منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب تاريخ ابن خلدون (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8921)

ميارى 4 - 8 - 2010 12:21 AM

الفصل الخامس والثلاثون في السيف والقلم
اعلم أن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره‏.‏ إلا أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشد من الحاجة إلى القلم لأن القلم في تلك الحال خادم فقط منفذ للحكم السلطاني والسيف شريك في المعونة‏.‏ وكذلك في آخر الدولة حيث تضعف عصبيتها كما ذكرناه ويقل أهلها بما ينالهم من الهرم الذي قدمناه فتحتاج الدولة إلى الاستظهار بأرباب السيوف وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدولة والمدافعة عنها كما كان الشأن أول الأمر في تمهيدها‏.‏ فيكون للسيف مزية على القلم في الحالتين‏.‏ ويكون أرباب السيف حينئذ أوسع جاهاً وأكثر نعمة وأسنى إقطاعاً‏.‏ وأما في وسط الدولة فيستغني صاحبها بعض الشيء عن السيف لأنه قد تمهد أمره ولم يبق همه إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والظبط ومباهاة الدول وتنفيذ الأحكام والقلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه وتكون السيوف مهملة في مضاجع أغمادها إلا إذا نابت نائبة أو دعيت إلى سد فرجة وما سوى ذلك فلا حاجة إليها‏.‏ فيكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاهاً وأعلى رتبة وأعظم نعمة وثروة وأقرب من السلطان مجلساً وأكثر إليه تردداً وفي خلواته نجياً لأنه حينئذ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه والنظر في أعطافه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله ويكون الوزراء حينئذ وأهل السيوف مستغنى عنهم مبعدين عن باطن السلطان حذرين على أنفسهم من بوادره‏.‏ وفي معنى ذلك ما كتب به أبو مسلم للمنصور حين أمره بالقدوم‏:‏ ‏"‏ أما بعد فإنه مما حفظناه من وصايا الفرس أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء ‏"‏‏.‏ سنة الله في عباده والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

الفصل السادس والثلاثون في شارات الملك والسلطان الخاصة به
اعلم أن للسلطان شارات وأحوالاً تقتضيها الأبهة والبذخ فيختص بها ويتميز بانتحالها عن الرعية والبطانة وسائر الرؤساء في دولته‏.‏ فلنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة ‏"‏ وفوق كل ذي علم عليم ‏"‏‏.‏ الآلة‏:‏ فمن شارات الملك اتخاذ الألة من نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق والقرون‏.‏ وقد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السياسة أن السر في ذلك إرهاب العدو في الحرب فإن الأصوات الهائلة لها تأثير في النفوس بالروعة‏.‏ ولعمري إنه أمر وجداني في مواطن الحرب يجده كل أحد من نفسه‏.‏ وهذا السبب الذي ذكره أرسطو - إن كان ذكره - فهو صحيح ببعض الاعتبارات‏.‏ وأما الحق في ذلك فهو أن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه‏.‏ وهذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء والخيل بالصفير والصريخ كما علمت‏.‏ ويزيد ذلك تأثيراً إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء‏.‏ وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى‏.‏ ولأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الألات الموسيقية لا طبلاً ولا بوقاً فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيدركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة‏.‏ ولقد رأينا في حروب العرب من يتغنى أمام الموكب بالشعر ويطرب فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كل قرن إلى قرنه‏.‏ وكذلك زناتة من أمم المغرب‏.‏ يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف ويتغنى فيدرك بغنائه الجبال الرواسي ويبعث على الاستماتة من لا يظن بها ويسمون ذلك الغناء تاصوكايت‏.‏ وأصله كله قرح يحدث في النفس فتنبعث عنه الشجاعة كما تنبعث عن نشوة الخمر بما حدث عنها من الفرح‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأما تكثير الرايات وتلوينها وإطالتها فالقصد به التهويل لا أكثر وربما يحدث في النفوس من التهويل زيادة في الإقدام وأحوال النفوس وتلوناتها غريبة‏.‏ والله الخلاق العليم‏.‏ ثم إن الملوك والدول يختلفون في اتخاذ هذه الشارات فمنهم مكثر ومنهم مقلل بحسب اتساع الدولة وعظمها‏.‏ فأما الرايات فإنها شعار الحروب من عهد الخليقة ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب والغزوات لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء‏.‏ وأما قرع الطبول والنفخ في الأبواق فكان المسلمون لأول الملة متجافين عنه تنزهاً عن غلظة الملك ورفضاً لأحواله واحتقاراً لأبهته التي ليست من الحق في شيء‏.‏ حتى إذ ا انقلبت الخلافة ملكاً وتبجحوا بزهرة الدنيا ونعيمها ولابسهم الموالي من الفرس والروم أهل الدول السالفة وأروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والترف فكان مما استحسنوه اتخاذ الألة فأخذوها وأذنوا لعمالهم في اتخاذها تنويهاً بالملك وأهله‏.‏ فكثيراً ما كان العامل صاحب الثغر أو قائد الجيش يعقد له الخليفة من العباسيين أو العبيديين لواءه ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات والآلات فلا يميز بين موكب العامل والخليفة إلا بكثرة الألوية وقلتها أو بما اختص به الخليفة من الألوان لرايته كالسواد في رايات بني العباس فإن راياتهم كانت سوداً حزناً على شهدائهم من بني هاشم ونعياً على بني أمية في قتلهم ولذلك سموا المسودة‏.‏ ولما افترق أمر الهاشميين وخرج الطالبيون على العباسيين في كل جهة وعصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتخذوا الرايات بيضاً وسموا المبيضة لذلك سائر أيام العبيديين ومن خرج من الطالبيين في ذلك العهد بالمشرق كالداعي بطبرستان وداعي صعدة أو من دعا إلى بدعة الرافضة من ولما نزع المأمون عن لبس السواد وشعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء‏.‏ وأما الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حد وقد كانت آلة العبيديين لما خرج العزيز إلى فتح الشام خمسمائة من البنود وخمسمائة من الأبواق‏.‏ وأما ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة وغيرها فلم يختصوا بلون واحد بل وشوها بالذهب واتخذوها من الحرير الخالص ملونة واستمروا على الإذن فيها لعمالهم‏.‏ حتى إذا جاءت دولة الموحدين ومن بعدهم من زناتة قصروا الألة من الطبول والبنود على السلطان وحظروها على من سواه من عماله وجعلوا لها موكباً خاصاً يتبع أثر السلطان في مسيره يسمى الساقة‏.‏ وهم فيه بين مكثر ومقلل باختلاف مذاهب الدول في ذلك‏:‏ فمنهم من يقتصر على سبع من العدد تبركاً بالسبعة كما هو في دولة الموحدين وبني الأحمر بالأندلس ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين كما هو عند زناتة‏.‏ وقد بلغت في أيام السلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائة من الطبول ومائة من البنود ملونة بالحرير منسوجة بالذهب ما بين كبير وصغير‏.‏ ويأذنون للولاة والعمال والقواد في اتخاذ راية واحدة صغيرة من الكتان بيضاء وطبل صغير أيام الحرب لا يتجاوزون ذلك‏.‏ وأدا دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فيتخذون أولاً راية واحدة عظيمة وفي رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش والجتر وهي شعار السلطان عندهم ثم تتعدد الرايات ويسمونها السناجق واحدها سنجق وهي الراية بلسانهم‏.‏ وأما الطبول فيبالغون في الاستكثار منها ويسمونها الكوسات ويبيحون لكل أمير أو قائد عسكر أن يتخذ من ذلك ما يشاء إلا الجتر فإنه خاص بالسلطان‏.‏ وأما الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجو صعداً ومعها قرع الأوتار من الطنابير ونفخ الغيطات يذهبون فيها مذهب الغناء وطريقه في مواطن حروبهم وهكذا يبلغنا عنهم وعمن وراءهم من ملوك العجم‏.‏ ‏"‏ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ‏"‏‏.‏ السرير‏:‏ وأما السرير والمنبر والتخت والكرسي فهي أعواد منصوبة أو أرائك منضدة لجلوس السلطان عليها مرتفعاً عن أهل مجلسه أن يساويهم في الصعيد‏.‏ ولم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام وفي دول العجم‏.‏ وقد كانوا يجلسون على أسرة الذهب‏.‏ وكان لسليمان بن داود صلوات الله عليهما وسلامه كرسي وسرير من عاج مغشى بالذهب‏.‏ إلا أنه لا تأخذ به الدول إلا بعد الاستفحال والترف شأن الأبهة كلها كما قلناه‏.‏ وأما في أول الدولة عند البداوة فلا يتشوفون إليه‏.‏ وأول من اتخذه في الإسلام معاوية واستأذن الناس فيه وقال لهم‏:‏ إني قد بدنت فأذنوا له فاتخذه واتبعه الملوك الإسلاميون فيه وصار من منازع الأبهة‏.‏ ولقد كان عمرو بن العاص بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب ويأتيه المقوقس إلى قصره ومعه سرير من الذهب محمول على الأيدي لجلوسه شأن الملوك فيجلس عليه وهو أمامه ولا يغيرون عليه وفاء له بما عقد معهم من الذمة واطراحاً لأبهة الملك‏.‏ ثم كان بعد ذلك لبني العباس والعبيديين وسائر ملوك الإسلام شرقاً وغرباً من الأسرة والمنابر والتخوت ما عفا عن الأكاسرة والقياصرة‏.‏ والله مقلب الليل والنهار‏.‏ السكة‏:‏ وهي الختم على الدنانير والدراهم المتعامل بها بين الناس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة ويضرب بها على الدينار أو الدرهم فتخرج رسوم تلك النقوش عليها ظاهرة مستقيمة بعد أن يعتبر عيار النقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسبك مرة بعد أخرى وبعد تقدير أشخاص الدراهم والدنانير بوزن معين صحيح يصطلح عليه فيكون التعامل بها عدداً وإن لم تقدر أشخاصها يكون التعامل بها وزناً‏.‏ ولفظ السكة كان اسماً للطابع وهي الحديدة المتخذة لذلك ثم نقل إلى أثرها وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم ثم نقل إلى القيام على ذلك والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة فصار علماً عليها في عرف الدول‏.‏ وهي وظيفة ضرورية للملك إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات ويتقون في سلامتها الغش بختم السلطان عليها بتلك النقوش المعروفة‏.‏ وكان ملوك العجم يتخذونها وينقشون فيها تماثيل تكون مخصوصة بها مثل تمثال السلطان لعهدها أو تمثيل حصن أو حيوان أو مصنوع أو غير ذلك ولم يزل هذا الشأن عند العجم إلى آخر أمرهم‏.‏ ولما جاء الإسلام أغفل ذلك لسذاجة الدين وبداوة العرب‏.‏ وكانوا يتعاملون بالذهب والفضة وزناً وكانت دنانير الفرس ودراهمهم بين أيديهم يردونها في معاملتهم إلى الوزن ويتصارفون بها بينهم إلى أن تفاحش الغش في الدنانير والدراهم لغفلة الدولة عن ذلك وأمر عبد الملك الحجاج على ما نقل سعيد بن المسيب وأبو الزناد بضرب الدراهم وتمييز المغشوش من الخالص وذلك سنة أربع وسبعين وقال المدايني سنة خمس وسبعين ثم أمر بصرفها في سائر النواحي سنة ست وسبعين وكتب عليها‏:‏ ‏"‏ الله أحد الله الصمد ‏"‏‏.‏ ثم ولي ابن هبيرة العراق أيام يزيد بن عبد الملك فجود السكة ثم بالغ خالد القسرفي في تجويدها ثم يوسف بن عمر بعده‏.‏ وقيل‏:‏ أول من ضرب الدنانير والدراهم مصعب بن الزبير بالعراق سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله لما ولي الحجاز وكتب عليها في أحد الوجهين‏:‏ ‏"‏ بركة الله ‏"‏ وفي الآخر ‏"‏ اسم الله ‏"‏ ثم غيرها الحجاج بعد ذلك بسنة وكتب عليها اسم الحجاج وقدر وزنها على ما كانت استقرت أيام عمر‏.‏ وذلك أن الدرهم كان وزنه أول الإسلام ستة دوانق والمثقال وزنه درهم وثلاثة أسباع درهم فتكون عشرة دراهم بسبعة مثاقيل‏.‏ وكان السبب في ذلك ان أوزان الدرهم أيام الفرس كانت مختلفة وكان منها على وزن المثقال عشرون قيراطاً ومنها اثنا عشر ومنها عشرة فلما احتيج إلى تقديره في الزكاة أخذ الوسط وذلك اثنا عشر قيراطاً فكان المثقال درهماً وثلاثة أسباع درهم‏.‏ وقيل كان منها البغلي بثمانية دوانق والطبري أربعة دوانق والمغربي ثمانية دوانق واليمني ستة دوانق فأمر عمر أن ينظر الأغلب في التعامل فكان البغلي والطبري وهما اثنا عشر دانقاً‏.‏ وكان الدرهم ستة دوانق وإن زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالاً وإذا أنقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهماً‏.‏ فلما رأى عبد الملك اتخاذ السكة لصيانة النقدين الجاريين في معاملة المسلمين من الغش عين مقدارها على هذا الذي استقر لعهد عمر رضي الله عنه واتخذ طابع الحديد واتخذ فيه كلمات لا صوراً لأن العرب كان الكلام والبلاغة أقرب مناحيهم وأظهرها مع أن الشرع ينهى عن الصور‏.‏ فلما فعل ذلك استمر بين الناس في أيام الملة كلها‏.‏ وكان الدينار والدرهم على شكلين مدورين والكتابة عليهما في دوائر متوازية يكتب فيها من أحد الوجهين أسماء الله تهليلاً وتحميداً وصلاة على النبي وآله وفي الوجه الثاني التاريخ واسم الخليفة‏.‏ وهكذا أيام العباسيين والعبيديين والأمويين‏.‏ وأما صنهاجة فلم يتخذوا سكة إلا آخر الأمر اتخذها منصور صاحب بجاية ذكر ذلك ابن حماد في تاريخه‏.‏ ولما جاءت دولة الموحدين كان مما سن لهم المهدي اتخاذ سكة الدرهم مربع الشكل وأن يرسم في دائرة الدينار شكل مربع في وسطه ويملأ من أحد الجانبين تهليلاً وتحميداً ومن الجانب الآخر كتباً في السطور باسمه واسم الخلفاء من بعده ففعل ذلك الموحدون وكانت سكتهم على هذا الشكل لهذا العهد‏.‏ ولقد كان المهدي فيما ينقل ينعت قبل ظهوره بصاحب الدرهم المربع نعته بذلك المتكلمون بالحدثان من قبله المخبرون في ملاحمهم عن دولته‏.‏
وأما أهل المشرق لهذا العهد فسكتهم غير مقدرة وإنما يتعاملون بالدنانير والدراهم وزناً بالصنجات المقدرة بعدة منها ولا يطبعون عليها بالسكة نقوش الكلمات بالتهليل والصلاة واسم السلطان كما يفعله أهل المغرب‏.‏ ‏"‏ ذلك تقدير العزيز العليم ‏"‏‏.‏ ولنختم الكلام في السكة بذكر حقيقة الدرهم والدينار الشرعيين وبيان حقيقة مقدارهما‏.‏ مقدار الدرهم والدينار الشرعيين وذلك أن الدينار والدرهم مختلفا السكة في المقدار والموازين بالأفاق والأمصار وسائر الأعمال والشرع قد تعرض لذكرهما وعلق كثيراً من الأحكام بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها‏.‏ فلا بد لهما عنده من حقيقة ومقدار معين في تقدير تجري عليهما أحكامه دون غير الشرعي منهما‏.‏ فاعلم أن الاجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصحابة والتامعين أن الدرهم الشرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب والأوقية منه أربعين درهماً وهو على هذا سبعة أعشار الدينار ووزن المثقال من الذهب اثنتنان وسبعون حبة من الشعير‏.‏ فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبة وخمسا حبة‏.‏ وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع‏.‏ فإن الدرهم الجاهلي كان بينهم على أنواع أجودها الطبري وهو أربعة دوانق والبغلي وهو ثمانية دوانق فجعلوا الشرعي بينهما وهو ستة دوانق‏.‏ فكانوا يوجبون الزكاة في مائة ددرهم بغلية ومائة طبرية خمسة دراهم وسطاً‏.‏ وقد اختلف الناس هل كان ذلك من وضع عبد الملك وإجماع الناس بعد عليه كما ذكرناه ذكر ذلك الخطام في كتاب معالم السنن والماوردي في الأحكام السلطانية وأنكره المحققون من المتأخرين لما يلزم عليه أن يكون الدينار والدرهم الشرعيان مجهولين في عهد الصحابة ومن بعدهم مع تعلق الحقوق الشرعية بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها كما ذكرناه‏.‏ والحق أنهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلق بهما من الحقوق‏.‏ وكان مقدارهما غير مشخص في الخارج وإنما كان متعارفاً بينهم بالحكم الشرعي على المقدر في مقدارهما وزنتهما‏.‏ حتى استفحل الإسلام وعظمت الدولة ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار والوزن كما هو عند الشرع ليستريحوا من كلفة التقدير‏.‏ وقارن ذلك أيام عبد الملك فشخص مقدارهما وعينهما في الخارج كما هو في الذهن ونقش عليهما السكة باسمه وتاريخه إثر الشهادتين الإيمانتين وطرح النقود الجاهلية رأساً حتى خلصت ونقش عليها سكة وتلاشى وجودها‏.‏ فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه‏.‏ ومن بعد ذلك وقع اختيار أهل السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار والدرهم واختلفت في كل الأقطار والآفاق ورجع الناس إلى تصور مقاديرهما الشرعية ذهناً كما كان في الصدر الأول وصار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم بمعرفة النسبة التى بينها وبين مقاديرها الشرعية‏.‏ وأما وزن الدينار باثنين وسبعين حبة من الشعير الوسط فهو الذي نقله المحققون وعليه الإجماع إلا ابن حزم خالف ذلك وزعم أن وزنه أربعة وثمانون حبة نقل ذلك عنه القاضي عبد الحق ورده المحققون وعدوه وهماً وغلطاً وهو الصحيح‏.‏ ‏"‏ ويحق الله الحق بكلماته ‏"‏‏.‏ وكذلك تعلم أن الأوقية الشرعية ليست هي المتعارفة بين الناس لأن المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار والشرعية متحدة ذهناً لا اختلاف فيها‏.‏ ‏"‏ والله خلق كل شيء فقدره تقديراً ‏"‏‏.‏ وأما الخاتم فهو من الخطط السلطانية والوظائف الملوكية‏.‏ والختم على الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى قيصر فقيل له‏:‏ إن العجم لا يقبلون كتاباً إلا أن يكون مختوماً فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه‏:‏ ‏"‏ محمد رسول الله ‏"‏‏.‏ قال البخاري‏:‏ ‏"‏ جعل ثلاث كلمات في ثلاثة أسطر وختم به وقال‏:‏ لا ينقش أحد مثله ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ وتختم به أبو بكر وعمر وعثمان ثم سقط من يد عثمان في بئر أريس وكانت قليلة الماء فلم يدرك قعرها بعد واغتم عثمان وتطير منه وصنع آخر على مثله‏.‏ وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه‏.‏ وذلك أن الخاتم يطلق على الألة التي تجعل في الأصبع ومنه تختم إذا لبسه‏.‏ ويطلق على النهاية والتمام ومنه ختمت الأمر إذا بلغت آخره وختمت القرآن كذلك ومنه خاتم النبيين وخاتم الأمر‏.‏ ويطلق على السداد الذي يسد به الأواني والدنان ويقال فيه ختام ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ختامه مسك ‏"‏ وقد غلط من فسر هذا بالنهاية والتمام قال لأن آخر ما يجدونة في شرابهم ريح المسك وليس المعنى عليه وإنما هو من الختام الذي هو السداد لأن الخمر يجعل لها في الدن سداد الطين أو القار يحفظها ويطيب عرفها وذوقها فبولغ في وصف خمر الجنة بأن سدادها من المسك وهو أطيب عرفاً وذوقاً من القار والطين فإذا صح إطلاق الخاتم على هذه كلها صح إطلاقه على أثرها الناشىء عنها‏.‏ وذلك أن الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثم غمس في مذاق من الطين أو مداد ووضع على صفح القرطاس بقي أكثر الكلمات في ذلك الصفح‏.‏ وكذلك إذا طبع به على جسم لين كالشمع فإنه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسماً فيه‏.‏ وإذا كانت كلمات وارتسمت فقد يقرأ من الجهة اليسرى إذا كان النقش على الاستقامة من اليمنى وقد يقرأ من الجهة اليمنى إذا كان النقش من الجهة اليسرى لأن الختم يقلب جهة الخط في الصفح كما كان في النقش من يمين أو يسار‏.‏ فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو الطين ووضعه على الصفح فتنتقش الكلمات فيه ويكون هذا من معنى النهاية والتمام بمعنى صحة ذلك المكتوب ونفوذه كأن الكتاب إنما يتم العمل به بهذه العلامات وهو من دونها ملغى ليس بتمام‏.‏ وقد يكون هذا الختم بالخط آخر الكتاب أو أوله بكلمات منتظمة من تحميد أو تسبيح أو باسم السلطان أو الأمير أو صاحب الكتاب كائناً من كان أو شيء من نعوته يكون ذلك الخط علامة على صحة الكتاب ونفوذه ويسمى ذلك في المتعارف علامة ويسمى ختماً تشبيهاً له بأثر الخاتم الأصفي في النقش ومن هذا خاتم القاضي الذي يبعث به للخصوم أي علامته وخطه الذي ينفذ بهما أحكامه ومنه خاتم السلطان أو الخليفة أي علامته‏.‏ قال الرشيد ليحيى بن خالد لما أراد أن يستوزر جعفراً ويستبدل به من الفضل أخيه فقال لأبيهما يحيى‏:‏ ‏"‏ يا أبت إني أردت أن أحول الخاتم من يميني إلى شمالي ‏"‏‏.‏ فكنى له بالخاتم عن الوزارة لما كانت العلامة على الرسائل والصكوك من وظائف الوزارة لعهدهم‏.‏ ويشهد لصحة هذا الإطلاق ما نقله الطبري أن معاوية أرسل إلى الحسن عند مراودته إياه في الصلح صحيفة بيضاء ختم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك‏.‏ ومعنى الختم هنا علامة في آخر الصحيفة بخطه أو غيره‏.‏ ويحتمل أن يختم به في جسم لين فتنتقش فيه حروفه ويجعل على موضع الحزم من الكتاب إذا حزم وعلى المودوعات وهو من السداد كما مر‏.‏ وهو في الوجهين آثار الخاتم فيطلق عليه خاتم‏.‏ وأول من أطلق الختم على الكتاب أي العلامة معاوية لأنه أمر لعمر بن الزبير عند زياد بالكوفة بمائة ألف ففتح الكتاب وصير المائة مائتين ورفع زياد حسابه فأنكرها معاوية وطلب بها عمر وحبسه حتى قضاها عنه أخوه عبد الله‏.‏ واتخذ معاوية عند ذلك ديوان الخاتم ذكره الطبري‏.‏ وقال آخرون‏:‏ وحزم الكتب ولم تكن تحزم أي جعل لها السداد‏.‏ وديوان الختم عبارة عن الكتاب القائمين على إنفاذ كتب السلطان والختم عليها إما بالعلامة أو بالحزم‏.‏ وقد يطلق الديوان على مكان جلوس هؤلاء الكتاب كما ذكرناه في ديوان الأعمال‏.‏ والحزم للكتب يكون إما بمس الورق كما في عرف كتاب المغرب وأما بلصق رأس الصحيفة على ما تنطوي عليه من الكتاب كما في عرف أهل المشرق‏.‏ وقد يجعل على مكان الدس أو الإلصاق علامة يؤمن معها من فتحه والاطلاع على ما فيه‏.‏ فأهل المغرب يجعلون على مكان الدس قطعة من الشمع ويختمون عليها بخاتم نقشت فيه علامة لذلك فيرتسم النقش في الشمع‏.‏ وكان في المشرق في الدول القديمة يختم على مكان اللصق بخاتم منقوش أيضاً قد غمس في مذاق من الطين معد لذلك صبغه أحمر فيرتسم ذلك النقش عليه‏.‏ وكان هذا الطين في الدولة العباسية يعرف بطين الختم وكان يجلب من سيراف فيظهر أنه مخصوص بها‏.‏ فهذا الخاتم الذي هو العلامة المكتوبة أو النقش للسداد والحزم للكتب خاص بديوان الرسائل‏.‏ وكان ذلك للوزير في الدولة العباسية‏.‏ ثم اختلف العرف وصار لمن إليه الترسيل وديوان الكتاب في الدولة‏.‏ ثم صاروا في دول المغرب يغدون من علامات الملك وشاراته الخاتم للأصبع فيستجيدون صوغه من الذهب ويرصعونه بالفصوص من الياقوت والفيروزج والزمرد ويلبسه السلطان شارة في عرفهم كما كانت البردة والقضيب في الدولة العباسية والمظلة في الدولة العبيدية‏.‏ والله مصرف الأمور بحكمه‏.‏ من أبهة الملك والسلطان ومذاهب الدول أن ترسم أسماوهم أو علامات تختص بهم في طراز أثوابهم المعدة للباسهم من الحرير أو الديباج أو الإبريسم تعتبر كتابة خطها في نسج الثوب ألحاماً وأسداء بخيط الذهب أو ما يخالف لون الثوب من الخيوط الملونة من غير الذهب على ما يحكمه الصناع في تقدير ذلك ووضعه في صناعة نسجهم فتصير الثياب الملوكية معلمة بذلك الطراز قصد التنويه بلابسها من السلطان فمن دونه أو التنويه بمن يختصه السلطان بملبوسه إذا قصد تشريفه بذلك أو ولايته لوظيفة من وظائف دولته‏.‏ وكان ملوك العجم من قبل الإسلام يجعلون ذلك الطراز بصور الملوك وأشكالهم أو أشكال وصور معينة لذلك‏.‏ ثم اعتاض ملوك الإسلام عن ذلك بكتب أسمائهم مع كلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو السجلات‏.‏ وكان ذلك في الدولتين من أبهة الأمور وأفخم الأحوال‏.‏ وكانت الدور المعدة لنسج أثوابهم في قصورهم تسمى دور الطراز لذلك‏.‏ وكان القائم على النظر فيها يسمى صاحب الطراز ينظر في أمور الصباغ والآلة والحاكة فيها وإجراء أرزاقهم وتسهيل آلالتهم ومشارفة أعمالهم‏.‏ وكانوا يقلدون ذلك لخواص دولتهم وثقات مواليهم‏.‏ وكذلك كان الحال في دولة بني أمية بالأندلس والطوائف من بعدهم وفي دولة العبيديين بمصر ومن كان على عهدهم من ملوك العجم بالمشرق‏.‏ ثم لما ضاق نطاق الدول عن الترف والتفنن فيه لضيق نطاقها في ولما جاءت دولة الموحدين بالمغرب بعد بني أمية أول المائة السادسة لم يأخذوا بذلك أول دولتهم لما كانوا عليه من منازع الديانة والسذاجة التي لقنوها عن إمامهم محمد بن تومرت المهدي وكانوا يتوزعون عن لباس الحرير والذهب فسقطت هذه الوظيفة من دولتهم واستدرك منها أعقابهم آخر الدولة طرفاً لم يكن بتلك النباهة‏.‏ وأما لهذا العهد فأدركنا بالمغرب في الدولة المرينية لعنفوانها وشموخها رسماً جليلاً لقنوه من دولة ابن الأحمر معاصرهم بالأندلس واتبع هو في ذلك ملوك الطوائف فأتى منه بلمحة شاهدة بالأثر‏.‏ وأما دولة الترك بمصر والشام لهذا العهد ففيها من الطراز تحرير آخر على مقدار ملكهم وعمران بلادهم إلا أن ذلك لا يصنع في دورهم وقصورهم وليست من وظائف دولتهم وإنما ينسج ما تطلبه الدولة من ذلك عند صناعه من الحرير ومن الذهب الخالص ويسمونه المزركش لفظة أعجمية ويرسم اسم السلطان أو الأمير عليه ويعده الصناع لهم فيما يعدونه للدولة من طرف الصناعة اللائقة بها‏.‏ والله مقدر الليل والنهار والله خير الوارثين‏.‏ الفساطيط والسياج اعلم أن من شارات الملك وترفه اتخاذ الأخبية والفساطيط والفازات من ثياب الكتان والصوف والقطن بجدل الكتان والقطن فيباهى بها في الأسفار وتنوع منها الألوان ما بين كبير وصغير على نسبة الدولة في الثروة واليسار وإنما يكون الأمر في أول الدولة في بيوتهم التي جرت عادتهم باتخاذها قبل الملك‏.‏ وكان العرب لعهد الخلفاء الأولين من بني أمية إنما يسكنون بيوتهم التي كانت لهم خياماً من الوبر والصوف‏.‏ ولم تزل العرب لذلك العهد بادين إلا الأقل منهم‏.‏ فكانت أسفارهم لغزواتهم وحروبهم بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد كما هو شأن العرب لهذا العهد‏.‏ وكانت عساكرهم لذلك كثيرة الحلل بعيدة ما بين المنازل متفرقة الأحياء يغيب كل واحد منها عن نظر صاحبه في الأخرى كشأن العرب‏.‏ ولذلك كان عبد الملك يحتاج إلى ساقة تحشد الناس على آثره أن يقيموا إذا ظعن‏.‏ ونقل أنه استعمل في ذلك الحجاج حين أشار به روح بن زنباع وقصتها في إحراق فساطيط روح وخيامه لأول ولايته حين وجدهم مقيمين في يوم رحيل عبد الملك قصة مشهورة‏.‏ ومن هذه الولاية تعرف رتبة الحجاج بين العرب فإنه لا يتولى إرادتهم على الظعن إلا من يأمن بوادر السفهاء من أحيائهم بما له من العصبية الحائلة دون ذلك ولذلك اختصه عبد الملك بهذه الرتبة ثقة بغنائه فيها بعصبيته وصرامته‏.‏ فلما تفننت الدولة العربية في مذاهب الحضارة والبذخ ونزنوا المدن والأمصار وانتقلوا من سكنى الخيام إلى سكنى القصور ومن ظهر الخف إلى ظهر الحافر اتخذوا للسكنى في أسفارهم ثياب الكتان يستعملون منها بيوتاً مختلفة الأشكال مقدرة الأمثال من القوراء والمستطيلة والمربعة ويحتفلون فيها بأبلغ مذاهب الاحتفال والزينة ويدير الأمير القائد للعساكر على فساطيطه وفازاته من بينهم سياجاً من الكتان يسمى في المغرب بلسان البربر الذي هو لسان أهله ‏"‏ أفراك بالكاف التي بين الكاف والقاف ويختص به السلطان بذلك القطر لا يكون لغيره‏.‏ وأما في المشرق فيتخذه كل أمير وإن كان دون السلطان‏.‏ ثم جنحت الدعة بالنساء والولدان إلى المقام بقصورهم ومنازلهم فخف لذلك ظهرهم وتقاربت الساح بين منازل العسكر واجتمع الجيش والسلطان في معسكر واحد يحصره البصر في بسيطة زهواً أنيقاً لاختلاف ألوانه‏.‏ واستمر الحال على ذلك في مذاهب الدول في بذخها وترفها‏.‏ وكذا كانت دولة الموحدين وزناتة التي أظلتنا‏.‏ كان سفرهم أول أمرهم في بيوت سكناهم قبل الملك من الخيام والقياطن حتى إذا أخذت الدولة في مذاهب الترف وسكنى القصور عادوا إلى سكنى الأخبية والفساطيط وبلغوا من ذلك فوق ما أرادوه وهو من الترف بمكان‏.‏ إلا أن العساكر به تصير عرضة للبيات لاجتماعهم في مكان واحد تشملهم فيه الصيحة ولخفتهم من الأهل والولد الذين تكون الاستماتة دونهم فيحتاج في ذلك إلى تحفظ آخر‏.‏ والله القوى العزيز‏.‏ وهما من الأمور الخلافية ومن شارات الملك الإسلامي ولم يعرف في غير دول الإسلام‏.‏ فأما البيت المقصورة من المسجد لصلاة السلطان فيتخذ سياجاً على المحراب فيحوزه وما يليه‏.‏ فأول من اتخذها معاوية بن أبي سفيان حين طعنه الخارجي والقصة معروفة وقيل أول من اتخذها مروان بن الحكم حين طعنه اليماني‏.‏ ثم اتخذها الخلفاء من بعدهما وصارت سنة في تمييز السلطان عن الناس في الصلاة‏.‏ وهي إنما تحدث عند حصول الترف في الدول والاستفحال شأن أحوال الأبهة كلها‏.‏ وما زال الشأن ذلك في الدول الإسلامية كلها‏.‏ وعند افتراق الدولة العباسية وتعدد الدول بالمشرق وكذا بالأندلس عند انقراض الدولة الأموية وتعدد ملوك الطوائف‏.‏ وأما المغرب فكان بنو الأغلب يتخذونها بالقيروان ثم الخلفاء العبيديون ثم ولاتهم على المغرب من صنهاجة بنو باديس بفاس وبنو حماد بالقلعة‏.‏ ثم ملك الموحدون سائر المغرب والأندلس ومحوا ذلك الرسم على طريقة البداوة التي كانت شعارهم‏.‏ ولما استفحلت الدولة وأخذت بحظها من الترف وجاء أبو يعقوب المنصوز ثالث ملوكهم فاتخذ هذه المقصورة وبقيت من بعده سنة لملوك المغرب والأندلس‏.‏ وهكذا كان الشأن في سائر الدول‏.‏ سنة الله في عباده‏.‏ وأما الدعاء على المنابر في الخطبة فكان الشأن أولاً عند الخلفاء ولاية الصلاة بأنفسهم‏.‏ فكانوا يدعون لذلك بعد الصلاة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والرضا عن أصحابه‏.‏ وأول من اتخذ المنبر عمرو بن العاص لما بنى جامعه بمصر‏.‏ وأول من دعا للخليفة على المنبر ابن عباس دعا لعلي رضي الله عنهما في خطبته وهو بالبصرة عامل له عليها قال‏:‏ اللهم انصر علياً على الحق‏.‏ واتصل العمل على ذلك فيما بعد‏.‏ وبعد أخذ عمرو بن العاص المنبر بلغ عمر بن الخطاب ذلك فكتب إليه عمر بن الخطاب‏:‏ ‏"‏ أما مد فقد بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائماً والمسلمون تحت عقبك‏!‏ فعزمت عليك إلا ما كسرته‏.‏ فلما حدثت الأبهة وحدث في الخلفاء المانع من الخطبة والصلاة استنابوا فيهما‏.‏ فكان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر تنويهاً باسمه ودعاء له بما جعل الله مصلحة العالم فيه ولأن تلك ساعة مظنة للإجابة ولما ثبت عن السلف في قولهم‏:‏ من كانت له دعوة صالحة ليضعها في السلطان‏.‏ وكان الخليفة يفرد بذلك‏.‏ فلما جاء الحجر والاستبداد صار المتغلبون على الدول كثيراً ما يشاركون الخليفة بذذلك ويشاد باسمهم عقب اسمه‏.‏ وذهب ذلك بذهاب تلك الدول وصار الأمر إلى ختصاص السلطان بالدعاء له على المنبر دون من سواه وحظر أن يشاركه فيه أحد يسمو إليه‏.‏ وكثيراً ما يغفل الماهدون من أهل الدول هذا الرسم عندما تكون الدولة في أسلوب الغضاضة ومناحي البداوة في التغافل والخشونة ويقنعون بالدعاء على الإبهام والإجمال لمن ولي أمور المسلمين‏.‏ ويسمون مثل هذه الخطبة إذا كانت على هذا المنحى عباسية يعنون بذلك أن الدعاء على الإجمال إنما يتناول العباسي تقليداً في ذلك لما سلف من الأمر ولا يحفلون بما وراء ذلك من تعيينه والتصريح باسمه‏.‏ يحكى أن يغمراسن بن زيان ماهد دولة بني عبد الواد لما غلبه الأمير أبو زكريا يحيى بن أبي حفص على تلمسان ثم بدا له في إعادة الأمر إليه على شروط شرطها كان فيها ذكر اسمه على منابر عمله فقال يغمراسن‏:‏ تلك أعوادهم يذكرون عليها من شاؤوا‏.‏ وكذلك يعقوب بن عبد الحق ماهد دولة بني مرين حضره رسول المستنصر الخليفة بتونس من بني أبي حفص وثالث ملوكهم وتخلف بعض أيامه عن شهود الجمعة فقيل له لم يحضر هذا الرسول كراهية لخلو الخطبة من ذكر سلطانه فأذن في الدعاء له وكان ذلك سبباً لأخذهم بدعوته‏.‏ وهكذا شأن الدول في بدايتها وتمكنها في الغضاضة والبداوة‏.‏ فإذا انتبهت عيون سياستهم ونظروا في أعطاف ملكهم واستتموا شيات الحضارة ومعاني البذخ والأبهة انتحلوا جميع هذه السمات وتفننوا فيها وتجاروا إلى غايتها وأنفوا من المشاركة فيها وجزعوا من افتقادها وخلو دولتهم من آثارها‏.‏ والعالم بستان‏.‏ والله على كل شيء رقيب‏.‏ في الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله‏.‏ وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته‏.‏ فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان إحداهما تطلب الإنتقام والأخرى تدافع كانت الحرب وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل‏.‏ وسبب هذا الإنتقام في الأكثر‏:‏ إما غيرة ومنافسة وإما عدوان ة وإما غضب لله ولدينه ث وإما غضب للملك وسعي في تمهيده‏.‏ فالأول أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة‏.‏ والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك وإنما همهم ونصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم‏.‏ والثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد‏.‏ والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها فهذه أربعة أصناف من الحروب‏:‏ الصنفان الأولان منها حروب بغي وفتنة والصنفان الأخيران حروب جهاد وعدل وصفة الحروب الواقعة بين الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين‏:‏ نوع بالزحف صفوفاً ونوع بالكر والفر‏.‏ أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم‏.‏ وأما الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب‏.‏ وقتال الزحف أوثق وأشد من قتال الكر والفر‏.‏ وذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف وتسوى كما تسوى القداح أو صفوف الصلاة ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدماً‏.‏ فلذلك تكون أثبت عند المصارع وأصدق في القتال وأرهب للعدو لأنه كالحائط الممتد والقصر المشيد لا يطمع في إزالته‏.‏ وفي التنزيل‏:‏ ‏"‏ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ‏"‏ أي يشد بعضهم بعضاً بالثبات‏.‏ وفي الحديث الكريم‏:‏ ‏"‏ المؤمن للمؤمن كالبنيان يسد بعضه بعضاً‏.‏ ومن هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثبات وتحريم التولي في الزحف فإن المقصود من الصف في القتال حفظ النظام كما قلناه فمن ولى العدو ظهره فقد أخل بالمصاف وباء بإثم الهزيمة إن وقعت وصار كأنه جرها على المسلمين وأمكن منهم عدوهم فعظم الذنب لعموم المفسدة وتعديها إلى الدين بخرق سياجه فغد من الكبائر‏.‏ ويظهر من هذه الأدلة أن قتال الزحف أشد عند الشارع‏.‏ وأما قتال الكر والفر فليس فيه من الشدة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف‏.‏ إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافاً ثابتاً يلجأون إليه في الكر والفر ويقوم لهم مقام قتال الزحف كما نذكره بعد‏.‏ ثم إن الدول القديمة الكثيرة الجنود المتسعة الممالك كانوا يقسمون الجيوش والعساكر أقساماً يسمونها كراديس ويسوون في كل كردوس صفوفه‏.‏ وسبب ذلك أنه لما كثرت جنودهم الكثرة البالغة وحشدوا من قاصية النواحي استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضاً إذا اختلطوا في مجال الحرب واعتوروا مع عدوهم الطعن والضرب فيخشى من تدافعهم فيما بينهم لأجل النكراء وجهل بعضهم ببعض فلدلك كانوا يقسمون العساكر جموعاً ويضمون المتعارفين بعضهم لبعض ويرتبونها قريباً من الترتيب الطبيعي في الجهات الأربع‏.‏ ورئيس العساكر كلها من سلطان أو قائد في القلب‏.‏ ويسمون هذا الترتيب التعبئة وهو مذكور في أخبار فارس والروم والدولتين صدر الإسلام‏.‏ فيجعلون بين يدي الملك عسكراً منفرداً بصفوفه متميزاً بقائده ورايته وشعاره ويسمونه المقدمة ثم عسكراً آخر من ناحية اليمين عن موقف الملك وعلى سمته يسمون الميمنة ثم عسكراً آخر من ناحية الشمال كذلك يسمون الميسرة ثم عسكراً آخر من وراء العسكر يسمونه الساقة ويقف الملك وأصحابه في الوسط بين هذه الأربع ويسمون موقفه القلب‏.‏ فإذا تم لهم هذا الترتيب المحكم إما في مدى واحد للبصر أو على مسافة بعيدة أكثرها اليوم واليومان بين كل عسكرين منها أو كيفما أعطاه حال العساكر في القلة والكثرة فحينئذ يكون الزحف من بعد هذه التعبئة‏.‏ وانظر ذلك في أخبار الفتوحات وأخبار الدولتين بالمشرق وكيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخفف عن رحيله لبعد المدى في التعبئة فاحتيج لمن يسوقها من خلفه وعين لذلك الحجاج بن يوسف كما أشرنا إليه وكما هو معروف في أخباره‏.‏ وكان في الدولة الأموية بالأندلس أيضاً كثير منه وهو مجهول فيما لدينا لأنا إنما أدركنا دولاً قليلة العساكر لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر بل أكثر الجيوش من الطائفتين معاً يجمعهم لدينا حلة أو مدينة ويعرف كل واحد منهم قرنه ويناديه في حومة الحرب باسمه ولقبه فاستغني عن تلك التعبئة‏.‏ ضرب المصاف وراء العسكر ومن مذاهب أهل الكر والفر في الحروب ضرب المصاف وراء عسكرهم من الجمادات والحيوانات العجم فيتخذونها ملجأ للخيالة في كرهم وفرهم يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب وأقرب إلى الغلب‏.‏ وقد يفعله أهل الزحف أيضاً ليزيدهم ثباتاً وشدة‏.‏ فقد كان الفرس وهم أهل الزحف يتخذون الفيلة في الحروب ويحملون عليها أبراجاً من الخشب أمثال الصروح مشحونة بالمقاتلة والسلاح والرايات ويصفونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون فتقوى بذلك نفوسهم ويزداد وثوقهم‏.‏ وانظر ما وقع من ذلك في القادسية وأن فارس في اليوم الثالث اشتدوا بها على المسلمين حتى اشتدت رجالات من العرب فخالطوهم وبعجوها بالسيوف على خراطيمها فنفرت ونكصت على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن فجفا معسكر فارس لذلك وانهزموا في اليوم الرابع‏.‏ وأما الروم وملوك القوط بالأندلس وأكثر العجم فكانوا يتخذون لذلك الأسرة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب ويحف به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه وترفع الرايات في أركان السرير ويحدق به سياج آخر من الرماة والرجالة فيعظم هيكل السرير ويصير فئة للمقاتلة وملجأ للكر والفر‏.‏ وجعل ذلك الفرس أيام القادسية وكان رستم جالساً على سرير نصبه لجلوسه حتى إختلفت صفوف فارس وخالطه العرب في سريره ذلك فتحول عنه إلى الفرات وقتل‏.‏ وأما أهل الكر والفر من العرب وأكثر الأمم البدوية الرحالة فيصفون لذلك إبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم ويسمونها المجبوذة وليس أمة من الأمم إلا وهي تفعل ذلك في حروبها وتراه أوثق في الجولة وآمن من الغرة والهزيمة‏.‏ وهو أمر مشاهد‏.‏ وقد أغفلته الدول لعهدنا بالجملة واعتاضوا عنه بالظهر الحامل للأثقال والفساطيط يجعلونها ساقة من خلفهم ولا تغني غناء الفيلة والإبل‏.‏ فصارت العساكر بذلك عرضة للهزائم ومستشعرة للفرار في المواقف‏.‏ وكان الحرب أول الإسلام كله زحفاً‏.‏ وكان العرب إنما يعرفون الكر والفر‏.‏ لكن حملهم على ذلك أول الإسلام أمران‏:‏ أحدهما أن عدوهم كانوا يقاتلون زحفاً فيضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم الثاني‏:‏ أنهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصبر ولما رسخ فيهم من الإيمان والزحف إلى الاستماتة أقرب‏.‏ وأول من أبطل الصف في الحروب وصار إلى التعبئة كراديس مروان بن الحكم في قتال الضحاك الخارجي والحبيري بعده‏.‏ قال الطبري‏:‏ لما ذكر قتال الحبيري‏:‏ فولى الخواربخ عليهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري ويلقب أبا الذلفاء وقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصف من يومئذ انتهى‏.‏ فتنوسي قتال الزحف بإبطال الصف ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما داخل الدول من الترف‏.‏ وذلك إنها حينما كانت بدوية وسكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل وسكنى النساء والولدان معهم في الأحياء‏.‏ فلما حصلوا على ترف الملك وألفوا سكنى القصور والحواضر وتركوا شأن البادية والقفر نسوا لذلك عهد الأبل والظعائن وصعب عليهم اتخاذها فخلفوا النساء في الأسفار وحملهم الملك والترف على اتخاذ الفساطيط والأخبية فاقتصروا على الظهر الحامل للأثقال والأبنية وكان ذلك صفتهم في الحرب‏.‏ ولايغني كل الغناء لأنه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل والمال‏.‏ فيخف الصبر من أجل ذلك وتصرفهم الهيعات وتخرم صفوفهم‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:22 AM

فصل‏:‏ ولما ذكرناه من ضرب المصاف وراء العساكر وتأكده في قتال الكر والفر
صار ملوك المغرب يتخذون طائفة من الأفرنج في جندهم واختصوا بذلك لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر والفر‏.‏ والسلطان يتأكد في حقه ضرب المصاف ليكون ردءاً للمقاتلة أمامه فلا بد وأن يكون أهك ذلك الصف من قوم متعودين للثبات في الزحف وإلا أجفلوا على طريقة أهل الكر والفر فانهزم السلطان والعساكر بإجفالهم فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتخذوا جنداً من هذه الأمة المتعودة الثبات في الزحف وهم الأفرنج ويرتبون مصافهم المحدق بهم منها هذا على ما فيه من الأستعانة بأهل الكفر‏.‏ وإنما استخفوا ذلك للضرورة التي أريناكها من تخوف الأجفال على مصاف السلطان والإفرنج لا يعرفون غير الثبات في ذلك لأن عادتهم في القتال الزحف فكانوا أقوم بذلك من غيرهم‏.‏ مع أن الملوك في المغرب إنما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب والبربر وقتالهم على الطاعة وأما في الجهاد فلا يستعينون بهم حذراً من ممالأتهم على المسلمين‏.‏ فصل‏:‏ وبلغنا أن أمم الترك لهذا العهد قتالهم مناضلة بالسهام وأن تعبئة الحرب عندهم بالمصاف وأنهم يقسمون بثلاثة صفوف يضربون صفاً وراء صف ويترجلون عن خيولهم ويفرغون سهامهم بين أيديهم ثم يتناضلون جلوساً وكل صف ردء للذي أمامه أن يكبسهم العدو إلى أن يتهيأ النصر لإحدى الطائفتين على الأخرى‏.‏ وهي تعبئة محكمة غريبة‏.‏ فصل‏:‏ وكان من مذاهب الأول في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عندما يتقاربون للزحف حذراً من معرة البيات والهجوم على العسكر بالليل لما في ظلمته ووحشته من مضاعفة الخوف فيلوذ الجيش بالفرار وتجد النفوس في الظلمة ستراً من عاره فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر ووقعت الهزيمة‏.‏ فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم ويديرون الحفائر نطاقاً عليهم من جميع جهاتهم حرصاً أن يخالطهم العدو بالبيات فيتخاذلوا‏.‏ وكانت للدول في أمثال هذا قوة وعليه اقتدار باحتشاد الرجال وجمع الأيدي عليه في كل منزل من منازلهم بما كانوا عليه من وفور العمران وضخامة الملك‏.‏ فلما خرب العمران وتبعه ضعف الدول وقلة الجنود وعدم الفعلة نسي هذا الشان جملة كأنه يكن‏.‏ والله خير القادرين‏.‏ وتحريضه لأصحابه يوم صفين‏:‏ وانظر وصية علي رضي الله عنه وتحريضه لأصحابه يوم صفين تجد كثيراً من علم الحرب ولم يكن أحد أبصر بها منه‏.‏ قال في كلام له‏:‏ ‏"‏ فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدموا الدارع وأخروا الحاسر‏.‏ وعضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام‏.‏ والتووا على أطراف الرماح فإنه أصون للأسنة‏.‏ وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب‏.‏ واخفتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار‏.‏ وأقيموا راياتكم فلا تميلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم‏.‏ واستعينوا بالصدق والصبر فإنه بقدر الصبر ينزل النصر ‏"‏‏.‏ وقال الأشتر يومئذ يحرض الأزد‏:‏ ‏"‏ عضوا على النواجذ من الأضراس واستقبلوا القوم بهامكم وشدوا شدة قوم موتورين يثارون بآبائهم وإخوانهم حناقاً على عدوهم وقد وطنوا على الموت أنفسهم لئلا يسبقوا بوتر ولا يلحقهم في الدنيا عار‏.‏ وقد أشار إلى كثير من ذلك أبو بكر الصيرفي شاعر لمتونة وأهل الأندلس في كلمة يمدح بها تاشفين بن علي بن يوسف ويصف ثباته في حرب شهدها ويذكره بأمور الحرب في وصايا وتحذيرات تنبهك على معرفة كثير من سياسة الحرب يقول فيها‏:‏ ومن الذي غدر العدو به دجى فانفض كل وهو لا يتزعزع تمضي الفوارس والطعان يصدها عنه ويدمرها الوفاء فترجع والليل من وضح الترائك إنه صبح على هام الجيوش يلمع أنى فزعتم يا بني صنهاجة وإليكم في الروع كان المفزع إنسان عين لم يصبه منكم حضن وقلب أسلمته الأضلع وصددتم عن تاشفين وإنه لعقابه لو شاء فيكم موضع ما أنتم إلا اسود خفية كل لكل كريهة مستطلع يا تاشفين أقم لجيشك عذره بالفيل والعذر الذي لا يدفع ومنها في سياسة الحرب‏:‏ أهديك من أدب السياسة ما به كانت ملوك الفرس قبلك تولع لا إنني أدري بها لكنها ذكرى تحض المؤمنين وتنفع والبس من الحلق المضاعفة التي وصى بها صنع الصنائع تبع والواد لا تعبره وانزل عنده بين العدو وبين جيشك يقطع واجعل مناجزة الجيوش عشية ووراءك الصدق الذي هو أمنع وإذا تضايقت الجيوش بمعرك ضنك فأطراف الرماح توسع واصدمه أول وهلة لا تكترث شيئاً فإظهار النكول يضعضع واجعل من الطلاع أهل شهامة للصدق فيهم شيمة لاتخدع لا تسمع الكذاب جاءك مرجفاً لا رأي للكذاب فيما يصنع قوله‏:‏ ‏"‏ واصدمة أول وهلة لا تكترث ‏"‏ البيت مخالف لما عليه الناس في أمر الحرب‏.‏ فقد قال عمر لأبي عبيد بن مسعود الثقفي لما ولاه حرب فارس والعراق فقال له‏:‏ اسمع وأطع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر ولا تجيبن مسرعاً حتى تتبين فإنها الحرب ولا يصلح لها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف‏.‏ وقال له في أخرى‏:‏ ‏"‏ إنه لن يمنعني أن أؤمر سليطا إلا سرعته في الحرب‏.‏ وفي التسرع في الحرب إلا عن بيان ضياع‏.‏ والله لولا ذلك لأمرته‏.‏ لكن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث ‏"‏‏.‏ هذا كلام عمر وهو شاهد بأن التثاقل في الحرب أولى من الخفوف حتى يتبين حال تلك الحرب‏.‏ وذلك عكس ما قاله الصيرفي إلا أن يريد أن الصدم بعد البيان فله وجه‏.‏ والله تعالى ولا وثوق في الحرب بالظفر وإن حصلت أسبابه من العدة والعديد وإنما الظفر فيها والغلب من قبيل البخت والاتفاق‏.‏ وبيان ذلك أن أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة وهي الجيوش ووفورها وكمال الأسلحة واستجادتها وكثرة الشجعان وترتيب المصاف ومنه صدق القتال وما جرى مجرى ذلك ومن أمور خفية وهي إما من خدع البشر وحيلهم في الإرجاف والتشانيع التي يقع بها التخذيل وفي التقدم إلى الأماكن المرتفعة ليكون الحرب من أعلى فيتوهم المنخفض لذلك وفي الكمون في الغياض ومطمئن الأرض والتواري بالكدى عن العدو حتى يتداولهم العسكر دفعة وقد تورطوا فيتلفتون إلى النجاة وأمثال ذلك‏.‏ وأما أن تكون تلك الأسباب الخفية أموراً سماوية لا قدرة للبشر على اكتسابها تلقى في القلوب فيستولي الرهب عليهم لأجلها فتختل مراكزهم فتقع الهزيمة‏.‏ وأكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفية لكثرة ما يعتمل لكل واحد من الفريقين فيها حرصاً على الغلب فلا بد من وقوع التأثير في ذلك لأحدهما ضرورة‏.‏ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الحرب خدعة ‏"‏‏.‏ ومن أمثال العرب‏:‏ ‏"‏ رب حيلة أنفع من قبيلة ‏"‏‏.‏ فقد تبين أن وقوع الغلب في الحروب غالباً عن أسباب خفية غير ظاهرة ووقوع الأشياء عن الأسباب الخفية هو معنى البخت كما تقرر في موضعه‏.‏ فاعتبره وتفهم من وقوع الغلب عن الأمور السماوية كما شرحناه معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ نصرت بالرعب مسيرة شهر ‏"‏ وما وقع من غلبه للمشركين في حياته بالعدد القليل وغلب المسلمين من بعده كذلك في الفتوحات‏.‏ فإن الله سبحانه وتعالى تكفل لنبيه بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين حتى يستولي على قلوبهم فينهزموا معجزة لرسوله صلى الله عليه وسلم فكان الرعب في قلوبهم سبباً للهزائم في الفتوحات الإسلامية كلها إلا أنه خفي عن العيون‏.‏ وقد ذكر الطرطوشي‏:‏ أن من أسباب الغلب في الحروب أن تفضل عدة الفرسان المشاهير من الشجعان في أحد الجانبين على عدتهم في الجانب الأخر مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشجعان المشاهير وفي الجانب الآخر ثمانية أو ستة عشر فالجانب الزائد ولو بواحد يكون له الغلب وأعاد في ذلك وأبدى وهو راجح إلى الأسباب الظاهرة التي قدمنا وليس بصحيح‏.‏ وإنما الصحيح المعتبر في الغلب حال العصبية أن يكون في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم وفي الجانب الآخر عصائب متعددة لأن العصائب إذا كانت متعددة يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية إذ تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد ويكون الجانب الذي عصابته متعددة لا يقاوم الجانب الذي عصبيته واحدة لأجل ذلك فتفهمه‏.‏ واعلم أنه أصح في الاعتبار مما ذهب إليه الطرطوشي ولم يحمله على ذلك إلا نسيان شأن العصبية في حلته وبلده وأنهم إنما يردون ذلك الدفاع والحماية والمطالبة إلى الوحدان والجماعة الناشئة عنهم لا يعتبرون في ذلك عصبية ولا نسباً‏.‏ وقد بينا ذلك أول الكتاب مع أن هذا وأمثاله على تقدير صحته إنما هو من الأسباب الظاهرة مثل اتفاق الجيش العدة وصدق القتال وكثرة الأسلحة وما أشبهها فكيف يجعل ذلك كفيلاً بالغلب‏.‏ ونحن قد قررنا لك الآن أن شيئاً منها لايعارض الأسباب الخفية من الحيل والخداع ولا الأمور السماوية من الرعب والخذلان الإلهي‏.‏ فافهمه وتفهم أحوال الكون‏.‏ والله مقدر الليل والنهار‏.‏ فصل‏:‏ ويلحق بمعنى الغلب في الحروب وأن أسبابه خفية وغير طبيعية حال الشهرة والصيت‏.‏ فقل أن تصادف موضعها في أحد من طبقات الناس من الملوك والعلماء والصالحين والمنتحلين للفضائل على العموم وكثير ممن اشتهر بالشر وهو بخلافه وكثير ممن تجاوزت عنه الشهرة وهو أحق بها وأهلها‏.‏ وقد تصادف موضعها وتكون طبقاً على صاحبها‏.‏ والسبب في ذلك أن الشهرة والصيت إنما هما بالأخبار والأخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل ويدخلها التعصب والتشيع ويدخلها الأوهام ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتلبيس والتصنع أو لجهل الناقل ويدخلها التقرب لأصحاب التجلة والمراتب الدنيوية بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك والنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطاولون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها وأين مطابقة الحق مع هذه كلها فتختل الشهرة عن أسباب خفية من هذه وتكون غير مطابقة‏.‏ وكل ما حصل بسبب خفي فهو الذي يعبر عنه بالبخت كما تقرر‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.

ميارى 4 - 8 - 2010 12:23 AM

الفصل الثامن والثلاثون في الجباية وسبب قلتها وكثرتها
اعلم أن الجباية أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة و آخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة‏.‏ والسبب في ذلك أن الدولة‏:‏ إن كانت على سنن الدين فليست تقتضي إلا المغارم الشرعية من الصدقات والخراج والجزية وهي قليلة الوزائع لأن مقدار الزكاة من المال قليل كما علمت وكذا زكاة الحبوب والماشية وكذا الجزية والخراج وجميع المغارم الشرعية وهي حدود لا تتعدى وإن كانت على سنن التغلب والعصبية فلا بد من البداوة في أولها كما تقدم والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة وخفض الجناح والتجافي عن أموال الناس والغفلة عن تحصيل ذلك إلا في النادر فيقل لذلك مقدار الوظيفة الواحدة والوزيعة التي تجمع الأموال من مجموعها‏.‏ وإذا قلت الوزائع والوظائف على الرعايا نشطوا للعمل ورغبوا فيه فيكثر الاعتمار ويتزايد محصول الاغتباط بقلة المغرم وإذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع فكثرت الجباية التي هي جملتها‏.‏ فإذا استمرت الدولة واتصلت وتعاقب ملوكها واحداً بعد واحد واتصفوا بالكيس وذهب شر البداوة والسذاجة وخلقها من الإغضاء والتجافي وجاء الملك العضوض والحضارة الداعية إلى الكيس وتخلق أهل الدولة حينئذ بخلق التحذلق وتكثرت عوائدهم وحوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم والترف فيكثرون الوظائف والوزائع حينئذ على الرعايا والأكرة والفلاحين وسائر أهل المغارم ويزيدون في كل وظيفة ووزيعة مقداراً عظيماً لتكثر لهم الجباية ويضعون المكوس على المبايعات وفي الأبواب كما نذكر بعد ثم تتدرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار لتدرج عوائد الدولة في الترف وكثرة الحاجات والإنفاق بسببه حتى تثقل المغارم على الرعايا وتنهضم وتصير عادة مفروضة لأن تلك الزيادة تدرجت قليلاً قليلاً ولم يشعر أحد بمن زادها على التعيين ولا من هو واضعها إنما تثبت على الرعايا كأنها عادة مفروضة‏.‏ ثم تزيد إلى الخروج عن حد الاعتدال فتذهب غبطة الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلة النفع إذا قابل بين نفعه ومغارمه وبين ثمرته وفائدته فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة فتنقص جملة الجباية حينئذ بنقصان تلك الوزائع منها‏.‏ وربما يزيدون في مقدار الوظائف إذا رأوا ذلك النقص في الجباية ويحسبونه جبراً لما نقص حتى تنتهي كل وظيفة ووزيعة إلى غاية ليس وراءها نفع ولا فائدة لكثرة الانفاق حينئذ في الاعتمار وكثرة المغارم وعدم وفاء الفائدة المرجوة به‏.‏ فلا تزال الجملة في نقص ومقدار الوزائع والوظائف في زيادة لما يعتقدونه من جبر الجملة بها إلى أن ينتقص العمران بذهاب الأمال من الاعتمار ويعود وبال ذلك على الدولة لأن فائدة الاعتمار عائدة إليها‏.‏ وإذا فهمت ذلك علمت أن أقوى الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين ما أمكن فبذلك تنبسط النفوس إليه لثقتها بإدراك المنفعة فيه‏.‏ والله سبحانه وتعالى مالك الأمور كلها ‏"‏ وبيده ملكوت كل شيء ‏"‏‏.‏

الفصل التاسع والثلاثون في ضرب المكوس أواخر الدولة
اعلم أن الدولة تكون في أولها بدوية كما قلنا فتكون لذلك قليلة الحاجات لعدم الترف وعوائده فيكون خرجها وإنفاقها قليلاً فيكون في الجباية حينئذ وفاء بأزيد منها بل يفضل منها كثير عن حاجاتهم‏.‏ ثم لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في الترف وعوائدها وتجري على نهج الدول السابقة قبلها فيكثر لذلك خراج أهل الدولة ويكثر خراج السلطان خصوصاً كثرة بالغة بنفقته في خاصته وكثرة عطائه ولا تفي بذلك الجباية‏.‏ فتحتاج الدولة إلى الزيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء والسلطان من النفقة فيزيد في مقدار الوظائف والوزائع أولا كما قلناه ثم يزيد الخراج والحاجات والتدريج في عوائد الترف وفي العطاء للحامية ويدرك الدولة الهرم وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال والقاصية فتقل الجباية وتكثر العوائد ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم‏.‏ فيستحدث صاحب الدولة أنواعاً من الجباية يضربها على البيعات ويفوض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق وعلى أعيان السلع في أموال المدينة‏.‏ وهو مع هذا مضطر لذلك بما دعاه إليه ترف الناس من كثرة العطاء مع زيادة الجيوش والحامية‏.‏ وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الأمال ويؤن ذلك باختلال العمران ويعود على الدولة ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل‏.‏ وقد كان وقع منه بأمصار المشرق في أخريات الدولة العباسية والعبيدية كثير وفرضت المغارم حتى على الحاج في الموسم وأسقط صلاح الدين أيوب تلك الرسوم جملة وأعاضها بآثار الخير‏.‏ وكذلك وقع بالأندلس لعهد الطوائف حتى محا رسمه يوسف بن تاشفين أمير المرابطينن‏.‏ وكذلك وقع بأمصار الجريد بإفريقية لهذا العهد حين استبد بها رؤساؤها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:24 AM

الفصل الأربعون مفسدة للجباية
اعلم أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه من الترف وكثرة العوائد والنفقات وقصر الحاصل من جباييها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها واحتاجت إلى مزيد المال والجباية فتارة توضع المكوس على بياعات الرعايا وأسواقهم كما قدمنا ذلك في الفصل قبله وتارة بالزيادة في ألقاب المكوس إن كان قد استحدث من قبل وتارة بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك عظامهم لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان وتارة باستحداث التجارة والفلاحة للسلطان على تسمية الجباية لما يرون التجار والفلاحين يحصلون على الفوائد والغلات مع يسارة أموالهم وأن الأرباح تكون على نسبة رؤوس الأموال‏.‏ فيأخذون في اكتساب الحيوان والنبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق ويحسبون ذلك من إدرار الجباية‏:‏ تكثير الفوائد‏.‏ وهو غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة‏.‏ فأولاً مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون ومزاحمة بعضهم بعضاً تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب وإذا رافقهم السلطان في ذلك وماله أعظم كثيراً منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد‏.‏ ثم إن السلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرض له غضاً أو بأيسر ثمن إذ لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه‏.‏ ثم إذا حصل فوائد الفلاحة ومغلها كله من زرع أو حرير أو عسل أو سكر أو غير ذلك من أنواع الغلات وحصلت بضائع التجارة من سائر الأنواع فلا ينتظرون به حوالة الأسواق ولا نفاق البياعات لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة فيكلفون أهل تلك الأصناف من تاجر أو فلاح بشراء تلك البضائع ولا يرضون في أثمانها إلا القيم وأزيد فيستوعبون في ذلك ناض أموالهم وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضاً جامدة ويمكثون عطلاً من الإدارة التي فيها كسبهم ومعاشهم‏.‏ وربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن‏.‏ وربما يتكرر ذلك على التاجر والفلاح منهم بما يذهب رأس ماله فيقعد عن سوقه ويتعدد ذلك ويتكرر ويدخل به على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة ويؤدي إلى فساد الجباية فإن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين والتجار لا سيما بعد وضع المكوس ونمو الجباية بها فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة وقعد التجار عن التجارة ذهبت الجباية جملة أو دخلها النقص المتفاحش‏.‏ وإذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجياية وبين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل‏.‏ ثم إنه ولو كان مفيداً فيذهب له بحظ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع فإنه من البعيد أن يوجد فيه من المكس‏.‏ ولو كان غيره في تلك الصفقات لكان تكسبها كلها حاصلاً من جهة الجباية‏.‏ ثم فيه التعرض لأهل عمرانه واختلال الدولة بفسادهم ونقصه فإن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتجارة نقصت وتلاشت بالنفقات وكان فيها تلاف أحوالهم فافهم ذلك‏.‏ وكان الفرس لا يملكون عليهم إلا من أهل بيت المملكة ثم يختارونه من أهل الفضل والدين والأدب والسخاء والشجاعة والكرم ثم يشترطون عليه مع ذلك العدل وأن لا يتخذ صنعة فيضر بجيرانه ولا يتاجر فيحب غلاء الأسعار في البضائع وأن لا يستخدم العبيد فإنهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة‏.‏ واعلم أن السلطان لا ينمي ماله ولايدر موجوده إلا الجباية وإدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال والنظر لهم بذلك فبذلك تنبسط آمالهم وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها فتعظم منها جباية السلطان‏.‏ وأما غير ذلك من تجارة أو فلح فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة‏.‏ وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلبين في البلدان أنهم يتعرضون لشراء الغلات والسلع من أربابها الواردين على بلدهم ويفرضون لذلك من الثمن ما يشاؤون وببيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن‏.‏ وهذه أشد من الأولى وأقرب إلى فساد الرعية واختلال أحوالهم‏.‏ وربما يحمل السلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف أعني التجار والفلاحين لما هي صناعته التي نشأ عليها فيحمل السلطان على ذلك ويضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعاً سيما مع ما يحصل له من التجارة بلا مغرم ولا مكس فإنها أجدر بنمو الأموال وأسرع في تثميره ولا يفهم ما يدخل على السلطان من الضرر بنقص جبايته‏.‏ فينبغي للسلطان أن يحذر من هؤلاء ويعرض عن سعايتهم المضرة بجبايته وسلطانه والله يلهمنا رشد أنفسنا وينفعنا بصالح الأعمال والله تعالى أعلم‏.‏

الفصل الحادي والأربعون في أن ثروة السلطان
وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة والسبب في ذلك أن الجباية في أول الدولة تتوزع على أهل القبيل والعصبية بمقدار غنائهم وعصبيتهم ولأن الحاجة إليهم في تمهيد الدولة كما قلناه من قبل‏.‏ فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عما يسمون إليه من الجباية معتاض عن ذلك بما هو يروم من الاستبداد عليهم فله عليهم عزة وله إليهم حاجة‏.‏ فلا يطير في سهمانه من الجباية إلى الأقل من حاجته‏.‏ فتجد حاشيته لذلك وأذياله من الوزراء والكتاب والموالي مملقين في الغالب وجاههم متقلص لأنه من جاه مخدومهم ونطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيته‏.‏ فإذا استفحلت طبيعة الملك وحصل لصاحب الدولة الاستبداد على قومه قبض أيديهم عن الجبايات إلا ما يطير لهم بين الناس في سهمانهم وتقل حظوظهم إذ ذاك لقلة غنائهم في الدولة بما انكبح من أعنتهم وصار الموالي والصنائع مساهمين لهم في القيام بالدولة وتمهيد الأمر فينفرد صاحب الدولة حينئذ بالجباية أو معظمها ويحتوي على الأموال ويحتجنها للنفقات في مهمات الأحوال فتكثر ثروته وتمتلىء خزائنه ويتسع نطاق جاهه ويعتز على سائر قومه فيعظم حال حاشيته وذويه من وزير وكاتب وحاجب ومولى وشرطي ويتسع جاههم ويقتنون الأموال ويتأثلونها‏.‏ ثم إذا أخذت الدولة في الهرم بتلاشي العصبية وفناء القبيل الماهدين للدولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان والأنصار ولكثرة الخوارج والمنازعين والثوار وتوهم الانتقاض فصار خراجه لظهرائه وأعوانه وهم أرباب السيوف وأهل العصبيات وأنفق خزائنه وحاصله في مهمات الدولة وقلت مع ذلك الجباية لما قدمناه من كثرة العطاء والإنفاق فيقل الخراج وتشتد حاجة الدولة إلى المال فيتقلص ظل النعمة والترف عن الخواص والحجاب والكتاب بتقلص الجاه عنهم وضيق نطاقه على صاحب الدولة‏.‏ ثم تشتد حاجة صاحب الدولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدولة ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة‏.‏ ويرى صاحب الدولة أنه أحق بتلك الأموال التي اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم فيصطلمها وينتزعها منهم لنفسه شيئاً فشيئاً وواحداً بعد واحد على نسبة رتبهم وتنكر الدولة لهم ويعود وبال ذلك على الدولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثروة والنعمة من بطانتها ويتقوض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه‏.‏ وانظر ما وقع من ذلك لوزراء الدولة العباسية في بني قحطبة وبني برمك وبني سهل وبني طاهر وأمثالهم في الدولة الأموية بالأندلس عند انحلالها أيام الطوائف في بني شهيد وبني أبي عبدة وبني حديرة وبني برد وأمثالهم وكذا في الدولة التي أدركناها لعهدنا‏.‏ سنة الله التي قد خلت في عباده‏.‏ فصل‏:‏ ولما يتوقعه أهل الدولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرتب والتخلص من ربقة السلطان بما حصل في أيديهم من مال الدولة إلى قطر آخر ويرون أنه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول ثمرته‏.‏ وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لأحوالهم ودنياهم‏.‏ واعلم أن الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع‏.‏ فإن صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه فلا تمكنه الرعية من ذلك طرفة عين ولا أهل العصبية المزاحمون له بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه وإتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك لأن ربقة الملك يعسر الخلاص منها سيما عند استفحال الدولة وضيق نطاقها وما يعرض فيها من البعد عن المجد والخلال والتخلق بالشر‏.‏ وأما إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السلطان وحاشيته وأهل الرتب في دولته فقل أن يخلى بينه وبين ذلك أما أولاً فلما يراه الملوك أن ذويهم وحاشيتهم بل وسائر رعاياهم مماليك لهم مطلعون على ذات صدورهم فلا يسمحون بحل ربقته من الخدمة ضناً بأسرارهم وأحوالهم أن يطلع عليها أحد وغيرة من خدمته لسواهم‏.‏ ولقد كان بنو أمية بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السفر لفريضة الحج لما يتوهمونه من وقوعهم بأيدي بني العباس فلم يحج سائر أيامهم أحد من أهل دولتهم وما أبيح الجج لأهل الدول من الأندلس إلا بعد فراغ شأن الأموية ورجوعها إلى الطوائف‏.‏ وأما ثانياً فلأنهم وإن سمحوا بحل ربقته هو فلا يسمحون بالتجافي عن ذلك المال لما يرون أنه جزء من مالهم كما يرون أنه جزء من دولتهم إذ لم يكتسب إلا بها وفي ظل جاهها فتحوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال والتقامه كما هو جزء من الدولة ينتفعون به‏.‏ ثم إذا توهمنا أنه خلص بذلك المال إلى قطر آخر وهو في النادر الأقل فتمتد إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتخويف تعريضاً أو بالقهر ظاهراً لما يرون أنه مال الجباية والدول وأنه مستحق للإنفاق في المصالح‏.‏ وإذا كانت أعينهم تمتد إلى أهل الثروة واليسار المكتسبين من وجوه المعاش فأحرى بها أن تمتد إلى أموال الجباية والدول التي تجد السبيل إليه بالشرع والعادة‏.‏ ولقد حاول السلطان أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني تاسع أو عاشر ملوك الحفصيين بإفريقية الخروج عن عهدة الملك واللحاق بمصر فراراً من طلب صاحب الثغور الغربية لما استجمع لغزو تونس فاستعمل اللحياني الرحلة إلى ثغر طرابلس يوري بتمهيده وركب السفين من هنالك وخلص إلى الإسكندرية بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصامت والذخيرة وباع كل ما كان بخزائنهم من المتاع والعقار والجواهر حتى الكتب واحتمل ذلك كله إلى مصر ونزل على الملك الناصر محمد بن قلاون سنة سبع عشرة من المائة الثامنة فأكرم نزله ورفع مجلسه ولم يزل يستخلص ذخيرته شيئاً فشيئاً بالتعريض إلى أن حصل عليها ولم يبق معاش ابن اللحياني إلا في جرايته التي فرضت له إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين حسبما نذكره في أخباره‏.‏ فهذا وأمثاله من جملة الوسواس الذي يعتري أهل الدول لما يتوقعونه من ملوكهم من المعاطب وإنما يخلصون إن اتفق لهم الخلاص بأنفسهم وما يتوهمونة من الحاجة فغلط ووهم‏.‏ والذي حصل لهم من الشهرة بخدمة الدول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السلطانية أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التجارة والفلاحة‏.‏ والدول أنساب لكن‏:‏ النفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع والله سبحانه هو الرزاق وهو الموفق بمنه وفضله والله أعلم‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:24 AM

الفصل الثاني والأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية
والسبب في ذلك أن الدولة والسلطان هي السوق الأعظم للعالم ومنه مادة العمران‏.‏ فإذا احتجن السلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها قل حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية وانقطع أيضاً ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم وقلت نفقاتهم جملة وهم معظم السواد ونفقاتهم أكثر مادة للأسواق ممن سواهم‏.‏ فيقع الكساد حينئذ في الأسواق وتضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك لأن الخراج والجباية إنما تكون من الاعتمار والمعاملات ونفاق الأسواق وطلب الناس للفوائد والأرباح‏.‏ ووبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة أموال السلطان حينئذ بقلة الخراج‏.‏ فإن الدولة كما قلناه هي السوق الأعظم أم الأسواق كلها وأصلها ومادتها في الدخل والخرح فإن كسدت وقلت مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه‏.‏ وأيضاً فالمال إنما هو متردد بين الرعية والسلطان منهم إليه ومنه إليهم فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية‏.‏ سنة الله في عباده‏.‏

الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
اعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك‏.‏ وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالأمال جملة بدخوله من جميع أبوابها‏.‏ وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته‏.‏ والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين‏.‏ فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال وابذعر الناس في الأفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها فخف ساكن القطر وخلت دياره وخربت أمصارة واختل باختلاله حال الدولة والسلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة‏.‏ وانظر في ذلك ما حكاه المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم أيام بهرام بن بهرام وما عرض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظلم والغفلة عن عائدته على الدولة بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها فقال له‏:‏ أن بوماً ذكراً يروم نكاح بوم أنثى وإنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها وقال لها‏:‏ إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية وهذا أسهل مرام‏.‏ فتنبه الملك من غفلته وخلا بالموبذان سأله عن مراده فقال له‏:‏ أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل‏.‏ والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبة الرب وجعل له قيماً وهو الملك وأنت أيها الملك عمدت إلي الضياع فانتزعتها من أربابها وعمارها وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة فتركوا العمارة والنظر في العواقب وما يصلح الضياع وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك‏.‏ ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمار الضياع فانجلوا عن ضياعهم وخلوا ديارهم وآووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها فقلت العمارة وخربت الضياع وقلت الأموال وهلكت الجنود والرعية وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع القواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها‏.‏ فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه وانتزعت الضياع من أيدي الخاصة وردت على أربابها وحملوا على رسومهم السالفة وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج وقويت الجنود وقطعت مواد الأعداء وشحنت الثغور وأقبل الملأ على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيامه وانتظم ملكه‏.‏ فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران وإن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض‏.‏ ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول التي بها ولم يقع فيها خراب‏.‏ واعلم أن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر‏.‏ فلما كان المصر كبيراً وعمرانه كثيراً وأحواله متسعة بما لا ينحصر كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيراً لأن النقص إنما يقع بالتدريج‏.‏ فإذا خفي بكثرة الأحوال واتساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين‏.‏ وقد تذهب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب المصر وتجيء الدولة الأخرى فترفعه بجدتها وتجبر النقص الذي كان خفياً فيه فلا يكاد يشعر به إلا أن ذلك في الأقل النادر‏.‏ والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه ووباله عائد على الدول‏.‏ ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك‏.‏ وكل من أخذ ملك أحد أو غضبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه‏.‏ فجباة الأموال بغير حقها ظلمة والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق الناس ظلمة وغصاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الأمال من أهله‏.‏ واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال‏.‏ فلما كان الظلم كما رأيت مؤذناً بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران كانت حكمة الحظر فيه موجودة فكان تحريمه مهماً‏.‏ وأدلته من القرآن والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر‏.‏ ولو كان كل واحد قادراً عليه لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا والقتل والسكر‏.‏ إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه‏.‏ ‏"‏ وما ربك بظلام للعبيد ‏"‏‏.‏ ولا تقولن أن العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشرع وهي من ظلم القادر لأن المحارب زمن حرابته قادر‏.‏ فإن في الجواب عن ذلك طريقين‏.‏ أحدهما أن تقول‏:‏ العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أو مال على ما ذهب إليه كثير وذلك إنما يكون بعد القدرة عليه والمطالبة بجنايته وأما نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة‏.‏ الطريق الثاني أن تقول‏:‏ المحارب لا يوصف بالقدرة لأنا إنما نعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة بالخراب وأما قدرة المحارب فإنما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال والمدافعة عنها بيد الكل موجودة شرعاً وسياسة فليست من القدر المؤذن بالخراب‏.‏ والله قادر على ما يشاء‏.‏ فصل‏:‏ ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق‏.‏ وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات كما سنبين في باب الرزق لأن الرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران‏.‏ فإذا مساعيهم وأعمالهم كلها متمولات ومكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك‏.‏ فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخرياً في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر وذهب لهم حظ كبير من معاشهم بل هو معاشهم بالجملة‏.‏ وإن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة وقعدوا عن السعي فيها جملة فأدى إلى انتقاض العمران وتخريبه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏ الاحتكار وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس بشراء ما بين ايديهم بأبخس الأثمان ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع‏.‏ وربما تفرض عليهم تلك الأثمان على التراخي والتأجيل فيتعللون في تلك الخسارة التي تلحقهم بما تحدثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع التي فرضت عليهم بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان وتعود خسارة ما بين الصفقتين على رؤوس أموالهم‏.‏ وقد يعم ذلك أصناف التجار المقيمين بالمدينة والواردين من الأفاق في البضائع وسائر السوقة وأهل الدكاكين في المآكل والفواكه وأهل الصنائع فيما يتخذ من الألات والمواعين فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطبقات وتتوالى على الساعات وتجحف برؤوس الأموال ولا يجدون عنها وليجة إلا القعود عن الأسواق لذهاب رؤوس الأموال في جبرها بالأرباح ويتثاقل الواردون من الأفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك فتكسد الأسواق ويبطل معاش الرعايا لأن عامته من البيع والشراء‏.‏ وإذا كانت الأسواق عطلاً منها بطل معاشهم وتنقص جباية السلطان أو تفسد لأن معظمها من أواسط الدولة وما بعدها إنما هو من المكوس على البياعات كما قدمناه‏.‏ ويؤول ذلك إلى تلاشي الدولة وفساد عمران المدينة‏.‏ ويتطرق هذا الخلل على التدريج ولا يشعر به‏.‏ هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع والأسباب إلى أخذ الأموال وأما أخذها مجاناً والعدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقض الدولة سريعاً بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض‏.‏ ومن أجل هذه المفاسد حظر الشرع ذلك كله وشرع المكايسة في البيع والشراء وحظر أكل واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة فيستحدثون ألقاباً ووجوهاً يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج‏.‏ ثم لا يزال الترف يزيد والخرج بسببه يكثر والحاجة إلى أموال الناس تشتد ونطاق الدولة بذلك يزيد إلى أن تنمحي دائرتها ويذهب رسمها ويغلبها طالبها‏.‏ والله أعلم‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:26 AM

الفصل الرابع والأربعون في الحجاب كيف يقع في الدول
وأنه يعظم عند الهرم اعلم أن الدولة في أول أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدمناه لأنه لا بد لها من العصبية التي بها يتم أمرها ويحصل استيلاؤها والبداوة هي شعار العصبية والدولة إن كان قيامها بالدين فإنه بعيد عن منازع الملك وإن كان قيامها بعز الغلب فقط فالبداوة التي بها يحصل الغلب بعيدة أيضاً عن منازع الملك ومذاهبه‏.‏ فإذا كانت الدولة في أول أمرها بدوية كان صاحبها على حال الغضاضة والبداوة والقرب من الناس وسهولة الأذن‏.‏ فإذا رسخ عزه وصار إلى الانفراد بالمجد واحتاج إلى الانفراد بنفسه عن الناس للحديث مع أوليائه في خواص شؤونه لما يكثر حينئذ من بحاشيته فيطلب الانفراد عن العامة ما استطاع ويتخذ الأذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه وأهل دولته ويتخذ حاجباً له عن الناس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة‏.‏ ثم إذا استفحل الملك وجاءت مذاهبه ومنازعه استحالت خلق صاحب الدولة إلى خلق الملك وهي خلق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرها إلى مداراتها ومعاملتها بما يجب لها‏.‏ وربما جهل تلك الخلق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم فسخطوه وصاروا إلى حالة الانتقام منه‏.‏ فانفرد بمعرفة هذه الأداب الخواص من أوليائهم وحجبوا غير أولئك الخاصة عن لقائهم في كل وقت حفظاً على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم وعلى الناس من التعرض لعقابهم‏.‏ فصار لهم حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصهم من الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامة‏.‏ والحجاب الثاني يفضي إلى مجالس الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامة‏.‏ والحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا كما حدث لأيام معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أمية وكان القائم على ذلك الحجاب يسمى عندهم الحاجب جرياً على ثم لما جاءت دولة بني العباس وجدت الدولة من الترف والعز ما هو معروف وكملت خلق الملك على ما يجب فيها فدعا ذلك إلى الحجاب الثاني وصار اسم الحاجب أخص به وصار بباب الخلفاء داران للعباسية‏:‏ دار الخاصة ودار العامة كما هو مسطور في أخبارهم‏.‏ ثم حدث في الدول حجاب ثالث أخص من الأولين وهو عند محاولة الحجر على صاحب الدولة‏.‏ وذلك أن أهل الدولة وخواص الملك إذا نصبوا الأبناء من الأعقاب وحاولوا الاستبداد عليهم فأول ما يبدأ به ذلك المستبد أن يحجب عنه بطانة أبيه وخواص أوليائه يوهمه أن في مباشرتهم إياه خرق حجاب الهيبة وفساد قانون الأدب ليقطع بذلك لقاء الغير ويعوده ملابسة أخلاقه هو حتى لا يتبدل به سواه إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه فيكون هذا الحجاب من دواعيه‏.‏ وهذا الحجاب لا يقع في الغالب إلا أواخر الدولة كما قدمناه في الحجر‏.‏ ويكون دليلاً على هرم الدولة ونفاد قوتها‏.‏ وهو مما يخشاه أهل الدول على أنفسهم لأن القائمين بالدولة يحاولون ذلك بطباعهم عند هرم الدولة وذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم لما ركب في النفوس من محبة الاستبداد بالملك وخصوصاً مع الترشيح لذلك وحصول دواعيه ومباديه‏.‏

الفصل الخامس والأربعون فيما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها
اعلم أن أول ما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها‏.‏ وذلك أن الملك عندما يستفحل ويبلغ من أحوال الترف والنعيم إلى غايتها ويستبد صاحب الدولة بالمجد وينفرد به يأنف حينئذ عن المشاركة ويصير إلى قطع أسبابها ما استطاع بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشحين لمنصبه‏.‏ فربما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم ونزعوا إلى القاصية واجتمع إليهم من يلحق بهم مثل حالهم من الاغترار والاسترابة‏.‏ ويكون نطاق الدولة قد أخذ في التضايق ورجع عن القاصية فيستبد ذلك النازع من القرابة فيها‏.‏ ولا يزال أمر يعظم بتراجع نطاق الدولة حتى يقاسم الدولة أو يكاد‏.‏ وانظر ذلك في الدولة الإسلامية العربية حين كان أمرها حريزاً مجتمعاً ونطاقها ممتداً في الاتساع وعصبية بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر فلم ينبض عرق من الخلاف سائر أيامه إلا ما كان من بدعة الخوارج المستميتين في شأن بدعتهم لم يكن ذلك لنزعة ملك ولا رئاسة ولم يتم أمرهم لمزاحمتهم العصبية القوية‏.‏ ثم لما خرج الأمر من بني أمية واستقل بنو العباس بالأمر وكانت الدولة العربية قد بلغت الغاية من الغلب والترف وآذنت بالتقلص عن القاصية نزع عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس قاصية دولة الإسلام فاستحدث بها ملكاً واقتطعها عن دولتهم وصير الدولة دولتين‏.‏ ثم نزع إدريس إلى المغرب وخرج به وقام بأمره وأمر ابنه من بعده البرابرة من أوربة ومغيلة وزناتة واستولى على ناحية المغربين‏.‏ ثم ازدادت الدولة تقلصاً فاضطرب الأغالبة في الامتناع عليهم‏.‏ ثم خرج الشيعة وقام بأمرهم كتامة وصنهاجة واستولوا على إفريقية والمغرب ثم مصر والشام والحجاز وغلبوا على الأدارسة وقسموا الدولة دولتين أخريين وصارت الدولة العربية ثلاث دول‏:‏ دولة بني العباس بمركز العرب وأصلهم ومادتهم الإسلام ودولة بني أمية المجددين بالإندلس ملكهم القديم وخلافتهم بالمشرق ودولة العبيديين بإفريقية ومصر والشام والحجاز‏.‏ ولم تزل هذه الدول إلى أن كان انقراضها متقارباً أو جميعاً‏.‏ وكذلك انقسمت دولة بني العباس بدول أخرى‏:‏ وكان بالقاصية بنو سامان فيما وراء النهر وخراسان والعلوية في الديلم وطبرستان وآل ذلك إلى استيلاء الديلم على العراقين وعلى بغداد والخلفاء‏.‏ ثم جاء السلجوقية فملكوا جميع ذلك‏.‏ ثم انقسمت دولتهم أيضاً بعد الاستفحال كما هو معروف في أخبارهم‏.‏ وكذلك اعتبره في دولة صنهاجة بالمغرب وإفريقية لما بلغت إلى غايتها أيام باديس بن المنصور خرح عليه عمه حماد واقتطع ممالك الغرب لنفسه ما بين جبل أوراس إلى تلمسان وملوية واختط القلعة بجبل كتامة حيال المسيلة ونزلها واستولى على مركزهم أشير بجبل تيطري واستحدث ملكاً آخر قسيماً لملك آل باديس وبقي آل باديس بالقيروان وما إليها ولم يزل ذلك إلى أن انقرض أمرهما جميعاً‏.‏ وكذلك دولة الموحدين لما تقلص ظلها ثار بإفريقية بنو أبي حفص فاستقلوا بها واستحدثوا ملكاً لأعقابهم بنواحيها‏.‏ ثم لما استفحل أمرهم واستولى على الغاية خرج على الممالك الغربية من أعقابهم الأمير أبو زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم رابع خلفائهم واستحدث ملكاً ببجاية وقسنطينة وما إليها أورثه بنيه وقسموا به الدولة قسمين ثم استولى على كرسي الحضرة بتونس ثم انقسم الملك ما بين أعقابهم ثم عاد الاستيلاء فيهم‏.‏ وقد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين وثلاث وفي غير أعياص الملك من قومه كما وقع في ملوك الطوائف بالأندلس وملوك العجم بالمشرق وفي ملك صنهاجة بإفريقية فقد كان لآخر دولتهم في كل حصن من حصون إفريقية ثائر مستقل بأمره كما تقدم ذكره‏.‏ وكذا حال الجريد والزاب من إفريقية قبيل هذا العهد كما نذكره‏.‏ وهكذا شأن كل دولة لا بد وأن يعرض فيها عوارض الهرم بالترف والدعة وتقلص ظل الغلب فيقتسم أعياصها أو من يغلب من رجال دولتها الأمر وتتعدد فيها الدول‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏ في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع قد قدمنا ذكر العوارض المؤذنة بالهرم وأسبابه واحداً بعد واحد وبينا أنها تحدث للدولة بالطبع وأنها كلها أمور طبيعية لها‏.‏ وإذا كان الهرم طبيعياً في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني‏.‏ والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها لما أنه طبيعي والأمور الطبيعية لا تتبدل‏.‏ وقد يتنبه كثير من أهل الدول ممن له يقظة في السياسة فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم ويظن أنه ممكن الارتفاع فيأخذ نفسه بتلافي الدولة وإصلاح مزاجها عن ذلك الهرم ويحسبه أنه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدولة وغفلتهم وليس كذلك فإنها أمور طبيعية للدولة والعوائد هي المانعة له من تلافيها‏.‏ والعوائد منزلة طبيعية أخرى فإن من أدرك مثلاً أباه وأكثر أهل بيته يلبسون الحرير والديباج ويتحلون بالذهب في السلاح والمراكب ويحتجبون عن الناس في المجالس والصلوات فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللباس والزي والاختلاط بالناس إذ العوائذ حينئذ تمنعه وتقبح عليه مرتكبه‏.‏ ولو فعله لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة وخشي عليه عائدة ذلك وعاقبته في سلطانه‏.‏ وانظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد ومخالفتها لولا التأييد الإلهي والنصر السماوي‏.‏ وربما تكون العصبية قد ذهبت فتكون الأبهة تعوض عن موقعها من النفوس‏.‏ فإذا أزيلت تلك الأبهة مع ضعف العصبية تجاسرت الرعايا على الدولة بذهاب أوهام الأبهة فتتدرع الدولة بتلك الأبهة ما أمكنها حتى ينقضي الأمر‏.‏ وربما يحدث عند آخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها الماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال وهي انطفاء‏.‏ فاعتبر ذلك ولا تغفل سر الله تعالى وحكمته في اطراد وجوده على ما قدر فيه‏.‏ ‏"‏ ولكل أجل كتاب ‏"‏‏.‏

الفصل السابع والأربعون في كيفية طروق الخلل للدولة
اعلم أن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما‏.‏ فالأول الشوكة والعصبية وهو المعبر عنه بالجند والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجند وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال‏.‏ والخلل إذا طرق الدولة طرقها في هذين الأساسين‏.‏ فلنذكر أولاً طروق الخلل في الشوكة والعصبية ثم نرجع واعلم أن تمهيد الدولة وتأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبية وأنه لا بد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها وهي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة وقبيلة‏.‏ فإذا جاءت الدولة طبيعة الملك من الترف وجدع أنوف أهل العصبية كان أول ما يجدع أنوف عشيرته ذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك فيستبد في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم‏.‏ ويأخذهم الترف أيضاً أكثر من سواهم لمكانهم من الملك والعز والغلب فيحيط بهم هدمان وهما الترف والقهر‏.‏ ثم يصير القهر آخراً إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة والترف الذي تعودوا الكثير منه فيهلكون ويقفون وتفسد عصبية صاحب الدولة منهم وهي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب وتستتبعها فتنحل عروتها وتضعف شكيمتها وتستبدل عنها بالبطالة من موالي النعمة وصنائع الإحسان ويتخذ منهم عصبية إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية لفقدان الرحم والقرابة منها‏.‏ وقد كنا قدمنا أن شأن العصبية وقوتها إنما هي بالقرابة والرحم لما جعل الله في ذلك‏.‏ فينفرد صاحب الدولة عن العشير والأنصار الطبيعية ويحس بذلك أهل العصائب الأخرى فيتجاسرون عليه وعلى بطانته تجاسراً طبيعياً فيهلكهم صاحب الدولة ويتبعهم بالقتل واحداً بعد واحد‏.‏ ويقفد الآخر من أهل الدولة في ذلك الأول مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدمنا‏.‏ فيستولي عليهم الهلاك بالترف والقتل حتى يخرجوا عن صبغة تلك العصبية وينسوا نعرتها وسورتها ويصيروا أجراء على الحماية ويقلون لذلك فتقل الحامية التي تنزل بالأطراف والثغور فيتجاسر الرعايا على نقض الدعوة في الأطراف ويبادر الخوارج على الدولة من الأعياص وغيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم وأمنهم من وصول الحامية إليهم‏.‏ ولا يزال يتدرج ونطاق الدولة يتضايق حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة‏.‏ وربما انقسمت الدولة عند ذلك بدولتين أو ثلاث على قدر قوتها في الأصل كما قلناه ويقوم بأمرها غير أهل عصبيتها لكن إذعاناً لأهل عصبيتها ولغلبهم المعهود‏.‏ واعتبر هذا في دولة العرب في الإسلام انتهت أولاً إلى الأندلس والهند والصين‏.‏ وكان أمر بني أمية نافذاً في جميع العرب بعصبية بني عبد مناف حتى لقد أمر سليمان بن عبد الملك من دمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل ولم يرد أمره‏.‏ ثم تلاشت عصبية بني أمية بما أصابهم من الترف فانقرضوا‏.‏ وجاء بنو العباس فغضوا من أعنة بني هاشم وقتلوا الطالبيين وشردوهم فانحلت عصبية عبد مناف وتلاشت وتجاسر العرب عليهم فاستبد عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب بإفريقية وأهل الأندلس وغيرهم وانقسمت الدولة‏.‏ ثم خرج بنو إدريس بالمغرب وقام البربر بأمرهم إذعاناً للعصبية التي لهم وأمناً أن تصلهم مقاتلة أو حامية للدولة‏.‏ فإذا خرج الدعاة آخراً فيتغلبون على الأطراف والقاصية وتحصل لهم هناك دعوة وملك تنقسم به الدولة‏.‏ وربما يزيد ذلك متى زادت الدولة تقلصاً إلى أن ينتهي إلى المركز وتضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها الترف فتهلك وتضمحل وتضعف الدولة المنقسمة كلها‏.‏ وربما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل إيالتها وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة فيستغني بذلك عن قوة العصائب ويكفي صاحبها بما حصل لها في تمهيد أمرها الأجراء على الحامية من جندي ومرتزق‏.‏ ويعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم فلا يكاد أحد أن يتصور عصياناً أو خروجاً إلا والجمهور منكرون عليه مخالفون له فلا يقدر على التصدي لذلك ولو جهد جهده‏.‏ وربما كانت الدولة في هذا الحال أسلم من الخوارج والمنازعة لاستحكام صبغة التسليم والانقياد لهم‏.‏ فلا تكاد النفوس تحدث سرها بمخالفة ولا يختلج في ضميرها انحراف عن الطاعة فيكون أسلم من الهرج والانتقاض الذي يحدث من العصائب والعشائر‏.‏ ثم لا يزال أمر الدولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها شأن الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور‏.‏ ولكل أجل كتاب ولكل دولة أمد‏.‏ ‏"‏ والله يقدر الليل والنهار ‏"‏ وهو الواحد القهار‏.‏ وأما الخلل الذي يتطرق من جهة المال فاعلم أن الدولة في أولها تكون بدوية كما مر فيكون خلق الرفق بالرعايا والقصد في النفقات والتعفف عن الأموال فتتجافى عن الإمعان في الجباية والتحذلق والكيس في جمع الأموال وحسبان العمال ولا داعية حينئذ إلى الإسراف في النفقة فلا تحتاج الدولة إلى كثرة المال‏.‏ ثم يحصل الاستيلاء ويعظم ويستفحل الملك فيدعو إلى الترف ويكثر الأنفاق بسببه فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدولة‏.‏ ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات وينتشر ذلك في الرعية لأن الناس على دين ملوكها وعوائدها‏.‏ ويحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشاهد عليهم بالرفه ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه وأرزاق جنده‏.‏ ثم تزيد عوائد الترف فلا تفي بها المكوس وتكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرعايا فتمتد أيديهم إلى جمع المال من أموال الرعايا من مكس أو تجارة أو نقد في بعض الأحوال بشبهة أو بغير شبهة‏.‏ ويكون الجند في ذلك الطور قد تجاسرعلى الدولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبية فتتوقع ذلك منهم وتداوى بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم ولا تجد عن ذلك وليجة‏.‏ ويكون جباة الأموال في الدولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطور بكثرة الجباية وكونها بأيديهم وبما اتسع لذلك من جاههم فيتوجه إليهم باحتجان الأموال من الجباية وتفشو السعاية فيهم بعضهم عن بعض للمنافسة والحقد فتعمهم النكبات والمصادرات واحداً واحداً إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى أحوالهم ويفقد ما كان للدولة من االأبهة والجمال بهم‏.‏ فإذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدولة إلى أهل الثروة من الرعايا سواهم‏.‏ ويكون الوهن في هذا الطور قد لحق الشوكة وضعفت عن الاستطالة والقهر فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال ويراه أرفع من السيف لقلة غنائه‏.‏ فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات وأرزاق الجند ولا يغني فيما يريد‏.‏ ويعظم الهرم بالدولة ويتجاسر عليها أهل النواحي والدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلاك وتتعرض لاستيلاء الطلاب‏.‏ فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها وإلا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفىء‏.‏ والله مالك الأمور ومدبر الأكوان لا إله إلا هو‏.‏ أولاً إلى نهايته ثم تضايقه طوراً بعد طور إلى فناء الدولة واضمحلالها قد كان تقدم لنا في فصل الخلافة والملك وهو الثالث من هذه المقدمة أن كل دولة لها حصة من الممالك والعمالات لا تزيد عليها‏.‏ واعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدولة على حماية أقطارها وجهاتها‏.‏ فحيث نفد عددهم فالطرف الذي انتهى عنده هو الثغر ويحيط بالدولة من سائر جهاتها كالنطاق‏.‏ وقد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأولى‏.‏ وقد يكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة قبلها‏.‏ وهذا كله عندما تكون الدولة في شعار البداوة وخشونة الباس‏.‏ فإذا استفحل العز والغلب وتوفرت النعم والأرزاق بدرور الجبايات وزخر بحر الترف والحضارة ونشأت الأجيال على اعتبار ذلك لطفت أخلاق الحامية ورقت حواشيهم‏.‏ وعاد من ذلك إلى نفوسهم هيئات الجبن والكسل بما يعانونه من خنث الحضارة المؤدي إلى الانسلاخ من شعار البأس والرجولية بمفارقة البداوة وخشونتها وبأخذهم العز بالتطاول إلى الرياسة والتنازع عليها فيفضي إلى قتل بعضهم بيعض ويكبحهم السلطان عن ذلك بما يؤدي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم فتفقد الأمراء والكبراء ويكثر التابع والمرؤوس فيفل ذلك من حد الدولة لكسر من شوكتها‏.‏ ويقع الخلل الأول في الدولة وهو الذي من جهة الجند والحامية كما تقدم‏.‏ ويساوق ذلك السرف في النفقات بما يعتريهم من أبهة العز وتجاوز الحدود بالبذخ بالمناغاة في المطاعم والملابس وتشييد القصور واستجادة السلاح وارتباط خيول فيقصر دخل الدولة حينئذ عن خرجها ويطرق الخلل الثاني في الدولة وهو الذي من جهة المال والجباية‏.‏ ويحصل العجز والانتقاص بوجود الخللين‏.‏ وربما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم‏.‏ وربما اعتز أهل الثغور والأطراف بما يحسون من ضعف الدولة وراءهم فيصيرون إلى الاستقلال والاستبداد بما في أيديهم من العمالات ويعجز صاحب الدولة عن حملهم على الجادة فيضيق نطاق الدولة عما كانت انتهت إليه في أولها وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه إلى أن يحدث في النطاق الثاني ما حدث في الأول بعينه من العجز والكسل في العصابة وقلة الأموال والجباية‏.‏ فيذهب القائم بالدولة إلى تغيير القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة من قبل الجند والمال والولايات ليجري حالها على استقامة بتكافؤ الدخل والخرج والحامية والعمالات وتوزيع الجباية على الأرزاق ومقايسة ذلك بأول الدولة في سائر الأحوال‏.‏ والمفاسد مع ذلك متوقعة من كل جهة‏.‏ فيحدث في هذا الطور من بعد ما حدث في الأول من قبل‏.‏ ويعتبر صاحب الدولة ما اعتبره الأول ويقايس بالوزان الأول أحوالها الثانية يروم دفع مفاسد الخلل الذي يتجدد في كل طور ويأخذ من كل طرف حتى يضيق نطاقها الآخر إلى نطاق دونه كذلك ويقع فيه ما وقع في الأول‏.‏ فكل واحد من هؤلاء المغيرين للقوانين قبلهم كأنهم منشئون دولة أخرى ومجددون ملكاً‏.‏ حتى تنقرض الدولة وتتطاول الأمم حولها إلى التغلب عليها وإنشاء دولة أخرى لهم فيقع من ذلك ما قدر الله وقوعه‏.‏ واعتبر ذلك في الدولة الإسلامية كيف اتسع نطاقها بالفتوحات والتغلب على الأمم ثم تزايد الحامية وتكاثر عددهم بما تخولوه من النعم والأرزاق إلى أن انقرض أمر بني أمية وغلب بنو العباس‏.‏ ثم تزايد الترف ونشأت الحضارة وطرق الخلل فضاق النطاق من الأندلس والمغرب بحدوث الدولة الأموية المروانية والعلوية واقتطعوا ذينك الثغرين عن نطاقها إلى أن وقع الخلاف بين بني الرشيد وظهر دعاة العلوية من كل جانب وتمهدت لهم دول ثم قتل المتوكل واستبد الأمراء على الخلفاء وحجروهم واستقل الولاة بالعمالات في الأطراف‏.‏ وانقطع الخراج منها وتزايد الترف‏.‏ وجاء المعتضد فغير قوانين الدولة إلى قانون آخر من السياسة أقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه مثل بني سامان وراء النهر وبني طاهر العراق وخراسان وبني الصفار السند وفارس وبني طولون مصر وبنى الأغلب إفريقية إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم واستبد بنو بويه والديلم بدولة الإسلام وحجروا الخلافة وبقي بنو سامان في استبدادهم وراء النهر وتطاول الفاطميون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه‏.‏ ثم قامت الدولة السلجوقية من الترك فاستولوا على ممالك الإسلام وأبقوا الخلفاء في حجرهم إلى أن تلاشت دولهم‏.‏ واستبد الخلفاء منذ عهد الناصر في نطاق أضيق من هالة القمر وهو عراق العرب إلى أصبهان وفارس والبحرين‏.‏ وأقامت الدولة كذلك بعض الشيء إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن طولى بن دوشي خان ملك التتر والمغل حين غلبوا السلجوقية وملكوا ما كان بأيديهم من ممالك الإسلام‏.‏ وهكذا يتضايق نطاق كل دولة على نسبة نطاقها الأول‏.‏ ولا يزال طوراً بعد طور إلى أن تنقرض الدولة‏.‏ واعتبر ذلك في كل دولة عظمت أو صغرت‏.‏ فهكذا سنة الله في الدول إلى أن يأتي ما قدرالله من الفناء على خلقه‏.‏ و ‏"‏ كل شيء هالك إلا وجهه ‏"‏‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:27 AM

الفصل الثامن والأربعون في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع
اعلم أن نشأة الدول وبدايتها إذا أخذت الدولة المستقرة في الهرم والانتقاص يكون على نوعين‏:‏ إما بأن يستبد ولاة الأعمال في الدولة بالقاصية عندما يتقلص ظلها عنهم فتكون لكل واحد منهم دولة يستجدها لقومه وما يستقر في نصابه يرثه عنه أبناؤه أو مواليه ويستفحل لهم الملك بالتدريج وربما يزدحمون على ذلك الملك ويتقارعون عليه ويتنازعون في الاستئثار به ويغلب منهم من يكون له فضل قوة على صاحبه وينتزع ما في يده كما وقع في دولة بني العباس حين أخذت دولتهم في الهرم وتقلص ظلها عن القاصية واستبد بنو سامان بما وراء النهر وبنو حمدان بالموصل والشام وبنو طولون بمصر وكما وقع بالدولة الأموية بالأندلس وافترق ملكها في الطوائف الذين كانوا ولاتها في الأعمال وانقسمت دولاً وملوكاً أورثوها من بعدهم من قرابتهم أو مواليهم‏.‏ وهذا النوع لا يكون بينهم وبين الدولة المستقرة حرب لأنهم مستقرون في رئاستهم ولا يطمعون في الاستيلاء على الدولة المستقرة بحرب وإنما الدولة أدركها الهرم وتقلص ظلها عن القاصية وعجزت عن الوصول إليها‏.‏ والنوع الثاني بأن يخرج على الدولة خارج ممن يجاوزها من الأمم والقبائل إما بدعوة يحمل الناس عليها كما أشرنا إليه أو يكون صاحب شوكة وعصبية كبيراً في قومه قد استفحل أمره فيسمو بهم إلى الملك وقد حدثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزازعلى الدولة المستقرة وما نزل بها من الهرم فيتعين له ولقومه الاستيلاء عليها ويمارسونها بالمطالبة إلى أن يظفروا بها ويزنون أمرها كما يتبين‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

الفصل التاسع والأربعون في أن الدولة المستجدة
قد ذكرنا أن الدول الحادثة المتجددة نوعان‏:‏ نوع من ولاية الأطراف إذا تقلص ظل الدولة عنهم وانحسر تيارها وهؤلاء لا يقع منهم مطالبة الدولة في الأكثر كما قدمناه لأن قصاراهم القنوع بما في أيديهم وهو نهاية قوتهم والنوع الثاني نوع الدعاة والخوارج على الدولة وهؤلاء لا بد لهم من المطالبة لأن قوتهم وافية بها فإن ذلك إنما يكون في نصاب يكون له من العصبية والاعتزاز ما هو كفاء ذلك وواف به فيقع بينهم وبين الدولة المستقرة حروب سجال تتكرر وتتصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظفر بالمطلوب‏.‏ ولا يحصل لهم في الغالب ظفر بالمناجزة‏.‏ والسبب في ذلك أن الظفر في الحروب إنما يقع كما قدمناه بأمور نفسانية وهمية وإن كان العدد والسلاح وصدق القتال كفيلاً به لكنه قاصر مع تلك الأمور الوهمية كما مر ولذلك كان الخداع من أنفع ما يستعمل في الحرب وأكثر ما يقع الظفر به وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ الحرب خدعة ‏"‏‏.‏ والدولة المستقرة قد صيرت العوائد المألوفة طاعتها ضرورية واجبة كما تقدم في غير موضع فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدولة المستجدة ويكسر من همم أتباعه وأهل شوكته وإن كان الأقربون من بطانته على بصيرة في طاعته ومؤازرته إلا أن الأخرين أكثر وقد داخلهم الفشل بتلك العقائد في التسليم للدولة المستقرة فيحصل بعض الفتور منهم ولا يكاد صاحب الدولة المستجدة يقاوم صاحب الدولة المستقرة‏.‏ فيرجع إلى الصبر والمطاولة حتى يتضح هرم الدولة المستقرة فتضمحل عقائد التسليم لها من قومه وتنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه فيقع الظفر والاستيلاء‏.‏ وأيضاً فالدولة المستقرة كثيرة الرزق بما استحكم لهم من الملك وتوسع من النعيم واللذات واختصوا به دون غيرهم من أموال الجباية فيكثر عندهم ارتباط الخيول واستجادة الأسلحة وتعظم فيهم الأبهة الملكية ويفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختياراً واضطراراً فيرهبون بذلك كله عدوهم‏.‏ وأهل الدولة المستجدة بمعزل عن ذلك لما هم فيه من البداوة وأحوال الفقر والخصاصة فيسبق إلى قلوبهم أوهام الرعب بما ببلغهم من أحوال الدولة المستقرة ويحجمون عن قتالهم من أجل ذلك فيصير أمرهم إلى المطاولة حتى تأخذ المستقرة مأخذها من الهرم ويستحكم الخلل فيها في العصبية والجباية فينتهز حينئذ صاحب الدولة المستجدة فرصته في الاستيلاء عليها بعد حين منذ المطالبة‏.‏ سنة الله في عباده‏.‏ وأيضاً فأهل الدولة المستجدة كلهم مباينون للدولة المستقرة بأنسابهم وعوائدهم وفي سائر مناحيهم ثم هم مفاخرون لهم ومنابذون بما وقع من هذه المطالبة وبطمعهم في الاستيلاء عليها فتتمكن المباعدة بين أهل الدولتين سراً وجهراً ولا يصل إلى أهل الدولة المستجدة خبر عن أهل الدولة المستقرة يصيبون منه غرة باطناً وظاهراً لانقطاع المداخلة بين الدولتين فيقيمون على المطالبة وهم في إحجام وينكلون عن المناجزة حتى يأذن الله بزوال الدولة المستقرة وفناء عمرها ووفور الخلل في جميع جهاتها ويتضح لأهل الدولة المستجدة مع الأيام ما كان يخفى منها من هرمها وتلاشيها وقد عظمت قوتهم بما اقتطعوه من أعمالها ونقصوه من أطرافها فتنبعث هممهم يداً واحدة للمناجزة ويذهب ما كان يفت في عزائمهم من التوهمات وتنتهي المطاولة إلى حدها ويقع الاستيلاء آخراً بالمعاجلة‏.‏ واعتبر ذلك في دولة بني العباس حين ظهورها حين قام الشيعة بخراسان بعد انعقاد الدعوة واجتماعهم على المطالبة عشر سنين أو تزيد‏.‏ وحينئذ تم لهم الظفر واستولوا على الدولة الأموية‏.‏ وكذا العلوية بطبرستان عند ظهور دعوتهم في الديلم كيف كانت مطاولتهم حتى استولوا على تلك الناحية‏.‏ ثم لما انقضى أمر العلوية وسما الديلم إلى ملك فارس والعراقين فمكثوا سنين كثيرة يطاولون حتى اقتطعوا أصبهان ثم استولوا على الخليفة ببغداد‏.‏ وكذا العبيديون أقام داعيتهم بالمغرب أبو عبد الله الشيعي ببني كتامة من قبائل البربر عشر سنين ويزيد يطاول بني الأغلب بإفريقية حتى ظفر بهم واستولوا على المغرب كله وسموا إلى ملك مصر فمكثوا ثلاثين سنة أو نحوها في طلبها يجهزون إليها العساكر والأساطيل في كل وقت وبجيء المدد لمدافعتهم براً وبحراً من بغداد والشام وملكوا الإسكندرية والفيوم والصعيد وتخطت دعوتهم من هنالك إلى الحجاز وأقيمت بالحرمين‏.‏ ثم نازل قائدهم جوهر الكاتب بعساكره مدينة مصر واستولى عليها واقتلع دولة بني طغج من أصولها واختط القاهرة فجاء الخليفة بعد المعز لدين الله فنزلها لستين سنة أو نحوها منذ استيلائهم على الإسكندرية‏.‏ وكذا السلجوقية ملوك الترك لما استولوا على بني سامان وأجازوا من وراء النهر مكثوا نحواً من ثلاثين سنة يطاولون بني سبكتكين بخراسان حتى استولوا على دولته‏.‏ تم زحفوا إلى بغداد فاستولوا عليها وعلى الخليفة بها بعد أيام من الدهر‏.‏ وكذا التتر من بعدهم خرجوا من المفازة عام سبع عشرة وستمائة فلم يتم لهم الاستيلاء إلا بعد أربعين سنة‏.‏ وكذا أهل المغرب خرج به المرابطون من لمتونة على ملوكه من مغراوة فطاولوهم سنين ثم استولوا عليه‏.‏ ثم خرج الموحدون بدعوتهم على لمتونة فمكثوا نحواً من ثلاثين سنة يحاربونهم حتى استولوا على كرسيهم بمراكش‏.‏ وكذا بنو مرين من زناتة خرجوا على الموحدين فمكثوا يطاولونهم نحواً من ثلاثين سنة واستولوا على فاس واقتطعوها وأعمالها من ملكهم‏.‏ ثم أقاموا في محاربتهم ثلاثين أخرى حتى استولوا على كرسيهم بمراكش حسبما نذكر ذلك كله في تواريخ هذه الدول‏.‏ فهكذا حال الدول المستجدة مع المستقرة في المطالبة والمطاولة‏.‏ سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلاً‏.‏ ولا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلامية وكيف كان استيلاؤهم على فارس والروم لثلاث أو أربع من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ واعلم أن ذلك إنما كان معجزة من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم سرها استماتة المسلمين في جهاد عدوهم استبصاراً بالإيمان وما أوقع الله في قلوب عدوهم من الرعب والتخاذل‏.‏ فكان ذلك كله خارقاً للعادة المقررة في مطاولة الدول المستجدة للمستقرة‏.‏ وإذا كان ذلك خارقاً فهو من معجزات نبينا صلوات الله عليه المتعارف ظهورها في الملة الإسلامية‏.‏ والمعجزات لا يقاس عليها الأمور العادية ولا يعترض بها‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏

الفصل الخمسون في وفور العمران آخر الدولة وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات
اعلم أنه قد تقرر لك فيما سلف أن الدولة في أول أمرها لا بد لها من الرفق في ملكتها والاعتدال في إيالتها إما من الدين إن كانت الدعوة دينية أو من المكارمة والمحاسنة التي تقتضيها البداوة الطبيعية للدول‏.‏ وإذا كانت الملكة رفيقة محسنة انبسطت آمال الرعايا وانتشطوا للعمران وأسبابه فتوفر ويكثر التناسل‏.‏ وإذا كان ذلك كله بالتدريج فإنما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين في الأقل‏.‏ وفي انقضاء الجيلين تشرف الدولة على نهاية عمرها الطبيعي فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور والنماء‏.‏ ولا تقولن إنه قد مر لك أن أواخر الدولة يكون فيها الإجحاف بالرعايا وسوء الملكة فذلك صحيح ولا يعارض ما قلناه لأن الإجحاف وإن حدث حينئذ وقلت الجبايات فإنما يظهر أثره في تناقص العمران بعد حين من أجل التدريج في الأمور الطبيعية‏.‏ ثم إن المجاعات والموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدول‏.‏ والسبب فيه‏:‏ أما المجاعات فلقبض الناس أيديهم عن الفلح في الأكثر بسبب ما يقع في آخر الدولة من العدوان في الأموال والجبايات أو الفتن الواقعة في انتقاص الرعايا وكثرة الخوارج لهرم الدولة فيقل احتكار الزرع غالباً وليس صلاح الزرع وثمرته بمستمر الوجود ولا على وتيرة واحدة فطبيعة العالم في كثرة الأمطار وقلتها مختلفة والمطر يقوى ويضغف ويقل ويكثر والزرع والثمار والضرع على نسبته إلا أن الناس واثقون في أقواتهم بالاحتكار‏.‏ فإذا فقد الاحتكار عظم توقع الناس للمجاعات فغلا الزرع وعجز عنه أولو الخصاصة فهلكوا وكان بعض السنوات والاحتكار وأما كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه أو كثرة الفتن لاختلال الدولة فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء‏.‏ وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة‏.‏ وإذا فسد الهواء وهو غذاء الروح الحيواني وملابسه دائماً فيسري الفساد إلى مزاجه‏.‏ فإن كان الفساد قوياً وقع المرض في الرئة‏.‏ وهذه هي الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة‏.‏ وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف فتكثر الحميات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك‏.‏ وسبب كثرة العفن والرطوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران ووفوره آخر الدولة لما كان في أوائلها من حسن الملكة ورفقها وقلة المغرم وهو ظاهر‏.‏ ولهذا تبين في موضعه من الحكمة أن تخلل الخلاء والقفر بين العمران ضروري ليكون تموج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات ويأتي بالهواء الصحيح‏.‏ ولهذا أيضاً فإن الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب‏.‏ والله يقدر ما يشاء‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:27 AM

الفصل الحادي والخمسون في أن العمران البشري
اعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه وحكمه فيهم‏:‏ تارة يكون مستنداً إلى شرع منزلي من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم‏.‏ فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الأخرة والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط‏.‏ وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأساً‏.‏ ويسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك بالمدينة الفاضلة ‏"‏ والقوانين المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامة فإن هذه غير تلك‏.‏ وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير‏.‏ ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين‏:‏ أحدهما يراعى فيها المصالح على العموم ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص‏.‏ وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة‏.‏ وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملة ولعهد الخلافة لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة والآداب وأحكام الملك مندرجة فيها‏.‏ الوجه الثاني أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامة في هذه تبعاً‏.‏ وهذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم فقوانينها إذاً مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية والاقتداء فيها بالشرع أولاً ثم الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم‏.‏ ومن أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما‏.‏ فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور عهد إليه فيه ووصاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الأداب الدينية والخلقية والسياسة الشرعية والملوكية وحثه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم بما لا يستغني عنه ملك ولا سوقة‏.‏ ونص الكتاب‏:‏ نص كتاب طاهر بن الحسين بسم الله الرحمن الرحيم ‏"‏ أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عز وجل ومزايلة سخطه‏.‏ واحفظ رعيتك في الليل والنهار‏.‏ والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسوؤل عنه والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله عز وجل وينجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه‏.‏ فإن الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل فيهم والقيام بحقه وحدوده عليهم والذب عنهم والدفع عن حريمهم ومنصبهم والحقن لدمائهم والأمن لسربهم وإدخال الراحة عليهم‏.‏ ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه وسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت‏.‏ ففرغ لذلك فهمك وعقلك وبصرك ولا يشغلك عنه شاغل وإنه رأس أمرك وملاك شأنك وأول ما يوقفك الله عليه‏.‏ وليكن أول ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعلك المواظبة على ما فرض الله عزوجل عليك من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس قبلك وتوقعها على سننها من إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عزوجل فيها ورتل في قراءتك وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك ولتصرف فيه رايك ونيتك واحضض عليه جماعة ممن معك وتحت يدك وادأب عليها فإنها كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ تنهى عن الفحشاء والمنكر ‏"‏‏.‏ ثم اتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثابرة على خلائقه واقتفاء أثر السلف الصالح من بعده‏.‏ وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عز وجل وتقواه وبلزوم ما أنزل الله عز وجل في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الأثارعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قم فيه بالحق لله عزوجل‏.‏ ولا تميلن عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو لبعيد‏.‏ وآثر الفقه وأهله والدين وحملته وكتاب الله عز وجل والعاملين به فإن أفضل ما يتزين به المرء الفقه في الدين والطلب له والحث عليه والمعرفة بما يتقرب به إلى الله عز وجل فإنه الدليل على الخير كله والقائد إليه والآمر به والناهي عن المعاصي والموبقات كلها‏.‏ ومع توفيق الله عز وجل يزداد المرء معرفة وإجلالاً له ودركاً للدرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثقة بعدلك‏.‏ وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها فليس شيء أبين نفعاً ولا أخص أمناً ولا أجمع فضلاً منه‏.‏ والقصد داعية إلى الرشد والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد فآثره في دنياك كلها‏.‏ ولا تقصر في طلب الأخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد والإعانة والاستكثار من البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقة أولياء الله في دار كرامته‏.‏ واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويمخص من الذنوب وأنك لن تحوط نفسك من قائل ولا تنصلح أمورك بأفضل منه فأته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك وتصلح عامتك وخاصتك‏.‏ وأحسن ظنك بالله عز وجل تستقم لك رعيتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك‏.‏ ولا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم آثم إثم‏.‏ فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم يعنك ذلك على استطاعتهم ورياضتهم‏.‏ ولا تتخذن عدو الله الشيطان في أمرك معمداً فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغم بسوء الظن بهم ما ينقص لذاذة عيشك‏.‏ واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها‏.‏ ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك‏.‏ والمباشرة لأمور الأولياء وحياطة الرعية والنظر في حوائجهم وحمل مؤوناتهم أيسر عندك مما سوى ذلك فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة‏.‏ واخلص نيتك في جميع هذا وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسؤول عما صنع ومجزي بما أحسن ومؤاخذ بما أساء‏.‏ فإن الله عز وجل جعل الدين حرزاً وعزاً ورفع من اتبعه وعززه‏.‏ واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقه الأهدى‏.‏ وأقم حدود الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه ولا تعطل ذلك ولا تتهاون به ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك‏.‏ واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك وتتم لك مروءتك‏.‏ وإذا عاهدت عهداً فأوف به وإذا وعدت الخير فأنجزه‏.‏ واقبل الحسنة وادفع بها‏.‏ واغمض عن عيب كل في عيب من رعيتك واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وابغض أهل النميمة فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب والجراءة على الكذب لأن الكذب رأس المآثم والزور والنميمة خاتمتها لأن النميمة لا يسلم صاحبها وقائلها لا يسلم له صاحب ولا يستقيم له أمر‏.‏ وأحبب أهل الصلاح والصدق وأعز الأشراف بالحق وأعن الضعفاء وصل الرحم وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره والتمس فيه ثوابه والدار الأخرة‏.‏ واجتنب سوء الأهواء والجور واصرف عنهما رأيك وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك‏.‏ وأنعم بالعدل سياستهم وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى‏.‏ واملك نفسك عند وإياك أن تقول أنا مسلط أفعل ما أشاء فإن ذلك سريع إلى نقص الرأي وقلة اليقين لله عز وجل‏.‏ وأخلص لله وحده النية فيه واليقين به‏.‏ واعلم أن الملك لله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء‏.‏ ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى جهلة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا نعم الله وإحسانه واستطالوا بما أعطاهم الله عز وجل من فضله‏.‏ ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم والحفظ لحمائهم والإغاثة لملهوفهم‏.‏ واعلم أن الأموال إذا اكتنزت واذخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف الأذية عنهم نمت وزكت وصلحت بها العامة وترتبت بها الولاية وطاب بها الزمان واعتقد فيها العز والمنفعة‏.‏ فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله‏.‏ ووفر منه على أولياء أمير المومنين قبلك حقوقهم وأوف من ذلك حصصهم وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة لك واستوجبت المزيد من الله تعالى وكنت بذلك على جباية أموال رعيتك وخراجك أقدر وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك‏.‏ وطب نفساً بكل ما أردت وأجهد نفسك فيما حمدت لك في هذا الباب وليعظم حقك فيه وإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله وفي سبيل حقه‏.‏ وأعرف للشاكرين حقهم وأثبهم عليه وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك فإن التهاون يورث التفريط والتفريط يورث البوار‏.‏ وليكن عملك لله عز وجل وفيه وارج الثواب منه فإن الله سبحانه قد أسبغ فضله‏.‏ واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيراً وإحساناً فإن الله عز وجل يثيب بقدر شكر الشاكرين وإحسان المحسنين‏.‏ ولا تحقرن ذنباً ولا تمالئن حاسداً ولا ترحمن فاجراً ولا تصلن كفوراً ولا تداهنن عدواً ولا تصدقن نماماً ولا تأمنن غداراً ولا توالين فاسقاً ولا تتبعن غاوياً ولا تحمدن مرائياً ولا تحقرن إنساناً ولا تردن سائلاً فقيراً ولا تحسنن باطلاً ولا تلاحظن مضحكاً ولا تخلفني وعداً ولا تزهون فخراً ولا تظهرن غضباً ولا تباينن رجاء ولا تمشين مرحاً ولا تزكين سفيهاً ولا تفرطن في طلب الأخرة ولا ترفعن للنمام عيناً ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه أو محاباة ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا‏.‏ وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة‏.‏ ولا تدخلن في مشورتك أهل الرفه والبخل ولا تسمعن لهم قولاً فإن ضررهم أكثر من نفعهم‏.‏ وليس شيء أسرع فساداً لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح‏.‏ واعلم أنك إذا كنت حريصاً كنت كثير الأخذ قليل العطية وإذا كنت كذلك لم يستقم أمرك إلا قليلاً فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عليهم‏.‏ ووال من صافاك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم‏.‏ واجتنب الشح واعلم أنه أول ما عصى الأنسان به ربه وأن العاصي بمنزلة الخزي وهو قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏‏.‏ فسهل طريق الجود بالحق واجعل للمسلمين كلهم في فيئك حظاً ونصيباً وايقن أن الجود أفضل أعمال العباد فأعده لنفسك خلقاً و أرض به عملاً ومذهباً‏.‏ وتفقد الجند في دواوينهم ومكاتبهم وأدر عليهم أرزاقهم ووسع عليهم في معايشهم يذهب الله عز وجل بذلك فاقتهم فيقوى لك أمرهم وتزيد قلوبهم فى طاعتك وأمرك خلوصاً وانشراحاً‏.‏ وحسب في السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته ذا رحمة في عدله وعطيته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته‏.‏ فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضل الباب الأخر ولزوم العمل به تلق أن شاء الله تعالى به نجاحاً وصلاحاً وفلاحاً‏.‏ واعلم أن القضاء من الله تعالى بالمكان الذي ليس فوقه شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذي تعدل عليه أحوال الناس في الأرض‏.‏ وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرعية وتؤمن السبل وينتصف المظلوم وتأخذ الناس حقوق وتحسن المعيشة ويودى حق الطاعة ويرزق الله العافية والسلامة ويقيم الدين‏.‏ ويجري السنن والشرائع في مجاريها‏.‏ واشتد في أمر الله عز وجل‏.‏ وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود‏.‏ وأقلل العجلة وابعد عن الضجر والقلق واقنع بالقسم وانتفع بتجربتك وانتبه في صحتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم وقف عند الشبهة وأبلغ في الحجة ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم وتثبت وتأن وراقب وانظر وتفكر وتدبر واعتبر وتواضع لربك وارفق بجميع الرعية وسلط الحق على نفسك ولا تسرعن إلى سفك دم فإن الدماء من الله عزوجل بمكان عظيم فلا تبغ انتهاكاً لها بغير حقها‏.‏ وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية وجعله الله للإسلام عزاً ورفعة ولأهله توسعة ومنعةً ولعدوه كبتاً وغيظاً ولأهل الكفر من معاديهم ذلاً وصغاراً فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم ولا تدفعن شيئاً منه عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه ولا عن كاتب لك ولا عن أحد من خاصتك ولا حاشيتك ولا تأخذن منه فوق الأحتمال له‏.‏ ولا تكلف أمراً فيه شطط‏.‏ واحمل الناس كلهم على أمر الحق فإن ذلك اجمع لإلفتهم وألزم لرضاء العامة‏.‏ واعلم أنك جعلت بولايتك خازناً وحافظاً وراعياً وإنما سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم‏.‏ فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم‏.‏ واستعمل عليهم أولي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعلم والعدل بالسياسة والعفاف‏.‏ ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك فلا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف‏.‏ فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك واستجررت به المحبة من رعيتك وأعنت على الصلاح فدرت الخيرات ببلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك وكثر خراجك وتوفرت أموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة‏.‏ فتنافس فيها ولا تقدم عليها شيئاً تحمد عاقبة أمرك‏.‏ أن شاء الله تعالى‏.‏ واجعل في كل كورة من عملك أميناً يخبرك خبر عمالك ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم حتى كأنك مع كل عامل في عمله معايناً لأموره كلها‏.‏ وإذا أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت السلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدفاع والصنع فأمضه وإلا فتوقف عنه وراجع أهل البصر والعلم به ثم خذ فيه عدته فإنه ربما نظر الرجل في أمره وقد أتاه على ما يهوى فأغواه ذلك وأعجبه فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره‏.‏ فاستعمل الحزم في كل ما أردت وباشره بعد عون الله عز وجل بالقوة‏.‏ وأكثر من استخارة ربك في جميع أمورك‏.‏ وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك فإن لغد أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت‏.‏ واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه فإذا أخرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيشغلك ذلك حتى تمرض منه‏.‏ وإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت بدنك ونفسك وجمعت أمر سلطانك‏.‏ وانظر أحرار الناس وذوي الفضل منهم ممن بلوت صفاء طويتهم وشهدت مودتهم لك ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم‏.‏ وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل مؤونتهم وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم منافراً وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على ربع مظلمته إليك والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه فسل عنه أحفى مسألة وكل بأمثاله أهل الصلاح في رعيتك ومرهم برفع حوائجهم وخلالهم إليك لتنظر فيما يصلح الله به أمرهم‏.‏ وتعاهد ذوي البأساء ويتماهم وأراملهم واجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله تعالى في العطف عليهم والصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة‏.‏ وأجر للأضراء من بيت المال وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم‏.‏ وانصب لمرضى المسلمين دوراً تأويهم وقواماً يرفقون بهم وأطباء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ما لم يود ذلك إلى سرف في بيت المال‏.‏ واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعاً في نيل الزيادة وفضل الرفق بهم‏.‏ وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ويشغل ذكره وفكره منها ما يناله به من مؤونة ومشقة‏.‏ وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الأجل كالذي يستقل ما يقربه من الله تعالى وتلتمس به رحمته‏.‏ وأكثر الإذن للناس عليك وأرهم وجهك وسكن لهم حواسك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والنطق واعطف عليهم بجودك وفضلك‏.‏ وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى‏.‏ واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية ثم اعتصم في أحوالك كلها بالله سبحانه وتعالى والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسنته وبإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عز وجل‏.‏ واعرف ما يجمع عمالك من الأموال وما ينفقون منها‏.‏ ولا تجمع حراماً ولا تنفق إسرافاً‏.‏ وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها وإيثار مكارم الأخلاق ومعاليها‏.‏ وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في ستر وإعلامك بما فيه من النقص فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك‏.‏ وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتاً يدخل فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمالك وأمور الدولة ورعيتك‏.‏ ثم فرغ لما يورد عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرر النظر فيه والتدبر له فما كان موافقاً للحق والحزم فأمضه واستخر الله عز وجل فيه وما كان مخالفاً لذلك فاصرفه إلى المسألة عنه والتثبت منه‏.‏ ولا تمنن على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم‏.‏ ولا تقبل من أحد إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور المسلمين ولا تضعن المعروف إلا على ذلك‏.‏ وتفهم كتابي إليك وأمعن النظر فيه والعمل به واستعن بالله على جميع أمورك واستخره فإن الله عز وجل مع الصلاح وأهله‏.‏ وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله عز وجل رضاً ولدينه نظاماً ولأهله عزاً وتمكيناً وللملة والذمة عدلاً وصلاحاً‏.‏ وأنا أسأل الله عز وجل أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسلام‏.‏ وحدث الإخباريون أن هذا الكتاب لما ظهر وشاع أمره أعجب به الناس واتصل بالمأمون فلما قرىء عليه قال‏:‏ ما أبقى أبو الطيب يعني طاهراً شيئاً من أمور الدنيا والدين والتدبير والرأي والسياسة وصلاح الملك والرعية وحفظ السلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به‏.‏ ثم أمر المأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي ليقتدوا به ويعملوا بما فيه‏.‏ هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه السياسة‏.‏ والله أعلم‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:29 AM

الفصل الثاني والخمسون في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك
اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح عل أثره وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال أو ينزل معه فيساعده على قتله ويأتم بالمهدي في صلاته‏.‏ ويحتجون في هذا الشأن بأحاديث خرجها الأئمة وتكلم فيها المنكرون لذلك وربما عارضوها ببعض الأخبار‏.‏ وللمتصوفة المتأخرين في أمر هذا الفاطمي طريقة أخرى ونوع من الاستدلال وربما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصل طرائقهم‏.‏ ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشأن وما للمنكرين فيها من المطاعن وما لهم في إنكارهم من المستند ثم نتبعه بذكر كلام المتصوفة ورأيهم ليتبين لك الصحيح من ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏ فنقول‏:‏ إن جماعة من الأئمة خرجوا أحاديث المهدي منهم الترمذي وأبو داود والبزاز وابن ماجة والحاكم والطبراني وأبو يعلى الموصلي وأسندوها إلى جماعة من الصحابة‏:‏ مثل علي وابن عباس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدري وأم حبيبة وأم سلمة وثوبان وقرة بن إياس وعلي الهلالي وعبد الله بن الحارث بن جزء بأسانيد ربما يعرض لها المنكرون كما نذكره‏.‏ إلا أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل‏.‏ فإذا وجدنا طعناً في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي تطرق ذلك إلى صحة الحديث وأوهن منها‏.‏ ولا تقولن‏:‏ مثل ذلك ربما يتطرق إلى رجال الصحيحين فإن الاجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول والعمل بما فيهما وفي الاجماع أعظم حماية وأحسن دفع‏.‏ وليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك فقد نجد مجالاً للكلام في أسانيدها بما نقل عن أئمة الحديث في ذلك‏.‏ ولقد توغل أبو بكر بن أبي خيثمة على ما نقل السهيلي عنه في جمعه للأحاديث الواردة في المهدي فقال‏:‏ ومن أغربها إسناداً ما ذكره أبو بكر الإسكاف في فوائد الأخبار مسنداً إلى مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من كذب بالمهدي فقد كفر ومن كذب بالدجال فقد كذب ‏"‏‏.‏ وقال في طلوع الشمس من مغربها مثل ذلك فيما أحسب‏.‏ وحسبك هذا غلواً‏.‏ والله أعلم بصحة طريقه إلى مالك بن أنس‏.‏ على أن أبا بكر الإسكاف عندهم متهم وضاع‏.‏ وأما الترمذي فخرج هو وأبو داود بسنديهما إلى ابن عباس من طريق عاصم بن أبي النجود أحد القراء السبعة إلى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ‏"‏‏.‏ هذا لفظ أبي داود وسكت عليه‏.‏ وقال في رسالته المشهورة‏:‏ إن ما سكت عليه في كتابه فهو صالح‏.‏ ولفظ الترمذي‏:‏ ‏"‏ لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي ‏"‏ وفي لفظ آخر‏:‏ ‏"‏ حتى يلي رجل من أهل بيتي وكلاهما حديث حسن صحيح‏.‏ ورواه أيضاً من طريق موقوفاً على أبي هريرة‏.‏ وقال الحاكم‏:‏ رواه الثورى وشعبة وزائدة وغيرهم من أئمة المسلمين عن عاصم قال‏:‏ وطرق عاصم عن زرعن عبد الله كلها صحيحة على ما أصلته من الاحتجاج بأخبار عاصم إذ هو إمام من أئمة المسلمين‏.‏ انتهى‏.‏ إلأ أن عاصماً قال فيه أحمد بن حنبل‏:‏ كان رجلاً صالحاً قارئاً للقرآن خيراً ثقة والأعمش أحفظ منه‏.‏ وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث‏.‏ وقال العجلي‏:‏ كان يختلف عليه في زر وأبي وائل يشير بذلك إلى ضعف روايته عنهما‏.‏ وقال محمد بن سعد‏:‏ كان ثقة إلا أنه كثير الخطإ في حديثه‏.‏ وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ في حديثه اضطراب‏.‏ وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم‏:‏ قلت لأبي أن أبا زرعة يقول‏:‏ عاصم ثقة فقال‏:‏ ليس محله هذا‏.‏ وقد تكلم فيه ابن علية فقال‏:‏ كل من اسمه عاصم سيىء الحفظ‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ محله عندي محل الصدق صالح الحديث ولم يكن بذلك الحافظ‏.‏ واختلف فيه قول النسائي‏.‏ وقال ابن حراش‏:‏ في حديثه نكرة‏.‏ وقال أبو جعفر العقيلي‏:‏ لم يكن فيه إلا سوء الحفظ وقال الدار قطني‏:‏ في حفظه شيء‏.‏ وقال يحيى القطان‏:‏ ما وجدت رجلاً اسمه عاصم إلا وجدته رديء الحفظ‏.‏ وقال أيضاً سمعت شعبة يقول‏:‏ حدثنا عاصم بن أبي النجود وفي الناس ما فيها وقال الذهبي‏:‏ ثبت في القراءة وهو في الحديث دون التثبت صدوق فهم وهو حسن الحديث‏.‏ وإن احتج أحد بأن الشيخين أخرجا له فنقول أخرجا له مقروناً بغيره لا أصلاً‏.‏ والله أعلم‏.‏ وخرج أبو داود في الباب عن علي رضي الله عنه من رواية فطر بن خليفة عن القاسم بن أبي مرة عن أبي الطفيل عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً ‏"‏‏.‏ وفطر بن خليفة وإن وثقه احمد ويحيى بن القطان وابن معين والنسائي وغيرهم إلا أن العجلي قال‏:‏ حسن الحديث وفيه تشيع قليل‏.‏ وقال ابن معين مرة‏:‏ ثقة شيعي‏.‏ وقال أحمد بن عبد الله بن يونس‏:‏ كنا نمر على فطر وهو مطروح لا نكتب عنه‏.‏ وقال مرة‏:‏ كنت أمر به وأدعه مثل الكلب‏.‏ وقال الدار قطني‏:‏ لا يحتج به‏.‏ وقال أبو بكر بن عياش‏:‏ ما تركت الرواية عنه إلا لسوء مذهبه‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ زائغ غير ثقة‏.‏ انتهى‏.‏ وخرج أبو داود أيضاً بسنده إلى علي رضي الله عنه عن هارون بن المغيرة عن عمر بن أبي قيس عن شعيب بن أبي خالد عن أبي إسحاق السبيعي قال‏:‏ قال علي ونظر إلى ابنه الحسين‏:‏ ‏"‏ إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض عدلاً ‏"‏‏.‏ وقال هارون‏:‏ حدثنا عمر بن أبي قيس عن مطرف بن طريف عن أبي الحسن عن هلال بن عمر سمعت علياً يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث على مقدمته رجل يقال له منصور يوطىء أو يمكن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجب على كل مؤمن نصره أو قال إجابته ‏"‏ سكت أبو داود عليه‏.‏ وقال في موضع آخر في هارون‏:‏ هو من ولد الشيعة‏.‏ وقال السليماني‏:‏ فيه نظر‏.‏ وقال أبو داود في عمر بن أبي قيس‏:‏ لا بأس به في حديثه خطأ‏.‏ وقال الذهبي‏:‏ صدق له أوهام‏.‏ وأما أبو إسحاق السبيعي وإن خرج عنه في الصحيحين فقد ثبت أنه اختلط آخر عمره وروايته عن علي منقطعة وكذلك رواية أبي داود عن هارون بن المغيرة‏.‏ وأما السند الثاني فأبو الحسن فيه وهلال بن عمر مجهولان ولم يعرف أبو الحسن إلا من رواية مطرف بن طريف عنه‏.‏ انتهى‏.‏ وخرج أبو داود أيضاً عن أم سلمة وكذا ابن ماجة والحاكم في المستدرك من طريق علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ المهدي من ولد فاطمة ‏"‏‏.‏ ولفظ الحاكم‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر المهدي فقال‏:‏ ‏"‏ نعم هو حق وهو من بني فاطمة ‏"‏‏.‏ ولم يتكلم عليه بصحيح ولا غيره وقد ضعفه أبو جعفرالعقيلي وقال‏:‏ ‏"‏ لا يتابع علي بن نفيل عليه ولايعرف إلا به ‏"‏‏.‏ وخرج أبوداود أيضاً عن أم سلمة من رواية صالح بن الخليل عن صاحب له عن أم سلمة قال‏:‏ ‏"‏ يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام فيبعث إليه بعث من الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام وعصائب أهل العراق فيبايعونه‏.‏ ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثاً فيظهرون عليهم وذلك بعث كلب‏.‏ والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب فيقسم المال ويعمل في الناس بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ويلقي الإسلام بجرانه على الأرض فيلبث سبع سنين ‏"‏‏.‏ وقال بعضهم تسع سنين‏.‏ ثم رواه أبو داود من رواية أبي خليل عن عبد الله بن الحارث عن أم سلمة فتبين بذلك المبهم في الإسناد الأول‏.‏ ورجاله رجال الصحيحين لا مطعن فيهم ولا مغمز‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنه من رواية قتادة عن أبي الخليل وقتادة مدلس وقد عنعنه والمدلس لا يقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع‏.‏ مع أن الحديث ليس فيه تصريح بذكر المهدي نعم ذكره أبو داود في أبوابه‏.‏ وخرج أبو داود أيضاً وتابعه الحاكم عن أبي سعيد الخدري من طريق عمران القطان عن قتادة عن أبي بصرة عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً يملك سبع سنين ‏"‏‏.‏ هذا لفظ أبي داود وسكت عليه‏.‏ ولفظ الحاكم‏:‏ ‏"‏ المهدي منا أهل البيت أشم الأنف أقنى أجلى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يعيش هكذا وبسط يساره وإصبعين من يمينه السبابة والإبهام وعقد ثلاثة ‏"‏ قال الحاكم‏:‏ هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وعمران القطان مختلف في الاحتجاج به إنما أخرج له البخاري استشهاداً لا أصلاً‏.‏ وكان يحيى القطان لا يحدث عنه‏.‏ وقال يحيى بن معين‏:‏ ليس بالقوي وقال مرة‏:‏ ليس بشيء‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ أرجو أن يكون صالح الحديث‏.‏ وقال يزيد بن زريع‏:‏ كان حرورياً وكان يرى السيف على أهل القبلة‏.‏ وقال النسائي‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال أبو عبيد الأجري‏:‏ سالت أبا داود عنه فقال من أصحاب الحسن وما سمعت إلا خيراً‏.‏ وسمعتة مرة أخرى ذكره فقال‏:‏ ضعيف أفتى في أيام إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها سفك الدماء وخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد الخدري من طريق زيد العمي عن أبي صديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ خشينا أن يكون بعض شيء حدث فسألنا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن في أمتي المهدي يخرج يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً ‏"‏‏.‏ زيد الشاك قال قلنا‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ سنين‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏ فيجيء إليه الرجل فيقول‏:‏ يا مهدي أعطني ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله ‏"‏‏.‏ لفظ الترمذي قال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ وقد روي من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ ابن ماجة والحاكم‏:‏ ‏"‏ يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع وإلا فتسع فتنعم أمتي فيه نعمة لم ينعموا بمثلها قط تؤتي الأرض أكلها ولا يذخر منه شيء‏.‏ والمال يومئذ كدوس فيقوم الرجل فيقول‏:‏ يا مهدي أعطني‏!‏ فيقول خذ‏!‏‏.‏ انتهى‏.‏ وزيد العمي وإن قال فيه الدار قطني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين إنه صالح وزاد أحمد‏:‏ إنه فوق يزيد الرقاشي وفضل بن عيسى إلا أنه قال فيه أبو حاتم‏:‏ ضعيف يكتب حديثه ولا يحتج به‏.‏ وقال يحيى بن معين في رواية أخرى‏:‏ لا شيء‏.‏ وقال مرة‏:‏ يكتب حديثة وهو ضعيف‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ متماسك وقال أبو زرعة‏:‏ ليس بقوي واهي الحديث ضعيف‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ ليس بذاك وقد حدث عنه شعبة‏.‏ وقال النسائي‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال ابن عدي‏:‏ عامة ما يرويه ومن يروي عنهم ضعفاء على أن شعبة قد روى عنه ولعل شعبة لم يرو عن أضعف منه‏.‏ وقد يقال أن حديث الترمذي وقع تفسيراً لما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثواً‏.‏ لا يعده عداً ‏"‏‏.‏ ومن حديث أبي سعيد قال‏:‏ ‏"‏ من خلفائكم خليفة يحثو المال حثواً ‏"‏‏.‏ ومن طريق أخرى عنهما قال‏:‏ ‏"‏ يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏ وأحاديث مسلم لم يقع فيها ذكر المهدي ولا دليل يقوم على أنه المراد منها‏.‏ ورواه الحاكم أيضاً من طريق عوف الأعرابي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض جوراً وظلماً وعدواناً ثم يخرج من أهل بيتي رجل يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً ‏"‏‏.‏ وقال فيه الحاكم‏:‏ هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه‏.‏ ورواه الحاكم أيضاً من طريق سليمان بن عبيد عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يخرج في آخر أمتي المهدي يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي المال صحاحاً وتكثر الماشية وتعظم الأمة يعيش سبعاً أو ثماني ‏"‏‏.‏ يعني حججاً‏.‏ وقال فيه حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏.‏ مع أن سليمان بن عبيد لم يخرج له أحد من الستة لكن ذكره ابن حيان في الثقات ولم يرد أن أحداً تكلم فيه‏.‏ ثم رواه الحاكم أيضاً من طريق أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن مطر الوراق وأبو هارون العبدي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ تملأ الأرض جوراً وظلماً فيخرج رجل من عترتي فيملك سبعاً أو تسعاً فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ‏"‏‏.‏ وقال الحاكم فيه‏:‏ هذا حديث صحيح على شرط مسلم وإنما جعله على شرط مسلم لأنه أخرج عن حماد بن سلمة وعن شيخه مطر الوراق‏.‏ وأما شيخه الآخر وهو أبو هارون العبدي فلم يخرج له‏.‏ وهو ضعيف جداً متهم بالكذب ولا حاجة إلى بسط أقوال الأئمة في تضعيفه‏.‏ وأما الراوي له عن حماد بن سلمة وهو أسد بن موسى ويلقب أسد السنة وإن قال البخاري‏:‏ مشهور الحديث واستشهد به في صحيحه واحتج به أبو داود والنسائي إلا أنه قال مرة أخرى‏:‏ ثقة لو لم يصنف كان خيراً له‏.‏ وقال فيه محمد بن حزم‏:‏ منكر الحديث‏.‏ ورواه الطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي الواصل عبد الحميد بن واصل عن أبي الصديق الناجي عن الحسن بن يزيد السعدي أحد بني بهدلة عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ يخرج رجل من أمتي يقول بسنتي ينزل الله عز وجل له القطر من السماء وتخرج الأرض بركتها وتملأ الأرض منه قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يعمل على هذه الأمة سبع سنين وينزل على بيت المقدس ‏"‏‏.‏ وقال الطبراني فيه ورواه جماعة عن أبي الصديق ولم يدخل أحد منهم بينه وبين أبي سعيد أحداً ا إلا أبا الواصل فإنه رواه عن الحسن بن يزيد عن أبي سعيد‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الحسن بن يزيد ذكره ابن أبي حاتم ولم يعرفه بأكثر مما في هذا الإسناد من روايته عن أبي سعيد ورواية أبي الصديق عنه‏.‏ وقال الذهبي في الميزان إنه مجهول‏.‏ لكن ذكره ابن حبان في الثقات‏.‏ وأما أبو الواصل الذي رواه عن أبي الصديق فلم يخرج له أحد من الستة‏.‏ وذكره ابن حبان في الثقات في الطبقة الثانية وقال فيه‏:‏ يروي عن أنس وروى عنه شعبة وعتاب بن بشر‏.‏ وخرج ابن ماجة في كتاب السنن عن عبد الله بن مسعود من طريق يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال‏:‏ بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل فتية من بني هاشم فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه وتغير لونه قال فقلت ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه فقال‏:‏ إنا أهل البيت اختار الله لنا الأخرة على الدنيا وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريداً وتطريداً حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود فيسألون الخير فلا يعطونه فيقاتلون وينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملأها قسطاً كما ملؤوها جوراً‏.‏ فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الحديث يعرف عند المحدثين بحديث الرايات‏.‏ ويزيد بن أبي زياد راوية قال فيه شعبة‏:‏ كان رفاعاً يعني يرفع الأحاديث التي لا تعرف مرفوعة‏.‏ وقال محمد بن الفضيل‏:‏ كان من كبار أئمة الشيعة‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ لم يكن بالحافظ وقال مرة‏:‏ حديثه ليس بذلك‏.‏ وقال يحيى بن معين‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال العجلي‏:‏ جائز الحديث‏.‏ وكان بآخره يلقن‏.‏ وقال أبو زرعة‏:‏ لين يكتب حديثه ولا يحتج به‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ ليس بالقوي‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ سمعتهم يضعفون حديثه‏.‏ وقال أبو داود‏:‏ لا أعلم أحداً ترك حديثة وغيره أحب إلي منه‏.‏ وقال ابن عدي‏:‏ هو من شيعة أهل الكوفة ومع ضعفه يكتب حديثه‏.‏ وروى له مسلم لكن مقروناً بغيره‏.‏ وبالجملة فالأكثرون على ضعفه‏.‏ وقد صرح الأئمة بتضعيف هذا الحديث الذي رواه عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله وهو حديث الرايات‏.‏ وقال وكيع بن الجراح فيه‏:‏ ليس بشيء‏.‏ وكذلك قال أحمد بن حنبل‏.‏ وقال أبو قدامة‏:‏ سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد عن إبراهيم في الرايات لو حلف عندي خمسين يميناً قسامة ما صدقته أهذا مذهب إبراهيم أهذا مذهب علقمة أهذا مذهب عبد الله‏!‏ وأورد العقيلي هذا الحديث في الضعفاء‏.‏ وقال الذهبي‏:‏ ليس بصحيح‏.‏ وخرج ابن ماجة عن علي رضي الله عنه من رواية ياسين العجلي عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ المهدي منا أهل البيت يصلح الله به في ليلة ‏"‏‏.‏ وياسين العجلي وإن قال فيه ابن معين ليس به بأس فقد قال البخاري‏:‏ فيه نظر‏.‏ وهذه اللفظة من اصطلاحه قوية في التضعيف جداً‏.‏ وأورد له ابن عدي في الكامل والذهبي في الميزان هذا الحديث على وجه الاستنكار له وقال هو معروف به‏.‏ وخرج الطبراني في معجمه الأوسط عن علي رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أمنا المهدي أم من غيرنا يا رسول الله فقال‏:‏ ‏"‏ بل منا بنا يختم الله كما بنا فتح وبنا يستنقذون من الشرك وبنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة بينة كما بنا ألف بين قلوبهم بعد عداوة الشرك ‏"‏‏.‏ قال علي‏:‏ أمومنون أم كافرون قال‏:‏ ‏"‏ مفتون وكافر ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏ وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال‏.‏ وفيه عمر بن جابر الحضرمي وهو أضعف منه‏.‏ قال أحمد بن حنبل‏:‏ روي عن جابر مناكير وبلغني أنه كان يكذب وقال النسائي‏:‏ ليس بثقة وقال كان ابن لهيعة شيخاً أحمق ضعيف العقل وكان يقول‏:‏ ‏"‏ علي في السحاب ‏"‏ وكان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول‏:‏ ‏"‏ هذا علي قد مر في السحاب ‏"‏‏.‏ وخرج الطبراني عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يكون في آخر الزمان فتنة يحصل الناس فيها كما يحصل الذهب في المعدن‏.‏ فلا تسبوا أهل الشام ولكن سبوا أشرارهم فإن فيهم الأبدال يوشك أن يرسل على أهل الشام صيب من السماء فيفرق جماعتهم حتى لو قاتلتهم الثعالب غلبتهم‏.‏ فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات المكثر يقول هم خمسة عشر ألفاً والمقلل يقول هم اثنا عشر ألفاً وأمارتهم ‏"‏ أمت أمت ‏"‏ يلقون سبع رايات تحت كل راية منها رجل يطلب الملك فيقتلهم الله جميعاً ويرد الله إلى المسلمين ألفتهم ونعمتهم وقاصيتهم ورايتهم‏.‏ وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال‏.‏ ورواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه في روايته‏.‏ ثم يظهر الهاشمي فيرد الله الناس إلى الفتهم‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلخ وليس في طريقه ابن لهيعة وهو إسناد صحيح كما ذكر‏.‏ وخرج الحاكم في المستدرك عن علي رضي الله عنه من رواية أبي الطفيل عن محمد بن الحنفية قال‏:‏ ‏"‏ كنا عند علي رضي الله عنه فسأله رجل عن المهدي فقال علي‏:‏ هيهات‏.‏ ثم عقد بيده سبعاً فقال ذلك يخرج في آخر الزمان إذا قال الرجل الله الله قتل ويجمع الله له قوماً قزعاً كقزع السحاب يؤلف الله بين قلوبهم فلا يستوحشون إلى أحد ولا يفرحون بأحد دخل فيهم عدتهم على عدة أهل بدر لم يسبقهم الأولون ولا يدركهم الأخرون وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر‏.‏ قال أبو الطفيل قال ابن الحنفية‏:‏ أتريده قلت‏:‏ نعم‏!‏ قال‏:‏ فإنه يخرج من بين هذين الأخشبين‏.‏ قلت لا جرم والله ولا أدعها حتى أموت ومات بها يعني مكة قال الحاكم‏:‏ هذا حديث صحيح على شرط الشيخين‏.‏ انتهى‏.‏ وإنما هو على شرط مسلم فقط فإن فيه عماراً الذهني ويونس بن أبي إسحاق ولم يخرج لهما البخاري وفيه عمرو بن محمد العنقزي ولم يخرج له البخاري احتجاجاً بل استشهاداً مع ما ينضم إلى ذلك من تشيع عمار الدهني وهو وإن وثقه أحمد وابن معيني وأبو حاتم والنسائي وغيرهم فقد قال علي بن المديني عن سفيان أن بشر بن مروان قطع عرقوبيه قلت في أي شيء قال‏:‏ في التشيع‏.‏ وخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه في رواية سعد بن عبد الحميد بن جعفر عن علي بن زياد اليمامي عن عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبد الله عن أنس قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ نحن ولد عبد المطلب سادات أهل الجنة أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏ وعكرمة بن عمار وإن أخرج له مسلم فإنما أخرج له متابعة‏.‏ وقد ضعفه بعض ووثقه آخرون‏.‏ وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ هو مدلس فلا يقبل إلا أن يصرح بالسماع‏.‏ وعلي بن زياد قال الذهبي في الميزان‏:‏ لا ندري من هو ثم قال الصواب فيه عبد الله بن زياد‏.‏ وسعد بن عبد الحميد وإن وثقه يعقوب بن أبي شيبة وقال فيه يحيى بن معين ليس به بأس فقد تكلم فيه الثوري قالوا لأنه رآه يفتي في مسائل ويخطىء فيها‏.‏ وقال ابن حيان‏:‏ كان ممن فحش عطاؤه فلا يحتج به‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ سعد بن عبد الحميد يدعي أنه سمع عرض كتب مالك والناس ينكرون عليه ذلك وهو ههنا ببغداد لم يحج فكيف سمعها وجعله الذهبي ممن لم يقدح فيه كلام من تكلم فيه‏.‏ وخرج الحاكم في مستدركه من رواية مجاهد عن ابن عباس موقوفاً عليه قال مجاهد قال لي ابن عباس‏:‏ لو لم أسمع أنك مثل أهل البيت ما حدثتك بهذا الحديث قال فقال مجاهد‏:‏ فإنه في ستر لا أذكره لمن يكره‏!‏ قال فقال ابن عباس‏:‏ ‏"‏ منا أهل البيت أربعة‏:‏ منا السفاح ومنا المنذر ومنا المنصور ومنا المهدي‏.‏ قال فقال مجاهد‏:‏ بين لي هؤلاء الأربعة‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ أما السفاح فربما قتل أنصاره وعفا عن عدوه وأما المنذر أراه قال فإنه يعطي المال الكثير ولا يتعاظم في نفسه ويمسك القليل من حقه وأما المنصور فإنه يعطي النصر على عدوه الشطر مما كان يعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرهب منه عدوه على مسيرة شهرين والمنصور يرهب منه عدوه على مسيرة شهر وأما المهدي فإنه الذي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وتأمن البهائم السباع وتلقي الأرض أفلاذ كبدها قال‏:‏ لاقلت وما أفلاذ كبدها قال‏:‏ أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة ‏"‏‏.‏ وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وهو من رواية إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه‏.‏ وإسماعيل ضعيف وإبراهيم أبوه وإن خرج له مسلم فالأكثرون على تضعيفه‏!‏‏.‏ وخرج ابن ماجة عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلى واحد منهم ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونهم قتلاً لم يقتله قوم‏.‏ ثم ذكر شيئاً لا أحفظه قال‏:‏ ‏"‏ فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج فإنه خليفة الله المهدي‏.‏ ورجاله رجال الصحيحين إلا أن فيه أبا قلابة الجرمي وذكر الذهبي وغيره أنه مدلس وفيه سفيان الثوري وهو مشهور بالتدليس وكل واحد منهما عنعن ولم يصرح بالسماع فلا يقبل وفيه عبد الرزاق بن همام وكان مشهوراً بالتشيع وعمي في آخر وقته فخلط قال ابن عدي حدث بأحاديث في الفضائل لم يوافقه عليها أحد ونسبوه إلى التشيع‏.‏ انتهى‏.‏ وخرج ابن ماجة عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي من طريق ابن لهيعة عن أبي زرعة عن عمر بن جابر الحضرمي عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي ‏"‏‏.‏ يعني سلطانه‏.‏ قال الطبراني تفرد به ابن لهيعة وقد تقدم لنا في حديث علي الذي خرجه الطبراني في معجمه الأوسط أن ابن لهيعة ضعيف وأن شيخه عمر بن جابر أضعف منه‏.‏ وخرج البزار في مسنده والطبراني في معجمه الأوسط واللفظ للطبراني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع وإلا فثمان وإلا فتسع تنعم فيها أمتي نعمة لم ينعموا بمثلها‏:‏ ترسل السماء عليهم مدراراً ولا تذخر الأرض شيئاً من النبات والمال كدوس يقوم الرجل يقول يا مهدي أعطني فيقول خذ‏!‏ قال الطبراني والبزار تفرد به محمد بن مروان العجلي‏.‏ زاد البزار‏:‏ ولا نعلم أنه تابعه عليه أحد وهو وإن وثقه أبو داود وابن حبان أيضاً بما ذكره في الثقات وقال فيه يحيى بن معين‏:‏ صالح وقال مرة ليس به بأس فقد اختلفوا فيه‏.‏ قال أبو زرعة ليس عندي بذلك وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل‏:‏ رأيت محمد بن مروان العجلي حدث بأحاديث وأنا شاهد لم نكتبها تركتها على عمد وكتب بعض أصحابنا عنه كأنه ضعفه‏.‏ وخرج أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ حدثني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي فيضربهم حتى يرجعوا إلى الحق‏.‏ قال‏:‏ قلت وكم يملك‏.‏ قال خمساً واثنتين‏.‏ قال قلت‏:‏ وما ‏"‏ خمساً واثنتين قال‏:‏ ‏"‏ لا أدري ‏"‏‏.‏ وهذا السند وإن كان فيه بشير بن نهيك وقال فيه أبو حاتم لا يحتج به فقد احتج به الشيخان ووثقه الناس ولم يلتفتوا إلى قول أبي حاتم لا يحتج به‏.‏ إلا أن فيه رجاء بن أبي رجاء اليشكري وهو مختلف فيه‏.‏ قال أبو زرعة‏:‏ ثقة وقال يحيى بن معين‏:‏ ضعيف وقال أبو داود‏:‏ ضعيف وقال فيه‏:‏ صالح‏.‏ وعلق له البخاري في صحيحه حديثاً واحداً‏.‏ وخرج أبو بكر البزار في مسنده والطبراني في معجمه الكبير والأوسط عن قرة بن إياس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لتملأن الأرض جوراً وظلماً فإذا ملئت جوراً وظلماً بعث الله رجلاً من أمتي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً فلا تمنع السماء من قطرها شيئاً ولا تدخر الأرض شيئاً من نباتها‏.‏ يلبث فيكم سبعاً أوثماني أوتسعاً ‏"‏‏.‏ يعني سنين‏.‏ وفيه داود بن المجبر بن قحذم عن أبيه وهما ضعيفان جداً‏.‏ وخرج الطبراني في معجمه الأوسط عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المهاجرين والأنصار وعلي بن أبي طالب عن يساره والعباس عن يمييه إذ تلاحى العباس ورجل من الأنصار فأغلظ الأنصاري للعباس فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد العباس وبيد علي وقال‏:‏ ‏"‏ سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جوراً وظلماً وسيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً‏.‏ فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي فإنه يقبل من قبل المشرق وهو صاحب راية المهدي‏.‏ وخرج الطبراني في معجمه الأوسط عن طلحة بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ستكون فتنة لا يسكن فيها جانب إلا تشاجر جانب حتى ينادي مناد من السماء أن أميركم فلان‏.‏ وفيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف جداً‏.‏ وليس في الحديث تصريح ذكر المهدي وإنما ذكروه في أبوابه وترجمته استئناساً‏.‏ فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان‏.‏ هي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه‏.‏ وربما تمسك المنكرون لشأنه بما رواه محمد بن خالد الجندي عن أبان بن صالح بن أبي عياش عن الحسن البصري عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا مهدي إلا عيسى ابن مريم ‏"‏‏.‏ وقال يحيى بن معين في محمد بن خالد الجندي‏:‏ إنه ثقة‏.‏ وقال البيهقي‏:‏ تفرد به محمد بن خالد‏.‏ وقال الحاكم فيه‏:‏ إنه رجل مجهول‏.‏ واختلف عليه في إسناده‏:‏ فمرة يروي كما تقدم وينسب ذلك لمحمد بن إدريس الشافعي ومرة يروي عن محمد بن خالد عن أبان عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً‏.‏ قال البيهقي‏:‏ فرجع إلى رواية محمد بن خالد وهو مجهول عن أبان بن أبي عياش وهو متروك عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو منقطع وبالجملة فالحديث ضعيف مضطرب‏.‏ وقد قيل في‏:‏ ‏"‏ أن لا مهدي إلا عيسى ‏"‏ أي لا يتكلم في المهد إلا عيسى يحاولون بهذا التأويل رد الاحتجاج به أو الجمع بينه وبين الأحاديث وهو مدفوع بحديث جريح‏.‏ ومثله من الخوارق‏.‏ وأما المتصوفة فلم يكن المتقدمون منهم يخوضون في شيء من هذا وإنما كان كلامهم في المجاهدة بالأعمال وما يحصل عنها من نتائج المواجد والأحوال وكان كلام الإمامية والرافضة من الشيعة في تفضيل علي رضي الله تعالى عنه والقول بإمامته وادعاء الوصية له بذلك من النبي صلى الله عليه وسلم والتبري من الشيخين كما ذكرناه في مذاهبهم‏.‏ ثم حدث فيهم بعد ذلك القول بالإمام المعصوم وكثرت التآليف في مذاهبهم‏.‏ وجاء الإسماعيلية منهم يدعون ألوهية الإمام بنوع من الحلول وآخرون يدعون رجعة من مات من الأئمة بنوع التناسخ وآخرون منتظرون مجيء من يقطع بموته منهم وآخرون منتظرون عود الأمر في أهل البيت مستدلين على ذلك بما قدمناه من الأحاديث في المهدي وغيرها‏.‏ ثم حدث أيضاً عند المتأخرين من الصوفية الكلام في الكشف وفيما وراء الحس‏.‏ وظهر من كثير منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة فشاركوا فيها الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة وحلول الإله فيهم‏.‏ وظهر منهم أيضاً القول بالقطب والأبدال وكأنه يحاكي مذهب الرافضة في الإمام والنقباء‏.‏ وأشربوا أقوال الشيعة وتوغلوا في الديانة بمذاهبهم حتى لقد جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أن علياً رضي الله عنه ألبسها الحسن البصري وأخذ عليه العهد بالتزام الطريقة‏.‏ واتصل ذلك عنهم بالجنيد من شيوخهم‏.‏ ولايعلم هذا عن علي من وجه صحيح‏.‏ ولم تكن هذه الطريقة خاصة بعلي كرم الله وجهه بل الصحابة كلهم أسوة في طرق الهدى وفي تخصيص هذا بعلي دونهم رائحة من التشيع قوية يفهم منها ومن غيرها مما تقدم دخولهم في التشيع وانخراطهم في سلكه‏.‏ وظهر منهم أيضاً القول بالقطب وامتلأت كتب الإسماعيلية من الرافضة وكتب المتأخرين من المتصوفة بمثل ذلك في الفاطمي المنتظر‏.‏ وكان بعضهم يمليه على بعض ويلقنه بعضهم من بعض وكأنه مبني على أصول واهية من الفريقين‏.‏ وربما يستدل بعضهم بكلام المنجمين في القرانات وهو من نوع الكلام في الملاحم ويأتي الكلام عليها في الباب الذي يلي هذا‏.‏ وأكثر من تكلم من هؤلاء المتصوفة المتأخرين في شأن الفاطمي ابن العربي الحاتمي في كتاب عنقاء مغرب وابن قسي في كتاب خلع النعلين وعبد الحق بن سبعين وابن أبي واطيل تلميذه في شرحه كتاب خلع النعلين‏.‏ وأكثر كلماتهم في شأنه ألغاز وأمثال وربما يصرحون في الأقل و يصرح مفسر وكلامهم‏.‏ وحاصل مذهبهم فيه على ما ذكر ابن أبي واطيل أن النبوة بها ظهر الحق والهدى بعد الضلال والعمى وأنها تعقبها الخلافة ثم يعقب الخلافة الملك ثم يعود تجبراً وتكبراً وباطلاً‏.‏ قالوا‏:‏ ولما كان في المعهود من سنة الله رجوع أمور إلى ما كانت وجب أن يحيا أمر النبوة والحق بالولاية ثم بخلافتها ثم يعقبها الدجل مكان الملك والتسلط ثم يعود الكفر بحاله‏.‏ يشيرون بهذا لما وقع من شأن نبوة والخلافة بعدها والملك بعد الخلافة‏:‏ هذه ثلاث مراتب‏.‏ وكذلك الولاية التي هي لهذا الفاطمي والدجل بعدها كناية عن خروج الدجال على أثره والكفر من بعد ذلك‏.‏ فهي ثلاث مراتب على نسبة الثلاث مراتب الأولى‏.‏ قالوا‏:‏ ولما كان أمر الخلافة لقريش حكماً شرعياً بالإجماع الذي لا يوهنه إنكار من لم يزاول علمه وجب أن تكون الإمامة فيمن هو أخص من قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم إما ظاهراً كبني عبد المطلب وأما باطناً ممن كان من حقيقة الآل والآل من إذا حضر لم يغب من هو آله‏.‏ وابن العربي الحاتمي سماه في كتابه ‏"‏ عنقاء مغرب ‏"‏ من تأليفه‏:‏ خاتم الأولياء وكنى عنه بلبنة الفضة إشارة إلى حديث البخاري في باب خاتم النبيين قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مثلي فيمن قبلي من الأنبياء كمثل رجل ابتنى بيتاً وأكمله حتى إذا لم يبق منه إلا موضع لبنة فأنا تلك اللبنة ‏"‏‏.‏ فيفسرون خاتم النبيين باللبنة التي أكملت البنيان ومعناه النبي الذي حصلت له النبوة الكاملة‏.‏ ويمثلون الولاية في تفاوت مراتبها بالنبوة ويجعلون صاحب الكمال فيها خاتم الأولياء أي حائز الرتبة التي هي خاتمة الولاية كما كان خاتم الأنبياء حائزاً للمرتبة التي هي خاتمة النبوة‏.‏ فكنى الشارع عن تلك المرتبة الخاتمة بلبنة البيت في الحديث المذكور‏.‏ وهما على نسبة واحدة فيها‏.‏ فهي لبنة واحدة في التمثيل‏.‏ ففي النبوة لبنة ذهب وفي الولاية لبنة فضة للتفاوت بين الرتبتين كما بين الذهب والفضة‏.‏ فيجعلون لبنة الذهب كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم ولبنة الفضة كناية عن هذ الولي الفاطمي المنتظر وذلك خاتم الأنبياء وهذا خاتم الأولياء‏.‏ وقال ابن العربي فيما نقل ابن أبي واطيل عنه‏:‏ وهذا الإمام المنتظر وهو من أهل البيت من ولد فاطمة وظهوره يكون من بعد مضي - خ ف ج - من الهجرة ورسم حروفاً ثلاثة يريد عددها بحساب الجمل وهو الخاء المعجمة بواحدة من فوق ستمائة والفاء أخت القاف بثمانين والجيم المعجمة بواحده من أسفل ثلاثة وذلك ستمائة وثلاث وثمانون سنة وهي في آخرالقرن السابع‏.‏ ولما انصرم هذا العصر ولم يظهر حمل ذلك بعض المقلدين لهم على أن المراد بتلك المئة مولده وعبر بظهوره عن مولده وأن خروجه يكون بعد العشر والسبعمائة فإنه الإمام الناجم من ناحية المغرب ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وإذا كان مولده كما زعم ابن العربي سنة ثلاث وثمانين وستمائة فيكون عمره عند خروجه ستاً وعشرين سنة‏.‏ قال‏:‏ وزعموا أن خروج الدجال يكون سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة من اليوم المحمدي وابتداء اليوم المحمدي عندهم من يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى تمام ألف سنة لما‏.‏ قال ابن أبي واطيل في شرحه كتاب خلع النعلين‏:‏ الولي المنتظر القائم بأمر الله المشار إليه بمحمد المهدي وخاتم الأولياء وليس هو بنبي وإنما هو ولي ابتعثه روحه وحبيه‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ العالم في قومه كالنبي في أمته ‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل‏.‏ ولم تزل البشرى تتابع به من أول اليوم المحمدي إلى قبيل الخمسمائة نصف اليوم وتأكدت وتضاعفت بتباشير المشايخ بتقريب وقته وازدلاف زمانه منذ انقضت إلى هلم جرا ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ وذكر الكندي أن هذا الولي هو الذي يصلي بالناس صلاة الظهر ويجدد الإسلام ويظهرالعدل ويفتح جزيرة الأندلس ويصل إلى رومية فيفتحها ويسير إلى المشرق فيفتحه ويفتح القسطنطينية ويصير له ملك الأرض فيتقوى المسلمون ويعلو الإسلام ويظهر دين الحنيفية فإن من صلاة الظهر إلى صلاة العصر وقت صلاة قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ ما بين هذين وقت ‏"‏ وقال الكندي أيضاً‏:‏ الحروف العربية غير المعجمة يعني المفتتح بها سور القرآن جملة عددها سبعمائة وثلاث وأربعون وسبع دجالية ثم ينزل عيسى في وقت صلاة العصر فيصلح الدنيا وتمشي الشاة مع الذئب‏.‏ ثم يبقى ملك العجم بعد إسلامهم مع عيسى مائة وستين عاماً عدد حروف المعجم وهي - ق ي ن - دولة العدل منها أربعون عاماً ‏"‏‏.‏ قال ابن أبي واطيل‏:‏ ‏"‏ وما ورد من قوله لا مهدي إلا عيسى فمعناه لا مهدي تساوي هدايته ولايته وقيل لا يتكلم في المهد إلا عيسى‏.‏ وهذا مدفوع بحديث جريج وغيره‏.‏ وقد جاء في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا يزال هذا الأمر قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة يعني قرشياً‏.‏ وقد أعطى الوجود أن منهم من كان في أول الإسلام ومنهم من سيكون في آخره‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ الخلافة بعدي ثلاثون أو إحدى وثلاثون أو ستة وثلاثون وانقضاؤها في خلافة الحسن وأول أمر معاوية فيكون أول أمر معاوية خلافة أخذاً بأوائل الأسماء فهو سادس الخلفاء وأما سابع الخلفاء فعمر بن عبد العزيز والباقون خمسة من أهل البيت من ذرية علي يؤيده قوله‏:‏ ‏"‏ إنك لذو قرنيها ‏"‏ يريد الأمة أي إنك لخليفة في أولها وذريتك في آخرها‏.‏ وربما استدل بهذا الحديث القائلون بالرجعة‏.‏ فالأول هو المشار إليه عندهم بطلوع الشمس من مغربها‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيلى لتنفقن كنوزهما في سبيل الله وقد أنفق عمر بن الخطاب كنوز كسرى في سبيل الله والذي يهلك قيصر وينفق كنوزه في سبيل الله هو هذا المنتظر حياً يفتح القسطنطينية‏:‏ فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجش‏.‏ كذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ومدة حكمه بضع ‏"‏ والبضع من ثلاث إلى تسع وقيل إلى عشر‏.‏ وجاء ذكر أربعين - في بعض الروايات سبعين‏.‏ فأما الأربعون فإنها مدتة ومدة الخلفاء الأربعة الباقين من أهله القائمين بأمره من بعده على جميعهم السلام قال‏:‏ ‏"‏ وذكر أصحاب النجوم والقرانات أن مدة بقاء أمره وأهل بيته من بعده مائة وتسعة وخمسون عاماً فيكون الأمر على هذا جارياً على الخلافة والعدل أربعين أو سبعين ثم تختلف الأحوال فتكون ملكاً‏.‏ انتهى كلام ابن أبي واطيل‏.‏ وقال في موضع آخر‏:‏ ‏"‏ نزول عيسى يكون في وقت صلاة العصر من اليوم المحمدي حين تمضي ثلاثة أرباعه ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ وذكر الكندي يعقوب بن إسحق في كتاب الجفر الذي ذكر فيه القرانات أنه إذا وصل القرآن إلى الثور على رأس ضح بحرفين الضاد المعجمة والحاء المهملة يريد ثمانية وتسعين وستمائة من الهجرة ينزل المسيح فيحكم في الأرض ما شاء الله تعالى ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وقد ورد في الحديث أن عيسى ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ينزل بين مهرودتين يعني حلتين مزعفرتين صفراوين ممصرتين واضعاً كفيه على أجنحة الملكين له لمة كأنما خرج من ديماس إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ كثير خيلان الوجه‏.‏ وفي حديث آخر‏:‏ مربوع الخلق وإلى البياض والحمرة‏.‏ وفي آخر‏:‏ إنه يتزوج في الغرب‏.‏ والغرب دلو البادية يريد أنه يتزوج منها وتلد زوجته‏.‏ وذكر وفاته بعد أربعين عاماً‏.‏ وجاء أن عيسى يموت بالمدينة ويدفن إلى جانب عمر بن الخطاب‏.‏ وجاء أن أبا بكر وعمر يحشران بين نبيين ‏"‏‏.‏ قال ابن أبي واطيل‏:‏ والشيعة تقول إنه هو المسيح مسيح المسايح من آل محمد‏.‏ قلت وعليه حمل بعض المتصوفة حديث لا مهدي إلا عيسى أي لا يكون مهدي إلا المهدي الذي نسبته إلى الشريعة المحمدية نسبة عيسى إلى الشريعة الموسوية في الاتباع وعدم النسخ ‏"‏‏.‏ إلى كلام من أمثال هذا يعينون فيه الوقت والرجل والمكان بأدلة واهية وتحكمات مختلفة فينقضي الزمان ولا أثر لشيء من ذلك فيرجعون إلى تجديد رأي آخر منتحل كما تراه من مفهومات لغوية وأشياء تخييلية وأحكام نجومية‏.‏ في هذا انقضت أعمار الأول منهم والآخر‏.‏ وأما المتصوفة الذين عاصرناهم فأكثرهم يشيرون إلى ظهور رجل مجدد لأحكام الملة ومراسم الحق ويتحينون ظهوره لما قرب من عصرنا‏.‏ فبعضهم يقول من ولد فاطمة وبعضهم يطلق القول فيه‏.‏ سمعناه من جماعة أكبرهم أبو يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب كان في أول هذه المائة الثامنة وأخبرني عنه حافده صاحبنا أبو يحيى زكريا عن أبيه أبي محمد عبد الله عن أبيه الولي أبي يعقوب المذكور‏.‏ هذا آخر ما اطلعنا عليه أو بلغنا من كلام هؤلاء المتصوفة وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا‏.‏ والحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه‏.‏ وقد قررنا ذلك من قبل بالبراهين القطعية التي أريناك هناك‏.‏ وعصبية الفاطميين بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الأفاق ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش إلا ما بقي بالحجاز في مكة وينبع بالمدينة من الطالبيين من بني حسن وبني حسين وبني جعفر منتشرون في تلك البلاد وغالبون عليها وهم عصائب بدوية متفرقون في مواطنهم وإمارتهم وآرائهم يبلغون آلافاً من الكثرة‏.‏ فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم ويؤلف الله بين قلوبهم في اتباعه حتى تتم له شوكة وعصبية وافية بإظهار كلمته وحمل الناس عليها‏.‏ وأما على غير هذا الوجه مثل أن يدعو فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الأفاق ثمن غير عصبية ولا شوكة إلا مجرد نسبة في أهل البيت فلا يتم ذلك ولا يمكن لما أسلفناه من البراهين الصحيحة‏.‏ وأما ما تدعيه العامة والأغمار من الدهماء ممن لا يرجع في ذلك إلى عقل يهديه ولا علم يقيده فيتحينون ذلك على غير نسبة وفي غير مكان تقليداً لما اشتهر من ظهور فاطمي ولا يعلمون حقيقة الأمر كما بيناه‏.‏ وأكثر ما يتحينون في ذلك القاصية من الممالك وأطراف العمران مثل الزاب بإفريقية والسوس من المغرب‏.‏ ونجد الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطاً بماسة لما كان ذلك الرباط بالمغرب من الملثمين من كدالة واعتقادهم أنه منهم أو قائمون بدعوته زعماً لا مستند لهم إلا غرابة تلك الأمم وبعدهم عن يقين المعرفة بأحوالها من كثرة أو قلة أو ضعف أو قوة ولبعد القاصية عن منال الدولة وخروجها عن نطاقها فتقوى عندهم الأوهام في ظهوره هناك بخروجه عن‏.‏ ربقة الدولة ومنال الأحكام والقهر ولا محصول لديهم في ذلك إلا هذا‏.‏ وقد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول للتلبيس بدعوة يميه تمامها وسواساً وحمقاً‏.‏ وقتل كثير منهم‏.‏ أخبرني شيخنا محمد بن إبراهيم الأبلي قال‏:‏ خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة وعصر السلطان يوسف بن يعقوب رجل من منتحلي التصوف يعرف بالتويزري نسبة إلى توزر مصغراً وادعى أنه الفاطمي المنتظر واتبعه الكثير من أهل السوس من ضالة وكزولة وعظم أمره وخافه رؤساء المصامدة على أمرهم فدس عليه السكسوي من قتله بياتاً وانحل أمره‏.‏ وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة وعشر التسعين منها رجل يعرف بالعباس وادعى أنه الفاطمي واتبعه الدهماء من غمارة ودخل مدينة فاس عنوة وحرق أسواقها وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة ولم يتم أمره‏.‏ وكثير من هذا النمط‏.‏ وأخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل هذا وهو أنه صحب في حجه في رباط العباد وهو مدفن الشيخ أبي مدين في جبل تلمسان المطل عليها رجلاً من أهل البيت من سكان كربلاء كان متبوعاً معظماً كثير التلميذ والخادم‏.‏ قال وكان الرجال من موطنه يتلقونه بالنفقات في أكثر البلدان‏.‏ قال وتأكدت الصحبة بيننا في ذلك الطريق فانكشف لي أمرهم وأنهم إنما جاؤوا من موطنهم بكربلاء لطلب هذا الأمر وانتحال دعوة الفاطمي بالمغرب‏.‏ فلما عاين دولة بني مرين ويوسف بن يعقوب يومئذ منازل لتلمسان قال لأصحابه‏:‏ ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط وليس هذا الوقت وقتنا‏.‏ ويدل هذا القول من هذا الرجل على أنه مستبصر في أن الأمر لا يتم إلا بالعصبية المكافئة لأهل الوقت فلما علم أنه غريب في ذلك الوطن ولا شوكة له وأن عصبية بني مرين لذلك العهد لا يقاومها أحد من أهل المغرب استكان ورجع إلى الحق وأقصر عن مطامعه وبقي عليه أن يستيقن أن عصبية الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت لا سيما في المغرب‏.‏ إلا أن التعصب لشأنه لم يتركه لهذا القول‏.‏ والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏.‏ وقد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدعاة إلى الحق والقيام بالسنة لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي ولا غيره وإنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة وتغيير المنكر ويعتني بذلك ويكثر تابعه‏.‏ وأكثر ما يعنون بإصلاح السابلة لما أن أكثر فساد الأعراب فيها لما قدمناه من طبيعة معاشهم فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا‏.‏ إلا أن الصبغة الدينية فيهم لا تستحكم لما أن توبة العرب ورجوعهم إلى الدين إنما يقصدون بها الإقصار عن الغارة والنهب لا يعقلون في توبتهم وإقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك لأنها المعصية التي كانوا عليها قبل المقربة ومنها توبتهم‏.‏ فتجد تابع ذلك المنتحل للدعوة القائم بزعمه بالسنة غير متعمقين في فروع الإقتداء والاتباع إنما دينهم الإعراض عن النهب والبغي وإفساد السابلة ثم الإقبال على طلب الدنيا والمعاش بأقصى جهدهم‏.‏ وشتان بين طلب هذا الأجر في صلاح الخلق وبين طلب الدنيا فاتفاقهما ممتنع لا تستحكم لهم صبغة في الدين ولا يكمل لهم نزوغ عن الباطل على الجملة ولا يكثرون‏.‏ ويختلف حال صاحب الدعوة معهم في استحكام دينه وولايته في نفسه دون تابعه‏.‏ فإذا هلك انحل أمرهم وتلاشت عصبيتهم‏.‏ وقد ولع ذلك بإفريقية لرجل من كعب من سليم يسمى قاسم بن مرة بن أحمد في المائة السابعة ثم من بعده لرجل آخر من بادية رياح من بطن منهم يعرفون بمسلم وكان يسمى سعادة وكان أشد ديناً من الأول وأقوم طريقة في نفسه ومع ذلك فلم يستتب أمر تابعه كما ذكرناه حسبما يأتي ذكر ذلك في موضعه عند ذكر قبائل سليم ورياح‏.‏ وبعد ذلك ظهر ناس بهذه الدعوة يتشبهون بمثل ذلك ويلبسون فيها وينتحلون اسم السنة وليسوا عليها إلا الأقل فلا يتم لهم ولا لمن بعدهم شيء من أمرهم‏.‏ انتهى‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:30 AM

الفصل الثالث والخمسون في حدثان الدول والأمم
اعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوف إلى عواقب أمورهم وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشر سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها والتطلع إلى هذا طبيعة للبشر مجبولون عليها‏.‏ ولذلك نجد الكثير من الناس يتشوفون إلى الوقوف على ذلك في المنام‏.‏ والأخبار من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسوقة معروفة‏.‏ ولقد نجد في المدن صنفاً من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه‏.‏ فتغدو عليهم وتروح نسوان المدينة وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول كا يستكشفون عواقب أمرهم في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك ما بين خط في الرمل ويسمونه المنجم وطرق بالحصى والحبوب ويسمونه الحاسب ونظر في المرايا والمياه ويسمونه ضارب المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرر في الشريعة من ذم ذلك وأن البشر محجوبون عن الغيب إلا من أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية‏.‏ وأكثر ما يعتني بذلك ويتطلع إليه الأمراء والملوك في آماد دولتهم ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه‏.‏ وكل أمة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو منجم أو ولي في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدثون أنفسهم بها وما يحدث لهم من الحرب والملاحم ومدة بقاء الدولة وكان في العرب الكهان والعرافون يرجعون إليهم في ذلك وقد أخبروا بما سيكون للعرب من الملك والدولة كما وقع لشق وسطيح في تأويل رؤيا ربيعة بن نصر من ملوك اليمن أخبرهم بملك الحبشة بلادهم ثم رجوعها إليهم ثم ظهور الملك والدولة للعرب من بعد ذلك‏.‏ وكذا تأويل سطيح لرؤيا الموبذان حين بعث إليه كسرى بها مع عبد المسيح وأخبرهم بظهور دولة العرب‏.‏ وكذا كان في جيل البربر كهان من أشهرهم موسى بن صالح من بني يفرن ويقال من غمرة وله كلمات حدثانية على طريقة الشعر برطانتهم وفيها حدثان كثير ومعظمه فيما يكون لزناتة من الملك والدولة بالمغرب وهي متداولة بين أهل الجيل‏.‏ وهم يزعمون تارة أنه ولي وتارة أنه كاهن وقد يزعم بعض مزاعمهم أنه كان نبياً لأن تاريخه عندهم قبل الهجرة بكثير‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد يستند الجيل في ذلك إلى خبر الأنبياء إن كان لعهدهم كما وقع لبني إسرائيل فإن انبياءهم المتعاقبين فيهم كانوا يخبرونهم بمثله عندما يعنونهم في السؤال عنه‏.‏ وأما في الدولة الإسلامية فوقع منه كثير فيما يرجع إلى بقاء الدنيا ومدتها على العموم وفيما يرجع إلى الدولة وأعمارها على الخصوص‏.‏ وكان المعتمد في ذلك في صدر الإسلام آثار منقولة عن الصحابة وخصوصاً مسلمة بني إسرائيل مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما‏.‏ ووقع لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه‏.‏ والله أعلم الكشف بما كانوا عليه من الولاية‏.‏ وإذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم وأعقابهم وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن فيكم محدثين فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة والكرامات الموهوبة‏.‏ وأما بعد صدر الملة وحين علق الناس على العلوم والاصطلاحات وترجمت كتب الحكماء إلى اللسان العربي فأكثر معتمدهم في ذلك كلام المنجمين في الملك والدول وسائر الأمور العامة من القرانات وفي المواليد والمسائل وسائر الأمور الخاصة من الطوالع لها وهي شكل الفلك عند حدوثها‏.‏ فلنذكر الآن ما وقع لأهل الأثر في ذلك ثم نرجع لكلام المنجمين‏.‏ أما أهل الأثر فلهم في مدة الملل وبقاء الدنيا على ما وقع في كتاب السهيلي فإنه نقل عن الطبري ما يقتضي أن مدة بقاء الدنيا منذ الملة خمسمائة سنة ونقض ذلك بظهور كذبه‏.‏ ومستند الطبري في ذلك أنه نقل عن ابن عباس أن الدنيا جمعة من جمع الأخرة ولم يذكر لذلك دليلاً‏.‏ وسره والله أعلم تقدير الدنيا بأيام خلق السماوات والأرض وهي سبعة ثم اليوم بألف سنة لقوله‏:‏ ‏"‏ وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وقد ثبت في الصحيحين‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى غروب الشمس ‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى وقدر ما بين صلاة العصر وغروب الشمس حين صيرورة ظل كل شيء مثليه يكون على التقريب نصف سبع وكذلك وصل الوسطى على السبابة فتكون هذه المدة نصف سبع الجمعة كلها هو خمسمائة سنة‏.‏ ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم ‏"‏ فدل ذلك على أن مدة الدنيا قبل الملة خمسة الأف وخمسمائة سنة‏.‏ وعن وهب بن منبه أنها خمسة الأف وستمائة سنة أعني الماضي‏.‏ وعن كعب أن مدة الدنيا كلها ستة الأف سنة‏.‏ قال السهيلي‏:‏ وليس في الحديثين ما يشهد لشيء مما ذكره مع وقوع الوجود بخلافه‏.‏ فأما قوله‏:‏ ‏"‏ لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم ‏"‏ فلا يقتضي نفي الزيادة على النصف‏.‏ وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بعثت أنا والساعة كهاتين ‏"‏ فإنما فيه الأشارة إلى القرب وأنه ليس بينه وبين الساعة نبي غيره ولا شرع غير شرعه‏.‏ ثم رجع السهيلي إلى تعيين أمد الملة من محرك آخر لو ساعده التحقيق وهو أنه جمع الحروف المقطعة في أوائل السور بعد حذف المكرر قال‏:‏ وهي أربعة عشر حرفاً يجمعها قولك ‏"‏ ألم يسطع نص حق كره ‏"‏ فأخذ عددها بحساب الجمل فكان سبعمائة وثلاثة إضافة إلى المنقضي من الألف الآخر قبل بعثه فهذه هي مدة الملة قال‏:‏ ولا يبعد ذلك أن يكون من مقتضيات هذه الحروف وفوائدها‏.‏ قلت‏:‏ وكونه لا يبعد لا يقتضي ظهوره ولا التعويل عليه‏.‏ والذي حمل السهيلي على ذلك إنما هو ما وقع فى كتاب السير لابن إسحاق في حديث ابني أخطب من أحبار اليهود وهما أبو ياسر وأخوه حي حين سمعا من الأحرف المقطعة ‏"‏ آلم ‏"‏ وتأولاها على بيان المدة بهذا الحساب فبلغت إحدى وسبعين فاستقلا المدة‏.‏ وجاء حي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله‏:‏ هل مع هذا غيره قال‏:‏ ‏"‏ آلمص ‏"‏ ثم استزاد ‏"‏ آلر ‏"‏ ثم استزاد ‏"‏ آلمر ‏"‏ فكانت إحدى وسبعين ومائتين فاستطال المدة‏.‏ وقال‏:‏ قد لبس علينا أمرك يا محمد حتى لا ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً ثم ذهبوا عنه‏.‏ وقال لهم أبو ياسر‏:‏ ما يدريكم لعله أعطى عددها كلها تسعمائة وأربع سنين قال ابن إسحق‏:‏ فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ‏"‏‏.‏ ولا يقوم من القصة دليل على تقدير المدة بهذا العدد لأن دلالة هذه الحروف على الأعداد ليست طبيعية ولا عقلية وإنما هي بالتواضع والاصطلاح الذي يسمونه حساب الجمل‏.‏ نعم إنه قديم مشهور وقدم الأصطلاح لا يصير حجة‏.‏ وليس أبو ياسر وأخوه حي ممن يؤخذ رأيه في ذلك دليلاً ولا من علماء اليهود لأنهم كانوا بادية بالحجاز غفلاً من الصنائع والعلوم حتى عن علم شريعتهم وفقه كتابهم وملتهم وإنما يتلقفون مثل هذا الحساب كما تتلقفه العوام في كل ملة‏.‏ فلا ينهض للسهيلي دليل على ما ادعاه من ذلك‏.‏ ووقع في الملة في حدثان دولتها على الخصوص مسند من الأثر إجمالي في حديث خرجه أبو داود عن حذيفة بن اليمان من طريق شيخه محمد بن يحيى الذهبي عن سعيد بن أبي مريم عن عبد الله بن فروخ عن أسامة بن زيد الليثي عن أبي قبيصة بن ذؤيب عن أبيه قال‏:‏ قال حذيفة بن اليمان‏:‏ والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من قائد فئة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته‏.‏ وسكت عليه أبو داود وقد تقدم أنه قال في رسالته ما سكت عليه في كتابه فهو صالح وهذا الحديث إذا كان صحيحاً فهو مجمل ويفتقر في بيان إجماله وتعيين مبهماته إلى آثار أخرى يجود أسانيدها‏.‏ وقد وقع إسناد هذا الحديث في غير كتاب السنن على غير هذا الوجه‏.‏ فوقع في الصحيحين من حديث حذيفة أيضاً قال‏:‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذاك إلى قيام الساعة إلا حدث عنه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابه هؤلاء‏.‏ ولفظ البخاري‏:‏ ما ترك شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره‏.‏ وفي كتاب الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال‏:‏ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة العصر بنهار ثم قام خطيباً فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه‏.‏ وهذه الأحاديث كلها محمولة على ما ثبت في الصحيحين من أحاديث الفتن والأشراط لا غير لأنه المعهود من الشارع صلوات الله وسلامه عليه في أمثال هذه العمومات‏.‏ وهذه الزيادة التي تفرد بها أبو داود في هذا الطريق شاذة منكرة مع أن الأئمة اختلفوا في رجاله‏.‏ فقال ابن أبي مريم في ابن فروخ أحاديثة مناكير وقال البخاري يعرف منه وينكر وقال ابن عدي‏:‏ أحاديثه غير محفوظة‏.‏ وأسامة بن زيد وإن خرج له في الصحيحين ووثقه ابن معين فإنما خرج له البخاري استشهاداً وضعفه يحيى بن سعيد وأحمد بن حنبل وقال أبو حاتم‏:‏ يكتب حديثه ولا يحتج به‏.‏ وأبو قبيصة بن ذؤيب مجهول‏.‏ فتضعف هذه الزيادة التي وقعت لأبي داود في هذا الحديث من هذه الجهات مع شذوذها كما مر‏.‏ وقد يستندون في حدثان الدول على الخصوص إلى كتاب الجفر ويزعمون أن فيه علم ذلك كله من طريق الأثار والنجوم لا يزيدون على ذلك ولا يعرفون أصل ذلك ولا مستنده‏.‏ واعلم أن كتاب الجفر كان أصله أن هارون بن سعيد العجلي وهو رأس الزيدية كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص‏.‏ وقع ذلك لجعفر ونظائره من رجالاتهم على طريق الكرامة والكشف الذي يقع لمثلهم من الأولياء‏.‏ وكان مكتوباً عند جعفر في جلد ثور صغير فرواه عنه هارون العجلي وكتبه وسماة الجفر باسم الجلد الذي كتب عليه لأن الجفر في اللغة هو الصغير وصار هذا الاسم علماً على هذا الكتاب عندهم وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق‏.‏ وهذا الكتاث لم تتصل روايته ولا عرف عينه وإنما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل‏.‏ ولو صح السند إلى جعفر الصادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه فهم أهل الكرامات وقد صح عنه أنه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصح كما يقول‏.‏ وقد حذر يحيى ابن عمه زيد من مصرعه وعصاه فخرج وقتل بالجوزجان كما هو معروف‏.‏ وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنك بهم علماً وديناً وآثاراً من النبوة وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة‏.‏ وقد ينقل بين أهل البيت كثير من هذا الكلام غير منسوب إلى أحد‏.‏ وفي أخبار دولة العبيديين كثير منه‏.‏ وانظر ما حكاه ابن الرقيق في لقاء أبي عبد الله الشيعي لعبيد الله المهدي مع ابنه محمد الحبيب وما حدثاه به وكيف بعثناه إلى ابن حوشب داعيتهم باليمن فأمره بالخروج إلى المغرب وبث الدعوة فيه على علم لقنه أن دعوته تتم هناك وأن عبيد الله لما بنى المهدية بعد استفحال دولتهم بإفريقية قال‏:‏ ‏"‏ بنيتها ليعتصم بها الفواطم ساعة من نهار ‏"‏ وأراهم موقف صاحب الحمار بساحتها وبلغ هذا الخبر حافده إسماعيل المنصور فلما حاصره صاحب الحمار أبو يزيد بالمهدية كان يسائل عن منتهى موقفه حتى جاءه الخبر ببلوغه إلى المكان الذي عينة جده عبيد الله فأيقن بالظفر وبرز من البلد فهزمه واتبعه إلى ناحية الزاب فظفر به وقتله‏.‏ ومثل هذه الأخبار عندهم كثيرة‏.‏ التنجيم وأما المنجمون فيستندون في حدثان الدول إلى الأحكام النجومية‏.‏ أما في الأمور العامة مثل الملك والدول فمن القرانات وخصوصاً بين العلويين وذلك أن العلويين زحل والمشتري يقترنان في كل عشرين سنة مرة ثم يعود القران إلى برج آخر في تلك المثلثة من التثليث الأيمن ثم بعده إلى آخر كذلك إلى أن يتكرر في المثلثة الواحدة اثنتي عشرة مرة تستوي بروجه الثلاثة في ستين سنة ثم يعود فيستوي بها في ستين سنة ثم يعود ثالثة ثم رابعة فيستوي في المثلثة باثنتي عشرة مرة وأربع عودات في مائتين وأربعين سنة ويكون انتقاله في كل برج على التثليث الأيمن وينتقل من المثلثة إلى المثلثة التي تليها أعني البرج الذي يلي البرج الأخير من القران الذي قبله في المثلثة‏.‏ وهذا القران الذي هو قران العلويين ينقسم إلى كبير وصغير ووسط‏:‏ فالكبير هو اجتماع العلويين في برجة واحدة من الفلك إلى أن يعود إليها بعد تسعمائة وستين سنة مرة واحدة والوسط هو اقتران العلوي في كل مثلثة اثنتي عشرة مرة وبعد مائتين وأربعين سنة ينتقل إلى مثلثة أخرى والصغير هو اقتران العلويين في درجة برج وبعد عشرين سنة يقترنان في برج آخرعلى تثليثه الأيمن في مثل درجه أو دقائقه‏.‏ مثال ذلك وقع القران أول دقيقة من الحمل وبعد عشرين يكون في أول دقيقة من القوس وبعد عشرين يكون في أول دقيقة من الأسد وهذه كلها نارية وهذا كله قران صغير‏.‏ ثم يعود إلى أول الحمل بعد ستين سنة ويسمى دور القران وعود القران وبعد مائتين و أربعين ينتقل من النارية إلى الترابية لأنها بعدها وهذا قران وسط‏.‏ ثم ينتقل إلى الهوائية ثم المائية ثم يرجع إلى أول الحمل في تسعمائة وستين سنة وهو الكبير‏.‏ والقران الكبير يدل على عظام الأمور مثل تغيير الملك والدولة وانتقال الملك من قوم إلى قوم والوسط على ظهور المتغلبين والطالبين للملك والصغير على ظهور الخوارج والدعاة وخراب المدن أو عمرانها‏.‏ ويقع أثناء هذه القرانات قران النحسين في برج السرطان في كل ثلاثين سنة مرة ويسمى الرابع‏.‏ وبرج السرطان هو طالع العالم وفيه وبال زحل وهبوط المريخ فتعظم دلالة هذا القران في الفتن والحروب وسفك الدماء وظهور الخوارج وحركة العساكر وعصيان الجند والوباء والقحط ويدوم ذلك أو ينتهي على قدر قال جراس بن أحمد الحاسب في الكتاب الذي ألفه لنظام الملك‏:‏ ‏"‏ ورجوع المريخ إلى العقرب له أثر عظيم في الملة الأسلامية لأنه كان دليلها فالمولد النبوي كان عند قران العلويين ببرج العقرب فلما رجع هنالك حدث التشويش على الخلفاء وكثر المرض في أهل العلم والدين ونقصت أحوالهم وربما انهدم بعض بيوت العبادة‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنه كان عند قتل علي رضي الله عنه ومروان من بني أمية والمتوكل من بني العباس‏.‏ فإذا روعيت هذه الأحكام مع أحكام القرانات كانت في غاية الإحكام‏.‏ وذكر شاذان البلخي‏:‏ ‏"‏ أن الملة تنتهي إلى ثلثمائة وعشرين‏.‏ وقد ظهر كذب هذ القول‏.‏ وقال أبو معشر‏:‏ يظهر بعد المائة والخمسين منها اختلاف كثير ولم يصح ذلك ‏"‏‏.‏ وقال جراس‏:‏ ‏"‏ رأيت في كتب القدماء أن المنجمين أخبروا كسرى عن ملك العرب وظهور النبوة فيهم وأن دليلهم الزهرة وكانت في شرفها فيبقى الملك في أربعين سنة‏.‏ وقال أبو معشر في كتاب القرانات‏:‏ القسمة إذا انتهت إلى السابعة والعشرين من الحوت فيها شرف الزهرة‏.‏ ووقع القران مع ذلك ببرج العقرب وهو دليل العرب ظهرت حينئذ دولة العرب وكان منهم نبي ويكون قوة ملكه ومدته على ما بقي من درجات شرف الزهرة وهي إحدى عشرة درجة بتقريب من برج الحوت ومدة ذلك ستمائة وعشر سنين‏.‏ وكان ظهور أبي مسلم عند انتقال الزهرة ووقوع القسمة أول الحمل وقال يعقوب بن إسحق الكندي‏:‏ أن مدة الملة تنتهي إلى ستمائة وثلاث وتسعين سنة قال‏:‏ لأن الزهرة كانت عند قران الملة في ثمان وعشرين درجة وثلاثين دقيقة الحوت‏.‏ فالباقي إحدى عشرة درجة وثماني عشرة دقيقة ودقائقها ستون فيكون ستمائة وثلاثاً وتسعين سنة‏.‏ قال‏:‏ وهذه مدة الملة باتفاق الحكماء ويعضده الحروف الواقعة في أول السور بحذف المكرر واعتباره بحساب الجمل‏.‏ قلت‏:‏ وهذا هو الذي ذكره السهيلي والغالب أن الأول هو مستند السهيلي فيما نقلناه عنه‏.‏ قال جراس‏:‏ ‏"‏ سأل هرمز إفريد الحكيم عن مدة أردشير وولده وملوك الساسانية فقال‏:‏ دليل ملكه المشتري وكان في شرفه فيعطى أطول السنين وأجودها أربعمائة وسبعاً وعشرين سنة ثم تزيد الزهرة وتكون في شرفها وهي دليل العرب فيملكون لأن طالع القران الميزان وصاحبه الزهرة وكانت عند القران في شرفها فدل أنهم يملكون ألف سنة وستين سنة‏.‏ وسأل كسرى أنو شروان وزيره بزرجمهر الحكيم عن خروج الملك من فارس إلى العرب فأخبره أن القائم منهم يولد لخمس وأربعين من دولته ويملك المشرق والمغرب والمشتري يغوص إلى الزهرة وينتقل القران من الهوائية إلى العقرب وهو مائي وهو دليل العرب فهذه الأدلة تفضي للملة بمدة دور الزهرة وهي ألف وستون سنة‏.‏ وسأل كسرى أبرويز أليوس الحكيم عن ذلك فقال مثل قول بزرجمهر‏.‏ وقال توفيل الرومي المنجم في أيام بني أمية‏:‏ ‏"‏ إن ملة الإسلام تبقى مدة القران الكبير تسعمائة وستين سنة فإذا عاد القران إلى برج العقرب كما كان في ابتداء الملة وتغير وضع الكواكب عن هيئتها في قران الملة فحينئذ إما أن يفتر العمل به أو يتجدد من الأحكام ما يوجب خلاف الظن‏.‏ قال جراس‏:‏ ‏"‏ واتفقوا على أن خراب العالم يكون باستيلاء الماء والنار حتى تهلك سائر المكونات وذلك عندما يقطع قلب الأسد أربعاً وعشرين درجة التي هي حد المريخ وذلك بعد مضي تسعمائة وستين سنة‏.‏ وذكر جراس‏:‏ أن ملك زابلستان بعث إلى المأمون بحكيمه ذوبان أتحفه به في هدية وأنه تصرف للمأمون في الاختبارات بحروب أخيه وبعقد اللواء لطاهر وأن المامون أعظم حكمته فسأله عن مدة ملكهم فأخبره بانقطاع الملك من عقبه واتصاله في ولد أخيه وأن العجم يتغلبون على الخلافة من الديلم في دولة سنة خمسين ويكون ما يريده الله ثم يسوء حالهم ثم تظهر الترك من شمال المشرق فيملكونه إلى الشام والفرات وسيحون وسيملكون بلاد الروم ويكون ما يريده الله‏.‏ فقال له المأمون‏:‏ من أين لك هذا فقال من كتب الحكماء ومن أحكام صصة بن داهر الهندي الذي وضع الشطرنج‏.‏ قلت والترك الذين أشار إلى ظهورهم بعد الديلم هم السلجوقية وقد قال جراس‏:‏ وانتقال القران إلى المثلثة المائية من برج الحوت يكون سنة ثلاث ثلاثين وثمانمائة ليزدجرد وبعدها إلى برج العقرب حيث كان قران الملة سنة ثلاث وخمسين‏.‏ قال والذي في الحوت هو أول الانتقال‏.‏ والذي في العقرب يستخرج مف دلائل الملة‏.‏ قال‏:‏ وتحويل السنة الأولى من القران الأول في المثلثات المائية في ثاني رجب سنة ثمان وستين وثمانمائة ‏"‏‏.‏ ولم يستوف الكلام على ذلك‏.‏ وأما مستند المنجمين في دولة على الخصوص فمن القران الأوسط وهيئة الفلك عند وقوعه لأن له دلالة عندهم على حدوث الدولة وجهاتها من العمران القائمين بها من الأمم وعدد ملوكهم وأسمائهم وأعمارهم ونحلهم وأديانهم وعوائدهم وحروبهم كما ذكر أبو معشر في كتابه في القرانات‏.‏ وقد توجد هذه الدلالة من القران الأصغر إذا كان الأوسط دالاً عليه فمن هذا يوجد الكلام في الدول‏.‏ وقد كان يعقوب بن إسحق الكندي منجم الرشيد والمأمون وضع في القرانات الكائنة في الملة كتاباً سماه‏:‏ الشيعة بالجفر باسم كتابهم المنسوب إلى جعفر الصادق وذكر فيه فيما يقال حدثان دولة بني العباس وأنها نهايته وأشار إلى انقراضها والحادثة على بغداد أنها تقع في انتصاف المائة السابعة وأن بانقراضها يكون انقراض الملة‏.‏ ولم نقف على شيء من خبر هذا الكتاب ولارأينا من وقف عليه ولعله غرق في كتبهم التي طرحها هلاكو ملك التتر في دجلة عند استيلائهم على بغداد وقتل المستعصم آخر الخلفاء‏.‏ وقد وقع بالمغرب جزء منسوب إلى هذا الكتاب يسمونه الجفر الصغير والظاهر أنه وضع لبني عبد المؤمن لذكر الأولين من ملوك الموحدين فيه على التفصيل ومطابقة من تقدم عن ذلك من حدثانه وكذب ما بعده‏.‏ وكان فى دولة بني العباس من بعد الكندي منجمون وكتب في الحدثان‏.‏ وانظر ما نقله الطبري في أخبار المهدي عن أبي بديل من أصحاب صنائع الدولة قال‏:‏ بعث إلي الربيع والحسن في غزاتهما مع الرشيد أيام أبيه فجئتهما جوف الليل فإذا عندهما كتاب من كتب الدولة يعني الحدثان وإذا مدة المهدي في عشر سنين‏.‏ فقلت هذا الكتاب لا يخفى على المهدي وقد مضى من دولته ما مضى فإذا وقف عليه كنتم قد نعيتم إليه نفسه‏.‏ قالا‏:‏ فما الحيلة فاستدعيت عنبسة الوراق مولى آل بديل وقلت له انسخ هذه الورقة واكتب مكان عشر أربعين ففعل فو الله لولا أني رأيت العشرة في تلك الورقة والأربعين في هذه ما كنت أشك أنها هي‏.‏ ثم كتب الناس من بعد ذلك في حدثان الدول منظوماً ومنثوراً ورجزاً ما شاء الله أن يكتبوه وبأيدي الناس متفرقة كثير منها وتسمى الملاحم‏.‏ وبعضها في حدثان الملة على العموم وبعضها في دولة على الخصوص‏.‏ وكلها منسوبة إلى مشاهير من أهل الخليقة‏.‏ وليس منها أصل يعتمد على روايته الملاحم‏:‏ فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مرانة من بحر الطويل على روي الراء وهي متداولة بين الناس‏.‏ وتحسب العامة أنها من الحدثان العائم فيطلقون الكثير منها على الحاضر والمستقبل‏.‏ والذي سمعناه من شيوخنا أنها مخصوصة بدولة لمتونة لأن الرجل كان قبيل دولتهم وذكر فيها استيلاءهم على سبتة من يد موالي بني حمود وملكهم لعدوة الأندلس‏.‏ ومن الملاحم بيد أهل المغرب أيضاً قصيدة تسمى التبعية أولها‏:‏ طربت وما ذاك مني طرب وقد يطرب الطائر المغتصب وما ذاك مني للهو أراه ولكن لتذكار بعض السبب قريباً من خمسمائة بيت أو ألف فيما يقال‏.‏ ذكر فيها كثيراً من دولة الموحدين وأشار فيها إلى الفاطمي وغيره‏.‏ والظاهر أنها مصنوعة‏.‏ ومن الملاحم بالمغرب أيضاً ملعبة من الشعر الزجلي منسوبة لبعض اليهود ذكر فيها أحكام القرانات لعصره العلويين والنحسين وغيرهما وذكر ميتته قتيلاً بفاس‏.‏ وكان كذلك فيما زعموه‏.‏ وأوله‏:‏ في صبغ ذا الأزرق لشرفه خيارا فافهموا يا قوم هذي الإشارا نجم زحل أخبر بذي العلاما وبدل الشكلا وهي سلاما شاشية زرقا بدل العماما وشاش أزرق بدل الغرارا قد تم ذا التجنيس لإنسان يهودي يصلب ببلدة فاس في يوم عيد حتى يجيه الناس من البوادي وقتله ياقوم على الفراد وأبياته نحو الخمسمائة وهي في القرانات التي دلت على دولة الموحدين‏.‏ ومن ملاحم المغرب أيضاً قصيدة من عروض المتقارب على روي الباء في حدثان دولة بني أبي حفص بتونس من الموحدين منسوبة لابن الأبار‏.‏ وقال لي قاضي قسنطينة الخطيب الكبير أبو علي بن باديس وكان بصيراً بما يقوله وله قدم في التنجيم فقال لي‏:‏ إن هذ ابن الأبار ليس هو الحافظ الأندلسي الكاتب مقتول المستنصر وإنما هو رجل خياط من أهل تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ‏.‏ وكان والدي رحمه الله تعالى ينشد هذه الأبيات من هذه الملحمة وبقي بعضها في حفظي مطلعها‏:‏ عذيري من زمن قلب يغر ببارقه الأشنب ومنها‏:‏ ويبعث من جيشه قائداً ويبقى هناك على مرقب فتأتي إلى الشيخ أخباره فيقبل كالجمل الأجرب ويظهر من عدله سيرة وتلك سياسة مستجلب فإما رأيت الرسوم انمحت ولم يرع حق لذي منصب فخذ في الترحل عن تونس وودع معالمها واذهب فسوف تكون بها فتنة تضيف البريء إلى المذنب ووقفت بالمغرب على ملحمة أخرى في دولة بني أبي حفص هؤلاء بتونس فيها بعد السلطان أبي يحيى الشهير عاشر ملوكهم ذكر محمد أخيه من بعده‏.‏ يقول فيها‏:‏ وبعد أبي عبد الإله شقيقه ويعرف بالوثاب في نسخة الأصل إلا أن هذا الرجل لم يملكها بعد أخيه وكان يمني بذلك نفسه إلى أن هلك‏.‏ ومن الملاحم في المغرب أيضاً الملعبة المنسوبة إلى الهوشني على لغة العامة في عروض البلد التي أولها‏:‏ دعني بدمعي الهتان فترت الأمطار ولم تفتر واستقت كلها الويدان وأنى تملي وتنغدر البلاد كلها تروي فأولى ماميل ماتدري ما بين الصيف والشتوي والعام والربيع تجري قال حين صحت الدعوى دعني نبكي ومن عذر وهي طويلة ومحفوظة بين عامة المغرب الأقصى والغالب عليها الوضع لأنه لم يصح منها قول إلا على تأويل تحرفه العامة أو الحارف فيه من ينتحلها من الخاصة‏.‏ ووقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لابن العربي الحاتمي في كلام طويل شبه ألغاز لا يعلم تأويله إلا الله‏.‏ لتخلله أوفاق عددية ورموز ملغوزة وأشكال حيوانات تامة ورؤوس مقطعة وتماثيل من حيوانات غريبة‏.‏ وفي آخرها قصيدة على روي اللام والغالب أنها كلها غير صحيحة لأنها لم تنشأ عن أصل علمي من نجامة ولا غيرها‏.‏ وسمعت أيضاً أن هناك ملاحم أخرى منسوبة لابن سينا وابن عقب وليس في شيء منها دليل على الصحة لأن ذلك إنما يؤخذ من القرانات‏.‏ ووقفت بالمشرق أيضاً على ملحمة من حدثان دولة الترك منسوبة إلى رجل من الصوفية يسمى الباجريقي وكلها ألغاز بالحروف أولها‏:‏ إن شئت تكشف سر الجفر يا سائلي من علم جفر وصي والد الحسن فافهم وكن واعياً حرفا وجملته والوصف فافهم كفعل الحاذق الفطن أما الذي قبل عصري لست أذكره لكنني أذكر الآتي من الزمن بشهر بيبرس يبقى بعد خمستها بحاء ميم بطيش نام في الكنن شين له أثرمن تحت سرته له القضاء قضى أي ذلك المنن ومنها‏:‏ وآل بوران لما نال طاهرهم الفاتك الباتك المعني بالسمن لخلع سين ضعيف السن سين أتى لا لو فاق ونون ذي قرن قوم شجاع له عقل ومشورة يبقى بحاء وأين بعد ذو سمن ومنها‏:‏ من بعد باء من الأعوام قتلته يلي المشورة ميم الملك ذو اللسن ومنها‏:‏ هذا هو الأعرج الكلبي فاعن به في عصره فتن ناهيك من فتن يأتي من الشرق في جيش يقدمهم عار عن القاف قاف جد بالفتن بقتل دال ومثل الشام أجمعها أبدت بشجو على الأهلين والوطن إذا أتى زلزلت يا ويح مصرمن الزلزال ما زال حاء غير مقتطن طاء وظاء وعين كلهم حبسوا هلكا وينفق أموالاً بلا ثمن يسير القاف قافاً عند جمعهم هون به إن ذاك الحصن في سكن ويقال إنه أشار إلى الملك الظاهر وقدوم أبيه عليه بمصر‏:‏ يأتي إليه أبوه بعد هجرته وطول غيبته والشظف والزرن وأبياتها كثيرة والغالب أنها موضوعة ومثل صنعتها كان في القديم كثير أو معروف الانتحال‏.‏ حكى المؤزخون لأخبار بغداد‏:‏ أنه كان بها أيام المقتدر وراق ذكي يعرف بالدنيالي يبل الأوراق ويكتب فيها بخط عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدولة ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة والجاه كأنها ملاحم ويحصل على ما يريد منهم من الدنيا وأنه وضع في بعض دفاتره ميماً مكررة ثلاث مرات وجاء به إلى مفلح مولى المقتدر وكان عظيماً في الدولة فقال له‏:‏ هذا كناية عنك وهومفلح مولى المقتدر ميم في كل واحدة‏.‏ وذكر عندها ما يعلم فيه رضاه مما يناله من الدولة ونصب لذلك علامات من أحواله المتعارفة موه بها عليه فبذل له ما أغناه به‏.‏ ثم وضعه للوزير الحسن بن القاسم بن وهب على مفلح هذا وكان معزولاً فجاءه بأوراق مثلها وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف وبعلامات ذكرها وأنه يلي الوزارة للثامن عشر من الخلفاء وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعداء وتعمر الدنيا في أيامه وأوقف مفلحاً هذا على الأوراق وذكر فيها كوائن أخرى وملاحم من هذا النوع مما وقع ومما لم يقع ونسب جميعه إلى دانيال فأعجب به مفلح‏.‏ ووقف عليه المقتدر واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب وكان ذلك سبباً لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز‏.‏ والظاهر أن هذه الملحمة التي ينسبونها إلى الباجريقي من هذا النوع‏.‏ ولقد سألت أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية عن هذه الملحمة وعن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية وهو الباجريقي وكان عارفاً بطرائقهم فقال‏:‏ كان من القلندرية المبتدعة في حلق اللحية وكان يتحدث عما يكون بطريق الكشف ويومي إلى رجال معينين عنده ويلغز عليهم بحروف يعينها في ضمنها لمن يراه منهم‏.‏ وربما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها فتنوقلت عنه وولع الناس بها وجعلوها ملحمة مرموزة وزاد فيها الخراصون من ذلك الجنس في كل عصر وشغل العامة بفك رموزها وهو أمر ممتنع إذ الرمز إنما يهدي إلى كشفه قانون يعرف قبله ويوضع له وأما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم لا يتجاوزه‏.‏ فرأيت من كلام هذا الرجل الفاصل شفاء لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة‏.‏ ‏"‏ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ‏"‏‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏


الساعة الآن 05:02 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى