأما اتهام معاوية وابنه فهذا لا يثبت من حيث السند، كما مر معنا، ومن حيث المتن وهل جعدة بنت الأشعث بن قيس بحاجة إلى شرف أو مال ـ كما تذكر الروايات حتى تسارع لتنفيذ هذه الرغبة من يزيد، وبالتالي تكون زوجة له أليست جعدة ابنة أمير قبيلة كندة كافة وهو الأشعث بن قيس، ثم أليس زوجها وهو الحسن بن علي أفضل الناس شرفاً ورفعة بلا منازعة، إن أمه فاطمة رضي الله عنها، وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى به فخراً، وأبوه علي بن أبي طالب أحد العشرة المبشرين بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين، إذاً ما هو الشئ الذي تسعى إليه جعدة وتحصل عليه حتى تنفذ هذا العمل الخطير[35]، إن هناك الكثير الذين هم أعداء للوحدة الإسلامية، وزادهم غيظاً وحنقاً ما قام به الحسن بن علي، كما أن قناعتهم قوية بأن وجوده حياً صمام أمان للأمة الإسلامية، فهو إمام ألفتها وزعيم وحدتها بدون منافس، وبالتالي حتى تضطرب الأحداث وتعود الفتن إلى ما كانت عليه فلا بد من تصفيته وإزالته، فالمتهم الأول في نظري هم السبئية أتباع عبد الله بن سبأ الذين وجه لهم الحسن صفعة قوية عندما تنازل لمعاوية وجعل حداً للصراع، ثم الخوارج الذين قتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهم الذين طعنوه في فخذه، فربما أرادوا الانتقام من قتلاهم في النهروان وغيرها[36]. سادساً : موقف معاوية من قتلة عثمان رضي الله عنهما : كان من ضمن شروط الحسن في صلحه مع معاوية ألا يطلب أحداً من أهل المدينة والحجاز والعراق بشئ[37]، والذي يلاحظه المؤرخ أنه من ذلك الوقت ترك الطلب بدم عثمان[38]، وقد تمّ الاتفاق على عدم مطالبة أحد بشئ كان في أيام علي وهي قاعدة بالغة الأهمية تحول دون الالتفاف إلى الماضي وتركز على فتح صفحة جديدة تركز على الحاضر والمستقبل[39]، وقد تمّ التوافق المبني على الالتزام والشرعية حيث تمّ الصلح على أساس العفو المطلق عن كل ما كان بين الفريقين، قبل إبرام الصلح، وبالفعل لم يعاقب معاوية أحداً بذنب سابق، وتأس بذلك صلح الحسن على الإحسان والعفو، وقد تمّ بسط الأمن وحفظ الدماء في عهد معاوية إلى حد كبير[40] وجاء في عيون الأخبار لابن قتيبة: إن معاوية بن أبي سفيان لما قدم بعد عام الجماعة ـ المدينة ـ دخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة بنت عثمان بن عفان وبكت ونادت أباها، فقال معاوية: يا إبنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة، وأعطيناهم أماناً، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا ذلاً تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، لأن تكوني إبنة عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس[41]. والذي يعتد به من كلام ابن قتيبة ما جاء عن العهود والمواثيق التي أبرمت بين معاوية والحسن وقضت بالصلح بين الناس، ووضع الحرب وحقن الدماء، وعدم تهييج النفوس، وإضافة إلى ذلك فإن السنوات الخمس التي احتضنت المعارك في الجمل وصفين والنهروان ومصر وغيرها ذهبت بأولئك الذين ترددت أسماؤهم بتهمة قتل عثمان، ومع ذلك فإن مسألة قتل عثمان ظلت حاضرة في ذهن الخلفاء من بني أمية ونوابهم في الأغلب وأما انتصار بني أمية لعثمان كان حقيقة لا شبهة فيها[42]. |
سابعاً : مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه:
تحدثت معظم المصادر في مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه ومن هذه المصادر: ابن سعد[1]، وخليفة بن خياط[2]، باختصار شديد والبلاذري[3]، واليعقوبي[4]، والمسعودي[5]، وأبو الفرج الأصفهاني[6] مطولاً، وابن الجوزي[7]، وابن الأثير[8] مطولاً، والذهبي[9]، وابن كثير[10]، وقد اعتمد الطبري في خبر حجر بن عدي وأصحابه على أبي مخنف المؤرخ الشيعي المشهور والذي ليس بثقة ولا يعتمد عليه عند علماء المسلمين من أهل السنة، فقد نقل الطبري عنه ست عشرة رواية، وعموماً فإن خبر مقتل حجر بن عدي ورد في مصادر متعددة ولم تنفرد الروايات الشيعية بسوق خبره ولكن رواية أبي مخنف الساقط الاعتبار عند علماء أهل الجرح والتعديل أشارت إلى أن معاوية أوصى المغيرة بن شعبة بشتم علي وذمه، لذلك كان المغيرة لا يترك ذمّ علي في خطبته طوال فترة ولايته على الكوفة، ونص خطبته التي أغضبت حجر بن عدي كما أوردها أبو مخنف: اللهم أرحم عثمان بن عفان وتجاوز عنه، وأجزه بأحسن عمله، فإنه عمل بكتابك، واتبع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وجمع كلمتنا وحقن دماءنا، وقُتل مظلوماً، اللهم فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيه والطالبين بدمه: ويدعو على قتلته[11]، وكما نلاحظ من نص الخطبة أنه لم يرد فيها ذمُّ علي ومع ذلك فإن الرواية تشير أنّ هذه الخطبة تضمنت ذلك إلا إذا تأولت لعنه لقتلة عثمان بأنه ذم لعلي[12]، وبراءة علي من دم عثمان يعرفها القاصي والداني وقد اثبتها في كتبي عن عثمان وعلي والحسن رضي الله عنهم جميعاً. ومهما يكن من أمر فإن الباحث في مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه، يلاحظ أن موقف حجر من أمير المؤمنين معاوية قد مرّ بمرحلتين: ـ المرحلة الأولى : مرحلة المعارضة القولية: 41هـ ـ 50هـ) : كان حجر بن عدي الكندي، أبو عبد الرحمن الشهيد، له صحبة ووفادة، وفد مع أخيه هانئ بن الأدبر، ولا رواية له عن النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من علي وعمار[13]، وكان شريفاً، أميراً مطاعاً، أمَّاراً بالمعروف، مقداماً على الإنكار من شيعة علي رضي الله عنهما، شهد صفين أميراً، وكان ذا صلاح وتعبد[14]، وكان رضي الله عنه من المعارضين للصلح الذي قام بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، غير أن هذه المعارضة لم يترتب عليه في هذه المرحلة أي فعل، بل اقتصرت على الأقوال فقط[15]، وفي ذلك يقول البلاذري:... لم يزل حجر بن عدي منكراً على الحسن بن علي بن أبي طالب صلحه لمعاوية، فكان يعذله على ذلك ويقول: تركت القتال ومعك أربعون ألفاً ذوو نيات، وبصائر في قتال عدوك، ثم كان بعد ذلك يذكر معاوية فيعيبه، ويُظلِّمه[16]، فكان هذا هجيراه، وعادته[17]. ـ المرحلة الثانية : مرحلة المعارضة الفعلية: هذه المرحلة بدأت في سنة 51هـ حيث حصل في هذه السنة تدهور مفاجئ في علاقة حجر بن عدي مع زياد بن أبيه والي العراق، وقد ذكرت المصادر سببين في سبب تدهور هذه العلاقة: أ ـ ما ذكر من إقدام المغيرة بن شعبة على الثناء على عثمان والترحم عليه، وذم علي بن أبي طالب، وإقدام حجر بن عدي على مدح علي بن أبي طالب، وذم عثمان بن عفان، وسكوت المغيرة عن حجر بن عدي، فلما مات المغيرة بن شعبة وتولى زياد بن أبيه، قال زياد في عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب مثلما كان يقول المغيرة، فقام حجر بن عدي وقال فيهما مثلما كان يقول المغيرة، فكان ذلك سبب ابتداء المواجهة بين حجر وزياد[18]. ب ـ ما ذُكر من إطالة زياد الخطبة، وتأخير الصلاة، وقيام حجر بإنكار ذلك على زياد، فكان هذا سبب ابتداء المواجهة بينهما[19] وهذان السببان يكدرهما ما يلي: * ـ أن سياسة المغيرة رضي الله عنه مع أهل الكوفة اتسمت بالعفو والصفح، وليس بإثارة الأحقادوالإحن، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري من طريق زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة، قام فحمد الله وأثني عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن ثم قال: ((استغفروا لأميركم، فإنه كان يحب العفو[20]. ثم قال: أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط عليّ: النصح لكل مسلم. فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم[21]، ثم استغفر ونزل[22]. * ـ أن ضم الكوفة إلى زياد كان في سنة 49هـ، وهو ما صرح به فيل مولى زياد حيث قال: ملك زياد العراق خمس سنين، ثم مات سنة ثلاث وخمسين وهذه الرواية التي تحدد تاريخ ضم الكوفة إلى زياد بن أبيه تعد أصح ما في الباب وحيث إن ولاية زياد على الكوفة كانت سنة 49هـ، ولم يحدث الصدام بين حجر وأنصاره وزياد والي الكوفة لأن الحسن بن علي رضي الله عنه لازال حياً ووجوده كان كفيلاً بردع تحركات المعارضين للصلح من أنصاره لأنه رضي الله عنه اشترط عليهم أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم ولكن بعد وفاة الحسن رضي الله عنه عام 51هـ[23] تغير موقف بعض قيادات أهل العراق ومنهم حجر بن عدي من المعارضة القولية إلى الفعلية فقد روى البلاذري بإسناده إلى الشعبي، وغيره، قالوا: لما قدم زياد الكوفة ـ عام 49هـ ـ بعث إلى حجر فقال: يا هذا، كنا على ما علمت، وقد جاء أمر غير ذلك، أمسك عليك لسانك، وليسعك منزلك، وهذا سريري فهو مجلسك، فإياك أن تستنزلك السفلة أو تستفزك، إني لو استخففت بحقك هان علي أمرك، ولم أكلمك من كلامي هذا بحرف، فلما صار إلى منزله اجتمعت إليه الشيعة فقالوا: أنت شيخنا وأحق الناس بإنكار هذا الأمر[24]، فملا شخص زياد إلى البصرة استخلف عمرو بن حريث على الصلاة والحرب، ومهران مولاه على الخراج، وأمر العمال بمكاتبة عمرو.. فكتب عمرو إلى زياد: إن كانت لك بالكوفة حاجة فالعجل، فإني كتبت إليك وليس في يدي منها مع حجر إلا القصر، فأخذ السير حتى قدم الكوفةـ فبعث إلى عدي بن حاتم الطائي، وجرير بن عبد الله البجلي... فقال: ائتوا هذا الشيخ المفتون، فإني خائف أن يحملنا من أمره على ما ليس من شأننا فأتوه... وكلمه القوم، فلم يكلم منهم أحداً، فأتوا زياداً فقال: مهيم[25]؟ فقال عدي: أيها الأمير، استذمه[26]، فإن له سناً فقال: لست لأبي سفيان إذا، ثم أرسل إليه الشُّرَط فقوتلوا[27]، وجاء في رواية أخرى: لما قدم زياد الكوفة أميراً[28] أكرم حجر بن الأدبر[29]، وأدناه ، وشفَّعَه، فلما أراد الانحدار إلى البصرة[30] دعاه فقال له: يا حجر إنك قد رأيت ما صنعت بك، وإني أريد البصرة، فأحب أن تشخص معي، فإني أكره أن تتخلف بعدي، فعسى أن أبلِّغ عنك شيئاً فيقع في نفسي، وإذا كنت معي لم يقع في نفسي منك شيء، فقد علمت رأيك في علي بن أبي طالب، وقد كان رأي فيه قبلك على مثل ذلك، فلما رأيت الله صرف الأمر إلى معاوية، لم إتهم قضاء الله ورضيت به، وقد رأيت إلى ما صار أمر علي وأصحابه، وإني أحذرك أن تركب أعجاز أمور هلك من ركب صدورها[31]، والمقصود من كلام زياد أنه كان من خواص علي رضي الله عنه ولما رأى تنازل الحسن لمعاوية وإجماع الأمة عليه دخل في الجماعة وحرص على وحدة الصف وحذر من الفتن، فقال له حجر: إني مريض ولا استطيع الشخوص. قال: صدقت، والله إنك لمريض الدين والقلب، مريض العقل، وأيم الله لئن بلغني عنك شيء أكرهه بأحرص على قتلك فانظر أو دع، فخرج زياد فلحق بالبصرة، واجتمع إلى حجر قُرّاء أهل الكوفة، فجعل لا ينفذ لعامل زياد معهم أمر، ولا يريد شيئاً إلا منعوه إياه، فكتب إلى زياد: إني والله ما أنا في شيء مع حجر وأصحابه، وأنت أعلم فركب زياد بغاله حتى اقتحم الكوفة، فلما قدمها تغيب حجر، فجعل يطلبه فلا يقدر عليه[32]. أما تفاصيل المواجهة بين شرطة زياد وحجر بن عدي وأنصاره، فقد انفرد أبو مخنف من بين المصادر التي وقفت عليها بإيراد تفاصيلها[33]، كذلك انفرد أبو مخنف بإيراد تفاصيل مهمة عن شهادة أهل الكوفة على حجر وأصحابه[34]، 1 ـ قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه وأصحابه: نظراً لخطورة قضية حجر بن عدي وحساسيتها، فقد وافق زياد بن أبيه على شرط حجر بن عدي عند استسلامه، وهذا الشرط هو إحالة قضية حجر ومن معه إلى معاوية ليحكم فيها[35]، وقبل الحديث عن حكم معاوية في حجر وأصحابه، ينبغي التذكير بالتهم الموجهة إليهم، وهذه التهم كما وردت عن أبي مخنف هي:... إن حجراً جمع إليه الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب، ووثب بالمصر، وأخرج عامل أمير المؤمنين، وأظهر عذر أبي تراب[36]، والترحم عليه، والبراءة من عدوه وأهل حربه، وأن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه، وعلى مثل رأيه وأمره[37]، أما قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه، وأصحابه فإنه لم يقتلهم على الفور، ولم يطلب منهم البراءة من علي رضي الله عنه كما تزعم بعض الروايات[38]، بل استخار الله سبحانه وتعالى فيهم، واستشار أهل مشورته، ثم كان حكمه فيهم أن قتل بعضهم، واستحي بعضهم، والحجة في ذلك ما يرويه صالح بن أحمد بن حنبل[39]، بإسناد حسن قال حدثني أبي[40]، قال حدثنا أبو المغيرة[41]، قال: حدثنا ابن عياش[42]، قال: حدثني شرحبيل بن مسلم[43]، قال: لما بُعث بحجر بن عدي بن الأدبر وأصحابه من العراق إلى معاوية بن أبي سفيان، استشار الناس في قتلهم، فمنهم المشير، ومنهم الساكت، فدخل معاوية منزله، فلما صلى الظهر قام في الناس خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم جلس على منبره، فقام المنادي، فنادى: أين عمرو بن الأسود العنسي[44]، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا أنا بحصن من الله حصين لم نؤمر بتركه وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق ألا وأنت الراعي ونحن الرعية ألا وأنت أعلمنا بدائهم وأقدرنا على دوائهم وإنما علينا أن نقول ((سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)) (البقرة ، الآية : 285) فقال معاوية: أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا من دمائهم ورمى بها ما بين عيني معاوية. ثم قام المنادي فنادى: أين أبو المسلم الخولاني، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك، ولا عصيناك منذ أطعناك، ولا فارقناك منذ جامعناك، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك، على عواتقنا إن أمرتنا أطعناك، وإن دعوتنا أجبناك، وإن سبقناك نظرناك، ثم جلس. ثم قام المنادي فقال: أين عبد الله بن مِخْمَر الشرعبي[45]، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة من أهل العراق، إن تعاقبهم فقد أصبت، وإن تعفو فقد أحسنت، فقام المنادي فنادى: أين عبد الله بن أسد القسري فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين، رعيتك، ووليتك، وأهل طاعتك، إن تعاقبهم فقد جنوا أنفسهم العقوبة، وإن تعفو فإن العفو أقرب للتقوى يا أمير المؤمنين ولا تطع فينا من كان غشوماً ظلوماً، بالليل نؤوماً، عن عمل الآخرة سؤوماً[46]. يا أمير المؤمنين، إن الدنيا قد انقشعت أوتادها، ومالت بها عمادها، وأحبها أصحابها، واقترب منها ميعادها، ثم جلس فقلت[47] لشرحبيل: فكيف صنع؟ قال: قتل بعضاً واستحي بعضاً وكان فيمن قتل حجر بن عدي بن الأدبر[48]، وكان حجر رضي الله عنه قبل قتله قال: يا قوم دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فتوضأ، وصلَّى ركعتين، فطوَّل، فقيل له: طوَّلت، أجزعت؟ فقال: ما صليت صلاة أخفّ منها، ولئن جزعت لقد رأيت سيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً، وقبراً محفوراً، وكانت عشائرهم قد جاؤوهم بالأكفان، وحفروا لهم القبور. ويقال: بل معاوية الذي فعل ذلك. وقال حجر: اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل العراق شهدوا علينا وإن أهل الشام قتلونا. فقيل له: مُدَّ عنقك. فقال: إنَّ ذاك لدم ما كنت لأُعين عليه[49]، وجاء في رواية: لما أتي معاوية بحجر، قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين: قال: أو أمير المؤمنين أنا؟ اضربوا عنقه فصلَّى ركعتين، وقال لأهله: لا تطلقوا عني حديداً، ولا تغسلوا عني دماً، فإني ملاقٍ معاوية على الجادَّة[50]. وقد علق ابن العربي على مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه فقال:.. وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فساداً[51]، وقد اعتمد معاوية رضي الله عنه في قضائه على قوله صلى الله عليه وسلم: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يَشُقَّ عصاكم[52]، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه[53]، وقوله صلى الله عليه وسلم: إنه ستكون هنات[54]، وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان[55]. ومما يجدر التذكير به في هذا المقام أن معاوية رضي الله عنه لم يكن ليقضي بقتل حجر بن عدي رضي الله عنه لو أن حجراً اقتصر في معارضته إلى الأقوال فقط ولم ينتقل على الأفعال ولنا في خبر المسور بن مخرمه وغيره مما مرّ معنا دلالة على ذلك[56] 2 ـ موقف عائشة رضي الله عنها من مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه: بالغت الروايات في ذكر موقف عائشة رضي الله عنها من مقتل حجر بن عدي، حيث ذهبت بعض الروايات إلى زعم بتهديد عائشة لمعاوية بالقتل حين زارها 51هـ وكذلك التهديد بمحاربة معاوية[57] وهذه الروايات لم يصح منها شيء في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأما حقيقة موقفها فعن ابن أبي مليكه: إن معاوية جاء يستأذن على عائشة، فأبت أن تأذن له، فخرج غلام لها يقال له: ذكوان[58]، قال: ويحك أدخلني على عائشة فإنها قد غضبت علي، فلم يزل بها غلامها حتى أذنت له، وكان أطوع مني عندها، فلما دخل عليها قال: أمتاه فيما وجدت عليَّ يرحمك الله؟ قالت: ... وجدت عليك في شأن حجر وأصحابه أنك قتلتهم فقال لها: ... وأما حجر وأصحابه فإني تخوفت أمراً، وخشيت فتنة تكون، تهراق فيها الدماء، تستحل فيها المحارم، وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل ما يشاء قالت: تركتك والله، تركتك والله، تركتك والله[59]، وجاء في رواية أخرى: لما قدم معاوية دخل على عائشة، فقالت: أقتلت حجراً؟ قال: يا أم المؤمنين، إني وجدت قتل رجلٍ في صلاح الناس، خير من استحيائه في فسادهم[60]. 3 ـ ندم معاوية على قتل حجر بن عدي: جاء في رواية: .. أن عائشة أرسلت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية في حجر وأصحابه فقدم عليه وقد قتلهم، فقال له عبد الرحمن: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ قال: غاب حين غاب عني مثلك من حلماء[61] قومي، قال الذهبي: يعني أنه ندم[62]. ومع أن قتل حجر رضي الله عنه وأن ذكر له من الأعذار والمبررات ما ذكر، ففي الحقيقة كانت غلطة من معاوية، وكان ينبغي أن يتسع حلمه لصحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وقد ندم معاوية ندماً كبيراً على قتل حجر، وظل يذكر هذه الحادثة طوال حياته[63]، وقد روى أنه قال عند موته: يوم لي من ابن الأدبر طويل: ثلاث مرات ـ يعني حجراً[64]. 4 ـ موقف لمالك بن هبيرة السكوني رضي الله عنه: لم يقبل معاوية رضي الله عنه شفاعة مالك بن هبيرة السكوني في حجر بن عدي، فجمع مالك قومه وسار ليخلصه وأصحابه، فلقي القتلة وسألهم، فقالوا: مات القوم. وسار إلى عَدِيّ فتيقن قتلهم فأرسل في أثر القتلة فلم يدركهم، وأخبروا معاوية فقال: تلك حرارة يجدها في نفسه وكأني بها قد طفئت. ثم أرسل إليه بمائة ألف وقال: خفت أن يعيد القوم حرباً فيكون على المسلمين أعظم من قتل حجر فطابت نفسه[65]، وكان مالك بن هبيرة السكوني صحابي جليل وكان معاوية رضي الله عنه ولاّه حمص وكان يقول فيه: ما أصبح عندي من العرب أوثق في نفسي نصحا بجماعة المسلمين وعامتهم من مالك بن هبيرة[66].وقد كان يسعى معاوية غير القتل من العقوبات، كالسجن، أو تفريق حجر وجماعته، أويمن بهم على عشائرهم[67] 5 ـ ما قيل في حجر بن عدي من رثاء: قالت هند ابنة زيد بن مخرمة الأنصارية في رثاء حجر: ترفع أيهـا القمـر المنيـر تَبَصَّرْ هل ترى حجراً يسير يسير إلى معاوية بـن حرب ليقتله كـم زعـم الأمير تجبرت الجبابر بعـد حجر وطاب لها الخورنق والسدير وأصبحت البلاد بهـا محولا كأن لم يحيها مـزن مطير ألا يا حجر حجر بن عدي تلقاك السلامة والسـرور أخاف عليك ما أدري عديا وشيخاً في دمشق لـه زئير إلى أن قالت: ألا ياليت حجراً مات موتاً ولم ينحر كما نحـر البعير فـإن تهلك فكل زعيم قوم من الدنيا إلى هُلكٍ يصير[68]. وفيما عدا قضية حجر وأصحابه فقد حافظ معاوية على سياسته السلمية القائمة على الحلم وسعة الصدر مع رعيته والتي لخصها هو نفسه في جمل يسيره حين قال: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أصنع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت كانوا إذا شدوها أرخيتها وإذا أرخوها شددتها[69]، وهي سياسة حكيمة تفسح المجال أمام القول إذا ما ظل في حدود لا يتعداها، فحيث يكفي المال عن اللسان يعتمده، ولا يضع السوط حيث يكفي اللسان، ولا يضع السيف حيث يكفي السوط[70]، وقد قيل: بأن سليم مولى زياد فخر بزياد عند معاوية فقال معاوية: اسكت ما أدرك صاحبك شيئاً قط بسيفه إلا وقد أدركت أكثر منه بلساني[71]. |
المبحث الثاني: مباشرة معاوية للأمور بنفسه وحرصه على توطين الأمن في خلافته:
أولاً: مباشرة معاوية للأمور بنفسه: ومن القواعد التي قامت عليها سياسة معاوية الداخلية مباشرة الأمور بنفسه، وكان رضي الله عنه يحرص على معرفة كل صغيرة وكبيرة في دولة فرغم أنه استعان بأمهر رجال عصره، إلا أنه لم يكن يكتفي بذلك بل كرّس كل وقته وجهده للدولة ورعاية مصالح المسلمين[1]. 1 ـ مجلس معاوية في يومه:كان معاوية رضي الله عنه، يظهر في اليوم والليلة خمس مرات، فكان إذا صلى الصبح جلس للقصاص حتى يفرغ من قصصه ثم يدخل فيؤتي بمصحفه، فيقرأ جزأه ثم يدخل إلى منزله فيأمر وينهي ثم يصلي أربع ركعات، ويخرج إلى مجلسه، فينادي بخاصته، فيحدثهم ويحدثونه، ويدخل عليه وزراءه، فيكلمونه فيما يريدون من يومهم، ثم يؤتى بالغداء الأصغر، وهو فضل عشاء الليل، ...ثم يتحدث طويلاً، ثم يدخل منزله لما أراد ثم يخرج فيقول يا غلام أخرج الكرسي، ويسند ظهره إلى المقصورة، ويقوم الحراس، فيقدم إليه الضعيف والإعرابي والصبي والمرأة فيقول: ظلمت، فيقول: أعزّوه ويقول: عدي عليّ فيقول: ابعثوا معه، ويقول صنع بي فيقول: انظروا له، حتى لم يبق أحد دخل فجلس على السرير، ثم يقول: ائذنوا للناس على قدر منازلهم ولا يشغلني أحد عن رد السلام، فيقال: كيف أصبح أمير المؤمنين أطال الله عمره؟ فيقول: بنعمة من الله، فإذا استووا جلوساً قال: يا هؤلاء إنما سُميتم أشرافاً، لأنكم شرفتم من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا حاجة من لا يصل إلينا فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول: افرضوا لولده، ويقول: غاب فلان عن أهله فيقول: تعاهدوهم وأعطوهم، واقضوا حوائجهم واخدموهم. ويؤتى بالغداء ويحضر الكاتب، فيقوم عند رأسه ويقدم الرجل فيقال له: اجلس على المائدة فيجلس فيمد يده، فيأكل لقمتين أو ثلاثاً، والكاتب يقرأ كتابه، فيأمر فيه بأمره، فيقال: يا عبد الله أعقب، فيقوم ويتقدم آخر حتى يأتي على أصحاب الحوائج كلهم، وربما قدم عليه من أصحاب الحوائج أربعون أو نحوهم على قدر الغداء، ثم يرفع الغداء، وينصرف الناس، ويدخل منزله، فلا يطمع فيه طامع حتى ينادى بالظهر، فيخرج فيصليَّ[2]ثم يجلس فيأذن لخاصة الخاصة، فإن كان الوقت شتاء أتاهم بزاد الحاج، من الأخبصة اليابسة والخشكبالج[3]، والأقراص المعجونة، بالسكر والليّن من دقيق السميد، والكعك المسمن والفواكه اليابسة وإن كان الصيف أتاهم بالفواكه الرطبة ويدخل عليه وزراءه فيؤامرونه فيما احتاجوا إليه بقية يومهم، ويجلس إلى العصر، ثم يخرج فيصلي العصر ثم يدخل منزله، فلا يطمع فيه طامع حتى إذا كان في آخر وقت العصر، خرج فجلس على سريره، ويؤذن للناس على منازلهم، فيؤتى بالعشاء فيفرغ منها مقدار ما ينادي بالمغرب فيصليها، ثم يصلي أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة خمسين آية، يجهر تارة ويخافت أخرى. ثم يدخل منزله فلا يطمع فيه طامع حتى ينادي بالعشاء الآخرة، فيخرج فيصلي ثم يؤذن للخاصة، وخاصة الخاصة، والوزراء والحاشية، فيؤامره الوزراء فيما أرادوا صدراً من ليلتهم، ويسمر ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياساتها وسير الأمم وحروبها، ومكائدها وسياساتها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطرف الغريبة من عند نسائه: من الحلواء وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم يقوم: فيحضر الدفاتر، فيها سير الملوك وأخبارها، والحروب والمكائد فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون، وقد وكّلوا بحفظها وقراءتها، فيمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار، فيخرج ثم يصلي الصبح، ثم يعود فيفعل ما وصفنا كل يوم وليلة وقد تبعه في ذلك، عبد الملك بن مروان وغيره، فلم يدركوا حلمه، ولا إتقانه السياسة ولا التأني للأمور ولا مدارات الناس على منازلهم، ورفقه بهم على طبقاتهم[4]. 2 ـ الدواوين المركزية التابعة لمعاوية: أ ـ ديوان الرسائل: هو الهيئة المشرفة على تحرير رسائل الخليفة وأوامره وعهوده، ووصاياه، ومواثيقه إلى موظفيه في الأقاليم الإسلامية إلى البلدان الخارجية التي لها علاقة بالدولة الإسلامية[5]ومن أشهر من أشرف على ديوان الرسائل وقام بمهمة الكتابة في هذا الديوان في عهد معاوية عبد الله بن اوس الغساني، وزمل بن عمرو العذري، واستمر هذان الكاتبان في خلافة يزيد الأول[6]، وكانت وسيلة الرسائل في الاتصال بالولاة وقادة الجند، والقضاة، وزعماء القبائل تابعة لمعاوية وتحت إشرافه المباشر. ب ـ ديوان الخاتم: أنشأ معاوية بن أبي سفيان رضي لله عنه ديوان الخاتم لتحقيق السرية والأمان لمراسلات الدولة فلا تطلع عليها عين جاسوس ولا تصل إليها يد خائن[7]، وكان من أغراض هذا الديوان تحاشي التزوير، ومنع حدوث التلاعب، في الكتب التي يصدرها الخليفة، ثم أصبح الديوان بمثابة سجل للكتب الصادرة، وصارت الدولة تعتمد عليه في تدقيق الأوامر، والمراسلات التي تتعلق بالصرف والحسابات، بين مقر الخلافة والأقاليم الإسلامية الأخرى[8]، كما أنه كان يقوم بالأشراف على تدقيق الدواوين الأخرى، وبيان الأخطاء التي تقع فيها، وهذا الديوان يختلف عن ختم الرسول صلى الله عليه وسلم، وختم الخلفاء الراشدين، فختم الرسول صلى الله عليه وسلم يعني التوقيع بالختم، بينما نره في عهد معاوية، وعصر الدولة الأموية ـ بمثابة ـ جهاز للفحص والتدقيق في الأعمال الصادرة عن الدواوين الأخرى، وقد تقلد الخاتم الكبير لمعاوية، عبد الله بن محصن الحميري وكان سبب ذلك أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير في معونته وقضاء دينه بمائة ألف درهم، وكتب بذلك إلى زياد بن أبيه وهو على العراق، ففض عمرو الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية، فأخذ عمراً بردها وحبسه، فأدها عنه أخوه عبد الله بن الزبير، فأحدث معاوية عند ذلك ديوان الخاتم وخزم الكتب[9]، ولم تكن تخزم[10]، وفي الحقيقة فإن تأسيس ديوان الخاتم أملته ظروف اتساع الدولة الإسلامية في عهد معاوية رضي الله عنه، وحاجة الخليفة إلى نظام اتصال آمن وسري لمتابعة عماله وقواده ورجال دولته[11]. خـ ـ ديوان البريد: يذكر المؤرخون: أن معاوية بن أبي سفيان أول من ادخل نظام البريد في الدولة الإسلامية، وأصدر أوامره بوضع الخيول في عدة أماكن، وقام بتنظيمه[12]، وتشير بعض المصادر إلى أنه اقتبس من الروم[13]، وكانت أعماله في العصر الأموي، واسعة ومتشعبة، نظراً لسعة رقعة الدولة الإسلامية، وقد قام الخلفاء الأمويون بتحسين طرق المواصلات التي سير عليها صاحب البريد، وكانت تلك الطرق واضحة ومعلومة، والدليل على تحسين هذه الطرق هو سرعة وصول الأخبار إلى مقر الخلافة بالشام[14]، ولم تكن خدمات البريد قاصرة على ما يتعلق بالدولة، بل كان في بعض الأوقات يحمل رسائل الناس من بلد إلى آخر[15]، وكانت الدولة في عهد معاوية لا تستغني عن البريد في حالات السلم، وحالات الحرب، وكان موظف البريد من أهم أعوان الخليفة وقد ذكرت بعض المصادر أسماء بعض من اشتغل مع معاوية في ديوان البريد وهما: نصر ين ذبيان، والكميت، كانا على البريد في أيام معاوية واستخدامهما في نقل الأخبار بين الشام والحجاز[16] ، وكانت أهم وسائل النقل: البغال[17]، والخيل[18]، ويعتبر معاوية مؤسس نظام البريد في الإسلام، حيث كانت الرسائل ترسل قبل ذلك من قبل الخليفة إلى الجهة التي يراد إرسالها إليها، عن طريق رسول يحملها وينطلق بها وحده، حتى يوصلها إلى الجهة المقصودة، فكانت بذلك الرسائل تستغرق مدة طويلة حتى تصل إلى محلها وأم نظام البريد الذي استخدمه معاوية اقتباساً من البيزنطيين فقد كان يقتضي أن تقسم الطرق إلى مسافات، يوضع في نهاية كل مسافة دواب (خيل) مهيأة لحمل رسائل الخليفة إلى الجهات المختلفة، تسلم الكتب والرسائل إلى صاحب البريد، وينطلق بها مسرعاً حتى إذا بلغ نهاية المسافة سلمها لمن بعده، وتظل الرسالة تنطلق من مسافة إلى مسافة حتى تصل إلى الجهات المرسلة إليها في أقصر مدة، وأما مقدار المسافة الواحدة، فكان أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وبذلك يكون طول المسافة أثنى عشر ميلاً، أي عشرين كيلو متراً تقريباً، وهذه المسافة تسمى بريداً، وبهذه الطريقة تصل الرسالة بأكبر سرعة، دون إجهاد لصاحب البريد، حيث أن المسافة يمكن قطعها بسهولة، وتناوب أصحاب البريد إذا كان سيقطع المسافة وحده، وهكذا يوفر هذا النظام الراحة لأصحاب البريد، واختصار الوقت[19]، يقول أبو هلال العسكري: أول من وضع البريد في توصيلها يوفر الزمن الذي يستريحه صاحب البريد في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وأحكم أمره عبد الملك[20]. س ـ نظام الكتبة: كان هناك كاتب لديوان الرسائل، وآخر لديوان الخراج، وثالث لديوان الجند، ورابع لديوان الشرطة وخامس لديوان القضاء، وكان في عهد الأمويين أكبر دواوين الدولة، ويقوم الموظفون فيه بنسخ أوامر الخليفة، وإيداعها ديوان الخاتم، بعد أن تحزم وتختم بالشمع، ثم تختم بخاتم صاحب الديوان[21]، وظل ديوان الخاتم من أكبر دواوين الدولة، منذ أنشأه معاوية، وحتى أواسط العهد العباسي[22]، وكانت هذه الدواوين تقوم بأعمال وزارة المالية(ديوان الخراج) ووزارة الدفاع (ديوان الجند) ووزارة الداخلية (ديوان الشرطة) ووزارة العدل (ديوان القضاء) كما كان ديوان الرسائل يقوم بأعمال السكرتيرية، وديوان الخاتم يقوم بأعمال السجلات والأرشيف وكان لكل ديوان موظفوه من الكتبة المتخصصين، وكان ديوان الخراج يكتب في العراق باللغة الفارسية، وفي الشام ومصر باللغة الرومية وظل كذلك حتى عرّبه عبد الملك بن مروان[23]. |
ثانياً : حرصه على توطين الأمن في خلافته:
ومن القواعد التي بنى عليها معاوية سياسته الداخلية توطيد الأمن في ربوع العالم الإسلامي وقد اتخذ معاوية عدة وسائل لتحقيق هذا الهدف. 1 ـ الحاجب: كان معاوية بن أبي سفيان أول من اتخذ الحاجب في الإسلام، لكي يتجنب محاولات الاعتداء عليه[1]، وكان بعض المظاهر الملكية له ما يبرره في هذه الحقبة التاريخية فقد عبر ابن خلدون على احتجاب الخلفاء عن الناس، على النحو التالي: كان أول شيء بدأ به في الدولة شأن الباب وستره دون الجمهور، لما كان يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعمر وعلي ومعاوية وعمر بن العاص وغيرهم، مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم وشغلهم بهم عن المهمات، فاتخذوا من يقوم لهم بذلك وسموه الحاجب[2]، ومما يعزز آراء ابن خلدون عن وجود العامل الأمني وراء اتخاذ معاوية من محاولة اغتياله التي دبرها الخوارج: أمر عند ذلك بالمقصورات وحرس الليل، وقيام الشرطة على رأسه إذا سجد[3]، وقد كان معاوية وبنو أمية يعيشون في الشام قريباً من أعدائهم الموتورين من الروم، فضلاً عن أعدائهم الموتورين من الشيعة والخوارج المتفرقين في البلاد، وكانوا يرون لابد لهم لاستقرار الدولة الإسلامية التي قتل ثلاثة من خلفائها من اتخاذ نمط من أنماط الحراسة والاحتراز[4]، وقد ذكر المؤرخون أسماء أربعة من مواليه شغلوا له وظيفة الحاجب، وهم سعد، وأبو أيوب، وصفوان[5]، وكان يشترط في الحاجب أن يعرف منازل الناس وأنسابهم وطبقاتهم، لكي يتمكن أن يعرف من يأذن لهم، ومن لا يأذن لهم، فقد رويت أخبار كثيرة تؤكد ذلك، فمعاوية بن أبي سفيان قال لحصين بن المنذر، وكان يدخل عليه في آخريات الناس: يا أبا ساسان كأنه لا يحسن أذنك؟ فأنشأ يقول: وكل خفيف الساق يسعى مشمراً إذا فتـح البواب بابـك أصبعاً ونحـن الجلـوس الماكثون رزانة وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا[6] وعندما دخل شريك الحارثي على معاوية قال له: من أنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين مارأيت لك هفوة قبل هذه مثلك ينكر مثلي من رعيته، فقال له معاوية: إن معرفتك متفرقة أعرف وجهك إذا حضرت الوجوه، وأعرف إسمك في الأسماء إذا ذكرت، ولا أعلم أن ذلك الاسم هو هذا الوجه ما ذكر لي اسمك تجتمع معرفتك[7]، فالحاجب يخبر الخليفة والخليفة هو الذي يأذن أو لا يأذن. وذات يوم وقف الأحنف بن قيس، ومحمد بن الأشعث بباب معاوية الأول، فإذن للأحنف، ثم إذن لابن الأشعث، فأسرع في مشيته حتى تقدم الأحنف ودخل قبله، فلما رآه معاوية غمه ذلك، وأحنقه فالتفت إليه فقال: والله إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله، وأنا كما نلي أموركم كذلك نلي آدابكم ولا يزيد متزيد في خطوة إلا لنقص يجده في نفسه[8]. 2 ـ الحرس : كان معاوية بن أبي سفيان أول من اتخذ الحرس في الدولة الإسلامية، خوفاً من الخوارج الذين كانوا يريدون قتله، فقد أمر بالمقصورات في الجوامع وكان لا يدخلها إلا ثقاة وحراسه[9]، وكما يبدو أن معاوية لم يكتف باتخاذ الحرس، بل اتخذ المقاصير زيادة في التشدد وذلك لحماية نفسه من أي اعتداء قد يقع عليه[10] وقد ذكرت كتب التاريخ أسماء رؤساء الحرس في عهد معاوية وهم: المحتار: أبو المخارق[11]، ويزيد بن الحارث العبسي[12]. 3 ـ الشرطة: وظيفتها المحافظة على الأمن والنظام، والقبض على اللصوص والجناة والمفسدين، والدفاع عن الخليفة، وهي غير مسؤولة عن صد أي هجوم خارجي عن الدولة[13] وقد قام معاوية بتنظيمها وتطويرها في الشام وقد ذكر المؤرخون أربعة أسماء من الذين عينهم على رئاسة الشرطة وهم: قيس بن حمزة الهمذاني، زمل بن عمرو العذري، الضحاك بن قيس الفهري ويزيد بن الحر العنسي[14] والشرطة لا يقتصر وجودها على عاصمة الخلافة فقط بل في الولايات الإسلامية الأخرى وهم يتبعون الولاة فهم الذين يختارونهم ويعينونهم وكان وجودها مهم للدولة والمجتمع، فالدولة تعتمد عليها في قمع المتمردين، وفي القضاء على الثورات، والاضطرابات، وربما كانت تحل محل الجند في حالة عنايتهم واشتراكهم في الغزوات، وهي للمجتمع، لأنها تعمل على تحقيق الأمن والاستقرار، فهي الجهة الوحيدة المسؤولة عن حماية أرواح الناس، وحفظ حقوقهم وأموالهم من اعتداء بعضهم على بعض وقد كلف الخلفاء الأمويون رؤساء الشرطة بأعمال شتى خارج بلاد الشام وداخلها: فالضحاك بن قيس كلفه معاوية، بإبلاغ وصيته لابنه يزيد، وأخذ البيعة له[15]. 4 ـ حسن اختيار الرجال والأعوان : فقد وفق معاوية رضي الله عنه في اختيار أعوانه من الرجال الموثوق بولايتهم وخبرتهم الإدارية، مع حكمتهم ودهائهم. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: عمرو بن العاص السهمي، والمغيرة بن شعبة الثقفي، وزياد بن أبيه الثقفي، ويزيد بن الحر العبسي، والضحاك بن قيس الفهري، وعبد الله بن عامر بن كريز، وغيرهم من القادة المقاتلين أمثال المهلب بن أبي صفرة، وعقبة بن نافع الفهري، ومالك بن هبيرة، وجنادة بن أمية الأزدي وآخرين، وكان عمرو بن العاص يقول: أنا للبديهة، ومعاوية للأناة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لصغار الأمور وكبارها[16]. وقد ساهم هؤلاء في إدارة الدولة وفتوحها والتصدي لأعدائها، فكان لهم دور كبير ومتميز في ترسيخ وتوطين وتثبيت الأمن ودعائم الخلافة الأموية[17] . 5 ـ استخدام المال في تأكيد ولاء الأعوان وتأليف القلوب: فقد اعتبر معاوية من أجواد العرب لأنه استمال القلوب بالبذل والعطاء وجاد بالمال مع المداراة وكان إذا بلغه عن رجل ما يكره أسكته بالمال[18]. 6 ـ إتباع سياسة الشدة واللين: في الوقت نفسه حسب الظروف والأحوال: وظهرت هذه السياسة بشكل واضح بعد توطيد دعائم الخلافة الأموية، وكتب معاوية إلى زياد بن أبيه في ذلك وقال: إنه لا يصلح أن أسوس وتسوس الناس بسياسة واحدة إنا إن نشتد جميعاً نهلك الناس ونحرجهم، وإن نلن جميعاً نبطرهم، ولكن تلين وأشتد وتشتد وألين[19]، ويمثل هذه السياسة وما نسب إلى معاوية رضي الله عنه من أقوال مثل: لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، فإذا لم أجد من السيف بداً ركبته، إي استعملته[20]، وقوله المشهور: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إن جبذوها أرسلتها، وإن خلوها جبذتها[21]. 7 ـ إتباع سياسة المنفعة المتبادلة بين بني أمية ورعيتهم: لم يستطع معاوية رضي الله عنه إتباع سياسة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم الراشدة، ولا شك في أن كثرة الأموال بعد اتساع الدولة الإسلامية جعلت كثيراً من المسلمين يتطلعون إلى التمتع بالخيرات التي أخذت تتدفق عليهم وقد أعرب معاوية عن ذلك بشكل واضح وقال للمسلمين:.. غير أني سلكت طريقاً لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك، ولكل فيه مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة ما استقامت السيرة، وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم[22]. 8 ـ اتخاذ سياسة إعلامية للإشادة به وبخلافته وجعل الناس يميلون إليهم: وكان معاوية بن أبي سفيان يقول: أحب الناس إلي أشدهم تحبيباً لي إلى الناس[23]، وأتبعه بعد ذلك الخلفاء الأمويون باستمالة عشرات الشعراء وأغدقوا عليهم الأموال، فأشادوا بهم وبحقهم في الخلافة وصلاحهم لها ووجوب طاعتهم ونصرتهم نظراً لأن الشعر كان أهم وسيلة إعلامية في ذلك العصر[24]، ومن الأشعار التي قيلت في هذا الاتجاه ما قاله الأخطل: تَمَّت جدودهم والله فضلهم وجدُّ قوم سواهم خامل نكد وأنتم أهل بيت لا يُوازنُهم بيت إذا عُدّتِ الأحساب والعدد[25] وقد إهتمّ معاوية بفن الدعاية والإعلام، وأوكله إلى عدد من الرجال يهمهم أمره ويؤيدونه، فكان يكثر أعطيات الشعراء وكذلك شيوخ القبائل، لكسبهم في صفه، ويعطي مجالاً واسعاً لولاته لكي يحققوا بعض المكاسب السياسية والإعلامية والأمنية، فقد كتب زياد والي البصرة في عهد معاوية خمسمائة من مشايخها، وأعيانها في صحابته، ورزقهم ما بين الثلاثمائة إلى الخمسمائة[26]، فقال فيه حارثة بن بدر الغُدانيّ: ألا مـن مبلغ عني زياداً فنعم أخو الخليفة والأمير فأنت إمام معدلةٍ وقصد وحزم حين تحضرك الأمور أخوك خليفة الله بن حرب وأنت وزيرة نعم الوزير[27] وكان معاوية رضي الله عنه يحرص على امتصاص غضب الشعراء بحلمه وعفوه، فعندها هجا يزيد بن مفرِّغ الحميري بني زياد، عندما كان مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، فاستبطأه، فأصاب الجند مع عباد ضيق في أعلاف دوابهم فقال ابن مفرغ: ألا ليت اللحى عادت حشيشاً فنعلفها خيول المسلمين وكان عبّاد بن زياد عظيم اللحية، فأنهِيَ شعره إلى عبّاد وقيل: ما أراد غيرك، فطلبه عباد، فهرب منه، وهجاه بقصائد كثيرة، فكان مما هجاه به قوله: إذا أودى معاوية بن حرب فسبِّر شعْبَ قعبك بانصداع فأشهد أن أمك لم تباشر أبا سفيان واضـعه القنـاع ولكن أمراً فيـه لبـس على وجـل شديد وارتياعٍ وقوله: ألا أبلغ معاوية بـن حرب مغلغلة مـن الرجل اليماني أتغضب أن يقال أبوك عَفُّ وترضى أن يقال أبوك زان فأشهد أن رحمك من زياد كرحم الفيل من ولد الأتان[28] ولما هجا ابن المفرِّغ عبَّاداً فارقه مقبلاً إلى البصرة، وعبيد الله يومئذ وافد على معاوية، فكتب عباد إلى عبيد الله ببعض ما هجاه به، فلما قرأ عبيد الله الشعر دخل على معاوية، فأنشده إياه، واستأذنه في قتل ابن مفرغ، فأبى عليه أن يقتله، وقال: أدِّبه ولا تبلغ به القتل[29]... ووقع ابن مفرِّغ بين يدي عبيد الله.. فأمر به فسقي دواء، ثم حمل على حمار عليه إكاف فجعل يطاف به وهو يسلح في ثيابه[30]. وقال ابن مفرِّغ لعبيد الله: يُغسِل الماء ما صنعت وقولي راسخ منك في العظام البوالي ثم حمله عبيد الله إلى عباد بسجستان، فكلمت اليمانية فيه بالشام معاوية، فأرسل رسولاً إلى عباد، فحمل، ابن مفرغ من عنده حتى قدم على معاوية فقال في طريقه: عَدَس مالعبّـاد عليك إمــارة نجوتِ وهـذا تحملين طليق لعمري لقد نجاك من هوّة الرّدى إمـام وحبل للأنام وَثِيـق سأشكر ما أوتيت من حسن نعمة ومثلي بشكر المنعمين حقيق فلما دخل على معاوية بكى، وقال: ركب مني ما لم يركب من مسلم على غير حدث ولا جريرة... وبعد حوار مع معاوية قال له معاوية اذهب فقد عفونا لك عن جرمك، أما لو إيانا تعامل لم يكن مما كان شيء، فانطلق وفي أي أرض شئت فانزل. فانزل الموصل، ثم إنه ارتاح إلى البصرة، فقدمها، ودخل على عبيد الله فآمنه[31]. فقد كان معاوية رضي الله عنه يحرص على كسب الشعراء لصفه، والتحبب إليهم وإكرامهم وعدم محاولة الإساءة إليهم، فقد كانوا أقرب الشبه بالفضائيات في الوقت الحاضر. |
9 ـ جهاز المخابرات: كانت الأجهزة الأمنية الداخلية والخارجية في عهد معاوية قوية جداً، وكانت قدرتها على جمع المعلومات فائقة، وكان معاوية رضي الله عنه يشرف على جهاز المخابرات بنفسه وكان له جهاز سري مربوط به لمراقبة الولاة والرعية، فلم يكن في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل أو أمير جيش إلا وعليه عين لا يفارقه، بل وصلت عيونه حتى في البلاط البيزنطي وإليك ما يدل على ذلك:
أ ـ إطلاعه على المراسلات التي بين الحسين وأهل العراق: لما توفي الحسن بن علي اجتمعت الشيعة في دار سليمان بن صرد وكتبوا إلى الحسين كتاباً بالتعزية في وفاة الحسن: وقالوا في كتابهم: إن الله قد جعل فيك أعظم الخلق ممن مضى ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، والمسرورة بسرورك، المنتظرة لأمرك، فرد الحسين على كتابهم: إني لأرجو أن يكون رأي أخي في الموادعة، ورأي في جهاد الظلمة رشداً أو سداداً، فالصقوا بالأرض وأخفوا الشخص، اكتموا الهوى، واحترسوا في الاضناء ما دام ابن هند حياً، فإن يحدث به حدث وأنا حي يأتكم رأيي إن شاء الله[1]، ولقد أشارت تلك الرسائل المتبادلة بين الحسين وأهل الكوفة مخاوف بني أمية في المدينة، فكتبوا إلى معاوية يستشيرونه بشأن الحسين: فكتب إليهم بأن لا يتعرضوا له مطلقاً[2]، وكان معاوية على معرفة بتلك الرسائل والعلاقات الوثيقة التي تربط بين الحسين وبين الكوفيين، ولهذا فقد طلب معاوية من الحسين: أن يتق الله عز وجل وأن لا يشق عصا المسلمين ويذكره بالله في أمر المسلمين[3]، ولقد كان موقف الحسين واضحاً وإعلانه صراحة بقوله: إنا قد بايعنا وعاهدنا، ولا سبيل إلى نقض بيعتنا[4]، وظل الحسين رضي الله عنه ملتزماً ببيعته وطاعته طوال عهد معاوية[5]، رضي الله عنه. ب ـ قصة معاوية مع المسور بن مخرّمة فقد صارح معاوية المسور وقال له: يا مسور ما فعل طعنك على الأئمة[6]، ففيه، معرفة معاوية لما يقول كبار الشخصيات في المجتمع الإسلامي فيه. جـ ـ قصة الأسير المسلم عند البيزنطيين، الذي لطم وجه بين يدي ملك الروم وقوله الأسير: وا إسلاماه أين أنت يا معاوية، فوصل ذلك الخبر إلى معاوية[7]، هذه بعض الشواهد التي تدل على قوة جهاز المخابرات التابع للدولة الأموية. س ـ وضع بعض أتباع علي رضي الله عنه بالكوفة تحت المراقبة: لم يدخل زياد في طاعة معاوية بسهولة وامتنع في بداية أمره على طاعته وتحصن ببلاد فارس واستطاع معاوية بعد أخذ ورد إقناع زياد في دخوله طاعته وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله وسأل زياد معاوية أن يسمح له في نزول الكوفة، فأذن له، فشخص إلى الكوفة، فكان المغيرة يكرمه ويعظمه، فكتب معاوية إلى المغيرة: خذ زياداً وسليمان بن صرد، وحجر بن عدي، وشَبَت بن ربعي، وابن الكواء، وعمر بن الحمق بالصلاة في الجماعة، فكانوا يحضرون معه في الصلاة[8]، فقد كان هذا إجراء احتياطياً من معاوية حتى يكون هؤلاء القوم تحت ناظري والي الكوفة باستمرار، وذلك أن صلح الحسن ومعاوية يوجد له معارضون،ولا يستبعد التفافهم حول بعض رجالات علي ـ رضي الله عنه ـ حسماً منه لمادة الفتنة[9]. 10 ـ الاهتمام ببناء الجيش الإسلامي : كان لمعاوية بعد نظر سياسي تمثل في بناء جيش قوي منذ أن كان والياً على الشام وتمحور دور هذا الجيش في استتباب الأمن داخل الولاية ومن ثم القيام بعمليات توسع خارجية قبل وبعد نيله الخلافة[10] تمثلت في حركة الفتوحات في عصره وهذا سيأتي تفصيلها في محله بإذن الله تعالى. 11 ـ سياسة الموازنات : على الرغم من نفوذ الكلبيين في الدولة الأموية، فإن المعادلة لم تكن قائمة على التحالف الأموي ـ الكلبي، ولكنها اتخذت في عهد معاوية رضي الله عنه منحىً توازنياً ما بين كلب وفهر بصورة خاصة، وقحطان وقيس بصورة عامة، فإذا كان الكلبيون قد حملوا عبء الدفاع المسلح عن الدولة، مؤثرين الإقامة في جنوب الشام (جند الأردن)، فإن الفهريين كان لهم الدور السياسي والإداري البارز فضلاً عن الدور العسكري، حيث شارك زعيمهم الضحاك بن قيس في صفين، وكان بالإضافة إلى ذلك في طليعة الذين اعتمد عليهم معاوية في حضِّ الناس على البيعة ليزيد[11]، وقد ارتفع الضحاك في السياسة الأموية، وفي أعقاب الدور الأمني الذي شغله في عهد معاوية كقائد على شرطته[12]، والدور السياسي في عهد يزيد، كعامل له على دمشق، مما هيأه من خلال هذا الموقع الهام، لدور أكثر خطورة بعد وفاة معاوية الثاني الذي أوصى بأن: يصلي الضحاك بالناس بدمشق[13]، وهكذا نجح مؤسس الدولة الأموية في الإمساك بزمام الأمور من خلال الموازنة بين القبائل الشامية الكبرى، كون أن يدع لأي منها مجالاً بأن تتجاوز حدودها المرسومة لها في الدولة، بما في ذلك القبيلة الكلبية الأثيرة. وقد اتسعت دائرة هذه السياسة، لتصبح ظاهرة من ظواهر عهد معاوية رضي الله عنه، حيث نجح معاوية في تحقيق التوازن المنشود داخل قريش (المهاجرة، وغير المهاجرة، فضلاً عن التوازن داخل الأسرة الأموية (بنو حرب ، وبنو العاص) واحتواء الثقفيين بعد منحهم إدارة العراق الذي ارتبط تاريخه أو كاد بهذه الأسرة، إلى آخر هذه التوازنات المتقنة التي ضبطها معاوية رضي الله عنه[14]. 12 ـ سياسته مع الأسرة الأموية: لم يأت معاوية رضي الله عنه للخلافة بدعم مادي أو معنوي من الأسرة الأموية، وإنما أتاه من جبهة شامية قبلية متماسكة وقفت وراءه لذلك لم يكن لهذه الأسرة دور بارز في إدارة الدولة في عهده من الناحية الإدارية أو من الناحية العسكرية، نلاحظ ذلك من خلال استعراض أسماء ولاة وقادة معاوية الذين استعان بهم[15]، إلا أن معاوية لم يجاف أسرته جفاءً تاماً، بل استعان بأفراد منها واضعاً نصب عينيه هدفين: أ ـ الاستعانة بالأكفاء منهم. ب ـالحيلولة دون ازدياد سلطانهم ونفوذهم بشكل يهدد مخططاته السياسية[16]، وقد استطاع معاوية تحقيق وحدة الصف الأموي بما كان يملك من صفات ومؤهلات قيادية فذة[17]. هذه هي أهم الوسائل التي اتخذها معاوية لتوطيد الأمن في دولته رضي الله عنه. |
المبحث الثالث : حياة معاوية في المجتمع وإهتماماته العلمية:
أولاً : حياة معاوية في المجتمع : 1 ـ بين معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين ألست أنصح الناس لك؟ قال: بذلك نلتَ ما نلت[1]. 2 ـ مشاجرة في مجلس معاوية: عن جويرية بن أسماء، أن بسر بن أبي أرطاة نال من علي عند معاوية وزيد بن عمر بن الخطاب جالس، فعلاه بعصاً فشجعه، فقال معاوية لزيد: عمدت إلى شيخ من قريش سيد أهل الشام فضربته وأقبل على بسر فقال: تشتم علياً وهو جده وابن الفاروق على رؤوس الناس، أو كنت ترى أنه يصبر على ذلك ثم أرضاهما جميعاً[2]. 3 ـ أنا أحق بهذا منك: قال معاوية: ما من شيء أحب إلي من عين خرارة في أرض خوّارة فقال عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إلي من أن أبيت عروساً بعقيلة من عقائل العرب، فقال وردان مولى عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إليّ من الإفضال على الأخوان فقال معاوية: أنا أحق بهذا منك، قال: ما تحب فافعل[3]. 4 ـ نعي إلى نفسي: كان عامل معاوية على المدينة إذا أراد أن يبرد بريداً إلى معاوية أمر مناديه فنادى: من له حاجة يكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب زِرّ بن حبيش ـ أو أيمن بن خُريَم ـ كتاباً لطيفاً ورمى به إلى الكتب وفيه: إذا الرجال ولدت أولادها واضطربت من كبر أعْضادُها وجعلت أسقامها تعتادها فهي زروع قد دنا حصادها فلما وردت الكتب عليه فقرأ هذا الكتاب، قال: نعى إلي نفسي[4]. 5 ـ نصيحة معاوية لشاعر من بني أمية: قال معاوية رضي الله عنه، لعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص: يا ابن أخي، إنك قد لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعُرّ الشريفة[5]، والهجاء فتعر كريماً، وتستثير لئيماً، والمدح، فإنه طعمه الوّقاح، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك، وتؤدب به غيرك[6]. 6 ـ لا تقل داري في البصرة، ولكن قل: البصرة في داري: ذكر أن رجلاً سأل معاوية أن يساعده في بناء دار باثني عشر ألف جذع من الخشب. فقال له معاوية: اين دارك؟ قال بالبصرة. قال: وكم اتساعها؟ قال: فرسخان في فرسخين: قال: لا تقل داري بالبصرة، ولكن قل: البصرة في داري[7] 7 ـ علمت أن أكله سيُورِثه داءً: ذكر أن رجلاً دخل بابن معه، فجلسا على سماط معاوية فجعل ولده يأكل أكلاً ذريعاً، فجعل معاوية يلاحظه، وجعل أبوه يريد أن ينهاه عن ذلك فلا يفطن، فلما خرجا لامه أبوه وقطعه عن الدُّخول، فقال له معاوية: أين ابنك التِّلقامة[8]؟ قال: اشتكى. قال: قد عملت أن أكله سيورثه داء[9]. 8 ـ وإنك لتلحظ الشعرة في لقمتي: روي أن معاوية قال للأعرابي: ارفع الشعرة من لقمتك فقال: وإنك لتلحظ الشعرة في لقمتي، والله لا أكلت معك طعاماً[10]. 9 ـ إنك لا تخاطب العباءة ، إنما يخاطبك من فيها : نظر معاوية إلى رجل وقف بين يديه يخاطبه وعليه عباءة، فجعل يزدريه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك لا تخاطب العباءة، إنما يخاطبك من فيها[11]. 10 ـ يا بنية إنه زوجك الذي أحله الله لك : تزوج عبد الله بن عامر هند بنت معاوية، فلمّا أدخلت عليه بالخضراء، أرادها عن نفسه فتمنَّعت عليه وأبت أشد الإباء فضربها فصرخت، فلمّا سمع الجواري صوتها صرخن وعلت أصواتهنّ، فسمع معاوية فنهض إليهنّ، فاستعلمهن ما الخبر، فقلن: سمعنا صوت سيدتنا فصِحنا. فدخل فإذا هي تبكي من ضربه، فقال لابن عامر: ويحك مثل هذه تضرب في مثل هذه الليلة؟ ثم قال له: اخرج من ههنا، فخرج وخلا بها معاوية فقال لها: يا بُنَّيةُ، إنه زوجك الذي أحله الله لك، أو ما سمعتِ قول الشاعر: من الخَضِرات[12] البيض أمّا حرامها فصعب وأمّا حِلُّها فذلول ثم خرج معاوية من عندها، وقال لزوجها: أدخل فقد مهدت لك خُلُقها ووطَّأته، فدخل ابن عامر، فوجدها قد طابت أخلاقها فقضى حاجته منها[13] رحمهم الله تعالى . 11 ـ هل يصح قول معاوية: إن الكريم طروب: عن محمد بن عامر، قال: لام معاوية عبد الله بن جعفر على الغناء، فدخل يوماً على معاوية ومعه بُديح[14]، ومعاوية واضع رجلاً على رجل، فقال: عبد الله لبديح: أيها[15] يا بديح، فتغنى، فحرك معاوية رجله، فقال عبد الله: مه يا أمير المؤمنين. فقال معاوية: إن الكريم طروب[16] ، هذا الخبر أورده البلاذري[17] بنحوه، وأورده ابن عبد ربه[18]، مع بعض الزيادات المنكرة[19] وهذه الرواية الضعيفة يردها ما أخرجه الطبراني بإسناد حسن، من طريق كيسان مولى معاوية قال: خطب معاوية الناس فقال: يا ايها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تسع، وأنا أنهاكم عنهن، النوح، والشَّعر، والتبرُّج، والتصاوير، وجلود السباع، والغناء، والذهب، والحِرُّ والحرير[20]، وكان رضي الله عنه ـ ينهي عن الاستماع إلى الغناء وينكر ذلك على من يعرف به، وكان عامله على المدينة بن الحكم شديداً على أهل الدعارة والفسوق، فكانوا يهربون من المدينة أثناء ولايته[21]. 12 ـ قضاء ديون السيدة عائشة رضي الله عنه : كان معاوية رضي الله عنه يهتم بالسيدة عائشة ويقضي عنها ديونها، فعن سعيد بن عبد العزيز، قال: قضى معاوية عن عائشة ثمانية عشرة ألف دينار[22]. وقال عروة: بعث معاوية مرةً إلى عائشة بمائة ألف، فوالله ما أمْست حتى فرَّقتها[23] 13 ـ الاهتمام بحوائج الناس: كان معاوية رضي الله عنه يشفق علىنفسه أن يكون احتجابه أحياناً عن المسلمين ذنباً يحاسب عليه، فلما سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره، جعل معاوية على حوائج الناس رجلاً يبلغه بها، كي لا يغيب عنه شيء منها[24]، وكان عامله علىالمدينة إذا أراد أن يبرد بريداً إلى معاوية أمر مناديه فنادى: من له حاجة، يكتب إلى أمير المؤمنين[25]. 14 ـ تأثر معاوية رضي الله عنه بموت الصالحين: حين توفي ابن لعتبة بن أبي سفيان وجاء ناس إلى معاوية يعزونه فيه قال: إن موت غلام من آل أبي سفيان قبضه الله، ليس بمصيبة، إنما المصيبة كل المصيبة لموت أبي مسلم الخولاني وكريب بن سيف الأنصاري[26]. 15 ـ اهتمام معاوية بالمساجد والعيون: اهتم معاوية بن أبي سفيان بالمسجد الحرام وأمر بتوسعته وأجرى له القناديل والزيت من بيت المال وأضاء المصابيح فيه لأهل الطواف، واهتم بالمسجد الأقصى، وقام مسلمة بن مخلد أمير مصر من قبل معاوية بالزيادة في المسجد الجامع بالفُسطاط عام 53هـ وطلا جدرانه بالجص وزخرف بنيانه وبنى له أربع منارات شامخة وفرشه بالحصير . وأخذ أهل مصر ببيان المنارات للمساجد، وأمر المؤذنين أن يكون أذانهم في الليل في وقت واحد[27]، ووسع المغيرة بن شعبة المسجد الجامع بالكوفة، ثم قام زياد بن أبيه فبناه وزاد فيه وأحكمه وفرشه بالحصى، وكان يقول: أنفقت على كل أسطوانة من أساطين مسجد الكوفة ثماني عشرة مئة درهم واتخذ فيه مقصورة جدّدها خالد بن عبد الله القسري في اثناء ولايته على العراق، ثم قام عبيد الله بن زياد وزاد في المسجد الجامع وفرشه بالحصى[28]، وزاد زياد بن أبيه في المسجد بالبصرة زيادة كبيرة، وبناه، بالآجر والجص واستعمل الأساطين في البناء، وسقفه بالساج وبنى منارته بالحجارة، وبنى في البصرة المساجد الكثيرة، ثم قام عبيد الله بن زياد فزاد في المسجد الجامع[29]، واهتم معاوية بالمرافق العامة في الدولة الإسلامية، وحرص على توفير مياه الشرب في المدينة، وأجرى في الحرم المكي عيوناً[30] وأنشأ آبار المياه على الطرقات، فربط بين أجزاء مملكته ربطاً محكماً[31]. 16 ـ سباق الخيل في عهد معاوية رضي الله عنه : ويعد معاوية رضي الله عنه من أوائل الخلفاء الذين أرسوا تقاليد سباقات الخيل في تاريخنا الإسلامي حيث كان يقيم سباق الخيل في دمشق، حيث يشترك فيه فرسان من جميع أطراف الدولة، وكان هؤلاء يدخلون الحلبة وهم يقولون الشعر في الفخر بأنفسهم وخيلهم، وعند انتهاء السابق كان الخليفة يقدم جوائز ثمينة للفائزين[32]. 17 ـ اطعام الحجاج والصائمين : جعل أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه دار المراجل بمكة، والتي كان يطبخ فيها طعام الحجاج وطعام الصائمين من الفقراء في شهر رمضان المبارك[33] وقفاً في سبيل الله. 18 ـ الله أقدر عليك منك عليه : رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاماً له فقال له: أعلم أن الله أقدر عليك منك عليه، سوأة لك!! أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع منك؟ والله لقد منعتني القدرة من الانتقام من ذوي الإحن، وإن أحسن من عفا لمن قدر[34]. فهذا توجيه سديد من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه لابنه يزيد نحو التخلق بهذا الخلق الكريم. العفو عند المقدرة، هذا الخلق الذي يعتبر من أهم عناصر السيادة وسياسة الأمة، ولقد ذكَّره بقدرة الله جل وعلا عليه ليحطَّ من تعاظمه بنفسه وليخشى الله سبحانه فيمن هم تحت يده[35] ثانياً : اهتماماته العلمية : كان معاوية رضي الله عنه يشجع الولاة والعلماء وأبناء الأمة على إيجاد نهضة ثقافية حضارية، وشهد عصره نهضة في التفسير وعلوم القرآن والفقه والعقيدة، وتأالق فيه نجم عديد من العلماء الذين ظل المسلمون بعد ذلك يأخذون من علومهم ويستشهدون بأقوالهم واجتهاداتهم، كابن عباس وأبي هريرة، وابن عمر، وغيرهم وكانت العلوم الرئيسية هي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه واللغة العربية واهتم معاوية رضي الله عنه بغيرها من العلوم أيضاً منها: 1 ـ اهتمام معاوية بالتاريخ : كان معاوية رضي الله عنه الراعي الذي عمل على أول تدوين باللغة العربية للتاريخ بمعناه العام لا على أنه المغازي النبوية وقصص الأنبياء، ولا على أنه الأنساب , وأيام العرب، ولكن على أنه تاريخ الأمم السالفة، وسير الملوك والحروب وأنواع السياسات مما هو جدير بالقراءة على الملوك[36]، فقد كان ينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب والمكائد، فيقرأ ذلك غلمان له مرتبون، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها، فتمر بسمعه كل ليلة جملة من الأخبار والآثار وأنواع السياسات[37]، وقد استدعى معاوية عبيدة بن شرية وهو أحد علماء التاريخ البارزين في بلاد اليمن إلى دمشق وسأله عن أخبار القدماء وملوك العرب والعجم وأمر معاوية كتّابه أن يدونوا ما يتحدث به عبيد الله بن شربة كتاب الأمثال وكتاب الملوك وأخبار الماضين[38]، ولم يكن عبيدة هذا هو العالم الوحيد الذي استقدمه معاوية إلى دمشق فكتب عنه روايات وصيرها كتباً، بل أن كثيراً من الأخباريين أهل الدراية بأخبار الماضين وسير الغابرين من العرب وغيرهم من المتقدمين وفدوا على معاوية أيضاً[39]، والدرس البالغ الأهمية يظهر في أهمية التاريخ للساسة والحكام والملوك والزعماء، فالسياسي المستوعب لحركة التاريخ وسننه ينجح في ميدان عمله أكثر من غيره، فهناك علاقة متينة بين التاريخ والسياسة. 2 ـ اهتمام معاوية بالشعر واللغة: كان معاوية رضي الله عنه يدرك أهمية الشعر تواقاً له ولم يغب عن حسه أهميته في الدعاية السياسية للدولة، وكان يهتم بتربية أبنائه وأبناء أخيه على تعلم ومعرفة وتذوق الشعر، فقد كتب إلى زياد أن أوفد إلي ابنك، فلما قدم عليه لم يسأله معاوية عن شيء إلا نفذ منه، حتى سأله عن الشعر فلم يعرف منه شيئاً، فقال له: ما منعك من تعلم الشعر، فقال: يا أمير المؤمنين إني كرهت أن أجمع في صدري مع كلام الرحمن كلام الشيطان، فقال معاوية: اغرب؟ فوالله ما منعني في الفرار يوم صفين إلا ابن الاطنابة حيث قال: أبت لـي عفتي وأبـى بلائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإعطائي على الإعدام مـالي وإقدامي على البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي[40] ثم كتب إلى أبيه أن روه الشعر، فرواه حتى كان لا يسقط عنه شيء منه[41]، وكان معاوية رضي الله عنه يتمثل بهذه الأبيات كثيراً: فما قتل السفاهة مثـل حلم يعود به على الجهل الحليم فلا تسفه وإن مُلِّئت غيـطاً على أحد فإن الفحش لوم ولا تقطع أخاً لك عند ذنب فإن الذنب يغفره الكريم[42] ومن اهتمام معاوية بالشعر حفظه له، فقد دخل ذات يوم على معاوية في مجلسه ابن أبي محجن الثقفي فقال له معاوية: أبوك الذي يقول: إذا مت فادفني إلى جنب كَرْمة تُرَوِّى عظامي بعد موتي عُرُوقُها ولا تدفننَّي بالفلاة فإنَّني أخاف إذا مامت أن لا أَذُوقها فقال ابن أبي محجن: لو شئت ذكرتُ أحسن من هذا من شعره قال: وما ذاك؟ قال: قوله: لا تسأل النـاسَ: مـالي وكثرته وسائل القوم ما حزمي وما خلقي القـوم أعلم أنـي مـن سراتهم إذا تَطِيش يـد الرِّعديده الفَرِق قد أركب الهوْل مسدولاً عساكره وأكتُم السرَّ فيه ضربةُ العُنُـقِ وهو القائل: إن يكـن ولىَّ الأميـر فقـد طاب منـه النَّجْـلُ والأثـرُ فيكــم مسـتيقظ فَهِـمٌ قُلْقُــلانٌ حَيَّــةٌ ذكـرُ أحمـد الله إليـك فمــا وصـــلة إلا ســتنبترُ[43] وكان الشاعر مسكين الدارمي من المقربين من معاوية وابنه، فقد سأل معاوية عنه عطارد بن حاجب، وقال له: ما فعل الدارمي الصبيح الوجه الفصيح اللسان ـ يعني مسكيناً؟ فقال: صالح يا أمير المؤمنين، قال: أعلمه أني قد فرضت له فله شرف بالعطاء وهو في بلاده، فإن شاء أن يقيم بها أو عندنا فليفعل، فإنّ عطاءه سيأتيه، وبشرّه بأن قد فرضت لأربعة آلاف من قومه من خِنْدِف[44]، وهذا الشاعر هو القائل في معاوية رضي الله عنه: إليـك أميـر المؤمنين رحلتهـا تُثير القطا ليلاً وهن هُجُود على الطائر الميمون والجدّ صاعد لكل أنـاس طائر وجدود إذا المنبر الغربي خلّى مكـانه فـإن أمير المؤمنين يزيد[45] ويقال أن معاوية أمر مسكين الدارمي أن ينظم قصيدة في البيعة ليزيد وبعد أن أنشد قصيدته وكان بنو أمية واشراف الناس حاضرين لم يتكلم أحد من بني أمية في ذلك إلا بالإقرار والموافقة... ثم وصله يزيد ووصله معاوية فاجزلا صلته[46]، ويعتبر مسكين الدرامي من شعراء عهد معاوية وممن ترك أبيان جميلة منها قوله: وإذا الفاحـش لاقى فاحشـاً فهناكم وافـق الشن الطبق إنما الفُحُـش ومـن يعتـاده كغراب السَّوءِ ما شاء نعق أو حمـار السوءِ إن أشـبعته رمح الناس وإن جـاع نهق أو غـلامِ السوءِ إن جـوعته سرق الجار وإن يُشبع فسق أو كَغَيْرى رَفَعَتْ مـن ذَيْلِها ثـم أَرخَته ضِـراراً فامَّزَق أيها السائلُ عن منَّ قد مضى هل جديد مثل ملبوس خَلَقْ[47] وهو القائل : ناري ونـارُ الجـار واحدة وإليـه قبلي تُنَزَل القِـدْرُ ما ضرَّ جاراً لـي أُجـاورُهُ أَلاَّ يكـون لبابـه سـترُ أعمى إذا ما جـارتي برزت حتـي يغيب جارتي الخدر[48] وكان معاوية رضي الله عنه يستنكر اللحن فحين أرسل زياد بن أبيه والي العراق ابنه عبيد الله إلى معاوية بن أبي سفيان لحن في كلامه، فكتب إليه معاوية: إن ابنك كما وصفت ولكن قوِّم من لسانه[49]، ولما ارتفع إلى زياد رجل وأخوه في ميراث، فقال: أنّ أبونا لما مات وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله. فأفأ زياد فقال: الذي أضعت من لسانك أضرُّ عليك مما أضعت من مالك[50]، وقد برز في البصرة في عهد معاوية كثير من النحويين فكان أبو الأسود الدؤلي أول من وضع أساس النحو في البصرة وكان أول من استَنَّ العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها، فكان سراة الناس يلحنون ووجوه الناس، فوضع باب الفاعل، والمفعول به، والمضاف، وحرف الجر والرفع والنصب والجزم[51]، وألف كتاباً في النحو[52]وكان شاعراً، ومن أشهر أبياته قوله: يا أيـها الرجـل المعلم غيره هـلا لنفسـك كـان ذا التعليـم؟ تصـف الدواء لذي السـقام وذي الظنا كيما يصح به وأنت سقيم ونراك تصلح بالرشاد عقولنا أبـداً وأنت مـن الرشـاد عديـم إبدأ بنفسك فانهَها عـن غيّها فإذا انتهت عنـه، فأنـت حكيـم فهناك يسمع ما تقول ويهتدي بالقـول منــك وينفـع التعليـم لا تنه عـن خلق وتأتيَ مثله عــارٌ عليك إذا فعلـت عظيـم[53] وله في الزهد المبرأ من الكسل كقوله: وإذا طلبت من الحوائج حاجة فادع الإله وأحسن الأعمال فليعطينك ما أراد بقــدرة فهـو اللطيف لما أراد فعالا ودع العباد وشأنهم وأمورهم بيـد الإله يقلّب الأحوال[54] 3 ـ اهتمام معاوية بالعلوم التجريبية: ورثت الدولة الأموية علوم الأعاجم من الفرس والروم بعد انهيار دولتهم، وكان لابد ـ للإفادة من ذلك التراث ـ من ترجمته ونقله إلى العربية بعد أن غدا: تراثاً تقليدياً تداولته أيدي الشارحين والمحترفين ممن أجادوا اليونانية أو السريانية[55]، وقد كان بعض هذه الترجمات حافزاً على الاهتمام بالعلوم التجريبية وربما العكس صحيحاً أحياناً.. ومعلوم أن كل ذلك يحتاج إلى جهد كبير تعجز عنه إمكانات الأفراد العاديين، ولذا فقد وقف الأمويون يشجعون على ذلك حتى تحققت أعمال جيدة على نحو ما سنرى بإذن الله ـ كانت بدياتها من عهد معاوية فقد كان سباقاً إلى رعاية العلوم وأهلها فأنشأ بيتاً للحكمة: أي مركز للبحث ومكتبة، واستمر المروانيون يعنون بهذا البيت حتى في أسفارهم وحروبهم يسألون عنه ويهتمون به[56]، ويشير بعض المؤرخين إلى دور ابن أثال النصراني طبيب معاوية في نقل بعض معارف الطب إلى العربية[57]، على أن بداية الجهود الحقيقية في الترجمة بدأت مع خالد بن يزيد أول من عني بنقل الطب والكيمياء إلى العربية، فقد أمر بإحضار جماعة من اليونانيين ممن درسوا بمدرسة الأسكندرية في مصر وتفصحوا بالعربية كذلك، فطلب منهم نقل كثير من الكتب من اللسان اليوناني والقبطي إلى اللسان العربي، وكان هذا أول نقل في الإسلام[58]، كما طلب منهم أن يترجموا كتب جالينوس في الطب، فوضع بذلك أساس العلوم الطبية وهو أول من أعطى الترجمة والفلاسفة وقرب أهل الحكمة ورؤساء كل صنعة، وترجمت له كتب النجوم والطب والكيمياء، والحروب والآلات والصناعات، وهو أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة الإسلام، ففي دمشق إذن أنشئت أول دار للكتب في العالم الإسلامي[59]. وقد ظهرت دلائل كثيرة تدل على تزايد عدد المشتغلين في الطب في عهد معاوية بحيث أصبحت النسبة طبيب لكل 534 خمسمائة وأربع وثلاثين فرداً وهذه النسبة تمّ أخذها مما أورده ابن كثير من أن زياد بن أبيه والي البصرة حينما طعن في يده جمع مائة وخمسين طبيباً ليداووه[60]، وكان عدد سكان البصرة ثمانين ألفاً تقريباً[61]. |
المبحث الرابع : الخوارج في عهد معاوية:
عرف الخوارج بهذا الإسم بعد التحكيم في معركة صفين، وكانوا قبلها من أشد أنصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحضروا مع موقعة الجمل وصفين، ولكنهم أنشقوا عليه بعدها، ورفضوا التحكيم، وحاول علي إقناعهم وردهم إلى الجماعة ولكنهم تشبثوا بموقفهم، وبالغوا في شقاقهم وتطرفوا، حتى عاثوا في الأرض فساداً، مما جعل علياً يقاتلهم ويقض على معظمهم في معركة النهروان، وهم لا يرضون عن تسميتهم خوارج، لأن هذه التسمية أطلقها عليهم خصومهم لخروجهم على الإمام، وعلى جماعة المسلمين، أما هم فيسمون أنفسهم الشراة، لأنهم باعوا أنفسهم لله تعالى، على أن لهم الجنة يبشرون بذلك إلى قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ...)) (التوبة ، الآية : 111). ويسمون المحكمة، لأنهم قالوا: لا حكم إلا لله، وكان يطلق عليهم أيضاً الحرورية، نسبة إلى قرية حروراء التي انحازوا إليها بظاهر الكوفة لأول خروجهم على علي[1]، ولما كان سبب خروجهم هو قبول علي التحكيم بينه وبين معاوية رضي الله عنهما، فقد صاغوا لأنفسهم نظرية في الخلافة تقوم على مبدأين عامين يجمعان بين فرقهم المتباينة[2]، المبدأ الأول أن الخلافة ليست وقفاً على قريش كما يذهب أهل السنة[3]، بل تجوز لكل مسلم يكون أهلاً لها حتى ولو كان عبداً حبشياً، ويجب أن يكون الخليفة باختيار حر من المسلمين، وأنه إذا تم اختياره لا يصح له أن يتنازل عنها، أو يقبل التحكيم، وفي ضوء هذا المبدأ اعترفوا بخلافة أبي بكر وعمر، أما عثمان فقد اعترفوا بخلافته في شطرها الأول، ثم تبرؤوا منه وكفروه في بقية عهده، وأما علي فقد اعترفوا بخلافته من بدايتها إلى أن قبل التحكيم، وبعد قبوله التحكيم لم يعترفوا بخلافته بل كفروه[4]، وكذلك لم يعترفوا بخلافة معاوية وبني أمية[5]، وكفروهم، كما كفروا عائشة وطلحة والزبير وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري. وعلى الجملة كفروا كل من لم ير رأيهم ويذهب مذهبهم من المسلمين، واعتبروا دارهم دار كفر، وأباحوا أموالهم ودماءهم، حتى قتل أطفالهم[6]. المبدأ الثاني الذي قامت عليه نظرية الخوارج، هو وجوب الخروج على الإمام الجائر[7]، وهنا وجوه الخطورة في حركتهم كلها، فلو اقتصروا على الخلاف النظري في الرأي، أو الجدال بالحجة والبرهان، لكان الأمر أهون، ولكنهم شهروا السلاح في وجه مخالفيهم، بدءاً من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحاولوا فرض آرائهم ومذهبهم بالقوة، وكما تطرفوا إلى أبعد حد في الرأي والمذهب، فقد تطرفوا في اللجوء إلى القوة والعنف، وكبدوا الأمة وأنفسهم خسائر فادحة، وعكروا صفو الدولة الأموية، وكانوا من أشد مناوئيها[8]، وقد تحدثت عن الخوارج بنوع من التفصيل في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شخصيته وعصره[9]، ذكرنا قبل قليل أن خطورة حركة الخوارج تكمن في لجوئهم إلى الثورة والعنف، ولشدة إيمانهم بمبادئهم فقد ضحوا في سبيلها بأرواحهم وأبدوا كثيراً من ضروب الشجاعة والإقدام في حروبهم مع الدولة الأموية، وكانوا أشبه بالفرق الانتحارية، فكثيراً ما كانت أعداد قليلة منهم تهزم جيوشاً جرارة للدولة، ولو أن هذه الشجاعة والإقدام والتضحية اتجهت اتجاهاً سليماً، ووحد الخوارج جهودهم مع جهود الدولة في محاربة أعداء الإسلام لربما تغير وجه التاريخ الإنساني كله بشكل جذري، والحقيقة أنهم لم يكونوا طلاب دنيا، ولم يجروا وراء المادة، وإنما أخلصوا للفكرة التي آمنوا بها وملكت عليهم جوانب حياتهم[10]، وأفنوا أنفسهم، وكلفوا الأمة الكثير من الجهد والوقت والمال والأرواح، وإذا كان الخوارج قد خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكفروه وحاربوه، فسيكون موقفهم من الدولة الأموية أعنف وبغضهم لها أشد، فقد شهروا السلاح في وجهها من أول لحظة فثاروا على معاوية رضي الله عنه قبل أن يغادر الكوفة عام 41هـ[11] أولاً : حركات الخوارج في الكوفة: 1 ـ حركة فروة بن نوفل الأشجعي: قال الطبري في حادث عام 41هـ: وفيها خرجت الخوارج التي اعتزلت أيام علي عليه السلام بشهرزور[12] علىمعاوية[13]، وقال: حدثت عن زياد، عن عوانه، قال: قدم معاوية قبل أن يبرح الحسن من الكوفة حتى نزل النخيلة، فقالت الحرورية[14]، الخمسمائة التي كانت اعتزلت بشهرزور مع فروة ابن نوفل الأشجعي: قد جاء الآن مالا شك فيه، فسيروا إلى معاوية فجاهدوه، فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى دخلوا الكوفة، فأرسل إليهم معاوية خيلاً من خيل أهل الشام، فكشفوا أهل الشام، فقال معاوية لأهل الكوفة: لا أمان لكم والله عندي حتى تكفوا بوائقكم، فخرج أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم، فقالت لهم الخوارج: ويلكم ما تبغون منا، أليس معاوية عدونا وعدوكم، دعونا حتى نقاتله، وإن أصبناه كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم كفيتمونا، قالوا: لا والله حتى نقاتلكم، فقالوا: رحم الله إخواننا من أهل النهر[15]، هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، وأخذت أشجع صاحبهم فروة بن نوفل ـ وكان سيد القوم ـ واستعملوا عليهم عبد الله بن أبي الحر[16] ـ رجلاً من طيء ـ فقاتلوهم فقتلوا[17]. وفروة بن نوفل الأشجعي هو القائل قبيل معركة النهروان: والله ما أدري على أي شيء نقاتل علياً، لا أرى إلا أن انصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو أتباعه، وانصرف في خمسمائة فارس[18]. وذكر ابن حجر رواية هامة تبين موقف معاوية رضي الله عنه من الخوارج بعد توليه الخلافة، وفيما يلي نص رواية ابن حجر:... فرجع الناس فبايعوا معاوية ولم يكن لمعاوية هَمُّ إلا الذين بالنهروان[19]، فجعلوا يتساقطون عليه فيبايعونه، حتى بقي منهم ثلاثمائة أو نيف[20]، وهم أصحاب النخيلة[21]. 2 ـ حركة المستورد بن عُلَّفة التميمي:[22] تحدث الطبري في تاريخه عن حركة المستورد بن عُلَّفة التميمي بإسهاب وتفصيل بعكس أكثر المصادر التي تناولت هذا الحدث، حيث تحدث خليفة[23] بن خياط عن هذه الحركة باختصار شديد، وقد أطال الطبري الحديث عن حركة المستور بن عُلَّفة التيمي، ولعل ذلك إشارة منه لأهميتها وأهمية هذه الحركة تعود إلى كون أصحابها بمثلون الامتداد الطبيعي لفكر خوارج النهروان الذين قاتلهم علي رضي الله عنه، إذ أن معظم المنتسبين إلى هذه الحركة كانوا في خندق واحد في معركة النهروان، وهذا الأمر هو الذي دفع المغيرة بن شعبة والي الكوفة إلى اللجوء إلى أنصار علي رضي الله عنه، وخاصة الذين شاركوا في معركة النهروان من أمثال معقل بن قيس الرياحي الذي كان أحد قادة علي يوم النهروان[24]، وتكليفه قيادة الحملة المتوجهة لقتال الخوارج، لأن أنصار علي رضي الله عنه هم أخبر الناس بالخوارج وأشدهم عليهم وما جاء من مرويات في تاريخ الطبري قدمت لنا تفاصيل هامة عن الحدث: منها: أ ـ موقف الخوارج من استشهاد علي رضي الله عنه، ويستفاد هذا من قول الخوارج:.. لا يقطع الله يميناً علت قذاله[25] بالسيف قال: فأخذ القوم يحمدون الله على قتله[26]. ب ـ أسباب خروجهم على جماعة المسلمين: ويستفاد هذا من قول الخوارج: فلنأت إخواننا فلندعهم إلى أمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى جهاد الأحزاب، فإنه لا عذر لنا في القعود، وولاتنا ظلمة، وسُنَّة الهدى متروكة، وثأرنا الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون، فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم، ويشفي الله بذلك صدور قوم مؤمنين، وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحة لنا، ولنا بأسلافنا أسوة[27]. جـ ـ سياسة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مع الخوارج : ويستفاد هذا مما يلي : وأحسن في الناس السيرة، ولم يفتش أهل الأهواء عن أهوائهم، وكان يؤتي ويقال له: إن فلاناً يرى رأي الشيعة، وإن فلاناً يرى رأي الخوارج، وكان يقول: قضي الله ألا تزالون مختلفين، وسيحكم الله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون[28]. وقال المغيرة لقبيصة بن الدمون: الصق لي بشيعة علي، فأخرجهم مع معقل بن قيس، فإنه كان من رؤوس أصحابه، فإذا بعثت بشيعته الذي كانوا يعرفون فاجتمعوا جميعاً، استأنس بعضهم ببعض وتناصحوا، وهم أشد استحلالاً لدماء هذه المارقة، وأجرأ عليهم من غيرهم، وقد قاتلوا قبل هذه المرة[29]. قال المغيرة: يا معقل بن قيس، إني قد بعثت معك فرسان أهل مصر، أمرت بهم فانتخبوا انتخاباً، فسر إلى هذه العصابة المارقة الذين فارقوا جماعتنا، وشهدوا عليها بالكفر، فادعهم إلى التوبة، وإلى الدخول في الجماعة، فإن فعلوا فاقبل منهم، واكفف عنهم، وإن هم لم يفعلوا فناجزهم، واستعن بالله عليهم[30]. س ـ حركة حيان بن ظبيان السلمي : كانت هذه الحركة عام 58هـ وكانت في ولاية عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان، ففي أثناء ولايته خرجت الطائفة الذين كان المغيرة بن شعبة حبسهم في السجن من الخوارج الذين كانوا بايعوا المستورد بن علفة، فظفر بهم فاستودعهم السجن، فلما مات خرجوا من السجن[31]، وقام بحركة مضادة للخلافة وكان رئيسهم حيان بن ظبيان السُّلَمِّي، فبعث إليهم والي الكوفة جيشاً فقتلوا الخوارج جميعاً[32]. |
ثانياً : حركات الخوارج في البصرة:
1 ـ حركة يزيد الباهلي وسهم الهجيمي : في عام 41هـ خرج في ولاية عبد الله بن عامر لمعاوية، يزيد بن مالك الباهلي، وخرج معه سهم بن غالب الهجيمي، فأصبحوا عند الجسر، فوجدوا عبادة بن قرص الليثي أحد بني بجر ـ وكانت له صحبة ـ يصلي عند الجسر، فأنكروه فقتلوه ثم سألوا ابن عامر الآمن فآمنهم وكتب إلى معاوية قد جعلت لهم ذمتك، فكتب إليه معاوية: تلك ذمة لو أخفرتها لا سُئلت عنها، فلم يزالوا آمنين حتى عزل ابن عامر[1]. وفي عام 46هـ خرج سهم الهجيمي والخطيم وهو يزيد بن مالك الباهلي لما تولى زياد، فأما سهم فخرج إلى الأهوار فأحدث وحكَّم ثم رجع فاختفى وطلب الأمان، فلم يؤمنه زياد حتى أخذه وقتله وصلبه على بابه وأما الخطيم فإن زياداً سيره إلى البحرين، ثم أذن له فتقدم، فقال له: الزم مصرك، وقال لمسلم بن عمرو الباهلي[2]: أضمنه، فأبى وقال: إن بات عن بيته أعلمتك، ثم أتاه مسلم فقال: لم يبت الخطيم الليلة في بيته فأمر به فقتل، وألقي في باهلة[3] 2 ـ حركة قريب الأزدي وزحاف الطائي: في عام 50هـ خرج قريب الأزدي وزحّاف الطائي بالبصرة وهما ابنا خالة، وزياد بالكوفة وسمرة[4] على البصرة، فأتيا بني ضُبيعة، وهم سبعون رجلاً، وقتلوا منهم شيخاً، وخرج على قريب وزحّاف شباب من بني علي وبني راسب فرموهم بالنَّبل، وقتل عبد الله بن أوس الطاحيّ قريباً وجاء برأسه واشتد زياد على المنبر فقال: يا أهل البصرة والله لتكفُننّي هؤلاء أو لأبدأنّ بكم، والله لئن أفلت منهم رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهماً، فثار الناس بهم فقتلوهم[5]. 3 ـ خبر عروة بن أُدية الخارجي: في سنة 58هـ اشتد عبيد الله بن زياد على الخوارج، فقتل منهم صبراً جماعة كثيرة، وفي الحرب جماعة أخرى، وممن قتل، منهم صبراً عروة بن أديَّة أبي بلال مرداس بن أدية[6]، وكان سبب قتله أن ابن زياد قد خرج في رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع إليه الناس وفيهم عروة، فأقبل على ابن زياد يعظه، وكان مما قال له: ((أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)) (الشعراء ، الآيات : 128 ـ 130). فلمّا قال ذلك ظن ابن زياد أنه لم يقل ذلك إلا ومعه جماعة، فقام وركب وترك رهانه. فقيل لعروة: ليقتلنّك، فاختفى، فطلبه بن زياد فهرب وأتى الكوفة فأخذ وقدم به علىابن زياد فقطع يديه ورجليه[7].. ثم دعا به فقال: كيف ترى؟ قال أرى أنك أفسدت دنياي وأفسدت آخرتك، فقتله وأرسل إلى ابنته فقتلها[8]، بسبب اعتناقها مذهب والدها[9]. وذكر المبرد في كتابه الكامل في اللغة سببين هامين كان لهما أثر كبير في مقتل عروة بن أدية، الأول: تكفير هذا الخارجي لعثمان وعلي رضي الله عنهما، والثاني: إقدامه على مساعدة أخيه مرداس بن أديه على الخروج[10]. 4 ـ حركة مرداس بن أدية: وفي عام 58هـ خرج مرداس بن أُديَّة، بالأهواز وكان ابن زياد قبل ذلك حبسه فيمن حبس من الخوارج، فكان السجان يرى عبادته، واجتهاده، وكان يأذن له في الليل، فينصرف، فإذا طلع الفجر أتاه حتى يدخل السجن، وكان صديق لمرداس يسامر ابن زياد، فذكر ابن زياد الخوارج فعزم على قتلهم، إذا أصبح، فانطلق صديق مرداس إلى منزل مرداس فأخبرهم، وقال: أرسلوا إلى أبي بلال في السجن فليعهد فإنه مقتول، فسمع ذلك مرداس، وبلغ الخبر صاحب السجن، فبات بليلة سوء إشفاقاً من أن يعلم الخبر مرداس فلا يرجع، فلما كان الوقت الذي كان يرجع فيه إذا به قد طلع، فقال له السجان: هل بلغك ما عزم عليه الأمير؟ قال: نعم، قال: ثم غدوت! قال: نعم، ولم يكن جزاؤك مع إحسانك أن تعاقب بسبـبي، وأصبح عبيد الله فجعل يقتل الخوارج، ثم دعا مرداس، فلما حضر وثب السجان ـ وكان ظئراً[11] لعبيد الله، فأخذ بقدمه، ثم قال: هب هذا، وقص عليه قصته، فوهبه له وأطلقه[12]. وقد أشار البلاذري إلى أن عزم عبيد الله بن زياد على قتل من في السجن من الخوارج كان بسبب إقدام بعضهم على قتل أحد الحرّاس[13]. ثم أن مرداس خاف ابن زياد فخرج في أربعين رجلاً إلى الأهواز، فكان إذا اجتاز به مال لبيت المال أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ثم يرد الباقي، فلما سمع ابن زياد خبرهم بعث إليهم جيشاً عليهم أسلم بن زرعة الكلابي سنة ستين، وقيل أبو حصين التميمي، وكان الجيش ألفيْ رجل، فلمّا وصلوا إلى أبي بلال ناشدهم الله أن يقاتلوه فلم يفعلوا، ودعاهم أسلم إلى معاودة الجماعة، فقالوا: أتردَّوننا إلى ابن زياد الفاسق؟ فرمى أصحاب أسلم رجلاًمن أصحاب أبي بلال فقتلوه، فقال أبو بلال: قد بدؤوكم بالقتال. فشدّ الخوارج علىأسلم وأصحابه شدّة رجل واحد فهزموهم فقدموا البصرة، فلام ابن زياد أسلم وقال: هزمك أربعون وأنت في ألفين، لا خيرَ فيك. فقال: لأن تلومني وأنا حي خير من تثني عليّ وأنا ميت، فكان الصبيان إذا رأوا أسلم صاحوا به: أما أبو بلال وراءك! فشكا ذلك إلى ابن زياد، فنهاهم فانتهوا[14]فهذه أهم حركات الخوارج في عهد معاوية. |
ثالثاً : أهم الدروس والعبر والفوائد:
أهم الدروس والعبر والفوائد في محاربة معاوية للخوارج : 1 ـ إن الناظر في سلوك الخوارج زمن معاوية يجد أن خروجهم في ذلك العهد كان يستهدف إزعاج نظام حكم بني أمية وإضعافه، دون أن يكون لهم أمل في القضاء عليه[1]. 2 ـ كانت بعض هذه الحركات مقتصرة على المجموعات المنسحبة من النّهروان والتي ظلت مشتتة في الأرياف وعدم وجود ما يشير إلى مشاركة الخوارج المقيمين في الكوفة فيها، وهو ما يؤكد عدم حصول تحوّل في موقف هؤلاء رغم التغيير الذي طرأ على السلطة[2]. 3 ـ ومن الملاحظات، ما يخصّ الكوفيين الذين أبدى العديد منهم حماساً في محاربة الخوارج، وإذا كنا نعتقد أن تهديدات معاوية وعداء بعض الكوفيين للخوارج بسبب موقفهم من علي قد لعبت دوراً في دفع هؤلاء إلى المشاركة في قمع الثائرين، فإننا لا نستبعد أن تكون الرغبة الملحّة في إنهاء الحروب والانقسامات والعودة إلى الوحدة قد ساهمت بدورها في دفع الكوفيين إلى مساعدة معاوية في القضاء على هؤلاء المعارضين، رغم يقينهم أنَّهم سيفقدون مع الحكم الجديد امتيازاتهم و سيفقد مصرهم المكانة التي كان يتمتع بها في خلافةعلي[3] 4 ـ كان معاوية رضي الله عنه على وعي تام بحقيقة المعارضة الخارجيّة و موقفها من السلطة ومن شخصه بالذّات، ولذلك لم يعمل على جلب الخوارج إلى صفّه وقرّر منذ اللحظة الأولى التصدي لهم بالقوة[4] 5 ـ لم يتردد المغيرة بن شعبة في محاربة الخارجين على السلطة بالشرطة والجيش، ولم يقتصر استعمال القوة على الثائرين بل شمل حتى الذين بلغه أنهم ينوون الخروج مثل معين بن عبد الرحمن المحاربي وحيان بن ظبيان السّلمي وغيرهما وهو ما يدل على أن المغيرة كان يقوم بمراقبة تحركات الخوارج داخل المصر، ويتجسس عليهم وينزل عقوباته بهم تبعاً لما يصله عنهم من أخبار[5]. 6 ـ أهم وأخطر ما قام به المغيرة رضي الله عنه هواستعماله أنصار علي رضي الله عنه ضد الخوارج مستفيداً من العداوة التي كانت بينهم وهو عمل استفادت منه الدولة الأموية على المدى القريب والبعيد، فعلى المدى القريب، حاصر المغيرة بأعماله الفكر الخارجي في الكوفة، وأسكت المعارضين الموجودين فيها دون أن يكلف الدولة خسارة تُذكر،.. فضلاً عن أنه شغل الكوفيين عن معارضة الدولة الأموية وأعطاها بذلك الفرصة لتدعيم نفوذها[6]. أما عن المدى البعيد فقد عمَّق المغيرة الهوّة بين الخوارج والشيعة وأبعد إمكانية التقارب بين هاتين الحركتين لفترة طويلة، مجنباً بذلك الدولة الأموية خطر مواجهة معارضة موحدة وقوية، غير أن ما قام به المغيرة تجاه المعارضة في الكوفة لم يكن سوى تطبيق لأوامر الخليفة نفسه مع بعض الاجتهادات التي رأى أنّها تخدم الدولة أكثر[7]... وأما أنصار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وخاصة الزعماء منهم، فقد عملت الدولة الأموية على تقريبهم وكسبهم ولذلك سلك المغيرة سياسة اللين معهم وهو ما ضمن الهدوء في الكوفة طيلة ولايته عليها[8]. 7 ـ مع تولي زياد البصرة: تصاعدت عمليات القمع ضد الخوارج فبالإضافة إلى القتل كان زياد يمثل بالمقتولين فيصلبهم في الأماكن العامة، أو في دُورهم، وقد شمل التمثيل الخارجين من الرجال والنساء، ورغم أن التمثيل يعد من الأعمال البشعة التى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيام بها حتى مع الكفّار، فإن زياداً استعمله مع المسلمين رجالاً ونساءً ليروِّع بقية السكان ويلزمهم الهدوء، ولم تكن العقوبات المسلطة على الخوارج مقتصرة على القتل والتمثيل والتسيير والإقامة الجبرية، بل شملت كذلك العطاء، وقد تجاوز زياد في هذا المجال من سبقه من الحكّام، إذ قام بشطب أسماء الخوارج من سجلات الديوان[9]. 8 ـ أقحم زياد بأعماله العنف في سياسة الدولة وجعله إحدى ركائزها، واعتبر أن مصلحتها تقتضي استعماله ضدّ كل الذين يرفضون الخضوع لسلطتها[10] 9 ـ أدّت سياسة زياد ـ العنيفة ـ إلى إخماد تحرّكات الخوارج، وفرضت هيبة الدولة على الجميع، وحوّلت القبائل إلى طرف له دور في سياستها ومنحتها مهمة توفير الأمن داخل المصر بعد أن كانت مهامها تقتصر على دفع الدّية والتأطير العسكري، إلا أنّها أضعفت التضامن القبلي وأفقدت القبيلة القدرة على حماية أبنائها الخارجين على السُّلطة وأجبرتها على القبض عليهم ومعاقبتهم أحياناً، ولئن نجح زياد في إخماد تحرّكات المعارضين وزرع الرّعب في نفوس بقية سكان العراق وتحويلهم من مقاتلة يتمتعون بقدر كبير من الحرية إلى رعية خاضعة كلياً لأجهزة الدّولة، فقد فشل في خنق إرادة الخروج لدى قسم كبير من الخوارج، وهو ما يفسر عودة الانتفاضات في ولاية ابنه عبيد الله[11] 10 ـ تجاوز عبيد الله بن زياد والده في قمع الخوارج بفرضه العقوبات على الجميع المعلن والمسر على حدّ السواء، وإذا كان القتل هو عقوبته المفضلة فقد كان يعمد أحياناً إلى سجن البعض منهم، كما كان يسمح أحياناً أخرى وتحت تأثير رجال القبائل بإطلاق سراح البعض الآخر مع فرض الإقامة الجبرية عليهم وتكليف من يقوم بعملية المراقبة التي كانت غالباً ما تنتهي بقتلهم لمخالفتهم الأوامر... ولم يكن ابن زياد ينتظر خروج الحروريَّة عليه بل كان يبحث عنهم مستعملاً كل الوسائل بما في ذلك تشجيع السّكان بالمال لتتبّع تحرّكات أبناء قبائلهم ونقلها إليه أو إلى أعوانه، وقد أدّت هذه الطريقة إلى ألقاء القبض على العديد ممّن يحمل هذا الفكر أو يتعاطف معه أو يُشتبه فيه ذلك، ولكنها فسحت في الوقت نفسه المجال أمام الوشاية وتلفيق التّهم بالباطل[12]، فأججت بذلك الحزازات القبلية القديمة، وخلقت خلافات جديدة بين القبائل[13] |
الساعة الآن 12:51 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |