منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب تاريخ ابن خلدون (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8921)

ميارى 6 - 8 - 2010 04:55 PM

فتح مكة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عقد الصلح بينه وبين قريش في الحُدَيْبِيةِ أدخل خُزَاعة في عقده المؤمن منهم والكافر وأدخلت قريش بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عقدها وكانت بينهم تِراثٌ في الجاهلية وذحول كان فيها الأول للأسود بن رزق من بني الدُئِل بن بكر بن عبد مناة وثأرهم عند خزاعة لما قتلت حليفهم مالك بن عباد الحَضْرَمِيَ وكانوا قد عقدوا على رجل من خُزَاعَةَ فقتلوه في مالك بن عباد حليفهم وعَدَتْ خُزاعَةُ على سَلْمَى وكُلثُومَ وذؤيب بني الأسود بن رزق فقتلوهم وهم أشراف بني كنانة‏.‏ وجاء الإسلام فاستغل الناس به ونسوا أمر هذه الدماء‏.‏ فلما انعقد هذا الصلح يوم الحديبية وأمن الناس بعضهم بعضاً فاغتنم بنو الدئل هذه الفرصة في إدراك الثأر من خزاعة لقتلهم بني الأسود بن رزق‏.‏ وخرج نوفل بن معاوية الدؤلي فيمن أطاعه بني بكر بن عبد مناة وليس كلهم تابعه‏.‏ وخرج معه بعضهم وخرجوا منهم وانحجزوا في دور مكة ودخلوا دار بُدَيْلَ بن ورقاء الخُزَاعيِّ ورجع بنو بكر وقد انتقض العهد فركب بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في وفد من قومهم إلى رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم مستغيثين مما أصابهم به بنو الدئل بن عبد مناة وقريش فأجاب صلى الله عليه وسلم صريخهم وأخبرهم أنّ أبا سفيان يأتي يشدّ العقد ويزيد في المدة وإنه يرجع بغير حاجة‏.‏ وكان ذلك سبباً للفتح وندم قريش على ما فعلوا فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليؤكد العقد ويزيد في المدة ولقي بديل بن ورقاء بعَسْفانَ فكتمه الخبر وورَّى له عن وجهه‏.‏ وأتى أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبَيْبَةَ فطوت دونه فراش النبي صلى الله عليه وسلم وقالت‏:‏ لا يجلس عليه مشرك‏!‏ فقال لها‏:‏ قد أصابك بعدي شرّ يا بنيَّتي‏.‏ ثم أتى المسجد وكلِّم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه‏.‏ فذهب إلى أبي بكر وكلمه أن يتكلَّم في ذلك فأبى فلقي عمر فقال‏:‏ واللهّ لو لم أجد إِلا الذرّ لجاهدتكم به‏.‏ فدخل على عليّ بن أبي طالب وعنده فاطمة وابنه الحسن صبياً فكلمه فيما أتى له فقال عليّ‏:‏ ما نستطيع‏.‏ أن نكلِّمه في أمر عزم عليه فقال لفاطمة‏:‏ يا بنت محمد‏!‏ أما تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس‏.‏ فقالت‏:‏ لا يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليّ‏:‏ يا أبا سفيان‏!‏ أنت سيد بني كنانة فقم فأجر وارجع إلى أرضك‏.‏ فقال‏:‏ ترى ذلك مُغْنِياً عني شيئاً‏.‏ فقال‏:‏ ما أظنه‏!‏ ولكن لا أجد لك سواه‏.‏ فقام أبو سفيان في المسجد فنادى‏:‏ ألا إني قد أجريت بين الناس ثم ذهب إلى مكة وأخبر قريشاً فقالوا‏:‏ ما جئت بشيء وما زاد ابن أبي طالب على أن لعب بك‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ثم أعلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنه سائر إلى مكة وأمر الناس بأن يتجهزوا ودعا الله أن يطمس الأخبار عن قريش‏.‏ وكتب إليهم حاطِبُ بن أبي بَلْتَعَةَ بالخبر مع ظَعِينَةٍ قاصدة إِلى مكة فأوحى الله إِليه بذلك فبعث عليأ والزبير والمقداد إلى الظعينة فأدركوها بروضة خاخ وفتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً وقالوا‏:‏ رسول اللّه أصدق فقال علي‏:‏ لتخرجنّ الكتاب أو لتلقينّ الحوائج فأخرجته من قرون رأسها‏.‏ فلما قرىء على النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما هذا يا حاطب فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ واللّه ما شككت في الإسلام‏!‏ ولكني ملصق في قريش فأردت عندهم يداً يحفظوني بها في مخلف أهلي وولدي فقال عمر‏:‏ يا رسول الله‏!‏ دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال‏:‏ وما يدريك يا عمر لعلّ اللّه اطلع على أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم‏.‏ وخرج صلى الله عليه وسلم لعشر خلون من رمضان من السنة الثامنة في عشرة آلاف فيهم من سُلَيْم ألف رجل وقيل سبعمائة‏.‏ ومن مُزَيْنَةَ ألف ومن غِفَارٍ أربعمائة ومن أسلم أربعمائة وطوائف من قريش وأسدٍ وتميم وغيرهم‏.‏ ومن سائر القبائل جموع وكتائب اللّه المهاجرين والأنصارَ‏.‏ واستخلف أبا رَهْمٍِ الغِفاري على المدينة ولقيه العباس بذي الحليفة وقيل بالجَحْفَةِ مهاجراً‏.‏ فبعث رحله إلى المدينة وانصرف معه غازياً ولقيه بشق العقاب أبو سفيان بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية مهاجرين واستأذنا فلم يؤذن لهما وكلمته أم سلمة فأذن لهما وأسلما فسار حتى نزل مرّ الظهران وقد طوى اللّه أخباره قريش إلا أنهم يتوجسون الخيفة‏.‏ وخشي العباس تلافي قريش إِن فاجأهم الجيش أن يستأمنوا فركب بغلة النبي صلى الله عليه وقد خرج أبو سفيان وبدَيْلُ بن ورقاءَ وحكيم بن حِزام يتجسسون الخبر‏.‏ وبينما العباس قد أتى الأراك ليلقي من السابِلَةِ من ينذر أهل مكة إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل وقد أبصرا نيران العساكر فيقول بُديلْ نيران بني خزاعة فيقول أبو سفيان خزاعة أذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها‏.‏ فقال العباس‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس واللّه إن ظفر بك ليقتلنك وأصباح قريش فارتدف خلفي‏.‏ ونهض به إلى المعسكر ومر بعمر فخرج يشتد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك بغير عقد ولا عهد‏.‏ فسبقه العباس على البغلة ودخل على أثره فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ هذا عدوّ الله أبو سفيان أمكنني اللّه منه بلا عهد فدعني أضرب عنا فقال العباس‏:‏ قد أجرته‏!‏ فزاره عمر فقال العباس‏:‏ لو كان من بني عديّ ما قلت هذا ولكنه من عبد مناف‏.‏ فقال عمر‏:‏ والله لإسلامك كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لأني أعرف أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك‏.‏ فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العباس أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحأ‏.‏ فلما أتى به قال له صلى الله عليه وسلم ألم يأنِ لك أن تعلم أن لا إله إلا الله‏.‏ فقال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك‏.‏ والله لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنا فقال‏:‏ ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله قال‏:‏ بأبيِ أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه فإن في النفس منها حتى الأن شيئاً‏.‏ فقال له العباس‏:‏ ويحك أسلم قبل أن يضرب عنقك فأسلم‏.‏ فقال العباس يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً‏.‏ قال نعم‏!‏ من دخل دار سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن‏.‏ ثم أمر العباس أن يوقِفَ أبا سفيان بخطم الوادي ليرى جنود الله ففعل ذلك ومرت به القبائل قبيلة قبيلة إلى أن جاء موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار عليهم الدروع البيض‏.‏ فقال من هؤلاء فقال له العباس‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار فقال لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً‏.‏ فقال يا أبا سفيان إِنها النبوة‏.‏ فقال‏:‏ فهي إذأ‏.‏ ققال له العباس‏:‏ النجاء إلى قومك فأتى بهم مكة وأخبرهم بما أحاط بهم وبأمان رسول الله وبقول النبي صلى الله عليه وسلم من أتى المسجد أو دار أبي سفيان أو أغلق بابه‏.‏ ورتب الجيش وأعطى سعد بن عبادة الراية فذهب يقول‏:‏ اليَوْمُ يَوْمُ المَلْحَمَةْ اليَوْمُ تُسْتَحَل الحَرَمَةْ وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر علياً أن يأخذ الراية منه ويقال أمر الزبير وكان على الميمنة خالد بن الوليد ومنها أسْلَم وغِفَارٌ ومُزَيْنَةُ وجُهَيْنَةُ وعلى الميسرة الزبَيْر وعلى المُقدمَةِ أبو عُبَيدَةَ بن الجراح‏.‏ وسرَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش من ذي طُوَى وأمرهم بالدخول إِلى مَكَة‏.‏ الزُبَيْرُ من أعلاها وخالِدُ من أسفلها وأن يقاتلوا من تعرض لهم‏.‏ وكان عِكْرِمَةُ بن أبي جَهْل وصَفْوَانُ بن أُمَيًةَ وسُهَيْلُ بن عمرو قد جمعوا للقتال‏.‏ فناوشهِم أصحاب خالد القتال واستُشْهِد من المسلمين كَرَزُ بن جابر من بني محارب وَخُنيْسُ بن خالد من خُزَاعَةَ وسلمة بن جُهَيْنَةَ وانهزم المشركون وقتل منهم ثلاثة عشر وأمّن النبي صلى الله عليه وسلم سائر الناس‏.‏ وكان الفتح لعشر بقين من رمضان وأهدر دم جماعة من المشركين سماهم يومئذ‏:‏ منهم عبدُ العُزّى بن خَطْلٍ من بني تميم والأدْرَمً بن غالب كان قد أسلم وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصدَقاً ومعه رجل من المشركين فقتله وارتدّ ولحق بمكة‏.‏ وتعلق يوم الفتح بأستار الكعبة فقتله سعد بن حُرَيْثٍ المخزومي وأبو بَرْزَةَ الأسْلَمِيّ‏.‏ ومنهم عبد الله بن سعيد بن أبي سَرْح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد ولحق بمكة‏.‏ ونمِيَت عنه أقوال فاختفى يوم الفتح وأتى به عثمان بن عفَان وهو أخوه من الرضاعة فاستأمن له فسكت عليه السلام ساعة ثم أمنه‏.‏ فلما خرج قال لأصحابه‏:‏ هلا ضربتم عنقه‏!‏ فقال له بعض الأنصار هلاَّ أومأت إليّ فقال‏:‏ ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ولم يظهر بعد إسلامة إلا خير وصلاح واستعمله عمر وعثمان‏.‏ ومنهم الحويرث بن نفيل من بني عبد بن قُصَيّ كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عدا على رجل من الأنصار كان قتل أخاه قبل ذلك غلطاً ووداه فقتله وفر إلى مكة مرتداً‏.‏ فقتله يوم الفتح نُمَيْلَة بن عبد الله اللَيْثيّ وهو ابن عمه‏.‏ ومنهم قَيْنتا ابنِ خَطْل كانتا تغنيان بهجوِ النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت إحداهما واستؤمن للأخرى فأمنها‏.‏ ومنهم مولاةٌ لبني عبد المُطلِبِ اسمها سارة واستؤمن لها فأمنها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ واستجار رجلان من بني مخزوم بأم هاني بنت أبي طالب‏.‏ يقال إنهما الحرث بن هشام وزهير بن أبي أمية أخو أم سلمة فأمنتهما‏.‏ وأمضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمانهما فأسلما‏.‏ ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالكعبة وأخذ المفتاح من عثمان بن طلحة بعد أن مانعت دونه أم عثمان ثم أسلمته‏.‏ فدخل الكعبة ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة وأبقى له حجابة البيت فهي في ولد شيبة إلى اليوم‏.‏ وأمر بكسر الصور داخل الكعبة وخارجها وبكسر الأصنام حواليها‏.‏ ومرّ عليها وهي مسدودة بالرصاص يشير إليها بقضيب في يده وهو يقول‏:‏ جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً‏.‏ فما بقي منهم صنم إلاَ خر على وجهه وأمر بِلالاً فأذّن على ظهر الكعبة‏.‏ ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بباب الكعبة ثاني يوم الفتح وخطب خطبته المعروفة ووضع مآثر الجاهلية إلا سِدَانَةَ البيت وسِقَايَةَ الحاج‏.‏ وأخبر أن مكة لم تحلّ لأحد قبله ولا بعده وإنما أُحلت له ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس ثم قال لا إله الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده ألا إِن كل مأثورة أو دم أو مال يدَّعى في الجاهلية فهو تحت قدميِّ هاتين إلا سِدانَةَ الكعبة وسِقايَةَ الحاج‏.‏ ألا وإِن قتل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا فيهما الدِيَة مغلظة منها أربعون في بطونها أولادها‏.‏ يا معشر قريش إِن اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتَعَظُّمَهَا بالآباء الناس من آدَمَ وآدم خلق من تراب‏.‏ ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا أيها الناس إِنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبأ وقبائل لتعارفوا إن أكرمَكم عند اللّه أتقاكم إِن اللّه عليم خبير ‏"‏‏.‏ يا معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون أني فاعل فيكم قالوا خيراً‏!‏ أخ كريم ثم قال‏:‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء وأعتقهم على الإسلام وحبس لهم فيما قيل على الصفا فبايعوه على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا ولما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء‏.‏ أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يبايعهن واستغفر لهن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم لأنه كان لا يمس امرأة حلالاً ولا حراماً‏.‏ وهرب صفوان بن أمية إلى اليمن واتبعه عمير بن وهب من قومه بأمان النبي صلى الله عليه وسلم له فرجع وانذره أربعة أشهر‏.‏ وهرب ابن الزبير الشاعر إلى نجران ورجع فأسلم وهرب هُبَيْرَةُ بن أبي وهب المخزومِيّ زوج أم هاني إلى اليمن فمات هنالك كافراً‏.‏ ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم السرايا حول مكة ولم يأمرهم بقتال وفي جملتهم خالد بن الوليد إلى بني جُذَيْمَةَ بن عامر بن عبد مناة ابن كنانة فقتل منهم وأخذ ذلك عليه وبعث إليهم عليًّا بمال فودى لهم قتلاهم ورد عليهم ما أخذ لهم‏.‏ ثم بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالداً إلى العزى بيت بنخلة كانت قصر تعظمه من قريش وكنانة وغيرهم‏.‏ وسدنة بنو شَيْبَان من بني سُلَيْم حلفاء بني هاشم فهزمهم‏.‏ ثم أن الأنصار توقفوا إلى أن يقيم صلى الله عليه وسلم بمكة داره بعد أن فتحها فأهمهم ذلك وخرجوا له فخطبهم صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أن المَحْيا مَحْياهُم والممات مماتهم فسكتوا لذلك واطمأنّوا‏.‏ غزوة حنين وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ة خمس عشرة ليلةً وهو يقصر الصلاة فبلغه أن هوازِنَ وثَقِيفَ جمعوا له وهم عامِدون إِلى مكّة وقد نزلوا حنَيْنآَ وكانوا حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يظنون أنه إنما يريدهم‏.‏ فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوْفٍ من بني النضَيْرِ وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جَشَم بن معاوية وبني سَعْدِ بن بكرٍ وناساً من بني هلال بن عامر بن صَعْصَعَةَ بن معاوية والأحلاف من بني مالك بن ثقيف بن بكر ولم يحضرها من هوازن كعب ولا من كلاب وفي جشم دُرَيْد بن الصِّمَّة بن بكر بن علقمة بن خُزاعَةَ بن أزِيةَ بن جشم رئيسهم وسيدهم شيخ كبير ليس فيه إِلا لِيُؤتَمً برأيه ومعرفته‏.‏ في ثقيف سيدان ليس لهم في الأحلاف إِلا قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب وفي بنيِ مالك ذو الخِمارِ سُبَيْعُ بن الحرث بن مالك وأخوه أحْمَرُ وجمع أمر الناس إلى مالك بن عوف‏.‏ فلما أتاهم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد فتح مكة أقبلوا عامدين إِليه‏.‏ وساق مالك مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم يرى أنه أثبت لموقفهم فنزلوا بأوْطاسَ‏.‏ فقال دريد بن الصمة لمالك‏:‏ ما لي اسمع رُغاءَ البعير ونهاقَ الحمار وبِعار الشاء وبكاء الصغير‏.‏ فقال‏:‏ أموال الناس وابناؤهم سقنا معهم ليقاتلوا عنها فقال‏:‏ راعي ضأن والله وهل يرد المنهزم شيء‏.‏ إِن كانت لك لم ينفعك إِلأَ رجل بسلاحه وإِن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك‏.‏ ثم سأل عن كَعْبِ كلاب وأسف لغيابهم وأنكر على مالك رأيه ذلك وقال‏:‏ لم تصنع بتقديم نقيضة هوازَن إلىً نحور الخيل شيئاً أرفعهم إلى ممتنع بلادهم ثم ألق الصبيان على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من ورائك وإن كانت لغيرك كنت قد أحرزت أهلك ومالك‏.‏ وأبي عليه مالك واتبعه هوازن‏.‏ ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حَدرَد الأسْلَمِيّ يستعلم بخبر القوم فجاءه وأطلعه على جَلِيَّةِ الخبر وانهم قاصدون إليه فاستعار رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم من صَفْوَانَ بن أمية مائة درع وقيل أربعمائة وخرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين عشرة آلاف الذين صحبوه من المدينة وألفان من مسلمة الفتح‏.‏ واستعمل على مكة عِتابَ بن أُسَيْدِ بن أبي العيص بن أمية ومضى لوجهه وفي جملة من اتبعه عًبّاسُ بن مِرداسَ والضَحّاكُ بن سُفْيانَ الكِلابيّ وجموعٌ من عَبْسٍ وذُبْيَانَ ومُزَيْنَةَ وبني أسَدٍ‏.‏ ومر في طريقه بشجرة سِدر خضراء وكان لهم في الجاهلية مثلها يطوف بها الأعراب ويعظمونها ويسمونها ذات أنْوَاطٍ‏.‏ فقال له جفاة الأعراب يا رسول الله‏!‏ اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط‏.‏ فقال لهم‏:‏ قلتم كما قال قوم موسى‏:‏ إجعل لنا إِلهاً كما لهم آلهة‏.‏ والذي نفسي بيده لتركبَنّ سنن من كان قبلكم وزجرهم عن بذلك‏.‏ ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تَهَامَةَ أول يوم من شوال من السنة الثامنة وهو وادي الحزن فتوسطه في غبش الصبح وقد كمنت هوازن جانبيه فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد وناداهم صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا‏.‏ وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر والفضل وقثم ابنا العباس وجماعة سواهم والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء دَلْدَلَ والعباس آخذ بشكائمها وكان جهير الصوت فأمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة وقيل وبالمهاجرين‏.‏ فلما سمعوا الصوت وذهبوا ليرجعوا فصدهم ازدحام المنهزمين أن يثنوا رواحلهم فاستقاموا وتناولوا سيوفهم وتراسهم واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد اجتمع منهم حواليه نحو المائة فاستقبلوا هوازن والناس متلاحقون‏.‏ واشتدت الحرب وحمي الوطيس وقذف اللّه في قلوبهم هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله فلم يملكوا أنفسهم فولوا منهزمين ولحق آخر الناس وأسرى هوازن مغلولة بين يديه وغنم المسلمون عيالهم وأمولهم واستحر القتل في بني مالك من ثقيف فقتل منهم يومئذ سبعون رجلاً في جملتهم ذو الخمار وأخوه عثمان ابنا عبد الله بن ربيعة بن حبيب سيداهم‏.‏ وأما قارب بن الأسود سيد الأحلاف من ثقيف ففر بقومه منذ أول الأمر وترك رأيته فلم يقتل منهم أحد ولحق بعضهم بنخلة وهرب مالك بن عوف النصري مع جماعة من قومه فدخلوا الطائف مع ثقيف واتجهت طوائف من هوازن إلى أوطاس واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من نخلة فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه‏.‏ يقال قتله ربيعة بن رافع بن أهبان بن ثعلبة بن يربوع بن سِماك بن عوف بن امرىء القيس‏.‏ وبعث صلى الله عليه وسلم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن أبا عامر الأشعري عم أبي موسى فقاتلهم وقتل بسهم رماه به سَلَمَةُ بن دُرَيْدَ بن الصِّمًةِ فأخذ أبو موسى الراية وشدّ على قاتل عمه فقتله وانهزم المشركون واستحرّ القتل في بني رباب من بني نصر بن معاوية وانفضت جموع هوازن كلها‏.‏ واستشهد من المسلمين يوم حنين أربعة منهم‏:‏ أيمن ابن أم أيمن أخو أسامة لأمه ويزيد بن زمعة بن الأسود وسراقة بن الحرث من بني العجلان وأبو عامر الأشعري‏.‏ حصار الطائف ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبايا والأموال فحبست بالجعرانة بنظر مسعود بن عمرو الغِفاري وسار من فوره إلى الطائف فحاصر بها ثقيف خمس عشرة ليلة وقاتلوا من وراء الحصون وأسلم من كان حولهم من الناس وجاءت وفودهم إليه‏.‏ وقد كان مر في طريقه بحصن مالك بن عوف النصري فأمر بهدمه ونزل على أطم لبعض ثقيف فتمنع فيه صاحبه فأمر بهدمه فأمر بهدمه فاخرب وتحصنت ثقيف‏.‏ وقد كان عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة من ساداتهم ذهبا إلى جرش يتعلمان صنعة المجانيق والدبابات للحصار لما أحسوا من قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِياهم فلم يشهدا الحصار ولا حنيناً قبله‏.‏ وحاصرهم المسلمون بضع عشرة أو نصف شهر أو بضع وعشرين ليلة‏.‏ واستشهد بعضهم بالنبل ورماهم صلى الله عليه وسلم بالمنجيق‏.‏ ودخل نفر من المسلمين تحت دبابة ودنوا إلى سور الطائف فصبوا عليهم سكك الحديد المحماة ورموهم بالنبل فأصابوا منهم قوماً‏.‏ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناقهم‏.‏ ورغب إليه ابن الأسود بن مسعود في ماله وكان بعيدأ من الطائف وكفّ عنه‏.‏ بثم رحل عن الطائف وتركهم ونزل أبو بكرة فاسلم‏.‏ واستشهد من المسلمين في حصاره سعيد بن سعيد بن العاص وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة أخو أم سلمة وعبد الله بن عامر بن ربيعة العَنَزِي حليف بني عَدِي في آخرين قريباً من إثني عشر فيهم أربعة من الأنصار‏.‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجَعْرَانَةِ وأفاه هنالك وفد هوازن مسلمين راغبين فخيرهم بين العيال والأبناء والأموال فاختاروا العيال والأبناء‏.‏ وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم‏.‏ وقال المهاجرون والأنصار‏:‏ ما كّان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أن يردا عليهم ما وقع لهما من الفيء وساعدهما قومهما‏.‏ وامتنع العباس بن مرادس كذلك وخالفهم بنو سُلَيْمَ وقالوا‏:‏ ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فعرض رسول صلى الله عليه وسلم من لم تطب نفسه عن نصيبه وردّ عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم‏.‏ وكان عدد سُبِي هوازن ستة آلاف بين ذكر وانثى فيهن الشيما أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وهي بنت الحرث بن عبد العُزَّى من بني ساعدة بن بكر من هوازن وأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسن إليها وخيرها فاختارت قومها فردها إليهم وقسم الأموال بين المسلمين‏.‏ ثم أعطى من نصيبه من خمس الخمس قوماً يستألفهم على الإسلام من قريش وغيرهم‏.‏ فمنهم من أعطاه مائة مائة ومنهم خمسين خمسين ومنهم ما بين ذلك ويسمون المؤلفة وهم مذكورون في كتب السير يقاربون الأربعين‏:‏ منهم أبو سفيان وابنه معاوية وحكيم بن خِزام وصفوان بن أمية ومالك بن عوف وغيرهم‏.‏ ومنهم عُيَيْنَةُ بن حصن بن حذيفة بن بدر والأقرع بن حابس وهما من أصحاب المائة‏.‏ وأعطى ابن عباس بن مرادس دونهما فأنشده أبياته المعروفة يتسخًط فيها فقال‏:‏ اقطعوا عني لسانه فأتموا إليه المائة ولما أعطى المؤلفة قلوبهم وَجِدَ الأنصار في أنفسهم إِذا لم يعطهم مثل ذلك وتكلم شبانهم مع ما كانوا يظنون أنه إذا فتح الله عليه بلده يرجع إلى قومه ويتركهم فجمعهم ووعظهم وذكرهم وقال‏:‏ إنما أعطي قوماً حديثي عهد بالإسلام أتألفهم عليه أما ترضون أن ينصرف الناس بالشاء والبعير وتنصرفوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكمٍ لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار‏.‏ ولو سلك الأنصار شِعْباً وسلك بالناس شِعْبا لسلكت شعب الأنصار فرضوا وافترقوا‏.‏ ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجَعْرَانَةِ إلى مكة ثم رجع إلى المدينة فدخلها لست بقين من ذي القعدة من السنة الثامنة لشهرين ونصف من خروجه واستعمل على مكة عتابَ بن أسَيْد شاباً ينيف عمره علي عشرين سنة وكان غلبه الورع والزهد فأقام الحج بالمسلمين في سنته وهو أول أمير أقام حج الإسلام وحج المشركون على مشاعرهم‏.‏ وخلف بمكة معاذ بن جبل يُفَقِّهُ الناس في الدين ويعلمهم القرآن وبعث عمرو بن العاص إلى أهل حنين وعمرو الجلندي من الأزد بعمان مصدقاً فأطاعوا له بذلك واستعمل صلى الله عليه وسلم مالك بن عوف على من أسلم من قومه ومن سلم منهم وما له حوالي الطائف من ثقيف‏.‏ وأمره بمغادرة الطائف من التضييق عليهم ففعل حتى جاؤوا مسلمين كما يذكر بعد‏.‏ وحسن إسلام المؤلفة قلوبهم ممن أسلم يوم الفتح أو بعده وإن كانوا متفاوتين في ذلك‏.‏ ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم كَعْبُ بن زُهَير فأهدر دمه وضاقت به الأرض وجاء فأسلم وأنشد النبي صلى الله عليه وسلم قصيدتهَ المعروفة في مدحه التي أوَلها‏:‏ بانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُولُ الخ‏.‏ وأعطاه بُرْدَةً في ثواب مدحه فاشتراها معاوية من ورثته بعد موته وصار الخلفاء يتوارثونها شعاراً‏.‏ ووفد في السنة تسع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بنو أسد فأسلموا وكان منهم ضِرارُ بن الأزوَرِ وقالوا‏:‏ قدمنا يا رسول الله قبل أن يرسل إلينا فنزلت‏:‏ ‏"‏ يَمُنُّون عليك أن أسلَموا ‏"‏ الآية‏.‏ ووفد فيها وفدتين في شهر ربيع الأول ونزلوا على رُوَيْفِع بن ثابت البَلَوي وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد منصرفه من الطائف في ذي الحجة إلى شهر رجب من السنة التاسعة‏.‏ ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم وكان في غزواته كثيراً ما يوري بغير الجهة التي يقصدها على طريقة الحرب إلا ما كان من هذه الغزاة لعسرها بشدّة الحرب وبعد البلاد وفصل الفواكه وقَلّة الظلال وكثرة العدو الذين يصدون‏.‏ وتجهزّ الناس على ما في أنفسهم من استثقال ذلك وطفق المنافقون يثبطونهم عن الغزو وكان نفر منهم يجتمعون في بيت بعض اليهود فأمر طلحة بن عبيد اللهّ أن يخرب عليهم البيت فخربها واستأذن ابن قيس من بني سلمة في العقود فأذن له وأعرض عنه‏.‏ وانتدب كثير من المسلمين للإنفاق والحَمْلان وكان من أعظمهم في ذلك عثمان بن عفّان يقال إنه أنفق فيها ألف دينار وحمل على تسعمائة بعير ومائة فرس وجهز ركاباً‏.‏ وجاء بعض المسلمين يستحمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلم يجد ما يحملهم عليه فتولوا باكين لذلك‏.‏ وحمل بعضهم يامين بن عمير النضير وهما أبو ليلى بن كعب من بني مازر ابن النجار وعبد الله بن مغفل المزني‏.‏ واعتذر المخلفون من الأعراب فعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم نهض وخلَف على المدينة محمد بن مسلمة وقيل بل شجاع بن عَرْفَطَةَ وقيل بل عليّ بن أبي طالب‏.‏ وخرج معه عبد الله بن أُبي بن سلول في عدد وعدة فلما سار صلى الله عليه وسلم تخلف هو فيمن تخلف من المنافقين‏.‏ ومر صلى الله عليه وسلم بالحجرعلى ديار ثمود فأمر أن لا يستعمل ماؤها ويعلف ما عجن منه للإبل وأذن لهم في بئر الناقة وأمر أن لا يدخلوا عليهم بيوتهم إِلا باكين ونهى أن يخرج أحد منفرداً عن صاحبه‏.‏ فخرج رجلان من بني ساعدة جُن أحدهما فمسح عليه فشفي والأخر رمته الريح في جبل طيء فردوه بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وضل صلى الله عليه وسلم عن ناقته في بعض الطريق فقال أحد المنافقين‏:‏ محمد يدعي علم خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته‏.‏ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ والله لا أعلم إلا ما علَمني اللّه وأن الناقة بموضع كذا وكان قد أوحي إليه بها فوجدوها ثَمَّ‏.‏ وكان قائل هذا القول زيد بن اللصيت من بني قينقاع وقيل إنّه تاب بعد ذلك‏.‏ وفضح الوحي قوماً من المنافقين كانوا يخذلون بالناس ويهولون عليهم أمر الروم فتاب منهم مخشي بن جهير ودعا أن يكفر عنه بشهادة يخفي مكانه فقتل يوم اليمامة‏.‏ ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى تبوك أتاه يُحَيْنَةُ بن رؤية صاحب أيْلَةَ وأهل وبعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيدِرَ بن عبد الملك صاحب دومة الجندل من كِنْدةَ كان ملكاً عليها وكان نصرانياً وأخبر أنه يجده يصيد البقر‏.‏ واتفق أن بقر الوحش باتت تهدَ القصر بقرونها فنشط أكيدر لصيدها وخرج ليلاً فوافق وصوله خالدأ فأخذه وبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنه وصالحه على الجزية وره وأقام بتبوك عشرين ليلة‏.‏ ثم انصرف وكان في طريقه ماء قليل نهى أن يسبق إليه أحد فسبق رجلان واستنفدا ما فيه فنكر‏.‏ عليهما ذلك‏.‏ ثم وضع يده تحت وشلة فصب ما شاء الله أن‏.‏ يصب ونضح بالوشل ودعا فجاش الماء حتى كفى العسكر‏.‏ وأخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك الموضع سمي جناباً ولما قرب من المدينة بساعة من نهار أنفذ مالك بن الدَّخْشَم من بني سُلَيْم ومعن بن عدي من بني العجلان إلى مسجد الضرار فأحرقاه وهدماه وقد كان جماعة من المنافقين بنوه وأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فسألوه الصلاة فيه فقال أنا على سفر ولو قدمنا أتيناكم فصلينا لكم فيه فلما رجع أمر بهدمه‏.‏ وفي هذه الغزاة تخلف كعبُ بن مالك من بني سلَمَةَ ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف وهلال بن أمية بن واقف وكانوا صالحين‏.‏ فنهى صلى الله عليه وسلم عن كلامهم خمسين يوماً ثم نزلت توبتهم‏.‏ وكان المتخلفون من غير عذر نيفاً وثلاثين رجلاً‏.‏ وكان وصوله صلى الله عليه وسلم من تبوك في رمضان سنة تسع وفيه كانت وفاتة ثقيف وإسلامهم‏.‏ ونزل الكثير من سورة براءة في شأن المنافقين وما قالوه في غزوة تبوك آخرِ غزوة غزاها صلى الله عليه وسلم‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 04:56 PM

اسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف وهدم الات
كان صلى الله عليه وسلم لما أفرج عن الطائف وارتحل إلى المدينة اتبعه عُرْوَةُ بن مسعود سيدهم فأدركه في طريقه وأسلم ورجع يدعو قومه فرمي بسهم في سطح بيته وهو يؤذن للصلاة فمات ومنع قومه من الطلب بدمه وقال‏:‏ هي شهادة ساقها الله إليّ وأوصى أن يدفن مع شهداء المسلمين‏.‏ ثم قدم ابنه أبو المليح وقارب بن مسعود فأسلما وضيق مالك بن عوف على ثقيف واستباح سرحهم وقطع سابلتهم‏.‏ وبلغهم رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك واتمروا في الوفادة وعلموا أن لا طاقة لهم بحرب العرب المسلمين‏.‏ وفزعوا إلى عبد ياليل بن عمرو بن عمير فشرط عليهم أن يبعثوا معه رجالأ منهم ليحضروا مشهده خشية على نفسه مما نزل بعروة فبعثوا معه رجلين من أحلاف قومه وثلاثاً من بني مالك فخرج بهم عبد ياليل وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة التاسعة يريدون البيعة والإسلام فضرب لهم قبة في المسجد‏.‏ وكان خالد بن سعيد بن العاص يمشي في أمرهم وهو الذي كتب كتابهم بخطه وكانوا لا يأكلون طعاماً يأتيهم حتى يأكل منه خالد وسألوه أن يدع لهم اللات ثلاث سنين رعياً لنسائهم وأبنائهم حتى يأنسوا فأبى وسألوه أن يعفيهم من الصلاة‏.‏ فقال‏:‏ لا خير في دين لا صلاة فيه فسألوه أن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال‏:‏ أما هذه فأنا سنكفيكم منها فأسلموا وكتب لهم وأمَّر عليهم عثمان بن أبي العاص أصغرهم سناً لأنه كان حريصاً على الفقه وتعلم القرآن‏.‏ ثم رجعوا إلى بلادهم وخرج معهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم اللات وتأخر أبو سفيان حتى دخل المغيرة فتناولها بيده ليهدمها وقام بنو مُعْتِبَ دونه خشية عليه‏.‏ ثم جاء أبو سفيان وجمع ما كان لها من الحُلِيَ وقضى منه دين عُرْوَةَ والأسْوَدِ ابني مسعود كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقسم الباقي‏.‏ الوفود ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وأسلمت ثقيف ضربت إليه وفود العرب من كل وجه حتى لقد سميت سنة الوفود‏.‏ قال ابن اسحق‏:‏ وإنما كانت العرب تتربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذلك أن قريشاً كانوا إِمام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل وقادتهم لا ينكرون ذلك‏.‏ وكانت قريش هي التي نصبت لحربه وخلافه‏.‏ فلما افتتحت مكة ودانت قريش ودخلها الإسلام عرفت فأول من قدم إِليه بعد تبوك وفد بني تميم وفيه من رؤوسهم عَطارِد بن حَاجِبِ بن زُرَارَةَ بن عَدَس من بني دارم بن مالك والحبابُ بن يزيد والأقْرَعُ بن حابس والزبْرَقانُ بن بدْرٍ من بني سعد وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهْتَم وهما من بني مِنْقَرٍ ونعيم بن زيد ومعهم عيينة بن حصن الفزاري‏.‏ وقد كان الأقرع وعيينة شهدا فتح مكة وخيبر وحصار الطائف ثم جاءا مع وفد بني تميم‏.‏ فلما دخلوا المسجد نادوا من وراء الحجراتِ فنزلت الآيات في إِنكار ذلك عليهم‏.‏ ولما خرج قالوا‏:‏ جئنا نفاخرك بخطيبنا وشاعرنا فأذن لهمٍ فخطب عطارد وفاخر ويقال والأقرع بن حابس‏.‏ ثم أنشد الزبرقان بن بدر شعراً بالمفاخرة ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن الشماس من بني الحرث بن الخزرج فخطب وحسان بن ثابت فانشد مساجلين لهم‏.‏ فاذعنوا للخطبة والشعر والسؤدد والحلم وقالوا‏:‏ هذا الرجل هو مؤيد من الله خطيبه أخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا وأصواتهم أعلى من أصواتنا ثم أسلموا‏.‏ وأحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوازهم‏.‏ وهذا كان شأنه مع الوفود يُنْزِلُهُم إذا قدِموا ويُجَهِّزُهم إذا رَحَلوا‏.‏ ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان مقدمه من تبوك كتاب ملوك حمير مع رسولهم ومع الحرث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر‏.‏ وبعث زُرْعَةُ بن ذي يَزَنٍ رسوله مالك بن مُرّةٍ الرَهَاوِيِّ باسلامهم ومفارقة الشرك وأهله وكتب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتابه‏.‏ وبعث إلى ذي يزن معاذ بن جَبَلَ مع رسوله مالك بن مرة لجمع الصدقات وأوصاهم برسله معاذ وأصحابه‏.‏ ثم مات عبد الله بن أُبي بن سلول في ذي القعدة ونعى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم النجاشي وإنه مات في رجب قبل تبوك‏.‏ وقم وفد بهرا في ثلاثة عشر رجلاً ونزلوا على المِقِدادِ بن عمرو وجاء بهم فأسلموا وأجازهم وانصرفوا‏.‏ وقدم وفد بني البَكاء ثلاثة نفر منهم وقدم وفد بني فَرَازَةَ بضعة عشر رجلاً فيهم خارجَة بن حصن وابن أخيه الحُرُّ بن قيس فأسلموا‏.‏ ووفد عديّ بن حاتم بن طيء فأسلم‏.‏ وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد بعث قبل تبوك إلى بلاد طيء علي بن أبي طالب في سرية فأغار عليهم وأصيب حاتم وسبيت ابنته وغنم سيفين في بيت أصنامه كانتا من قربان الحرث بن أبي شمَر‏.‏ وكان عديّ قد هرب قبل ذلك ولحق ببلاد قُضَاعَةَ بالشام فراراً من جيوش المسلمين وجواراً لأهل دينه من النصارى وأقام بينهم ولما سيقت ابنة حاتم جعلت في الحظيرة بباب المسجد التي كانت السبايا تحبس بها‏.‏ ومر بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فكلمته أن يمنّ عليها فقال‏:‏ قد فعلت ولا تعجلي حتى تجدي ذا ثِقة من قومك يبلغك إلى بلادك‏.‏ ثم آذنيني قالت‏:‏ فأقامت حتى قدم ركب من بني قضاعة وأنا أريد أن آتي أخي بالشام فعرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فكساني وحملني وزودَني وخرجت معه فقدمت الشام‏.‏ فلما لقيها عدِيّ تلاوم ساعة ثم قال لها‏:‏ ماذا ترين في أمر هذا الرجل فأشارت عليه باللحاق به فوفد وأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله إلى بيته وأجلسه على وسادَتِهِ بعد أن استوقفته في طريقه امرأة فوقف لها‏.‏ فعلم عَدِيّ أنه ليس بملك وإنما هو نبي‏.‏ ثم أخبره عن أخذه المرباع من قومه ولا يحلّ له فازداد استبعاداً فيه ثم قال‏:‏ لعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم فوالله ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها تزور هذا البيت لا تخاف أو لعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان لغيرهم فيوشك أن تسمع بالقصور البيض من بابل قد فتحت‏.‏ فأسلم عديّ وانصرف إلى قومه ثم أنزل الله على نبيِّه الأربعين آية من سورة براءة في نبذ العهد الذي بينه وبين المشركين لا يصدّوا عن البيت ونهوا أن يقرب المسجد الحرام مشرك بعد ذلك وأن لا يطوف بالبيت عرياناً وإن كان بينه وبين رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم عهد فيتم له إلى مدته وأجلهم أربعة اشهر من يوم النحر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات أبا بكر وأمره على إِقاه الحج بالموسم من هذه السنة فبلغ ذي الحُلَيْفَة فاتبعه بعلي فأخذها منه فرجع أبو بكر مشفقاً أن يكون نزل فيه قرآن‏.‏ فقال له النبي اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لم ينزل شيء ولكن‏:‏ لا يبلغ عني غيري أو رجل مني‏.‏ فسار أبو بكرعلى الحجّ وعليّ على الأذن ببراءة‏.‏ فحج أبو بكر بالناس وهم على حجّ الجاهلية‏.‏ وقام علي عند العقبة يوم الأضحى فأذَّن بالآية التي جاء بها‏.‏ قال الطبري‏:‏ وفي هذه السنة فرضت الصداقات لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ خذ من أموالهم صَدقة تُطَهرُهُم وَتُزَكِّيهمْ بها ‏"‏ الآية‏.‏ وفيها قدم وفد ثَعْلَبَةَ بن مُنْقِذٍ ووفد هذيم من قُضاعَةَ قال الطبري‏:‏ وفيها بعث بنو سعد بن بكر ضَمْضَامَ بن ثَعْلَبَةَ وافداً فاستحلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على ما جاء به الإسلام وذكر التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحجّ واحدة واحدة حتى إِذا فرغ تشهد وأسلم وقال‏:‏ لأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيت عنه ثم لا أزيد عليها ولا انقص فلما انصرف قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِن صدق دخل الجنة‏.‏ ثم قدم على قومه فأسلموا كلهم يوم قدومه والذي عليه الجمهور أنّ قدوم ضمضام وقَصّته كانت سنة خمس‏.‏ ثم دخلت سنة عشر فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في ربيع أوجمادى في سرية أربعمائة إلى نجران وما حولها يدعو بني الحرث بن كعب إلى الإسلام ويقاتلهم إِن لم يفعلوا فأسلموا وأجابوا داعيته‏.‏ وبعث الرسل في كل وجه فأسلم الناس فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه بأن يقدم مع وفدهم فأقبل خالد ومعه وفد بني الحرث بن كعب منهم قيس بن الحصين ذو القصَّة ويزيد بن عبد المدان ويزيد بر المحجل وعبد اللّه بن قريض الزيادي وشداد بن عبد اللّه الضبابي وعمرو بن عبد اللّه الضبابي فأكرمهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم‏:‏ بم كنتم تغلبون من يقاتلكم في الجاهلية قالوا‏:‏ كنا نجتمع ولا نفترق ولا نبدأ أحداً بظلم قال صدقتم فأسلموا وأمر عليهم قيس بن الحصين ورجعوا صدر ذي القعدة من سنة عشر ثم اتبعهم عمرو بن حزام من بني النجار ليفقههمٍ في الدين ويعلمهم السنَّة وكتب إليه كتاباً عهد إِليه في ععهده إليه وأمره بأمره‏.‏ وأقام عاملاً على نجران‏.‏ وهذا الكتاب وقع في السير مروياً واعتمده الفقهاء في الإستدلالات وفيه مآخذ كثيرة للأحكام الفقهية ونصه‏:‏ بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من اللّه ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود عهداً من محمد النبي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره بتقوى اللّه في أمره كله فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم مُحسنون‏.‏ وآمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله وأن يُبشِّر الناس بالخير ويأمرهم به ويعلَم الناس القرآن ويفقههم فيه‏.‏ وينهى الناس فلا يمس القرآن إِنسان إِلا وهو طاهر ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم ويلين للناس في الحق ويشتد عليهم في الظلم فإن اللّه حرًم الظلم ونهى عنه فقال‏:‏ ألا لَعْنَةُ الله على الظالمين‏.‏ وأن يبشَر الناس بالجَنةِ وبعَمَلِها ويُنْذِرَ الناس بالنار وعملها ويستألف الناس حتى يَتَفقَّهُوا في الدين ويعلم الناس معالم الحجِّ وسننه وفرائضه وما أمر الله به والحج الأكبر والحج الأصغر وهو العمرة‏.‏ وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب صغير إِلا أن يكون ثوبأ يثنى طرفيه على عاتقه وينهى أن يختبىء أحد في ثوب واحد ويفضي بفرجه إلى السماء وينهى أن يقصّ أحد شعر رأسه إذا عفا في قفاه وينهى إِذا كان بين الناس هَيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر وليكن دعاؤه إلى الله وحده لا شريك له فمن لم يدع إلى الله ودعا القبائل والعشائر فليُعْطِفُوهُ بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له‏.‏ ويأمر الناس بأسباغ الوضوء في وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين ويمسحوا برؤوسهم كما أمرهم الله‏.‏ وأمرهم بالصلاة بوقتها وإتمام الركوع والسجود يغلس بالصبح ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس وصلاة العصر والشمس في الأرض مُدْبِرة والمغرب حين يقبل الليل لا تؤخر حتى تبدو نجوم السماء والعشاء أول الليل‏.‏ وآمر بالسعي إلى الجمعة إذا نُودِيَ لها والغسل عند الرواح إليها وآمره أن يأخذ من الغنائم خمس الله وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين أو سقت السماء وعلى ما سقى الغرب نصف العشر‏.‏ وفي كل عشر من الإبل شاتان وفي كل عشرين أربع شياة وفي كل أربعين من البقر بقرة وفي كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة جذع أو جذعة وفي كل أربعين من الغنمٍ سائمة وحدها شاه‏.‏ فإنها الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيراً فهو خير له‏.‏ وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني إِسلاماً خالصاً نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين ما لهم وعليه ما عليهم ومن كان على نَصْرَانِيَّتهِ أو يَهُودِيَّته فإنه لا يردّ عنها وعليه الجزية وعلى كل محتلم ذكر أو أنثى حرّ أو عبد دينار وافٍ أو عوضه ثياباً‏.‏ فمن أدى ذلك ذمة الإسلام ذمة اللّه وذمة رسوله‏.‏ ومن منع ذلك فإنه عدوّ للّه ولرسوله وللمؤمنين جميعاً صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمته وبركاته‏.‏ وقدم وفد غسان في رمضان من هذه السنة العاشرة في ثلاثة نفر فأسلموا وانصرفوا إلى قومهم فلم يجيبوا إلى الإسلام فكتموا أمرهم وهلك اثنان منهم ولقي الثلث أبو عبيدة عام اليرموك فأخبره بإسلامه وقدم فيه وفد عامر عشرة نفر فأسلموا وتعلموا الإسلام وأقرأهم النبي القرآن وانصرفوا‏.‏ وقدم في شوّال وفد سلامان بسبعة نفر رئيسهم حبيب فأسلموا عن قومهم وتعلموا القرآن وانصرفوا‏.‏ وفيها قدم أزد جرش وفد فيهم صُرَدُ بن عبد اللّه الأزدي فيء قومه ونزلوا على فَروّةَ بن عمرو‏.‏ وأمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا صرداً على من أسلم منهم وأن يجاهد المشركين حوله‏.‏ فحاصر جرش ومن بها من خثعم وقبائل وكانت مدينة حصينة اجتمع إليها أهل اليمن حين سمعوا بزحف المسلمين فحاصرهم شهراً‏.‏ ثم قفل عنهم فظنوا أنه انهزم فاتبعوه إلى جبل شكر فصف وحمل عليهم منهم وكانوا بعثوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رائدين وأخبرهما ذلك اليوم بواقعة شكر‏.‏ وقال‏:‏ إن بدن الله لتنحر عنده الآن فرجعا إلى قومهما فأخبراهم بذلك وأسلموا وحَمَى لهم حمى حول قريتهم‏.‏ ومنها كان إسلام هَمْدَانَ ووفادتهم على يد عليٍّ رضي اللّه عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فمكث ستة أشهر لا يجيبونه فبعث عليه السلام عليّ بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالداً فلما بلغ علي أوائل اليمن جمعوا له فلما لقوه صفُّوا فقدّم علي الإنذار وقرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان كلها في ذلك اليوم وكتب بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسجد لله شكرأ ثم قال‏:‏ السلام على همدان ثلاث مرّات‏.‏ ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام وقدمت وفودهم وكان عمرو بن معد يكرب الزبيدي قد قال لقيس بن مكثوم المرادي‏:‏ إذهب بنا إلى هذا الرجل فلن يخفى علينا أمره فأبى قيس من ذلك‏.‏ فقدم عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم‏.‏ وكان فَرْوَةَ بن مُسَيْك المُرَاديُ على زُبَيْدَ لأنه وفد قبل عمرو مفارقاً لملوك كندَةَ فأسلم ونزل على سعد بن عَبادة وتعلَّم القرآن وفرائض الإسلام واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على مُرَادَ وزُبَيْدَ ومَذْحِجَ كلها وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة فكان معهم في بلاده حتى كانت الوفاة‏.‏ وفي هذه السنة قدم وفد عبد القيس يقدمهم الجارود بن عمرو وكانوا على دين النصرانية فأسلموا ورجعوا إلى قومهم‏.‏ ولما كانت الوفاة إرتدً عبد القيس ونصبوا المُنذِر َبن النُّعمان بن المنذر الذي يسمى الغَرور وثبت الجارود على الإسلام وكان له المقام المحمود وهلك قبل أن يرجعوا‏.‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوي العبدي فأسلم وحسن إسلامه وهلك بعد الوفاة وقبل ردّة أهل البحرين والعلاء أمير عنده لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين‏.‏ وفي هذه السنة قدم وفد بني حنيفة في سنة عشر فيهم مُسَيْلِمَةُ بن حبيب الكذّاب ورجال بن عَنْفَوَةَ وطَلْقُ بن علي بن قيس وعليهم سلمان بن حنظلة فأسلموا وأقاموا أياماً يتعلَمون القرآن من أُبَيّ بن كعب ورجّال يتعلم وطلق يؤذن لهم ومسيلمة في الرحال وذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم مكانه في رحالهم فأجازه‏.‏ وقال‏:‏ ليس بشركم مكاناً لحفظه رحالكم‏.‏ فقال مسيلمة‏:‏ عرف أن الأمر لي من بعده‏.‏ ثم ادَّعى مُسَيْلِمَةُ بعد ذلك النبَوّةَ وشهد له طلق إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه في الأمر فافتتن الناس به كما سنذكره‏.‏ وفيها قدم وفد كنْدَةَ يقدمهم الأشعث بن قيس في بضعة عشر وقيل في ستين وقيل في ثمانين وعليهم الديباج والحرير وأسلموا ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه فتركوه‏.‏ وقال له اشعث‏:‏ نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار فضحك وقال‏:‏ ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحرث وكانا تاجرين فإذا ساحا في أرض العرب قال‏:‏ نحن بنو آكل المرار فيعتز بذلك كأن لهم عليه ولادة من الأمهات‏.‏ ثم قال‏:‏ نحن بنو النضر بن كنانة فانتفوا منا ولا ينتفي من إلينا‏.‏ وقدم مع وفد كِندَةَ وفد حضرموت وهم بنو وُلَيْعَةَ وملوكهم صُمْرَةُ ومخْوِشُ ومُسْرِحُ والضعة فأسلموا ودعا لمخوش بإزالة الرتّة من لسانه‏.‏ وقدم وائل بن حجر راغباً في الإسلام فدعا له ومسح رأسه ونودي الصلاة جامعة سرورأ بقدومه وأمر معاوية أن ينزل بالحَرةِ فمشى معه وكان راكباً فقال له معاوية‏:‏ أعطني نعلك اتوقّى بها الرمضاء فقال‏:‏ ما كنت لألبسها وقد لبستها وفي رواية لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك فقال‏:‏ اردفني فقال‏:‏ لست من ارداف الملوك‏.‏ ثم قال‏:‏ إن الرمضاء قد أحرقت قدمي قال‏:‏ امش في ظلّ ناقتي كفاك به شرفاً‏.‏ ويقال أنه وفد على معاوية في خلافته فأكرمه‏.‏ وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ هذا كتاب محمد النبي لوائل بن حجر قَيل حضر موت إنك إِن أسلمت جعلت لك ما في يديك من الأرض والحصون ويؤخذ منك من كل عشرة واحدة ينظر في ذلك ذوو عدل منكم وجعلت لك ألا تظلم فيها معلّم الدين‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عليه أنصار قال عياض‏:‏ وفيه إلى الأقيال العَباهِلَة والأوْرَاع المشابيب وفيه فيِ العًبية شاة مقورّة لا لِياط ولا ضِناك وفي السيوب الخمس ومن زنى من بكر فأصفعُوه مائة واستوفضُوهُ عامأ ومن زنى من ثَيِّبِ ففرجوه بالأصاحيم ولا توصيم في الدين ولا غمه في فرائض الله وكل مُسْكِر حرام ووائل بن حجر يَتَرَفَّلُ على الأقيال‏.‏ وفيها قدم وفد محارب في عشرة نفر فأسلموا وفيها قدم وفد الرها من مذحج في خمسة عشر نفراً وأهدوا فرساً فأسلموا وتعلموا القرآن وانصرفوا‏.‏ ثم قدم نفر منهم وحجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي فأوصى لهم بمائة وسق من خيبر جارية عليهم من الكتيبة وباعوها من معاوية‏.‏ وفيها قدم وفد نجران النصارى في سبعين راكباً يقدمهم أميرهم العاقب عبد المسيح من كندة وأسقفهم أبو حارثة من بكر بن وائل والسيد الأيهم وجادلوا عن دينهم‏.‏ فنزل صدر سورة آل عمران وآية المباهلة فأبوا منها وفرقوا وسألوا الصلح وكتب لهم به على ألف حلة في صَفَر َوألف في رَجَب وعلى دروع ورماح وخيل وحمل ثلاثين من كل صنف‏.‏ وطلبوا أن يبعث معهم والياً يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجرّاح ثم جاء العاقب والسيّد وأسلما‏.‏ وفيها قدم وفد الصدف من حضرموت في بضعة عشر نفراً فأسلموا وعلمهم أوقات الصلاة وذلك في حجَّة الوداع وفي هذه السنة قدم وفد عبس قال ابن الكلبي‏:‏ وفد منهم رجل واحد فأسلم ورجع ومات في طريقه وقال الطبري‏:‏ وفيها وفد عدي بن حاتم في شعبان انتهى‏.‏ وفيها قدم وفد خولان عشرة نفر فأسلموا وهدموا صنمهم وكان وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية قبلِ خيبر رفاعة بن زيد الضبَيْبِي من جذام وأهدى غلامأ فأسلم‏.‏ وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا ولم يلبث أن قفل دحيَةُ بن خليفة الكَلْبِي منصرفاً من عند هِرَقْلَ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه تجارة فأغار عليه الهُنَيد بن عوص وقومه بنو الضليع من بطون جذام فأصابوا كل شيء معه وبلغ ذلك مسلمين من بني الضبيب فاستنقذوا ما أخفه الهنيد وابنه وردّوه على دحية‏.‏ وقدم دحية على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فبعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش من المسلمين فأغار عليهم بالقضقاض من حرَّة الرمل وقتلوا الهنيد وابنه في جماعة وكان معهم ناس من بني الضبيب فاستباحوهم معهم وقتلوهم‏.‏ فركب رِفاعَةَ بن زيد ومعه أبو زيد بن عمرو من قومه في جماعة منهم فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر فقال‏:‏ كيف أصنع بالقتلى فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه أطلق لنا من كان حياً فبعث معهم عليّ بن أبي طالب وحمله على جمل وأعطاه سيفه فلحقه بِفَيْفَاءِ الفَحْلَتَيْن وأمره برد أموالهم فردّها‏.‏ وفي هذه السنة قدم وفد عامر بن صَعَصَعَةَ فيهم عامر بن الطفَيْل بن مالك وأربد بن ربيعة بن مالك فقال له عامر‏:‏ يا محمد اجعل لي الأمر بعدك فقال‏:‏ ليس ذلك لك ولا لقومك قال‏:‏ اجعل لي الوبر ولك المدر قال لا ولكن أجعل لك أعِنَّة الخيل فإنك أمرؤ فارس‏.‏ فقال لأمْلأنَهَا عليك خيلاً ورجلاً ثم ولوا فقال‏:‏ اللهم أكفِنيهم اللهم اهدِ عامراً وأغن الإسلام عن عامر‏.‏ وذكر ابن اسحاق والطبري أنهما أرادا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقدروا عليه في قصة ذكرها أهل الصحيح ثم رجعوا إلى بلادهم فأخذه الطاعون في عنقه فمات في طريقه في أحياء بني سلول وأصابت أخاه أربد صَاعقة بعد ذلك‏.‏ ثم قدم عَلْقَمَة بن عُلاَثَة بن عوف وفيها قدم وفد طيء في خمسة عشر نفراً يقدمهم سيدِهم زيد الخيل وقُبَيْصَةُ بن الأسود من بني نبهان فأسلموا‏.‏ وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير وأقطع له بئراً وأرضين معها وكتب له بذلك ومات في مرجعه‏.‏ وفي هذه السنة ادعى مسَيْلمَة النبوة وأنه أُشرِكَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر وكتب إليه‏:‏ من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك فإني قد اشركت في الأمر معك وأن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريش قوم لا يعدلون وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتَّبَع الهدى أما بعد فإن الأرض للِه يورثُها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏.‏ قال الطبري‏:‏ وقد قيل‏:‏ إِنً ذلك كان بعد منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع كذلك نذكر‏.‏ حجة الوداع ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع في خمس ليال بقين من ذي القعدة ومعه من أشراف الناس ومائة من الإبل هدايا ودخل مكة يوم الأحد لأربع خلون من ذي الحجة ولقيه علي بن أبي طالب بصدقات نجران فحج معه وعلَم صلى الله عليه وسلم الناس مناسكهم واسترحمهم وخطب الناس بعرفة خطبته التي بين فيها ما بين حمد الله والثناء عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلَي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدأ أيها الناس إِن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم هذا وستلقون ربِّكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بَلَّغْتُ‏.‏ فمن كان عنده أمانة فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها وإِن كان رباً فهو موضوع‏:‏ فلكم رؤوس أموالك لا تَظْلِمُون ولا تَظْلَمُون‏.‏ قضى الله أنه لا ربا إِن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كلُّه وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع كلُه وإن أول دم وضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المًطلب وكان مسترضعاً في بني ليث فقتله بنو هذيل فهو أول ما أبدىء من دم الجاهلية‏.‏ أيها الناس إِنّ الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم‏.‏ أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلونه عامأ ويحرمونه إِلى فيحلوا ما حرَّم الله ويحرموا ما أحلّ الله ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الفرد الذي بين جمادى وشعبان‏.‏ أما بعد أيها الناس فإنِّ لكم على نسائكم حقّاً ولهن عليكم حقاً‏.‏ لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدأ تكرهونه وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإنَ الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع وتضربوهنّ ضربأ غير مبرّح فإن انتهين فلهنّ رزقهنَّ وكسوتهنّ بالمعروف‏.‏ واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوار لا يملكن لأنفسهن من الخير شيئاً وإنكم إنما أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي فإني قد بلَّغت وتركت فيكم ما إن استعصمتم به فلن تضلوا أبداً‏:‏ كتاب اللّه وسنَة نَبِيِّه‏.‏ أيها الناس‏!‏ اسمعوا قولي واعلموا أن كل مسلم أخو المسلم وإنّ المسلمين إخوة فلا يحل لامرىء من مال أخيه إِلا ما أعطاه إياه عن طيب نفس فلا تظلموا أنفسكم‏.‏ أللَهم قد بَلَغت فذكر أنهم قالوا اللهمَ نعم‏.‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اللهَم اشهد‏.‏ وكانت هذه الحجة تسمى حجة البلاغ وحجة الوداع لأنه لم يحج بعدها وقد كان حج قبل ذلك حجتين واعتمر مع حجة الوداع عمرة فتلك ثلاث‏.‏ ثم انصرف إلى المدينة في بقية ذي الحجة من العاشرة‏.‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم باذان‏:‏ عامل كسرى على اليمن وأسلمت اليمن أمَّره على جميع مخاليفها ولم يُشْرِك معه فيها أحد حتى مات‏.‏ وبلغه موته وهو منصرف من حجة الوداع فقسم عمله على جماعة من الصحابة‏.‏ فولى على صنعاء ابنه شَمِر ُبن باذان وعلى مَارِب أبا موسى الأشعري وعلى الجند يعلى بن أمية وعلى هَمَدان عامر بن شمر الهمداني وعلى عَكٍّ والأشْعَرِيِّين الطاهر بن أبي هالة وعلى ما بين نجران وزُمَع وزُبَيْد خالد بن سعيد بن العاص وعلى نجران عمرو بن حزام وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد البَيَاضِيَ وعلى السَكاسِك والسَكونِ عُكاشَةَ بن ثور بن أصغر الغَوْثي وعلى معاوية بن كندة عبد الله المهاجر بن أبي أمية واشتكي المُهَاجِرُ فلم يذهب فكان زياد بن لبيد يقوم على عمله‏.‏ وبعث بن جبل معلِّماً لأهل اليمن وحضرموت وكان قبل ذلك قد بعث على الصدقات عَديّ بن حاتم على صدقة طيء وأسد ومالك بن نويره على صدقات بني حنظلة وقسم صدقة بني سعد بين رجلين منهم وبعث العَلاءَ بن الحضرمي على البحرين وبعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ويقدم عليه بها فوافاه من حجة الوداع كما مرّ‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 04:57 PM

خبر العنسي
كان الأسود العنسي واسمه عَبْهَلَةُ بن كعب ولقبه ذو الخِمارِ وكان كاهناً مُشَعوذاً يفعل الأعاجيب ويخلب بحلاوة منطقه وكانت داره كهف خيار بها ولد ونشأ وادعى النبوة وكانت مذحجاً عامَّة فأجابوه وأوعدوا نجران فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزام وخالد بن سعيد بن العاص وأقاموه في عملها‏.‏ ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك وهو على مراد فأجلوه‏.‏ وسار الأسود في سبعمائة فارس إلى شهر بن باذان بصنعا‏:‏ فلقيه شهر بن باذان فهزمه الأسود فقتله وغلب على ما بين صنعاء وحضرموت إلى أعمال الطائف إِلى البحرين من قبل عدن وجعل يطير استطارة الحريق وعامله المسلمون بالتقية وارتد كثير من أهل اليمن‏.‏ وكان عمرو بن معد يكرب مع خالد سعيد بن العاص فخالفه واستجاب للأسود فسار إِليه خالد ولقيه فاختلفا ضربتين فقطع خالد سيفه الصمصامة وأخذها ونزل عمرو عن فرسه وفتك في الخيل ولحق عمرو بن الأسود فولاه على مذحج وكان أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث المرادي وأمر الأبناء إلى فَيْروُز ودادَوَيْهَ‏.‏ وتزوَّج امرأة شهر بن باذان واستفحل أمره‏.‏ وخرج معاذ بن جبل هارباً ومرّ بأبي موسى الأشعري في مأرب فخرج معه ولحقا بحضرموت ونزل معاذ في السكون وأبو موسى في السكاسك ولحق عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بالمدينة‏.‏ وأقام الطاهر بن أبي هالة ببلاد عك‏:‏ جبال صنعاء‏.‏ فلما ملك الأسود اليمن واستفحل استخف بقيس بن عبد يغوث وبفيروز ودادويه وكانت ابنة عم فيروز هي زوجة شهر بن باذان التي تزوجها الأسود بعد مقتله واسمها أزاد‏.‏ وبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكتب مع وَبْرِ بن عُنَيْسَ إلى الأبناء وأبى موسى ومعاذ والطاهر يأمرهم فيه أن يعملوا أمر الأسود بالغيلة أو المصادقة‏.‏ ويبلغ عنه ما يروم عنده ديناً أو نجدة وأقام معاذ والأبناء في ذلك فدخلوا قيس بن عبد يغوث في أمره فأجاب ثم داخل فيروز بنت عمه زوجة الأسود فواعدته قتله‏.‏ وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن شمر الهمداني وبعث جرير عبد الله إلى ذي الكِلاع وذي أمران وذي ظَلِيم من أهل ناحيته وإلى أهل نجران من عربهم ونصاراهم واعترضوا الأسود ومشوا وتنحوا إلى مكان واحد وأخبر الأسود شيطانه بغدر قيس وفيروز ودادويه فعاتبهم وهمّ بهم ففرّوا إلى امرأته وواعدتهم أن ينقبوا البيت من ظهره ويدخلوا فَيُبَيتوه ففعلوا ذلك ودخل فَيْرُوز ومعه قيس ففتل عنقه ثم ذبحه فنادى بالأذان عند طلوع الفجر ونادى دادَوَيه بشعار الإسلام‏.‏ وأقام وبر بن حُنَيْس الصلاة واهتاجِ الناس مسلمهم وكافرهم وماج بعضهم في بعض واختطف الكثير من أصحابه صبياناَ من أبناء المسلمين وبرزوا وتركوا كثيراً من أبنائهم‏.‏ ثم تراسلوا في ردّ كلٍّ ما بيده وأقاموا يتردَّدون فيما بين صنعاء ونجران وخلصت صنعاء والجنود‏.‏ وتراجع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم وتنافسوا الإمارة في صنعاء‏.‏ ثم اتفقوا على معاذ يصلي بهم وكتبوا إلى رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم بالخبر وكان قد أتاه خبر الواقعة من السماء فقال في غداتها‏:‏ قتل العنسي البارحة قتله رجل مبارك وهو فيروز‏.‏ ثم قدمت الرسل وقد تَوفي النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ بعث اسامة ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجِّة الوداع آخر ذي الحجة ضرب على الناس في شهر المحرّم بعثاً إلى الشام وأمر عليهم مولاه أسامة بن زيد بن حارِثَةَ وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم إلى الأردنّ من أرض فِلَسْطِين ومشارف الشام‏.‏ فتجهز الناس وأوعب معه المهاجرون الأوّلون فبينا الناس على ذلك ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بشكواه التي قبضه اللّه فيها إلى كرامته ورحمته وتكلم المنافقون في شأن أسامة‏.‏ وبلغ الخبر بارتداد الأسود ومسيلمة وخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه من الصداع وقال‏:‏ إني رأيت البارحة في نومي أن في عضدي سِوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما هذين الكذابين‏:‏ صاحب اليمامة وصاحب اليمن‏.‏ وقد بلغني أن أقواماً تكلموا في أمارة أسامة طعنوا في أمارته لقد طعنوا في أمارة أبيه من قبله وإن كان أبوه لحقيقاً بالامارة وإِنه لحقيق بها انفروا‏.‏ فبعث أسامة فضرب أسامة بالحرق أخبار الأسود ومسيلمة وطليحة كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما قضى حجة الوداع تحلَّل به السير فاستكى وطارت الأخبار بذلك فوثب الأسود باليمن كما مرّ ووثب مسيلمة باليمامة ثم وثب طُلَيْحَةُ بن خُوَيْلِد في بني أسد يدّعي كلهم النبوّة‏.‏ وحاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسل والكتب إِلى عماله ومن ثبت على إسلامه من قومهم أن يجدّوا في جهادهم‏.‏ فأصيب الأسود قبل وفاته بيوم ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله والذبِّ عن دينه فبعث إلى المسلمين من العرب في كل ناحية من نواحي هؤلاء الكذابين يأمرهم بجهادهم‏.‏ وجاء كتاب مسيلمة إليه فأجابه كما مرّ‏.‏ وجاء ابن أخي طليحة يطلب الموادعة فدعا عليه صلى الله عليه وسلم حتى كان من حكم اللّه فيهم بعد وفاته ما كان‏.‏ مرضه صلى الله عليه وسلم أول ما بدىء به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من ذلك أن الله نعى إليه نفسه بقوله‏:‏ ‏"‏ إذا جاء نَصْرُ الله والفَتْحُ ‏"‏ إلى آخر السورة‏.‏ ثم بدأه الوجع لليلتين بقيتا من صفر وتمادى به وجعه وهو يدور على نسائه حتى استقر به في بيت ميمونة فاستأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة فأذِنّ له وخرج على الناس فخطبهم وتحلَّل منهم وصلى على شهداء أُحُد واستغفر لهم ثم قال لهم‏:‏ إن عبداً من عباد اللهّ خيَّره اللّه بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده‏.‏ وفهمها أبو بكر فبكى فقال‏:‏ بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا فقال‏:‏ على رسلك يا أبا بكر‏.‏ ثم جمع رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم أصحابه فرحّب بهم وعيناه تدمعان ودعا لهم كثيراً وقال‏:‏ أوصيكم بتقوى اللّه وأوصي اللّه بكم وأستخلفه عليكم وأودعكم إليه إِني لكم نذير وبشير ألاَ تعلوا على الله في بلاده وعباده فإنه قال لي ولكم‏:‏ ‏"‏ تلك الدارُ الآخِرَة نجعلها للذين لا يُريدون عًلُوًا في الأرض ولا فسادأ والعاقِبَةُ للمتًقين ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ أليس في جهنم مَثْوىً للمُتَكَبِّرِين ‏"‏‏.‏ ثم سألوه عن مغسله فقال‏:‏ الأدنَوْن من أهلي وسألوه عن الكفن فقال‏:‏ في ثيابي هذه أو بياض مصر أو حلَّة يمانيَّة‏.‏ وسألوه عن الصلاة عليه فقال‏:‏ دعوني على سريري في بيتي على شفير قبري ثم أخرجوا عني ساعة حتى تصلي عليّ الملائكة ثم ادخلوا فوجاً بعد فوج فصلوا وليبدأ رجال أهل بيتي ثم نساؤهم‏.‏ وساألوه عمن يُدْخِلُهُ القبر فقال‏:‏ أهلي‏.‏ ثم قال‏:‏ ائتوني بدواه وقرطاس اكتب لكم كتاباً لا تضلُون بعده فتنازعوا وقال بعضهم إنه يهجر وقال بعضهم أهجر‏.‏ يستفهم‏.‏ ثم ذهبوا يعيدون عليه ثم قال‏:‏ دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه‏.‏ وأوصى بثلاث‏:‏ أن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأن يجيزوا الوفد كما كان يجيزهم وسكت عن الثالثة أو نسيها الراوي‏.‏ وأوصى بالأنصار فقال‏:‏ إنهم كَرِشي وعَيْلَتِي التي أويت إليها فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئتهم فقد أصحبتم يا معشر المهاجرين تزيدون والأنصار لا يزيدون ثم قال‏:‏ سدّوا هذه الأبواب في المسجد إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم امرءاً أفضل يداً عندي في الصحبة من أبي بكر ولو كنت متخذأ خليلأ لاتخذت أبا بكر خليَلاَ ولكن صحبته إِخاء وإيمان حتى يجمعنا اللّه عنده‏.‏ ثم ثقل به الوجع وأغمي عليه فاجتمع إليه نساؤه وبنوه وأهل بيته والعباس وعليّ‏.‏ ثم حضر وقت الصلاة فقال‏:‏ مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس‏.‏ فقالت عائشة‏:‏ إنه رجل أسيف لا يستطيع أن يقوم مقامك فمر عمر فامتنع عمر وصلى أبو بكر‏.‏ ووجد رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم خفَة فخرج فلما أحسّ به أبو بكر تأخر فجذبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقامه مكانه وقرأ من حيث انتهى أبو بكر‏.‏ ثم كان أبو بكر يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي بكر‏.‏ قيل صلوا كذلك سبع عشرة صلاة وكان يدخل يده في القدح وهو في النزع فيمسح وجهه في الماء ويقول‏:‏ اللهم أعِنِّي على سكرات الموت‏.‏ فلما كان يوم الإثنين‏.‏ وهو يوم وفاته خرج إلى صلاة الصبحِ عاصباً رأسه وأبو بكر يصلي فنكص عن صلاته وردّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيده وصلَى قاعداَ على يمينه‏.‏ ثم أقبل على الناس بعد الصلاة فوعظهم وذكَّرهم ولما فرغ من كلامه قال له أبو بكر‏:‏ إني أراك قد أصبحت بنعمة اللّه وفضله كما نحبّ وخرج إلى أهله في السنح‏.‏ ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فاضطجع في حجرة عائشة ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر عليه وفي يده سواك أخضر فنظر إليه وعرفت عائشة أنه يريده قالت‏:‏ فمضغته حتى لان وأعطيته إياه فاستنّ به ثم وضعه‏.‏ ثم ثقل في حجري فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول‏:‏ الرفيق الأعلى من الجنة فعلمت أنه خيّر فاختار‏.‏ وفاته صلى الله عليه وسلم وكانت تقول‏:‏ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري وذلك نصف نهار يوم الاثنين لليلتين من شهر ربيع الأول ودفن من الغد نصف النهار من يوم الثلثاء ونادى النَعِي في الناس بموته وأبو بكر غائب في أهله بالسنح وعمر حاضر فقامِ في الناس فقال‏:‏ إن رجالاً من المنافقين زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأنَّه لم يمت وأنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وليرجعنّ فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم وأقبل أبو بكر وقد بلغه الخبر فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه وقبَّله وقال‏:‏ بأبي أنت وأمي قد ذقت الموتة التي كتب الله عليك ولن يصيبك بعدها موتة أبداً‏.‏ وخرج إلى عمر وهو يتكلم فقال‏:‏ أنصت‏!‏ فأبى وأقبل على الناس يتكلم فجاءوا إليه وتركوا عمر فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ أيها الناس‏!‏ من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا‏:‏ ‏"‏ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ‏"‏ الآية‏.‏ فكانْ الناس لم يعلموا أنَ هذه الآية في المنْزَلِ قال عمر‏:‏ فما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فوقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أنه قد مات‏.‏ وقيل تلا معها ‏"‏ إنك ميت وإنهم ميتون ‏"‏ الآية‏.‏ وبينما هم كذلك إِذ جاء رجل يسعى بخبر الأنصار انهم اجتمعوا في سقيفة بني ساعِدَةَ يبايعوا سَعْدَ بن عَبَادَةَ ويقولون‏:‏ منا أمير ومن قريش أمير فانطلق أبو بكر وعمر وجماعة المهاجرين إليهم وأقام علي والعباس وابناه الفضل وقثم وأسامة بن زيد يتولون تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسله عليّ مسنده إلى ظهره والعباس وابناه يقلِّبونه معه وأسامة وشقران يَصُبَّان الماء وعليّ يدلك من وراء القميص لا يفضي إلى بشرته بعد أن كانوا اختلفوا في تجهيزه‏.‏ ثم أصابتهم سِنَةٌ فخففُونا وسمعوا من وراء البيت أن اغسلوه وعليه ثيابه ففعلوا ثم كفنوه في ثوبين صحارِيًينِ وبُرْدِ حَبْرَة أدرج فيهنّ إدراجاً واستدعوا حفارين أحدهما يلحد والآخر يشق‏.‏ ثم بعث إليهما العباس رجلين وقال‏:‏ اللهم اغفر لرسولك فجاء الني يلحد وهو أبو طلحة زيد بن سهل كان يحفر لأهل المدينة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما فرغوا من جهازه يوم الثلثاء وضع على سريره في بيته‏.‏ واختلفوا أيدفن في مسجده أو بيته‏.‏ فكال أبو بكر‏:‏ سمعته صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ما قبض نبي إِلا يدفن حيث قبض فرفع فراشه الذي قبض عليه وحفر له تحته‏.‏ ودخل الناس يصلون عليه أفواجاً الرجال ثم النساء ثم الصبيان ثم العبيد لا يؤمّ أحدهم أحداً ثم دفن من وسط الليل ليلة الأربعاء‏.‏ وعن عائشة توفي لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول فكملت سنو الهجرة عشر سنين كوامل وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة وقيل خمس وستين سنة وقيل ستين‏.‏ خبر السقيفة ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم إرتاع الحاضرون لفقده حتى ظن بعضهم أنه لم يمت واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة يبايعون سعد بن عبادة وهم يرون أن الأمر لهم يما أووا ا ونصروا وبلغ الخبر إلى أبي بكر وعمر فجاءوا إليهم ومعهم أبو عبيدة ولقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة فأرادوهم على الرجوع وخفضوا عليهم الشأن فأبوا إلا أن يأتوهم فأتوهم في مكانهم ذلك فأعجلوهم عن شأنهم وغلبوهم عليه جماعاً وموعظة‏.‏ وقال أبو بكر‏:‏ نحن أولياء النبي وعشيرته وأحق الناس بأمره ولا ننازع في ذلك وانتم لكم حق السابقة والنصرة فنحن الأمراء وانتم الوزراء‏.‏ وقال الحَبابُ بن المنذر بن الجَموح‏:‏ منا أمير ومنكم أمير وإِن أبوا فاجلوهم يا معشر الأنصار عن البلاد فبأسيافكم دان الناس لهذا الدين‏.‏ وإِن شئتم أعدناها جَذَعةً أنا جُذَيْلُها المُحًكّك وعُذَيْقُهَا المُرَجِّب‏.‏ وقال عُمَرُ‏:‏ إِنَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أوصانا بكم كما تعلمون ولو كنتم الأمراء لأوصاكم بنا‏.‏ ثم وقعت ملاحاة بن عمر والمنذر بن الحباب وأبو عبيدة يخفضهما ويقول‏:‏ اتقوا الله يا معشر الأنصار أنتم أوَّل من نصر وآزر فلا تكونوا أوَل من بدَل وغَيّر‏.‏ فقام بشير بن سعد بن النُّعمانِ بن كَعْبِ بن الخَزْرَج فقال‏:‏ ألا إِن محمداً من قريش وقومه أحق وأولى ونحن وإِن كنا أولى فضل في الجهاد وسابقة في الدين فما أردنا بذلك إلاَ رضى اللّه وطاعة نبيِّه فلا نبتغي به من الدنيا عِوَضاً ولا نستطيل به على الناس‏.‏ وقال الحبَّاب بن المنذر‏:‏ نفست والله عن ابن عمك يا بشير فقال‏:‏ لا واللّه‏!‏ ولكن كرهت أن أنازع قوماً حقهم فأشار أبو بكر إلى عمر وأبو عبيدة فامتنعا وبايعا أبا بكر وسبقهما إِليه بشير بن سعد‏.‏ ثم تناجى الأوس فيما بينهم وكان فيهم أُسَيْدُ بن حُضَيْر أحد النقباء وكرهوا إمارة الخزرج عليهم وذهبوا إلى بيعة أبي بكر فبايعوه‏.‏ وأقبل الناس من كلِ جانب يبايعون أبا بكر‏.‏ وكادوا يطأون سعد بن عَبَادَةَ‏.‏ فقال ناس من أصحابه‏:‏ اتقوا سعداَ ولا تقتلوه فقال عمر‏:‏ اقتلوه قتله الله وتماسكا فقال أبو بكر‏:‏ مهلاً يا عمر الرفق هنا أبلغ فأعرض عمر ثم طلب سعداً في البيعة فأبى وأشار بشير بن سعد بتركه وقال‏:‏ إنما هو رجل واحد فأقام سعد لا يجتمع معهم في الصلاة ولا يفيض معهم في الحديث حتى هلك أبو بكر‏.‏ ونقل الطبريّ أن سعداً بايع يومئذ وفي أخبارهم أنه لحق بالشام فلم يزل هنالك حتى مات وأن الجن قتله‏.‏ وينشدون البيتين الشهيرين وهما‏:‏ نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّد َالخَز رَجِِ سَعْدَ بن عَبَادَهْ فَرَمَيْنَاهُ بِسَ ميْنِ فَلَمْ نُخْطِ فُؤَادَهْ

ميارى 6 - 8 - 2010 04:57 PM

الخبر عن الخلافة الاسلامية في هذه الطبقة وما كان منها من الردة والفتوحات وما حدث بعد ذلك من الفتن والحروب في الاسلام ثم الاتفاق والجماعة
لما قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أمر السقيفة كما قدمناه أجمع المهاجرون والأنصار على بيعة أبي بكر ولم يخالف إِلا سعد إِن صح خلافه فلم يلتفت إليه لشذوذه‏.‏ وكان من أولى ما اعتمده أنفاذ بعث أسامة وقد أرادت العرب إِما القبيلة مستوعبة وإِما بعض منها‏.‏ ونجم النفاق والمسلمون كالغنم في الليلة الممطرة لقلتهم وكثرة عدوهم وإظلام الجو بفقد نبيهم‏.‏ وقف أُسامَةُ بالناس ورغب من عمر التخلف عن هذا البعث والمقام مع أبي بكر شفقة من أن يدهمه أمر‏.‏ وقالت له الأنصار فإن أبى إِلا المضي فليولّ علينا أسنّ من أسامة فأبلغ عمر ذلك كله أبا بكر فقام وقعد وقال‏:‏ لا أترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخرج أو أنفذه‏.‏ ثم خرج حتى أتاهم فأشخصهم وشَيعَهُمْ وأذن لعمر في الشخوص وقال‏:‏ أوصيكم بعشر فاحفظوها عليّ‏:‏ لا تخونوا ولا تَغلُوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الطفل ولا الشيخ ولا المرأة ولا تغرقوا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إِلا للأكل‏.‏ وإذا مررتم بقوم فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فْرغوا أنفسهم له‏.‏ وإذا لقيتم أقوامأ فحصوا أواسط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصايب فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه فإذا قرب عليكم الطعام فاذكروا اسم الله عليه وكلوا‏.‏ ترفعوا باسم الله‏.‏ يا أسامة‏!‏ اصنع ما أمرك به نبيّ اللّه ابدأ ببلاد قُضَاعَةَ ثم أنت آفل ولا تقصر بشيء من أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم ودَعه من الحرف ورجع وقد كان بعث معه من القبائل حول المدينة الذين لهم الهجرة في ديارهم وحبس من بقي منهم فصار مسالح حول قبائلهم ومضى أسامة مغذاً وانتهى لما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم وبعث الجنود في بلاد قُضاعَةَ وأغار على أبنى فسبى وغَنِمَ ورجع لأربعين يوماً وقيل لسبعين ولم يحدث أبو بكر في مغيبه شيئاً وقد جاء الخبر بارتداد العرب عامة وخاصَّةً إِلا قريشاً وثقيفَاَ واستغلظ أمر مًسَيْلِمَةَ واجتمع على طُلَيْحَةَ عوام طَيْء وأسَدٍ وارتَدَت غَطَفَانُ وتوقفت هوازِنُ فأمسكوا الصَدقَةَ وارتد خواص من بني سُلَيْمٍ وكذا سائر الناس بكل مكان‏.‏ وقدمت رسل النبيّ صلى الله عليه وسلم من اليمن واليمامة وبني أسد من الأمراء من كل مكان بانتقاض العرب عامة أو خاصة‏.‏ وحاربهم بالكتب والرسل وانتظر بمصادمتهم قدوم أُسامَةَ فعاجلته عبس وذُبيان ونزلوا في الأبْرَقِ ونزل آخرون بذي القصَةِ ومعهم خَبال من بني أسد ومن انتسب إليهم من بني كِنَانَةَ‏.‏ وبعثوا وفداً إلى أبي بكر نزلوا على وجوه الناس يطلبون الاقتصار على الصلاة دون الزكاة فأبى أبو بكر من ذلك وجعل على أنقاب المدينة علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد ورجع وفد المرتدين وأخبروا قومهم بقلة أهل المدينة فأغاروا على من كان بأنقاب المدينة فبعثوا إلى أبي بكر فخرج في أهل المسجد على النواضح فهربوا والمسلمون في اتباعهم إِلى ذي خَشَب‏.‏ ثم نَفَّروا إِبل المسلمين بِلُعْبَات اتخذوها فنفرت ورجعت بهم وهم لا يملكونها إلى المدينة ولم يصبهم شيء‏.‏ وظن القوم بالمسلمين الوَهْنَ فبعثوا إلى أهل في القِصَّةِ يستقدمونهم‏.‏ ثم خرج أبو بكر في التعبية وعلى ميمنته النعْمَانُ بن مُقَرنَ وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن وعلى الساقة سويد بن مقرن وطلع عليهم مع الفجر واقتتلوا فما ذرّ قرن الشمس إلا وقد هزموهم وغنموا ما معهم من الظَهْرِ وقتل خبال واتبعهم‏:‏ أبو بكر إلى ذي القصَةِ فجهز بها النعمان بن مقرن فقي عدد ورجع إلى المدينة‏.‏ ووثب بنو ذُبيانَ وعبس على من كان فيهم من المسلمين فقتلوهم وفعل ذلك غيرهم من المرتدين وحلف أبو بكر ليقتلن من المشركين مثل من قتلوهم من المسلمين وزيادة‏.‏ واعتزّ المسلمون بوقعة أبي بكر وطرقت المدينة صدقات‏.‏ وقدم أسامة فاستخلفه أبو بكر على المدينة وخرج في نفر إلى ذي خشب وإلى ذي قصَة‏.‏ ثم سار حتى نزل على أهل الرَبذَةِ بالأبْرَقِ وبها عَبْس وذبْيان وبنو بكر من كِنَانَةَ وثَعْلبَةُ بن سعدٍ ومن يليهم من مُرَّةَ فاقتتلوا وانهزم القوم وأقام أبو بكر على الأبرق وحرَم تلك البلاد على بني ذبيان ثم رجع إلى المدينة‏.‏ ردة اليمن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى مكة وبني كنانة عِتابُ بن أُسَيْدٍ وعلى الطائف وأرضها عثمان بن أبي العاص علي المدَرِ ومالك بن عوف على الوَبَرِ وعلى عجز هوازِنَ عِكْرِمَةُ بن أبي جهل وعلى نجران وأرضها عمرو بن حزام على الصلاة وأبو سُفْيَانَ بن حرب على الصدقات وعلى ما بين زَمَعٍ وزُبَيْدَ إلى نجران خالد بن سعيد بن العاص وعلىً همدان كلها عامر بن شمر الهَمْدَانِي وعلى صنعاء فيروز الدَيْلَمِيُ ومسانِده دادويه وقيس بن مكشوح المرادي‏.‏ ورجعوا إليها بعد مقتل الأسود وعلى الجند يعلى بن أمية وعلى مأرب أبو موسى الأشعري وعلى الأشعرببن وعكّ الطاهر بن أبي هالة وعلى حضرموت زياد بن لبيد البياض وعُكاشَةُ بن ثور بن أصفر العوثي وعلى كِندَة المهاجر بن أبي أميَّة‏.‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليه في غزوة تبوك فاسترضته له أم سلمة وولاّه على كندة ومرض فلمِ يصل إليها‏.‏ وأقام زياد بن لبيد ينوب عنه وكان معاذ بن جبل يعلِّم القرآن باليمن يتنقَل على هؤلاء في أعمالهم‏.‏ وثار الأسود في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربه بالرسل وبالكتب فقتله الله وعاد الإسلام في اليمن كما كان فلما بلغه الموت انتَقَضَت اليَمَن وارتدَّ أهلها في جميع النواحي وكانت الغالة من جند العَنَسِي بين نجران وصنعاء لا يأوون إِلى أحد ورجع عمرو بن حِزام إلى المدينة واتبعه خالد بن سعيد‏.‏ وكان عمرو بن معد يَكرِبَ بالجبال حيال فروة بن مسيك وابن مكشوح وتحيل في قتل الأبناء فيروز ودادويه وخشنش والاستبداد بصنعاء‏.‏ وبعث إلى الغالة من جيش الأسود يُغْرِيهِم بالأبناء ويعدهم بالمُظَاهَرَةِ عليهم فجاءوا إليه وخشي الأبناء غائلتهم وفزعوا إليه فأظهر لهم المناصحة وهيأ طعاماً فجمعهم له ليغدر بهم فظهر منهم بدادويه وهرب فيروز وخشنش وخرج قيس في أثرهما فامتنعا بخولان أخوال فيروز وثار قيس بصنعاء وجبى ما حولهما وجمع الغالة من جنود الأسود إليه‏.‏ وكتب فيروز إِلى أبي بكر بالخبر فكتب له بولاية صنعاء وكتب إلى الطاهر بن أبي هالة بإعانته وإلى عكاشَةَ بن ثَوْرٍ بأن يجمع أهل تِهَامَةَ ويقيم بمكانه وكتب إلى ذي الكلاع سُمَيْقَح وذي ظَليمَ حَوْشَبَ وذي تَبانَ شَهِرٍ بإعانة الأبناء وطاعة فيروز وإن الجند يأتيهم‏.‏ وأرسل إليهم قيس بن مكشوح يغريهم بالأبناء فاعتزل الفريقان واتبعت عوامّهم قيس بن مكشوح في شأنه وعمد قيس إلى عيلات الأبناء الذين مع فيروز فَغَّر بهم وأخرجهم من اليمن في البر والبحر وعرضهم للنهب‏.‏ فأرسل فيروز إلى بني عقيل بن ربيعة وإلى عك يستصرخهم فاعترضوا عيال فيروز والأبناء الذين معه فاستنفذوهم وقتلوا من كان معه وجاؤوا إلى فيروز فقاتلوا معه قيس بن مكشوح دون صنعاء فهزموه ورجع إلى المكان الذي كان به مع فالة الأسود العنسي‏.‏ وانضاف قيس إلى عمرو بن معد يكرب وهو مرتدّ منذ تنَبّأ الأسود العنسي وقام حيال فروة بن مسيك وقد كان فروة وفد وأسلم وكذلك قيس واستعمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قيساً على صدقات مراد وكان عمرو قد فارق قومه سعد العشيرة مع بني زبيد وأحلافها وانحاز إليهم فأسلم معهم وكان فيهم‏.‏ فلما انتقض الأسود واتبعه عوام مذحج كان عمرو فيمن اتبعه وأقام فروة وكانت كِنْدة قد ارتدّوا وتابعوا الأسود العَنْسِيِّ بسبب ما وقع بينهم وبن زياد الكِنديّ في أمر فريضة من فرائض الصدقة أطلقها بعض بني عمرو بن معاوية بعد أن وقع عليها ميسم الصدقة غلطاً فقاتلهم زياد وهزمهم فاتفق بنو معاوية على منع الصدقة والردِة إِلا شُراحيلُ بن السمْط وابنه‏.‏ وأشير على زياد بمعاجلتهم قبل أن ينضم إليهم بعض السكاسك وحضرموت وأبْضِعَةَ وجَمَدٍ ومشرح ومخوس وأختهم العمردة‏.‏ وهرب الباقون ورجع زياد بالسَّبِيّ والغنائم ومرّ بالأشعث بن قيس وبني الحرث بن معاوية واستغاث نساء السبيّ فسار الأشعث وتنقَذهم‏.‏ ثم جمع بني معاوية كلِّهم ومن أطاعه من السكاسك وحضرموت وأقام على ردَّته وكان أبو بكر قد حارب أهل الردة أولاً بالكتب والرسل كما حاربهم رسول صلى الله عليه وسلم إلى أن رجع أسامة بن زيد ثم كان أول مصادم فخرج إلىٍ الأبرق واستنفر من لم يرتدّ إِلى من ارتدّ‏.‏ وابتدأ بالمهاجرين والأنصار ثم استنفر كلا على من يليه حتى فرغ من آخر أمور الناس لا يستعين بمرتدّ‏.‏ وكتب إِلى عتاب بن أسيد بمكَّة وعثمان بن أبي العاص بالطائف بركوب من ارتدّ بمن لم يرتد وثبت على الإسلام من أهل عملها‏.‏ وقد كان اجتمع بتهامة وشباب من مدلج وخزاعة فبعث عتاب إليهم ففرَّقهم وقتلهم واجتمع بشنوءة جمع من الأزد وخثعم وبجيلة فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص من فرَّقهم وقتلهم‏.‏ واجتمع بطريق الساحل من تِهَامَةَ جموع من عكٍّ والأشْعَرِيِّينَ فسار إليهم الطاهر بن أبي هالة ومعه مسروق العَكِّي فهزموهم وقتلوهم وأقام بالأجناد ينتظر أمر أبي بكر ومعه مسروق العَكِّي وبعث أهل نجران من بني الأفعى الذين كانوا بها قبل بني الحرث وهم في أربعين ألف مقاتل وجاء وفدهم يطلبون إِمضاء العهد الذي بأيديهم من النبي صلى الله عليه وسلم فأمضاه أبو بكر إلا ما نسخه الوحي بأن لا يترك دينان بأرض العرب‏.‏ ورجعت رسل النبيّ صلى الله عليه وسلم الذين كان بعثهم عند انتقاض الأسود العنسي وهم جرير بن عبد اللّه والأقرع ووبر بن مخنس فرد أبو بكر جريراً ليستنفر من ثبت على الإسلام على من ارتدَّ ويقاتلوا خثعم الذين غضبوا لهدم ذيِ الحليفةِ فيقتلهم ويقيم بنجران فنفذ ما أمره به ولم يمر به أحد إِلا رجال قليل تَتَبَّعَهُم بالقتل وسار إلى نجران‏.‏ وكتب أبو بكر إلى عثمانَ بن أبي العاص أن يضرب البعوث على مخاليف أهل الطائف فضرب على كل مخلافٍ عشرين وأمَّر عليهم أخاه وكتب إلى عِتَابِ بن أبي أُسَيْد أن يضرب على مكَة وعملها خمسمائة بعث وأمَّر عليهم أخاه خالداً وأقاموا ينتظرون‏.‏ ثم أمر المهاجرين أبي أمية بأن يسير إلى اليمن ليصلح من أمره ثم ينفذ إلى عمله وأمره بقتال من بين نجران وأقصى اليمن ففعل ذلك‏.‏ ومر بمكة والطائف فسار معهم خالداً بن أسَيْدَ وعبد الرحمن بن أبي العاص بمن معهما ومر بجرير بن عبد الله وعُكاشَةَ بن ثور فضمَّهما إِليه‏.‏ ثم مرّ بنجران وانضمّ إليه فروة بن مُسَيْكٍ وجاءه عمرو بن معد يكَرِبَ وقيس بن مَكْشُوح فأوثقهما وبعث بهما إلى أبي بكر وسار إلى لقائه‏.‏ فتبعهم بالقتل ولم يؤمنهم فقتلوا بكل سبيل‏.‏ وحضر قيس عند أبي بكر فحظر قتل دادوية ولم يجد أمرأ جلياً في أمره وتاب عمرو بن معد يكرب واستقالا فأقالهما وردَّهما‏.‏ وسار المُهَاجِرُ حتى نزل صنعاء وتتبع ارتداد القبائل فقتل من قدر عليه وقبل توبة من رجع إليه‏.‏ وكتب إلى أبي بكر بدخوله صنعاء‏.‏ فجاءه الجواب بأن يسير إلى كِنْدَة مع عِكْرِمَةَ بن أبي جهل وقد جاءه من ناحية عمان ومعه خلق كثير من مَهْرَةَ والازْدِ وناجِيَةَ وعبد القَيْس وقوم من مالك بن كِنَانَةَ وبني العَبْتَرِ‏.‏ وقدم أبْيَنُ وأقام بها لاجتماع النَخْع وحِمْيَرٍ‏.‏ ثم سار مع المهاجر إلى كندة‏.‏ وكتب زياد إِلى المهاجر يستحثه فلقيه الكتاب بالمفازة بين مأرب وحضرموت‏.‏ فاستخلف عكرمة على الناس وتعجل إلى زياد ونهدوا إلى كندة وعليهم الأشعث بن قيس فهزموهم وقتلوهم وفروا إلى النُجَيْرِ حِصْن له فتحصَنوا فيه مع من استغووه من السكاسك وشذَاد السكون وحضرموت‏.‏ وسدُّوا عليهم الطرق إلا واحدة جاء عكرمة بعدهم فسدَها وقطعوا عنهم المدد وخرجوا مستميتين في بعض الأيام فغلبوهم وأخرجوهم‏.‏ واستأمن الأشْعَثُ إلى عِكْرِمَةَ بما كانت أسماء بنت النُعْمان بن الجَوْنِ تحته فخرج إليه وجاء به إِلى المهاجر وأمنه في أهله وماله وتسعة من قومه على أن يفتح لهم الباب فاقتحمه المسلمون وقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية فكان في السبي ألف امرأة‏.‏ فلما فرغ من النجير دعا بكتاب الأمان من الأشعث وإذا هو قد كتب غرض نفسه في التسعة رجال من أصحابه فأوثقه كتافاً وبعث به إلى أبي بكر ينظر في أمره‏.‏ فقدم السبايا والأسرى فقال له أبو بكر‏:‏ أقتلك قال‏:‏ إِني راودت القوم على عشرة وأتيناهم بالكتاب مختومة فقال أبو بكر‏:‏ إِنما الصلح على من كان في الصحيفة وأما غير ذلك فهو مردود‏.‏ فقال يا أبا بكر‏:‏ احتسب فَيّ وأقلني وأقبل إسلامي وردّ عليّ زوجتي وقد كان تزوَج أم فروة أخت أبي بكر حين قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأخرها إلى أن يرجع فأطلقه أبو بكر وقبل إسلامه وردّ عليه زوجته وقال‏:‏ ليبلغني عنك خير‏.‏ ثم خَلّى على القوم فذهبوا وقسم الأنفال‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 04:58 PM

بعث الجيوش للمرتدة
لما قدم أُسامَةُ ببعث الشام على أبي بكر استخلفه على المدينة ومضى إلى الرَبَذةِ فهزم بني عبس وذبيان وكنانة بالأبرق ورجع إلى المدينة كما قدَّمناه حتى إذا استجمّ جند أسامة وتاب مَنْ حوالي المدينة خرج إلى ذي القِصَّة على بريد من تلقاء نجد عقد فيها أحد عشر لواءً على أحد عشر جنداً لقتال أهل الردَة وأمر كل واحد باستنفار من يليه من المسلمين من كل قبيلة وترك بعضها لحماية البلاد فعقد لخالد بن الوليد وأمره لطليحة وبعده لمالك بن نويرة بالبطاح ولعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة واليمامة‏.‏ ثم أردفه بشرحبيل بن حسنة وقال له‏:‏ إذا فرغت من اليمامة فسر إلى قتال قضاعة والمهاجرين إلى أمية وأمره بالغالة من جنود العنسي باليمن وبإعانة الأبناء على قيس بن مكشوح ومن معه‏.‏ ثم تمضي إلى كندة بحضرموت‏.‏ ولخالد بن سعيد بن العاص وقد كان قدم بعد الوفاة إلى المدينة من اليمن وترك عماله فبعثه إِلى مشارف الشام ولعمرو بن العاص إلى قتال المرتدَّة من قضاعة ولحذيفة بن محصن وعرفجة بن هرثمة‏.‏ فَحُذَيْفَةُ لأهل دُبا وعَرْفَجَة لِمَهْرَةَ وكل واحد منهما أمير في عمله على صاحبه‏.‏ ولطُرَيْفَةَ بن حاحِزَ وبعثه إلى بني سًلَيْم ومن معهم من هوازن ولسويد بن مقرن وبعثه إلى تهامة اليمن وللعلاء بن الحضرمي وبعثه إلى البحرين وكتب إلى الأمراء عهودهم بنص واحد‏:‏ بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا عهد من أبي بكر‏:‏ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام وعهد إِليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله سره وجهره وأمره بالجدّ في أمر اللّه ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إِليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام فإن أجابوه أمسك عنهم وإِن لم يجيبوه شنَّ الغارة عليهم حتى يقروا له‏.‏ ثم يُنبئُهُمْ بالذي عليهم والذي لهم فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم لا يُنْظِرُهُمْ ولا يردّ المسلمين عن قتال عدوّهم‏.‏ فمن أجاب إلى أمر الله عزّ وجل وأقرّ له قَبِلَ ذلك منه وأعانَهُ عليه بالمعروف‏.‏ وإنما يقاتل من كفر باللّه على الإقرار بما جاء من عند اللّه فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل وكان اللّه حسيبه بعد فيما استسر به ومن لم يجب إلى داعية اللّه قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغمة لا يقبل الله من أحد شيئاً مما أعطى إلا الإسلام‏.‏ فمن أجابه وأقر قبل منه وأعانه ومن أبى قاتله فإن أظهره الله عليه عزّ وجلّ قتلهم فيهم كل قتلة بالسلاح والنيران‏.‏ ثم قسم ما أفاء الله عليه إِلا الخمس فإنه يبلغاه ويمنع أصحابه العجلة والفساد وان يدخل فيهم حشواً حتى يعرفهم ويعلم ما هم لئلا يكونوا عيونَاً ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم‏.‏ وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقَّدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول انتهى‏.‏ وكتب إلى كل من بعث إليه الجنود من المرتدّة كتاباً واحداً في نسخ كثيرة على يد رسل تقدَموا بين أيديهم نصه بعد البسملة‏:‏ هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامّة أو خاصّة أقام على الإسلام أو رجع عنه سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع إلى الضلالة والهوى فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إِله إِلا هو وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله وأومن بما جاء به وأكفر من أبي وأجاهده‏.‏ أما بعد‏:‏ ثم قرر أمر النبوّة ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأطنب في الموعظة ثم قال‏:‏ وإِني بعثت إليكم فلانأ في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأمرته أن لا يقاتل أحداًً ولا يقتله حتى يدعوه إِلى داعية اللّه فمن استجاب له واقر وكفّ وعمل صالحاً قَبِلَ منه وأعانه ومن أبى أمرته أن يقاتله على ذلك ثم لا يبقي على أحد منهم هدر عليه فمن اتبعه فهو خير له ومن تركه فلن يعجز الله‏.‏ وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم والداعية للأذان فإذا أذّن المسلمون فأذنوا كفُوا عنهم وإن لم يؤذّنوا فاسألوهم بما عليهم فإن أبوا عاجلوهم وإن أقرّوا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم انتهى‏.‏ فنفذت الرسل بالكتب أمام الجنود وخرجت الأمراء ومعهم العهود وكان أوّل ما بدأ به خالد طليحة وبني أسد‏.‏ خبر طليحة كان طلَيْحَة قد ارتدّ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كاهنأ فادعى النبوْة وأتبعه أفاريق من بني إِسرائيل ونزل سُمَيْراء‏.‏ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ضِرارَ بن الأزْوَرِ إلى قتاله مع جماعة فاجتمع عليهم المسلمون وهمّ ضرار بمناجزته فأتى الخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم فاستطار أمر طليحة واجتمعت إليه غَطَفان وهَوازِنُ وَطَيْءٌ وفر ضِرارُ ومن معه من العمال إلى المدينة وقدمت وفودهم على أبي بكر في الموادعة على ترك الزكاة فأبى من ذلك وخرج كما قدَمناه إلى غطفان وأوقع بهم بذي القصَّة فانضموا بعد الهزيمة إلى طليحة وبني أسد بالبزاخة وكذلك فعلت طيء وأقامت بنو عامر وهوازن ينتظرون صَمَدَ خالد إلى طليحة ومعه عُيَيْنَة بن حصن على بَزاخَةَ من مياه بني أسد وأظهر أنه يقصد خيبر ثم ينزل إلى سَلْمَى واجأ فيبدأ بطيء‏.‏ وكان عديّ بن حاتم قد خرج معه في الجيش فقال له‏:‏ أنا اجمع لك قبائل طيء يصحبونك إلى عدوِّك وسار إليهم فجاء بهم وبعث خالد بن عُكاشَةَ بن مُحْصِنٍ وثابت بن أقرم من الأنصار طليعةً ولقيهما طليحة وأخوه فقتلاهما ومرِّ بهما المسلمون‏.‏ فعظم عليهم قتلهما‏.‏ ثم عبى خالد كتائبه وثابت بن قيس علي الأنصار وعدي بن حاتم على طيء ولقي القوم فقاتلهم وعيينة بن حصن مع طليحة فيه سبعمائة من غطفان واشتَدّ المجال بينهم وطليحة في عباءة يتكذَّب لهم في انتظار الوحي فجاء عيينة بعدما ضجر من القتال وقال‏:‏ هل جاءّك أحد بعد قال لا ثم راجعه ثانية ثم ثالثة فقال‏:‏ جاء‏.‏ وقاله إن لك رحى كرحاه وحديثاً لا تنساه‏.‏ فقال عيينة‏:‏ يا بني فزارة الرجل كذاب وانصرف‏.‏ فانهزموا وقتل من قتل وأسْلَمَ الناسُ طُلَيْحَةَ فوثب على فرسه واحتقب امرأته فنجا بها إِلى الشام ونزل في كَلْب من قُضَاعَةَ على النَقْع حتى أسلمت أسَدٌ وغَطَفَاَنُ فأسلم ثم خرج مُعْتَمِراً أيام عُمَرَ ولًقيه بالمدينة فبايعه وبعثه في عساكر الشام فأبلى في الفتح ولم يصب من عيالات بني أسد في واقعة بزاخة شيء‏.‏ لأنهم كانوا أخرجوهم في الحصون عند واسط وأسلموا خشية على ذراريهم‏.‏ خبر هوازن وسليم وبني عامر كان بنو عامر ينتظرون أمر طليحة وما تصنع أسد وغَطَفَانُ حتى أحيط بهم وكان قرة بن هُبَيْرَةَ في كَعْب وعَلْقَمَةُ بن عِلافَةَ في كلاب وكان علقمة قد ارتد بعد فتح الطائف‏.‏ ولما قبض النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قومه بلَّغ أبا بكر خبره فبعث إليه سَرية مع القعْقَاع بن عمرو من بني تميم فأعار عليهم فأفلت وجاء بأهله وولده وقومه فأسلموا‏.‏ وكان قُرّة بن هُبَيْرَةَ قد لقي عمرو بن العاص منصرفه من عمان بعد الوفاة وأضافه وقال له‏:‏ اتركوا الزكاة فإن العرب لا تدين لكم بالأتاوَة فغضب لها عمرو وأسمعه وأبلغها أبا بكر فلما أوقع خالد ببني أسد وغطفان وكانت هوازن وسليم وعامر ينتظرون أمرهم فجاءوا إِلى خالد وأسلموا وقبل منهم الإسلام إِلا من عدا على أحد من المسلمين أيام الردَة فإنه تتبعهم فأحرق وقحط ورضخ بالحجارة ورمى من رؤوس الجبال‏.‏ ولما فرغ من أمر بني عامر أوثق عيينة بن حصين وقرَّة بن ثم اجتمعت قبائل غطفان إلى سلمى بنت مالك بن حذيفة بن بدر بن ظَفْر في الحَوْأب فنزلوا إليها وتذمروا وكانت سلمى هذه قد سبيت قبل واعتقتها عائشة وقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم يومأ وقد دخل عليها وهي في نسوة ببيت عائشة فقال‏:‏ إِن إِحداكنَّ تستبيح كلاب الحوأب وفعلت ذلك سلمى حين ارتدت‏.‏ واجتمعت إليها الفلال من غطفان وهوازن وسليم وطيء وأسد وبلغ ذلك خالداً وهو يتبع الثأر ويأخذ الصدقات فسار إليهم وقاتلهم وسلمى واقفة على جملها حتى عُقِدَ وقتِلَتْ وقتل حول هودجاها مائة رجل فانهزموا وبعث خالد بالفتح على أثره بعده بعشرين ليلة‏.‏ وأما بنو سُلَيْم فكان الفُجَاءَةُ بن عبد ياليل قدم على أبي بكر ليستعينه بسلاح مدَعياً إسلامه ويضمن له قتال أهل الردة فأعطاه وأمره وخرج إلى الجون وارتدّ وبعث نَجيَّةَ بن أبي المًثَنَى من بني الشريد وأمره بشنِّ الغارة على المسلمين في سليم وهوازن فبعث أبو بكر إلى طريفة بن حاجز قائده على جرهم وأعانه بعبد الله بن قيس الحاسبي فنهضا إليه ولقياه فقتل تحته وهرب الفجاءة فلحقه طريفة فأسره وجاء به إلى أبي بكر فأوقد له في مصلى المدينة حطباً ثم رمى به في النار مقموطاًً وفاءت بنو سليم كلُّهم وفاء معهم أبو شجرة بن عبد العزَّى أبو الخنساء وكان فيمن ارتدّ‏.‏ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله في بني تميم الزبْرقان بن بدر على الربابِ وعَوْفٍ والأبناءِ وقيس بن عاصم على المقاعِس والبُطونِ وصَفْوَانُ بن صفوانٍ وسَبْرَة بن عمرو على بني عمرو ووكيع بن مالك على بني مالك ومالك بن نُوَيْرَةَ على بني حنظلة‏.‏ فجاء صفوان إلى أبي بكر حين بلغته الوفاة بصدقات بنىِ عمرو وجاء الزبرقان بصدقات أصحابه وخالفه قيس بن عاصم في المقاعس والبطون لأنه كان ينتظره‏.‏ وبقي من أسلم منهم متشاغَلاَ بمن تربص أو ارتاب‏.‏ وبينما هم على ذلك فجأتهم سجاح بنت الحارث بن سويد من بني عقفان أحد بطون تغلب وكانت تنبأت بعد الوفاة واتبعها الهُذَيْل بن عمران من بني تغلب وعقبة بن هلال في النمر والسليل بن قيس في شيبان وزياد بن بلال‏.‏ وكان الهذيل نصرانياً فترك دينه إلى دينها وأقبلت من الجزيرة في هذه الجموع قاصدة المدينة لتغزو أبا بكر والمسلمين وانتهت إلى الحرف فدهم بني تميم أمر عظيم لما كانوا عليه من اختلاف الكلمة فوادعها مالك بن نويرة وثناها عن الغزو وحرضها على بني تميم ففرّوا أمامها ورجع إليها وكيع بن مالك واجتمعت الربابُ وضُبًة فهزموا أصحاب سجاح وأسروا منهم‏.‏ ثم اصطلحوا وسارت سجاج فيمن معها تريد المدينة فبلغت النِبَاجَ فاعترضهم بنو النجَيْم فيمن تأشَّبَ إليهم من بني عمرو وأغارو عليهم فأسروا الهذيل وعقبة ثم تحاجزوا على أن تَطلق أسراهم ويرجعوا ولا يجتازوا عليهم ورجع عن سجاح مالك بن نويرهَ ووكيع بن مالك إلى قومهم ويئست سجاح وأصحابها من الجواز عليهم ونهدت إلى بني حنيفة‏.‏ وسار معها من تميم الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم وغيلان بن حريث وشبت بن رَبَعي ونظراؤهم‏.‏ وصانعها مسَيْلِمَةُ بما كان فيه من مزاحمة ثُمامَةَ بن إِثال له في اليمامة‏.‏ وزحف شَرْحَبِيلُ بن حَسْنَةَ والمسلمون إِليه فأهدى لها واستأمنها وكانت نصرانية أخذت الدين من نصارى تغلب‏.‏ فقال لها مسيلمة‏:‏ نصف الأرض لنا ونصف الأرض لقريش لكنهم لم يعدلوا فقد جعلت نصفهم لك ويقال إِنها جاءت إِليِه واستأمنته وخرج إليها من الحصن إِلى قَبة ضربت لها بعد أن جمرها فدخل إِليها وتحرك الحرث حوالي القَبّة وسجع لها وسجعت له من أسجاع الفرية‏.‏ فشهدت له بالنبوَة وخطبها لنفسه فتزوجته وأقامت عنده ثلاثاً ورجعت إلى قومها فعذلوها في التزويج على غير صداق فرجعت إليه فقال لها‏:‏ نادي في أصحابك إني وضعت عنهم صلاة الفجر والعتمة مما فرض عليهم محمد وصالحته على أن يحمل لها النصف من غلات اليمامة فأخذته وسألت أن يسلِّفها النصف للعام القابل ودفعت الهذيل وعقَّة لقبضه فهمَّ على ذلك وإذا بخالد بن الوليد وعساكره قد أقبلوا فانفَضّت جموعهم وافترقوا ولحقت سجاح بالجزيرة فلم تزل في بني تغلب حتى نقل معاوية عام الجماعة بني عقفان عشيرتها إلى الكوفة وأسلمت حينئذ سجاح وحسن إِسلامها‏.‏ ولما افترق وفد الزبرقان والأقرع على أبي بكر وقالا‏:‏ اجعل لنا خراج البحرين ونحن نضمن لك أمرها ففعل وكتب لهم بذلك‏.‏ وكان طلحة بن عبيد اللّه يتردد بينهم في ذلك فجاء إلى عمر ليشهد في الكتاب فمزَّقه ومحاه وغضب طلحة وقال لأبي بكر رضي الله عنه‏:‏ أنت الأمير أم عمر رضي الله عنه‏.‏ فقال عمر‏:‏ غير أن الطاعة لي‏!‏ وشهد الأقرع والزبرقان مع خالد اليمامة والمشاهد كلها‏.‏ ثم مضى الأقرع مع شرحبيل إلى دومة‏.‏ خبر البطاح ومالك بن نويرهّ لما انصرفت سجاح إلى الجزيرة وراجع بنو تميم الإسلام أقام مالك بن نويرة متحيِّراً في أمره واجتمع إِليه من تميم بنو حنظلة واجتمعوا بالبطاح فسار إِليهم خالد بعد أن تقاعد عنه الأنصار يسألونه انتظار كتاب أبي بكر فأبى إِلاَّ انتهاز الفرصة من هؤلاء فرجعوا إِلى اتباعه ولحقوا به‏.‏ وكان مالك بن نويرة لما تردد في أمره فرق بني حنظلة في أموالهم ونهاهم عن القتال ورجع إلى منزله‏.‏ ولما قدم خالد بعث السرايا يدعون إِلى الإسلام ويأتون بمن لم يُحب وأن يقتلوه فجاءوا بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع واختلفت السريّة فيهم فشهد أبو قتادة أنهم أذَنوا وصلّوا‏.‏ فحبسهم عند ضرار بن الأزور وكانت ليلة ممطرة فنادى مناديه أن ادفئوا أسراكم وكانت في لغته كناية عن القتل فبادر ضرار بقتلهم وكان كنانيًّا‏.‏ وسمع خالد الداعية فخرج متأسفأ وقد فرغوا منهم‏.‏ وأنكر عليه أبو قتادة فزجره خالد فغضب ولحق بأبي بكر ويقال إنهم لما جاءوا بهم إِلى خالد خاطبه مالك بقوله‏:‏ فعل صاحبكم شأن صاحبكم فقال له خالد‏:‏ أوليس لك بصاحب ثم قتله وأصحابه كلهم‏.‏ ثم قدم خالد علىِ أبي بكَر وأشار عمر أن يقيد منه بمالك بن نويرة أو يعزله فأبى وقال‏:‏ ما كنت أشيم سيفاً سله الله على الكافرين وودى مالكاً وأصحابه وردَ خالداً إلى عمله‏.‏ خبر مسيلمة واليمامة لما بعث أبو بكر رضي الله عنه عكرمة بن أبي جهل إِلى مسيلمة الكذاب واتبعه شرحبيل استعجل عكرمة فانهزم وكتب إلى أبي بكر بالخبر فكتب إِليه لا ترجع فتوهن الناس وامض إلى حذيفة وعرفجة فقاتلوا مَهَرَةَ وأهل عُمان فإذا فرغتم فامض أنت وجنودك واستنفروا من مررتم عليه حتى تلقوا المهاجر بن أمية باليمن وحضرموت‏.‏ وكتب إِلى شرحبيل أن يمضي إلى خالد فإذا فرغتم فامض أنت إلى قضاعة فكن مع عمرو بن العاص على من ارتَدّ منهم‏.‏ ولما فرغ خالد من البطاح ورضي عنه أبو بكر بعثه نحو مسيلمة وأوعب معه الناس وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد وعلى الأنصار ثابت بن قيس والبرًاء بن عازب‏.‏ وتعجَّل خالد إِلى البطاح وانتظر البعوث حتى قدمت عليه فنهض إلى اليمامة وبنو حنيفة يومئذ كثير يقال أربعون ألف مقاتل متفرقين في قراها وحجرها‏.‏ وتعجَّل شرحبيل كما فعل عكرمة بقتال مسيلمة فنكب وجاء خالد فلامه على ذلك‏.‏ ثم في خليط من عند أبي بكر مددأ لخالد ليكون ردءأ له من خلفه ففرًت جموع كانت تجمَّعت هنالك من فلال سجاج وكان مسيلمة قد جعل لهم جعلاً‏.‏ وكان الرجالُ بن عَنْفَوَةَ من أشراف بني حنيفة شهد لمسيلمة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه معه في الأمر لأن الرجال كان قد هاجر وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وتفقَّه في الدين‏.‏ فلما ارتد مسيلمة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم معلِّماً لأهل اليمامة ومشغباً على مسيلمة فكان أعظم فتنة على بني حنيفة منه‏.‏ واتبع مُسَيْلِمَةَ على شأنه وشهد له وكان يُؤَذَن لمسيلمة ويشهد له بالرسالة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فعظم شأنه فيهم‏.‏ وكان مسيلمة ينتهي إلى أمره وكان مسيلمة يَسْجَعُ لهم بأسجاع كثيرة يزعم أنها قرآن يأتيه ويأتي بمخارق يزعم أنها معجزات فيقع منها ضد المقصودً‏.‏ ولما بلغ مسيلمة وبني حنيفة دنو خالد خرجوا وعسكروا فيِ منتهى ريف اليمن واستنفروا الناس فنفروا إليهم وأقبل خالد ولقيه شَرْحَبِيلُ بن حَسَنةَ فجعله على مقدمته حتى إذا كان على ليلة من القوم هجموا على مجاعة في سرية أربعين أو ستين راجعين من بلاد بني عامر وبني تميم يثأرون فيهم فوجدوهم دون ثنية اليمامَةِ فقتلوهم أجمعين‏.‏ وقيل له استبقِ مجاعة بن مرارة إن كنت تريد اليمامة فاستبقى‏.‏ ثم سار خالد ونازل بني حنيفة ومسَيْلِمَةَ والرَّجَّالُ على مقدمة مسيلمة واشتدت الحرب وانكشف المسلمون حتى دخل بنو حنيفة خِباء خالد ومجاعة بها أسير مع أم متمم زوجة خالد فدافعهم عنها مجاعة وقالت‏:‏ نعمت الحرة‏.‏ ثم تراجع المسلمون وكرّوا على بني حنيفة‏.‏ فقال المحكم بن الطفيل‏:‏ ادخلوا الحديقة يا بني حنيفة فإني أمنع أدباركم فقاتل ساعة ثم قتله عبد الرحمن بن أبي بكر ثم تذامر المسلمون وقاتل ثابت بن قيس فقتل ثم زيد بن الخطاب ثم أبو ِحذيفة ثم سالم مولاه ثم البَرَّاءُ أخو أنس بن مالك‏.‏ وكان تأخذه عند الحرب رعدةً حتى ينتفض ويقعد عليه الرجال حتى يبول‏.‏ ثم يثور كالأسَدِ فقاتل وفعل الأفاعيل‏.‏ ثم هزم الله العدوّ وألجأهم المسلمون إلى الحديقة وفيها مسيلمة‏.‏ فقال البراء‏:‏ القوني عليهم من أعلى الجِدار فاقتحم وقاتلهم من أعلى الحديقة ودخل المسلمون عليهم‏.‏ وقتل مسيلمة وهو مزبد متساند لا يعقل من الغيظ‏.‏ وكان زيد بن الخَطًاب قتل الرجال بن عَنْفَوَةَ‏.‏ وكان خالد لما نزل بني حنيفة ومسيلمة ودارت الرَّحى عليه طلب البراز فقتل جماعة ثم دعا مسيلمة للبراز والكلام فحادثه فحاول فيه غِرةَ وشيطانه يوسوس إليه‏.‏ ثم ركبه خالد فأرهقه وأدبروا وزالوا عن مراكزهم‏.‏ وركبهم المسلمون فانهزموا‏.‏ وتطاير الناس عن مسيلمة بعد أن قالوا‏:‏ أين ما كنت تعدنا‏.‏ فقال‏:‏ قاتلوا على أحسابكم‏.‏ وأتاه وَحْشِي فرماه بحربة فقتل‏.‏ واقتحم الناس عليه حديقة الموت من حيطانها وأبوابها فقتل فيها سبعة عشر ألف مقاتل من بني حنيفة‏.‏ وجاء خالد بمجاعة ووقفه على القتلى ليريه مسلمة فمر بِمُحًكم فقال‏:‏ هوذا‏!‏ فقال مجاعة‏:‏ هذا والله خير منه‏.‏ ثم أراهه مسيلمة وهو رجل ذميم أُخَينس فقال خالد‏:‏ هذا الذي فعل فيكم ما فعل فقال مجاعة‏:‏ قد كان ذلك وانه والله ما جاءك إِلا سرعان الناس وإِن جماهيرهم في الحصون فهلمّ أصالحك على قومي‏.‏ وقد كان خالد التقط من دون الحصون ما وجد من مال ونساء وصبيان ونادى بالنزول عليها‏.‏ فلما قال له مجاعة ذلك قال له أصالحك على ما دون النفوس وأنطلق يشاوره‏.‏ فأفرغ السلاح على النساء ووقفن بالسور ثم رجع إليه وقال‏:‏ أبوا أن يجيزوا ذلك‏.‏ ونظر خالد إلى رؤوس الحصون وقد اسودت والمسلمون قد نهكتهم الحرب وقد قتل من الأنصار ما ينيف على الثلاثمائة والستين ومن المهاجرين مثلها ومن التابعين لهم مثلها أو يزيدون وقد فشت الجراحات فيمن بقي فجنح إلى السلم فصالحه على الصفراء والبيضاء ونصف السبِي والحَلْقَةِ وحائط ومزرعة من كل قرية فأبوا فصالحهم على الربع فصالحوه وفتحت الحصون فلم يجد فيها إِلا النساء والصبيان‏.‏ فقال خالد‏:‏ خدعتني يا مجاعة فقال‏:‏ قومي‏!‏ ولم استطع إلا ما صنعت فعقد لهم وخيرَهم ثلاثاً‏.‏ فقال له سَلَمَةُ بن عُمَيْرٍ لا نقبل صلحأ‏!‏ ونعتصم بالحصون ونبعث إلى أهل القرى فالطعام كثير والشتاء قد حضر فتشاءم مجاعة برأيه وقال لهم‏:‏ لولا أني خدعت القوم ما أجابوا إلى هذا فخرج معه سبعة من وجوه القوم وصالحوا خالدأ وكتب لهم وخرجوا إلى خالد للبيعة والبراءة مما كانوا عليه‏.‏ وقد أضمر سلمة بن عمير الفتك بخالد فطرده حين وقعت عينه عليه واطلع أصحابه على عذره فأوثقوه وحبسوه ثم أفلت فأتبعوه وقتلوه‏.‏ وكان أبو بكر بعث إلى خالد مع سلمة بن وقش إن أظفره الله أن يقتل من جرت عليه الموسى من بني حنيفة فوجده قد صالحهم فأتم عقده معهم‏.‏ ووفى لهم وبعث وفداً منهم إِلى أبي بكر بإسلامهم فقبلهم وسألهم عن أسجاع مسيلمة فقصُوها عليه فقال‏:‏ سبحان اللّه هذا الكلام ما خرج إلا من إل أو بر فأين يذهب بكم عن أحلامكم وردَّهم اللّه إلى قومهم‏.‏ لما فرغ خالد من اليمامة ارتحل إلى وادٍ من أوديتها وكانت عبد القيس وبكرِ بن وائل وغيرهم من أحياء ربيعة قد ارتدّوا بعد الوفاة وكذلك المنذر بن ساوى من بعدها بقليل‏.‏ فأما عبد القيس فردَّهم الجارود بن المُعًلّى وكان قد وفد وأسلم ودعا قومه فأسلموا فلما بلغهم خبر الوفاة ارتدوا وقالوا‏:‏ لو كان نبياً ما مات‏.‏ فقال لهم الجارود‏:‏ تعلمون أن لله أنبياء من قبله لم تروهم وتعلمون أنًهًم ماتوا ومحمد صلى الله عليه وسلم قد مات‏.‏ ثم تشهد فتشهدوا معه وثبتوا على إسلامهم وخلُّوا بين سائر ربيعة وبين المنذر بن ساوه والمسلمين‏.‏ وقال ابن اسحاق‏:‏ كان أبو بكر بعث العَلاءَ بن الحَضْرَمِيّ إلى المنذر وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولاه فلما كانت الوفاة وارتدّت ربيعة ونصبوا المنذر بن النعمان بن المنذر وكان يسمَّى المغرور فأقاموه مَلِكاً كما كان قومه بالحيرة وثبت الجارود وعبد القيس على الإسلام‏.‏ واستمر بكر بن وائل على الردَّة وخرج الحطْمُ بن ربيعة أخو بني قيس بن ثعلبة حتى نزل بين القطيف وهَجَر وبعث إلى دارين فأقاموا فجعل عبد القيس بينه وبينهم وأرسل إلى المغرور بن سويد أخي النعمان بن المنذر وبعثه إلى جواثى وقال‏:‏ أثبت فإن ظفرت ملَّكتك بالبحرين حتى تكون كالنُعْمان بالحيرة فحاصره المسلمون بجواثى‏.‏ وجاء العلاء بن الحضرمي لقتال أهل الردة بالبحرين ومر باليمامة فاستنفر ثمامة بن أثال في مسلمة بني حنيفة وكان متردداً وألحقَ عِكْرِمَةَ بِعُمانَ ومَهْرَةَ وأمر شرحبيل بالمقام حيث هو يغاور مع عمرو بن العاص أهل الردَة من قُضاعَة عمرو يغاور سعداً وبلق وشرحبيل يغاور كلباً ولفها‏.‏ ثم مر ببلاد بني تميم فاستقبله بنو الربابِ وبنو عُمَرَ ومالك بن نويرَة بالبِطاح يقاتلهم ووكيع بن مالك يواقف عمرو بن العاص وقيس بن عاصم من المقاعس والبطون يواقفون الزبْرَقَانَ بن بدر والأبناء وعَوْفٍ وقد أطاعوه على الإسلام وحنظلة متوقفون‏.‏ فلما رأى قيس بن عاصم يلقى الرباب وعمرو العلاء وقدم وجاء بالصدقات إِلى العلاء وخرج معه لقتال البحرين فسار مع العلاء من بني تميم مثل عسكره ونزل هجر وبعث إلى الجارود أن ينازل بعبد القيس الحَطْمَ وقومه مما يليه‏.‏ فاجتمع المشركون إلى الحطم إلا أهل دارين والمسلمون إلى العلاء وخندقوا واقتتلوا وسمعوا في بعض الليالي ضوضاءَ شديدة أي جلبة وصياحأ وبعثوا من يأتيهم بخبرها فجاءهم بأن القوم سُكارى فبيتوهم ووضعوا السيوف فيهم وأقتحموا الخندق وفرً القوم هراباً فمتمرد وناج ومقتول ومأسور‏.‏ وقتل قيس بن عاصم الحطم بن ربيعة ولحق جابر بن بجير وضربه فقطع عصبه ومات وأسر عفيف بن المنذر المغرور بن سويد وقال للعلاء‏:‏ أجرني فقال له العلاء‏:‏ ويقال إن المغرور اسمه وليس هو بلقب‏.‏ وقتل المغرور بن سويد بن المنذر وقسم الأنفال بين الناس وأعطى عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمامة بن أثال من أسلاب القوم وثيابهم وقصد الفلال إلى دارين وركبوا السفين إليها ورجع الأخرون إلى قومهم‏.‏ فكتب العلاء إلى من أقام على إسلامه من بكر بن وائل بالقعود لأهل الردة في السبل وإلى خصفة التميمي والمثنى بن حارثة بمثل ذلك فرجعوا إلى دارين وجمعهم الله بها‏.‏ ثم لما جاءته كتب بكر بن وائل وعلم حسن إسلامهم أمر أن يؤتى من خلفه على أهل البحرين‏.‏ ثم ندب الناس إلى دارين أن يستعرضوا البحر فارتحلوا واقتحموا البحر على الظهر وكلهم يدعوا‏:‏ يا أرحم الراحمين يا كريم يا حليم يا أحد يا صمد يا محيي الموتى يا حي يا قيُوم لا إِله إِلاَ أنت يا ربنا‏.‏ ثم أجازوا الخليج يمشون على مثل رمل مشياً فوقها ما يغمر أخفاف الإبل في مسيرة يوم وليلة فلقوا العدوَّ واقتتلوا وما تركوا بدارين مخبرأ وسبوا الذراري واستاقوا الأموال وبلغ نفل الفارس ستَّة آلاف والراجل ألفين‏.‏ ورجع العلاء إلى البحرين وضرب الإسلام بِجِرانه‏.‏ ثم أرجف المرجفون بأن أبا شيبان وثعلبة والحر قد جمعهم مفروق الشيباني على الردة‏.‏ فوثق العلاء بأن اللهازم تفارقهم وكانوا مجمعين على نصره وأقبل العلاء بالناس فرجعوا إلى من أحب المقام وقفل ثمامة بن أثال فيهم ومروا بقيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل فرأوا خميصة الحطم عليه فقالوا‏:‏ هو قتله فقال‏:‏ لم أقتله ولكن الأمير نفلنيها فلم يقبلوا وقتلوه‏.‏ وكتب العلاء إلى أبي بكر بهزيمة أهل الخندق وقتل الحطم قتله زيد ومسمِع‏.‏ فكتب إليه أبو بكر أن بلغك عن بني ثعلبة ما خاض فيه المرجفون فأبعث إليهم جنداً وأوصهم وشرد بهم من خلفهم‏.‏ ردة أهل عمان ومهرة واليمن نبغ بعُمانَ بعد الوفاة رجل من الأزْدِ يقال له لقيط بن مالك الأزدي يسامى في الجاهلية الجُلَنْدِي فدفعِ عنها الملكين اللذين كانا بها وهما جَيْفَرً وعًبّادُ ابنا الجلندي فارتد وادعى النبَوة وتغلب على عمان ودفع عنها الملكين وبعث جيفر إِلى أبي بكر بالخبر فبعث أبو بكر حذَيْفَةَ بن مُحْصِن من حِمْيَرٍ وعَرْفَجَةَ البارِقّي‏.‏ حُذَيْفَةُ إِلى عُمان وعَرْفَجَةُ إلى مَهْرَةَ وإن اجتمعا فالأمير صاحب العمل وأمرهما أن يكاتبا جيفر أو يأخذا برأيه‏.‏ وقد كان بعث عِكْرِمَةَ إلى اليمامة ومسَيْلِمَةَ ووقعت عليه النكبة كما مرّ فأمره بالمسير إلى حذيفة وعرفجة ليقاتل معهما عمان ومهرة ويتوجَّه إذا فرغ من ذلك إلى اليمن‏.‏ فمضى عكرمةُ فلحق بهما قبل أن يصلا إلى عُمان وقد عهد إِليهم أبو بكر أن ينتهوا إلى رأي عكرمة فراسلوا جَيفَرَ وعباداً وبلغ لقيطاً مجيء الجيوش فعسكر بمدينة دبا وعسكر جيفر وعباد بصحار‏.‏ واستقدموا عكرمة وحذيفة وعرفجة وكاتبوا رؤساء الدين لقيط فقدموا بجيوشهم ثم صمدوا إلى لقيط وأصحابه فقاتلوهم وقد أقام لقيط عياله وراء صفوفه وهم المسلمون بالهزيمة حتى جاءهم مددهم من بني ناجية وعليهم الخريتُ بن راشد ومن عبد القيس وعليهما سيحان بن صوحان فانهزم العدو المسلمون وقتلوا نحواً من عشرة آلاف وسبوا الذراري والنساء وتم الفتح وقسموا الأنفال وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة وكان الخمس ثمانمائة رأس‏.‏ وأقام حُذَيْفَةُ بِعُمان وسار عكْرِمَةُ إلى مَهْرَةَ وقد استنفر أهل عمان ومن حولها من ناحية الأزد وعبد القيس وبني سعيد من تميم فاقتحم على مهرة بلادهم وهم على فرقتين يتنازعان الرياسة فأجابه أحد الفريقين وسار إلى الآخرين فهزمهم وقتل رئيسهم ثم أصابوا منهم ألفي نجيبة‏.‏ وأفاد المسلمون قوة بغنيمتهم وأجاب أهل تلك النواحي الإسلام وهم أهل نجد والروضة والشاطىء والجزائر والمُرِّو واللبان وأهل جيرة وظهور الشمر والفرات وذات الخيم فاجتمعوا كلهم على الإسلام‏.‏ وبعث إلى أبي بكر بذلك البشير وسار هو إلى اليمن للقاء المهاجر بن أبي أمية كما عهد إليه أبو بكر‏.‏ ولما فرغ خالد من أمر اليمامة بعث إِليه أبو بكر في المحرّم من سنة اثنتي عشرة فأمره بالمسير إلى العراق ومرج الهند وهي الأيلة منتهى بحر فارس في جهة الشمال البصرة فيتألف أهل فارس ومن في مملكتهم من الأمم‏.‏ فسار من اليمامة وقيل قدم أي بكر ثم سار من المدينة وانتهى إلى قرية بالسواد وهي بانِقْيا وباروسما واللَيْس وَكانت لابن صَلوبا فصالحهم على عشرة آلاف دينار فقبضها خالد ثم سار إِلى الحيرة وخرج إليه أشرافها مع إياس بن قُبَيْصَةَ الطائي الأمير عليها بعد النُعْمان بن المنذر فدعاعم الإسلام أو الجزية أو المناجزة‏.‏ فصالحوه على تسعين ألف درهم وقيل إنما أمره أبو أن يبدأ بالأبَلَةِ ويدخل من أسفل العراق‏.‏ وكتب إلى عِيَاض بن غَنْم أن يبدأ بالمضيخ ويدخل من أعلى العراق وأمر خالداً بالقعقاع بن عمرو التيمي وعياضاً بن عوف الحميري‏.‏ وقد كان المُثَنَّى بن حارِثَةَ الشَّيْبَاني استأذن أبا بكر في غزو العراق فأذن له فكان يغزوهمِ قبل قدوم خالد‏.‏ فكتب أبو بكر إليه وإلى حَرْمَلَةَ ومدعور وسلمان أن يلحقوا بخالد بالأبلَة وكانوا في ثمانية آلاف فارس ومع خالد عشرة آلاف‏.‏ فسار خالد في أول مقدمته المثنى وبعده عدي بن حاتم‏.‏ وجاء هو بعدهما على مسيرة يوم بين كل عسكر وواعدهما الحُفَيْر ليجتمعوا به ويصادموا عدوّهم وكان صاحب ذلك المرْج من أساورة الفرس اسمه هرمز وكان يحارب العرب في البرّ والهند في البحر‏.‏ فكتب إلى اردشير كسرى بالخبر وتعجل هو إلى الكواظم في سرعان أصحابه حتى نزل الحفير وجعل على مَجنَبَتَيه قَباذَ وانوشجان يناسبانه في اردشير الأكبر واقترنوا بالسلاسل لئلا يفروا‏.‏ وأروا خالدأ أنهم سبقوا إلى الحفير فمال إلى كاظمة فسبقه هُرْمزُ إليها أيضاً‏.‏ وكان للعرب على هرمز حنق لسوء مجاورته‏.‏ وقدم خالد فنزل قبالتهم على غير ماء وقال‏:‏ ليعيدن الماء فإن الله جاعله لأصبر الفريقين‏.‏ ثم أرسل اللّه سحابة فاغدرت من ورائهم‏.‏ ولما حطوا أثقالهم قدم خالد ودعا إلى النزال فبرز إليه هرمز وترجل ثم اختلفا ضربتين فاحتضنه خالد وحمل أصحاب هرمز للغدر به فلم يشغله ذلك عن قتله‏.‏ وحمل القعقاع بن عمرو فقتلهم وانهزم أهل فارس وركبهم المسلمون‏.‏ وسميت الواقعة ذات السلاسل‏.‏ وأخذ خالد سلب هرمز وكانت قلنسوته بمائة ألف وبعث بالفتح والأخماس إلى أبي بكر‏.‏ وسار فنزل بمكان البصرة وبعث الثني بن حارثة في آثار العدو فحاصر حِصْنَ المرأة وفتحه وأسلمت فتزوجها وبعث معقل بن مُقَرِّن إلى الأبلَّةِ ففتحها وقيل إنما عُقْبَةُ بن غزوان أيام عمر سنة أربع عشرة‏.‏ ولم يتعرض خالد وأصحابه إلى الفلاحين وتركهم وعمارة البلاد كما أمر أبو بكر به‏.‏ وكان كسرى أردشير لما جاءه كتاب هُرْمُزَ بمسير خالد أمره بقارن بن فريانس فسار من المدائن ولما انتهى إلى الدار لقيه المنهزمون عن هرمز ومعهم قَباذُ وانوشِجان فتذامروا ورجعوا ونزلوا النهر وسار إليهم خالد واقتتلوا وبرزقان‏.‏ فقتله معقل بن الاعْشَى بن النباش وقتل عاصم أبو شجان وقتل عدي قباذ‏.‏ وانهزمت الفرس وقتل منهم نحو ثلاثين ألفاً سوى من غرق ومنعت المياه المسلمين من طلبهم‏.‏ وكانت الغنيمة عظيمة وأخذ الجزية في الفلاحين وصاروا في ذمة‏.‏ ولم يقاتل المسلمين من الفرس بعد قارن أعظم منه وتسمى هذه الوقعة بالثنيِّ وهو النهر‏.‏ ولما جاء الخبر إلى اردشير بالهزيمة بعد الأندرزغر وكان فارساً من مولد السواد‏.‏ فأرسل في أثره مع بُهْمَن حاذوَيْه وحشد الأندرزغر ما بين الحيرة وكَسْكَر من عرب الضاحية والدهاقين وعَسْكَرَ بالولجة وسار إليهم خالد فقاتلهم وصبروا‏.‏ ثم جاءهم كمين من خلفهم فانهزموا ومات الأندرزغر عطشاً‏.‏ وبذل خالد الأمان للفلاحين فصاروا ذمة وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم وأصاب اثنين من نصارى بكر بن وائل‏.‏ أحدهما جابر بن بجَيْر والآخر ابن عبد الأسود من عِجْل فأسرهما وغضب بكر بن وائل لذلك‏.‏ فاجتمعوا على الليث وعليهم عبد الأسود العِجْلِي فكتب أردشيرُ إلى بُهْمَنَ حاذَوَيْه وقد أقام بعد الهزيمة بقَسيناثا يأمره بالمسير إلى نصارى العرب بالليس فيكون معهم إلى أن يَقدْمُ عليهم جابان من المَرَازِبَةِ فقدم بهمن على أردشير ليشاوره وخالفه جابان إلى نصارى العرب من عِجْل وتَيْم اللات وضُبَيْعَةَ وعرب الضاحِيَةِ من الحيرة وهم مجتمعون على الليث‏.‏ وسار إليهم خالد حين بلغه خبرهم ولا يشعر بجابان‏.‏ فلما حطّ الأثقال سار إليهم وطلب المبارزة فبرز إليه مالك بن قيس فقتله خالد واشتد القتال بينهم وسائر المشركين ينتظرون قدوم بهمن‏.‏ ثم انهزموا واستأسر الكثير منهم وقتلهمٍ خالد حتى سال النهر بالدم وسمِّي نهر الدم ووقف على طعام الأعاجم وكانوا قعوداً للأكل فنفله المسلمون‏.‏ وجعل العرب يتساءلون عن الرقاقِ يحسبونه رقاعاً وبلغ عدد القتلى سبعين ألفاً‏.‏ ولما فرغ من الليس سار إلى أمعيشيا فغزا أهلها وأعجلهم أن ينقلوا أموالهم فغنم جميع ما فيها وخربها‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 04:59 PM

فتح الحيرة
ثم سار خالد إلى الحيرة وحمل الرجال والأنفال في السفن‏.‏ وخرج مرزبان الحيرة وهو الأزادية فعسكر عند الغريين وأرسل ابنه ليقاطع الماء على السفن فوقفت على الأرض وسار إليه خالد فلقيه على فرات بازقلة فقتله وجميع من معه وسار نحو أبيه على الحيرة فهرب بغير قتال لما كان بلغة من موت أردشير كسرى وقتل ابنه‏.‏ ونزل خالد منزله بالغريّين وحاصر قصور الحيرة وافتتح الديور وصاح القسيسون والرهبان بأهل القصور فرجعوا على الإباية وخرج إياس بن قبيصة من القصر الأبيض وعمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن بقيلة وكان معمراً وسأله خالد عن عجيبة قد رآها فقال رأيت القرى ما بين دمشق والحيرة تسافر بينهما المرأة فلا تتزود إلا رغيفاً واحداً‏.‏ ثم جاءه واستقرب منه ورأى مع خادمه كيسأ فيه سم فأخذه خالد ونثره في يده وقال ما هذا قال خشيت أن تكونوا على غير ما وجدت فيكون الموت أحب إلي من مكروه أدخله على قومي‏.‏ فقال له خالد لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها‏.‏ ثم قال‏:‏ باسم الله الذي لا نصير مع اسمه شيء وابتلع السم فوعك ساعة ثم قام كأنما نشط من عقال‏.‏ فقال عبد المسيح لتبلغنّ ما فأردتم ما دام أحد منكم هكذا‏.‏ ثم صالحهم على مئة أو مئتين وتسعين ألفاً وعلى كرامة بنت عبد المسيح لشريك كان النبي صلى الله عليه وسلم وعده بها إذا فتحت الحيرة فأخذها شريك وافتدت منه بألف درهم وكتب لهم بالصلح وذلك في أول سنة اثنتي عشرة‏.‏ فتح ما وراء الحيرة‏.‏ كان الدهاقين يتربصون بخالد ما يصنع بأهل الحيرة فلما صالحهم واستقاموا له جاءته الدهاقين من كل ناحية فصالحوه عما يلي الحيرة من الفلاليج وغيرها على ألف ألف وقيل على ألفي ألف سوى جباية كسرى‏.‏ وبعث خالد ضرارَ بن الأزور وضرارَ ابن الخطاب والقعقاعَ بن عمرو والمثنّى بن حارثة وعيينةَ بن الشماس فكانوا في الثغور وأمرهم بالغَارة فمخروا السواد كله إلى شاطىء دجلة‏.‏ وكتب إلى ملوك فارس‏:‏ أما بعد فالحمد لله الذي حل نظامكم ووهن كيدكم وفرق كلمتكم ولو نفعل ذلك كان شرأ لكم‏.‏ فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة‏.‏ وكتب إلى المرازبة‏:‏ أما بعد فالحمد لله الذيِ فضّ حذقكم وفرق كلمتكم وفل حدّكم وكسر شوكتكم تسلموا وإلا فاعتقدوا مني الذمة وأدوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر انتهى‏.‏ وكان العجم مختلفين بموت أردشير وقد أزالوا بهمن حاذويه فيمن سيره في العساكر فجبى خالد خراج السواد في خمسين ليلة وغلب العجم عليه وأقام بالحيرة سنة يصعد ويصوّب والفرس يخلعون ويملكون ولم يجدوا من يجتمعون عليه لأن سيرين كان قتل جيع من تناسب إلى بهرام جور‏.‏ فلما وصلهم كتاب خالد تكلم نساء آل كسرى وولِّوا الفرّخ زاد ابن البندوان إلى أن يجدوا من يجتمعون عليه ووصل جرير بن عبد الله البجلي إلى خالد بعد فتح الحيرة وكان مع خالد بن سعيد بن العاص بالشام‏.‏ ثم قدم على أبي بكر فكلمه أن يجمع كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أوزاعاً متفرقين في العرب‏.‏ فسخط ذلك منه أبو بكر تكلمني بما لا يعني وأنت ترى ما نحن فيه من فارس والروم وأمره بالسير إلى خالد فقدم عليه بعد فتح الحيرة‏.‏ فتح الأنبار وعين التمر وتسمى هذه الغزوة ذات العيون ثم سار خالد على تَعْبِيَتهِ إلى الأنبار وعلى مقدَّمته الأقرَ بن حابس وكان بالأنبار شيرزاد صاحب ساباط فحاصرهم ورشقوهم بالنبال حتى فقأوا منهم ألف عين‏.‏ ضعاف الإبل وألقاها في الخندق حتى ردمه بها وجاز هو وأصحابه فوقها‏.‏ فاجتمع المسلمون والكفار في الخندق وصالح شيرزاد على أن يلحقوه بمأمنه ويخلي البلد وما فيها فلحق بهمن جادويه‏.‏ ثم استخلف خالد على الأنبار الزَبْرَقان بن بدر وسار إِلى عين التمر وبها مهران بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم وعقَّة بن أبي عقة في جمع عظيم من العرب وحولهم طوائف من النمر وتغلب وإِياد وغيرهم من العرب‏.‏ وقال عقبة لبهرام دعنا وخالداً فالعرب أعرف لقتال العرب‏.‏ فدفعه لذلك واتقى به وسار عقة إلى خالد وحمل خالد عليه وهو يقيم صفوفه فاحتضنه وأخذ أسيراً‏.‏ وانهزم العسكر عن غير قتال وأسر أكثرهم وبلغ الخبر إلى مهران فهرب وترك الحصن وتحصن به المنهزمون واستأمنوا لخالد فأبى فنزلوا على حكمه أجمعين وعقة معهم‏.‏ وغنم ما في الحصن وسبى أهليهم وأولادهم وأخذ من البيعة وهي الكنيسة غلماناً كانوا يتعلمون الإنجيل فقسمهم في الناس منهم سيرين أبو محمد ونصير أبو موسى وحمران مولى عثمان وبعث إلى أبي بكر بالفَتح والخمس وقتل من المسلمين عمير بن رباب السهمي من مهاجرة الحبشة وبشير بن سعد والد النعمان‏.‏ مطلب وقعة دومة الجنادل ولما فرغ خالد من عين التمر وافق وصول كتاب عياض بن غنم وهو على من بازائه من نصارى العرب بناحية دومة الجندل وهم بَهْرَا وكَلْب وغسان وتنوخ والضَجَاعِم‏.‏ وكانت رياسة دومة لأكَيْدرَ بن عبد الملك والجودي بن ربيعه يقتسمانِها وأشار أكيدر بصلح خالد فلم يقبلوا منه فخرج عنه وبلغ خالد مسيره فأرسل من اعترضه فقتله وأخذ ما معه‏.‏ وسار خالد فنزل دومة وعياض عليها من الجهة الأخرى وخرج الجوديّ لقتال عياض فانهزموا من الجهتين إلى الحِصن فأغلق دونهم وقتل الجودي وافتتح الحصن عَنْوَةٍ فقتل المقاتلة وسبى الذرية‏.‏ m0 وقائع بالعراق وأقام خالد بدومة الجندل وطمع الأعاجم في الحيرة وملأهم عرب الجزيرة غضباً لعقة فخرج اسواران إِلى الأنبار وانتهيا إلى حصيد والخنافس فبعث القَعْقَاع من الحيرة عسكرين حالاً بينهما وبين الريف‏.‏ ثم جاء خالد إلى الحيرة فجعل القعقاع بن عمرو وأبو ليلى بن فدكى إلى لقائهما بالحصيد فقتل من العجم مقتلة عظيمة وقتل الاسواران وغنم المسلمون ما في الحصيد وانهزمت الأعاجم إلى الخنافس وبها البهبوذان من الأساورة‏.‏ وسار أبو ليلى في اتباعهم فهزم البهبوذان إلى المصيخ وكان بهما الهذَيْلُ بن عِمَران وربيعة بن بُجَيْر من عرب الجزيرة غضباً لعقة وجاءا مدداً لأهل الحصيد فكتب خالد إلى القعقاع وأبي ليلى وأودعهما المصيخ‏.‏ وسار إليهم فتوافوا هنالك وأغاروا على الهذيل ومن معه ثلاثة أوجه فأكثروا فيهم القتل ففر الهذيل في قليل وكان مع الهذيل عبد العزيز بن أبي رهم من أوس مناة ولبيد بن جرير وكانا أسلما وكتب لهما أبو بكر بإسلامهما فقتلا في المعركة فَوَداهما أبو بكر وأوصى بأولادهما‏.‏ وكان عمر يعتمد بقتلهما وقتل مالك بن نويرة على خالد ولما فرغ خالد من الهذيل بالمصيخ واعد القعقاع وأبا ليلى إلى الثَنِي شرقي الرصافة ليغير على ربيعة بن بجيْرٍ التغْلبِيَ صاحب الهذيل الذي جاء معه لِمدَدِ الفُرس وتبييتهم فلم يفلت منهم أحداً‏.‏ ثم اتبع الهذيل بعد مَفَرِّه من المصيخ إلى اليسير وقد لحق هنالك بعتاب بن أُسَيْد فبيتهم خالد قبل أن يصل إليهم خبر ربيعة فقتل منهم مقتلة عظيمة وسار إلى الرصافة وبها هلال بن عقة فتفرق عنه أصحابه وهرب فلم يلق بها خالد من الرضاب إلى الفِراض وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة فحميت الروم واستعانوا بمن يليهم من مسالح فارس واجتمعت معهم تغلب وإِياد والنمر وصاروا إلى خالد وطلبوا منه العبور فقال اعبروا اسفل منا فعبروا وامتاز الروم من العرب‏.‏ فانهزمت الروم ذلك اليوم وقتل منهم نحواً من مئة ألف‏.‏ ‏.‏ وأقام خالد على الفراض إلى ذي القعدة‏.‏ ثم أذن للناس بالرجوع إلى الحيرة وجعل شَجَرَة بن الأغرِّ على الساقة وخرج من الفراض حاجاً مكتتماً بحجه وذهب ليتعسف البلاد حتى أتى مكة فحجَّ ورجع فوافى الحيرة مع جنده وشجرة بن الأغر معهم ولم يعلم بحجِّه إلا من أعلمه به وعتب به أبو بكر في ذلك لما سمعه وكانت عقوبته إياه أن صرفه من غزو العراق إلى الشام‏.‏ ثم شن خالد بن الوليد الغارات على نواحي السواد فأغار هو على شرق بغداد وعلى قَطَرْبِل وعَقَرْقُوف ومسكن وبادروبا‏.‏ وحج أبو بكر في هذه السنة واستخلف على المدينة عثمان بن عفان‏.‏ بعوث الشام وكان من أول عمل أبي بكر بعد عوده من الحج أن بعث خالد بن سعيد بن العاص في الجنود إلى الشام أول سنة ثلاث عشرة وقيل إنما بعثه إلى الشام لما بعث خالد بن الوليد إلى العراق أول السنة التي قبلها ثم عزله قبل أن يسير لأنه كان لما قدم من اليمن عند الوفاة تخلُّف عن بيعة أبي بكر أياماً وغدا على علي وعثمان على الإستكانة لِتَيْم وهما رؤوس بني عبد مناف فنهاه عليُّ وبلغت الشيخين‏.‏ فلما ولاه أبو بكر عقد له عمر فعزله وأمره أن يقيم بتيماء ويدعو من حوله من العرب إلى الجهاد حتى يأتيه أمره‏.‏ فاجتمعت إليه جموع كثيرة وبلغ الروم خبره فضربوا البعث على عرب الضاحية بالشام من بهرا وسليح وكلب وغسان ولخم وجذام وسار إليهم خالد فغلبهم على منازلهم وافترقوا‏.‏ وكتب له أبو بكر بالإقدام فسار متقدماً ولقيه البطريك ماهان من بطاركة الروم فهزمه خالد واستلحم الكثير من جنوده‏.‏ وكتب إلى أبي بكر يستمده ووافق كتابه المستنفرين وفيهم ذو الكلاع ومعه حميرْ وعِكرمَةُ بن أبي جهل ومن معه من تهَامَةَ والسُرو وعُمان والبحرين فبعثهم إليه‏.‏ وحينئذ اهتم أبو بكر بالشام وكان عمرو بن العاص لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً إلى عمان وعده أن يعيده إلى عمله عند فراغه من أمر عمان فلما جاء بعد الوفاة أعاده إليها أبو بكر إنجازاً لوعده صلى الله عليه وسلم وهي صدقات سعد هذَيْم وبني عُمْرَةَ‏.‏ فبعث إليه لأن يأمره باللحاق بخالد بن سعيد لجهاد الروم وأن يقصد فِلَسْطين وبعث أيضأ إلى الوليد بن عقبة وكان على صدقات قضاعَةَ وولاه الأردن وأمًر يزيد بن أبي سفيان على جمهور من انتدب إليه منهم‏:‏ سهيل بن عمرو وأشباهه وأمّر أبا عبيدة بن الجراح على جميعهم وعين له حمص وأوصى كل واحد منهم‏.‏ ولما وصل المدد إِلى خالد بن سعيد وبلغه توجُه الأمراء تعجل للقاء الروم قبلهم فاستطرد له ماهان ودخل دمشق‏.‏ واقتحم خالد الشام ومعه ذي الكلاع وعِكْرِمَةُ والوليد حتى نزل مرج الصُفرِ عند دمشق فانطوت مسالح ماهان عليه وسدوا الطريق دونه وزحف إليه ماهان ولقي ابنه سعيداً في طريقه فقتلوه‏.‏ وبلغ الخبر أباه خالداً فهرب فيمن معه وانتهى إلى ذي المروة قرب المدينة‏.‏ وأقام عكرمة ردءاً من خلفهم فرد عنهم الروم فأقام قريبأ من الشام‏.‏ وجاء شرحبيل بن حسنة إلى أبي بكر وافدأً من العراق من عند خالد فندب إليه الناس وبعثه مكان الوليد إلى أردن‏.‏ ومرّ ثم بعث أبو بكر معاوية وأمره باللحاق بأخيه يزيد وأذن لخالد بن سعيد بدخول المدينة‏.‏ وزحف الأمراء في العساكر نحو الشام فعبى هرقل عساكر الروم ونزل حمص بعد أن أشار على الروم بعدم قتال العرب ومصالحتهم على ما يريدون فأبوا ولجوا ثم فرقهم على أمراء المسلمين فبعث شقيقه تذارق في تسعين ألفً نحو عمرو بن العاص بفلسطين‏.‏ وبعث جرجة بن توذر نحو يزيد بن أبي سفيان وبعث الدراقص نحو شرحبيل بن حسنة بالأردن وبعث القيقار بن نسطورس في ستين ألفاً نحو أبي عبيدة بالجابية‏.‏ فهابهم المسلمون ثم رأوا أن الاجتماع أليق بهم وبلغهم كتاب أبي بكر بذلك فاجتمعوا باليرموك في بضعة وعشرين ألفاً‏.‏ وأمر هرقل أيضا باجتماع جنوده ووعدهم بوصول ملحان إِليهم ردءاً فاجتمعوا بحيال المسلمين والوادي خندق بينهم‏.‏ فأقاموا بإزائه ثلاثة أشهر واستمدوا أبا بكر فكتب إلى خالد بن الوليد أن يستخلف على العراق المثنى بن حارثة ويلحق بهم وأمره على جند الشام‏.‏ ولما استمد المسلمون أبا بكرٍ بعث إليهم خالد بن الوليد من العراق واستحثه في السير إليهم فنفذ خالد لذلك ووافى المسلمين مكانهم عندما وافى ماهان الروم أيضأ‏.‏ وولى خالد قباله وولى الأمراء قبل الاخرين إزاءهم فهزم ماهان وتتابع الروم على الهزيمة وكانوا مائتين وأربعين ألفاً وتقسموا بين القتل والطرق في الواقوصة والهَوي فيِ الخندق وقتل صناديد الروم وفرسانهم وقتل تدارق أخو هرقل وانتهتَ الهزيمة إلى هرقل وهو دون حمص فارتحل وأجاز إِلى ما وراءها لتكون بينه وبين المسلمين وأمر عليها وعلى دمشق‏.‏ ويقال‏:‏ إِن المسلمين كانوا يومئذ ستة وأربعين ألفأ سبعة وعشرين منها مع الأمراء وثلاثة آلاف من بلال مع خالد بن سعيد قد أمر عليهم أبو بكر معاوية بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعشرة آلاف‏.‏ من أمداد أهل العراق مع خالد بن الوليد وستة آلاف ثبتوا معِ عكرمة ردءاً بعد خالد بن سعيد‏.‏ وأن خالد بن سعيد عبأهم كراديس ستة وثلاثين كردوساَ لما رأى الروم تعبوا كراديس وكان كل كردوس ألفاً وكان ذلك فيِ شهر جمادى وأن أبا سفيان بن حرب أبلى يومئذ بلاءً حسناً بسعيه وتحريضه‏.‏ قالوا‏:‏ وبينما الناس في القتال قدم البريد من المدينة بموت أبي بكر وولاية عمر فأسره إلى خالد وكتمه عن الناس‏.‏ ثم خرج جرجه من أمراء الروم فطلب خالدأ وسأله عن أمره وأمر الإسلام فوعظه خالد فاستبصر وأسلم وكانت وهناً على الروم‏.‏ ثم زحف خالد بجماعة من المسلمين فيهم جرجه فقتل من يومه واستشهد عكرمة بن أبي جهل وابنه عمر وأصيبت عين أبي سفيان واستشهد سلمة بن هشام وعمرو وأبان إبنا سعيد وهشام بن العاص وسَيارُ بن سفيان والطفَيْلُ بن عمرو وأثبت خالد بن سعيد فلا يعلم أين مات بعد‏.‏ ويقال استشهد في مرج الصُفّرِ في الوقعة الأولى ويقال إِن خالداً لما جاءه من العراق مدداً للمسلمين بالشام طلب من الأدلاء أن يغوروا به حتى يخرج من وراء الروم فسلك به رافع بن عمرو الطائي من فزارة في بلاد كلب حتى خرج إلى الشام ونحر فيها الإبل وأغار على مصيخ فوجد به رفقة فقتلهم وأسلبهم‏.‏ وقعة مرج راهط وكان الحرث بن الأيهم وغَّسان قد اجتمعوا بمرج راهط فسلك إليهم واستباحهم هم نزل بصرى ففتحها ثم سار منها إلى المسلمين بالواقوصة فشهد اليرموك ويقال‏:‏ إِن خالداً لما جاء من العراق إلى الشام لقي أمراء المسلمين ببصرى فحاصروها جميعاً حتى فتحوها على الجزية‏.‏ ثم ساروا جميعاً إلى فلسطين مدداً لعمرو بن العاص وعمرو بالغور والروم بجلق مع تدارق أخي هرقل وانكشفوا عن جلق إلى أجنادين وراء الرملة شرقاً‏.‏ ثم تزاحف الناس فاقتتلوا وانهزم الروم وذلك في منتصف جمادى الأولى من السنة وقتل فيها تدارق ثم رجع هرقل ولقي المسلمين بالفاقوصة عند اليرموك فكانت واقعة اليرموك كما قدمنا في رجب بعد أجنادين وبلغت المسلمين وفاة أبي بكر وإنها كانت لثمان بقين من جمادى الآخرة‏.‏ ولما احتضر أبو بكر عهد إلى عمر رضي الله عنهما بالأمر من بعده بعد أن شاور علياً وطلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم وأخبرهم بما يريد فيه فَأثنوا على رأيه فأشرف على الناس وقال‏:‏ إني قد استخلفت عمر لم آل لكم نصحاً فاسمعوا له وأطيعوا ودعا عثمان فأمره فكتب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحالة التي يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب ولم آل لكم خيراً فإن صبر وعدل فذلك علمي به ورأي منه وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرىء ما اكتسب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون‏.‏ فكان أول ما أنفذه من الأمور عزل خالد عن إمارة الجيوش بالشام وتوليه أبي عبيدة وجاء الخبر بذلك والمسلمون مواقفون عدوهم في اليرموك فكتم أبو عبيدة الأمر كله فلما انقضى أمر اليرموك كما مرّ سار المسلمون إلى فِحْل من أرض الأردن وبها واقعة الروم وخالد على مقدمة الناس فقاتلوا الروم‏.‏ واقتحموها عنوة وذلك في ذي القعدة ولحقت فواقعت الروم بدمشق وعليها ماهان من البطارقة فحاصرهم المسلمون حتى فتحوا دمشق وأظهر أبو عبيدة أمارته وعزل خالد‏.‏ وقال سببه إن أبا بكر كان يُسْخِطُ خالد بن سعيد والوليد بن عُقْبَةَ من أجل فرارهما كلما مرّ فلما وَليَ عمر رضي الله عنه أباح لهما دخول المدينة ثم بعثهما مع الناس إلى الشام‏.‏ ولما فرغ أمر اليرموك وساروا إلى فِحْل وبلغ عمر خبر اليرموك فكتب بعزل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص حتى يصير الحرب إلى فلسطين فتولاها عمر‏.‏ وإن خالداً قدم على عمر بعد العزل وذلك بعد فتح دمشق وإنهم ساروا إلى فحل فاقتحموها ثم ساروا إلى دمشق وعليها نِسطاسُ بن نَسْطُورُسَ فحاصروها سبعين ليلة وقيل ستة أشهر من نواحيها الأربع ة خالد وأبو عبيدة ويزيد وعمرو كل واحد على ناحية وقد جعلوا بينهم وبين هرقل مدينة حمص ومن دونها ذو الكلاع في جيش من المسلمين‏.‏ وبعث هرقل المدد إلى دمشق وكان فيهم ذو الكلاع فَسُقِطَ في أيديهم وقدموا على دخول دمشق وطمع المسلمون فيهم‏.‏ واستغفلهم خالد في بعض الليالي فتسور سورهم من ناحيته وقتل الوليد وفتح الباب واقتحم البلد وكبر وكبّروا فقتلوا جميع من لقوه‏.‏ وفزع أهل النواحي إلى الأمراء الذين يلونهم فنادوا لهم بالصلح والدخول فدخلوا من نواحيهم صلحاً فأجريت ناحية قال سيف‏:‏ وبعثوا إلى عمر بالفتح فوصل كتابه بأن يصرف جند العراق إلى العراق فخرجوا وعليهم هاشم بن عُتْبَةَ وعلى مُقَدَّمَتِةِ القعقاع وخرج الأمراء إلى فِحل وأقام يزيد بن أبي سفيان بدمشق‏.‏ وكان الفتح في رجب سنة أربع عشرة‏.‏ وبعث يزيد دِحْيَةَ الكَلْبِي إلى تدمر وأبا الزهراء القشيري إلى حوران والبُثَيْنَةِ فصالحوهما وولي عليهما‏.‏ ووصل الأمراء إلى فِحْل فبيتهم الروم فظفر المسلمون بهم وهزموهم فقتل منهم ثمانون ألفأ‏.‏ وكان على الناس في وقعة فحل شرحبيل بن حسنة فسار بهم إلى بيسان وحاصرها فقتل مقاتلتها وصالحه الباقون فقبل منهم‏.‏ وكان أبو الأعور السلمي على طَبَرِيّة محاصرأ لها فلما بلغهم شأن بيسان صالحوه فكمل فتح الأردن صلحاً‏.‏ ونزلت القوّاد في مدائنها وقراها وكتبوا إلى عمر بالفتح‏.‏ وزعم الواقدي‏:‏ أن اليرموك كانت سنة خمسة عشرة وأن هرقل انتقل فيها من إنطاكية إلى قسطنطينية وأن اليرموك كانت آخر الوقائع‏.‏ والذي تقدم لنا من رواية سيف أن اليرموك كانت سنة ثلاث عشرة وإن البريد بوفاة أبي بكر قدم يوم هربت الروم فيه‏.‏ وأن الأمراء بعد اليرموك ساروا إلى دمشق ففتحوها ثم كانت بعدها وقعة فِحْل ثم وقائع أخرى قبل شخوص هرقل والله أعلم‏.‏ لما وصل كتاب أبي بكر إلى خالد بعد رجوعه من حَجِّه بأن ينصرف إِلى الشام أميراً على المسلمين بها ويخرج في شطر الناس ويرجع بهم إذا فتح اللّه عليه إلى العراق ويترك الشطر الثاني بالعراق مع المثنى بن حارثة‏.‏ وفعل ذلك خالد ومضى لوجهه وأقام المثنى بالحيرة ورتب المصالح واستقام أهل فارس بعد خروج خالد بقليل على شَهْرِيار بن شيرين بن شهريار ممن يناسبه إلى كِسْرى أبي سابور وذلك سنة ثلاث عشرة‏.‏ فبعث إلى الحيرة هُرْمُزَ فاقتتلوا هنالك قتالاً شديداً بِعُدْوَةِ الضَرَّاءِ‏.‏ وغار الفيل بين الصفوف فقتله المُثَنَّى وناس معه وانهزم أهل فارس واتبعهم المسلمون يقتلونهم حتى انتهوا إلى المدائن ومات شهريار إِثر ذلك وبقي ما دون دجلة من السواد في أيدي المسلمين‏.‏ ثم اجتمع أهل فارس من بعد شهريار على آزَرْمِيدَخْتَ ولم ينفذ لها أمر فَخُلِعَتْ وملك سابور بن شهريار وقام بأمره الفَرُّخْزاذ بن البَنْدَوان وزوجة آزرميدخت فغضبت وبعثت إلى سِيَاوَخْش الوازن وكان من كبار الأساوِرَة وشكت إِليه فأشار عليها بالقبول‏.‏ وجاء ليلة العرس فقتل الفرخزاذ ومن معه ونهض إلى سابور فحاصره ثم اقتحم عليه فقتله وملكت آزرميدخت وتشاغلوا بذلك عن ملكها‏.‏ انتهى شأن أبي بكر وشق السواد في سلطانه وتشاغل أهل فارس عن دفاع المسلمين عنه‏.‏ ولما أبطأ خبر أبي بكر على المثنى استخلف المثنى على الناس بِشْرَ بن الخصَاصِيَة وخرج نحو المدينة‏.‏ يستعلم ويستأذن فقدم وأبو بكر يجود بنفسه‏.‏ وقد عهد إلى عمر وأخبره الخبر فأحضر عمر وأوصاه أن يندب الناس مع المثنى وأن يصرف أصحاب خالد من الشام إلى العراق‏.‏ فقال عمر‏:‏ يرحم اللّه أبا بكر علم إِنّه تستر في إمارة خالد فأمرني بصرف أصحابه ولم يذكره‏.‏ ولاية أي عبيد بن مسعود على العراق ومقلته ولما وَليَ عُمَرُ ندب الناس مع المثنى بن حارثة‏.‏ أياماً وكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود‏.‏ فقال عمر للناس‏:‏ إِن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النَجْعَةِ ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك‏.‏ أين المهاجرون عن موعد الله سيروا في الأرض التي وعدكم اللّه في الكتاب أن يُورِثَكُمُوهَا فقال‏:‏ لِيُظْهِرَهُ على الدين كُلِّه فاللهّ مُظْهِر دينه ومُعِزٌ ناصره ومولي أهله مواريث الأمم‏.‏ أين عباد الله الصالحون فانتدب أبو عُبَيْد الثَقَفِيّ ثم سعد بن عبيد الأنصاري ثم سَلِيط بن قيس فولى أبا عبيد على البعث لسبقه وقال‏:‏ إسمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأشْرِكْهُمْ في الأمر ولا تجتهد مسرعاً بل اتئد فإنها الحرب والحرب لا يصْلِحُها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف‏.‏ ولم يمنعني أن اؤمّر سليطاً إلا لسرعته إلى الحرب وفي السرعة إلى الحرب إلا عن بيان ضياع والله لولا سرعته لأمّرته‏.‏ فكان بعث أبي عبيد هذا أول بعث بعثه عمر ثم بعث بعده بعليّ بن أمية إلى اليمن وأمره بإجلاء أهل نجران لوصيَّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بذلك في مرضه‏.‏ وقال‏:‏ أخبرهم بأنا نجليهم بأمر الله ورسوله أن لا يترك دينان بأرض العرب ثم نعطيهم أرضاً كأرضهم وفاءً بذمتهم كما أمر الله‏.‏ قالوا‏:‏ فخرج أبو عبيد مع المُثَنَى بن حارثة وسعد وسليط إِلى العراق‏.‏ وقد كانت بوران بنت كسرى كلما اختلفت الناس بالمدائن عدلت بينهم حتى يصطلحوا‏.‏ فلما قتل الفرخزاذ بن البندوان وملكت آزرميدخت اختلف أهل فارس واشتغلوا عن المسلمين غيبة المثنى كلها فبعثت بوران إِلى رستم تستحثه للقدوم وكان على فرج خرسان‏.‏ فأقبل في الناس إلى المدائن وعزل الفرخزاذ وفقأ عين آزرميدخت ونصَّب بوران فملكته وأحضرت مَرازِبَةَ فارس فأسلموا له ورضوا به وتوَّجَتْه وسبق المُثنَّى إِلى الحيرة ولحقه أبو عبيد ومن معه‏.‏ وكتب رستم إِلى دهاقين السواد أن يثوروا بالمسلمين وبعث في كل رِسْتَاقٍ رجلاً لذلك‏.‏ فكان في فرات باذقلا جابان وفي كسكر نرسي‏.‏ وبعث جند المصادمة المثنى فساروا وتألفوا واجتمعوا أسفل الفرات‏.‏ وخرج المثنى من الحيرة خوفاً أن يؤتى من خلفه فقدم عليه أبو عبيد ونزل جابان النمارق ومعه جمع عظيم فلقيه أبو عبيد هنالك وهزم الله أهل فارس‏.‏ وأسر جابان ثم أطلق وساروا في المنهزمين حتى دخلوا كسكر وكان بها نرسي ابن خالة كسرى فجمع الفالة إِلى عسكره وسار إِليهم أبو عبيد من النمارق في تعبيتة وكان على مجنبتي نرسي نفدويه وشيرويه ابنا بسطام خال كسرى واتصلت هزيمة جابان ببوران ورستم فبعثوا الجالينوس مدداً لنرسي وعاجلهم أبو عبيد فالتقوا أسفل من كسكر فاشتد القتال وانهزمت الفرس وهرب نرسي وغنم المسلمون ما في عسكره‏.‏ وبعث أبو عبيد المثنى وعاصِماً فهزموا من كان تجمَّعَ من أهل الرساتيق وخربوا وسبوا وأخذوا الجزية من أهل السواد وهم يتربصون قدوم الجالينوس‏.‏ ولما سمع به أبو عبيد سار إِليه على تعبيته فانهزم الجالينوس وهرب ورجع أبو عبيد فنزل الحيرة‏.‏ وقد كان عمر قال له‏:‏ إِنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والخزي تقدم على قوم تجرأوا على الشر فعلموه وتناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون‏.‏ واحرز لسانك ولا تفش سرك فإن صاحب السر ما ضبط متحصن لا يؤتى من وجه يكرهه وإذا ضيعه كان بمضيعة‏.‏ ولما رجع الجالينوس إلى رستم بعث بهمن حادويه ذا الحاجب إلى الحيرة فأقبل ومعه درفش كابيان راية كسرى عرض ثمانية أذرع في طول اثني عشر من جلود النمر فنزل في قِسِيّ الناطف على الفرات‏.‏ وأقبل أبو عبيد فنزل عدوته وقعد إلى أن نصبوا للفريقين جسراً على الفرات وخيرهم بهمن حادويه في عبوره أو عبورهم فاختار أبو عبيد العبور وأجاز إليهم وماجت الأرض بالمُقَاتِلَةِ ونفر جنود المسلمين وكراديسهم من الفِيَلَة‏.‏ وأمر بالتخفيف عن الخيل فترجل أبو عبيد والناس وصافحوا العدو بالسيوف ودافعتهم الفيلة فقطعوا وُضُنَها فسقطت رحالها وقتل من كان عليهم‏.‏ وقابل أبو عبيد فيلاً منهم فوطئه بيده وقام عليه فأهلكه‏.‏ وقاتلهم الناس ثم انهزموا عن المثنى وسبقه بعض المسلمين إلى الجسر فقطعه وقال‏:‏ موتوا أو تظفروا‏.‏ وتواثب بعضهم الفرات فغرقوا وأقام المثنى وناس معه مثل عروة بن زيد الخيل وأبي مِحْجَن الثَّقَفِي وأنظارهم وقاتل أبو زيد الطائي كان نصرانياً وقدم الحيرة لبعض أمره فحضر مع المثنى وقاتل حينئذ حَمِيًةً ونادى المثنى الذين عبروا من المسلمين فعقدوا الجسر وأجاز بالناس وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس فانفضّ أصحابه إلى المدينة وبقي المثنى في فِلّه جريحاً وبلغ الخبر إلى عمر فشق عليه وعذر المنهزمين‏.‏ وهلك من المسلمين يومئذ أربعة آلاف قتلى وغرقى وهرب ألفان وبقي الثلاثة آلاف وقتل من الفرس ستة آلاف‏.‏ وبينما بهمن حادويه يروم العبور خلف المسلمين أتاه الخبرَ بأن الفرس ثاروا برستم مع الفيرزان فرجع إلى المدائن وكانت الوقعه في مدائن سنة ثلاث عشرة‏.‏ ولما رجع بهمن حادويه اتبعه جابان ومعه مردان شاه‏.‏ وخرج المثنى في أثرهما فلما أشرف عليهما أتياه يظنان أنه هارب فأخذهما أسيرين وخرج أهل الليس على أصحابهما فأتوه بهم أسرى وعقدوا معه مهادنة وقتل جميعَ ولما بلغ عمر رضي الله عنه عن وقعة ابن عبيد بالجسر ندب الناس إِلى المثنى وكان فيمن ندب بَجِيلَةَ وأمرهم إلى جرير بن عبد الله الذي جمعهم من القبائل بعد أن كانوا مفترقين ووعده النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وشغل عن ذلك أبو بكر بأمر الردَة ووفى له عمر به وسيره مدداً للمثنى بالعراق‏.‏ وبعث عصمة بن عبد لله الضبيّ وكتب إلى أهل الردة بأن يوافوا المثنى‏.‏ وبعث المثنى الرسل فيمن يليه من العرب فوافوا في جموع عظيمة حتى نصارى النمر جاءوه وعليهم أنَسُ بن هلال وقالوا نقاتل مع قومنا‏.‏ وبلغ الخبر إلى رستم والفيرزان فبعثا مهران الهمداني إلى الحيرة والمثنى بين القادسية وخفان‏.‏ فلما بلغه الخبر استبقى فرات باذقلا وكتب بالخبر إلى جرير وعصمة أن يقصدوا العُذَيْبَ مما يلي الكوفة فاجتمعوا هنالك ومهران قبالتهم عدوة الفرات وتركوا له العبور فأجاز إليهم‏.‏ وسار إليه المثنى في التبعية وعلى مجنبتيه مهران مرزبان الحيرة ابن الأزاذبة ومردارشاه ووقف المثنى على الرايات يحرض الناس فأعجلتهم فارس وخالطوهم وركدت حربهم واشتدت‏.‏ ثم حمل المثنى على مهران فأزاله عن مركزه وأصيب مسعود أخو المثنى وخالط المثنى القلب ووثب المجنبات على المجنبات قبالتهم فانهزمت الفرس وسبقهم المثنى إلى الجسر فهربوا مصعدين ومنحدرين واستلحمهم خيول المسلمين وقتل فيها مئة ألف أو يزيدون‏.‏ وأُحْصِيَ مئة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة وتبعهم المسلمون إلى الليل‏.‏ وأرسل المثنى في آثار الفرس فبلغوا ساباط فغنموا وسبوا ساباط واستباحوا القرى وسخروا السواد بينهم وبين دجلة لا يلقون مانعاً‏.‏ ورجع المنهزمون إِلى رستم فاستهانوا ورضوا أن يتركوا ما وراء دجلة‏.‏ ثم خرج المثنى من الحيرة واستخرج بشير بن الخَصاصِيَة وسار نحو السواد ونزل الليث من قرى الأنبار فسميت الغزاة غزاة الأنبار الآخرة وغزاة الليس الآخرة‏.‏ وجاءت إلى المُثَنى عيون فدلّوه على سوق الخنافس وسوق بغداد وإن سوق الخنافس أقرب ويجتمع بها تجار المدائن والسواد وخفراؤهم من ربيعة وقضاعة فركب إليها وأغار عليها يوم سوق فاشتف السوق وما فيها وسلب الخفراء ورجع إلى الأنبار فأتوه بالعلوفة والزاد وأخذ منهم أدلاء تظهر له المدائن وسار بهم إِلى بغداد ليلاً وصبح السوق فوضع فيهم السيف وأخذ ما شاء من الذهب والفضة والجيِّد من كل شيء‏.‏ ثم رجع إلى الأنبار وبعث المُضارِبَ العِجْلِيَّ إِلى الكِبَاثِ وبه جماعة من تغلب فهربوا عنه ولحقهم المضارب فقتل في أخرياتهم وأكثر‏.‏ ثم سَرَّحَ فراتَ بن حَيَّان التغْلَبِي وعُتَيْبَةَ بن النَهَّاس للإغارة على أحياء من تغلب بصفين‏.‏ ثم اتبعهم المثنى بنفسه فوجدوا أحياء صفين قد هربوا عنها فعبر المثنى إلى الجزيرة‏.‏ وفني زادهم وأكلوا رواحلهم وأدركوا عيراً من أهل خفان فحضر نفر من تغلب فأخذوا العير ودلهم أحد الخفراء على حيّ من تغلب ساروا إِليه يومهم وهجموا عليهم فقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية واستاقوا الأموال وكان هذا الحيّ بوادي الرويحلة‏.‏ فاشترى أسراهم من كان هنالك من ربيعة بنصيبهم من الفيء وأعتقوهم وكانت ربيعة لا تسبي في الجاهلية‏.‏ ولما سمع المثنى أن جميع من يملك البلاد قد انتجع شاطىء دجلة خرج في اتباعهم فأدركهم بتكريت فغنم ما شاء وعاد إِلى الأنبار ومضى عتيبة وفرات حتى أغارا على النمر وتغلب بصفين وتمكن رعب المسلمين من قلوب أهل فارس وملكوا ما بين الفرات ودجلة‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:00 PM

أخبار القادسية
ولما دهم أهل فارس من المسلمين بالسواد ما دهمهم وهم مختلفون بين رسْتُمَ والفيْرَزانِ واجتمع عظماؤهم وقالوا لهما‏:‏ إِما أن تجتمعا وإِلا فنحن لكما حرب فقد عرضتمونا للهَلَكَةِ وما بعد بغداد وتكريت إلى المدائن فأطاعا لذلك‏.‏ وفزعوا إِلى بوران يسألونها في ولد من آل كسرى يولّونه عليهم فأحضرت لهم النساء والسراري وبسطوا عليهن العذاب فذكروا لهم غلاماً من ولد شهْريَار بن كسرى اسمه يَزْدَجُرْد أخذته أمه عندما قتل شيرويه أبناء أبيه‏.‏ فسألوا أمه عنه فدلتهم عليه عند أخواله كانت أودعته عندهم حينئذ فجاءوا به ابن إحدى وعشرين سنة فملكوه واجتمعوا عليه‏.‏ وتبارى المرازِبَة في طاعته وعيَّنَ المسالح والجنود لكل ثغر ومنها الحيرة والأبَلّةُ والأنبار وخرجوا إِليها من المدائن‏.‏ وكتب المثنى بذلك إِلى عمر وبينما هو ينتظر الجواب انتقض أهل السواد وكفروا وخرج المثنى إلى ذي قار ونزل الناس في عسكر واحد‏.‏ ولما وصل كتابه إلى عمر قال والله لأضْرِبَنَّ ملوك العجم بملوك العرب فلم يدع رئيسأ ولا ذا رأي وشرف وبسطه ولا خطيباً ولا شاعرأ إِلا رماهم به‏.‏ فرماهم بوجوه الناس بل وغررهم وكتب إِلى المُثَنًى يأمره بخروج المسلمين منِ بين العجم والتفرق في المياه بحيالهم وأن يدعو الفرسان وأهل النجدان من رَبيعَةَ ومُضرٍ ويحضرهم طوعاً وكرهاً فنزل المسلمون بالجِلّ وسروا إِلى عَصِيّ وهو جبل البصرة متناظرين‏.‏ وكتب إلى عماله على العرب أن يبعثوا إِليه من كانت له نجدة أو فرس أو سلاح أو رأي وخرج إِلى الحج فحجّ سنة ثلاث عشرة ورجع فجاءتة أفواجهم إِلى المدينة ومن كان أقرب إِلى العراق انضم إِلى المثنى فلما اجتمعت عنده أمراء العرب خرج من المدينة واستخلف عليها عليّأ وعسكر على صرار من ضواحيها وبعث على المقدمة طلحة وجعل على المَجْنَبَتَيْن عبد الرحمن والزُبَيْرَ وانْبَهَمَ أمره على الناس ولم يُطِقْ أحد سؤاله فسأله عثمان فأحضر الناس واستشارهم في المسير إِلى العراق فقال العامة‏:‏ سر نحن‏.‏ معك فوافقهم ثم رجع إلى أصحاب رسول للّه صلى الله عليه وسلم وأحضر عَلِيًّا وطَلْحَةَ والزبير وعبد الرحمن واستشارهم فأشاروا بمقامه وأن يبعث رجلاً بعده آخر من الصحابة بالجنود حتى يفتح الله على المسلمين ويًهْلِكَ عدوهم فقبل ذلك ورأى فيه الصواب‏.‏ وعين لذلك سعد بن أبي وقاص وكان على صدقات هوازن فأحضره وولاه حرب العراق وأوصاه وقال‏:‏ يا سعد ابن أم سعد‏!‏ لا يغرنك من الله أن يقال خال رسول الله وصاحب رسول اللّه فإن الله لا يمحو السيء بالسيّء ولكنه يمحو السيء بالحسن وليس بين الله وبين أحد نسب إِلا بطاعته فالناس في دين الله سواء اللهّ ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة‏.‏ فانظر الأمر الذي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يلزمه فالزمه وعليك بالصبر‏.‏ ثم سرّحه في أربعة آلاف ممَّن اجتمع إِليه فيهم حَمِيضَةُ بن النعْمانِ بن حَمِيضَةَ على بارق وعمرو بن مَعْد يكرب وأبو سبره بن أبي رَهْمٍ على مَذْحج ويزيد بن الحرث الصدائي على عذْرَةَ وخبب ومَسْلِيَة وبشير بن عبد الله الهِلاَليِّ على قيس عيلان والحُصَيْن بن نُمْير ومعاوية بن خَدِيج على السكون وكِندَة‏.‏ ثم أمره بعد خروجه بألفي يماني وألفي فخري‏.‏ وسار سعد وبلغه في طريقه بِزَروَرْد أن المُثَنَى مات من جراحة انتقضت وإنه استخلف على الناس بشير بن الخَصاصِيَةِ‏.‏ وكانت جموع المثنى ثلاثة آلاف وكذلك أربعة آلاف من تميم والرباب وأقاموا‏.‏ وعمر ضرب على بني أسد أن ينزلوا على حد أرضهم فنزلوا في ثلاثة آلاف وأقاموا بين سعد والمثنى وسار سعد إِلى سيراف فنزلها‏.‏ واجتمعت إليه العساكر ولحقه الأشعث بن قيس ومعه ثلاثون ألفأ ولم يكن أحد أجرأ على الفرس من ربيعة‏.‏ ثم عبأ سعد كتائب من سيراف وأمرّ الأمراء وعرف على كل عشرة عريفاً وجعل الرايات لأهل السابقة ورتب المقَدّمة والساقة والمجنباتِ والطلائع وكل ذلك بأمر عمر ورأيه‏.‏ وبعث في المقدمَة زُهْرَةَ بن عبد الله بن قَتادَةَ الحَيَوي من بني تميم فانتهى إِلى العُذيْبِ وعلى الميمنة عبد الله بن المعتمر وعلى الميسرة شَرْحَبِيلُ بن السِّمْطِ وخليفة بن خالد بن عَرْفَطَةَ حليفُ بني عبد شمس وعاصم بن عمر التميمي على الساقة وسواد بن مالك التميمي على الطلائع وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة‏.‏ ثم سار على التعبية ولقيه المعنَى بن حارثة الشيباني بسيراف‏.‏ وقد كان بعد موت أخيه المثنى سار بذي قار إلى قابوس بن قابوس بن المنذر بالقادسية‏.‏ وقد وجاء إلى سعد بالخبر ليعلمه بوصية المثنى إليه أن لا تدخلوا بلاد فارس وقاتلوهم على حدود أرضهم بادىء حجر من أرض العرب‏.‏ فأن يظهر الله المسلمين فلهم ما وراءهم وإِلا رجعتم إِلى فئة ثم تكونوا أعلم بسبيهم وأجرأ على أرضهم إِلى أن يردّ الله الكرب‏.‏ فترحم سعد ومن معه على المثنى وولى أخاه المعنى على عمله وتزوج سلمى زوجته ووصله كتاب عمر بمثل رأي المثنى يسأله عن سيراف ونزل العرب ثم أتى القادسية فنزلها بحيال القنطرة بين العتيق والخندق‏.‏ ووصله كتاب عمر يؤكد عليهم في الوفاء بالأنبار ولو كان إشارة أو ملاعبة‏.‏ وكان زهرة في المقدمة فبعث سرية للإغارة على الحيرة عليها بكر بن عبد اللّه الليثي وإذا أخت مرزبان الحيرة تزفّ إلى زوجها فحمل بكير على ابن الأزادية فقتله وحملوا الأثقال والعروس في ثلاثين امرأة ومئة من التوابع ومعهم ما لا يعرف قيمته‏.‏ ورجعوا بالغنائم فصبح سعد بالعذيب فقسمه في المسلمين‏.‏ ولما رجع سعد إلى القادسية أقام بها شهراً يشن الغارات بين كسكر والأنبار ولم يأته خبر عن الفرس وقد بلغت أخبارهم إلى يزدجرد‏.‏ وإن ما بين الحيرة والفرات نُهبَ وخرب فاحضر رستم ودفعه لهذا الوجه فتقاعد عنه وقال‏:‏ ليس هذا من الرأي وبعث الجيوش يعقب بعضها بعضأ أولى من مصادمة مرة فأبى يزدجرد إلا مسيرة لذلك‏.‏ فعسكر رستم بساباط وكتب سعد بذلك إلى عمر فكتب إليه لا يكترثنك ما يأتيك عنهم واستعن بالله وتوكل عليه وابعث رجالاً من أهل الرأي والجلد يدعونه فإن الله جاعل ذلك وهناً لهم‏.‏ فأرسل سعد نفراً منهم النعمان بن مقرن وبشر بن أبي أدهم وجملة من حيوة وحنظلة بن الربيع وعدي بن سهيل وعطارد بن حاجب والحرث بن حسان والمغيرة بن زرارة والأشعث بن قيس وفرات بن حبان وعاصم بن عمرو وعمرو بن معد يكرب والمغيرة بن شعبة والمعنى بن حارثة فقدموا على يزدجرد وتركوا رستم واجتمعوا بل واجتمع الناس ينظرون إليهم وإلى خيولهم وبرودهم‏.‏ فأحضرهم يزدجرد وقال لترجمانة‏:‏ سلهم ما جاءكم وما أولعكم بغزونا وبلادنا من أجل إنا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا‏!‏ فتكلم النعمانُ بن مُقَرن بعد أن استأذن أصحابه وقال ما معناه‏:‏ إن الله رحمنا وأرسل إلينا رسولاً صفته كذا يدعونا إلى كذا ووعدنا بكذا فأجابه منا قوم وتباعد قوم‏.‏ ثم أمر أن نجاهد من خالفه من العرب فدخلوا معه على وجهين‏:‏ مكره اغتبط وطائع ازداد حتى اجتمعنا عليه وعرفنا فضل ما جاء به‏.‏ ثم أمرنا بجهاد من يلينا من الأمم ودعائهم إلى الإنصاف فإن أبيتم فالمناجزة‏.‏ فقال يزدجرد لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم وقد كان أهل الضواحي يكفوننا أمركم ولا تطمعوا أن تقوموا للفرس فإن كان بكم جهد أعطيناكم قوتاً وكسوناكم وملَكنا عليكم ملكاً يرفق بكم‏.‏ فقال المغيرة بن زرارة‏:‏ هؤلاء أشراف العرب ويستحيون من الأشراف وأنا أكلمك وهم يشهدون‏.‏ فأما ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت وأشَدّ ثم ذكر من عيش العرب ورحمة الله بهم بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم مثلما قال النعمان الخ‏.‏ ثم قال له‏:‏ إختر إما الجزية عن يد وأنت صاغر أو السيف وإِلا فنجّ نفسك بالإسلام‏.‏ فقال يزدجرد‏:‏ لو قَتَلَ أحَدٌ الرسُل قبلي لقتلتكم ثم استدعى بوقر من تراب وحمل على أعظمهم وقال‏:‏ ارجعوا إلى صاحبكم واعلموه أني مرسل رستم حتى يدفنكم أجمعين في خندق القادسيَّة ثم يُدَوِّخُ بلادكم أعظم من تدويخ سابور‏.‏ فقام عاصم بن عمرو فحمل التراب على عنقه وقال‏:‏ إنا أشرف هؤلاء‏:‏ ولما رجع إلى سعد فقال‏:‏ أبشر فقد أعطانا اللهّ تراب أرضهم‏.‏ وعجب رستم من محاورتهم وأخبر يزدجرد بما قال عاصم بن عمر فبعث في أثرهم إلى الحيرة فأعجزوهم‏.‏ ثم أغار سواد بن مالك التميمي بعد مسير الوفد إلى يزدجرد على الفِراض فاستاق ثلاثمائة دابة بين بغل وحمار وثور وآخرها سمكة‏.‏ وصبح بها العسكر فقسمه سعد في الناس وواصلوا السرايا والبعوث لطلب اللحم وأما الطعام فكان عندهم كثيراً‏.‏ وسار رستم إلى ساباط في ستين ألفاً وعلى مقدمته الجالينوس في أربعين ألفاً وساقَتْهُ عشرون ألفأ وفي المَيْمَنَةِ الهُرْمُزانُ وفي المسيرة مَهرانُ بن بَهْرَامَ الرازي‏.‏ وحمل معه ثلاثة وثلاثين فيَلاَ ثمانية عشر في القلب وخمسة عشر في الجَنْبَيْن‏.‏ ثم سار حتى نزل كوثى فأتى برجل من العرب فقال له رستم‏:‏ ما جاء بكم وما تطلبون‏.‏ فقال نطلب وعد اللّه بأرضكم وبلادكم وأبنائكم إن لم تسلموا‏.‏ قال رستم‏:‏ فإن قُتلتم دون ذلك‏.‏ قال‏:‏ من قًتِلَ دخل الجَنًةَ ومن بقي انجزه اللهّ وعده‏.‏ قال رستم‏:‏ فنحن إذا وضعنا في أيديكم‏.‏ فقال أعمالكم وضعتكم وأسلمكم اللّه بها فلا يغرنك من ترى حولك فلست تحاول الناس إنما تحاول القضاء والقَدَرَ‏.‏ فغضب وأمر به فضربت عنقه وسار فنزل الفرس وفشا في عسكره المنكر وغصبوا الرعايا أموالهم وأبناءهم حتى نادى رستم منهم بالويل‏.‏ فقال‏:‏ صدق والله العربي وأتى ببعضهم فضرب عنقه ثم سار حتى نزل الحيرة ودعا أهلها فعزرهم وهمّ بهم فقال له ابن بُقَيْلَةَ‏:‏ لا تجمع علينا إن تعجز عن نُصْرَتِنَا وتلومنا على الدفع عن أنفسنا‏.‏ وأرسلِ سعد السرايا إلى السواد وسمع بهم رستم فبعث لاعتراضهم الفرس وبلِغ ذلك سعداً فأمدهم بعاصم بن عمر فجاءهم وخيل فارس تحتوشهم‏.‏ فلما رأوا عاصماً هربوا‏.‏ وجاءَ عاصم بالغنائم ثم أرسل سعد عمرو بن معد يكرب وطُلَيْحَةَ الأسديّ طليعة فلما ساروا فرسخاً وبعضه لقوا المسالح فرجع عمرو ومضى طليحة حتى دخل عسكر رستم وبات فيه وهتك أطناب خيمة أو خيمتين واقتاد بعض الخيل وخرج يعدو به فرسه‏.‏ ونذر به الفرس فركبوا في طلبه إلى أن أصبح وهم في أثره فكرّ على فارس فقتله ثم آخر ثم آخر وأسر الرابع وشارف عسكر المسلمين فرجعوا عنه‏.‏ ودخل طليحة على سعد الفارسي ولم يخلف بعده فيهم مثلهم بل مثله فأسلم ولزم طليحة‏.‏ ثم سار رستم فنزل القادسية بعد ستة أشهر من المدائن وكان يطاول خوفأ وتقيةً والملك يستحثه‏.‏ وكان رأى في منامه كأن ملكاً نزل من السماء ومعه النبي صلى الله عليه وسلم وعمر‏.‏ وأخذ الملك سلاح أهل فارس فختمه ثم دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودفعه النبي إلى عمر فحزن لذلك أهل فارس في سيره‏.‏ ولما وصل القادسية وقف على العُتَيْقِ حيال عسكر المسلمين والناس يتلاحقون حتى اغْتمُوا من كثرتهم وركب رستم غداة تلك الليلة وصعد مع النهر وصوّت حتى وقف على القنطرة‏.‏ وأرسل إلى زهرة فوافقه وعرض له بالصلح‏.‏ وقال‏:‏ كنتم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونحفظكم ويقرر صنيعهم مع العرب ويقول زهرة ليس أمرنا من أولئك وإنما طلبنا وهمنا الآخرة‏.‏ وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولاً دعانا إلى دين الحق فأجبناه‏.‏ وقال‏:‏ قد سلطتكم على من لم يَدِنْ‏.‏ به وأنا منتقم بكم منهم وأجعل لكم الغلبة‏!‏ فقال رستم‏:‏ وما هو دين الحق فقال الشهادتان وإِخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة الله وإنهم إخوان في ذلك‏.‏ فقال رستم‏:‏ فإن أجبنا إلى هذا ترجعون فقال أي والله فانصرف عنه رستم‏.‏ ودعا رجال فارس‏.‏ وذكر ذلك لهم فأنفوا‏.‏ وأرسل إلى سعد أن ابعث لنا رجلاً نكلمه ويكلمنا‏.‏ فبعث إليه ربعي بن عامر وحبسوه على القنطرة حتى أعلموا رستم فجلس على سرير من ذهب وبُسط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدود بعصب وقدم حتى انتهى إلى البساط ووطئه بفرسه ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما وْجعل الحبل فيهما فلم يحفلوا بذلك وأظهروا التهاون‏.‏ ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها‏.‏ وأشاروا إليه بوضع سلاحه فقال‏:‏ لو أتيتكم فعلت كذا بأمركم وإنما دعوتموني‏.‏ ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه حتى أفسد ما مر عليه من البسط‏.‏ ثم دنا من رستم وجلس على الأرض وركز رمحه على البساط وقال‏:‏ إِنا لا نقعد على زينتكم قال له الترجمان‏:‏ ما جاء بكم فقال اللّه بعثنا لنخرج عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وأرسلنا بدينه إلى خلقه فمن قبله قبلنا منه وتركناه وأرضه ومن أبى قاتلناه حتى نفِيء إلى الجنة والظفر‏.‏ فقال رستم‏:‏ هل لكم أن تؤخرو هذا الأمر حتى ننظر فيه قال نعم‏!‏ كم أحب إليك يومأ أو يومين‏!‏ قال لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا‏.‏ فقال أن مما سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث فانظر في أمرك وأمرهم واختر إِما الإسلام وندعك وأرضك وإما الجزية فنقبل ونكف عنك وإن احتجت إلينا نصرناك والمنابذة في الرابع إلا أن تبذلوا كفيلاً بهذا عن أصحابي‏.‏ قال‏:‏ أسيدهم أنت قال لا‏!‏ ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجيز بعضهم عن بعض يجيز أدناهم على أعلاهم فخلا رستم بروساءِ قومه وقال‏:‏ رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا الرجل فأروه الإستخفاف بشأنه وثيابه‏.‏ فقال وبحكم إنما انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة والعرب تستخف اللباس وتصون الأحساب‏.‏ ثم أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا ذلك الرجل فبعث إليهم حذيفة بن مُحْصِنْ ففعل كما فعل الأول ولم ينزل عن فرسه وتكلم وأجاب مثل الأول‏.‏ فقال له ما قَعَدَ بالأول عنا فقال أميرنا يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي‏.‏ فقال رستم‏:‏ والمواعدة إلى متى فقال إلى ثلاث من أمس وأنصرف وخلا رستم بأصحابه يُعْجِبُهُم من شأن القوم وبعث من الغد عن آخر فجاءه المُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ‏.‏ فلما وصل إليهم وهم على زيّهم وبسطهم على غَلْوَة من مجلس رستم فجاء المغيرة حتى جلس معه على سريره فأنزلوه فقال‏:‏ لا أرى قوماً أسفه منكم إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضاً فظننتكم كذلك‏.‏ وكان أحسن بكم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض مع إني لم آتكم وإنما دعوتموني‏.‏ فقد علمت أنكم مغلوبون ولم يقم مَلِكٌ على هذه السيرة‏.‏ فقالت السَفَلَةَ‏:‏ صدق والله العَرَبيُ‏.‏ وقالت الأساطين والله لقد رمانا بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه قاتل اللهّ من يُصَغِّر أمر هذه الأمة‏.‏ ثم تكلم رستم فعظم من أمر فارس بل من شأن فارس وسلطانهم وصغر أمر العرب وقال‏:‏ كانت عيشتكم سيئة وكنتم تقصدوننا في الجدب فنردكم بشيء من التمر والشعير ولم يحملكم على ما صنعتم إلا ما بكم من الجهد ونحن نعطي أميركم كسوة وبغلاً وألف درهم وكل رجل منكم حمل تمر وتنصرفون فلست اشتهي قتلكم‏.‏ فتكلم المغيرة وخطب فقال‏:‏ أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف فنعرفه ولا ننكره والدنيا دُوَلٌ والشدَة بعدها الرخاء ولو شكرتم ما آتاكم اللّه لكان شكركم قليلأ على مما أوتيتم وقد أسلمكم الله بضعف الشكر إلى تغيِّر الحال وأن الله بعث فينا رسولاً ثم ذكر مثلما تقدم إلى التخيير بين الإسلام أو الجزية أو القتال ثم قال‏:‏ وإن عيالنا ذاقوا طعام بلادكم فقالوا لا صبر لنا عنه‏.‏ فقال رستم‏:‏ إذاً تموتون دونها‏.‏ فقال المغيرة‏:‏ يدخل من قتل منا الجنة ويظفر من بقي منا بكم فاستشاط غضباً وحلف أن لا يقع الصلح أبداً حتى أقتلكم أجمعين‏.‏ وانصرف المغيرة وخلا رستم بأهل فارس وعرض عليهم مصالحة القوم وَحَذرهمْ عاقبة حربهم فلجوا وبعث إليه سعد يعرض عليه الإسلام ويرغب فأجابه بمثل ما كان يقول لأولئك من الإمتنان على العرب والتعريض بالمطامع فلم يتفق شيء من رأيهم‏.‏ فقال رستم‏:‏ تعبرون إلينا أم نعبر إِليكم‏.‏ فقالوا‏:‏ بل اعبروا وأرسل إليهم سعد بذلك وأرادوا القنطرة فقال سعد‏:‏ لا ولا كرامة لا نردّ عليكم شيئأ غلبناكم عليه فأبى فباتوا يسَكِّرون العتيق بالتراب والقصب والبرادع حتى جعلوا جسراً‏.‏ ثم عبر رستم ونُصِبَ له سريره وجلس عليه وضرب طيًارة عليه وعبر عسكره وجعل الفِيَلَةَ في القلب والمَجْنَبَتَيْن عليها الصناديق والرجال والرايات أمثال الحصون‏.‏ وجعل الجالينوس بينه وبين الميمنة والفَيْرَزانِ بينه وبين الميسرة‏.‏ ورَتَبَ يزدجرد الرجال بين المدائن والقادسية وما بينه وبين رستم رجَلاً على كل دعوه تنتقل إليه ينبئهم أخبار رستم في أسرع وقت‏.‏ ثم أخذ المسلمون مصافَهم واختلط سعد قَصْرَهُ وكان به عِرْقُ النِساء وأصابته معه دماميل لا يستطيع معها الجلوس فصعد على سطح القصر راكباً على وسادة في صدره وأشرف على الناس‏.‏ وعاب ذلك عليه بعض الناس فنزل واعتذر إليهم وأراهم القروح في جسده فعذروه‏.‏ واستخلف خالد بن عَرْفَطَةَ على الناس وحبس من شغب عليه في القصر وقيدهم وكان فيهم أبو مِحجِن الثقَفِيُّ وقيل إِنما حبسه بسبب الخمر‏.‏ ثم خطب الناس وحثهم على الجهاد وذكرهم بوعد الله وذلك في المحرم سنة أربع عشرة وأخبرهم أنا أستخلف خالد بن عَرْفَطَةَ‏.‏ وأرسل جماعة من أهل الرأي لتحريض الناس على القتال مثل المُغِيرَة وحًذَيْفَة وعاصم وطُلَيْحَة وقَيس وغالب وعمرو‏.‏ ومن الشعراء الشماخَ والحُطَيئةَ والعًبْدِيِّ بل وعبدة بن الطيب وغيرهم ففعلوا‏.‏ ثم أمر بقراءة سورة الجهاد وهي الأنفال فهشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها فلما فرغت القراءة قال سعد‏:‏ الزموا مواقفكم‏.‏ فإذا صليتم الظهر فإني مكبر تكبيرة فكبّروا واستعدّوا فإذا سمعتم الثانية فكبروا وأتموا عدتكم فإذا سمعتم الثالثة فكبّروا ونشِّطوا الناس فإذا سمعتم الرابعة فازحفوا حتى تخالطوا عدوّكم وقولوا‏:‏ لا حول ولا قوّة إِلا باللّه‏.‏ فلما كبّر الثالثة برز أهل النجدان فانشبوا القتال وخرج أمثالهم من الفرس فاعتوروا الطعن والضرب وارتجزوا الشعْر وأول من أسر في ذلك اليوم هُرْمُز من ملوك اللباب وكان متوّجاً أسره غالب بن عبد اللهّ الأزديّ فدفعه إلى سعد ورجع إلى الحرب وطلب البراز أسوارُ منهم فبرز إليه عمرو بن معد يكرب فأخذه وجلد به الأرض فذبحه وسلب سِوارَيْةِ ومنطقته‏.‏ ثم حملوا الفِيَلَة على المسلمين وأمالوها على بَجِيلَةَ فثقلت عليهم فأرسل سعد إلى بني أسد أن يدافعوا عنهم فجاءه طلَيْحَةُ بن خُويلد وحمل ابن مالك فردّوا الفيلة وخرج إلى طليحة عظيم منهم فقتله طليحة‏.‏ وعيّر الأشعث بن قيس كندة بما يفعله بنو أسد فاستشاطوا ونهدوا معه فأزالوا الذين بازائهم‏.‏ وحين رأى الفرس ما لقي الناس والفيلة من بني أسد حملوا عليهم جميعاً وفيهم ذو الحاجب والجالينوس وكبّر سعد الرابعة فزحف المسلمون وثبت بنو أسد‏.‏ ودارت رحى الحرب عليهم وحملت الفيول على الميمنة والميسرة ونفرت خيول المسلمين منها فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو هل من حيلة لهذه الفيلة‏.‏ فبعث الرماة يرشقونها بالنبل واشتد برَدِّها آخرون يقطعون الوُضنَ‏.‏ وخرج عاصم بجميعهم ورحى الحرب على أسد واشتدّ عواء الفيلة ووقعت الصناديق فهلك أصحابها ونفس عن أسد واشتد عواء الفيلة ووقعت الصناديق فهلك أصحابها ونفس عن أسد أن أصيب منهم خمسمئة وردوا فارس إلى مواقفهم‏.‏ ثم اقتتلوا إلى هدء من الليل وكان هذا اليوم الأول وهو يوم الرماة‏.‏ ولما أصبح سعد دفن القتلى وأسلم الجرحى إلى نساء يقمن عليهم وإذا بنواحي الخيل طالعة من الشام كان عمر بعد فتح دمشق عزل خالد بن الوليد عن جند العراق وأمر أبا عبيدة أن يؤمر عليهم هاشم بن عُتْبَةَ يردهم إلى العراق‏.‏ فخرج بهم هاشم وعلى مقدمَتِهِ القعقاعُ بن عمرو فقدم القعقاع على الناس صبيحة ذلك اليوم وهو يوم أغواث‏.‏ وقد عهد إلى أصحابه أن يقطعوا أعشاراً بين كل عشرين مدّ البصر وكانوا ألفاً‏.‏ فسلَّم على الناس وبشرهم بالجنود وحرضهم على القتال‏.‏ وطلب البراز فخرج إليه ذو الحاجب فعرفه القعقاع ونادى بالثأر لأصحاب الجسر وتضاربا فقتله القعقاع وسر الناس بقتله ووهنت الأعاجم لذلك‏.‏ ثم طلب البراز فخرج أليه الفيرزان والبندوان‏.‏ وأكثر المسلمون القتل في الفرس وأخذوا الفيلة عن القتال لأن نوابتها تكسرت بالأمس فاستأنفوا عملها‏.‏ وجَفل القعقاع إبلاً وجعل عليها البراقع وأركبها عشرة عشرة وأطاف عليها الخيول تحميها وحملها على خيل الفرس فنفرت منها وركبتهم خيول المسلمين‏.‏ ولقي الفرس من الإبل أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة‏.‏ وبرز القعقاع يومئذ في ثلاثين فارساً في ثلاثين حملة فقتلهم كان آخرهم بزْرَجَمْهَر الهمداني‏.‏ وبارز الأعور بن قطنة شَهْرَيَارَ سِجِسْتانَ فقتل كل واحد منهما صاحبه‏.‏ ولما انتصف النهار تزاحف الناس فاقتتلوا إلى انتصاف الليل وقتلوا عامة أعلام فارس‏.‏ ثم أصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم بين الصفين من المسلمين ألف جريح وقتيل ومن المشركين عشرة آلاف‏.‏ فدفن المسلمون موتاهم وأسلموا الجرحى إلى النساء ووكلوا النساء والصبيان بحفر القبور وبقي قتلى المشركين بين الصفين‏.‏ وبات القعقاع يسرب أصحابه إلى حيث فارقهم بالأمس وأوصاهم إذا طلعت الشمس أن يقبلوا مئة مئة يجدّد بذلك الناس وجاء بينهما يلحق هاشم بن عتبة‏.‏ فلما ذرّ قرن الشمس أقبل أصحاب القعقاع فتقدموا والمسلمون يكبّرون‏.‏ فتزاحفت الكتائب طعناً وهرباً‏.‏ وما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى لحق هاشم فعبى أصحابه سبعين سبعين وكان فيهم قيس بن المكشوح فلما خالط القلب كبر وكبر المسلمون ثم كبَّر فخرق الصفوف إِلى العتيق‏.‏ ثم عاد وقد أصبح الفرس على مواقفهم وأعادوا الصناديق على الفيلة وأحدقوا الرجال بما يحمونها أن تقطع وضنها وأقام الفرسان يحمون الرجالة فلم تنفر خيل المسلمين منها‏.‏ وكان هذا اليوم يوم عماس وكان شديداً إِلا أن الطائفتين فيه سواء‏.‏ وأبلى فيه قيس بن المكشوح وعمرو بن معد يكرب‏.‏ ثم زحفت الفِيَلَة وفُرِقت بين الكتائب وأرسل سعد إِلى القعقاع وعاصم أن أكفياني الأبيض وكان بازائهما‏.‏ وإلى محمل والدّميل أن أكفياني الأجرب وكان بازائهما‏.‏ فحملوا على الفيلين فقتل الأبيض ومن كان عليه وقطع مشفر الأجرب وفقئت عينه وضرب سائسة الدميل بالطير زين فأفلت جريحاً‏.‏ وتحًير الأجرب بين الصفين وألقى نفسه في العتيق واتبعته الفيلة وفرقت صفوف الأعاجم في أثره وقصدت المدائن بوثوبها وهلك جميع من وخلص المسلمون والفرس فاختلفوا على سواء إلى المساء واقتتلوا بقية ليلتهم وتسمى ليلة الهرير‏.‏ فأرسل سعد طليحة وعمر إلى مخاضة أسفل العسكر يقومون عليها خشية أن يؤتى المسلمون منها فتشاوروا أن يأتوا الأعاجم من خلفهم فجاء طليحة وراء العسكر وكبّر‏.‏ فارتاع أهل فارس فأغار عمر أسفل المخاضة ورجع وزاحفهم الناس دون إذن سعد‏.‏ وأول من زاحفهم من الناس دون إذن سعد زاحفهم القعقاع وقومه فحمل عليهم ثم حمل بنو أسد النخع من بجيلة ثم كندة وسعد يقول في كل واحدة اللهم اغفر لهم وانصرهم‏.‏ وقد كان قال لهم إذا كبرت ثلاثاً فاحملوا فلما كبّر الثالثة لحق الناس بعضهم بعضاً بعد صلاة العشاء واختلطوا وصليل الحديد كصوت القرن إلى الصباح‏.‏ وركدت الحرب وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم‏.‏ وأقبل سعد على الدعاء وسمع نصف الليل صوت القعقاع في جماعة من الرؤساء إلى رستم حتى خالطوا صفه مع الصبح فحمل الناس من كل جهة على من يليهم واقتتلوا إلى قائم الظهيرة‏.‏ فناجز الفَيْرَزَان والهُرْمُزان بعض الشيء وانفرج القلب وهبًّت ريح عاصف فقلبت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق‏.‏ وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير وقد قام رستم عنه فاستظل في ظل بغل فحمله وضرب هلال بن عَلْقَمَةَ الحمل فوقع أحد العِدْلَيْن على رستم فكسر ظهره وضربه هلال ضربةً نفحت مسكاً وهرب نحو العتيق ورمى بنفسه فيه‏.‏ فاقتحم هلال عليه وَجرَّهُ برجله فقتله وصعد السرير وقال‏:‏ قتلت رستم ورب الكعبة‏.‏ إليَّ‏!‏ إِليَّ‏!‏ فأطافوا به وكبروا‏.‏ وقيل‏:‏ إِن هلالاً لما قصد رستم رماه بسهم فأثبت قدمه بالركاب ثم حمل عليه فقتله واحتز رأسه ونادى في الناس قتلت رستم‏!‏ فانهزم قلب المشركين‏.‏ وقام الجالينوس على الردم ونادى الفرس إِلى العبور وتهافت المقترنون بالسلاسل في العتيق وكانوا ثلاثين ألفا هلكوا‏.‏ وأخذ ضِرارُ بن الخطاب رايةَ الفرس العظيمة وهي درفش كابيان فعوض منها ثلاثين ألفاً وكانت قيمتها ألف ألف ومئة ألف‏.‏ وقتل ذلك اليوم من الأعاجم عشرة آلاف في المعركة وقتل من المشركين في ذلك اليوم ستة آلاف دفنوا في الخندق حيال مسرق سوى ألفين وخمسمائة قتلوا ليلة الهرير وجمع من الأسلاب والأموال ما لم يجمع قبله ولا بعده مثله‏.‏ ونفل سعد هلال بن علقمة سلب رستم وأمر القعقاع وشرحبيل باتباع العدوّ وقد كان خرج زهرة بن حيوة قبلها في أثره فلحق الجالينوس بجمع المنهزمين فقتله وأخذ سلبه‏.‏ فتوقف سعد من عطائه وكتب إلى عمر فكتب إليه‏:‏ تعمد إلى مثل زهرة وقد صلَّى بمثل ما صلى به وقد بقي عليك من حربك ما بقي نفسد قلبه‏.‏ امض له سلبه وفضله على أصحابه في العطاء بخمس مئة‏.‏ ولحق سليمان بن ربيعة الباهلي وأخوه عبد الرحمن بطائفة من الفرس قد أستماتوا وكان ممن هرب من أمراء الفرس الهرمزان والفرزاد بن بيهس وقارن‏.‏ وممن استمات فقتل شهريار بن كَبارَ‏.‏ وأُسِرَ المَدْمَروُن والفرَّدان الأهوازيَ وخَشَرْشُوم الهمداني‏.‏ وكتب سعد إلى عمر بالفتح وبمن أصيب من المسلمين‏.‏ وكان عمر يسأل الركبان حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى أهله‏.‏ فلما لقي البشير قال من أين فأخبره فقال حدثني فقال‏:‏ هزم اللّه المشركين‏.‏ ففرح بذلك وأقام المسلمون بالقادسية ينتظرون كتاب عمر إلى أن وصلهم بالإقامة وكانت وقعة القادسية سنة أربع عشرة وقيل خمس عشرة وقيل ست عشرة‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:01 PM

فتح المدائن وجلولاء بعدها
ولما انهزم أهل فارس بالقادسية انتهوا إلى بابل وهديل وفيهم بقايا الرؤساء النَّخِيزَجَاَنُ ومَهرانَ الأهوازي والهرموان وأشباههم واستعملوا عليهم الفيرزان‏.‏ وأقام سعد بعد الفتح شهرين وسار بأمر عمر إلى المدائن وخلَّف العيال بالعتيق في جند كثيف حامية لهم وقدم بين يديه زهرة بن حياة وشرحبيل بن الصمت وعبد اللّه بن المُعْتَمِر ولقيهم بعض عساكر الفرس فهزموهم حتى لحقوا ببابل‏.‏ ثم جاء سعد وسار في التبيعة ونزلوا على الفيرزان ومن معه ببابل فخرجوا وقاتلوا المسلمين فانهزموا وافترقوا فرقتين‏.‏ ولحق الهرمزان بالأهواز والفيرزان بنهاوند وبها كنوز كسرى‏.‏ وسار النخيزَجان ومهران إِلى المدائن فتحصنوا وقطعوا الجسر‏.‏ ثم سار سعد من بابل على التعبية وزهرة في المقدمة‏.‏ وقدم بين يديه بكير بن عبد الله الليثيّ وكُثَير بن شهاب السبيعي حتى عبرا ولحقا بأخريات القوم فقتلا في طريقهما أسوارين من أساورتهم ثم تقدموا إِلى كوثي وعليها شهريار فخرج لقتالهم فقتل وانهزم أصحابه فافترقوا في البلاد وجاء سعد فنفل قاتله سلبه‏.‏ وتقدم زهرة إلى ساباط فصالحه أهلها على الجزية وهزم كتيبة كسرى ثم نزلوا جميعاً على بهرشير من المدائن ولما عاينوا الإيوان كبّروا وقالوا‏:‏ هذا أبيض كسرى هذا ما وعد الله‏.‏ وكان نزولهم عليها ذا الحجة سنة خمس عشرة‏.‏ فحاصروها ثلاثة أشهر ثم اقتحموها وكانت خيولهم تغير على النواحي وعهد إليهم عمر أن من أجاب من الفلاحين ولم يعن عليهم فذلك أمانه ومن هرب فأدْرِك فشأنكم به ودخل الدهاقين من غربي دجلة وأهل السواد كلهم في أمان المسلمين واغتبطوا بملكهم واشتد الحصار على بهرشير ونصبوا عليها المجانيق واستلحموهم في المواطن وخرج بعض المرازبة يطلب البراز فقاتله زهرة بن حيوة فقتلا معاً‏.‏ ويقال‏:‏ إِنّ زهرة قتله شبيب الخارجي أيام الحجاج‏.‏ ولما ضاق بهم الحصار وركب إليهم الناس بعض الأيام فلم يروا على الأسوار أحداً إلا رجلأ يشير إليهم فقال‏:‏ ما بقي بالمدينة أحد وقد صاروا إِلى المدينة القصوى التي فيها الإيوان‏.‏ فدخل سعد والمسلمون وأرادوا العبور إِليهم فوجدوهم جمعوا المعابر عندهم فأقام أياماً من صبر ودلّه بعض العلوج على مخاضة في دجلة فتردد فقال له‏:‏ أقدم فلا تأتي عليك ثلاثة إِلا ويزدجرد قد ذهب بكل شيء فيها‏.‏ فعزم سعد على العبور وخطب الناس وندبهم إلى العبور ورغّبهم وندب من يجيز أن لا يجيء الفِراضَ حتى يجيز إليه الناس‏.‏ فانتدب عاصم بن عمرو في ستمائة واقتحموا دجلة فلقيهم أمثالهم من الفرس عند الفراض وشدوا عليهم فانهزموا وقتل أكثرهم وعوّروا من الطعن في العيون‏.‏ وعاينهم المسلمون على الفراض فاقتحموا في أثرهم يصيحون‏:‏ نستعين باللّه ونتوكل عليه حسبنا اللّه ونعم الوكيل ولا حول ولا قوَة إِلا بالله العلي العظيم‏.‏ وساروا في دجلة وقد طبقوا ما بين عَدْوَتَيْها وخيلهم سابحة بهم وهم يهيمنون تارة ويتحادثون أخرى حتى أجازوا البحر ولم يفقدوا شيئاً إِلا قدحاً لبعضهم غلبت صاحبه جرية الماء وألقته الريح إلى الشاطىء‏.‏ ورأى الفرس عساكر المسلمين قد أجازوا البحر فخرجوا هاربين إلى حُلوان‏.‏ وكان يزدجرد قدَّم إليها قبل ذلك عياله ورفعوا ما قدروا عليه من عرض المتاع وخفيفه ومن بيت المال والنساء والذراري وتركوا بالمدائن من الثياب والأمتعة والآنية والألطاف ما لا تحصى قيمته‏.‏ وكان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف ألف ألف مكرّرة ثلاث مرات تكون جملتها ثلاثمائة ألف قنطار من الدنانير‏.‏ وكان رستم عند مسيره إلى القادسية حمل نصفها لنفقات العساكر وأبقى النصف واقتحمت العساكر المدينة يجولون في سككها لا يلقون بها أحداً‏.‏ وأرز سائر الناس القصر الأبيض حتى توثقوا لأنفسهم على الجزية‏.‏ ونزل سعد القصر الأبيض واتخذ الإيوان به مصلَى ولم يغيّر ما فيه من التماثيل‏.‏ ولما دخله قرأ‏:‏ ‏"‏ كَمْ تَرَكوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُون ‏"‏ الآية‏.‏ وصلَى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصلن بينهنّ وأتم الصلاة بنية الإقامة‏.‏ وسرح زهرة بن حيوة في آثار الأعاجم إِلى النهروان وقراها من كل جهة‏.‏ وجعل على الأخماس عمرو بن عمرو بن مُقَرًن وعلى القسم سلمان بن ربيعة الباهلي وجمع ما كان في القصر والإيوان والدور وما نهبه أهل المدائن عند الهزيمة‏.‏ ووجدوا حلية كسرى‏:‏ ثيابه وخرزاته وتاجه ودرعه التي كان يجلس فيها للمباهاة أخذ ذلك من أيدي الهاربين على بغلين وأخذ منهم أيضأ وقر بغل من السيوف وآخر من الدروع والمغافر منسوبة كلها درع هرقل وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وبهرام جور وسياوخش والنعمان بن المنذر وسيف كسرى وهرْمُزَ وقباذ وفَيْروز وهِرَقْل وخاقان وداهِر وبَهْرام وسِياوخش والنعمان أحضرها القعقاع‏.‏ وخيّره في الأسياف فاختار سيف هِرَقْل وأعطاه دِرْعَ بهرام وبعث إلى عمر سيف كسرى والنعمان وتاج كسري وحليته وثيابه ليراها الناس‏.‏ وقسم سعد الفيء بين المسلمين بعدما خمّسه وكانوا ستين ألفاً فأصاب للفارس إثنا عشر ألفاً وكلهم كان فارساً ليس فيهم راجل‏.‏ ونفل من الأخماس في أهل البلاد وقسم المنازل بين الناس واستدعى العيلات من العتيق فأنزلهم الدور ولم يزالوا بالمدائن حتى تم فتح جلولاء وحلوان وتكريت والموصل‏.‏ واختطت الكوفة فتحولوا إليها‏.‏ وأرسل سعد في الخمس كل شيء يعجب العرب منهم أن يصنع إليهم وحضر إليهم نهار كسرى وهو الغطف وهو بساط طوله ستون ذراعاً في مثلها مقدار مزرعة جريب في أرضه وهي منسوجة بالذهب طرقاً كالأنهار وتماثيل خلالها بصدف الدر والياقوت وهي حافاتها كالأرض المزدرعة والمقبله بالنبات ورقها من الحرير على قضبان الذهب وَزَهْرُهُ حَبًاتُ الذهب والفضَة وثَمَرُهُ الجوهر كانت الأكاسرة يبسطونه في الإيوان في فصل الشتاء عند فقدان الرياحين يشربون عليه فلما قدمت الأخماس على عمر قسمها في الناس ثم قال‏:‏ اشيروا علي في هذا الغطف فاختلفوا وأشاروا على نفسه فاقطعه بينهم فأصاب عليّ قطعة منه باعها بعشرين ألفاً ولم تكن بأجودها‏.‏ وولى عمر سعد بن أبي وقَّاص على الصلاة والحرب فيما غلب عليه وولى حُذَيْفَةَ بن اليمان على سقي الفرات وعثمان بن حنيف على سقي دجلة ولما انتهى الفرس بالهرب إلى جلولاء وافترقت الطرق من هنالك بأهل أذربيجان والباب وأهل الجبال وفارس وقضُوا هنالك خشية الافتراق واجتمعوا على مهران الرازي وخندقوا على أنفسهم وأحاطوا الخندق بجسره الحديد وتقدم يزدجرد إلىِ حلوان وبلغ ذلك سعداً فكاتب عمر بذلك يأمره أن يسرح إلى الفرس بجلولاء هاشماً ابن أخيه عتبة في اثني عشر ألفاً وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو وأن يولّى القعقاع بعد الفتح ما بين السواد والجبل‏.‏ فسار هاشم من المدائن لذلك في وجوه المسلمين وأعلام العرب حتى قدم جلولاء فأحاط بهم وحاصرهم في خنادقهم وزاحفوهم ثمانين يوما ينصرون عليهم في كلها والمدد متصل من هاهنا وهاهنا‏.‏ ثم قاتلوهم آخر الأيام فقتلوا منهم أكثر من ليلة الهرير وأرسل اللّه عليهم ريحاً وظلمة فسقط فرسانهم في الخندق وجعلوه طرقاً مما يليهم ففسد حصنهم وشعر المسلمون بذلك فجاءه القعقاع إلى الخندق فوقف على بابه‏.‏ وشاع في الناس أنه أخذ في الخندق فحمل الناس حملة واحدة انهزم المشركون لها وافترقوا ومرّوا بالجسرة التي تحصنَوا بها فعقرت دوابهم فترجلوا ولم يفلت منهم إِلا القليل‏.‏ يقال‏:‏ إِنه قتل منهم يومئذ مئة ألف واتبعهم القعقاع بالطلب إِلى خانقين وأجفل يزدجرد من حلوان إِلى الريّ واستخلف عليها خشرشوم وجاء القعقاع إِلى حلوان فبرز إِليه خشرشوم وعلى مقدمته الرمي فقتله القعقاع وهرب خشرشوم من ورائه وملك القعقاع حلوان وكتب إلى عمر بالفتح واستأذنه في اتباعهم فأبى وقال‏:‏ وددت أن بين السواد والجبل سداً حصيناً من ريف السواد فقد آثرت سلامة المسلمين على الأنفال وأُحْصِيَت الغنيمة فكانت ثلاثين ألف ألف فقسمها سلمان بن ربيعة‏.‏ يقال إِنه أصاب الفارس تسعة آلاف وتسعة من الدواب وبعثوا بالأخماس إِلى عمر مع زياد ابن أبيه‏.‏ فلما قدم الخمس قال عمر‏:‏ واللّه لا يُجنُّهُ سقف حتى أقسمه فجعله في المسجد وبات عبد الرحمن بن عوف وعبد اللّه بن الأَرقم يحرسانه ولما أصبح جاء في الناس ونظر إلى ياقوتة وجوهرة فبكى‏.‏ فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا موطن شكر قال‏:‏ واللهّ ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا فيلقي الله بأسهم بينهم ومنع عمر من قسمة السواد ما بين حلوان والقادسية فأقره حبساً واشترى جرير بعضه بشاطىء الفرات فرد عمر الشراء‏.‏ ولما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن بلغهم أن أُدَيْنَ بن الهرامون جمع جمعاً وجاء بهم إلى السهل فبعث إليه ضِرَار بن الخَطاب في جيش فلقيهم بماسَبْدَان فهزمهم وأسر أدين فقتله وانتهى في طلبه إلى النهروان وفتح ماسبدان عَنْوَةً وردّ إِليها أهلها ونزل بها فكانت أحد فروج الكوفة وقيل كان فتحها بعد نهاوند واللّه سبحانه أعلم‏.‏ ولاية عتبة بن غزوان على البصرة كان عمر عندما بعث المُثَنَّى إلى الحيرة بعث قَتَبَةَ بن قَتادَةَ السَلوسِيّ إلى البصرة فكان يغير بتلك الناحية‏.‏ ثم استمد عمر فبعث إليه شرَيْحَ بن عامر بن سعد بن بكر فأقبل إلى البصرة ومضى إلى الأهواز ولقيه مسلحة الأعاجم فقتلوه‏.‏ فبعث عمر عتبة بن غزوان والياً على تلك الناحية وكتب إلى العلاء بن الحضرمي أن يمده بعرفَجَةَ بن هَرْثَمَةَ وأمره أن يقيم بالتخم بين أرض العرب وأرض العجم‏.‏ فانتهى إلى حيال الجسر وبلغ صاحب الفرات خبرهم فأقبل في أربعة آلاف وعتبة في خمسمائة والتقوا فقتلوا الأعاجم أجمعين وأسروا صاحب الفرات‏.‏ ثم نزل البصرة في ربيع سنة أربع عشرة وقيل‏:‏ إِن البصرة بصرت سنة ست عشرة بعد جلولاء وتكريت‏.‏ أرسل سعد إليها عتبة فأقام بها شهراً وخرج إليه أهل الأبُلًة وكانت مرفأ للسفن من الصين فهزمهم عتبة واحجرهم في المدينة ورجع إلى عسكره ورعب الفرس فخرجوا عن الأبلة وحملوا ما خف وخلوا المدينة وعبروا النهر ودخلها المسلمون فغنموا ما فيها واقتسموه‏.‏ ثم اختطّ البصرة وبدأ بالمسجد فبناه بالقصب وجمع له أهل دست ميان فلقيهم عتبة فهزم وأخذ مرزبانها أسيراً وأخذ قتادة منطقته فبعث بها إلى عمر‏.‏ وسأل عنهم فقيل له انثالث عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهبَ والفِضَّةَ فرغب الناس في البصرة وأتوها‏.‏ ثم سار عتبة إلى عمر بعد أن بعث مُجاَشِعَ بن مسعود في جيش إِلى الفرات واستخلف المغيرة بن شعبة على الصلاة إلى قدوم مجاشع وجاء ألف بيكان من عظماء الفرس إلى المسلمين ولقيهم المغيرة بن شُعْبَةَ بالمِرْغَابِ وبينما هم في القتال إِذ لحق بهم النساء وقد اتخذن خُمُرَهُنَّ رايات فانهزم الأعاجم وكتبوا بالفتح إلى عمر فرد عتبة إِلى عمله فمات في طريقه‏.‏ وقيل‏:‏ إِن إمارة عتبة كانت سنة خمس عشرة وقيل ست عشرة فوليها ستة أشهر واستعمل عمر بعده المغيرة بن شعبة سنتين‏.‏ فلما رمي بما رمي به عزله واستعمل أبا موسى وقيل استعمل بعده عتبة أبا سبرة وبعده المغيرة‏.‏ وقعة مرج الروم وفتوح مدائن الشام بعدها لما انهزم الروم بِفَحْلٍ سار أبو عبيدة وخالد إلى حمص واجتمعوا بذي الكلاع في طريقهم وبعث هرقل توذر البطريق للقَائهم فنزلوا جميعاً بمرج الروم وكان توفر بازاء خالد وشمر بطريق آخر بازاء أبي عبيدة وأمسوا مستترين‏.‏ ثم أصبح فلم يجدوا توفر وسار إلى دمشق واتبعه خالد واستقبله يزيد من دمشق فقَاتله وجاءه خالد من خلفه فلم يفلت منهم إِلا القَليل وغنموا ما معهم‏.‏ وقاتل شَثَسٌ أبو عبيدة بعد مسيرة خالد فانهزم الروم وقتلوا واتبعهم أبو عبيدة إلى حمص ومعه خالد فبلغ ذلك هرقل فبعث بطريق حمص إِليها وسار هو في الرها فحاصر أبو عبيدة حمص حتى طلبوا الأمان فصالحهم‏.‏ وكان هرقل يعدهم في حصارهم المدد وأمر أهل الجزيرة بإمدادهم فساروا لذلك‏.‏ وبعث سعد بن أبي وقَّاص العساكر من العراق فحاصروا هيت وقرقيسيا فرجع أهل الجزيرة إلى بلادهم ويئس أهل حمص من المدد فصالحوا على صلح أهل دمشق وأنزل أبو عبيدة فيها السِّمْطَ بن الأسود في بني معاوية من كِندَةَ والأشعث بن قيس في السكون والمقداد في بَلِيّ وغيرهم‏.‏ وولَّى عليهم أبو عبيدة بن الصامت وصار إلى حماة فصالحوه على الجزية عن رؤوسهم والخراج عن أرضهم‏.‏ ثم سار نحو شيزر فصالحوا كذلك ثم إِلى المعرَّة كذلك‏.‏ ويقال معرّة النعمان وهو النعمان بن بشير الأنصاري‏.‏ ثم سار إلى اللاذقية ففتحها عنوة ثم سلمية ثم أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إِلى قِنسْرين فاعترضه ميناس عظيم الروم بعد هرقل فهزمهم خالد وأثخن فيهم ونازل قنسرين حتى افتتحها عنوة وخرّبها‏.‏ وأدرب إلى هرقل من ناحيته وأدرب عياض بن غَنْم كذلك وأدرب عمر بن مالك من الكوفة إلى قرقيسيا وأدرب عبد الله بن المعتمر من الموصل‏.‏ فارتحل هرقل إلى القُسْطَنْطِينِية من أمدها وأخذ أهل الحصون بين الإسكندرية وطرسوس وشعبها أن ينتفع المسلمون بعمارتها‏.‏ ولما بلغ عمر صنيع خالد قال أمَر خالد نفسه يرحم اللّه أبا بكر هو كان أعلم مني بالرجال‏.‏ وقد كان عزل خالداً والمثنى بن حارثة خشية أن يداخلهما كبر من تعظيم فوكلوا إليه‏.‏ ثم رجع عن رأيه في المثنى عند قيامه بعد أبي عبيد وفي خالد بعد قنسرين فرجع خالد إلى إمارته‏.‏ ولما فرغ أبو عبيدة من قنسرين سار إلى حلب وبلغه أن أهل قِنَسرين غدروا فبعث إليهم السمط الكندِيّ فحاصرهم وفتح وغنم‏.‏ ووصل أبو عبيدة إلى حَاضر حلب وهو موضع قريب منها يجمع أصنافَاَ من العرب فصالحوا على الجزية ثم أسلموا بعد ذلك‏.‏ ثم أتى حلب وكان على مُقًدَمَتِهِ عياض بن غنم الفِهْريِّ فحاصرهم حتى صالحوه على الأمان وأجاز ذلك أبو عبيدة وقيل صولحوا على مقاسمة الدور والكنائس وقيل انتقلوا إلى أنطاكية حتى صالحوا ورجعوا إلى حلب‏.‏ ثم سار أبو عبيدة من حلب إلى أنطاكية وبها جمع كبير من فلّ قنسرين وغيرهم ولقوه قريباً منها فهزمهم وأحجرهم بالمدينة وحاصرهم حتى صالحوه على الجلاء أو الجزية ورحل عنهم‏.‏ ثم نقضوا فبعث أبو عبيدة إليهم عياض بن عنم وحبيب بن مسلمة ففتحاها على الصلح الأول وكانت عظيمة الذكر‏.‏ فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتب فيها حامية مرابطة ولا يؤخر عنهم العطاء‏.‏ ثم بلغ أبا عبيدة أن جمعاً بالروم بين معرة مصرين وحلب فسار إليهم فهزمهم وقتل بطارقتهم وأمعن بل وأثخن فيهم وفتح معرّة مِصْريِن على صلح حلب‏.‏ وجالت خيوله فبلغت سَرْمين وتيرى وغلبوا على جميع أرض قنسرين وأنطاكية‏.‏ ثم فتح حلب ثانية وسار يريد قُورس وعلى مقَدّمَتِهِ عياضُ فصالحوه على صلح أنطاكية‏.‏ وبثَّ حيله ففتح تِل نِزار وما يليه‏.‏ ثم فتح مَنْبجَ على يد سَلْمان بن ربيعة الباهِلِيّ‏.‏ ثم بعث عِياضاً إلى دَلوكَ وعَينتاب فصالحهم على مثل منبج واشترط عليهم أن يكونوا عوناً للمسلمين‏.‏ وولَّى أبو عبَيدَةَ على كل ما فتح من الكوَرِ عاملاً وضم إليه جماعة وشحن الثغور المخوفة بالحامية‏.‏ واستولى المسلمون على الشام من هذه الناحية إلى الفرات‏.‏ وعاد أبو عبيدة إلى فلسطين وبعث أبو عبيدة جيشاً مع مَيْسرَة بن مسروق العبْسيّ فسلكوا درب تفليس إلى بلاد الروم فلقي جمعاً للروم ومعهم عرب من غسان وتنوخ وإياد يريدون اللحاق بِهِرَقْل فأوقع بهم واثخن فيهم‏.‏ ولحق به على أنطاكية مالك بن الأشْتَرِ النَخَعِيُ مدداً فرجعوا جميعاً إلى أبي عبيدة‏.‏ وبعث أبو عبيدة جيشاً آخر إلى مَرْعَشَ مع خالد بن الوليد ففتحها على إِجلاء أهلها بالأمان وخرَّبها‏.‏ وبعث جيشاً آخر مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحرث كذلك‏.‏ وفي خلل ذلك فتحت قِيسَارِيَّةُ بعث إليها يزيد بن أبي سفيان أخاه معاوية بأمر عُمَرَ فسار إليها وحاصرهم بعد أن هزمهم‏.‏ وبلغت قتلاهم في الهزائم ثمانين ألفاً وفتحها آخراً وكان علقمة بن مُجَزِّز على غزَة وفيها القبغار من بطاركة الروم‏.‏ وقعة أجنادين وفتح بيسان والأردن وبيت المقدس لما انصرف أبو عبيدة وخالد إِلى حمص بعد واقعة مرج الروم نزل عمرو وشرحبيلُ على أهل بيسان فافتتحها وصالح أهل الأردن واجتمع عسكر الروم بأجنادين وغزة وبيسان وعليهم أرطبون من بطارقة الروم‏.‏ فسار عمرو وشرحبيل إليهم واستخلف على الأردن أبا الأعْوَرِ السَّلَمِي‏.‏ وكان الأرطبون قد أنزل بالرملة جندأ عظيماً من الروم وبيت المقدس كذلك‏.‏ وبعث عمرو عَلْقَمَةَ بن حكيم الفِرَاسِي ومسروق بن العَكِّيِّ لقتال أهلِ بيت المقدس‏.‏ وبعث أبا أيوبٍ المالِكِيّ إلى قتال أهل الرمْلَةِ‏.‏ وكان معَاوِيَةُ محاصراَ لأهل قيسارِيَّةَ فشغل جميعهم عنه‏.‏ ثم زحف عمرو إلى الأرطبون واقتتلوا كيوم اليرموك أو أشد‏.‏ وانهزم أرطبون إلى بيت المقدس وأفرج له المسلمون الذين كانوا يحاصرونها حتى دخل‏.‏ ورجعوا إلى عُمَرَ وقد نزل أجْنادين‏.‏ وقد تقدَم لنا ذكر هذه الواقعة قبل اليرموك على رأي من جعلها قبلها وهذا على قول من جعلها بعدها‏.‏ ولما دخل أرطبون بيت المقدس فتح عمر غزة‏.‏ وقيل كان فتحها في خلافة أبي بكر ثم فتح سبسَطية وفيها قبر يحيى بن زكريا وفتح نابلس على الجزية‏.‏ ثم فتح مدينة لدّ ثم عَمَواس وبيت حِبْرِين ويافا ورفح وسائر مدائن الأردن‏.‏ وبعث إلى الأرطبون فطلب أن يصالح كأهل الشام ويتولى العقد عمر وكتبوا إليه بذلك‏.‏ فسارعن المدينة واستخلف عليها عليّ بن أبي طالب بعد أن عذله في مسيرة فأبى‏.‏ وقد كان واعد أمراء الأجناد هنالك فلقيه يزيد ثم أبو عبيدة ثم خالد على الخيول عليهم الديباج والحرير فنزل ورماهم بالحجارة وقال‏:‏ اتستقبلوني في هذا الزَيّ وإنما شبعتم منذ سنتين واللّه لو كان على رأس المائتين لاستبدلت بكم‏.‏ قالوا‏:‏ إِنها بلا ثمن وإن علينا السلاح فسكت ودخل الجابية‏.‏ وجاءه أهل بيت المقدس وضم عَمْراً وشرحبيل إليه وقد هرب أرطبون عنهم إِلى مصر فصالحوه على الجزية وفتحوها له وكذلك أهل الرمْلَةِ‏.‏ وولَى عَلْقَمَةَ بن حكيم عليه نصف فِلَسطين وأسكنه الرملة وعَلْقَمَةَ بن مُجْزِرٍ على النصف الآخر وأسكنه بيت المقدس وضم عَمْراً وشرحبيل إِليه فلقياه بالجابِيَةَ‏.‏ وركب عُمَرُ إِلى بيت المقدس فدخلها وكشف عن الصخرة وأمر ببناء المسجد عليها‏.‏ وذلك سنة خمس عشرة وقيل سنة ست عشرة‏.‏ ولحق أرطبون بمصر مع من أبى الصلح من الروم حتى هلك في فتح مصر وقيل‏:‏ إنما لحق بالروم وهلك في بعض الصوائف‏.‏ ثم فرق عمر العطاء ودوَّن الدواوين سنة خمس عشرة ورتّب ذلك على السابقة‏.‏ ولمَا أعطى صَفْوان بن أُميةَ والحَرْثَ بن هِشام وسُهَيْلَ بن عمرو أقل من غيرهم قالوا‏:‏ لا والله لا يكون أحد أكرم منا‏.‏ فقال‏:‏ إِنما أعطيت على سابقة الإسلام لا على الأحساب‏.‏ فقالوا‏:‏ فنعم إِذن وخرجوا إِلى الشام فلم يزالوا مجاهدين حتى أصيبوا‏.‏ ولما وضع عمر الدواوين قال له علي وعبد الرحمن ابدأ بنفسك‏.‏ قال لا‏!‏ بعمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب ورتَّب ذلك على مراتب‏.‏ ففرض خمسة آلاف ثم أربعة ثم ثلاثة ثم ألفين وَخمسمائة ثم ألفين ثم ألفاً واحداً ثم خمسمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين وخمسين ثم مائتين‏.‏ وأعطى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف لكل واحدة وفَضّل عائشة بألفين وجعل النساء على مراتب فلأهل بدر خمسمائة ثم أربعمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين والصبيان مائة مائة والمساكين جرايتين في الشهر‏.‏ ولم يترك في بيت المال شيئاً‏.‏ وسئل في ذلك فأبى وقال‏:‏ هي فتنة لمن بعدي‏.‏ وسأل الصحابة في قوته من بيت المال فأذنوا له فيه وسألوه في الزيادة على لسان حفصة ابتنه متكتمين عنه‏.‏ فغضب وامتنع‏.‏ وسألها عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيشه وملبسه وفراشه فأخبرته بالكفاف من ذلك‏.‏ فقال‏:‏ والله لأضعن الفضول موضعها ولأتبلغن بالترجية وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقاً وتزود الأول فبلغ المنزل واتبعه الآخر مقتديأ به كذلك ثم جاءه الثالث بعدهما فإن اقتفى طريقهما وزادهما لحق بهما وإلا لم يبلغهما‏.‏ وفتحت في جمادى من هذه السنة تكريت لأن أهل الجزيرة كانوا قد اجتمعوا إلى المرزبان الذي كان بها وهم من الروم وإياد وتغلب والنمر ومعهم المشهارجة ليحموا أرض الجزيرة من ورائهم‏.‏ فسرح إليهم سعد بن أبي وقاص بأمر عمر كاتبه عبد الرحمن بن المعتمر وعلى مقدمته ربعي بن الأفكل‏.‏ وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة فحاصروهم أربعين يوماً ودخلوا العرب الذين معهم فكانوا يطلعونهم على أحوال الروم‏.‏ ثم يئس الروم من أمرهم واعتزموا على ركوب السفن في دجلة للنجاة‏.‏ فبعث العرب بذلك إلى المسلمين وسألوهم الأمان فأجابوهم على أن يسلموا فأسلموا وواعدوهم الثبات والتكبير وأن يأخذوا على الروم أبواب البحر مما يلي دجلة ففعلوا‏.‏ ولما سمع الروم التكبير من جهة البحر ظنوا أن المسلمين استداروا من هنالك فخرجوا إلى الناحية التي فيها المسلمون فأخذتهم السيوف من الجهتين‏.‏ ولم يفلت إلا من أسلم من قبائل ربيعة من تغلب والنمر وإياد وقسمت الغنائم فكان للفارس ثلاثة آلاف درهم وللراجل ألف‏.‏ ويقال إن عبد الله بن المعتمر بعث ربعي بن الأفكل بعهد عمر إلى الموصل ونينوى وهما حصنان على دجلة من شرقيها وغربيها‏.‏ فسار في تغلب وإياد والنمر وسقوه إلى الحضين فأجابوا إلى الصلح وصاروا ذمةً‏.‏ وقيل بل الذي فتح الموصل عتبة بن فرقد سنة عشرين وإنه ملك نينوى وهو الشرقي عنوةً‏.‏ وصالحه أهل الموصل وهو الغربي على الجزية وفتح معها جبل الأكراد وجميع أعمال الموصل وقيل إنما بعث عتبة بن فرقد عياض بن غنم عندما فتح الجزيرة على ما نذكره والله أعلم‏.‏ مسير هرقل إلى حمص وفتح الجزيرة وأرمينية كان أهل الجزيرة قد راسلوا هرقل وأغروه بالشام وأن يبعث الجنود إلى حمص وواعدوه المدد‏.‏ وبعثوا الجنود إلى أهل هيت مما يلي العراق‏.‏ فأرسل سعد عمر بن مالك بن خيبر بن مطعم في جند وعلى مقدمته الحرث بن يزيد العامري‏.‏ فسار إلى هيت وحاصرهم فلما رأى اعتصامهم بخندقهم حجر عليهم الحرث بن يزيد وخرج في نصف العسكر وجاء قرقيسيا على غرة فأجابوه إلى الجزية‏.‏ وكتب إلى الحرث أن يخندق على عسكر الجزيرة فبيت حتى سألوا المسالمة والعود إلى بلادهم فتركهم ولحق بعمر بن مالك‏.‏ ولما اعتزم هرقل على قصد حمص وبلغ الخبر أبا عبيدة ضم إليه مسالحة وعسكر بفنائها‏.‏ وأقبل إليه خالد من قنسرين وكتبوا إلى عمر بخبر هرقل فكتب إلى سعد أن يذهب الناس بل أن يندب الناس مع القعقاع بن عمرو ويسرحهم من يومهم فإن أبا عبيدة قد أحيط به‏.‏ وأن يسرح سهيل بن عدي إلى الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استدعوا الروم إلى حمص‏.‏ وأن يسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين ثم يقص حران والرها‏.‏ وأن يسرح الوليد بن عقبة إلى عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ‏.‏ وأن يكون عياض بن غنم على أمراء الجزيرة هؤلاء إن كانت حرب‏.‏ فمضى القعقاع من يومه في أربعة آلاف إلى حمص وسار عياض بن غنم وأمراء الجزيرة كل أمير إلى كورته وخرج عمر من المدينة فأتى الجابية يريد حمص مغيثاً لأبي عبيدة ولما سمع أهل الجزيرة خبر الجنود فارقوا هرقل ورجعوا إلى بلادهم‏.‏ وزحف أبو عبيدة إلى الروم فانهزموا وقدم القعقاع من العراق بعد الوقعة بثلاث‏.‏ وكتبوا إلى عمر بالفتح فكتب إليهم أن أشركوا أهل العراق في الغنيمة‏.‏ وسار عياض بن غنم إلى الجزيرة وبعث سهيل بن عدي إلى الرقة عندما انقبضوا عن هرقل فنهضوا معه إلا إياد بن نزار فإنهم دخلوا أرض الروم‏.‏ ثم بعث عياض بن سهيل وعبد الله يضمهما إليه وسار بالناس إلى حران فأجابوه إلى الجزية‏.‏ ثم سرح سهيلاً وعبد الله إلى الرها فأجابوا إلى الجزية وكمل فتح الجزيرة‏.‏ وكتب أبو عبيدة إلى عمر لما رجع من الجابية وانصرف معه خالد أن يضم إليه عياض بن غنم مكانه ففعل وولى حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها والوليد بن عقبة على عربها‏.‏ ولما بلغ عمر دخول إياد إلى بلاد الروم كتب إلى هرقل‏:‏ بلغني أن حياً من أحياء العرب تركوا دارنا وأتوا دارك فوالله لتخرجنهم أو لنخرجن النصارى إليك‏.‏ فأخرجهم هرقل وتفرق منهم أربعة آلاف فيما يلي الشام والجزيرة وأبى الوليد بن عقبة أن يقبل من تغلب إلا الإسلام‏.‏ فكتب إليه عمر‏:‏ إنما ذلك في جزيرة العرب التي فيها مكة والمدينة واليمن فدعهم على أن لا ينصروا وليداً ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام‏.‏ ثم وفدوا إلى عمر في أن يضع عنهم اسم الجزية فجعلها الصدقة مضاعفة‏.‏ ثم عزل الوليد عنهم لسطوته وعزتهم وأمر عليهم فرات بن حيان وهند بن عمرو الجملي‏.‏ وقال ابن اسحاق‏:‏ إن فتح الجزيرة كان سنة تسع عشرة وأن سعداً بعث إليها الجند مع عياض بن غنم وفيهم ابنه عمر وعياض بن غنم ففتح عمر الرها بل ففتح عياض الرها‏.‏ وصالحت حران وافتتح أبو موسى نصيبين وبعث عثمان بن أبي العاص إلى أرمينيا فصالحوه على الخزية‏.‏ ثم كان فتح قيسارية من فلسطين‏.‏ فتكون الجزيرة على هذا من فتوح أهل العراق والأكثر إنها من فتوح أهل الشام وأن أبا عبيدة سير عياض بن غنم إليها‏.‏ وقيل بل استخلفه لما توفي‏.‏ فولاه عمر على حمص وقنسرين والجزيرة فسار إليها سنة ثماني عشرة في خمسة آلاف فانتهت طائفة إلى الرقة فحاصروها حتى صالحوه على الجزية والخراج على الفلاحين‏.‏ ثم سار إلى حران فجهز عليها صفوان بن المعطل وحبيب بن مسلمة وسار هو إلى الرها فحاصرها حتى صالحوه‏.‏ ثم رجع إلى حران وصالحهم كذلك ثم فتح سميساط وسروج ورأس كيفا فصالحوه على منبج كذلك ثم آمد ثم ميافارقين ثم كفرتوثا ثم نصيبين ثم ماردين ثم الموصل وفتح أحد حصنيها ثم سار إلى أرزن الروم ففتحها ودخل الحرب إلى بدليس ثم خلاط فصالحوه وانتهى إلى أطراف أرمينية ثم عاد إلى الرقة واستعمل عمر عمير بن سعد الأنصاري ففتح رأس عين وقيل‏:‏ إن عياضاً هو الذي أرسله وقيل إن أبا موسى الأشعري هو الذي افتتح رأس عين بعد وفاة عياض بولاية عمر‏.‏ وقيل إن خالداً حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل الحمام بآمد فأطلى بشيء فيه خمر وقيل لم يسر خالد تحت لواء أحد بعد أبي عبيدة‏.‏ ولما فتح عياض سميساط بعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوة ثم انتقض أهلها فلما ولي معاوية الشام والجزيرة وجه إليها حبيب بن مسلمة ففتحها عنوة أيضاً ورتب فيها الجند وولى عليها لما أدرب عياض بن غنم من الجابية‏.‏ فرجع عمر إلى المدينة سنة سبع عشرة وعلى حمص أبو عبيدة وعلى قنسرين خالد بن الوليد من تحته وعلى دمشق يزيد وعلى الأردن معاوية وعلى فلسطين علقمة بن مجزز وعلى السواحل عبد الله بن قيس‏.‏ وشاع في الناس ما أصاب خالد مع عياض بن غنم من الأموال فانتجعه رجال منهم الأشعث فإن كان من ماله فقد أسرف فاعزله واضمم إليك عمله‏.‏ فاستدعاه أبو عبيدة وجمع الناس وجلس على المنبر وسأل اليزيد خالداً فلم يجبه فقام بلال وأنفذ فيه أمر عمر وسأله فقال‏:‏ من مالي فأطلقه وأعاد قلنسوته وعمامته‏.‏ ثم استدعاه عمر فقال له من أين هذا الثراء قال من الأنفال والسهمان وما زاد على ستين ألفاً فهو لك فجمع ماله فزاد عشرين فجعلها في بيت المال ثم استصلحه‏.‏ وفي سنة سبع عشره هذه اعتمر عمر ووسع في المسجد وأقام بمكة عشرين ليلة وهدم على من أبى البيع دورهم لذلك‏.‏ وكانت العمارة في رجب وتولاها مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف وحويطب بن عبد العزى وسعيد بن يربوع‏.‏ واستأذنه أهل المياه أن يبنوا المنازل بين مكة والمدينة فأذن لهم على شرط أن ابن السبيل أحق بالظل والماء‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:02 PM

غزو فارس من البحرين وعزل العلاء عن البصرة ثم المغيرة
وولاية أبي موسى كان العلاء بن الحضرمي على البحرين أيام أبي بكر ثم عزله عمر بقدامة بن مظعون ثم أعاده‏.‏ وكان العلاء ينادي سعد بن أبي وقاص ووقع له في قتال أهل الردة ما وقع‏.‏ فلما ظفر سعد بالقادسية كان أعظم من فعل العلاء فأراد أن يؤثر في الفرس شيئاً فندب الناس إلى فارس وأجابوه وفرقهم أجناداً بين الجارود بن المعلى والسوار بن همام وخليد بن المنذر وأمره على جميعهم وحمله في البحر إلى فارس بغير إذن من عمر‏.‏ لأنه كان ينهى عن ذلك وأبو بكر قبله خوف الغرق‏.‏ فخرجت الجنود إلى اصطخر وبازائهم الهربذ في أهل فارس وحالوا بينهم وبين سفنهم فخاطبهم خليد وقال‏:‏ إنما جئتم لمحاربتهم والسفن والأرض لمن غلب‏.‏ ثم ناهدوهم واقتتلوا بطاوس وقتل الجارود والسوار‏.‏ وأمر خالد أصحابه أن يقاتلوا رجالة‏.‏ وقتل من الفرس مقتله عظيمة‏.‏ ثم خرج المسلمون نحو البصرة وأخذ الفرس عليهم الطرق فعسكروا وامتنعوا وبلغ ذلك عمر فأرسل إلى عتبة بالبصرة يأمره بإنفاذ جيش كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا‏.‏ وأمر العلاء بالإنصراف عن البحرين إلى سعد بمن معه فأرسل عتبة الجنود اثني عشر ألف مقاتل فيهم عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة والأحنف بن قيس وأمثالهم وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم من عامر بن لؤي فساحل بالناس حتى لقي خليداً والعسكر‏.‏ وقد تداعى إليهم بعد وقعة طاوس أهل فارس من كل ناحية فاقتتلوا وانهزم المشركون وقتلوا‏.‏ ثم انكفأوا بما أصابوا من الغنائم واستحثهم عتبة بالرجوع فرجعوا إلى البصرة‏.‏ ثم استأذن عتبة في الحج فأذن له عمر فحج ثم استعفاه فأبى وعزم عليه ليرجعن إليه عمله‏.‏ فانصرف ومات ببطن نخلة على رأس ثلاث سنين من مفارقة سعد‏.‏ واستخلف على عمله أبا سبرة بن أبي رهم فأقره عمر بقية السنة‏.‏ ثم استعمل المغيرة بن شعبة عليها وكان بينه وبين أبي بكر منافرة وكانا متجاورين في مشربتين ينفذ البصر من إحداهما إلى الأخرى من كوتين فزعموا إن أبا بكرة وزياد بن أبيه وهو أخوه لأمه وآخرين معهما عاينوا المغيرة على حالة قذفوه بها ادعوا الشهادة ومنعه أبو بكرة من الصلاة‏.‏ وبعثوا إلى عمر فبعث أبا موسى أميراً في تسعة وعشرين من الصحابة فيهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر ومعهم كتاب عمر إلى المغيرة‏:‏ أما بعد فقد بلغني عنك نبأ عظيم وبعثت أبا موسى أميراً فسلم إليه ما في يدك والعجل‏.‏ ولما استحضرهم عمر اختلفوا في الشهادة ولم يستكملها زياد فجلد الثلاثة‏.‏ ثم عزل أبا موسى عن البصرة بعمر بن سراقة ثم صرفه إلى الكوفة ورد أبا موسى فأقام عليه‏.‏ بناء البصرة والكوفة وفي هذه السنة وهي أربع عشرة بلغ عمر أن العرب تقر بل تغيرت ألوانهم ورأى ذلك في وجوه وفودهم فسألهم فقالوا وخومة البلاد غيرتنا وقيل إن حذيفة وكان مع سعد كتب بذلك إلى عمر‏.‏ فسأل عمر سعداً فقال غيرتهم وخومة البلاد والعرب لا يوافقها من البلاد إلا ما وافق إبلها‏.‏ فكتب إليه أن يبعث سلمان وحذيفة شرقيه فلم يرضيا إلا بقعة الكوفة فصليا فيها ودعيا أن تكون منزل ثبات‏.‏ ورجع إلى سعد فكتب إلى القعقاع وعبد الله بن المعتمر أن يستخلفا على جندهما ويحضرا‏.‏ وارتحل من المدائن فنزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة لسنتين وشهرين من وقعة القادسية ولثلاث سنين وثمانية أشهر من ولاية عمر‏.‏ وكتب إلى عمر إني قد نزلت الكوفة بين الحيرة والفرات برياً بحرياً بين الجلاء والنصر وخيرت الناس بينهما وبين المدائن ومن أعجبته تلك جعلته فيها مسلحة‏.‏ فلما استقروا بالكوفة ثاب إليهم ما فقدوه من حالهم‏.‏ ونزل أهل البصرة أيضأ منازلهم في وقت واحد مع أهل الكوفة بعد ثلاث مرات نزلوها من قبل واستأذنوا جميعاً في بنيان القصب فكتب عمر أن العسكرة أشد لحربهم وأذكر لكم‏:‏ وما أحب أن أخالفكم فابتنوا بالقصب‏.‏ ثم وقع الحريق في القصرين فاستأذنوا في البناء باللبن فقال‏:‏ افعلوا ولا يزيد أحد على ثلاثة بيوت ولا تطاولوا في البنيان والزموا السنة تلزمكم الدولة‏.‏ وكان على تنزيل الكوفة أبو هياج بن مالك وعلى تنزيل البصرة أبو المحرب عاصم بن الدلف‏.‏ وكانت ثغور الكوفة أربعة‏:‏ حلوان وعليها القعقاع وماسبدان وعليها ضرار بن الخطاب وقرقيسيا وعليها عمر بن مالك والموصل وعليها عبد الله بن المعتمر‏.‏ ويكون بها خلفاؤهم إذا غابوا‏.‏ فتح الأهواز والسوس بعدها لما انهزم الهرمزان يوم القادسية قصد خوزستان وهي قاعدة الأهواز فملكها وملك سائر الأهواز‏.‏ وكان أصله منهم من البيوتات السبعة في فارس وأقام يغير على أهل ميثان ودست ميثان من ثغور البصرة يأتي إليها من منادر ونهر تيري من ثغور الأهواز‏.‏ واستمد عتبة بن غزوان سعداً فأمده بنعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود‏.‏ فنزل بين ثغور البصرة وثغور الأهواز‏.‏ وبعث عتبة بن غزوان سلمي بن القين وحرملة بن قريضة من بني العدوية من حنظلة فنزل على ثغور البصرة بميسان ودعوا بني العم بن مالك وكانوا ينزلون خراسان‏.‏ فأهل البلاد يأمنونهم فاستجابوا وجاء منهم غالب الوائلي وكليب بن وائل الكلبي فلقي سلمي وحرملة وواعداهما الثورة بمنادر ونهر تيري‏.‏ ونهض سلمي وحرملة يوم الموعد في التعبية وأنهض نعيماً والتقو هم والهرمزان وسلمي على أهل البصرة ونعيم على أهل الكوفة‏.‏ وأقبل إليهما المدد من قبل غالب وكليب وقد ملك منادر ونهر تيري فانهزم الهرمزان وقتل المسلمون من أهل فارس مقتلة وانتهوا في اتباعهم إلى شاطىء دجيل وملكوا ما دونها‏.‏ وعبر الهرمزان جسر سوق الأهواز وصل دجيل بينه وبين المسلمين‏.‏ ثم طلب الهرمزان الصلح فصالحوه على الأهواز كلها ما خلا نهر تيري ومنادر وما غلبوا عليه من سوق الأهواز فإنه لا يرد وبقية المسالح على نهر تيري ومنادر وفيهما غالب وكليب‏.‏ ثم وقع بينهما وبين الهرمزان اختلاف في التخم ووافقهما سلمي وحرملة فنقض الهرمزان ومنع ما قبله وكثف جنوده بالأكراد‏.‏ وبعث عتبة بن غزوان حرقوص بن زهير السعدي لقتاله فانهزم وسار إلى رام هرمز وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها واتسعت له البلاد إلى تستر‏.‏ ووضع الجزية وكتب بالفتح وبعث في أثر الهرمزان جزء بن معاوية فانتهى إلى قرية الشغر‏.‏ ثم إلى دورق فملكها‏.‏ وأقام بالبلاد وعمرها وطلب الهرمزان الصلح على ما بقي من البلاد‏.‏ ونزل حرقوص جبل الأهواز وكان يزدجرد في خلال ذلك يمد ويحرض أهل فارس حتى اجتمعوا وتعاهدوا مع أهل الأهواز على النصرة‏.‏ وبلغت الأخبار حرقوصاً وجزءأ وسلمي وحرملة فكتبوا إلى عمر فكتب إلى سعد أن يبعث جنداً كثيفاً مع النعمان بن مقرن ينزلون منازل الهرمزان‏.‏ وكتب إلى أبي موسى أن يبعث كذلك جنداً كثيفاً مع سعد بن عدي أخي سهيل ويكون فيهم البراء بن مالك ومجزأة بن ثور وعرفجة بن هرثمة وغيرهم‏.‏ وعلى الجندين أبو سبرة بن أبي رهم‏.‏ فخرج النعمان بن مقرن في أهل الكوفة فخلف حرقوصاً وسلمي وحرملة إلى الهرمزان وهو برام هرمز‏.‏ فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدة ولقيه فانهزم ولحق بتستر وجاء النعمان إلى رام هرمز فنزلها وجاء أهل البصرة من بعده فلحقهم خبر الواقعة بسوق الأهواز فساروا حتى أتوا تستر‏.‏ ولحقهم النعمان فاجتمعوا على تستر وبها الهرمزان وأمدهم عمر بأبي موسى جعله على أهل البصرة فحاصروهم أشهراً وأكثروا فيهم القتل‏.‏ وزاحفهم المشركون ثمانين زحفاً سجالاً ثم انهزموا في آخرها‏.‏ واقتحم المسلمون خنادقهم وأحاطوا بها وضاق عليهم الحصار فاستأمن بعضهم من داخل البلد بمكتوب في سهم على أن يدلهم على مدخل يدخلون منه فانتدب لهم طائفة ودخلوا المدينة من مدخل الماء وملكوها وقتلوا المقاتلة‏.‏ وتحصن الهرمزان بالقلعة فأطافوا بها واستنزلوهم على حكم عمر وأوثقوه واقتسموا الفيء فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف والراجل ألف‏.‏ وقتل من المسلمين في تلك الليلة البراء بن مالك ومجزأة بن ثور قتلهما الهرمزان‏.‏ ثم خرج أبو سبرة في أثر المنهزمين ومعه النعمان وأبو موسى فنزلوا على السوس وسار زر بن عبد الله الفقيمي إلى جنديسابور فنزل عليها‏.‏ وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري بالرجوع إلى البصرة وأمر مكانه الأسود بن ربيعة من بني ربيعة بن مالك صحابي يسمى المقترب‏.‏ وأرسل أبو سبرة بالهرمزان إلى عمر في وفد منهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الديباج المذهب وتاجه مرصعأ بالياقوت وحليته ليراه المسلمون‏.‏ فلما رآه عمر أمر بنزع ما عليه وقال يا هرمزان‏:‏ كيف رأيت أمر الله وعاقبة الغدر فقال يا عمر‏:‏ إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم‏.‏ فلما صار الآن معكم غلبتمونا‏.‏ قال فما حجتك وما عذرك في الانتقاض مرة بعد أخرى قال أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك‏!‏ قال لا تخف ذلك‏.‏ ثم استقى فأتي بالماء فقال‏:‏ أخاف أن أقتل وأنا أشرب قال لا بأس عليك حتى تشربه فألقاه من يده وقال‏:‏ لا حاجة لي في الماء وقد أمنتني‏.‏ قال كذبت‏.‏ ‏!‏ قال أنس‏:‏ صدق يا أمير المؤمنين فقد قلت له لا بأس علب حتى تخبرني وحتى تشربه وصدق الناس‏.‏ فأقبل عمر على الهرمزان وقال خدعتني لا والله إلا أن تسلم‏!‏ فأسلم‏.‏ فغرض له في ألفين وأنزله المدينة واستأذنه الأحنف بن قيس في الانسياح في بلاد فارس وقال‏:‏ لا يزالون في الانتقاض حتى يهلك ملكهم فأذن له‏.‏ ولما لحق أبو سبرة بالسوس ونزل عليها وبها شهريار أخو الهرمزان فأحاط بها ومعه المقترب بن ربيعة في جند البصرة فسأل أهل السوس الصلح فأجابوهم‏.‏ وسار النعمان بن مقرن بأهل الكوفة إلى نهاوند وقد اجتمع بها الأعاجم‏.‏ وسار المقترب إلى زر بن عبد الله على جنديسابور فحاصروها مدة ثم رمى السهم بالأمان من خارج على الجزية فخرجوا لذلك‏.‏ فناكرهم المسلمون فإذا عبد فعل ذلك أصله منهم فأمضى عمر أمانة‏.‏ وقيل في فتح السوس‏:‏ إن يزدجرد سار بعد وقعة جلولاء فنزل اصطخر ومنعه سياه في سبعين إلفاً من فارس فبعثه إلى السوس ونزل الكلبانية وبعث الهرمزان إلى تستر كانت واقعة أبي موسى فحاصرهم فصالحوه على وحمل أصحابه على صلح أبي موسى تم على الإسلام على أن يقاتلوا الأعاجم ولا يقتلوا العرب ويمنعهم هو من العرب ويلحق بأشرف العطاء فأعطاهم ذلك عمر وأسلموا وشهدوا فتح تستر ومضى سياه إلى بعض الحصون في زي العجم فغدرهم وفتحه للمسلمين وكان فتح تستر وما بعدها سنة سبع عشرة وقيل ست عشرة‏.‏ مسير المسلمين إلى الجهات للفتح لما جاء الأحنف بن قيس بالهرمزان إلى عمر قال له‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ لا يزال أهل فارس يقاتلوننا ما دام ملكهم فيهم فلو أذنت بالإنسياح في بلادهم فازلنا ملكهم انقطع رجاؤهم‏.‏ فأمر أبا موسى أن يسير من البصرة غير بعيد حتى بل ويقيم حتى يأتي أمره‏.‏ ثم بعث إليه مع سهيل بن عدي بألوية الأمراء الذين يسيرون في بلاد العجم لواء خراسان للأحنف بن قيس ولواء أردشيرخرت وسابور لمجاشع بن مسعود السلمي ولواء اصطخر لعثمان بن أبي العاص الثقفي ولوء فسا ودار ابجرد لسارية بن زنيم الكناني ولواء كرمان لسهيل بن علي ولواء سجستان لعاصم بن عمرو ولواء مكران للحكم بن عمير الثعلبي‏.‏ ولم يتهيأ مسيرهم إلى سنة بثماني عشرة‏.‏ ويقال سنة إحدى وعشرين أو اثنين وعشرين‏.‏ ثم ساروا في بلاد العجم وفتحوا مجاعة عام الرمادة وطاعون عمواس وأصاب الناس سنة ثماني عشرة قحط شديد وجدب أعقب جوعاً بعد العهد بمثله مع طاعون أتى على جميع الناس وحلف عمر لا يذوق السمن واللبن حتى يحيا الناس وكتب إلى الأمراء بالأمصار يستمدهم لأهل المدينة‏.‏ فجاء أبو عبيدة بأربعة آلاف راحلة من الطعام وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم وأرسل فيه الطعام من مصر فرخص السعر واستقى عمر بالناس فخطب الناس وصلى‏.‏ ثم قام وأخذ بيد العباس وتوسل به ثم بكى وجثا على ركبتيه يدعو إلى أن مطر الناس‏.‏ وهلك بالطاعون أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وابنه عتبة في آخرين أمثالهم‏.‏ وتفانى الناس بالشام‏.‏ وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتفع بالمسلمين من الأرض التي هو بها فدعا أبو موسى يرتاد له منزلاً ومات قبل رحيله‏.‏ وسار عمر بالناس إلى الشام وانتهى إلى سرغ ولقيه أمراء الأجناد وأخبروه بشدة الوباء‏.‏ واختلفت الناس عليه في قدد معه فقيل إشارة العود‏.‏ ورجع وأخبر عبد الرحمن بن عوف بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الوباء فقال‏:‏ إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ ولما هلك يزيد وولى عمر على دمشق مكانه أخاه معاوية بن أبي سفيان وعلى الأرض شرحبيل بن حسنة‏.‏ ولما فحش أثر الطاعون بالشام أجمع عمر المسير إليه ليقسم مواريث المسلمين ويتطوف على الثغور ففعل ذلك ورجع واستقضى في سنة ثماني عشرة على الكوفة شريح بن الحرث الكندي وعلى البصرة كعب بن سوار الأزدي‏.‏ وحج في هذه السنة ويقال إن فتح جلولاء والمدائن والجزيرة كان في هذه السنة وقد تقدم ذكر ذلك‏.‏ وكذلك فتح قيسارية على يد معاوية وقيل سنة عشرين‏.‏ فتح مصر لما فتح عمر بيت المقدس استأذنه عمرو بن العاص في فتح مصر فأغزاه ثم أتبعه الزبير بن العوام فساروا سنة عشرين أو إحدى أو اثنين أو خمس‏.‏ فاقتحموا باب إليون ثم ساروا في قرى الريف إلى مصر ولقيهم الجاثليق أبو مريم والأسقف قد بعثه المقوقس‏.‏ وجاء أبو مريم إلى عمرو فعرض الجزية والمنع وأخبره بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم‏.‏ وأجلهم ثلاثاً ورجعوا إلى المقوقس وأرطبون أمير الروم فأبى من ذلك أرطبون وعزم الحرب وبيت المسلمين فهزموه وجنده‏.‏ ونازلوا عين شمس وهي المطرية وبعثوا لحصار الفورفا أبرهة بن الصباح ولحصار الاسكندرية عوف بن مالك فراسلهم أهل البلاد وانتظروا عين شمس‏.‏ فحاصرهم عمرو والزبير مدة حتى صالحوهما على الجزية وأجروا ما أخذوا قبل ذلك عنوةً فجرى الصلح وشرطوا رد السبايا فامضاه لهم عمر بن الخطاب على أن يجيز السبايا في الإسلام وكتب العهد بينهم ونصه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ودمهم وأموالهم وكافتهم وصاعهم ومدهم ومدهم لا يزيد شيء في ذلك ولا ينقضي‏.‏ ولا يساكنهم النوب‏.‏ وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليه ما جنى نصرتهم فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزية بعددهم وذمتنا ممن أبى برية‏.‏ وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله ما لهم وعليه ما عليهم ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ويخرج من سلطاننا وعليهم ما عليهم أثلاثاً في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين‏.‏ وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأساً وكذا وكذا فرساً على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة‏.‏ شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه‏.‏ وكتب وردان وحضر‏.‏ هذا نص الكتاب منقولاً من الطبري‏.‏ قال‏:‏ فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح ونزل المسلمون الفسطاط وجاء أبو مريم الجاثليق يطلب السبايا التي بعد المعركة في أيام الأجل فأبى عمرو من ردها وقال‏:‏ أغاروا وقاتلوا وقسمتهم في الناس وبلغ الخبر إلى عمر فقال‏:‏ من يقاتل في أيام الأجل فله الأمان‏.‏ وبعث فيهم إلى الدقاق فردهم عليهم‏.‏ ثم سار عمرو إلى الإسكندرية فاجتمع له من بينها وبين الفسطاط من الروم والقبط فهزمهم واثخن فيهم‏.‏ ونازل الإسكندرية وبها المقوقس وسأله الهدنة إلى مدة فلم يجبه وحاصرهم ثلاثة أشهر ثم فتحها عنوة وغنم ما فيها وجعلهم ذمة‏.‏ وقيل إن المقوقس صالح عمراً على إثني عشر ألف دينار على أن يخرج من يخرج ويقيم من يقيم باختيارهم وجعل عمرو فيها جنداً‏.‏ ولما تم فتح مصر والإسكندرية أغزى عمرو العساكر إلى النوبة فلم يظفروا فلما كان أيام عثمان وعبد الله بن أبي سرح على مصر صالحهم على عدة رؤوس في كل سنة ويهدي إليهم المسلمون طعاماً وكسوة فاستمر ذلك فيما بعد‏.‏ وقعة نهاوند لما فتحت الأهواز ويزدجرد بمرو كاتبوه واستنجدوه فبعث إلى الملوك ما بين الباب والسند وخراسان وحلوان يستمدهم فأجابوه واجتمعوا إلى نهاوند وعلى الفرس الفيرزان في مئة وخمسين ألف مقاتل‏.‏ وكان سعد بن أبي وقاص قد ألب أقوام عليه من عسكره وشكوه إلى عمر فبعث محمد بن مسلمة في الكشف عن أمره فلم يسمع إلا خيراً سوى مقالة من بني عبس‏.‏ فاستقدمه محمد إلى عمرو وخبره الخبر فقال‏:‏ كيف تصلي يا سعد قال أطيل الأولتين وأحذف الأخيرتين‏.‏ قال هكذا الظن بك‏.‏ ثم قال‏:‏ من خليفتك على الكوفة قال عبد الله بن عبد الله بن عتبان فأمره وشافهه بخبر الأعاجم‏.‏ وأشار بالإنسياح ليكون أهيب على العدو‏.‏ فجمع عمر الناس واستشارهم بالمسير بنفسه‏.‏ فمن موافق ومخالف إلى أن اتفق رأيهم على أن يبعث الجنود ويقيم ردءاً لهم‏.‏ وكان ذلك رأي علي وعثمان وطلحة وغيرهم‏.‏ فولى على حربهم النعمان بن مقرن المزني وكان على جند الكوفة بعد انصرافهم من حصار السوس وأمره أن يصير إلى ماء لتجتمع الجيوش عليه ويسير بهم إلى الفيرزان ومن معه‏.‏ وكتب إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان أن يستنفر الناس من النعمان فبعثهم مع حذيفة بن اليمان ومعه نعيم بن مقرن وكتب إلى المقترب وحرملة وزر الذين كانوا بالأهواز وفتحوا السوس وجنديسابور أن يقيموا بتخوم أصبهان وفارس ويقطعوا المدد على أهل نهاوند‏.‏ واجتمع الناس على النعمان وفيهم حذيفة وجرير والمغيرة وابن عمر وأمثالهم وأرسل النعمان طليحة وعمرو بن معد يكرب طليعة ورجع عمرو من طريقه‏.‏ وانتهى طليحة إلى نهاوند ونقض الطرق فلم يلق بها أحداً وأخبر الناس فرحل النعمان وعبى المسلمين ثلاثين ألفأ‏.‏ وجعل على مقدمته نعيم بن مقرن وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن وعلى المجردة القعقاع وعلى الساقة مجاشع بن مسعود‏.‏ وعبى الفيرزان كتائبه وعلى مجنبتيه زردق وبهمن جادوية مكان ذي الحاجب وقد توافى إليهم بنهاوند كل من غاب من القادسية من أبطالهم‏.‏ فلما تراءى الجمعان كبر المسلمون وحطت العرب الأثقال وتبادر أشراف الكوفة إلى فسطاط النعمان فبنوه‏.‏ حذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبه وعقبة بن عمرو وجرير بن عبد الله وحنظلة الكاتب وبشير بن الخصاصية والأشعث بن قيس ووائل بن حجر وسعيد بن قيس الهمداني‏.‏ ثم تزاحفوا للقتال يوم الأربعاء والخميس والحرب سجال‏.‏ ثم أحجروهم في خنادقهم يوم الجمعة وحاصروهم أياماً وسئم المسلمون اعتصامهم بالخنادق وتشاوروا وأشار طليحة باستخراجهم للمناجزة بالاستطراد بفناشبهم القعقاع فبرزوا إليه كأنهم حبال حديد قد تواثقوا أن لا يفروا وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا‏.‏ فلما برزوا استطرد لهم حتى فارقوا الخنادق وقد ثبت لهم المسلمون ونزل الصبر ثم وقف النعمان على الكتائب وحرض المسلمين ودعا لنفسه بالشهادة‏.‏ وقال إذا كبرت الثالثة فاحملوا ثم كبر وحمل عند الزوال وتجاول الناس ساعة وركدت الحرب ثم انفض الأعاجم وانهزموا‏.‏ وقتلوا ما بين الظهر والعتمة حتى سالت أرض المعركة دمأ تزلق فيه المشاة حتى زلق فيه النعمان وصرع‏.‏ وقيل بل أصابه سهم فسجاه أخوه نعيم بثوب وتناول الراية حذيفة بعهده وتواصلوا بكتمان موته‏.‏ وذهب الأعاجم ليلاً وعميت عليهم المذاهب وعقرهم حسك الحديد ووقعوا في اللهيب الذي أعدوه في عسكرهم‏.‏ فمات منهم أكثر من مئة ألف منها نحو ثلاثين ألفا في المعركة وهرب الفيرزان بعد أن صرع إلى همذان واتبعه نعيم بن مقرن فأدركه بالثنية دونها وقد سدتها الأحمال وترجل وصعد في الجبل‏.‏ وكان نعيم قد قدم القعقاع أمامه فاعترضه وقتله المسلمون على الثنية ودخل الفل همذان وبها خسر شنوم فنزل المسلمون عليها مع نعيم والقعقاع‏.‏ ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة وغنموا ما فيها وجمعوه إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع‏.‏ وولى على الجند حذيفة بعهد النعمان إليه‏.‏ ثم جاء الهربذ صاحب بيت النار إلى حذيفة فأمنه وأخرج له صفتين مملوءتين جوهرأ نفيساً كانا من دخائل كسرى أودعهما عنده وبعث الخمس من السائب إلى عمر وأخبره بالواقعة وبالفتح ومن استشهد فبكى‏.‏ وبالصفتين فقال ضعهما في بيت المال والحق بجندك‏.‏ قال السائب‏:‏ ثم لحقني رسوله بالكوفة فردني إليه فلما رآني قال‏:‏ ما لي وللسائب ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت الملائكة تسحبني إلى السفطين يشتعلان ناراً يتواعداني بالكي إن لم أقسمهما فخذهما عني وبعهما في أرزاق المسلمين‏.‏ فبعثمهما بالكوفة من عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم وباعهما عمرو بأرض الأعاجم بضعفهما‏.‏ فكان له بالكوفة مال‏.‏ وكان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف والراجل ألفين ولم يكن للفرس بعدها اجتماع وكان أبو لؤلؤة قاتل عمر من أهل نهاوند حصل في أسر الروم وأسره الفرس منهم فكان إذا لقي سبي نهاوند بالمدينة يبكي ويقول‏:‏ أكل عمر كبدي‏.‏ وكان أبو موسى الأشعري قد حضر نهاوند على أهل البصرة فلما انصرف مر بالدينور فحاصروها خمسة أيام ثم صالحوه على الجزية‏.‏ وصار إلى أهل شيروان فصالحوه كذلك‏.‏ وبعث السائب بن الأقرع إلى العيمرة ففتحها صلحأ‏.‏ ولما اشتد الحصار بأهل همذان بعث خسرشنوم إلى نعيم والقعقاع في الصلح على قبول الجزية فأجابوه إلى ذلك‏.‏ ثم اقتدى أهل الماهين وهم الملوك الذين جاءوا لنصرة يزدجرد بأهل همذان وبعثوا إلى حذيفة فصالحوه‏.‏ وأمر عمر بالإنسياح في بلاد الأعاجم وعزل عبد الله بن عبد الله بن عتبان عن الكوفة وبعثه في وجه آخر‏.‏ وولى مكانه زياد بن حنظلة حليف لبني عبد قصي واستعفى فاعفاه‏.‏ وولى عمار بن ياسر واستدعى بن مسعود من حمص فبعثه معه معلماً لأهل الكوفة وأمدهم بأبي موسى وأمد أهل البصرة مكانه بعبد الله بن عبد الله‏.‏ ثم بعثه إلى أصبهان مكان حذيفة وولى على البصرة عمرو بن سراقة‏.‏ ثم انتقض أهل همذان فبعث إلى نعيم بن مقرن يحاصرهم وصار بعد فتحها إلى خراسان‏.‏ وبعث عتبة بن فرقد وبكر بن عبد الله إلى أذربيجان فدخل أحدهما من حلوان والآخر من الموصل ولما فضل عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى أصبهان وكان من الصحابة من وجوه الأنصار حليف بني الحبلي فأمده بأبي موسى‏.‏ وجعل على مجنبتيه عبد الله بن ورقاء الرياحي وعصمة بن عبد الله فسار إلى نهاوند‏.‏ ورجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة‏.‏ فسار عبد الله بمن معه ومن تبعه من عند النعمان نحو أصبهان وعلى جندها الأسبيدان وعلى مقدمته شهريار بن جادويه في جمع عظيم برستاق أصبهان فاقتتلوا وبارز عبد الله بن ورقاء شهريار فقتله‏.‏ وانهزم أهل أصبهان وصالحهم الأسبيدان على ذلك الرستاق‏.‏ ثم ساروا إلى أصبهان وتسمى جي وملكها الفادوسفان فصالحهم على الجزية والخيار بين المقام والذهاب وقال‏:‏ ولكم أرض من ذهب‏.‏ وقدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز فدخل معه أصبهان وكتبوا إلى عمر بالفتح‏.‏ فكتب إلى عبد الله أن يسيروا إلى سهيل بن عدي لقتال كرمان فاستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع ولحق بسهيل قبل أن يصل كرمان‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن النعمان بن مقرن حضر فتح أصبهان أرسله إليها عمر من المدينة واستجاش له أهل الكوفة فقتل في حرب أصبهان‏.‏ والصحيح أن النعمان قتل بنهاوند وافتتح أبو موسى قم وقاشان‏.‏ ثم ولى عمر على الكوفة سنة إحدى وعشرين المغيرة بن شعبة وعزل عماراً‏.‏ فتح همذان كان أهل همذان قد صالح عليهم خشرشنوم القعقاع ونعيماً وضمنهما ثم انتقض فكتب عمر إلى نعيم أن يقصدها فودع حذيفة ورجع إليها من الطريق على تعبيته‏.‏ فاستولى على بلادها أجمع حتى صالحوه على الجزية‏.‏ وقيل إن فتحها كان سنة أربع وعشرين‏.‏ فبينما نعيم يجول في نواحي همذان إذ جاءه الخبر بخروج الديلم وأهل الري واسفنديار أخو رستم بأهل أذربيجان‏.‏ فاستخلف نعيم على همذان يزيد بن قيس الهمذاني وسار إليهم فاقتتلوا وانهزم الفرس وكانت واقعتها مثل نهاوند وأعظم‏.‏ وكتبوا إلى عمر بالفتح فأمر نعيماً بقصد الري والمقام بها بعد فتحها‏.‏ وقيل إن المغيرة بن شعبة أرسل من الكوفة جرير بن عبد الله إلى همذان ففتحها صلحاً وغلب على أرضها وقيل تولاها بنفسه وجرير على مقدمته‏.‏ ولما فتح جرير همذان بعث البراء بن عازب إلى قزوين ففتح ما قبلها وسار إليها فاستنجدوا بالديلم فوعدوهم‏.‏ ثم جاء البراء في المسلمين فخرجوا لقتالهم والديلم وقوف بأعلى الجبل ينظرون فيئس أهل قزوين منهم وصالحوا البراء على صلح أبهر قبلها‏.‏ ثم غزا البراء الديلم وجيلان‏.‏ فتح الري ولما انصرف نعيم من واقعته سار إلى الري وخرج إليه أبو الفرخان من أهلها في الصلح وأبى ذلك ملكها سياوخش بن مهران بن بهرام جوبين واستمد أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان فأمروه والتقوا مع نعيم فشغلوا به عن المدينة‏.‏ وقد كان خلفهم أبو فرخان‏.‏ ودخل المدينة من الليل ومعه المنذر بن عمرو وأخو نعيم فلم يشعروا وهم مواقفون لنعيم إلا بالتكبير من ورائهم فانهزموا وقتلوا وأفاء الله على المسلمين بالري مثلما كان بالمدائن‏.‏ وصالحه أبو الفرخان الزبيني على البلاد يزل شرفهم في عقبه‏.‏ وأخرب نعيماً مدينتهم العتيقة وأمر ببناء أخرى‏.‏ وكتب إلى عمر بالفتح وصالحه أهل دنباوند على الجزية فقبل منهم‏.‏ ولما بعث بالأخماس إلى عمر كتب إليه بإرسال أخيه سويد إلى قومس ومعه هند بن عمرو الجملي فسار فلم يقم له أحد وأخذها سلماً وعسكر بها‏.‏ وكاتبه الفل الذين بطبرستان وبالمفاوز فصالحوه على الجزية ثم سار إلى جرجان وعسكر منها ببسطام وصالحه ملكها على الجزية وتلقاه مرزبان صول قبل جرجان فكان معه حتى جبل خراج‏.‏ وأراه مروجها وسدها وقيل كان فتحها سنة ثلاثين أيام عثمان‏.‏ ثم أرسل سويد إلى الأصبهبذ صاحب طبرستان على الموادعة فقبل وعقد له بذلك‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:03 PM

فتح أذربيجان
ولما افتتح نعيم الري أمره عمر أن يبعث سماك بن خرشة الأنصاري إلى أذربيجان ممدا لبكر بن عبد الله‏.‏ وكان بكر بن عبد الله عند ما سار إلى أذربيجان لقي بالجبال اسفنديار بن قرخزاد مهزوماً من واقعة نعيم معهم أبو حرود دون همذان وهو أخو رستم فهزمه بكير وأسره‏.‏ فقال له اسكني عندك فاصالح لك على البلاد وإلا فروا إلى الجبال وتركوها‏.‏ وتحصن من تحصن إلى يوم ما فأمسكه وسارت البلاد صلحاً إلا الحصون‏.‏ وقدم عليه سماك وهو في مثل ذلك وقد افتتح ما يليه وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه‏.‏ وكتب بكير إلى عمر يستأذنه في التقدم فأذن له أن يتقدم نحو الباب وأن يستخلف على ما افتتح فاستخلف عتبة بن فرقد وجمع له عمر أذربيجان كلها‏.‏ فولى عتبة سماك بن خرشة على ما افتتحه بكير‏.‏ وكان بهرام بن الفرخزاد قصد طريق عتبة وأقام به في عسكره مقتصداً بل معترضاً له‏.‏ فلقيه عتبة وهزمه وبلغ خبره إلى الإسفنديار وهو أسير عند بكير فصالحه واتبعه أهل أذربيجان كلهم‏.‏ وكتب بكير وعتبة بذلك إلى عمر وبعثوا بالأخماس فكتب عمر لأهل أذربيجان كتاب الصلح‏.‏ ثم غزا عتبة بن فرقد شهرزور والصامغان ففتحهما بعد قتال على الجزية والخراج وقتل خلقا من الأكراد وكتب إلى عمر إن فتوحي بلغت أذربيجان فولاه إياها وولى هرثمة بن عرفجة الموصل‏.‏ فتح الموصل - الباب ولما افتتح أمر عمر بكير بن عبد الله بغزو الباب والتقدم إليها بعث سراقة بن عمرو على حربها فسار من البصرة وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة وعلى إحدى مجنبتيه ابن أسيد الغفاري وعلى الأخرى بكير بن عبد الله المتقدم‏.‏ وعلى المقاسم سلمان بن ربيعة الباهلي ورد أبا موسى الأشعري إلى البصرة مكان سراقة‏.‏ ثم أمد سراقة بحبيب بن مسلمة من الجزيرة وجعل مكانه زياد بن حنظلة وسار سراقة من أذربيجان‏.‏ فلما وصل عبد الرحمن بن ربيعة في مقدمته على الباب والملك بها يومئذ من ولد شهريار الذي أفسد بني إسرائيل وأغزى الشام منهم‏.‏ فكاتبه منهم شهريار واستأمنه على أن يأتي فحضر وطلب الصلح والموادعة على أن تكون جزيته النصر والطاعة للمسلمين‏.‏ قال‏:‏ ولا تسومون الجزية فتوهنونا لعدوكم فسيره عبد الرحمن إلى سراقة فقبل منه وقال‏:‏ لا بد من الجزية على من يقيم ولا يحارب العدو فأجابوا وكتبوا إلى عمر فأجاز ذلك‏.‏ m0 ح موقان وجبال أرمينية ولما فرغ سراقة من الباب بعث أمراء إلى ما يليه من الجبال المحيطة بأرمينية فأرسل بكير بن عبد الله إلى موقان وحبيب بن مسلمة إلى تفليس وحذيفة بن اليمان إلى جبال اللات وسلمان بن ربيعة إلى الوجه الآخر‏.‏ وكتب بالخبر إلى عمر فلم يرج تمام ذلك لأنه فرج عظيم‏.‏ ثم بلغه موت سراقة واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة فأقره عمر على فرج الباب وأمره بغزو الترك ولم يفتح أحد من أولئك الأمراء إلا بكير بن عبد الله فإنه فتح موقان ثم تراجعوا على الجزية ديناراً عن كل حالم‏.‏ ولما أمر عبد الرحمن بن ربيعة بغزو الترك سار حتى جاء الباب وسار معه شهريار فغزا بلنجر وهم قوم من الترك ففروا منه وتحصنوا وبلغت خيله على مائتي فرسخ من بلنجر‏.‏ وعاد بالظفر والغنائم ولم يزل يردد الغزو فيهم إلى أيام عثمان فتذامر الترك وكانوا يعتقدون أن المسلمين لا يقتلون لأن الملائكة معهم تمنعهم فأصابوا في هذه الغزاة رجلأ من المسلمين على غرة فقتلوه وتجاسروا وقاتل عبد الرحمن فقتل وانكشف أصحابه وأخذ الراية أخوة سلمان‏.‏ فخرج بالناس ومعه أبو هريرة الدوسي فسلكوا على جيلان إلى جرجان‏.‏ فتح خراسان ولما عقدت الألوية للأمراء للإنسياح في بلاد فارس كان الأحنف بن قيس منهم بخراسان‏.‏ وقد تقدم أن يزدجر سار بعد جلولاء إلى الري وبها أبان جادويه من مرازبته فأكرهه على خاتمة‏.‏ وكتب الضحاك بما اقترح من ذخائر يزدجرد وختم عليها وبعثها إلى سعد فردها عليه على حكم الصلح الذي عقد له‏.‏ ثم سار يزدجرد والناس معه إلى أصبهان ثم إلى كرمان ثم رجع إلى مرو من خراسان فنزلها وأمن من العرب‏.‏ وكاتب الهرمزان وأهل فارس بالأهواز والفيرزان وأهل الجبال فنكثوا جميعاً وهزمهم الله وخذلهم وأذن عمر للمسلمين بالإنسياح في بلادهم‏.‏ وأمر الأمراء كما قدمناه وعقد لهم الأولوية فسار الأحنف إلى خراسان سنة ثماني عشرة وقيل اثنين وعشرين‏.‏ فدخلها من الطبسين وافتتح هراة عنوة واستخلف عليها صحار بن فلال العبدي‏.‏ ثم سار إلى مرو الشاهجان وأرسل إلى نيسابور مطرف بن عبد الله بن الشخير وإلى سرخس الحرث بن حسان‏.‏ ودرج يزدجرد من مرو الشاهجان إلى مرو الروذ فملكها الأحنف ولحقه مدد أهل الكوفة هنالك‏.‏ فسار إلى مرو الروذ واستخلف على الشاهجان حارثة بن النعمان الباهلي‏.‏ وجعل مدد الكوفة في مقدمته فالتقوا هم ويزدجرد على بلخ فهزموه وعبر النهر فلحقهم الأحنف وقد فتح الله عليهم ودخل أهل خراسان في الصلح ما بين نيسابور وطخارستان‏.‏ وولى على طخارستان ربعي بن عامر وعاد إلى مرو الروذ فنزلها وكتب إلى عمر بالفتح فكتب إليه أن يقتصر على ما ودون النهر‏.‏ وكان يزدجرد وهو بمرو الروذ قد استنجد ملوك الأمم وكتب إلى ملك الصين وإلى خاقان ملك الترك وإلى ملك الصغد‏.‏ فلما عبر يزدجرد النهر منهزماً أنجده خاقان في الترك وأهل فرغانة والصغد‏.‏ فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان فنزلا بلخ واجتمع المسلمون إلى الأحنف بمرو الروذ ونزل المشركون عليه‏.‏ ثم رحل ونزل سفح الجبل في عشرين ألفاً من أهل البصرة وأهل الكزفة وتحصن العسكران بالخنادق وأقاموا يقاتلون أياماً‏.‏ وصحبهم الأحنف ليلة وقد خرج فارس من الترك يضرب بطبلة ويتلوه اثنان كذلك‏.‏ ثم يخرج العسكر بعدهم عادة لهم فقتل الأحنف الأول ثم الثاني ثم الثالث فلما مر بهم خاقان تشاءم وتطير ورجع أدراجه فارتحل وعاد إلى بلخ‏.‏ وبلغ الخبر إلى يزدجرد وكان على مرو الشاهجان محاصراً لحارثة بن النعمان ومن معه‏.‏ فجمع خزائنه وأجمع اللحاق بخاقان على بلخ فمنعه أهل فارس وحملوه على صلح المسلمين والركون إليهم وإنهم أوفى ذمة من الترك فأبى من ذلك وقاتلهم فهزموه واستولوا على الخزائن‏.‏ ولحق بخاقان وعبروا النهر إلى فرغانة وأقام يزدجرد ببلد الترك أيام عمر كلها إلى أن كفر أهل خراسان أيام عثمان‏.‏ ثم جاء أهل فارس إلى الأحنف ودفعوا إليه الخزائن والأموال وصالحوه واغتبطوا بملكة المسلمين وقسم الأحنف الغنائم فأصاب الفارس ما أصابه يوم القادسية‏.‏ ثم نزل الأحنف بلخ وأنزل أهل الكوفة في كورها الأربع ورجع إلى مرو الروذ فنزلها وكتب بالفتح إلى عمر‏.‏ وكان يزدجرد لما عبر النهر لقي رسوله الذي بعثه إلى ملك الصين رده إليه يسأله أن يعيف له المسلمين الذين فعلوا به هذه الأفاعيل مع قلة عددهم‏.‏ ويسأل عن وفائهم ودعوتهم وطاعة أمرائهم ووقوفهم عند الحدود ومآكلهم وشرابهم وملابسهم ومراكبهم فكتب إليه بذلك كله‏.‏ وكتب إليه ملك الصين أن يسالمهم فإنهم لا يقوم لهم شيء بما قام نردبل فأقام يزدجرد بفرغانة بعهد من خاقان‏.‏ ولما وصل الخبر إلى عمر خطب الناس وقال‏:‏ ألا وإن ملك المجوسية قد ذهب فليسوا يملكون من بلادهم شبراً يضر بمسلم ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وابناءهم لينظر كيف تعملون فلا تبدلوا فيستبدل الله بكم غيركم‏.‏ فإني لا أخاف على هذه الأمة إلا أن تؤتى من قبلكم‏.‏ فتوح فارس ولما خرج الأمراء الذين توجهوا إلى فارس من البصرة افترقوا وسار كل أمير إلى جهته وبلغ ذلك أهل فارس فافترقوا إلى بلدانهم وكانت تلك هزيمتهم وشتاتهم‏.‏ وقصد مجاشع بن مسعود من الأمراء سابور وأردشيرخرت فاعترضه الفرس دونهما بتوج فقتلهم وأثخن فيهم‏.‏ وافتتح توج واستباحها وصالحهم على الجزية وأرسل بالفتح والأخماس إلى عمر سفكانت واقعة توج هذه ثانيه لواقعة العلاء بن الحضرمي عليهم أيام طاوس‏.‏ ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا فأقروا بها‏.‏ اصطخر‏:‏ وقصد عثمان بن أبي العاص اصطخر فزحفوا إليه بجور فهزمهم وأثخن فيهم وفتح جور واصطخر ووضع عليهم الجزية وأجابه الهربذ إليها‏.‏ وكان ناس منهم فروا فتراجعوا إليها وبعث بالفتح والخمس إلى عمر‏.‏ ثم فتح كازرون والنوبندجان وغلب على أرضها ولحق به أبو موسى فافتتح مدينة شيراز وأزجان على الجزية والخراج وقصد عثمان جينا ففتحها ولقي الفرس هنالك بناحية جهرم فهزمهم وفتحها‏.‏ ثم نقض شهرك في أول خلافة عثمان فبعث عثمان بن أبي العاص ابنه وأخاه الحكم وأتته الأمداد من البصرة عليهم عبيد الله بن معمر وشبل بن معبد والتقوا بأرض فارس فانهزم شهرك وقتله الحكم بن أبي العاص وقيل سوار بن همام العبدي‏.‏ وقيل أن ابن شهرك حمل على سوار فقتله‏.‏ ويقال أن اصطخر كانت سنة ثماني وعشرين وقيل تسع وعشرين‏.‏ وقيل إن عثمان بن أبي العاص أرسل أخاه الحكم من البحرين إلى فارس في ألفين فسار إلى توج وعلى مجنبتيه الجارود وأبو صفرة والد المهلب وكان كسرى أرسل شهرك في الجنود للقائهم فالتقوا بتوج وهزمهم إلى سابور وقتل شهرك وحاصروا مدينة سابور حتى صالح عليها ملكها واستعانوا به على قتال اصطخر‏.‏ ثم مات عمر رضي الله عنه وبعث عثمان بن عفان عبيد الله بن معمر مكان عثمان بن أبي العاص وأقام محاصرأ اصطخر وأراد هلك سابور الغدر به‏.‏ ثم أحضر وأصابت عبيد الله حجارة منجنيق فمات بها‏.‏ ثم فتحوا بسا ودارا بجرد‏:‏ وقصد سارية بن زنيم الكناني من أمراء الانسياح مدينة بسا ودارا بجرد فحاصرهم‏.‏ ثم استجاشوا بأكراد فارس واقتتلوا بصحراء‏.‏ وقام عمر على المنبر ونادى‏:‏ يا سارية الجبل‏!‏ يشير إلى جبل كان إزاءه أن يستند إليه‏.‏ فسمع ذلك سارية ولجأ إليه‏.‏ ثم انهزم المشركون وأصاب المسلمون مغانمهم وكان فيها صفت جوهر فاستوهبه سارية من الناس وبعث به مع الفتح إلى عمر‏.‏ ولما قدم به الرسول سأله عمر فأخبره عن كل شيء ودفع إليه السفط فأبى إلا أن يقسم على الجند فرجع به وقسمه سارية‏.‏ كرمان‏:‏ وقصد سهيل بن عدي من أمراء الانسياح كرمان ولحق به عبد الله بن عبد الله بن عتبان وحشد أهل كرمان واستعانوا بالقفص وقاتلوا المسلمين في أدنى أرضهم فهزموهم بإذن الله‏.‏ وأخذ المسلمون عليهم الطريق بل الطرق‏.‏ ودخل البشير بن عمرو العجلي إلى جيرفت وقتل في طريقه مرزبان كرمان وعبد الله بن عبد الله من مفازة شير وأصابوا ما أرادوا من إبل وشاء‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بل ورقاء الخزاعي ثم أتى الطبسين من كرمان‏.‏ ثم قدم على عمر وقال اقطعني الطبسين فأراد أن يفعل فقال إنهما رستاقان فامتنع‏.‏ سجستان‏:‏ وقصد عاصم بن عمرو من الأمراء سجستان ولحق به عبد الله بن عمير وقاتلوا أهل سجستان في أدنى أرضهم فهزموهم وحصروهم بزرنج ومخروا أرض سجستان‏.‏ ثم طلبوا الصلح على مدينتهم وأرضها‏.‏ على أن الفرات حمى ويسقي أهل سجستان على الخراج‏.‏ وكان أعظم من خراسان وأبعد فروجأ يقاتلون القندهار والترك وأمماً أخرى‏.‏ فلما كان زمن معاوية هرب الشاه من أخيه زنبيل ملك الترك إلى بلد من سجستان يدعى آمل وكان على سجستان سلم بن زياد بن أبي سفيان فعقد له وانزله آمل وكتب إلى معاوية بذلك فأقره بغير نكير‏.‏ وقال‏:‏ إن هؤلاء قوم غدر وأهون ما يجيء منهم إذا وقع اضطرب أن يغلبوا على بلاد آمل بأسرها فكان كذلك‏.‏ وكفر الشاه بعد معاوية وغلب على بلاد آمل واعتصم منه زنبيل بمكانه‏.‏ وطمع هو في زربخ فحاصرها حتى جاءت الأمداد من البصرة فاجلفوا عنها‏.‏ مكران‏:‏ وقصد الحكم بن عمرو التغلبي من أمراء الانسياح بلد مكران ولحق بها شهاب بن المخارق وجاءه سهيل بن عدي وعبد الله بن عبد الله بن عتبان وانتهوا جميعاً إلى دوين وأهل مكران على شاطئيه وقد أمدهم أهل السند بجيش كثيف ولقيهم المسلمون فهزموهم واثخنوا فيهم بالقتل واتبعوهم أياماً حتى انتهوا إلى النهر ورجعوا إلى مكران فأقاموا بها وبعثوا إلى عمر بالفتح والأخماس مع صحار العبدي وسأله عمر عن البلاد فأثنى عليها شراً فقال‏:‏ والله لا يغزوها جيش لي أبدأ‏.‏ وكتب إلى سهيل والحكم أن لا يجوز مكران أحد من جنودكما‏.‏ كان أمر أمراء الانسياح لما فصلوا إلى النواحي حتى اجتمع ببيروذ بين نهر تيري ومنادر من أهل الأهواز جموع من الأعاجم أعظمهم الأكراد وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى أن يسير إلى أقصى تخوم البصرة رداً للأمراء المنساحين‏.‏ فجاء إلى بيروذ وقاتل تلك الجموع قتالاً شديدأ وقتل المهاجر بن زياد‏.‏ ثم وهن الله المشركين فتحصنوا منه في قلة وذلة‏.‏ فاستخلف أبو موسى عليهم أخاه الربيع بن زياد وسار إلى أصبهان مع المسلمين الذين يحاصرونها حتى إذا فتحت رجع إلى البصرة‏.‏ وفتح الربيع بن زياد بيروذ وغنم ما فيها ولحق به بالبصرة وبعثوا إلى عمر بالفتح والأخماس‏.‏ وأراد ضبة بن محصن العنزي أن يكون في الوفد فلم يجبه أبو موسى فغضب وانطلق شاكياً إلى عمر بانتقائه ستين غلاماً من أبناء الدهاقين لنفسه وأنه أجاز الخطيئة بألف‏.‏ وولى زياد بن أبي سفيان أمور البصرة واعتذر أبو موسى وقبله عمر‏.‏ وكان عمر قد اجتمع إليه جيش من المسلمين فبعث عليهم سلمة بن قيس الأشجعي ودفعهم إلى الجهاد على عادته وأوصاهم‏.‏ فلقوا عدواً من الأكراد المشركين فدعوهم إلى الإسلام أو الجزية فأبوا وقاتلوهم وهزموهم وقتلوا وسبوا وقسموا الغنائم ورأى سلمة جوهراً في سفط فاسترضى المسلمين وبعث به إلى عمر فسأل الرسول عن أمور الناس حتى أخبره بالسفط فغضب وأمر به فوجىء في عنقه وقال‏:‏ أسرع قبل أن تفترق الناس ليقسمه سلمة فيهم فباعه سلمة وقسمه في الناس وكان الفص يباع بخمسة دراهم وقيمته عشرون ألفأ‏.‏ مقتل عمر وأمر الشورى وبيعة عثمان رضي الله عنه كان للمغيرة بن شعبة مولى من نصارى العجم اسمه أبو لؤلؤة وكان يشدد عليه في الخراج‏.‏ فلقي يوماً عمر في السوق فشكا إليه وقال‏:‏ أعدني على المغيرة فإنه يثقل علي في الخراج درهمين في كل يوم‏.‏ قال وما صناعتك قال‏:‏ نجار حداد نقاش‏.‏ فقال ليس ذلك بكثير على هذه الصنائع‏.‏ وقد بلغني أنك تقول أصنع رحى تطحن بالريح فاصنع لي رحى‏.‏ قال أصنع لك رحى يتحدث الناس بها أهل المشرق والمغرب‏.‏ وانصرف فقال عمر‏:‏ توعدني العلج فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة واستوت الصفوف ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر برأسين نصابه في وسطه فضرب عمر ست ضربات إحداهما تحت سرته‏.‏ وقتل كليباً بن أبي البكير الليثي وسقط عمر فاستخلف عبد الرحمن بن عوف على الصلاة‏.‏ واحتمل إلى بيته‏.‏ ثم دعا عبد الرحمن وقال أريد أن أعهد إليك‏!‏ قال فتشير علي بها‏.‏ قال لا‏!‏ قال والله لا أفعل‏.‏ قال فهبني صمتاً حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض‏.‏ ثم دعا عليا وعثمان والزبير وسعداً وعبد الرحمن معهم وقال انتظروا طلحة ثلاثاً فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم‏.‏ وناشد الله من يفضي إليه الأمر منهم أن يحمل أقاربه على رقاب الناس وأوصاهم بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم ويعفوا عن مسيئهم وأوصى بالعرب فإنهم مادة الإسلام أن تؤخذ صدقاتهم فتوضع في فقرائهم‏.‏ وأوصى بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم ثم قال‏:‏ اللهم قد بلغت لقد تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة‏.‏ ثم دعا أبا طليحة الأنصاري فقال‏:‏ قم على باب هؤلاء ولا تدع أحداً يدخل إليهم حتى يقضوا أمرهم‏.‏ ثم قال يا عبد الله بن عمر أخرج فانظر من قتلني قال يا أمير المؤمنين قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة‏.‏ قال الحمد لله الذي يجعل منيتي بيد رجل سجد لله سجدة واحدة‏.‏ ثم بعث إلى عائشة يستأذنها في دفنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فأذنت له‏.‏ ثم قال يا عبد الله إن اختلف القوم فكن مع الأكثر فإن تساووا فكن مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف‏.‏ ثم أذن للناس فدخل المهاجرون والأنصار فقال لهم‏:‏ أهذا عن ملأ منكم فقالوا معاذ الله‏!‏ وجاء علي وابن عباس فقعدا عند رأسه‏.‏ وجاء الطبيب فسقاه نبيذاً فخرج متغيراً ثم لبناً فخرج كذلك‏.‏ فقال له إعهد‏!‏ قال قد فعلت‏!‏ ولم يزل يذكر الله إلى أن توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين‏.‏ وصلى عليه صهيب وذلك لعشر سنين وستة أشهر من خلافته‏.‏ وجاء أبو طلحة الأنصاري ومعه المقداد بن الأسود‏.‏ وقد كان أمرهما عمر أن يجمعا هؤلاء الرهط الستة في مكان ويلزماهم أن يقدموا للناس من يختاروه منهم وإن اختلفوا كان الاتباع للأكثر وإن تساووا حكموا عبد الله بن عمر أو اتبعوا عبد الرحمن بن عوف‏.‏ ويؤجلهم في ذلك ثلاثاً يصلي فيها بالناس صهيب ويحضر عبد لله بن عمر معهم مشيراً ليس له شيء من الأمر وطلحة شريكهم إن قدم في الثلاث ليال‏.‏ فجمهم أبو طلحة والمقداد في بيت المسور بن مخرمة وقيل في بيت عائشة‏.‏ وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد وأقامهما وقال تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى‏.‏ ثم دار بينهم الكلام وتنافسوا في الأمر فقال عبد الرحمن أيكم يخرج منها نفسه ويجتهد فيوليها أفضلكم وأنا أفعل ذلك‏.‏ فرضي القوم وسكت علي‏.‏ فقال‏:‏ ما تقول على شريطة أن تؤثر الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم ولا تألو الأمة نصحاً وتعطينا العهد بذلك‏.‏ قال وتعطوني أنتم مواثيقكم على أن تكونوا معي على من خالف وترضوا من اخترت‏.‏ وتواثقوا ثم قال لعلي‏:‏ أنت تقول إنك أحق ممن حضر بقرابتك وسوابقك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد في نفسك فمن ترى أحق فيه بعدك من هؤلاء قال عثمان‏!‏ وخلا بعثمان فقال له مثل ذلك فقال علي‏.‏ ودار عبد الرحمن لياليه كلها يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يوافي المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس ويشيرهم إلى صبيحة الرابع‏.‏ فأتى منزل المسرور بن مخرمة وخلا فيه بالزبير وسعد أن يتركا الأمر لعلي أو عثمان‏.‏ فاتفقا على علي‏.‏ ثم قال له سعد‏:‏ بايع لنفسك وأرحنا فقال‏:‏ قد خلعت لهم نفسي على أن أختار ولم أفعل ما أردتها‏.‏ ثم استدعى عبد الرحمن علياً وعثمان فناجى كلاً منهما إلى أن رضوا بل إلى أن صلوا الصبح ولا يعلم أحد ما قالوا‏.‏ ثم جمع المهاجرين وأهل السابقة من الأنصار وأمراء الأجناد حتى غص المسجد بهم فقال‏:‏ أشيروا علي‏!‏ فأشار عمار بعلي ووافقه المقداد‏.‏ فقال ابن سرح‏:‏ إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان ووافقه عبد الله بن أبي ربيعة فتفاوضا وتشاتما ونادى سعد‏:‏ يا عبد الرحمن أفرغ قبل أن يفتتن الناس‏.‏ فقال نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً‏.‏ ثم قال لعلي‏:‏ عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده قال‏:‏ أرجو أن اجتهد بل أن أفعل بمبلغ علمي وطاقتي‏.‏ وقال لعثمان مثل ذلك فقال نعم‏!‏ فرفع رأسه إلى المسجد ويده في يد عثمان وقال‏:‏ اللهم اشهد أني قد جعلت ما في عنقي من ذلك في عنق عثمان فبايعه الناس‏.‏ ثم قدم طلحة في ذلك اليوم فأتى عثمان فقال له عثمان‏:‏ أنت على الخيار في الأمر وإن أبيت رددتها فقال‏:‏ أكل الناس بايعوك قال نعم‏!‏ قال‏:‏ رضيت ولا أرغب عما أجمع عليه‏.‏ وكانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض ومر أبو لؤلؤة بالهرمزان وبيده الخنجر الذي طعن به عمر فتناوله من يده وأطال النظر فيه ثم رده إليه‏.‏ ومعهم جفينة نصراني من أهل الحيرة‏.‏ فلما طعن عمر من الغداة قال عبد الرحمن بن أبي بكرة لعبيد الله بن عمر‏:‏ إني رأيت هؤلاء الثلاثة يتناجون فلما رأوني افترقوا وسقط منهم هذا الخنجر‏.‏ فعدا عبيد الله عليهم فقتلهم ثلاثتهم‏.‏ وأمسكهم سعد بن أبي وقاص وجاء به إلى عثمان بعد البيعة وهو في المسجد فأشار علي بقتله‏.‏ وقال عمرو بن العاص لا يقتل عمر بالأمس ويقتل ابنه اليوم‏.‏ فجعلها عثمان ديةً واحتملها وقال‏:‏ أنا وليه‏.‏ ثم قام عثمان وصعد المنبر وبايعه الناس كافة‏.‏ وولى لوقته سعد بن أبي وقاص على الكوفة وعزل المغيرة وذلك بوصية عمر لأنه أوصى بتوليه سعد وقال لم أعزله عن سوء ولا خيانة منه وقيل إنما ولاه وعزل المغيرة بعد سنة وإنما أقر لأول أمره عمال عمر كلهم‏.‏ نقض أهل الاسكندرية وفتحها لما سار هرقل إلى القسطنطينية وفارق الشام واستولى المسلمون على الإسكندرية وبقي الروم بها تحت أيديهم فاتبعوا هرقل فاستنجدوه فبعث إليهم عسكراً مع منويل الخصي ونزلوا بساحل الاسكندرية لمنعهم المقوقس من الدخول إليه فساروا إلى مصر ولقيهم عمرو بن العاص والمسلمون فهزموهم واتبعوهم إلى الإسكندرية‏.‏ وأثخنوا فيهم بالقتل وقتل قائدهم منويل الخصي وكانوا قد أخذوا في مسيرهم إلى مصر أموال أهل القرى فردها عمرو عليهم بالبينة ثم هدم سور الإسكندرية ورجع إلى مصر‏.‏ ولاية الوليد بن عقبة الكوفة وصلح أرمينيا وأذربيجان وفي سنة خمس وعشرين عزل عثمان سعداً عن الكوفة لأنه كان اقترض من عبد الله بن مسعود من بيت المال قرضاً وتقاضاه ابن مسعود فلم يوسر سعد فتلاحيا وتناجيا بالقبيح وافترقا يتلاومان وتداخلت بينهما العصبية وبلغ الخبر عثمان فعزل سعداً واستدعى الوليد بن عقبة من الجزيرة وكان على غربها منذ ولاه عمر فولاه عثمان على الكوفة فكان مكان سعد‏.‏ ثم عزل عتبة بن فرقد عن أذربيجان فنقضوا فغزاهم الوليد وعلى مقدمته عبد الله بن شبيل الأحمسي فأغار على أهل موقان والبرزند والطيلسان ففتح وغنم وسبى‏.‏ وطلب أهل كور أذربيجان الصلح فصالحهم على صلح حذيفة ثمانمائة درهم وقبض المال‏.‏ في بث سراياه وبعث سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أهل أرمينية في إثني عشر ألفا‏.‏ فسار فيها وأثخن ثم انصرف إلى الوليد وعاد الوليد إلى الكوفة وجعل طريقه على الموصل‏.‏ فلقيه كتاب عثمان بأن الروم أجلبوا على معاوية بالشام فابعث إليه رجلاً من أهل النجدة والبأس في عشرة آلاف عند قراءة الكتاب‏.‏ فبعث الوليد الناس مع سلمان بن ربيعة ثمانية آلاف ومضوا إلى الشام ودخلوا أرض الروم مع حبيب بن مسلمة فشنوا عليه الغارات وافتتحوا الحصون‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي أمد حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة هو سعيد بن العاص‏.‏ وذلك أن عثمان كتب إلى معاوية أن يغزي حبيب بن مسلمة في أهل الشام أرمينية فبعثه وحاصر قاليقلا حتى نزلوا على الجلاء أو الجزية فجلا كثيراً إلى بلاد الروم وأقام فيها فيمن معه أشهراً‏.‏ ثم بلغه أن بطريك أرميناقس وهي بلاد ملطية وسيواس وقونية إلى خليج قسطنطييية قد زحف إليه في ثمانين ألفاً فاستنجد معاوية فكتب إلى عثمان فأمر سعيد بن العاص بإمداد حبيب فأمده بسلمان في ستة آلاف وبيت الروم فهزمهم وعاد إلى قاليقلا‏.‏ ثم سار في البلاد فجاء بطريك خلاط وبيده أمان عياض بن غنم وحمل ما عليهم من المال‏.‏ فنزل حبيب خلاط ثم سار منها فصالحه صاحب السيرجان ثم صاحب أردستان ثم صالح أهل دبيل بعد الحصار ثم أهل بلاد السيرجان كلهم‏.‏ ثم أتى أهل شميشاط فحاربوه فهزمهم وغلب على حصونهم‏.‏ ثم صالحه بطريك خرزان على بلاده وسار إلى تفليس فصالحوه وفتح عدة حصون ومدن تجاورها‏.‏ وسار ابن ربيعة الباهلي إلى أران فصالح أهل البيلقان على الجزية والخراج‏.‏ ثم أهل بردعة كذلك وقراها‏.‏ وقاتل أكراد البوشنجان وظفر بهم وصالح بعضهم على الجزية وفتح مدينة شمكور وهي التي سميت بعد ذلك المتوكلية وسار سلمان حتى فتح فلية وصالحه صاحب كسكر على الجزية وملكوا شروان وسائر ملوك الجبال إلى مدينة الباب وانصرفوا‏.‏ ثم غزا معاوية الروم وبلغ عمورية ووجد ما بين إنطاكية وطرسوس من الحصون خالياً فجمع فيها العساكر حتى رجع وخربها‏.‏ وفي سنة ست وعشرين عزل عثمان عمرو بن العاص عن خراج مصر واستعمل مكانه عبد الله بن أبي سرح أخاه من الرضاعة فكتب إلى عثمان يشكو عمراً فاستقدمه واستقل عبد الله بالخراج والحرب وأمره بغزو أفريقية‏.‏ وقد كان عمرو بن العاص سنة إحدى وعشرين سار من مصر إلى برقة فصالح أهلها على الجزية ثم سار إلى طرابلس فحاصرها شهراً وكانت مكشوفة السور من جانب البحر وسفن الروم في مرساها‏.‏ فحصر القوم في بعض الأيام وانكشف أمرها لبعض المسلمين المحاصرين فاقتحموا البلد بين البحر والبيوت فلم يكن للروم ملجأ إلا سفنهم‏.‏ وارتفع الصياح فأقبل عمرو بعساكره فدخل البلد ولم تفلت الروم إلا بما خف في المراكب‏.‏ ورجع إلى مدينة صبرة وقد كانوا قد آمنوا بمنعة طرابلس فصبحهم المسلمون ودخلوها عنوة‏.‏ وكمل الفتح ورجع عمرو إلى برقة فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار جزية وكان أكثر أهل برقة لواتة وكان يقال أن البربر ساروا بعد قتل ملكهم جالوت إلى المغرب وانتهوا إلى لوبيا ومراقية كورتان من كور مصر‏.‏ فصارت زتاتة ومغيلة من البربر إلى المغرب فسكنوا الجبال وسكنت لوتة برقة وتعرف قديماً إنطابلس‏.‏ وانتشروا إلى السوس ونزلت هوارة مدينة لبدة ونزلت نفوسة مدينة صبرة وجلوا من كان هنالك من الروم‏.‏ وأقام الأفارق وهم خدم الروم وبقيتهم على صلح يؤدونه إلى من غلب عليهم إلى أن كان صلح عمرو بن العاص‏.‏ ثم إن عبد الله بن أبي سرح كان أمره عثمان بغزو إفريقية سنة خمس وعشرين‏.‏ وقال له‏:‏ إن فتح الله عليك فلك خمس الخمس من الغنائم وأمر عقبة بن نافع عبد القيس على جند وعبد الله بن نافع بن الحرث على آخر وسرحهما فخرجوا إلى إفريقية في عشرة آلاف وصالحهم أهلها على مال يؤدونه ولم يقدروا على التوغل فيها لكثرة أهلها‏.‏ ثم لما ولي عبد الله بن أبي سرح استأذن عثمان في ذلك واستمده فاستشار عثمان الصحابة فأشاروا به فجهز العساكر من المدينة وفيهم جماعة من الصحابة هم ابن عباس وابن عمر وابن عمرو بن العاص وابن جعفر والحسن والحسين وابن الزبير وساروا مع عبد الله بن أبي سرح سنة ست وعشرين‏.‏ ولقيهم عقبة بن نافع من معه من المسلمين ببرقة ثم ساروا إلى طرابلس فنهبوا الروم عندها‏.‏ ثم ساروا إلى إفريقية وبثوا السرايا في كل ناحية وكان ملكهم جرير يملك ما بين طرابلس وطنجة تحت ولاية هرقل ويحمل إليه الخراج‏.‏ فلما بلغه الخبر جمع مئة وعشرين ألفاً من العساكر ولقيهم على يوم وليلة من سبيطلة دار ملكهم وأقاموا يقتتلون ودعوه إلى الإسلام أو الجزية‏.‏ فاستكبر ولحقهم عبد الرحمن بن الزبير مدداً بعثه عثمان لما أبطأت أخبارهم‏.‏ وسمع جرجير بوصول المدد ففت في عضده وشهد ابن الزبير معهم القتال وقد غاب ابن أبي سرح وسأل عنه فقيل‏:‏ إنه سمع منادي جرجير يقول‏:‏ من قتل ابن أبي سرح فله مئة ألف دينار وأزوجه ابنتي فخاف وتأخر عن شهود القتال‏.‏ فقال له ابن الزبير تنادي أنت بأن من قتل جرجير نفلته مئة ألف وزوجته ابنته واستعملته على بلاده فخاف جرجير أشد منه‏.‏ ثم قال عبد الله بن الزبير لابن أبي سرح أن يترك جماعة من أبطال المسلمين المشاهير متأهبين للحرب ويقاتلوا الروم بباقي العسكر إلى أن يضجروا فركب عليهم في الآخرين على غرة فلعل الله ينصرنا عليهم‏.‏ ووافق على ذلك أعيان أصحابه ففعلوا ذلك روكبوا من الغد إلى الزوال وألحوا عليهم حتى اتبعوهم ثم افترقوا‏.‏ وأركب عبد الله الفريق الذين كانوا مستريحين فكبروا وحملوا حملة رجل واحد حتى غشوا الروم في خيامهم فانهزموا وقتل كثير منهم وقتل ابن الزبير جرجير وأخذت ابنته سبية فنفلها ابن الزبير وحاصر ابن أبي سرح سبيطلة ففتحها‏.‏ وكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف دينار وسهم الراجل ألف‏.‏ وبث جيوشه في البلاد إلى قفصة فسبوا وغنموا‏.‏ وبعث عسكر إلى حصن الأجم وقد اجتمع به أهل البلاد فحاصره وفتحه على الأمان‏.‏ ثم صالحه أهل إفريقية على ألفي ألف وخمسمئة ألف دينار‏.‏ وأرسل ابن الزبير بالفتح والخمس فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمئة ألف دينار وبعض الناس يقول أعطاه إياه ولا يصح وإنما أعطى ابن أبي سرح خمس الخمس من الغزوة الأولى‏.‏ ثم رجع عبد الله بن أبي سرح إلى مصر ولما بلغ هرقل أن أهل أفريقية صالحوه بذلك المال الذي أعطوه غضب عليهم وبعث بطريقاً يأخذ منهم مثل ذلك فنزل قرطاجنة وأخبرهم بما جاء له فأبوا وقالوا‏:‏ قد كان ينبغي أن يساعدنا مما نزل بنا‏.‏ فقاتلهم البطريك وهزمهم وطرد الملك الذي ولوه بعد جرجير فلحق بالشام‏.‏ وقد اجتمع الناس على معاوية بعد علي رضي الله عنه فاستجاشه على إفريقية فبعث معه معاوية بن حديج السكوني في عسكر فلما وصل الإسكندرية وهلك الرومي ومضى ابن حديج في العساكر فنزل قونية وتسرح إليه البطريق ثلاثين ألف مقاتل وقاتلهم معاوية فهزمهم معاوية وحاصر حصن جلولاء فامتنع معه حتى سقط ذات سوره فملكه المسلمون وغنموا ما فيه‏.‏ ثم بث السرايا ودوخ البلاد فأطاعوا وعاد إلى مصر‏.‏ ولما أصاب ابن أبي سرح من إفريقية ما أصاب ورجع إلى مصر خرج قسطنطين بن هرقل غازياً إلى الإسكندرية في ستمائة مركب وركب المسلمون البحر مع ابن أبي سرح ومعه معاوية في أهل الشام‏.‏ فلما تراءى الجمعان أرسوا جميعأ وباتوا على أمان والمسلمون يقرأون ويصلون‏.‏ ثم قرنوا سفنهم عند الصباح واقتتلوا ونزل الصبر واستحر القتل‏.‏ ثم انهزم قسطنطين جريحاً في فل قليل من الروم وأقام ابن أبي سرح بالموضع أياماً ثم قفل وسمى المكان ذات الصواري والغزوة كذلك لكثرة ما كان بها من الصواري‏.‏ وكانت هذه الغزاة سنة إحدى وثلاثين وقيل أربعة وثلاثين‏.‏ وسار قسطنطين إلى صقلية وعرفهم خبر الهزيمة فنكروه وقتلوه في الحمام‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:04 PM

فتح قبرص
كان أبو عبيدة لما احتضر استخلف على عمله عياض بن غنم وكان ابن عمه وخاله وقيل استخلف معاذ بن جبل‏.‏ واستخلف عياض بعده سعد بن حذيم الجمحي ومات سعيد فولى عمر مكانه عمير بن سعيد الأنصاري ومات يزيد بن أبي سفيان فجعل عمر مكانه على دمشق أخاه معاوية فاجتمعت له دمشق والأردن ومات عمر وهو كذلك وعمير على حمص وقنسرين‏.‏ ثم استعفى عمير عثمان في مرضه فأعفاه وضم حمص وقنسرين إلى معاوية ومات عبد الرحمن بن أبي علقمة وكان على فلسطين فضم عثمان عمله إلى معاوية‏.‏ فاجتمع الشام كله لمعاوية لسنتين من إمارة عثمان‏.‏ وكان يلح على عمر في غزو البحر وكان وهو بحمص كتب إليه في شأن قبرص أن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلاب قبرص وصياح دجاجهم فكتب عمر إلى عمرو بن العاص‏:‏ صف لي البحر وراكبه فكتب إليه‏:‏ هو خلق كبير يركبه خلق صغير ليس إلا السماء والماء‏.‏ إن ركد فلق القلوب وإن تحرك أزاغ العقول فكتب عمر إلى معاوية‏:‏ والذي بعث محمداً بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً‏.‏ وقد بلغني أن بحر الشام يشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذن الله كل يوم وليلة في أن يغرق الأرض فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر‏.‏ وبالله لمسلم واحد أحب إلي مما حوت الروم فإياك أن تعرض لي في ذلك‏.‏ فقد علمت ما لقي العلاء مني‏.‏ ثم كاتب ملك الروم عمر وقاربه وأقصر عن الغزو‏.‏ ثم ألح معاوية على عثمان بعده في غزو البحر فأجابه على خيار الناس وطوعهم‏.‏ فاختار الغزو جماعة من الصحابة فيهم أبو ذر وأبو الدرداء وشداد بن أوس وعبادة بن الصامت وزوجه أم حرام بنت ملحان واستعمل عليهم عبد الله بن قيس حليف بني فزارة وساروا إلى قبرص وجاء عبد الله بن أبي سرح من مصر فاجتمعوا عليها وصالحهم أهلها على سبعة آلاف دينار بكل سنة‏.‏ ويؤدون مثلها للروم ولا منعة لهم عن المسلمين ممن أرادهم من سواهم وعلى أن يكونوا عيناً للمسلمين على عدوهم ويكون طريق الغزو للمسلمين عليهم وكانت هذه الغزاة سنة ثماني وعشرين وقيل تسعة وعشرين وقيل ثلاثة وثلاثين وماتت فيها أم حرام سقطت عن دابتها حين خرجت من البحر‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها بذلك وأقام عبد الله بن قيس المحاسبي على البحر فغزا خمسين غزاة لم ينكب فيها أحد إلى أن نزل في بعض أيام في ساحل المرقى من أرض الروم فثاروا إليه فقتلوه ونجا الملاح وكان قد استخلف سفيان بن عوف الأزدي على السفن فجاء إلى أهل المرقى وقاتلهم حتى قتل وقتل معه جماعة‏.‏ ولاية ابن عامر على البصرة وفتوح فارس وخراسان وفي السنة الثالثة من خلافة عثمان خرج أبو موسى من البصرة غازياً إلى أهل آمد والأكراد لما كفروا وحمل ثقله على أربعين بغلة من القصر بعد أن كان حض على الجهاد مشياً‏.‏ فألب الناس عليه ومضوا إلى عثمان فاستعفوه منه‏.‏ وتولى كبر ذلك غيلان بن جرشة فعزله عثمان وولى عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس وهو ابن خال عثمان وكان ابن خمس وعشرين سنة‏.‏ وجمع له جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص من عمان والبحرين‏.‏ فصرف عبيد الله بن معمر عن خراسان وبعثه إلى فارس وولى على خراسان مكانه عمير بن عثمان بن سعد فأثخن فيها حتى بلغ فرغانة‏.‏ ولم يدع كورة إلا أصلحها‏.‏ ثم ولى عليها سنة أربع أمير بن أحمر اليشكري وعلى كرمان عبد الرحمن بن عبيس‏.‏ واستعمل على سجستان في سنة أربع عمران بن الفضيل البرجمي وعلى كرمان عاصم بن عمرو فجاشت فارس وانتقضت بعبيد الله بن عمرو وجمعوا له فلقيهم بباب اصطخر فقتل عبيد الله وانهزم جنده وبلغ الخبر عبد الله بن عامر فاستنفر أهل البصرة‏.‏ وسار بالناس وعلى مقدمته عثمان بن أبي العاص وفي المجنبتين أبو برزة الأسلمي ومعقل بن يسار وعلى الخيل عمران بن حصين ولقيهم باصطخر‏.‏ فقتل منهم مقتلة عظيمة وانهزموا وفتح اصطخر عنوةً وبعدها دارا بجرد‏.‏ وسار إلى مدينة جور وهي أردشيرخرت وكان هرم بن حيان محاصراً لها فلما جاء ابن عامر فتحها ثم عاد إلى اصطخر وقد نقضت فحاصرها طويلاً ورماها بالمجانيق واقتحمها عنوة ففني فيها أكثر أهل البيوتات والأساورة لأنهم كانوا لجأوا إليها ووطىء أهل فارس وطأة لم يزالوا منها في ذل‏.‏ وكتب إلى عثمان بالفتح فكتب إليه أن يستعمل على كور فارس هرم بن حيان اليشكري وهرم بن حيان العبسي والخريت بن راشد وأخاه المنجاب من بني سلمة والبرجمان الهجيمي‏.‏ وأن يفرق كور خراسان بين ستة نفر‏:‏ الأحنف بن قيس على المرو وحبيب بن قرط اليربوعي على بلخ وخالد بن عبد الله بن زهير على هراة وأمير بن أحمر اليشكري على طوس وقيس بن هبيرة السلمي على نيسابور‏.‏ ثم جمع عثمان خراسان كلها لقيس واستعمل أمير بن أحمر اليشكري على سجستان ثم بعده عبد الرحمن بن سمرة من قرابة ابن عامر بن كريز‏.‏ فلم يزل عليها حتى مات عثمان وعمران على كرمان وعمير بن عثمان بن مسعود على فارس وابن كريز القشيري على مكران‏.‏ وخرج على قيس بن هبيرة بعد موت عثمان ابن عمه عبد الله بن حازم كما نذكره‏.‏ ولما افتتح ابن عامر فارس أشار عليه الناس بقصد خراسان وكانوا قد انتقضوا فسار إليها وقيل عاد إلى البصرة واستخلف على فارس شريك بن الأعور الحارثي فبنى مسجدها‏.‏ فلما دخل البصرة أشار عليه الأحنف بن قيس وحبيب بن أوس بالمسير إلى خراسان فتجهز واستخلف على البصرة زياد بن أبيه وسار إلى كرمان وقد نكثوا فبعث لحربهم مجاشع بن مسعود السلمي ولحرب سجستان الربيع بن زياد الحارثي‏.‏ وسار هو إلى حوالي نيسابور‏.‏ وتقدمهم الأحنف بن قيس إلى الطبسين حصنان هما بابا خراسان فصالحه أهلها وسار إلى قوهستان فقاتل أهلها حتى أحجرهم في حصنهم ولحقه ابن عامر فصالحوه على ستمائة ألف درهم‏.‏ وقيل كان المتولي حرب قوهستان أمير بن أحمر اليشكري‏.‏ ثم بعث ابن عامر السرايا إلى أعمال نيسابور ففتح رستاق رام عنوة وباخرز وجيرفت عنوة‏.‏ وبعث الأسود بن كلثوم بن عدي الرباب وكان ناسكاً إلى بيهق من أعمالها‏.‏ فدخل البلد من ثلمة كانت في سورها وقاتل حتى قتل وظفر أخوه أدهم بالبلد‏.‏ وفتح ابن عامر بشت بالشين المعجمة من أعمال نيسابور ثم اسفارين ثم قصد نيسابور‏.‏ وبعدها استولى على أعمالها فحاصرها شهراً وكان بها أربع مرازبة من فارس فسأل واحد منهم الأمان على أن يدخلهم ليلاً وفتح لهم الباب وتحصن الأكبر منهم في حصنها حتى صالح على ألف ألف درهم‏.‏ وولى ابن عامر على نيسابور قيس بن الهيثم السلمي‏.‏ وبعث جيشاً إلى نساوابورد‏.‏ فصالحهم أهلها وآخر إلى سرخس فصالحوا مرزبانها على أمان مئة رجل لم يدخل فيها نفسه فقتله واقتحمها عنوة‏.‏ وجاء مرزبان طوس فصالحه على ستمائة ألف درهم وبعث جيشاً إلى هراة مع عبد لله بن حازم فصالح مرزبانها على ألف ألف درهم‏.‏ ثم بعث مرزبان مرو فصالح على ألف ألف ومائتي ألف‏.‏ وأرسل إليه ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي ثم بعث الأحنف بن قيس إلى طخارستان فصالح في طريقه رستاقاً على ثلاثمائة ألف وعلى أن يدخل رجل يؤذن فيه ويقيم حتى ينصرف‏.‏ ومر إلى مرو الروذ وزحف إليه أهلها فهزمهم وحاصرهم وكان مرزبانها من أقارب باذان صاحب اليمن فكتب إلى الأحنف متوسلاً بذلك في الصلح فصالحه على ستمائة ألف‏.‏ ثم اجتمع أهل الجوزجان والطالقان والفارياب في جمع عظيم ولقيهم الأحنف فقاتلهم قتالاً شديداً ثم انهزموا فقتلوا قتلاً ذريعاً‏.‏ ورجع الأحنف إلى مرو الروذ وبعث الأقرع بن حابس إلى فلهم بالجوزجان فهزمهم وفتحها عنوة‏.‏ ثم فتح الأحنف الطالقان صلحأ والفارياب صلحاً‏.‏ وقيل بل فتحها أمير بن أحمر‏.‏ ثم سار الأحنف إلى بلخ وهي مدينة طخارستان فصالحوه على أربعمائة ألف وقيل سبعمائة واستعمل عليها أسيد بن المنشمر‏.‏ ثم سار إلى خوارزم على نهر جيحون فامتنعت عليه فرجع إلى بلخ وقد استوفى أسيد قبض المال وكتبوا إلى ابن عامر‏.‏ ولما سار مجاشع بن مسعود إلى كرمان كما ذكرناه وكانوا قد انتقضوا ففتح هميد عنوة وبنى بها قصراً ينسب إليه‏.‏ ثم سار إلى السيرجان وهي مدينة كرمان فحاصرها وفتحها عنوة وجلى كثيراً من أهلها‏.‏ ثم فتح جيرفت عنوة ودوخ نواحي كرمان وأتى القفص وقد تجمع له من العجم من أهل الجلاء‏.‏ وقاتلهم فظفر وركب كثير منهم البحر إلى كرمان وسجستان‏.‏ ثم نزل العرب إلى منازلهم وأراضيهم وسار الربيع بن زياد الحارثي بولاية ابن عامر كما قدمناه إلى سجستان فقطع المفازة من كرمان حتى أتى حصن زالق فأغار عليهم يوم المهرجان وأسر دهقانهم فافتدى بما غمر عنزة قاعة من الذهب والفضة صالحوه على صلح فارس وصار إلى زريخ ولقبه المشركون دونها فهزمهم وقتلهم وفتح حصوناً عدة بينها وبينه‏.‏ ثم انتهى إليها وقاتله أهلها فاحجرهم وحاصرهم وبعث مرزبانها في الأمان ليعضد فأمنه وجلس له على شلو من أشلاء القتلى وارتفق بآخر وفعل أصحابه مثله‏.‏ فرعب المرزبان من ذلك وصالح على ألف جام من الذهب يحملها ألف وصيف‏.‏ ودخل المسلمون المدينة ثم سار منها إلى وادي سنارود فعبره إلى القرية التي كان رستم الشديد يربط بها فرسه فقاتلهم وظفر بهم وعاد إلى زريخ فأقام بها سنة ثم سار بها إلى ابن عامر واستخلف عليها عاملاً فأخرجوه وامتنعوا‏.‏ فكانت ولاية الربيع سنة ونصف سنة سبى فيها أربعين ألف رأس وكان الحسن البصري يكتب له‏.‏ ثم استعمل عامر على سجستان عبد الرحمن بن سمرة فسار إليها وحاصر زريخ حتى صالحوه على ألفي ألف درهم وألفي وصيف وغلب على ما بينهما وبين الكش من ناحية الهند وعلى ما بينها وبين الدادين من ناحية المرجح‏.‏ ولما انتهى إلى بلد الدادين حاصرهم في بلد الزور حتى صالحوه ودخل على الزور وهو صنم من ذهب عيناه ياقوتتان‏.‏ فأخذهما وقطع يده وقال للمرزبان‏:‏ دونك الذهب والجوهر وإنما قصدت أنه لا يضر ولا ينفع‏.‏ ثم فتح كامل وزابلستان وهي بلاد فتحها صلحاً‏.‏ ثم عاد إلى زريخ إلى أن اضطرب أمر عثمان فاستخلف عليها أمير بن أحمر وانصرف فأخرجه أهلها وانتقضوا‏.‏ ولما كمل الفتح لابن عامر في فارس وخراسان وكرمان سجستان قال له الناس‏:‏ لم يفتح لأحد ما فتح عليك فقال‏:‏ لا جرم لأجعلن شكري لله على ذلك أن أخرج محرماً من موقفي هذا‏.‏ فاحرم بعمرة من نيسابور‏.‏ وقدم على عثمان واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم فسار قيس في أرض طخارستان ودوخها وامتنع عليه أهل سنجار وافتتحها ولاية سعيد بن العاص الكوفة كان عثمان لأول ولايته قد ولى على الكوفة الوليد بن عقبة استقدمه إليها من عمله بالجزيرة وعلى بني تغلب وغيرهم من العرب‏.‏ فبقي على ولاية الكوفة خمس سنين وكان أبو زبيد الشاعر قد انقطع إليه من أخواله بني تغلب ليد أسداها إليه وكان نصرانياً فأسلم على يده وكان يغشاه بالمدينة والكوفة‏.‏ وكان أبو زبيد يشرب الخمر وكان بعض السفهاء يتحدث بذلك في الوليد لملازمته إياه‏.‏ ثم عدا الشباب من الأزد بالكوفة على رجل من خزاعة فقتلوه ليلاً في بيته وشهد عليهم أبو شريح الخزاعي فقتلهم الوليد فيه بالقسامة‏.‏ وأقام آباءهم للوليد على حقه وكانوا ممن يتحدثون فيه وجاءوا إلى ابن مسعود بمثل ذلك‏.‏ فقال‏:‏ لا نتبع عورة من استتر عنا‏.‏ وتغيض الوليد من هذه المقالة وعاتب ابن مسعود عليها‏.‏ ثم عمد أحد أولئك المرهط إلى ساحر قد أتى به الوليد فاستفتى ابن مسعود فيه وافتى بقتله‏.‏ وحبسه الوليد ثم أطلقه فغضبوا وخرجوا إلى عثمان شاكين من الوليد وإنه يشرب الخمر‏.‏ فاستقدمه عثمان وأحضره وقال رأيتموه يشرب قالوا لا وإنما رأيناه يقيء الخمر‏.‏ فأمر سعيد بن العاص فجلده وكان علي حاضراً فقال‏:‏ انزعوا خميصته للجلد‏.‏ وقيل أن علياً أمر ابنه الحسن أن يجلده فأبى فجلده عبد الله بن جعفر‏.‏ فلما بلغ أربعين قال أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة‏.‏ ولما وقعت هذه الوقعة عزل عثمان الوليد عن الكوفة وولى مكانه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية مات سعيد الأول كافرأ وكان يكنى أحيحة وخالد ابنه عم سعيد الثاني ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صنعاء وكان يكتب له واستشهد يوم مرج الصفر‏.‏ وربي سعيد الثاني في حجر عثمان فلما فتح الشام أقام مع معاوية ثم استقدمه عثمان وزوجه وأقام عنده حتى كان من رجال قريش‏.‏ فلما استعمله عثمان وذلك سنة ثلاثين سار إلى الكوفة ومعه الأشتر وأبو خيفة الغفاري وجندب بن عبد الله والصعب بن جثامة وكانوا شخصوا مع الوليد ليعينوه فصاروا عليه‏.‏ فلما وصل خطب الناس وحذرهم وتعرف الأحوال وكتب إلى عثمان أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم وغلب الروادف والتابعة على أهل الشرف والسابقة‏.‏ فكتب إليه عثمان أن يفضل أهل السابقة ويجعل من جاء يعدهم تبعأ ويعرف لكل منزلته ويعطيه حقه‏.‏ فجمع الناس وقرأ عليهم كتاب عثمان وقال‏:‏ أبلغوني حاجة في الحاجة‏.‏ وجعل القراء في سمرة فلم ترض أهل الكوفة ذلك وفشت المقالة وكتب سعيد إلى عثمان فجمع الناس واستشارهم فقالوا أصبت لا تطمع في الأمور من ليس لها بأهل فتفسد فقال‏:‏ يا أهل المدينة‏!‏ إني أرى الفتن دبت إليكم‏.‏ وإني أرى أن أتخلص الذي لكم وانقله إليكم من العراق فقالوا وكيف ذلك قال تبيعونه ممن شئتم بمالكم في الحجاز واليمن ففعلوا ذلك واستخلصوا ما كان لهم بالعراق منهم طلحة ومروان والأشعث بن قيس ورجال من القبائل اشتروا ذلك بأموال كانت لهم بخيبر ومكة والطائف‏.‏ غزو طبرستان وفي هذه السنة غزا سعيد بن العاص طبرستان ولم يغزها أحد قبله‏.‏ وقد تقدم إن الأصبهبذ صالح سويد بن مقرن عنها أيام عمر على مال فغزاها سعيد في هذه السنة ومعه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الحسن والحسين وابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن الزبير وحذيفة بن اليمان في غيرهم‏.‏ ووافق خروج ابن عامر من البصرة إلى خراسان فنزل نيسابور ونزل سعيد قومس وهي صلح كان حذيفة صالحهم عليه بعد نهاوند فأتى سعيد جرجان فصالحوه على مائتي ألف ثم أتى متاخماً جرجان على البحر فقاتله أهلها‏.‏ ثم سألوا الأمان فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً‏.‏ وفتحوا فقتلهم أجمعين إلا رجلاً وقتل معهم محمد بن الحكم بن أبي عقيل جد يوسف بن عمرو وكان أهل جرجان يعطون الخراج تارةً مئة ألف وأخرى مائتين وثلاثمائة وربما منعوه‏.‏ ثم امتنعوا وكفروا فانقطع طريق خراسان من ناحية قومس إلا على خوف شديد‏.‏ وصار الطريق إلى خراسان من فارس كما كان من قبل حتى ولي قتيبة بن مسلم خراسان وقدمها يزيد بن المهلب فصالح المرزبان وفتح البحيرة ودهستان وصالح أهل جرجا على صلح سعيد‏.‏ غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف وفي سنة ثلاثين هذه صرف حذيفة من غزو الري إلى غزو الباب مدداً لعبد الرحمن بن ربيعة وأقام له سعيد بن العاص بأذربيجان ردءاً حتى عاد بعد مقتل عبد الرحمن كما مر فأخبره بما رأى من اختلاف أهل البلدان في القرآن وأن أهل حمص يقولون‏:‏ قراءتنا خير من قراءة غيرنا وأخذناها عن المقداد وأهل دمشق يقولون كذلك وأهل البصرة عن أبي موسى وأهل الكوفة عن ابن مسعود‏.‏ وأنكر ذلك واستعظمه وحذر من الاختلاف في القرآن ووافقه من حضر من الصحابة والتابعين وأنكر عليه أصحاب ابن مسعود فأغلظ عليهم وخطأهم فأغلظ له ابن وسار حذيفة إلى عثمان فأخبره وقال‏:‏ أنا النذير العريان فأدرك الأمة‏.‏ فجمع عثمان الصحابة فرأوا ما رآه حذيفة فأرسل عثمان إلى حفصة أن ابعثي إلينا بالصحف ننسخها وكانت هذه الصحف هي التي كتبت أيام أبي بكر فإن القتل لما استحر في القراء يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر‏:‏ أرى أن تأمر بجمع القرآن لئلا يذهب الكثير منه لفناء القراء فأبى أولاً وقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله‏.‏ ثم استبصر ورجع إلى رأي عمر وأمر زيد بن ثابت بجمعه من الرقاع والعسب وصدور الرجال‏.‏ وكتب في الصحف فكانت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة‏.‏ وأرسل عثمان فأخذها‏.‏ وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف وقال‏:‏ إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش ففعلوا ونسخوا المصاحف فبعث إلى كل أفق بمصحف يعتمد عليه وحرق ما سوى ذلك فقبل ذلك الصحابة في سائر الأمصار ونكره عبد لله بن مسعود في الكوفة حتى نهاهم عن ذلك وحملهم عليه‏.‏ مقتل يزدجرد لما خرج ابن عامر من البصرة إلى فارس وافتتحها هرب يزدجرد من جور وهي أردشير خره في سنة ثلاثين فبعث ابن عامر في أثره مجاشع بن مسعود وقيل هرم بن حيان اليشكري وقيل العنسي فاتبعه إلى كرمان فهرب إلى خراسان‏.‏ وهلك الجند في طريقهم بالثلج فلم يسلم إلا مجاشع ورجل معه وكان مهلكهم على خمسة فراسخ من السيرجان‏.‏ ولحق يزدجرد بمرو ومعه خرزاذ أخو رستم فرجع عنه إلى العراق ووصى به ما هو به مرزبان مرو فسأله في المال فمنعه وخافه على نفسه وعلى مرو‏.‏ واستجاش الترك فبيتوه وقتل أصحابه وهرب يزدجرد ماشياً إلى شط المرغاب وآوى إلى بيت رجل ينقل الأرحاء فلما نام قتله ورماه في النهر وقيل إنما بيته أهل مرو‏.‏ ولما جاءوا إلى بيت لرجل أخذوه وضربوه فأقر بقتله فقتلوه وأهله واستخرجوا يزدجرد من النهر وحملوه في تابوت إلى اصطخر فدفن في ناوس هنالك‏.‏ وقيل إن يزدجرد هرب من وقعة نهاوند إلى أرض أصبهان واستأذن عليه بعض رؤسائها وحجب فضرب البواب وشجه فرحل عن أصبهان إلى الري‏.‏ وجاء صاحب طبرستان وعرض عليه بلاده فلم يجبه ومضى من فوره ذلك إلى سجستان ثم إلى مرو في ألف فارس‏.‏ وقيل بل أقام بفارس أربع سنين ثم بكرمان سنتين وطلبه دهقانها في شيء منعه فطرده عن بلاده‏.‏ وأقام بسجستان خمس سنين ثم نزل خراسان ونزل مرو ومعه الرهن من أولاد الدهاقين وفرخزاذ وكاتب ملوك الصين‏.‏ وفرغانة والخزار وكابل، وكان دهقان مرو قد منعه الدخول خوفاً من مكره ووكل ابنه بحفظ الأبواب فعمد يزدجرد يومأ إلى مرو ليدخلها فمنعه ابن الدهقان وأظهر عصيان أبيه في ذلك‏.‏ وقيل بل أراد يزدجرد أن يجعل ابن أخيه دهقاناً عليها فعمل في هلاكه وكتب إلى نيزك طرخان يستقدمه لقتل يزدجرد ومصالحة العرب عليه وأن يعطيه في اقتناعه كل يوم ألف درهم كتب نيزك إلى يزدجرد يعده المساعدة على العرب وإنه يقدم عليه فيلقاه منفرداً عن العسكر وعن فرخزاذ فأجابه إلى ذلك بعد أن امتنع فرخزاذ واتهمه يزدجرد في امتناعه فتركه لشأنه بعد أن أخذ خطه برضاه بذلك‏.‏ وسار إلى نيزك فاستقبله بأشياء وجاء به إلى معسكره ثم سأله أن يزوجه ابنته فأنف يزدجرد من ذلك وسبه‏.‏ فعلا رأسه بالمقرعة فركض منهزمأ وقتل أصحابه وانتهى إلى بيت طحان فمكث فيه ثلاثاً لم يطعم ثم عرض عليه الطعام فقال لا أطعم إلا بالزمزمة فسأل من زمزم له حتى أكل ووشى المزمزم بأمره إلى بعض الأساورة فبعث إلى الطحان بخنفه وإلقائه في النهر فأبى من ذلك وجحده فدل عليه ملبسه وعرف المسك فيه فأخذوا ما عليه وخنقوه وألقوه في الماء فجعله أسقف مرو في تابوت ودفنه‏.‏ وقيل بل سار يزدجرد من كرمان قبل وصول العرب إليها إلى مرو في أربعة آلاف على الطبسين وقهستان ولقيه قبل مرو قائدان من الفرس متعاديين فسعى أحدهما في الآخر ووافقه يزدجرد في قتله ونمى الخبر إليه فبيت يزدجرد وعدوه فهرب إلى رحى على فرسخين من مرو وطلب منه الطحان شيئاً فأعطاه منطقته‏.‏ فقال إنما أحتاج إلى أربعة دراهم فقال‏:‏ ليست معي ثم نام فقتله الطحان وألقى شلوه في الماء‏.‏ وبلغ خبر قتله إلى المطران بمرو فجمع النصارى وعظم عليهم من حقوق سلفه فدفنوه وبنوا له ناووساً وأقاموا له مأتماً بعد عشرين سنة من ملكه ستة عشر منها في محاربة العرب‏.‏ وانقرض ملك الساسانية بموته‏.‏ ويقال‏:‏ إن قتيبة حين فتح الصغد وجد جاريتين من ولد المخدج ابنه قد وطئا أمه بمرو فولدت هذا الغلام بعد موته ذاهب الشق فسمي المخدج وولد له أولاد بخراسان‏.‏ وجد قتيبة هاتين الجاريتين من ولده فبعث بهما إلى الحجاج وبعث بهما إلى الوليد أو بأحدهما فولدت له يزيد الناقص‏.‏ ظهور الترك بالثغور كان الترك والخزر يعتقدون أن المسلمين لا يقتلون لما رأوا من شدتهم وظهورهم في غزواتهم حتى أكمنوا لهم في بعض الغياض فقتلوا بعضهم فتجاسروا على حربهم‏.‏ وكان عبد الرحمن بن ربيعة على ثغور أرمينيا إلى الباب استخلفه عليها سراقة بن عمر وأقره عمر وكان كثير الغزو في بلاد الخزر وكثيراً ما كان يغزو بلنجر وكان عثمان قد نهاه عن ذلك فلم يرجع‏.‏ فغزاهم سنة اثنين وثلاثين وجاء الترك لمظاهرتهم وتذامروا فاشتدت الحرب بينهم‏.‏ وقتل عبد الرحمن كما مر وافترقوا فرقتين‏:‏ فرقة سارت نحو الباب لقوا سلمان بن ربيعة قد بعثه سعيد بن العاص من الكوفة مدداً للمسلمين بأمر عثمان فساروا معه وفرقة سلكوا على جيلان وجرجان فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة‏.‏ ثم استعمل سعيد بن العاص على الباب سلمان بن ربيعة مكان أخيه وبعث معه جندأ من أهل الكوفة حذيفة بن اليمان وأمدهم عثمان بحبيب بن مسلمة في جند الشام وسلمان أمير على الجميع‏.‏ ونازعه حبيب الأمارة فوقع الخلاف‏.‏ ثم غزا حذيفة بعد ذلك ثلاث غزوات عند آخرها مقتل عثمان‏.‏ وخرجت جموع الترك سنة اثنين وثلاثين من ناحية خراسان في أربعين ألفا عليهم قارن من ملوكهم فانتهوا إلى الطبسين‏.‏ واجتمع له أهل بادغيس وهراة وقهستان وكان على خراسان يومئذ قيس بن الهيثم السلمي استخلفه عليها ابن عامر عند خروجه إلى مكة محرماً فدوخ جهتها وكان معه ابن عمه عبد الله بن حازم فقال لابن عامر‏:‏ اكتب لي على خراسان عهداً إذا خرج منها قيس ففعل فلما أقبلت جموع الترك قال قيس لابن حازم‏:‏ ما ترى قال أرى أن تخرج عن البلاد فإن عهد ابن عامر عندي بولايتها فترك منازعته وذهب إلى ابن عامر‏.‏ وقيل أشار عليه أن يخرج إلى ابن عامر يستحده فلما خرج أظهر عهد ابن عامر له بالولاية عند مغيب قيس‏.‏ وسار ابن حازم للقاء الترك في أربعة آلاف ولما التقى الناس أمر جيشه بإيقاد النار في أطراف رحالهم فهاج العدو على دهش وغشيهم ابن حازم بالناس متتابعين فانهزموا وأثخن لم المسلمون فيهم بالقتل والسبي‏.‏ وكتب ابن حازم بالفتح إلى ابن عامر فأقره على خراسان فلم يزل والياً عليها إلى حرب الجمل‏.‏ فأقبل إلى البصرة‏.‏ وبقي أهل البصرة بعد غزوه ابن حازم هذه حتى غزوا المنتقضين من أهلها وعادوا جهزوا كتيبة من أربعة آلاف فارس هنالك‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:05 PM

الجزء الثاني

بدء الانتقاض على عثمان رضي الله عنه
لما استكمل الفتح واستكمل للملة الملك ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم بين الأمم من البصرة والكوفة والشام ومصر وكان المختصون بصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والإقتداء بهديه وآدابه المهاجرين والأنصار من قريش وأهل الحجاز ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم‏.‏ وأما سائر العرب من بني بكر بن وائل وعبد القيس وسائر ربيعة والأزد وكندة وتميم وقضاعة وغيرهم فلم يكونوا من تلك الصحبة بمكان إلا قليلاً منهم وكان لهم في الفتوحات قدم‏.‏ فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السابقة من الصحابة ومعرفة حقهم وما كانوا فيه من الذهول والدهش لأمر النبوة وتردد الوحي وتنزل الملائكة فلما انحسر ذلك العباب وتنوسي الحال بعض الشيء وذل العدو واستفحل الملك‏.‏ كانت عروق الجاهلية تنبض ووجدوا الرياسة عليهم للمهاجرين والأنصار من قريش وسواهم فأنفت نفوسهم منه ووافق أيام عثمان فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار والمؤاخذة لهم باللحظات والخطرات والإستبطاء عليهم في الطاعات والتجني بسؤال الإستبدال منهم والعزل ويفيضون في النكير على عثمان‏.‏ وفشت المقالة في ذلك من اتباعهم وتنادوا بالظلم من الأمراء في جهاتهم وانتهت الأخبار بذلك إلى الصحابة بالمدينة فارتابوا لها وأفاضوا في عزل عثمان وحمله على عزل أمرائه‏.‏ وبعث إلى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر‏:‏ محمد بن مسلمة إلى الكوفة وأسامة بن زيد إلى البصرة وعبد الله بن عمر إلى الشام وعمار بن ياسر إلى مصر وغيرهم إلى سوى هذه‏.‏ فرجعوا إليه فقالوا‏:‏ ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامهم إلا عماراً فإنه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه منهم عبد الله بن سبأ ويعرف بابن السواد كان يهودياً وهاجر أيام عثمان فلم يحسن إسلامه وأخرج من البصرة فلحق بالكوفة ثم بالشام وأخرجوه فلحق بمصر وكان يكثر الطعن على عثمان ويدعو في السر لآهل البيت ويقول‏:‏ إن محمداً يرجع كما يرجع عيسى‏.‏ وعنه أخذ ذلك أهل الرجعة وإن علياً رضي الله عنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لم يجز وصيته وإن عثمان أخذ الأمر بغير حق ويحرض الناس على القيام في ذلك والطعن على الأمراء‏.‏ فاستمال الناس بذلك في الأمصار وكاتب به بعضهم بعضاً‏.‏ وكان معه خالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر فثبطوا عماراً عن المسير إلى المدينة‏.‏ وكان مما انكروه على عثمان إخراج أبي ذر من الشام ومن المدينة إلى الربذة‏.‏ وكان الذي دعا إلى ذلك شدة الورع من أبي ذر وحمله الناس على شدائد الأمور والزهد في الدنيا وإنه لا ينبغي لأحد أن يكون عنده أكثر من قوت يومه ويأخذ بالظاهر في ذم الإدخار بكنز الذهب والفضة‏.‏ وكان ابن سبأ يأتيه فيغريه بمعاوية ويعيب قوله‏:‏ المال مال الله‏.‏ ويوهم أن في ذلك احتجانه للمال وصرفه على المسلمين حتى عتب أبو ذر في ذلك معاوية فاستعتب له وقال‏:‏ سأقول ما للمسلمين‏.‏ وأتى ابن سبأ إلى أبي الدرداء وعبادة بن الصامت بمثل ذلك ولما كثر ذلك على معاوية شكاه إلى عثمان فاستقدمه وقال له‏:‏ ما لأهل الشام يشكون منك فأخبره فقال‏:‏ يا أبا ذر لا يمكن حمل الناس على الزهد وإنما علي أن أقضي بينهم بحكم الله وأرغبهم في الإقتصاد فقال أبو ذر‏:‏ لا نرضى من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا للجيران والإخوان ويصلوا القرابة‏.‏ فقال له كعب الأحبار‏:‏ من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه فضربه أبو ذر فشجه وقال‏:‏ يا ابن اليهودية ما أنت وهذا فاستوهب عثمان من كعب شجته فوهبه‏.‏ ثم استأذن أبو ذر عثمان في الخروج من المدينة وقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعاً فأذن له‏.‏ ونزل الربذة وبنى بها مسجداً وأقطعه عثمان صرمةً من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه رزقاً وكان يتعاهد المدينة‏.‏ فعد أولئك الرهط خروج أبي ذر فيما ينقمونه على عثمان مع ما كانوا يعدون عليه من إعطاء مروان خمس مغانم إفريقية والصحيح أنه اشتراه بخمسمائة ألف فوضعها عنه‏.‏ ومما عدوا عليه أيضاً زيادة النداء الثالث على الزوراء يوم الجمعة وإتمامه الصلاة في منى وعرفة مع أن الأمر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده كان على القصر‏.‏ ولما سأله عبد الرحمن واحتج عليه بذلك قال له‏:‏ بلغني أن بعض حاج اليمن والجفاة جعل صلاة المقيم ركعتين من أجل صلاتي وقد اتخذت بمكة أهلاً ولي بالطائف مال‏.‏ فلم يقبل ذلك عبد الرحمن فقال‏:‏ زوجتك بمكة إنما تسكن بسكناك ولو خرجت خرجت ومالك بالطائف على أكثر من مسافة القصر‏.‏ وأما حاج اليمن فقد شهدوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده وقد كان الإسلام ضرب بجرانه‏.‏ فقال عثمان‏:‏ هذا رأي رأيته‏.‏ فمن الصحابة من تبعه على ذلك ومنهم من خالفه‏.‏ ومما عدوا عليه سقوط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من يده في بئر أريس على ميلين من المدينة فلم يوجد‏.‏

وأما الحوادث التي وقعت في الأمصار
فمنها قصة الوليد بن عقبة وقد تقدم ذكرها وإنه عزله على شرب الخمر واستبدله بسعيد بن العاص منه‏.‏ وكان وجوه الناس وأهل القادسية يسمرون عنده مثل مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس من النخع وثابت بن قيس الهمداني وجندب بن زهير العامري وجندب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعي وصعصعة بن صوحان وأخوه زيد وابن الكواء وكميل بن زياد وعمير بن ضابىء وطليحة بن خويلد‏.‏ وكانوا يفيضون في أيام الوقائع وفي أنساب الناس وأخبارهم وربما ينتهون إلى الملاحاة ويخرجون منها إلى المشاتمة والمقاتلة ويعذلهم في ذلك حجاب سعيد بن العاص فيهزمونهم ويضربونهم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن سعيداً قال يوماً إنما هذا السواد بستان قريش فقال له الأشتر‏:‏ السواد الذي أفاء الله علينا بأسيافنا تزعم أنه بستان لك ولقومك وخاض القوم في ذلك فأغلظ لهم عبد الرحمن الأزدي صاحب شرطته فوثبوا عليه وضربوه حتى غشي عليه‏.‏ فمنع سعيد بعدها السمر عنده فاجتمعوا في مجالسهم يثلبون سعيداً وعثمان والسفهاء يغشونهم‏.‏ فكتب سعيد وأهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم فكتب أن يلحقوهم بمعاوية وكتب إلى معاوية أن نفراً خلقوا الفتنة فقم عليهم وانههم وإن أنست منهم رشداً فأقبل منهم وإن أعيوك فأرددهم علي‏.‏ فأنزلهم معاوية وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق وأقاموا عنده يحضرون مائدته ثم قال لهم يوماً‏:‏ أنتم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة وقد أدركتم بالإسلام شرفأ وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً ولو لم تكن قريش كنتم أذلة‏.‏ إذ ائمتكم لكم جنة فلا تفترقوا على جنتكم وإن ائمتكم يصبرون لكم على الجور ويحملون عنكم المؤنة والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم ولا يحمدكم على الصبر ثم تكونوا شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم‏.‏ فقال له صعصعة منهم‏:‏ أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر الناس ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا وإما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا‏.‏ فقال معاوية‏:‏ الآن عرفتكم وعلمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلاً أعظم عليك أمر الإسلام‏.‏ وتذكرني في الجاهلية أخزى الله قوماً عظموا أمركم افقهوا عني ولا أظنكم تفقهون‏.‏ ثم ذكر شأن قريش وإن عزها إنما كان بالله في الجاهلية والإسلام ولم يكن بكثرة ولا شدة وكانوا على أكرم أحساب وأكمل مروءة وبوأهم الله حرمه فآمنوا فيه مما أصاب العرب والعجم والأسود والأحمر في بلادهم‏.‏ ثم ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله ارتضى له أصحاباً كان خيارهم قريشاً‏.‏ فبنى الملك عليهم وجعل الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلا بهم‏.‏ ثم قرعهم ووبخهم وهددهم ثم أحضرهم بعد أيام وقال‏:‏ إذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحداً ولا يضره وإن أردتم النجاة فالزموا الجماعة ولا تبطرنكم النعمة وسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم‏.‏ وكتب إلى عثمان إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أبطرهم العدل إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة والله مبتليهم ثم فاضحهم وليسوا بالذين يأتون الأمر إلا مع غيرهم فإنه سعيداً ومن عنده عنهم‏.‏ فخرجوا من عنده قاصدين الجزيرة ومروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص فأحضرهم وقال‏:‏ يا ألة الشيطان لا مرحباً بكم ولا أهلاً قد رجع الشيطان محسوراً وأنتم بعد في نشاط‏.‏ خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم‏.‏ ثم مضى في توبيخهم على ما فعلوه وما قالوه لسعيد ومعاوية‏.‏ فهابوا سطوته وطفقوا يقولون نتوب إلى الله أقلنا أقالك الله‏.‏ حتى قال‏:‏ تاب الله عليكم وسرح الأشتر إلى عثمان تائباً‏.‏ فقال له عثمان‏:‏ أحلك حيث تشاء‏.‏ فقال‏:‏ مع عبد الرحمن بن خالد‏.‏ قال ذاك إليك‏!‏ فرجع إليه وقيل‏:‏ إنهم عادوا إلى معاوية من القابلة ودار بينهم وبينه القول وأغلظوا له وأغلظ عليهم وكتب إلى عثمان فأمر أن يردهم إلى سعيد فردهم فأطلقوا ألسنتهم وضج سعيد منهم وكتبوا إلى عثمان فكتب إليه أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد فدار بينهم وبينه ما قدمناه‏.‏ وحدث بالبصرة مثل ذلك من الطعن وكان بدؤه يخما يقال شأن عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء هاجر إلى الإسلام من اليهودية ونزل على حكيم بن جبلة العبدي وكان يتشيع لأهل البيت ففشت مقالته بالطعن وبلغ ذلك حكيم بن جبلة فأخرجه وأتى الكوفة فأخرج أيضاً واستقر بمصر‏.‏ وأقام يكاتب أصحابه بالبصرة ويكاتبونه والمقالات تفشو بالطعن والنكير على الأمراء‏.‏ وكان حمران بن أبان أيضاً يحقد لعثمان أنه ضربه على زواجه امرأة في العدة وسيره إلى البصرة فلزم ابن عامر‏.‏ وكان بالبصرة عامر بن عبد القيس وكان زاهداً متقشفاً فأغرى به حمران صاحبه ابن عامر فلم يقبل سعايته‏.‏ ثم أذن له عثمان فقدم المدينة ومعه قوم فسعوا بعامر بن عبد القيس إنه لا يرى التزويج ولا يأكل اللحم ولا يشهد الجمعة فألحقه عثمان بمعاوية وأقام عنده حتى تبينت براءته وعرف فضله وحقه وقال‏:‏ إرجع إلى صاحبك‏!‏ فقال لا أرجع إلى بلد استحل أهله مني ما استحلوا‏!‏ وأقام بالشام كثير العبادة والإنفراد بالسواحل إلى أن هلك‏.‏ ولما فشت المقالات بالطعن والإرجاف على الأمراء اعتزم سعيد بن العاص على الوفادة على عثمان سنة أربع وثلاثين وكان قبلها قد ولى على الأعمال أمراء من قبله فولى الأشعث بن قيس على أذربيجان وسعيد بن قيس على الري والنسير العجلي على همدان والسائب بن الأقرع على أصبهان ومالك بن حبيب على ماه وحكيم سلامة على الموصل وجرير بن عبد لله على قرقيسيا وسلمان بن ربيعة على الباب‏.‏ وجعل على حلوان عتيبة بن النهاس وعلى الحرب القعقاع بن عمرو‏.‏ فخرجوا لأعمالهم وخرج هو وافداً على عثمان واستخلف عمرو بن حريث وخلت الكوفة من الرؤساء‏.‏ وأظهر الطاعنون أمرهم وخرج بهم يزيد بن قيس يريد خلع عثمان فبادره القعقاع بن عمرو فقال له‏:‏ إنما تستعفي من سعيد‏.‏ وكتب يزيد إلى الرهط الذين عند عبد الرحمن بن خالد بحمص في القدوم فساروا إليه وسبقهم الأشتر ووقف على باب المسجد يوم الجمعة يقول‏:‏ جئتكم من عند عثمان وتركت سعيداً يريده على نقصان نسائكم على مئة درهم ورد أولى البلاء منكم إلى ألفين وبزعم أن فيئكم بستان قريش‏.‏ ثم استخلف الناس ونادى يزيد في الناس‏:‏ من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل‏.‏ فخرجوا وذوو الرأي يعذلونهم فلا يسمعون‏.‏ وأقام أشراف الناس وعقلاؤهم مع عمرو بن حريث ونزل يزيد وأصحابه الجرعة قريباً من القادسية لاعتراض سعيد ورده‏.‏ فلما وصل قالوا‏:‏ ارجع فلا حاجة لنا بك‏.‏ قال‏:‏ إنما كان يكفيكم أن تبعثوا واحداً إلي أو إلى عثمان‏.‏ وقال مولىً له‏:‏ ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع فقتله الأشتر ورجع سعيد إلى عثمان فأخبره بخبر القوم وإنهم يختارون أبا موسى الأشعري فولاه الكوفة وكتب إليهم‏:‏ أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد ووالله لأقرضنكم عرضي ولأبذلنكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي‏.‏ وخطب أبو موسى الناس وأمرهم بلزوم الجماعة وطاعة عثمان فرضوا ورجع الأمراء من قرب الكوفة واستمر أبو موسى على عمله‏.‏ وقيل إن أهل الكوفة أجمع رأيهم أن يبعثوا إلى عثمان ويعذلوه فيما نقم عليه فأجمع رأيهم على عامر بن عبد القيس الزاهد وهو عامر بن عبد الله من بني تميم ثم من بني العنيس فأتاه‏.‏ وقالوا له‏:‏ إن ناسأ اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك ركبت أموراً عظاماً فاتق الله وتب إليه‏.‏ فقال عثمان‏:‏ ألا تسمعون إلى هذا الذي يزعم الناس أنه قارىء ثم يجيء يكلمني في المحقرات ووالله لا يدري أين الله فقال عامر‏:‏ بل والله إني لأدري إن الله لبالمرصاد‏.‏ فأرسل عثمان إلى معاوية وعبد الله بن أبي سرح وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر وعمرو بن العاص وكانوا بطانته دون الناس فجمعهم وشاورهم وقال‏:‏ إنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي وقد صنع الناس ما رأيتم‏.‏ فطلبوا أن أعزل عمالي وأرجع إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم‏.‏ فقال ابن عامر‏:‏ أرى أن تشغلهم بالجهاد وقال سعيد‏:‏ متى تهلك قادتهم تفرقوا‏.‏ وقال معاوية‏:‏ اجعل كفالتهم إلى أمرائهم وأنا أكفيك الشام‏.‏ وقال عبد الله‏:‏ استصلحهم بالمال‏.‏ فردهم عثمان إلى أعمالهم وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث ليكون لهم فيها شغل ورد سعيداً إلى الكوفة فلقيه الناس بالجزعة وردوه كما ذكرناه وولى أبا موسى‏.‏ وأمر عثمان حذيفة بغزو الباب فسار نحوه‏.‏ ولما كثر هذا الطعن في الأمصار وتواتر بالمدينة وكثر الكلام في عثمان والطعن عليه وكان له منهم شيعة يذبون عنه‏:‏ مثل زيد بن ثابت وأبي أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت فلم يغنوا عنه‏.‏ واجتمع الناس إلى علي بن أبي طالب وكلموه وعددوا عليه ما نقموه‏.‏ فدخل على عثمان وذكر له شأن الناس وما نقموا عليه وذكره بأفعال عمر وشدته ولينه هو لعماله وعرض عليه ما يخاف من عواقب ذلك في الدنيا والآخرة‏.‏ فقال له‏:‏ إن المغيرة بن شعبة وليناه وعمر ولاه ومعاوية كذلك‏.‏ وابن عامر تعرفون رحمه وقرابته‏.‏ فقال له علي‏:‏ إن عمر كان يطأ على صماخ من ولاه وأنت ترفق بهم وكان أخوف لعمر من غلامه يرفأ‏.‏ ومعاوية يستبد عليك ويقول هذا أمر عثمان فلا تغير عليه‏.‏ ثم تكالما طويلاً وافترقا وخرج عثمان على أثر ذلك وخطب وعرض بما هو فيه من الناس وطعنهم وما يريدون منه وإنهم تجرأوا عليه لرفقه بما لم يتجرأوا بمثله على ابن الخطاب ووافقهم برجوعه في شأنه إلى ما يقدمهم‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:06 PM

حصار عثمان ومقتله رضي الله عنه وأثابه ورفع درجته
ولما كثرت الإشاعة في الأمصار بالطعن على عثمان وعماله وكتب بعضهم إلى بعض في ذلك وتوالت الأخبار بذلك على أهل المدينة جاءوا إلى عثمان وأخبروه فلم يجدوا عنده علماً منه‏.‏ وقال‏:‏ أشيروا علي وأنتم شهود المؤمنين‏.‏ قالوا‏:‏ تبعث من تثق به إلى الأنصار يأتوك بالأخبار‏.‏ فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة وأسامة بن زيد إلى البصرة وعبد لله بن عمر إلى الشام وغيرهم إلى سواها‏.‏ فرجعوا وقالوا‏:‏ ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره علماء المسلمين ولا عوامهم وتأخر عمار بن ياسر بمصر واستماله ابن السوداء وأصحابه خالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر‏.‏ وكتب عثمان إلى أهل الأمصار إني قد رفع إلي أهل المدينة أن عمالي وقع منهم أضرار بالناس وقد أخذتهم بأن يوافوني في كل موسم فمن كان له حق فليحضر يأخذ حقه مني أو من عمالي أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين‏.‏ فبكى الناس عند قراءة كتابه عليهم ودعوا له‏.‏ وبعث إلى عمال الأمصار فقدموا عليه في الموسم‏:‏ عبد الله بن عامر وابن أبي سرح ومعاوية وأدخل معهم سعيد بن العاص وعمراً وقال‏:‏ ويحكم ما هذه الشكاية والإذاعة وإني لأخشى والله أن يكونوا صادقين‏!‏ فقالوا له‏:‏ ألم يخبرك رسلك بأن أحداً لم يشافههم بشيء وإنما هذه إشاعة لا يحل الأخذ بها واختلفوا في وجه الرأي في ذلك‏.‏ فقال عثمان‏:‏ إن الأمر كائن وبابه سيفتح ولا أحب أن تكون لأحد علي حجة في فتحه‏.‏ وقد علم الله أني لم آل الناس خيراً فسكنوا الناس وبينوا لهم حقوقهم‏.‏ ثم قدم المدينة فدعا علياً وطلحة والزبير ومعاوية حاضر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أنتم ولاة هذا الأمر واخترتم صاحبكم يعني عثمان وقد كبر وأشرف وفشت مقالة خفتها عليكم فما عنيتم به من شيء فأنالكم به ولا تطمعوا الناس في أمركم‏.‏ فانتهره علي ثم ذهب عثمان يتكلم وقال‏:‏ اللذان كانا قبلي منعا قرابتهما احتساباً وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي قرابته وإن قرابتي أهل عيلة وقلة معاش فأعطيتهم فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه‏.‏ فقالوا‏:‏ أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفأ ومروان خمسة عشر ألفاً‏.‏ قال‏:‏ آخذ ذلك منهما‏.‏ فانصرفوا راضين‏.‏ وقال له معاوية‏:‏ اخرج معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك ما لا تطيقه‏.‏ قال‏:‏ لا أبتغي بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلاً قال‏:‏ فابعث إليك جنداً يقيمون معك‏.‏ قال‏:‏ لا أضيق على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال معاوية‏:‏ لتغتالن ولتعيرن قال‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏.‏ ثم سار معاوية ومر على علي وطلحة والزبير فوصاهم بعثمان وودعهم ومضى‏.‏ وكان المنحرفون عن عثمان بالأمصار قد تواعدوا عند مسير الأمراء إلى عثمان أن يثبوا عليه في مغيبهم‏.‏ فرجع الأمراء ولم يتهيأ لهم ذلك‏.‏ وجاءتهم كتب من المدينة ممن صار إلى مذهبهم في الإنحراف عن عثمان إن اقدموا علينا فإن الجهاد عندنا فتكاتبوا من أمصارهم في القدوم إلى المدينة فخرج المصريون وفيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة وقيل في ألف وفيهم كنانة بن بشر الليثي وسوادن بن حمران السكوني وميسرة أو قيترة بن فلان السكوني وعليهم جميعاً الغافقي بن حرب العكي‏.‏ وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبدي والأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصم العامري‏.‏ وخرج أهل البصرة وفيهم حكيم بن جبلة العبدي وزريح بن عباد وبشر بن شريح القيسي وابن المحرش وعليهم حرقوص بن زهير السعدي وكلهم في مثل عدد أهل مصر‏.‏ وخرجوا جميعاً في شوال مظهرين للحج ولما كانوا من المدينة على ثلاثة مراحل تقدم ناس من أهل البصرة وكان هواهم في طلحة فنزلوا ذا خشب وتقدم ناس من أهل الكوفة‏:‏ وكان هواهم في الزبير فنزلوا الأعوص ونزل معهم ناس من أهل مصر وكان هواهم في علي وتركوا عامتهم بذي المروة‏.‏ وقال أبو زياد بن النضر وعبد الله بن الأصم من أهل الكوفة لا تعجلوا حتى ندخل المدينة فقد بلغنا أنهم عسكروا لنا فوالله إن كان حقاً لا يقوم لنا أمر‏.‏ ثم دخلوا المدينة ولقوا علياً وطلحة والزبير وأمهات المؤمنين وأخبروهم أنهم إنما أتوا للحج وأن يستعفوا من بعض العمال واستأذنوا في الدخول فمنعوهم ورجعوا إلى أصحابهم‏.‏ وتشاوروا في أن يذهب من أهل الكوفة وكل مصر فريق إلى أصحابهم كياداً وطلباً في الفرقة‏.‏ فأتى المصريون علياً وهو في عسكره عند أحجار الزيت وقد بعث ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع عليه فعرضوا عليه أمرهم فصاح بهم وطردهم وقال‏:‏ إن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علم ذلك الصالحون‏.‏ وأتى البصريون طلحة والكوفيون الزبير فقالا مثل ذلك فانصرفوا وافترقوا عن هذه الأماكن إلى عسكرهم على بعد‏.‏ فتفرق أهل المدينة فلم يشعروا إلا والتكبير في نواحيها وقد هجموا وأحاطوا بعثمان ونادوا بأمان من كف يده‏.‏ وصلى عثمان بالناس أياماً ولزم الناس بيوتهم ولم يمنعوا الناس من كلامه‏.‏ وغدا عليهم علي فقال‏:‏ ما ردكم بعد ذهابكم قالوا‏:‏ أخذنا كتاباً مع يزيد بقتلنا‏.‏ وقال البصريون لطلحة والكوفيون للزبير مثل مقالة أهل مصر وإنهم جاءوا لينصروهم‏.‏ فقال لهم علي‏:‏ كيف علمتم بما لقي أهل مصر وكلكم على مراحل من صاحبه حتى رجعتم علينا جميعاً هذا أمر أبرم بليل‏:‏ فقالوا‏:‏ اجعلوه كيف شئتم لا حاجة لنا بهذا الرجل ليعتزلنا وهم يصلون خلفه ومنعوا الناس من الإجتماع معه‏.‏ وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستحثهم فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري وبعث عبد الله بن أبي سرح معاوية بن جريح وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو وتسابقوا إلى المدينة على الصعب والذلول‏.‏ وقام بالكوفة نفر يحضون على إعانة أهل المدينة فمن الصحابة عقبة بن عامر وعبد الله بن أبي أوفى وحنظلة الكاتب ومن التابعين مسروق الأسود وشريح وعبد الله ابن حكيم‏.‏ وقام بالبصرة في ذلك عمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر ومن التابعين كعب بن سوار وهرم بن حبان‏.‏ وقام بالشام وبمصر جماعة أخرى من الصحابة والتابعين‏.‏ ثم خطب عثمان في الجمعة القابلة وقال‏:‏ يا هؤلاء‏!‏ الله الله‏!‏ فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد فامحوا الخطأ بالصواب‏.‏ فقال محمد بن مسلمة أنا أشهد بذلك فأقعده حكيم ابن جبلة‏.‏ وقام زيد بن ثابت فأقعده آخر وحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد وأصيب عثمان بالحصباء فصرخ وقاتل دونه سعد بن أبي وقاص والحسين وزيد بن ثابت وأبو هريرة‏.‏ ودخل عثمان بيته وعزم عليهم في الإنصراف فانصرفوا‏.‏ ودخل علي وطلحة والزبير على عثمان يعودونه وعنده نفر من بني أمية فيهم مروان فقالوا لعلي‏:‏ أهلكتنا وصنعت هذا الصنع والله لئن بلغت الذي تريد لتحزن عليك الدنيا فقام مغضباً وعادوا إلى منازلهم‏.‏ وصلى عثمان بالناس وهو محصور ثلاثين يوماً‏.‏ ثم منعوه الصلاة وصلى بالناس أمير المصريين الغافقي بن حرب العكي‏.‏ وتفرق أهل المدينة في بيوتهم وحيطانهم ملازمين للسلاح وبقي الحصار أربعين يوماً‏.‏ وقيل بل أمر عثمان أبا أيوب الأنصاري فصلى أياماً‏.‏ ثم صلى علي بعده بالناس وقيل أمر علياً سهل بن حنيف فصلى عشر ذي الحجة ثم صلى العيد والصلوات حتى قتل عثمان‏.‏ وقد قيل في حصار عثمان‏:‏ إن محمد بن أبي بكر ومحمد بن حذيفة كانا بمصر يحرضان على عثمان‏.‏ فلما خرج المصريون في رجب مظهرين للحج ومضمرين قتل عثمان أو خلعه وعليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي كان فيمن خرج مع المصريين محمد بن أبي بكر‏.‏ وبعث عبد الله بن سعيد في آثارهم وأقام محمد بن أبي حذيفة بمصر‏.‏ فلما كان ابن أبي سرح بأيلة بلغه أن المصريين رجعوا إلى عثمان فحصروه وأن محمد بن أبي حذيفة غلب على مصر فرجع سريعاً إليهما فمنع منهما فأتى فلسطين وأقام بها حتى قتل عثمان‏.‏ وأما المصريون فلما نزلوا ذا خشب جاء عثمان إلى بيت علي ومت إليه بالقرابة في أن يركب إليهم ويردهم لئلا تظهر الجرأة منهم فقال له علي‏:‏ قد كلمتك في ذلك فأطعت أصحابك وعصيتني يعني مروان ومعاوية وابن عامر وابن أبي سرح وسعيد فعلى أي شيء أردهم فقال على أن أصير إلى ما تراه وتشيره وأن أعصي أصحابي وأطيعك‏.‏ فركب علي في ثلاثين من المهاجرين والأنصار فيهم سعد بن زيد وأبو جهم العدوي وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن عتاب ومن الأنصار أبو أسيد الساعدي وأبو حميد وزيد بن ثابت وحسان وكعب بن مالك ومن العرب دينار بن مكرز‏.‏ فأتوا المصريين وتولى الكلام معهم علي ومحمد بن مسلمة‏.‏ فرجعوا إلى مصر وقال ابن عديس لمحمد‏:‏ أتوصينا بحاجة قال تتقي الله وترد من قبلك عن أمانه فقد وعدنا أن يرجع وينزع‏.‏ ورجع القوم إلى المدينة ودخل علي على عثمان وأخبره برجوع المصريين‏.‏ ثم جاءه مروان من الغد فقال له‏:‏ أخبر الناس بأن أهل مصر قد رجعوا وأن ما بلغهم عنك كان باطلاً قبل أن تجيء الناس من الأمصار ويأتيك ما لا نطيقه ففعل‏.‏ فلما خطب ناداه الناس كل ناحية‏:‏ إتق الله يا عثمان وتب إلى الله وكان أولهم عمرو بن العاص‏.‏ فرفع يده وقال لهم‏:‏ إني تائب‏.‏ وخرج عمرو بن العاص إلى منزله بفلسطين ثم جاء الخبر بحصاره وقتله‏.‏ وقيل‏:‏ إن علياً لما رجع عن المصريين أشار على عثمان أن يسمع الناس ما اعتزم عليه من النزوع قبل أن يجيء غيرهم ففعل وخطب بذلك وأعطى الناس من نفسه التوبة وقال‏:‏ أنا أول من أتعظ استغفر الله مما فعلت وأتوب إليه فليأت أشرافكم يروني رأيهم فوالله إن ردني الحق عبداً لأستن بسنة العبد ولأذلن ذل العبد وما عن الله مذهب إلا إليه‏.‏ فوالله لأعطينكم الرضى ولا أحتجب عنكم‏.‏ ثم بكى وبكى الناس ودخل منزله‏.‏ فجاءه نفر من بني أمية يعذلونه في ذلك فوبختهم نائلة بنت الفرافصة فلما يرجعوا إليها وعابوه فيما فعل واستذلوه في إقراره بالخطيئة والتوبة عند الخوف واجتمع الناس في الباب وقد ركب بعضهم بعضأ‏.‏ فقال لمروان كلمهم‏!‏ فأغلظ لهم في القول وقال‏:‏ جئتم لنزع ملكنا من أيدينا‏.‏ والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ولا تحمدوا غب رأيكم ارجعوا إلى منازلكم فإنا وبلغ الخبر علياً فنكر ذلك وقال لعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث‏:‏ أسمعت خطبته بالأمس ومقالة مروان للناس اليوم‏.‏ يا لله ويا للناس‏!‏ إن قعدت في بيتي قال تركتني وقرابتي وحقي وإن تكلمت فجاء ما يزيد يلعب به مروان ويسوقه حيث يشاء بعد كبر السن وصحبة الرسول‏.‏ وقام مغضبأ إلى عثمان واستقبح مقالة مروان وأنبه عليها وقال‏:‏ ما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك فقد أذهبت شرفك وغلبت على رأيك‏.‏ ثم دخلت عليه امرأته نائلة وقد سمعت قول علي فعذلته في طاعة مروان وأشارت عليه باستصلاح علي فبعث إليه فلم يأته‏.‏ فأتاه عثمان إلى منزله ليلأ يستلينه ويعده الثبات على رأيه معه فقال‏:‏ بعد أن أقام مروان على بابك يشتم الناس ويؤذيهم فخرج عثمان وهو يقول خذلتني وجرأت علي الناس‏!‏ فقال علي‏:‏ والله إني أكثر الناس ذباً عنك ولكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضاً جاء مروان بأخرى فسمعت قوله وتركت قولي‏.‏ ثم منع عثمان الماء فغضب علي غضباً شديداً حتى دخلت الروايا على عثمان وقيل إن علياً كان عند حصار عثمان بخيبر فقدم والناس يجتمعون عند طلحة فجاءه عثمان وقال يا علي‏!‏ إن لي حق الإخاء والقرابة والصهر ولو كان أمر الجاهلية فقط لكان عاراً على بني عبد مناف أن تنزع تيم أمرهم فجاء علي إلى طلحة وقال ما هذا فقال طلحة‏:‏ أبعد ما مس الحزام الطبييين يا أبا حسن‏!‏ فانصرف علي إلى بيت المال وأعطى الناس فبقي طلحة وحده‏.‏ وسر بذلك عثمان وجاء إليه طلحة فقال له‏:‏ والله ما جئت تائباً ولكن مغلوباً فالله حسيبك يا طلحة‏.‏ وقيل إن المصريين لما رجعوا خرج إليهم محمد بن مسلمة فأعطوه صحيفة قالوا وجدناها عند غلام عثمان بالبويب وهو على بعير من إبل الصدقة يأمر فيها بجلد عبد الرحمن بن عديس وعمرو بن الحمق وعروة بن البياع وحبسهم وحلق رؤوسهم ولحاهم وصلب بعضهم‏.‏ وقيل وجدت الصحيفة بيد أبي الأعور السلمي‏.‏ فعاد المصريون وعاد معهم الكوفيون والبصريون وقالوا لمحمد بن مسلمة حين سألهم‏:‏ قد كلمنا علياً وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فوعدونا أن يكلموه فليحضر علي معنا عند عثمان‏.‏ ثم دخل علي ومحمد على عثمان وأخبروه بقول أهل مصر فحلف ما كتب ولا علم‏.‏ فقال محمد‏:‏ صدق‏!‏ هذا من عمل مروان‏.‏ ودخل المصريون فشكا ابن عديس بابن أبي سرح وما أحدثه بمصر وأنه ينسب ذلك إلى كتاب عثمان وإنا جئنا من مصر لقتلك فردنا علي ومحمد وضمنا لنا النزوع عن هذا كله فرجعنا ولقينا هذا الكتاب وفيه أمرك لابن أبي سرح بجلدنا والمثلة بنا وطول الحبس وهو بيد غلامك وعليه خاتمك‏.‏ فحلف عثمان ما كتب ولا أمر ولا علم‏.‏ قالوا فكيف يجترىء عليك بمثل هذا فقد استحقيت الخلع على التقديرين ولا يحل أن يولى الأمور من ينتهي إلى هذا الضعف فاخلع نفسك‏.‏ فقال‏:‏ لا أنزع ما ألبسني الله ولكن أتوب وأرجع‏.‏ قال‏:‏ رأيناك تتوب وتعود فلا بد من خلعك أو قتلك وقتال أصحابك دون ذلك إلى أن يخلص إليك أو تموت‏.‏ فقال‏:‏ لا ينالكم أحد بأخرى ولو أردت ذلك لاستجشت بأهل الأمصار‏.‏ ثم كثر اللغط وأخرجوا ومضى علي إلى منزله وحصر المصريون عثمان وكتب إلى معاوية وابن عامر يستحثهم‏.‏ وقام يزيد بن أسد القسري فاستنفر أهل الشام وسار إلى عثمان وبلغهم قتله بوادي القرى فرجعوا‏.‏ وقيل سار من الشام حبيب بن مسلمة ومن البصرة مجاشع بن مسعود فبلغهم قتله بالربذة فرجعوا‏.‏ وكان بطانة عثمان أشاروا عليه أن يبعث إلى علي في كفهم عنه على الوفاء لهم فبعث إليه في ذلك فأجاب بعد توقف‏.‏ ثم بعث إليهم فقالوا‏:‏ لا بد أن تتوثق منه وجاءه فأعلمه وتوثق منه على أجل ثلاثة أيام‏.‏ وكتب بينهم كتابأ على رد المظالم وعزل من كرهوه من العمال‏.‏ ثم مضى الأجل وهو مستعد ولم يغير شيئاً فجاءه المصريون من ذي خشب بستنجزون عهدهم فأبى فحصروه‏.‏ وأرسل إلى علي وطلحة والزبير وأشرف عليهم فحياهم ودعا لهم ثم قال‏:‏ أنشدكم الله تعالى هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم أتقولون إنه لم يستجب لكم أو تقولون إن الله لم يبال بمن ولى هذا الدين أم تقولون إن الأمة ولو مكابرة وعن غير مشورة فوكلهم إلى أمرهم‏.‏ أو لم يعلم عاقبة أمري‏!‏ ثم أنشدكم الله هل تعلمون لي من السوابق ما يجب حقه‏!‏ فمهلاً فلا يحل إلا قتل ثلاثة‏:‏ زانٍ بعد إحصان وكافر بعد إيمان وقاتل بغير حق‏.‏ ثم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثم لا يرفع الله عنكم الاختلاف‏.‏ فقالوا له‏:‏ أما ذكرت من الاستخارة بعد عمر فكل ما صنع الله تعالى فيه الخيرة ولكن الله ابتلى بك عباده‏.‏ وأما حقك وسابقتك فصحيح لكن أحدثت ما علمت ولا تترك إقامة الحق مخافة الفتنة عاماً قابلاً‏.‏ وأما حصر القتل في الثلاثة ففي كتاب الله‏:‏ قتل من سعى في الأرض فساداً ومن قاتل على البغي وعلى منع الحق والمكابرة عليه وأنت إنما تمسكت بالأمارة علينا وإنما قاتل دونك هؤلاء بهذه التسمية فلو نزعتها انصرفوا‏.‏ فسكت عثمان ولزم الدار وأقسم على الناس بالانصراف فانصرفوا إلا الحسن بن علي ومحمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير وكانت مدة الحصار أربعين يوماً‏.‏ ولثمان عشرة منها وصل الخبر بمسير الجنود جمن الأمصار فاشتد الحصار ومنعوه من لقاء الناس ومن الماء‏.‏ وأرسل إلى علي وطلحة والزبير وأمهات المؤمنين يطلب الماء‏.‏ فركب علي إليهم مغلساً وقال‏:‏ يا أيها الناس إن هذا لا يشبه أمر المؤمنين ولا الكافرين‏!‏ وإن الأسير عند فارس والروم يطعم ويسقى‏.‏ فقالوا لا والله ونعمة عين فرجع وجاءت أم حبيبة على بغلتها مشتملةً على أداوةٍ وقالت‏:‏ أردت أن أسأل هذا الرجل عن وصايا عنده لبني أمية أو تهلك أموال أيتامهم وأراملهم فقالوا‏:‏ لا والله وضربوا وجه البغلة فنفرت وكادت تسقط عنها وذهب بها الناس إلى بيتها‏.‏ وأشرف عليهم عثمان وقرر حقوقه وسوابقه‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ مهلاً عن أمير المؤمنين‏.‏ فجاء الأشتر وفرق الناس وقال‏:‏ لا يمكر بكم‏.‏ ثم خرجت عائشة إلى الحج ودعت أخاها فأبى فقال له حنظلة الكاتب‏:‏ تدعوك أم المؤمنين فلا تتبعها وتتبع سفهاء العرب فيما لا يحل‏.‏ ولو قد صار الأمر إلى الغلبة غلبك عليه بنو عبد مناف‏.‏ ثم ذهب حنظلة إلى الكوفة وبلغ طلحة والزبير ما لقي علي وأم حبيبة فلزموا بيوتهم‏.‏ وكان آل حزم يدسون الماء إلى بيت عثمان في الغفلات وكان ابن عباس ممن لزم باب عثمان للمدافعة فأشرف عليه عثمان وأمره أن يحج بالناس فقال‏:‏ جهاد هؤلاء أحب إلي فأقسم عليه وانطلق‏.‏ ولما رأى أهل مصر أن أهل الموسم يريدون قصدهم وأن أهل الأمصار يسيرون إليهم اعتزموا على قتل عثمان رضي الله عنه وتقبل شهادتهم يرجون في ذلك خلاصهم واشتغال الناس عنهم فقاموا إلى الباب ليفتحوه فمنعهم الحسن بن علي وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصحابة وقاتلوهم وغلبوهم دون الباب‏.‏ ثم صدهم عثمان في القتال وحلف ليدخلن فدخلوا وأغلق الباب فجاءوا بالنار وأحرقوه ودخلوا وعثمان يصلي وقد افتتح سورة طه‏.‏ وقد سار أهل الدار فما شغله شيء من أمرهم حتى فرغ وجلس إلى المصحف يقرأ فقرأ‏:‏ ‏"‏ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ‏"‏‏.‏ ثم قال لمن عنده‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلي عهداً فأنا صابر عليه ومنعهم من القتال وأذن للحسن في اللحاق بأبيه وأقسم عليه فأبى وقاتل دونه‏.‏ وكان المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تعجل من الحج في عصابة لنصره فقاتل حتى قتل‏.‏ وجاء أبو هريرة ينادي‏:‏ يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار وقاتل‏.‏ ثم اقتحمت الدار من ظهرها من جهة دار عمرو بن حزم فامتلأت قوماً ولا يشعر الذين بالباب وانتدب رجل فدخل على عثمان في البيت فحاوره في الخلع فأبى فخرج ودخل آخر ثم آخر كلهم يعظه فيخرج ويفارق القوم‏.‏ وجاء ابن سلام فوعظهم فهموا بقتله‏.‏ ودخل عليه محمد بن أبي بكر فحاوره طويلاً بما لا حاجة إلى ذكره ثم استحيا وخرج‏.‏ ثم دخل عليه السفهاء فضربه أحدهم وأكبت عليه نائلة إمرأته تتقي الضرب بيدها فنفحها أحدهم بالسيف في أصابعها‏.‏ ثم قتلوه وسال دمه على المصحف‏.‏ وجاء غلمانه فقتلوا بعض أولئك القاتلين وقتلاء أخر وانتهبوا ما في البيت وما على النساء حتى ملاءة نائلة وقتل الغلمان منهم وقتلوا من الغلمان‏.‏ ثم خرجوا إلى بيت المال فانتهبوه وأرادوا قطع رأسه فمنعهم النساء‏.‏ فقال ابن عديس‏:‏ اتركوه‏.‏ ويقال إن الذي تولى قتله كنانة بن بشر التجيبي‏.‏ وطعنه عمرو بن الحمق طعنات‏.‏ وجاء عمير بن ضابىء وكان أبوه مات في سجنه فوثب عليه حتى كسر ضلعاً من أضلاعه‏.‏ وكان قتله لثمان عشرة خلت من ذي الحجة وبقي في بيته ثلاثة أيام‏.‏ ثم جاء حكيم بن حزام وجبير بن مطعم إلى علي فأذن لهم في دفنه فخرجوا به بين المغرب والعشاء ومعهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان فدفنوه في حش كوكب وصلى عليه جبير وقيل مروان وقيل حكيم‏.‏ وبقال‏:‏ إن ناساً تعرضوا لهم ليمنعوا من الصلاة عليه فأرسل إليهم علي وزجرهم‏.‏ وقيل إن علياً وطلحة حضرا جنازته وزيد بن ثابت وكعب بن مالك‏.‏ وكان عماله عند موته على ما نذكره‏:‏ فعلى مكة عبد الله بن الحضرمي وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي وعلى صنعاء يعلى بن منية وعلى الجند عبد الله بن ربيعة وعلى البصرة والبحرين عبد الله بن عامر وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان وعلى حمص عبد الرحمن بن خالد من قبله وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة كذلك وعلى الأردن أبو الأعور السلمي كذلك وعلى فلسطين علقمة بن حكيم الكندي كذلك وعلى البحرين عبد الله بن قيس الفزاري وعلى القضاء أبو الدرداء وعلى الكوفة أبو موسى الأشعري على الصلاة والقعقاع بن عمرو على الحرب وعلى خراج السواد جابر المزني وسماك الأنصاري على الخراج وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس وعلى حلوان عتيبة بن نهاس وعلى أصبهان السائب بن الأقرع وعلى ماسبدان خنيس وعلى بيت المال عقبة بن عمرو وعلى القضاء زيد بن ثابت‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:07 PM

بيعة علي رضي الله عنه
لما قتل عثمان اجتمع طلحة والزبير والمهاجرون والأنصار وأتوا علياً يبايعونه فأبى وقال‏:‏ أكون وزيراً لكم خير من أن أكون أميراً ومن اخترتم رضيته فألحوا عليه وقالوا له‏:‏ لا نعلم أحق منك ولا نختار غيرك حتى غلبوه في ذلك فخرج إلى المسجد وبايعوه‏.‏ وأول من بايعه طلحة ثم الزبير بعد أن خيرهما - ويقال إنهما ادعيا الإكراه بعد ذلك بأربعة أشهر وخرجا إلى مكة - ثم بايعه الناس وجاءوا بابن عمر فقال كذلك‏.‏ فقال ائتني بكفيل قال لا أجده فقال الأشتر دعني أقتله فقال علي دعوه أنا كفيله‏.‏ وبايعت الأنصار وتأخر منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد وأبو سعيد الخدري ومحمد بن مسلمة والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت ورافع بن خديج وفصالة بن عبيد وكعب بن عجرة وسلمة بن سلامة بن وخش‏.‏ وتأخر من المهاجرين عبد الله بن سلام وصهيب بن سنان وأسامة بن زي وقدامة بن مظعون والمغيرة بن شعبة‏.‏ وأما النعمان بن بشير فأخذ أصابع نائلة امرأة عثمان وقميصه الذي قتل فيه ولحق بالشام صريخاً‏.‏ وقيل إن عثمان لما قتل بقي الغافقي بن حرب أميراً على المدينة خمسة أيام والتمس من يقوم بالأمر فلم يحبه أحد وأتوا إلى علي فامتنع وأتى الكوفيون الزبير والبصريون طلحة فامتنعا‏.‏ ثم بعثوا إلى سعد وابن عمر فامتنعا فبقوا حيارى ورأوا أن رجوعهم إلى الأمصار بغير إمام يوقع في الخلاف والفساد فجمعوا أهل المدينة وقالوا‏:‏ انتم أهل الشورى وحكمكم جائز على الأمة فاعقدوا الإمام ونحن لكم تبع وقد أجلناكم يومين وإن لم تفعلوا قتلنا فلانا وفلانا وغيرهم يشيرون إلى الأكابر‏.‏ فجاء الناس إلى علي فاعتذر وامتنع فخوفوه الله في مراقبة الإسلام فوعدهم إلى الغد‏.‏ ثم جاءوه من الغد‏.‏ وجاء حكيم بن جبلة في البصريين فأحضر الزبير كرهاً وجاء الأشتر في الكوفيين فأحضر طلحة كذلك وبايعوا لعلي وخرج إلى المسجد وقال‏:‏ هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أردتم وقد افترقنا أمس وأنا كاره فأبيتم إلا أن أكون عليكم فقالوا نحن على ما افترقنا لك عليه بالأمس فقال لهم‏:‏ اللهم اشهد‏!‏ ثم جاءوا بقوم ممن تخلف قالوا نبايع على إقامة كتاب الله‏.‏ ثم بايع العامة وخطب علي وذكر الناس وذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة ورجع إلى بيته فجاءه طلحة والزبير وقالا‏:‏ قد اشترطنا إقامة الحدود فلتقمها على قتلة هذا الرجل فقال‏:‏ لا قدرة لي على شيء مما تريدوه حتى يهدأ الناس وتستقر الأمور فتؤخذ الحقوق‏.‏ فافترقوا عنه وأكثر بعضهم المقالة في قتلة عثمان وباستناده إلى أربعة في رأيه‏.‏ وبلغه ذلك فخطبهم وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم‏.‏ ثم هرب مروان وبنو أمية ولحقوا بالشام فاشتد على علي منع قريش من الخروج‏.‏ ثم نادى في اليوم الثالث برجوع الأعراب إلى بلادهم فأبوا وتذامرت معهم السبئية وجاءه طلحة والزبير فقالا‏:‏ دعنا نأت البصرة والكوفة فنستنفر الناس فأمهلهما‏.‏ وجاء المغيرة فأشار عليه باستبقاء العمال حتى يستقر الأمر ويستبدلوا بمن شاء فأمهله‏.‏ ورجع من الغد فأشار بمعاجلة الاستبدال‏.‏ وجاءه ابن عباس فأخبره بخبر المغيرة فقال‏:‏ نصحك أمس وغشك اليوم‏.‏ قال‏:‏ فما الرأي‏.‏ قال‏:‏ كان الرأي أن تخرج عند قتل الرجل أو قبل ذلك إلى مكة وأما اليوم فإن بني أمية يشبون على الناس بأن يلجموك طرفاً من هذا الأمر ويطلبون ما طلب أهل المدينة في قتلة عثمان فلا يقدرون عليهم والرأي أن تقر معاوية‏.‏ فقال علي رضي الله عنه والله لا أعطيه إلا السيف‏.‏ فقال له ابن عباس‏:‏ أنت رجل شجاع لست صاحب رأي في الحرب‏.‏ أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ الحرب خدعة‏:‏ قال بلى‏!‏ فقال ابن عباس‏:‏ أما والله إن أطعتني لأتركنهم ينظرون في دبر الأمور ولا يعرفون ما كان وجهي من غير نقصان عليك ولا إثم لك‏.‏ فقال يا ابن عباس‏:‏ لست من هنياتك ولا هنيات معاوية في شيء‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ أطعني والحق بمالك بينبع وأغلق بابك عليك فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك‏.‏ وإن نهضت مع هؤلاء اليوم يحملك الناس دم عثمان غداً‏.‏ فأبى علي وفال أشر علي وإذا خالفتك أطعني‏.‏ قال‏:‏ أيسر ما لك عندي الطاعة‏.‏ قال‏:‏ فسر إلى الشام فقد وليتكها‏.‏ قال إذاً يقتلني معاوية بعثمان أو يحبسني فيتحكم علي لقرابتي منك ولكن أكتب إليه وعده فأبى‏.‏ وكان المغيرة يقول‏:‏ نصحته فلم يقبل فغضب ولحق بمكة‏.‏ ثم فرق علي العمال على الأمصار فبعث على البصرة عثمان بن حنيف وعلى الكوفة عمارة بن شهاب من المهاجرين وعلى اليمن عبد الله بن عباس وعلى مصر قيس بن سعد وعلى الشام سهل بن حنيف‏.‏ فمضى عثمان إلى البصرة فدخلها واختلفوا عليه فأطاعته فرقة وقال آخرون‏:‏ ننظر ما يصنع أهل المدينة فنقتدي بهم‏.‏ ومضى عمارة إلى الكوفة فلما بلغ زبالة لقي طليحة بن خويلد فقال له‏:‏ إرجع فإن القوم لا يستبدلون بأبي موسى وإلا ضربت عنقك‏.‏ ومضى ابن عباس إلى اليمن فجمع يعلى بن منية مال الجباية وخرج به إلى مكة ودخل عبد الله إلى اليمن ومضى قيس بن سعد إلى مصر ولقيه بأيلة خيالة من أهل مصر فقالوا‏:‏ من أنت قال قيس بن سعد من فل عثمان أطلب من آوي إليه وانتصر به‏.‏ ومضى حتى دخل وأظهر أمره فافترقوا عليه فرقة كانت معه وأخرى تربصوا حتى يروا فعله في قتلة عثمان‏.‏ ومضى سهل بن حنيف إلى الشام حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل فقال لهم‏:‏ أنا أمير على الشام قالوا إن كان بعثك غير عثمان فارجع فرجع‏.‏ فلما رجع وجاءت أخبار الآخرين دعا علي طلحة الزبير وقال‏:‏ قد وقع ما كنت أحذركم فسألوه الإذن في الخروج من المدينة وكتب علي إلى أبي موسى مع معبد الأسلمي فكتب إليه بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم ومن الكاره منهم والراضي حتى كأنه يشاهد‏.‏ وكتب إلى معاوية مع سبرة الجهني فلم يجبه إلى ثلاثة أشهر من مقتل عثمان‏.‏ ثم دعا قبيصة من عبس وأعطاه كتاباً مختوماً عنوانه‏:‏ من معاوية إلى علي وأوصاه بما يقول وأعاده مع رسول علي‏.‏ فقدم في ربيع الأول ودخل العبسي وقد رفع الطومار كما أمره حتى دفعه إلى علي ففضه فلم يجد فيه كتاباً‏.‏ فقال للرسول‏:‏ ما وراءك قال آمن أنا‏.‏ قال نعم قال تركت قوماً لا يرضون إلا بالقود قال وممن قال منك‏.‏ وتركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان منصوباً على منبر دمشق‏.‏ فقال‏:‏ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان‏!‏ قد نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله‏.‏ ثم رده إلى صاحبه وصاحت السبئية‏:‏ اقتلوا هذا الكلب وافد الكلاب‏.‏ فنادى يا لمضر يا لقيس أحلف بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي فانظروا كم الفحول والركاب وتقاووا عليه فمنعته مضر ودس أهل المدينة على علي من يأتيهم برأيه في القتال وهو زياد بن حنظلة التميمي وكان منقطعاً إليه فجالسه ساعة فقال له علي‏:‏ سيروا لغزو الشام‏.‏ فقال لعلي الأناة والرفق أمثل فتمثل يقول‏:‏ متى تجمع القلب الذكي وصارماً وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم فعلم أن رأيه القتال ثم جاء إلى القوم الذين دسوه فأخبرهم ثم استأذنه طلحة والزبير في العمرة ولحقا بمكة‏.‏ ثم اعتزم على الخروج إلى الشام ودعا أهل المدينة إلى قتالهم وقال‏:‏ انطلقوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم‏.‏ وأمر الناس بالتجهز إلى الشام ورفع اللواء لمحمد بن الحنفية وولى عبد الله بن عباس ميمنته وعمرو بن أبي سلمة ميسرته ويقال بل عمرو بن سفيان بن عبد الأسد وولى أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ابن أخي عبيدة مقدمته ولم يول أحداً ممن خرج على عثمان‏.‏ واستخلف على المدينة تمام بن العباس وعلى مكة قثم بن العباس‏.‏ وكتب إلى قيس بن سعد بمصر وعثمان بن حنيف بالبصرة وأبي موسى بالكوفة أن يندبوا الناس إلى الشام وبينما هو على التجهيز للشام إذ أتاه الخبر عن أهل مكة بنحو آخر وأنهم على الخلاف فانتفض عن الشام‏.‏

http://www.al-eman.com/Islamlib/images/up.gif أمر الجمل
ولما جاء خبر مكة إلى علي قام في الناس وقال‏:‏ ألا إن طلحة والزبير وعائشة قد تمالأوا على ناقض إمارتي ودعوا الناس إلى الإصلاح وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم وأكف إن كفوا وأقتصد نحوهم‏.‏ وندب أهل المدينة فتثاقلوا وبعث كميلاً النخعي فجاءه بعبد الله بن عمر فقال‏:‏ إنهض معي‏!‏ فقال أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون‏.‏ قال‏:‏ فاعطني كفيلا بأنك لا تخرج قال ولا هذه فتركه ورجع إلى المدينة‏.‏ وخرج إلى مكة وقد أخبر أخته أم كلثوم بما سمع من أهل المدينة في تثاقلهم وأنه على طاعة علي ويخرج معتمراً وجاء الخبر من الغداة إلى علي بأنه خرج إلى الشام فبعث في أثره على كل طريق وماج أهل المدينة وركبت أم كلثوم إلى أبيها وهو في السوق يبعث الرجال ويظاهر في طلبه فحدثته فانصرف عن ذلك‏.‏ ووثق فيما قاله ورجع إلى أهل المدينة فخاطبهم وحرضهم فرجعوا إلى إجابته‏.‏ وأول من أجابه أبو الهيثم بن التيهان البدري وخزيمة بن ثابت وليس بذي الشهادتين‏.‏ ولما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس عن علي انتدب إليه وقال‏:‏ من مثاقل عنك فإنا نخف معك ونقاتل دونك‏.‏ وكان سبب إجتماعهم بمكة أن عائشة كانت خرجت إلى مكة وعثمان محصور كما قدمناه فقضت نسكها وانقلبت تريد المدينة فلقيت في طريقها رجلاً من بني ليث أخوالها فأخبرها بقتل عثمان وبيعة علي فقالت‏:‏ قتل عثمان والله ظلماً ولأطلبن بدمه فقال لها الرجل ولم أنت كنت تقولين ما قلت فقالت‏:‏ إنهم استتابوه ثم قتلوه وانصرفت إلى مكة‏.‏ وجاءها الناس فقالت‏:‏ إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلماً ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه وقد استعمل أمثالهم من كان قباله ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها‏.‏ فلما لم يجدوا حجة ولا عذراً بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام‏.‏ والله لأصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم ولو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنباً لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه‏.‏ فقال عبد لله بن عامر الحضرمي وكان عامل مكة لعثمان‏:‏ أنا أول طالب فكان أول مجيب وتبعه بنو أميه وكانوا هربوا إلى مكة بعد قتل عثمان‏:‏ منهم سعيد بن العاص والوليد بن عقبة‏.‏ وقدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير ويعلى بن منية من اليمن بستمائة بعير وستمائة ألف فأناخ بالأبطح‏.‏ ثم قدم طلحة والزبير من المدينة فقالت لهما عائشة‏:‏ ما وراءكما‏.‏ قالا تحملنا هراباً من المدينة من غوغاء وأعراب غلبون على خيارهم فلم يمنعوا أنفسهم ولا يعرفون حقاً ولا ينكرون باطلأ‏.‏ فقالت‏:‏ انهضوا بنا إليهم وقال آخرون‏:‏ نأتي الشام‏.‏ فقال ابن عامر‏:‏ إن معاوية كفاكم الشام فأتوا البصرة فلي بها صنائع ولهم في طلحة هوى فنكروا عليه مجيئه من البصرة واستقام رأيهم على رأيه وقالوا إن الذين معنا لا يطيقون من بالمدينة ويحتجون ببيعة علي وإذا أتينا البصرة أنهضناهم كما أنهضنا أهل مكة وجاهدنا فاتفقوا ودعوا عبد الرحمن بن عمر إلى النهوض فأبى وقال‏:‏ أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون‏.‏ وكانت أمهات المؤمنين معها على قصد المدينة‏.‏ فلما نهضت إلى البصرة قعدوا عنها وأجابتها حفصة فمنعها أخوها عبد الله‏.‏ وجهزهم ابن عامر بما معه من المال ويعلى بن منية بما معه من المال والظهر‏.‏ ونادوا في الناس بالحملان فحملوا على ستمائة بعير وساروا في ألف من أهل مكة ومن أهل المدينة‏.‏ وتلاحق بهم الناس فكانوا ثلاثة آلاف وبعثت أم الفضل أم عبد الله بن عباس بالخبر استأجرت على كتابها من أبلغه علياً ونهضت عائشة ومن معها وجاء مروان بن الحكم إلى طلحة والزبير فقال على أيكما أسلم بالإمرة وأؤذن بالصلاة فقال ابن الزبير‏:‏ على أبي وقال ابن طلحة‏:‏ على أبي فأرسلت عائشة إلى مروان تقول له‏:‏ أتريد أن تفرق أمرنا ليصل بالناس ابن أختي تعني عبد الله بن الزبير‏.‏ وودع أمهات المؤمنين عائشة من ذات عرق باكيات وأشار سعيد بن العاص على مروان بن الحكم وأصحابه بإدراك ثأرهم من عائشة وطلحة والزبير‏.‏ فقالوا‏:‏ نسير لعلنا نقتل قتلة عثمان جميعأ‏.‏ ثم جاء إلى طلحة والزبير فقال لمن تجعلان الأمر إن ظفرتما‏.‏ قالا‏:‏ لأحدنا الذي تختاره الناس‏.‏ فقال‏:‏ بل اجعلوه لولد عثمان لأنكم خرجتم تطلبون بدمه فقالا‏:‏ وكيف ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم قال‏:‏ فلا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف‏.‏ فرجع ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد ووافقه للمغيرة بن شعبة ومن معه من ثقيف‏.‏ فرجعوا ومضى القوم ومعهم أبان والوليد إبنا عثمان‏.‏ وأركب يعلى بن منية عائشة جملاً اسمه عسكر اشتراه بمئة دينار وقيل بثمانين وقيل بل كان لرجل من عرينة عرض لهم بالطريق على جمل فاستبدلوا به جمل عائشة على أن حمله بألف فزادوه أربعمائة درهم وسألوه عن دلالة الطريق فدلهم ومر فقالت عائشة‏:‏ ردوني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه‏:‏ ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب‏.‏ ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وأقامت بهم يوماً وليلة إلى أن قيل النجاء‏!‏ النجاء‏!‏ قد أدرككم علي فارتحلوا نحو البصرة‏.‏ فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمي وأشار بأن يتقدم عبد الله بن عامر إليهم فأرسلته عائشة وكتبت معه إلى رجال من البصرة‏:‏ إلى الأحنف بن قيس وسمرة وأمثالهم وأقامت بالحفيين تنتظر الجواب‏.‏ ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وكان رجلاً عامة وأبا الأسود الدؤلي وكان رجلاً خاصة وقال‏:‏ انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها فجاءاها بالحفير وقالا‏:‏ إن أميرنا بعثنا نسألك عن مسيرك فقالت‏:‏ إن الغوغاء ونزاع القبائل فعلوا ما فعلوا‏.‏ فخرجت في المسلمين أعلمهم بذلك وبالذي فيه الناس وراءنا وما ينبغي من إصلاح هذا الأمر‏.‏ ثم قرأت‏:‏ ‏"‏ لا خير في كثير من نجواهم ‏"‏ الآية‏.‏ ثم عدلا عنها إلى طلحة فقالا ما أقدمك قال الطلب بدم عثمان‏!‏ فقالا‏:‏ ألم تبايع علياً قال بلى والسيف على رأسي وما استقبل على البيعة إن هو لم يخل بيننا وبين قتله عثمان‏.‏ وقال لهما الزبير مثل ذلك ورجعا إلى عثمان بن حنيف فاسترجع وقال‏:‏ دارت رحى الإسلام ورب الكعبة‏.‏ ثم قال‏:‏ أشيروا علي‏!‏ فقال عمران اعتزل قال بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين‏.‏ فجاءه هشام بن عامر فأشار عليه بالمسالمة والمسامحة حتى يأتي أمر علي فأبى ونادى في الناس بلبس السلاح‏.‏ ثم دس من يتكلم في الجمع ليرى ما عندهم‏.‏ فقال رجل‏:‏ إن هؤلاء القوم إن كانوا جاءوا خائفين فبلدهم يأمن فيه الطير وإن جاءوا لدم عثمان فما نحن بقتلته‏.‏ فأطيعوني وردهم من حيث جاءوا‏.‏ فقال الأسود بن سريع السعدي إنما جاءوا يستعينون بنا على قتلته منا ومن غيرنا فحصبه الناس‏.‏ فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصراً وكسر ذلك كله‏.‏ وانتهت عائشة ومن معها إلى المربد وخرج إليها عثمان فيمن معه‏.‏ وحضر أهل البصرة فتكلم طلحة من الميمنة فحمد الله وذكر عثمان وفضله ودعا إلى الطلب بدمه وحث عليه وكذلك الزبير‏.‏ فصدقهما أهل الميمنة وقال أصحاب عثمان من الميسرة‏:‏ بايعتم علياً ثم جئتم تقولون‏.‏ ثم تكلمت عائشة وقالت‏:‏ كان الناس يتجنبون على عثمان ويأتوننا بالمدينة فنجدهم فجرة ونجده براً تقياً وهم يحاولون غير ما يظهرون‏.‏ ثم كثروا واقتحموا عليه داره وقتلوه واستحلوا المحرمات بلا ترة ولا عذر‏.‏ ألا وإن مما ينبغي لكم ولا ينبغي غيره أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله‏.‏ ثم قرأت‏:‏ ‏"‏ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ‏"‏ الآية‏.‏ فاختلف أصحاب عثمان عليه وقال بعضهم إلى عائشة‏.‏ ثم افترق الناس وتحاصبوا وانحدرت عائشة إلى المربد وجاءها جارية بن قدامة السعدي فقال يا أم المؤمنين‏:‏ والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح‏.‏ إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك وإن من رأى قتالك يرى قتلك‏.‏ فإن كنت أتيتينا طائعة فارجعي إلى منزلك وإن كنت مكرهة فاستعيني بالله وبالناس على الرجوع‏.‏ وأقبل حكيم بن جبلة وهو على ظهر الخيل فأنشب القتال‏.‏ وأشرع أصحاب عائشة رماحهم فأقتتلوا على فم السكة وحجز الليل بينهم وباتوا يتأهبون وعاداهم حكيم بن جبلة فاعترضه رجل من عبد القيس فقتله حكيم ثم قتل إمرأة أخرى واقتتلوا إلى أن زال النهار‏.‏ وكثر القتل في أصحاب عثمان بن حنيف ولما عفتهم الحرب تنادوا إلى الصلح وتواعدوا على أن يبعثوا إلى المدينة فإن كان طلحة والزبير أكرها سلم لهم عثمان الأمر وإلا رجعا عنه‏.‏ وسار كعب بن سوار القاضي إلى أهل المدينة يسألهم عن ذلك فجاءهم يوم جمعة وسألهم فلم يجبه إلا أسامة بن زيد فإنه قال‏:‏ بايعا مكرهين‏.‏ فضربه الناس حتى كاد يقتل‏.‏ ثم خلصه صهيب وأبو أيوب ومحمد بن مسلمة إلى منزله‏.‏ ورجع كعب وبلغ الخبر بذلك إلى علي فكتب إلى عثمان بن حنيف يعجزه ويقول‏:‏ والله ما أكره على فرقة ولقد أكره على جماعة وفضل فإن ولما جاء كعب بقول أهل المدينة بعث طلحة والزبير إلى عثمان ليجتمع بهما فامتنعا واحتج بالكتاب وقال‏:‏ هذا غير ما كنا فيه‏.‏ فجمع طلحة والزبير الناس وجاءا إلى المسجد بعد صلاة العشاء في ليلة ظلماء شاتية وتقدم عبد الرحمن بن عتاب في الوحل فوضع السلاح في الجابية من الزط والسابحة وهو أربعون رجلاً فقاتلوهم وقتلوا عن آخرهم‏.‏ واقتحموا على عثمان فأخرجوه إلى طلحة والزبير وقد نتفوا شعر وجهه كله وبعثا إلى عائشة بالخبر فقالت‏:‏ خلوا سبيله‏.‏ وقيل أمرت بإخراجه وضربه وكان الذي تولى إخراجه وضربه مجاشع بن مسعود‏.‏ وقيل أن الإتفاق إنما وقع بينهم على أن يكتبوا إلى علي فكتبوا إليه‏.‏ وأقام عثمان يصلي فاستقبلوه ووثبوا عليه فظفروا به وأرادوا قتله ثم استبقوه من أجل الأنصار وضربوه وحبسوه‏.‏ ثم خطب طلحة والزبير وقالا‏:‏ يا أهل البصرة‏!‏ توبة بحوبة إنما أردنا أن نستعتب عثمان فغلب السفهاء فقتلوه‏.‏ فقالوا لطلحة‏:‏ قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا‏!‏ قال الزبير‏:‏ أما أنا فلم أكاتبهم وأخذ يرمي علياً بقتل عثمان‏.‏ فقال رجل من عبد القيس‏:‏ يا معشر المهاجرين أنتم أول من أجاب داعي الإسلام وكان لكم بذلك الفضل ثم استخلفتم مراراً ولم تشاورونا وقتلتم كذلك ثم بايعتم علياً وجئتم تستعدوننا عليه فماذا الذي نقمتم عليه فهموا بقتله ومنعته عشيرته‏.‏ ثم وثبوا من الغد على عثمان ومن معه فقتلوا منهم سبعين‏.‏ وبلغ حكيم بن جبلة ما فعل بعثمان بن حنيف فجاءه لنصره في جماعة من عبد القيس فوجد عبد الله بن الزبير فقال له‏:‏ ما شأنك قال تخلوا عن عثمان وتقيمون على ما كنتم حتى يقدم علي‏.‏ وقد استحللتم الدم الحرام تزعمون الطلب بثأر عثمان وهم لم يقتلوه ثم ناجزهم الحرب في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين‏.‏ وأقام حكيم أربعة قواد فكان هو بحيال طلحة وذريح بحيال الزبير وابن المحرش بحيال عبد الرحمن بن عتاب وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحرث بن هشام‏.‏ وتزاحفوا واستحر القتل فيهم حتى قتل كثير منهم وقتل حكيم وذريح وأفلت حرقوص في فل من أصحابه إلى قومهم بني سعد وتتبعوهم بالقتل وطالبوا بني سعد بحرقوص وكانوا عثمانية فاعتزلوا وغضبت عبد القيس كلهم والكثير من بكر بن وائل وأمر طلحة والزبير بالعطاء في أهل الطاعة لهما‏.‏ وقصدت عبد القيس وبكر بيت المال فقاتلوهم ومنعوهم وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة بالخبر وأمرتهم أن يثبطوا الناس عن علي وأن يقوموا بدم عثمان وكتبت بمثل ذلك إلى اليمامة والمدينة‏.‏ ولنرجع إلى خبر علي‏:‏ وقد كان لما بلغه خبر طلحة والزبير وعائشة ومسيرهم إلى البصرة دعا أهل المدينة للنصرة وخطبهم فتثاقلوا أولاً وأجابه زياد بن حنظلة وأبو الهيثم وخزيمة بن ثابت وليس بذي الشهادتين وأبو قتادة في آخرين وبعثت أم سلمة معه ابن عمها وخرج يسابق طلحة واستخلف على المدينة تمام بن عباس وقيل سهل بن حنيف وعلى مكة قثم بن العباس‏.‏ وسار في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسار معه من نشط من الكوفيين والمصريين متخففين في تسعمائة ولقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال يا أمير المؤمنين‏:‏ لا تخرج منها فوالله إن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً‏.‏ فبدر الناس إليه‏.‏ فقال دعوه فنعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وسار فانتهى إلى الربذة وجاء خبر سبقهم إلى البصرة فأقام يأمر بما يفعل ولحقه ابنه الحسن وعذله في خروجه وما كان من عصيانه إياه‏.‏ فقال‏:‏ ما الذي عصيتك فيه حين أمرتني قال أمرتك أن تخرج عند حصار عثمان من المدينة ولا تحضر لقتله ثم عند قتله ألا تبايع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة الأمصار ثم عند خروج هؤلاء أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا‏.‏ فقال‏:‏ أما الخروج من المدينة فلم يكن إليه سبيل وقد كان أحيط بنا كما أحيط بعثمان وأما البيعة فخفنا ضياع الأمر والحل والعقد لأهل المدينة لا للعرب ولا للأمصار ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحق بالأمر بعده‏.‏ فبايع الناس غيري واتبعتهم في أبي بكر وعمر وعثمان فقتلوه وبايعوني طائعين غير مكرهين‏.‏ فأنا أقاتل من خالف بمن أطاع إلى أن يحكم الله فهو خير الحاكمين‏.‏ وأما القعود عن طلحة والزبير فإذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر فمن ينظر فيه ثم أرسل إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر يستنفران الناس وأقام بالربذة يحرض الناس وأرسل إلى المدينة في أداته وسلاحه وقال له بعض أصحابه‏:‏ عرفنا بقصدك من القوم قال‏:‏ الإصلاح إن قبلوا وإن بادرونا امتنعنا‏.‏ ثم جاءه جماعة من طيء نافرين معه فقبلهم وأثنى عليهم‏.‏ ثم سار من الربذة وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمرو بن الجراح‏.‏ ولما انتهى إلى فيد أتته أسد وطيء وعرضوا على النفير معه فقال‏:‏ إلزموا قراركم ففي المهاجرين كفاية‏.‏ ولقيه هنالك رجل من أهل الكوف من بني شيبان فسأله عن أبي موسى فقال‏:‏ إن أردت الصلح فهو صاحبه وإن أردت القتال فليس بصاحبه فقال‏:‏ والله ما أريد إلا الصلح حتى يرد علينا‏.‏ ثم انتهى إلى الثعلبية والأساد فبلغه ما لقي عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة‏.‏ ثم جاءه بذي قار عثمان بن حنيف وأراه ما بوجهه فقال‏:‏ أصبت أجراً وخيراً‏.‏ إن الناس وليهم قبلي رجلان فعملا بالكتاب ثم ثالث فقالوا وفعلوا ثم بايعوني ومنهم طلحة والزبير ثم نكثا وألبا علي‏.‏ ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان وخلافهما علي والله إنهما ليعلمان أني لست دونهم‏.‏ ثم أخذ في الدعاء عليهما وابن وائل هنالك يعرضون عليه النفير فأجابهم مثل طيء وأسد‏.‏ وبلغه خروج عبد القيس على طلحة والزبير فأثنى عليهم‏.‏ وأما محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فبلغا إلى الكوفة ودفعا إلى أبي موسى كتاب علي وقاما في الناس بأمر فلم يجبهما أحد‏.‏ وشاوروا أبا موسى في الخروج إلى علي فقال‏:‏ الخروج سبيل الدنيا والقعود سبيل الآخرة فقعدوا كلهم‏.‏ وغضب محمد ومحمد وأغلظا لأبي موسى فقال لهما‏:‏ والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق علي وإن كان لا بد من القتال فحتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا فرجعا إلى علي بالخبر وهو بذي قار‏.‏ فرجع علي باللائمة على الأشتر وقال‏:‏ أنت صاحبنا في أبي موسى فاذهب أنت وابن العباس وأصلح ما أفسدت‏.‏ فقدما على أبي موسى وكلماه واستعانا عليه بالناس فلم يجب إلى شيء ولم ير إلا القعود حتى تنجلي الفتنة ويلتئم الناس‏.‏ فرجع ابن عباس والأشتر إلى علي فأرسل علي ابنه الحسن وعمار بن ياسر وقال لعمار‏:‏ إنطلق فأصلح ما أفسدت فانطلقا حتى دخلا المسجد وخرج أبو موسى فلقي الحسن بن علي فضمه إليه وقال لعمار‏:‏ يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين فيمن عدا وأحللت نفسك مع الفجار فقال لم أفعل فأقبل الحسن على أبي موسى فقال‏:‏ لم تثبط الناس عنا وما أردنا إلا الإصلاح ومثل أمير المؤمنين لا يخاف على شيء‏!‏ قال‏:‏ صدقت‏!‏ بأبي أنت وأمي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ستكون فتنبه القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الراكب والمسلمون إخوان ودماؤهم وأموالهم حرام‏.‏ فغضب عمار وسبه فسبه آخر وتثاور الناس ثم كفهم أبو موسى وجاء زيد بن صوحان بكتاب عائشة إليه وكتابها إلى أهل الكوفة فقرأهما على الناس في سبيل الإنكار عليها‏.‏ فسبه شبت بن ربعي وتهاوى الناس وأبو موسى يكفهم ويأمرهم بلزوم البيوت حتى تنجلي الفتنة ويقول‏:‏ أطيعوني وخلوا قريشاً إذ أبوا إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل العلم حتى ينجلي الأمر‏.‏ وناداه زيد بن صوحان بإجابة علي والقيام بنصرته وتابعه القعقاع بن عمرو فقام بعده فقال لا سبيل إلى الفوضى‏.‏ وهذا أمير المؤمنين مليء بما ولي وقد دعاكم فانفروا وقال عبد خير مثل ذلك وزاد‏:‏ يا أبا موسى هل تعلم أن طلحة والزبير بايعا قال نعم‏!‏ قال فهل أحدث علي ما ينقض البيعة قال لا أدري‏.‏ قالا‏:‏ دريت ونحن نتركك حتى تدري‏.‏ ثم قال سيحان بن صوحان مثلما قال القعقاع وحرض على طاعة علي وقال‏:‏ فإنه دعاكم تنظرون ما بينه وبين صاحبيه وهو المأمون على الأمة الفقيه في الدين فقال عمار‏:‏ هو دعاكم إلى ذلك لتنظروا في الحق وتقاتلوا معه لا عليه‏.‏ فقال الحسن أجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم وإن أمير المؤمنين يقول إن كنت مظلوماً أطيعوني أو ظالماً فخذوا مني بالحق والله إن طلحة والزبير أول من بايعني وأول من غدر‏.‏ فأجاب الناس وحرض عدي بن حاتم قومه وحجر بن عدي كذلك فنفر مع الحسن من الكوفة تسعة آلاف سارت منها ستة في البر وباقيهم في وأرسل علي بعد مسير الحسن وعمار الأشتر إلى الكوفة فدخلها والناس في المسجد وأبو موسى والحسن وعمار في منازعة معه ومع الناس فجعل الأشتر يمر بالقبائل ويدعوهم إلى القصر حتى انتهى إليه في جماعة الناس فدخله وأبو موسى بالمسجد يخطبهم ويثبطهم والحسن يقول له‏:‏ اعتزل عملنا واترك منبرنا فدخل الأشتر إلى القصر وأمر بإخراج غلمان أبي موسى من القصر‏.‏ وجاءه أبو موسى فصاح به الأشتر‏:‏ اخرج لا أم لك وأجاه تلك العشية‏.‏ ودخل الناس لينهبوا متاعه فمنعهم الأشتر ونفر الناس مع الحسن كما قلنا وكان الأمراء على أهل النفير‏:‏ على كنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل بن يسار الرياحي وعلى قبائل قيس بن مسعود الثففي عم المختار وعلى بكر وتغلب وعلة بن مجدوح الذهلي وعلى مذجح والأشعريين حجر بن عدي وعلى بجيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم الأزدي‏.‏ ورؤساء الجماعة من الكوفيين القعقاع بن عمرو وسعد بن مالك وهند بن عمرو والهيثم بن شهاب ورؤساء النفار زيد بن صوحان والأشتر وعدي بن حاتم والمسيب بن نجبة ويزيد بن قيس وأمثالهم‏.‏ فقدموا على علي بذي قار فركب إليهم ورحب بهم وقال‏:‏ يا أهل الكوفة دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فهو الذي نريد وإن يلجوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بالظلم ولا ندع أمراً فيه الصلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله‏.‏ فاجتمع الناس عنده بذي قار وعبد القيس بأسرها وهم ألوف ينتظرونه ما بينه وبين البصرة‏.‏ ثم دعا القعقاع وكان من الصحابة فأرسله إلى أهل البصرة وقال‏:‏ إلق هذين الرجلين فادعهما للإلفة والجماعة وعظم عليهما الفرقة فقال له‏:‏ كيف تصنع إذا قالوا ما لا وصاة مني فيه عندك قال‏:‏ نلقاهم بالذي أمرت به فإذا جاء منهم ما ليس عندنا منك رأي فيه اجتهدنا رأينا وكلمناهم كما نسمع ونرى إنه ينبغي قال‏:‏ أنت لها‏.‏ فخرج القعقاع فقدم البصرة وبدأ بعائشة‏.‏ فقال أي أمة ما أشخصك‏.‏ قالت أريد الإصلاح بين الناس‏.‏ قال فابعثي إلى طلحة والزبير تسمعي مني ومنهما‏.‏ فبعثت إليهما فجاءا فقال لهما‏:‏ إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت الإصلاح وكذلك قالا‏.‏ فأخبرني ما هو قال قتلة عثمان‏!‏ فإن تركهم ترك للقرآن‏.‏ قال‏:‏ فقد قتلت منهم ستمائة من أهل البصرة وغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعته ست آلاف فإن قاتلتم هؤلاء كلهم اجتمعت مضر وربيعة على حربكم فأين الإصلاح قالت عائشة فماذا تقول أنت قال هذا الأمر دواؤه التسكين وإذا سكن إختلجوا فآثروا العافية ترزقوها وكونوا مفاتيح خير ولا تعرضونا للبلاء فنتعرض له ويصرعنا وإياكم‏.‏ فقالوا قد أصبت وأحسنت فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر‏.‏ فرجع وأخبر علياً فأعجبه وأشرف القوم على الصلح‏.‏ وقد كانت وفود أهل البصرة أقبلوا إلى علي قبل رجوع القعقاع وتفاوضوا مع أهل الكوفة واتفقوا جميعاً على الإصلاح‏.‏ ثم خطب علي الناس وأمرهم بالرحيل من الغد وأن لا يرجع معه أحد ممن أعان على عثمان‏.‏ فاجتمع من أهل مصر ابن السوداء وخالد بن ملجم والأشتر والذين رضوا بمن سار إليه مثل علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسي وشريح بن أوفى‏.‏ وتشاوروا فيما قال علي وقالوا‏:‏ هو أبصر بكتاب الله وأقرب إلى العمل به من أولئك وهو يقول ما يقول وإنما معه الذين أعانوا على عثمان فكيف إذا اصطلحوا واجتمعوا ورأوا قلتنا في كثرتهم فقال الأشتر رأيهم والله فينا واحد وإن يصطلحوا فعلى دمائنا فهلموا نثب على طلحة نلحقه بعثمان ثم يرضى منا بالسكوت‏.‏ فقال ابن السوداء‏:‏ طلحة وأصحابه نحو من خمسة آلاف وأنتم ألفان وخمسمائة فلا تجدون إلى ذلك سبيلاً‏.‏ وقال علباء بن الهيثم اعتزلوا الفريقين حتى يأتيكم من تقومون به‏.‏ فقال ابن السوداء‏:‏ ود والله الناس لو انفردتم فيتخطفونكم فقال عدي‏:‏ والله ما رضيت ولا كرهت فأما إذا وقع ما وقع ونزل الناس بهذه المنزلة فإن لنا خيلاً وسلاحاً فإن أقدمتم أقدمنا وإن أحجمتم أحجمنا‏.‏ ثم قال سالم بن ثعلبة وسويد بن أوفى أبرموا أمركم‏.‏ ثم تكلم ابن السوداء فقال‏:‏ يا قوم إن عزكم في خلطة الناس فصانعوهم وإذا التقى الناس غدأ فأنشبوا القتال فلا يجدون بداً منه ويشغلهم الله عما تكرهون‏.‏ وافترقوا على ذلك وأصبح علي راحلاً حتى نزل على عبد القيس فانضموا إليه وساروا معه‏.‏ فنزل الزاوية وسار من الزاوية إلى البصرة وسار طلحة والزبير وعائشة من الفرضة والتقوا بموضع قصر عبيد الله بن زياد منتصف جمادى الآخرة‏.‏ وتراسلت بكر بن وائل وعبد القيس وجاءوا إلى علي رضي الله تعالى عنه فكانوا معه‏.‏ وأشار على الزبير بعض أصحابه أن يناجز القتال فاعتذر بما وقع بينه وبين القعقاع‏.‏ وطلب من علي رضي الله عنه أصحابه مثل ذلك فأبى وسئل ما حالنا وحالهم في القتلى فقال‏:‏ أرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقي قلبه لله إلا أدخله الجنة‏.‏ ونهى عن قتالهم وبعث إليهم حكيم بن سلام ومالك بن حبيب إن كنتم على ما جاء به القعقاع فكفوا حتى ننزل وننظر في الأمر‏.‏ وجاءه الأحنف بن قيس وكان معتزلاً عن القوم وقد كان بايع علياً بالمدينة بعد قتل عثمان مرجعه من الحج‏.‏ قال الأحنف‏:‏ ولم أبايعه حتى لقيت طلحة والزبير وعائشة بالمدينة وعثمان محصور وعلمت أنه مقتول فقلت لهم‏:‏ من أبايع بعده قالوا علياً فلما رجعت وقد قتل عثمان بايعت علياً‏.‏ فلما جاءوا إلى البصرة دعوني إلى قتال علي فحرت في أمري ما بين خذلانهم أو خلع طاعتي‏.‏ فقلت‏:‏ ألم تأمروني بمبايعته قالوا نعم لكنه بدل وغير فقلت‏:‏ لا انقض بيعتي ولا أقاتل أم المؤمنين ولكن اعتزل‏.‏ ونزل بالجلحاء على فرسخين من البصرة في زهاء ستة آلاف‏.‏ فلما قدم علي جاءه وخيره بين القتال معه أو كف عشرة آلاف سيف عنه فاختار الكف ونادى في تميم وبني سعد فأجابوه فاعتزل بهم حتى ظفر علي فرجع إلي واتبعه‏.‏ ولما تراءى الجمعان خرج طلحة والزبير وجاءهم علي حتى اختلفت أعناق دوابهم‏.‏ فقال علي‏:‏ لقد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دمكما فهل من حدث أحل لكما دمي قال طلحة‏:‏ ألبت على عثمان‏!‏ قال علي يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق‏.‏ فلعن الله قتلة عثمان يا طلحة‏:‏ أما بايعتني قال والسيف على عنقي‏.‏ ثم قال للزبير أتذكر يوم قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقاتلنه وأنت له ظالم قال اللهم نعم ولو ذكرته قبل مسيري ما سرت ووالله لا أقاتلك أبداً وافترقوا‏.‏ فقال علي لأصحابه أن الزبير قد عهد أن لا يقاتلكم ورجع الزبير إلى عائشة وقال‏:‏ ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف أمري غير موطني هذا‏.‏ قالت فما تريد تصنع قال أدعهم وأذهب‏.‏ فقال له ابنه عبد لله‏:‏ خشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت إن حامليها فتية أنجاد وإن تحتها الموت الأحمر فجنبت فاحفظه ذلك‏.‏ وقال‏:‏ حلفت قال‏:‏ كفر عن يمينك فاعتق غلامه مكحولاً وقيل إنما أراد الرجوع عن القتال حين سمع أن عمار بن ياسر مع علي لما ورد‏:‏ ويح عمار تقتله الفئة الباغية‏.‏ وكان أهل البصرة على ثلاث فرق مفترقين مع هؤلاء وهؤلاء وثالثة اعتزلت كالأحنف بن قيس وعمران بن حصين‏.‏ ونزلت عائشة في الأزد ورأسهم صبرة بن شيمان وأشار عليه كعب بن سور بالاعتزال فأبى وكان معها قبائل كثيرة من مضر الرباب وعليهم المنجاب بن راشد وبنو عمرو بن تميم وعليهم أبو الجربا وبنو حنظلة وعليهم هلال وكيع وسليم وعليهم مجاشع بن مسعود وبنو عامر وغطفان وعليهم زفر بن الحرث والأزد وعليهم صبرة بن شيمان وبكر وعليهم مالك بن مسمع وبنو ناجية وعليهم الخريت بن راشد وهم في نحو ثلاثين ألفاً‏.‏ وعلي في عشرين ألفاً والناس جميعاً متنازلون‏:‏ مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة ولا يشكون في الصلح وقد ردوا حكيماً ومالكاً إلى علي إنا علي ما فارقنا عليه القعقاع‏.‏ وجاء ابن عباس إلى طلحة والزبير ومحمد بن طلحة إلى علي وتقارب أمر الصلح وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة يتشاورون واتفقوا على إنشاب الحرب بين الناس فغسلوا وما يشعر بهم أحد‏.‏ وقصد مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة ويمن إلى يمن فوضعوا السلاح‏.‏ وثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم‏.‏ وبعث طلحة والزبير عبد الرحمن بن الحرث بن هشام إلى الميمنة وهم ربيعة‏.‏ وعبد الرحمن بن عتاب إلى الميسرة وركبا في القلب وتساءل الناس ما هذا فقالوا‏:‏ طرقنا أهل الكوفة ليلاً‏!‏ فقال طلحة والزبير‏:‏ إن علياً لا ينتهي حتى يسفك الدماء ثم دفعوا أولئك المقاتلين فسمع علي وأهل عسكره الصيحة فقال ما هذا فقيل له أظنه سقط من هنا طرقنا أو نحوه السبئية بيتونا ليلاً فرددناهم فوجدنا القوم على أهبة فركبونا وثار الناس وركب علي‏.‏ وبعث إلى الميمنة والميسرة صاحبها وقال‏:‏ إن طلحة والزبير لا ينتهيان حتى تسفك الدماء ونادى في الناس كفوا وكان رأيهم جميعاً في تلك الفتنة أن لا يقتتلوا حتى يقيموا الحجة ولا يقتلوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح ولا يستحلوا سلباً‏.‏ وأقبل كعب بن سور إلى عائشة وقال‏:‏ قد أبى القوم إلا القتال فلعل الله يصلح بك‏.‏ فأركبها وألبسوا هودجها الأدراع وأوقفوها بحيث تسمع الغوغاء واقتتل الناس حتى انهزم أصحاب الجمل وذهب وأصيب طلحة بسهم في رجله‏.‏ فدخل البصرة ودمه يسيل إلى أن مات‏.‏ وذهب الزبير إلى وادي السباع لما ذكره علي فمر بعسكر الأحنف واتبعه عمرو بن جرموز وكان يسائله حتى قام إلى الصلاة قبله ورجع بفرسه وسلاحه وخاتمه إلى الأحنف فقال‏:‏ والله ما تدري أحسنت أم أسأت فجاء ابن جرموز إلى علي وقال للحاجب‏:‏ إستأذن لقاتل الزبير فقال لحاجبه ائذن له وبشره‏.‏ بالنار‏.‏ ولما بلغت الهزيمة البصرة ورأوا الخيل أطافت بالجمل رجعوا وشبت الحرب كما كانت‏.‏ وقالت عائشة لكعب بن سور وناولته مصحفاً‏:‏ تقدم فادعهم إليه واستقبل القوم فقتله السبئية رشقأ بالسهم ورموا عائشة في هودجها حتى جأرت بالاستغاثة ثم بالدعاء على قتلة عثمان وضج الناس بالدعاء فقال علي ما هذا قالوا عائشة تدعو على قتلة عثمان‏!‏ فقال‏:‏ اللهم إلعن قتلة عثمان‏.‏ ثم أرسلت عائشة إلى الميمنة والميسرة وحرضتهم‏!‏ وتقدم مضر الكوفة ومضر البصرة فاجتلدوا أمام الجمل حتى ضرسوا وقتل زيد بن صوحان من أهل الكوفة وأخوه سيحان وارتث أخوهما صعصعة‏.‏ وتزاحف الناس وتأخرت يمن الكوفة وربيعتها‏!‏ ثم عادوا فقتل على رايتهم عشرة ثم أخذها يزيد بن قيس فثبت‏.‏ وقتل تحت راية ابن ربيعة زيد وعبد لله بن رقية وأبو عبيدة بن راشد بن سلمة‏.‏ واشتد الأمر ولزقت ميمنة الكوفة بقلبهم وميسرة أهل البصرة بقلبهم ومنعت ميمنة هؤلاء ميسرة هؤلاء وميسرة هؤلاء ميمنة هؤلاء وتنادى شجعان مضر من الجانبين بالصبر وقصدوا الأطراف يقطعونها‏.‏ وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتاب قبل قتله‏.‏ وقاتل عند الجمل الأزد ثم بنو ضبة وبنو عدي بن عبد مناف وكثر القتل والقطع وصارت المجنبات إلى القلب ومحمد بن طلحة أمامهم وحمل عدي بن زيد ففقئت عينه وحمل الأشتر واستمر القتل إلى الجمل حتى قتل على الخطام أربعون رجلاً أو سبعون كلهم من قريش‏.‏ فجرح عبد الله بن الزبير وقتل عبد الرحمن بن عتاب وجنب بن زهير العامري وعبد الله بن حكيم بن حزام ومعه راية قريش فقتله الأشتر وأعانه فيه عدي بن حاتم وقتل الأسود بن أبي البختري وهو آخذ بالخطام وبعده عمر بن الأشرف الأزدي في ثلاثة عشر من أهل بيته وجرح مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير سبعاً وثلاثين جراحة ما بين طعنة ورمية‏.‏ ونادى علي اعقروا الجمل يتفرقوا وضربه رجل فسقط فما كان صوت أشد عجيجاً منه‏.‏ وكانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم فقتل فأخذها الصقعب أخوه فقتل ثم أخوهما عبد الله كذلك فأخذها العلاء بن عروة فكان الفتح وهي بيده‏.‏ وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن سليم فقتل ومعه زيد وسيحان ابنا صوحان‏.‏ وأخذها عده فقتلوا منهم عبد الله بن رقية ثم منقذ بن النعمان ودفعها إلى ابنه مرة فكان الفتح وهي بيده‏.‏ وكانت راية بكر بن وائل في بني ذهل مع الحرث بن حسان فقتل من بني أهله ورجال من بني مخزوم وخمسة وثلاثين من بني ذهل‏.‏ وقيل في عقر الجمل إن القعقاع دعا الأشتر وقد جاء من القتال عند الجمل إلى العود فلم يجبه وحمل القعقاع والخطام بيد زفر بن الحرث فأصيب شيوخ من بني عامر‏.‏ وقال القعقاع لبجير بن دلجة من بني ضبة وهو من أصحاب علي يا بجير صح بقومك يعقروا الجمل قبل أن يصابوا وتصاب أم المؤمنين‏.‏ فضرب ساق البعير فوقع على شقه وأمر القعقاع من يليه واجتمع هو وزفر على قطع بطان البعير وحملا الهودج فوضعاه وهو كالقنفذ بالسهام ومر من ورائه‏.‏ وأمر علي فنودي لا تتبعوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تدخلوا الدور‏.‏ وأمر بحمل الهودج من بين القتلى‏.‏ وأمر محمد بن أبي بكر أن يضرب عليها قبة وأن ينظر هل بها جراحة وجاء يسألها‏.‏ وقيل لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه عمار فاحتملا الهودج إلى ناحية ليس قربه أحد وأتاها علي فقال‏:‏ كيف أنت يا أمة‏!‏ قالت بخير‏!‏ قال يغفر الله لك‏!‏ قالت ولك وجاء وجوه الناس إليها فيهم القعقاع بن عمرو فسلم عليها وقالت له‏:‏ وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة وجاء إلى علي فقال له مثل قولها‏.‏ ولما كان الليل أدخلها أخوها محمد بن أبي بكر الصديق البصرة فأقرها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية زوجته بنت الحرث بن أبي طلحة من بني عبد الدار أم طلحة الطلحات بن عبد الله‏.‏ وتسلل الجرحى من بين القتلى فدخلوا ليلاً إلى البصرة وأذن علي في دفن القتلى فدفنوا بعد أن طاف عليهم‏.‏ ورأى كعب بن سور وعبد الرحمن بن عتاب وطلحة بن عبيد الله وهو يقول‏:‏ زعموا أنه يخرج إلينا إلا الغوغاء وأمثال هؤلاء فيهم‏.‏ ثم صل على القتلى من الجانبين وأمر بالأطراف فدفنت في قبر عظيم وجمع ما كان في العسكر من كل شيء وبعث به إلى مسجد البصرة وقال‏:‏ من عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً عليه سمة السلطان‏.‏ وأحصى القتلى من الجانبين فكانوا عشرة آلاف منهم من ضبة ألف رجل‏.‏ ولما فرغ علي من الوقعة جاءه الأحنف بن قيس في بني سعد فقال له‏:‏ تربصت‏!‏ فقال‏:‏ ما أراني إلا قد أحسنت وبأمرك كان فارفق فإن طريقك بعيد وأنت إلي غداً أحوج منك أمس فلا تقل لي مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحاً‏.‏ ثم دخل البصرة يوم الإثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة‏.‏ وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة فبايعه وعرض له في عمه زياد بأنه متربص‏.‏ فقال‏:‏ والله إنه لمريض وعلى مسرتك لحريص فقال‏:‏ إنهض أمامي فمضى فلما دخل عليه علي فتبعه فقبل عذره واعتذر بالمرض قبل عذره‏.‏ وأراده على البصرة فامتنع وقال‏:‏ ولها رجلاً من أهلك تسكن إليه الناس وسأشير عليه وأشار بإبن عباس فولاه‏.‏ وجعل زياداً على الخراج وبيت المال وأمر ابن عباس بموافقته فيما يراه‏.‏ ثم راح علي إلى عائشة في دار ابن خلف وكان عبد الله بن خلف قتل في الوقعة فاستاءت أمه وبعض النسوة عليه فأعرض عنهن وحرضه بعض أصحابه عليهن فقال‏:‏ إن النساء ضعيفات وكنا نؤمر بالكف عنهن وهن مشركات فكيف بهن مسلمات ثم بلغه أن بعض الغوغاء عرض لعائشة بالقول والإساءة فأمر من أحضر له بعضهم وأوجعهم ضربأ‏.‏ ثم جهزها علي إلى المدينة بما احتاجت إليه وبعثها مع أخيها محمد مع أربعين من نسوة البصرة اختارهن لمرافقتها وأذن للفل ممن خرج معها أن يرجعوا معها ثم جاء يوم ارتحالها فودعها واستعتبت له واستعتب لها ومشى معها أميالاً وشيعها بنوه مسافة يوم وذلك غرة رجب فذهبت إلى مكة فقضت الحج ورجعت إلى المدينة وخرج بنو أمية من الفل ناجين إلى الشام‏.‏ فعتبة بن أبي سفيان وعبد الرحمن ويحيى أخو مروان خلصوا إلى عصمة بن أبير التيمي إلى أن اندملت جراحهم ثم بعثهم إلى الشام وأما عبد الله بن عامر فخلص إلى بني حرقوص ومضى من هنالك وأما مروان بن الحكم فأجاره أيضاً مالك بن مسمع وبعثه وقيل كان مع عائشة فلما ذهبت إلى مكة فارقها إلى المدينة‏.‏ وأما الزبير فاختفى بدار بعض الأزد وبعث إلى عائشة يعلمها بمكانه فأرسلت أخاها محمداً وجاء إليها به‏.‏ ثم قسم علي جميع ما في بيت المال على من شهد معه وكان يزيد على ستمائة ألف فأصاب كل رجل خمسمائة وقال‏:‏ إن أظفركم الله بالشام فلكم مثلها إلى إعطياتكم فخاض السبئية بالطعن عليه بذلك وبتحريم أموالهم مع إراقة دمائهم ورحلوا عنه فأعجلوه عن المقام بالبصرة وارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمراً إن وقد قيل في سياق أمر الجمل غير هذا‏.‏ وهو أن علياً لما أرسل محمد بن أبي بكر إلى أبي موسى ليستنفر له أهل الكوفة وامتنع سار هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى علي بالربذة فأخبره فأعاده إليه يقول له‏:‏ إني لم أولك إلا لتكون من أعواني على الحق فامتنع أبو موسى وكتب إليه هاشم مع المحل بن خليفة الطائي فبعث علي ابنه الحسن وعمار بن ياسر يستنفران كما مر‏.‏ وبعث قرظة بن كعب الأنصاري أميراً وبعث إليه‏:‏ إني قد بعثت الحسن وعماراً يستنفران الناس وبعثت قرظة بن كعب والياً على الكوفة فاعتزل عملنا مذمومأ مدحوراً وإن لم تفعل فقد أمرته أن ينابذك وإن ظفر بك أن يقطعك إربا إربأ‏.‏ وإن الناس تواقفوا للقتال وأمر علي من يتقدم بالمصحف يدعوهم إلى ما فيه وإن قطع وقتل‏.‏ وحمله بعض الناس وفعل ذلك فقتل وحملت ميمنة علي على ميسرتهم فاقتتلوا ولاذ الناس بجمل عائشة أكثرهم من ضبة والأزد ثم انهزموا آخر النهار‏.‏ واستحر في الأزد القتل وحمل عمار على الزبير يحوزه بالرمح ثم استلان له وتركه‏.‏ وألقى عبد الله بن الزبير نفسه في الجرحى وعقر الجمل واحتمل عائشة أخوها محمد فأنزلها وضرب عليها قبة ووقف عليها علي يعاتبها‏.‏ فقالت له‏:‏ ملكت فاسجح نعم ما أبكيت قومك هذا أمر الجمل ملخص من كتاب أبو جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرخين‏.‏ وقتل يوم الجمل عبد الرحمن أخو طلحة من الصحابة والمحرز بن حارثة العبشمي وكان عمر ولاه على مكة ومجاشع ومجالد ابنا مسعود مع عائشة‏.‏ وعبد الله بن حكيم بن حزام وهند بن أبي هالة وهو ابن خديجة قتل مع علي وقيل بالبصرة وغيرهم‏.‏ انتهى أمر الجمل‏.‏ ولما فرغ الناس من هذه الوقعة اجتمع صعاليك من العرب وعليهم جبلة بن عتاب الحنظلي وعمران بن الفضل البرجمي وقصدوا سجستان وقد نكث أهلها وبعث علي إليهم عبد الرحمن بن جرو الطائي فقتلوه فكتب إلى عبد الله بن عباس أن يبعث إلى سجستان والياً‏.‏ فبعث ربعي بن كاس العنبري في أربعة آلاف ومعه الحصين بن أبي الحر فقتل جبلة وانهزموا وضبط ربعي البلاد واستقامت‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:08 PM

انتفاض محمد بن أبي حذيفة بمصر ومقتله
لما قتل حذيفة بن عتبة يوم اليمامة ترك ابنه محمداً في كفالة عثمان وأحسن تربيته وسكر في بعض الأيام فجلده عثمان ثم تنسك وأقبل على العبادة وطلب الولاية من عثمان فقال‏:‏ لست لها بأهل فاستأذنه على اللحاق بمصر لغزو البحر فأذن له وجهزه ولزمه الناس وعظموه لما رأوا من عبادته‏.‏ ثم غزا مع ابن أبي سرح غزوة الصواري كما مر فكان يتعرض له بالقدح فيه وفي عثمان وبتوليته ويجتمع في ذلك مع محمد بن أبي كر وشكاهما ابن أبي سرح إلى عثمان فكتب إليه بالتجافي عنهما لوسيلة ذاك بعائشة وهذا لتربيته‏.‏ وبعث إلى ابن أبي حذيفة ثلاثين ألف درهم وحمل من الكسوة فوضعهما ابن أبي حذيفة في المسجد وقال‏:‏ يا معشر المسلمين كيف أخادع عن ديني وآخذ الرشوة طيه فازداد أهل مصر تعظيماً له وطعنا على عثمان وبايعوه على رياستهم وكتب إليه ضمان يذكره بحقوقه عليه فلم يرده ذلك‏.‏ وما زال يحرض الناس عليه حتى خرجوا لحصاره وأقام هو بمصر وخرج ابن أبي سرح إلى عثمان فاستولى هو على مصر وضبطها إلى أن قتل عثمان وبويع علي وبايع عمرو بن العاص لمعاوية وسار إلى مصر قبل قدوم قيس بن سعد فمنعهما فخدع محمد حتى خرج إلى العريش فتحصن بها في ألف رجل فحاصره حتى نزل علي حكمهم فقتلوه‏.‏ وفي هذا الخبر بعض الوهن لأن الصحيح أن عمراً ملك مصر بعد صفين وقيس ولاه علي لأول بيعته وقد قيل‏:‏ إن ابن أبي حذيفة لما حوصر عثمان بالمدينة أخرج هو ابن أبي سرح عن مصر وضبطها وأقام ابن أبي سرح بفلسطين حتى جاء الخبر بقتل عثمان وبيعة علي وتوليته قيس بن سعد على مصر‏.‏ فأقام بمعاوية‏.‏ وقيل أن عمراً سار إلى مصر بعد صفين فبرز إليه ابن أبي حذيفة في العساكر وخادعه في الرجوع إلى بيعة علي وإن يجتمعا لذلك بالعريش في غير جيش من الجنود‏.‏ ورجع إلى معاوية عمرو فأخبره ثم جاء إلى ميعاده بالعريش وقد استعد بالجنود وأكمنهم خلفه حتى إذا التقيا طلعوا على أثره فتبين ابن أبي حذيفة الغدر فتحصن بقصر العريش إلى أن نزل على حكم عمرو‏.‏ وبعث به إلى معاوية فحبسه إلى أن فر من محبسه فقتل‏.‏ وقيل إنما بعثه عمرو إلى معاوية عند مقتل محمد بن أبي بكر وإنه أمنه ثم حمله إلى معاوية فحبسه بفلسطين‏.‏

ولاية قيس بن سعيد على مصر
كان علي قد بعث إلى مصر لأول بيعته قيس بن سعد أميراً في صفر من سنة ست وثلاثين وأذن له في الإكثار من الجنود وأوصاه وقال له‏:‏ لو كنت لا أدخلها إلا بجند آتي بهم من المدينة فلا أدخلها أبداً فأنا أدعو لك الجند تبعثهم في وجوهك‏.‏ وخرج في سبعة من أصحابه حتى أتى مصر وقرأ عليهم كتاب علي بمبايعته وطاعته وإنه أميرهم‏.‏ ثم خطب فقال بعد حمد الله‏:‏ أيها الناس قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله فبايعه الناس واستقامت مصر وبعث عليها عماله إلا بعض القرى كان فيها قوم يدعون إلى الطلب بدم عثمان‏:‏ وخشي معاوية أن يسير إليه علي في أهل العراق وقيس من ورائه في أهل مصر فكتب إليه يعظم قتل عثمان ويطوقه علياً ويحضه على البراءة من ذلك ومتابعته على أمره على أن يوليه العراقين إذا ظفر ولا يعزله‏.‏ يولي من أراد من أهله الحجاز كذلك ويعطيه ما شاء من الأموال‏.‏ فنظر في أهله بين موافقته أو معاجلته بالحرب فآثر الموافقة فكتب إليه‏:‏ أما بعد فإني لم أقارف شيئاً مما ذكرته وما اطلعت لصاحبي على شيء منه‏.‏ وأما متابعتك فانظر فيها وليس هذا مما يسرع إليه وأنا كاف عنك فلا يأتيك شيء من قبلي تكرهه حتى نرى وترى‏.‏ فكتب إليه معاوية‏:‏ إني لم أرك تدنو فأعدك سلمأ ولا تتباعد فأعدك حرباً وليس مثلي يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعي عدد الرجال وأعنة الخيل والسلام‏.‏ فعلم قيس أن المدافعة لا تنفع معه فأظهر له ما في نفسه وكتب إليه بالرد القبيح والشتم والتصريح بفضل علي والوعيد‏.‏ فحينئذ أيس معاوية منه وكاده من قبل علي فأشاع في الناس أن قيساً شيعة له تأتينا كتبه ورسله ونصائحه وقد ترون ما فعل بإخوانكم القائمين بثأر عثمان وهو يجري عليهم من الأعطية والأرزاق‏.‏ فأبلغ ذلك إلى علي محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر وعيونه بالشام فأعظم ذلك وفاوض فيه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر‏.‏ فقال له عبد الله‏:‏ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك واعزله عن مصر‏.‏ ثم جاء كتابه بالكف عن قتال المعتزلين فقال ابن جعفر‏:‏ مره بقتالهم خشية أن تكون هذه ممالأة فكتب إليه يأمره بذلك فلم ير قيس ذلك رأياً وقال‏:‏ متى قاتلناهم ساعدوا عليك عدوك وهم الآن معتزلون والرأي تركهم‏.‏ فقال ابن جعفر‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ إبعث محمد بن أبي بكر على مصر وكان أخاه لأمه واعزل قيساً فبعثه وقيل بعث قبله الأشتر النخعي ومات بالطريق فبعث محمداً‏.‏ ولما قدم محمد على قيس خرج عنها مغضباً إلى المدينة وكان عليها مروان بن الحكم فأخافه فخرج هو وسهل بن حنيف إلى علي‏.‏ وكتب معاوية إلى مروان يعاتبه لو امددت علياً بمئة ألف مقاتل كان أيسر علي من قيس بن سعد‏.‏ ولما قدم قيس على علي وكشف له عن وجه الخبر قبل عذره وأطاعه في أمره كله‏.‏ وقدم محمد مصر فقرأ كتاب علي على الناس وخطبهم‏.‏ ثم بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادعهم ادخلوا في طاعتنا أو اخرجوا عن بلادنا فقالوا‏:‏ دعنا حتى ننظر‏!‏ وأخذوا حذرهم ولما انقضت صفين وصار الأمر إلى التحكيم بارزوه وبعث العساكر إلى يزيد بن الحرث الكناني بخربتا وعليهم الحرث بن جمهان فقتلوه ثم بعث آخر فقتلوه‏.‏

مبايعة عمرو بن العاص لمعاوية
لما أحيط بعثمان خرج عمرو بن العاص إلى فلسطين ومعه ابناه عبد الله ومحمد فسكن بها هارباً مما توقعه من قتل عثمان إلى أن بلغه الخبر بقتله فارتحل يبكي ويقول كما تقول النساء حتى أتى دمشق فبلغه بيعة علي فاشتد عليه الأمر وأقام ينتظر ما يصنعه الناس‏.‏ ثم بلغه مسير عائشة وطلحة والزبير فأمل فرجاً من أمره ثم جاءه الخبر بوقعة الجمل فارتاب في أمره وسمع أن معاوية بالشام لا يبايع علياً وأنه يعظم قتل عثمان فاستشار بنيه في المسير إليه‏.‏ فقال له ابنه عبد لله‏:‏ توفي النبي صلى الله عليه وسلم والشيخان بعده وهم راضون عنك فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس وقال له محمد‏:‏ أنت ناب من أنياب العرب وكيف يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صيت فقال يا عبد الله‏!‏ أمرتني بما هو خير لي في ديني ويا محمد‏!‏ أمرتني بما هو خير لي في دنياي وشر لي في آخرتي‏.‏ ثم خرج ومعه ابناه حتى قدم على معاوية فوجدوهم يطلبون دم عثمان فقال‏:‏ أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم فأعرض معاوية قليلاً ثم رجع إليه وشركه في سلطانه‏.‏ أمر صفين لما رجع علي بعد وقعة الجمل إلى الكوفة مجمعاً على قصد الشام بعث إلى جرير بن عبد الله البجلي بهمدان وإلى الأشعث بن قيس بأذربيجان وهما من عيال عثمان لأن يأخذا له البيعة ويحضرا عنده فلما حضرا بعث جرير إلى معاوية يعلمه ببيعته ونكث طلحة والزبير وحزبهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس‏.‏ فلما قدم عليه طاوله في الجواب وحمل أهل الشام ليرى جرير قيامهم في دم عثمان واتهامهم علياً به‏.‏ وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان ملوثاً بالدم كما قدمناه وبأصابع زوجته نائلة وضع معاوية القميص على المنبر والأصابع من فوقه‏.‏ فمكث الناس يبكون مدة وأقسموا أن لا يمسهم ماء الجنابه ولا يناموا على فراش حتى يثأروا من عثمان ومن حال دون ذلك قتلوه‏.‏ فرجع جرير بذلك إلى علي وعذله الأشتر فبعث جرير وإنه طال مقامه حتى تمكن أهل الشام من رأيهم‏.‏ فغضب لذلك جرير ولحق بقرقيسيا واستقدمه معاوية فقدم عليه‏.‏ وقيل إن شرحبيل بن الصمت الكندي أشار على معاوية برد جرير لمنافسة كانت بينهما منذ أيام عمر‏.‏ وذلك أن شرحبيل كان عمر بن الخطاب بعثه إلى سعد بالعراق ليكون معه فقربه سعد وقدمه ونافسه له أشعث بن قيس‏.‏ فأوصى جريراً عند وفادته على عمر أن ينال من شرحبيل عنده ففعل فبعث عمر شرحبيل إلى الشام فكان يحقد ذلك على جرير‏.‏ فلما جاء إلى معاوية أغراه شرحبيل به وحمله على الطلب بدم عثمان‏.‏ ثم خرج علي وعسكر بالنخيلة واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري وقدم عليه عبد الله بن عباس في أهل البصرة‏.‏ وتجهز معاوية وأغراه عمرو بقلة عسكر علي واضطغان أهل البصرة له بمن قتل منهم‏.‏ وعبى معاوية أهل الشام وعقد لعمرو ولابنيه وغلامه وردان الأولوية‏.‏ وبعث علي في مقدمته زياد بن النضر الحارثي في ثمانية آلاف وشريح بن هانىء في أربعة آلاف‏.‏ وسار من النخيلة إلى المدائن واستنفر من كان بها من المقاتلة وبعث منها معقل بن قيس في ثلاثة آلاف يسير من الموصل ويوافيه بالرقة‏.‏ وولى علي على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عم المختار بن أبي عبيد وسار فلما وصل إلى الرقة نصب له جسر فعبر وجاء زياد وشريح من ورائه وكانا سمعا بمسير معاوية وخشيا أن يلقاهما معاوية وبينهما وبين علي البحر ورجعا إلى هيت وعبرا الفرات ولحقا بعلي فقدمهما أمامه‏.‏ فلما أتيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام فطاولاه وبعثا إلى علي فسرح الأشتر وأمره أن يجعلهما على مجنبتيه وقال‏:‏ لا تقاتلهم حتى آتيك‏!‏ وكتب إلى شريح وزياد بطاعته فقدم عليهما وكف عن القتال سائر يومه حتى حمل عليهم أبو الأعور بالعشي فاقتتلوا ساعة وافترقوا ثم خرج من الغداة ثم وخرج إليه في أصحاب الأشتر هاشم بن عتبة المرقال واقتتلوا عامة يومهم‏.‏ وبعث الأشتر سنان بن مالك النخعي إلى أبي الأعور السلمي فتقدم الأشتر وانتهى إلى معاوية ولحق به علي وكان معاوية قد ملك شريعة الفرات فشكا الناس إلى علي العطش فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية بأنا سرنا ونحن عازمون على الكف عنكم حتى نعذر إليكم فسابقنا جندكم بالقتال‏.‏ ونحن رأينا الكف حتى ندعوكم ونحتج عليك وقد منعتم الماء والناس غير منتهين فابعث إلى أصحابك يخلون عن الماء للورد حتى ننظر بيننا وبينكم وإذا أردت القتال حتى يضرب الغالب فعلنا‏.‏ فأشار عمرو بن العاص بتخلية الماء لهم وأشار ابن أبي سرح والوليد بن عقبة بمنعهم الماء وعرضا بشتم فتشاتم معهم صعصعة ورجع وأوعز إلى أبي الأعور بمنعهم الماء‏.‏ وجاء الأشعث بن قيس إلى الماء فقاتلهم عليه‏.‏ ثم أمر معاوية أبا الأعور يزيد بن أبي أسد القسري جد خالد بن عبد الله ثم بعمرو بن العاص بعده‏.‏ وأمر علي الأشعث بشبث بن ربعي ثم بالأشتر وعليهم أصحاب علي وملكوا الماء عليهم وأرادوا منعهم منه فنهاهم علي عن ذلك وأقام يومين‏.‏ ثم بعث إلى معاوية أبا عمرو بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي يدعونه إلى الطاعة وذلك أول ذي الحجة سنة ست وثلاثين فدخلوا عليه‏.‏ وتكلم بشير بن عمرو بعد حمد الله والثناء عليه والموعظة الحسنة وناشده الله أن لا يفرق الجماعة ولا يسفك الدماء فقال‏:‏ هلا أوصيت بذلك صاحبك‏.‏ فقال بشير‏:‏ ليس مثلك هو أحق بالأمر بالسابقة والقرابة‏.‏ قال فما رأيك قال تجيبه إلى ما دعا إليه من الحق‏.‏ قال معاوية‏:‏ ونترك دم عثمان لا والله لا أفعله أبداً‏!‏ ثم قال شبث بن ربعي‏:‏ يا معاوية‏!‏ إنما طلبت دم عثمان تستميل به هؤلاء السفهاء الطغام إلى طاعتك ولقد علمنا أنك أبطأت على عثمان بالنصر لطلب هذه المنزلة فاتق الله ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله‏.‏ فأجابه معاوية وأبدع في سبه وقال‏:‏ إنصرفوا فليس بيني وبينكم إلا السيف‏.‏ فقال له شبث‏:‏ أقسم بالله لنجعلنها لك‏.‏ ورجعوا إلى علي بالخبر وأقاموا يقتتلون أيام ذي الحجة كلها عسكر من هؤلاء وعسكر من هؤلاء وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام حذراً من الاستئصال والهلاك‏.‏ ثم جاء المحرم فذهبوا إلى الموادعة حتى ينقضي طمعاً في الصلح وبعث إلى معاوية عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن حفصة‏.‏ فتكلم عدي بعد الحمد والثناء ودعا إلى الدخول في طاعة علي ليجمع الله به الكلمة فلم يبق غيرك ومن معك واحذر يا معاوية أن يصيبك وأصحابك مثل يوم الجمل‏.‏ فقال معاوية‏:‏ كأنك جئت مهدداً لا مصلحاً هيهات يا عدي أنا ابن حرب‏!‏ والله ما يقعقع لي بالشنان وإنك من قتلة عثمان وأرجو أن يقتلك الله به‏.‏ فقال له يزيد بن قيس‏:‏ إنما أتيناك رسلاً ولا ندع مع ذلك النصح والسعي في الإلفة فقال معاوية‏:‏ بعد الحمد والثناء أما الجماعة التي تدعون إليها فهي معنا وأما طاعة صاحبكم فلا نراها لأنه قتل خليفتنا وآوى أهل ثأرنا‏.‏ ونحن مع ذلك نجيبكم إلى الطاعة والجماعة إذا دفع إلينا قتلة عثمان‏.‏ فقل شبث بن ربعي‏:‏ أيسرك يا معاوية أن تقتل عماراً قال نعم بمولاه‏!‏ قال شبث حتى تضيق والله الأرض الفضاء عليك‏.‏ فقال معاوية لو كان ذلك لكانت عليك أضيق‏.‏ وافترقوا عن معاوية ثم خلا بزياد بن حفصة وشكا إليه من علي وسأله النصر فيه بعشيرته وأن يوليه أحد المصرين فأبى وقال‏:‏ إني على بينة من ربي فلن أكون ظهيراً للمجرمين‏.‏ وقام عنه فقال معاوية لعمرو كأن قلوبهم قلب رجل واحد‏.‏ ثم بعث معاوية إلى علي حبيب بن مسلمة وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس فدخلوا عليه‏.‏ فتكلم حبيب بعد الحمد لله والثناء فقال‏:‏ إن عثمان كان خليفة مهدياً يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره فاستثقلتم حياته واستبطأتم موته فقتلتموه فادفع إلينا قتلته إن كنت لم تقتله ثم اعتزل أمر الناس فيولوا من أجمعوا عليه‏.‏ فقال علي‏:‏ ما أنت وهذا الأمر فاسكت فلست بأهل له‏!‏ فقال والله لتراني بحيث تكره فقال‏:‏ وما أنت لا أبقى الله عليك إن أبقيت وأذهب فصوب وصعد‏.‏ ثم تكلم بعد الحمد لله والثناء وهداية الناس لمحمد صلى الله عليه وسلم وخلافة الشيخين وحسن سيرتهما وقد وجدنا عليهما أن توليا ونحن أترب منهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن سامحناهما بذلك‏.‏ وولي عثمان فعاب الناس عليه وقتلوه ثم بايعوني مخافة الفرقة فأجبتهم‏.‏ ونكث علي رجلان وخالف صاحبكم الذي ليس له مثل سابقتي والعجب من انقيادكم له دون بيت نبيكم ولا ينبغي لكم ذلك‏.‏ وأنا أدعوكم إلى الكتاب والسنة ومعالم الدين وإماتة الباطل وإحياء الحق فقالوا‏:‏ نشهد أن عثمان قتل مظلوماً‏.‏ فقال‏:‏ لا أقول مظلوماً ولا ظالماً‏.‏ قالوا‏:‏ فمن لم يقل ذلك فنحن منه براء وانصرفوا‏.‏ فقرأ علي‏:‏ ‏"‏ إنك لا تسمع الموتى ‏"‏ الآية ثم قال لأصحابه‏:‏ لا يكن هؤلاء في ضلالهم أحد منكم في حقكم‏.‏ ثم نازع عدي بن حاتم في راية طيء عامر بن قيس الجرموزي وكان رهطه أكثر من رهط عدي فقال عبد الله بن خليقة اليولاني‏:‏ ليس فينا أفضل من عدي ولا من أبيه حاتم ولم يكن في الإسلام أفضل من عدي ولا من أبيه حاتم ولم يكن في الإسلام أفضل من عدي وهو الوافد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأس طيء في النخيلة والقادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند وتستر‏.‏ وسأل علي قومهم فوافقوه على ذلك فقضى بها لعدي‏.‏ ولما انسلخ المحرم نادى علي في الناس بالقتال وعبى الكتائب وقال لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا ولا تأخذوا مالاً ولا تهيجوا امرأة وإن شتمتكم فإنهن ضعاف الأنفس والقوى‏.‏ ثم حرضهم ودعا لهم وجعل الأشتر على خيل الكوفة وسهل بن حنيف على خيل البصرة وقيس بن سعد على رجالة البصرة وعمار بن ياسر على رجالة الكوفة وهاشم بن عتبة معه الراية ومسعر بن فدكي على القراء‏.‏ وعبى معاوية كتائبه‏:‏ فجعل على الميمنة ذا الكلاع الحميري وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة وعلى المقدمة أبا الأعور وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص وعلى رجالتها مسلم بن عقبة المري‏.‏ وعلى الناس كلهم الضحاك بن قيس‏.‏ وتبابع رجال من أهل الشام على الموت فعقلوا أنفسهم بالعمائم في خمسة صفوف وخرجوا في اليوم الأول من صفر خرج الأشتر من أهل الكوفة وحبيب من أهل الشام فاقتتلوا عامة يومهم وفي اليوم الثاني هاشم بن عتبة وأبو الأعور السلمي‏.‏ وفي اليوم الثالث عمار بن ياسر وعمرو بن العاص فاقتتلوا أشد قتال وحمل عمار فأزال عمراً عن موضعه‏.‏ وفي اليوم الرابع محمد بن الحنفية وعبيد الله بن عمر بن الخطاب وتداعيا إلى البراز فرد علي ابنه وتراجعوا‏.‏ وفي اليوم الخامس عبد الله بن عباس والوليد بن عقبة فاقتتلا كذلك‏.‏ ثم عاد في اليوم السادس الأشتر وحبيب فاقتتلا قتالاً شديداً وانصرفا‏.‏ وخطب علي الناس عشية يومهم وأمرهم بمناهضه القوم بأجمعهم وأن يطيلوا ليلتهم القيام ويكثروا التلاوة ويدعوا لله بالنصر فبات الناس يصلحون ليلتهم سلاحهم وعبى علي الناس ليلته إلى الصباح وزحف وسأل عن القبائل من أهل الشام وعرف مواقفهم وأمر كل قبيلة أن تكفيه أختها من أهل الشام‏.‏ ومن ليس منهم أحد بالشام يصرفهم إلى من ليس منهم أحد بالعراق مثل بجيلة صرفهم إلى لخم‏.‏ وخرج معاوية من أهل الشام فاقتتلوا يوم الأربعاء قتالاً شديداً عامة يومهم ثم انصرفوا وغلس علي يوم الخميس بالزحف وعلى ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء وعلى ميسرته عبد الله بن عباس والقراء مع عمار وقيس بن سعد وعبد الله ابن زيد والناس على راياتهم ومراكزهم وعلي في القلب بين أهل الكوفة والبصرة ومعه أهل البصرة والكوفة ومعه أهل المدينة من الأنصار وخزاعة وكنانة‏.‏ ورفع معاوية قبة عظيمة وألقى عليها الثياب وبايعه أكثر أهل الشام على الموت وأحاط بقبته خيل دمشق وزحف ابن بديل في الميمنة فقاتلهم إلى الظهر وهو يحرض أصحابه‏.‏ ثم كشف خيلهم واضطرهم إلى قبة معاوية‏.‏ وجاء الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية فبعثهم إلى حبيب فحمل بهم على ميمنة أهل العراق فانجفل الناس عن أهل بديل إلا ثلاثمائة أو مائتين من القراء وانتهت الهزيمة إلى علي‏.‏ وأمده علي بسهل بن حنيف في أهل المدينة فاستقبلهم جموع عظيمة لأهل الشام فمنعتهم‏.‏ ثم انكشفت مضر من الميسرة وثبتت ربيعة وجاء علي يمشي نحوهم فاعترضه أحمر مولى أبي سفيان فحال دونه كيسان مولاه فقتله أحمر‏.‏ فتناول علي أحمر من درعه فجذبه وضرب به الأرض وكسر منكبيه وعضديه ثم دنا من ربيعة فصبرهم وثبت أقدامهم وتنادوا بينهم‏:‏ إن أصيب بينكم أمير المؤمنين افتضحتم في العرب‏.‏ وكان الأشتر مر به راكضاً نحو الميمنة واستقبل الناس منهزمين فأبلغهم مقالة علي‏:‏ أين فراركم من الموت الذي لا تعجزوه إلي الحياة التي لا تبقى لكم‏.‏ ثم نادى‏:‏ أنا الأشتر‏!‏ فرجع إليه بعضهم فنادى مذحجاً وحرضهم فأجابوه وقصد القوم واستقبله شباب من همذان ثمانمائة أو نحوها وكان قد هلك منهم في ذلك اليوم أحد عشر رئيساً وأصيب منهم ثمانون ومائة وزحف الأشتر نحو الميمنة‏.‏ وتراجع الناس واشتد القتال حتى كشف أهل الشام وألحقهم بمعاوية عند الاصفرار وانتهى إلى ابن بديل في مائتين أو ثلاثمائة من القراء قد لصقوا بالأرض‏.‏ فانكشف عنهم أهل الشام وأبصروا إخوانهم وسألوا عن علي فقيل لهم هو بالميسرة يقاتل‏.‏ فقال ابن بديل استقدموا بنا ونهاه الأشتر فأبى ومضى نحو معاوية وحوله أمثال الجبال تقتل كل من دنا منه حتى وصل إلى معاوية فنهض إليه الناس من كل جانب وأحيط به فقتل وقتل من أصحابه ناس ورجع آخرون مجروحون وأهل الشام في اتباعهم‏.‏ فبعث الأشتر من نفس عنهم حتى وصلوا إليه وزحف الأشتر في همدان وطوائف من الناس فأزال أهل الشام عن مواقفهم حتى ألحقهم بالصفوف المعقلة بالعمائم حول معاوية‏.‏ ثم حمل أخرى فصرع منهم أربعة صفوف حتى دعا معاوية بفرسه فركب‏.‏ وخرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في القراء الذين مع عمار فقاتلوا وتقدم عقبة بن حبيب النميري مستميتاً ومعه إخوته فقاتلوا حتى قتلوا‏.‏ وتقدم شمر بن ذي الجوشن مبارزاً فضرب أدهم بن محرز الباهلي وجهه بالسيف وحمل على أدهم فقتله‏.‏ وحمل قيس بن المكشوح ومعه راية بجيلة فقاتل حتى أخذها آخر كذلك‏.‏ ولما رأى علي أهل ميمنة أصحبه قد عادوا إلى مواقفهم وكشفوا العدو قبالتهم أقبل إليهم وعذلهم بعض الشيء عن مفرهم وأثنى على رجوعهم‏.‏ وقاتل الناس قتالا شديدأ وتبارز الشجعان من كل جانب‏.‏ وأقبلت طيء والنخع وخرجت حمير من ميمنة أهل الشام وتقدم ذو الكلاع ومعهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب فقصد ربيعة في ميسرة أهل العراق وعليهم ابن عباس وحملوا عليهم حملةً شديدةً فثبتت ربيعة وأهل الحفاظ منهم وانهزم الضعفاء والفشلة‏.‏ ثم رجعوا ولحقت بهم عبد القيس وحملوا على حمير فقتل ذي الكلاع وعبد الله بن عمر وأخذ سيف ذي الكلاع وكان لعمر‏.‏ فلما ملك معاوية العراق أخذه من قاتله‏.‏ ثم خرج عمار بن ياسر وقال اللهم إني لا أعمل اليوم عملاً أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين‏.‏ ثم نادى من سعى في رضوان ربه فلا يرجع إلى مال ولا ولد فأتاه عصابة فقال‏:‏ إقصدوا بنا هؤلاء الذين يطلبون بدم عثمان يخادعون بذلك عما في نفوسهم من الباطل‏.‏ ثم مضى فلا يمر بواد من صفين إلا اتبعه من هناك من الصحابة‏.‏ ثم جاء إلى هاشم بن عتبة وكان صاحب الراية فانهضه حتى دنا من عمرو بن العاص فقال يا عمرو‏:‏ بعت دينك بمصر تباً لك‏!‏ فقال‏:‏ إنما أطلب دم عثمان فقال‏:‏ أشهد أنك لا تطلب وجه الله في كلام كثير من أمثال ذلك وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عمار تقتله الفئة الباغية‏.‏ فلما قتل عمار حمل علي وحمل معه ربيعة ومضر وهمدان حملة منكرة فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض حتى بلغوا معاوية فناداه علي على م يقتل الناس بيننا هلم نحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقام له الأمر‏.‏ فقال له عمرو‏:‏ انصفك‏!‏ فقال له معاوية‏:‏ لكنك ما انصفت‏.‏ وأسر يومئذ جماعة من أصحاب علي فترك سبيلهم وكذلك فعل علي‏.‏ ومر علي بكتيبة من الشام قد ثبتوا فبعث إليهم محمد بن الحنفية فأزالهم عن مواقفهم وصرع عبد الله بن كعب المرادي فمر به الأسود بن قيس فأوصاه بتقوى الله والقتال مع علي وقال أبلغه عني السلام‏.‏ وقال له‏:‏ قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك فإنه من أصبح غداً والمعركة خلف ظهره فإنه العالي‏.‏ ثم اقتتل الناس تلك الليلة إلى الصباح وهي ليلة الجمعة وتسمى ليلة الهرير وعلي يسير بين الصفوف ويحرض كل كتيبة على التقدم حتى أصبح والمعركة كلها خلف ظهرة والأشتر في الميمنة وابن عباس في الميسرة والناس يقتتلون من كل جانب وذلك يوم الجمعة‏.‏ ثم ركب الأشتر ودعا الناس إلى الحملة على أهل الشام فحمل حتى انتهى إلى عسكرهم وقتل صاحب رايتهم وأمده علي بالرجال‏.‏ فلما رأى عمرو شدة أهل العراق وخاف على أصحابه الهلاك لمعاوية‏:‏ مر الناس يرفعون المصاحف على الرماح ويقولون كتاب الله بيننا وبينكم فإن فعلوا ذلك ارتفع عنا القتال وإن أبى بعضهم وجدنا في افتراقهم راحة ففعلوا ذلك فقال الناس‏:‏ نجيب إلى كتاب الله‏.‏ فقال لهم علي يا عباد الله‏.‏ امضوا على حقكم وقتال عدوكم فإن معاوية وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن أنا أعرف بهم صحبتهم أطفالاً ورجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال‏.‏ ويحكم والله ما رفعوها إلا مكيدة وخديعة فقالوا‏:‏ لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فلا نقبل‏.‏ فقال‏:‏ إنما قاتلناهم ليدينوا بكتاب الله فإنهم نبذوه‏.‏ فقال له مسعر بن فدك التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك يا علي‏:‏ أجب إلى كتاب الله وإلا دفعنا برمتك إلى القوم أو فعلنا بك ما فعلنا بابن عفان‏.‏ فقال‏:‏ إن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم قالوا‏:‏ فابعث إلى الأشتر فلما جاء يزيد بذلك ارتج الموقف باللغط وقالوا لعلي‏:‏ ما نراك إلا أمرته بقتال فابعث إليه فليأتك وإلا اعتزلناك فقال علي‏:‏ ويحك يا يزيد قل له أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت فقال‏:‏ ألرفع المصاحف فقال نعم‏!‏ قال لقد ظننت إن ذلك يوقع فرقة كيف ندع هؤلاء وننصرف والفتح قد وقع فقال يزيد‏:‏ تحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلم إلى عدوه أو يقتل ثم أقبل إليهم الأشتر وأطال عتبهم وقال‏:‏ امهلوني فواقاً فقد أحسست بالفتح فأبوا فعذلهم وأطال في عذلهم فقالوا‏:‏ دعنا يا أشتر قاتلناهم لله فقال‏:‏ بك خدعتم فانخدعتم‏.‏ ثم كثرت الملاحاة بينهم وتشاتموا فصاح بهم علي فكفوا‏.‏ فقال له الأشعث بن قيس أن الناس قد رضوا بما دعوا إليه من حكم القرآن فإن شئت أتيت معاوية وسألته ما يريد قال أفعل فأتاه وسأله لأي شيء رفعتم المصاحف قال لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به من كتابه‏.‏ تبعثون رجلاً ترضونه ونحن آخر ونأخذ عليهما عهد الله أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه‏.‏ ثم نتبع ما اتفقا عليه‏.‏ فقال الأشعث‏:‏ هذا الحق ورجع إلى علي والناس وأخبرهم فقال الناس رضينا وقبلنا ورضي أهل الشام عمراً وقال الأشعث‏:‏ وأولئك القراء الذين صاروا خوارج‏:‏ رضينا بأبي موسى فقال علي لا أرضاه فقال الأشعث ويزيد بن الحصين ومسعر بن فدك لا نرضى إلا به‏.‏ قال‏:‏ فإنه ليس بثقة قد فارقني وخذل الناس عني وهرب مني حتى أمنته بعد أشهر قالوا‏:‏ لا نريد إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء قال فالأشتر قالوا‏:‏ وهل سعر الأرض غير الأشتر‏.‏ قال فاصنعوا ما بدا لكم‏!‏ فبعثوا إلى أبي موسى وقد اعتزل القتال فقيل إن الناس قد اصطلحوا فحمد الله‏.‏ قيل وقد جعلوك حكماً فاسترجع‏.‏ وجاء أبو موسى إلى العسكر وطلب الأحنف بن قيس من علي أن يجعله مع أبي موسى فأبى الناس من ذلك وحضر عمرو بن العاص عند علي ليكتبوا القضية بحضوره فكتبوا بعد البسملة‏:‏ هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين فقال عمرو‏:‏ ليس هو بأميرنا‏!‏ فقال له الأحنف‏:‏ لا تمحها فإني أتطير بمحوها‏.‏ فمكث ملياً ثم قال الأشعث‏:‏ إمحها فقال علي الله أكبر‏!‏ وذكر قصة الحديبية وفيها إنك ستدعى إلا مثلها فتجيب‏.‏ فقال عمرو‏:‏ سبحان الله نشبه بالكفار ونحن مؤمنون‏.‏ فقال علي‏:‏ يا ابن النابعة ومتى لم تكن للفاسقين ولياً وللمؤمنين عدواً‏!‏ فقال عمرو‏:‏ والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم‏.‏ فقال علي‏:‏ أرجو أن يطهر الله مجلسي منك ومن أشباهك وكتب الكتاب‏.‏ هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضى علي على أهل الكوفة ومن معهم ومعاوية على أهل الشام ومن معهم أنا ننزل عند حكم الله وكتابه وأن لا يجمع بيننا غيره وإن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات مما وجد الحكمان في كتاب الله‏.‏ وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة ولا يورداها في حرب ولا فرقة حتى يقضيا‏.‏ وأحلا القضاء إلى رمضان فإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام‏.‏ وشهد رجال من أهل العراق ورجال من أهل الشام وضعوا خطوطهم في الصحيفة وأبى الأشتر أن يكتب اسمه فيها وحاوره الأشعث في ذلك فأساء الرد عليه وتهدده‏.‏ وكتب الكتاب لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين واتفقوا على أن يوافي علي موضع الحكمين بدومة الجندل وبأذرح في شهر رمضان‏.‏ ثم جاء بعض الناس إلى علي يحضه على قتال القوم فقال‏:‏ لا يصلح الرجوع بعد الرضى ولا التبديل بعد الإقرار‏.‏ ثم رجع الناس عن صفين ورجع علي وخالفت الحرورية وأنكروا تحكيم الرجال ورجعوا على غير الطريق الذي جاءوا فيه حتى جازوا النخيلة ورأوا بيوت الكوفة‏.‏ ومر علي بقبر خباب بن الأرت توفي بعد خروجه فوقف واسترحم له ثم دخل الكوفة فسمع رجة البكاء في الدور فقيل يبكين على القتلى فترحم لهم ولم يزل يذكر الله حتى دخل القصر فلم تدخل الخوارج معه وأتوا حروراً فنزلوا بها في اثني عشر ألفاً فقدموا شبث بن عمر التميمي أمير القتال وعبيد الله بن الكوى الشكري أمير الصلاة‏.‏ قالوا البيعة لله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر شورى بعد الفتح فقالوا للناس‏:‏ بايعتم علياً إنكم أولياء من والى وأعداء من عادى وبايع أهل الشام معاوية على ما أحب وكرهوا فلستم جميعاً من الحق في شيء‏.‏ فقال لهم زياد بن النضر‏:‏ والله ما بايعناه إلا على الكتاب والسنة ولكن لما خالفتموه تعينتم للضلال وتعين للحق‏.‏ ثم بعث علي عبد الله بن عباس إليهم وقال‏:‏ لا تراجعهم حتى آتيك فلم يصبر عن مكالمتهم وقال‏:‏ ما نقمتم من أمر الحكمين وقد أمر الله بهما بين الزوجين فكيف بالأمة فقالوا لا يكون هذا بالرأي والقياس‏!‏ فإن ذلك جعل الله حكمه للعباد وهذا أمضاه كما أمضى حكم الزاني والسارق‏.‏ قال ابن عباس قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ يحكم به ذوا عدل منكم ‏"‏ قالوا‏:‏ والأخرى كذلك وليس أمر الصيد والزوجين كدماء المسلمين‏.‏ ثم قالوا له‏:‏ قد كنا بالأمس نقاتل عمرو بن العاص فإن كان عدلاً فعلى ما قاتلناه‏.‏ وإن لم يكن عدلأ فكيف يسوغ تحكيمه وأنتم قد حكمتم الرجال في أمر معاوية وأصحابه والله تعالى قد أمضى حكمه فيهم أن يقتلوا أو يرجعوا وجعلتم بينكم الموادعة في الكتب وقد قطعها الله بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة‏.‏ ثم جاء علي إلى فسطاط يزيد بن قيس منهم بعد أن علم أنهم يرجعون إليه في رأيهم فصلى عنده ركعتين وولاه على أصبهان والري‏.‏ ثم خرج إليهم وهم في مجلس ابن عباس فقال‏:‏ من زعيمكم قالوا ابن الكوى‏!‏ قال فما هذا الخروج قالوا لحكومتكم يوم صفين‏.‏ قال أنشدكم الله أتعلمون إنه لم يكن رأي وإنما كان رأيكم مع أني اشترطت على الحكمين أن يحكما بحكم القرآن فإن فعلا فلا ضير وإن خالفا فلا ضير ونحن براء من حكمهم‏.‏ فقالوا فتحكيم الرجال في الدماء عدل قال إنما حكمنا القرآن إلا أنه لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال قالوا‏:‏ فلم جعلتم الأجل بينكم قال لعل الله يأتي فيه بالهدنة بعد افتراق الأمة فرجعوا إلى رأيه وقال‏:‏ ادخلوا مصركم فلنمكث ستة أشهر حتى يجبى المال ويسمن الكراع ثم نخرج إلى عدونا فدخلوا من عند آخرهم‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:09 PM

أمر الحكمين
ولما انقضى الأجل وحان وقت الحكمين بعث علي أبا موسى الأشعري في أربعمائة رجل عليهم شريح بن هاني الحارثي ومعهم عبد الله بن عباس يصلي بهم وأوصى شريحاً بموعظة عمرو‏.‏ فلما سمعها قال متى كنت أقبل مشورة علي واعتد برأيه‏.‏ قال‏:‏ وما يمنعك أن تقبل من سيد المسلمين وأساء الرد عليه فسكت عنه‏.‏ وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام والتقوا بأذرح من دومة الجندل فكان أصحاب عمرو أطوع من أصحاب ابن عباس لابن عباس حتى لم يكونوا يسألونه عن كتاب معاوية إذا جاءه‏.‏ ويسأل أهل العراق ابن عباس ويتهمونه‏.‏ وحضر مع الحكمين عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام وعبد الرحمن بن يغوث الزهري وأبو جهم بن حذيفة العدوي والمغيرة بن شعبة وسعد بن أبي وقاص على خلاف فيه وقيل ندم على حضوره فأحرم بعمرة من بيت المقدس‏.‏ ولما اجتمع الحكمان قال عمرو لأبي موسى أما تعلم أن عثمان قتل مظلومأ وأن معاوية وقومه أولياؤه قال بلى‏!‏ قال فما يمنعك منه وهو في قريش كما علمت وإن قصرت به السابقة قدمه حسن السياسة وإنه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتبه والطالب بدم عثمان وعرض بالولاية‏.‏ فقال له أبو موسى يا عمرو اتق الله واعلم إن هذا الأمر ليس بالشرف وإلا لكان لآل أبرهة بن الصباح إنما هو بالدين والفضل مع أنه لو كان بشرف قريش لكان لعلي بن أبي طالب وما كنت لأرى لمعاوية طلبه دم عثمان وأوليه وأدع المهاجرين الأولين‏.‏ وأما تعريضك بالولاية فلو خرج لي عثمان عن سلطانه ما وليته وما أرتشي في حكم الله‏.‏ ثم دعاه إلى تولية عبد الله بن عمر‏.‏ قال له عمرو‏:‏ فما يمنعك من ابني وهو من علمت‏.‏ فقال له رجل صدق ولكنك غمسته في الفتنة‏.‏ فقال عمرو‏:‏ إن منا الأمر لا يصلح إلا لرجل له ضرس يأكل ويطعم - وكانت في ابن عمر غفلة‏.‏ وكان ابن الزبير بإزائه فنبهه لما قال‏.‏ فقال ابن عمر لا أرشو عليها أبداً ثم قال أبو موسى يا ابن العاص إن العرب أسندت أمرها إليك بعد المقارعة بالسيوف فلا تردهم في فتنة‏.‏ قال له فخبرني ما رأيك قال أرى أن نخلع الرجلين ونجعل الأمر شورى فيختار المسلمون لأنفسهم‏.‏ فقال عمرو الرأي ما رأيت‏!‏ ثم أقبلوا على الناس وهم ينتظرونهم وكان عمرو قد عود أبا موسى أن يقدمه في الكلام لما له من الصحبة والسن‏.‏ فقال يا أبا موسى‏!‏ أعلمهم أن رأينا قد اتفق فقال‏:‏ إنا رأينا أمراً نرجو الله أن يصلح به الأمة فقال له ابن عباس‏:‏ ويحك أظنه خدعك فاجعل له الكلام قبلك فأبى وقال‏:‏ أيها الناس إنا نظرنا في أمر الأمة فلم نر أصلح لهم مما اتفقنا عليه وهو أن نخلع علياً ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا وإني قد خلعتهما فولوا من أردتم ورأيتموه أهلاً‏.‏ فقال عمرو‏:‏ إن هذا قد خلع صاحبه وقد خلعته كما خلعه وأثبت معاوية فهو ولي ابن عفان وأحق الناس بمقامه‏.‏ ثم عدا ابن عباس وسعد على أبي موسى باللائمة وقال ما أصنع غدرني ورجع باللائمة على عمرو وقال لا وفقك الله غدرت وفجرت‏.‏ وحمل شريح على عمرو فضربه بالسيف وضربه ابن عمر كذلك‏.‏ وحجز الناس بينهم فلحق أبو موسى بمكة وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة‏.‏ ورجع ابن عباس وشريح إلى علي بالخبر فكان يقنت إذا صلى الغداة ويقول‏:‏ اللهم العن معاوية وعمراً وحبيباً وعبد الرحمن بن مخلد والضحاك بن قيس والوليد وأبا الأعور‏.‏ وبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت يلعن علياً وابن عباس والحسن والحسين والأشتر‏.‏

أمر الخوارج وقتالهم
ولما اعتزم علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه زرعة بن البرح الطائي وحرقوص بن زهير السعدي من الخوارج وقالا له‏:‏ تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم‏.‏ وقال‏:‏ علي‏:‏ قد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وعاهدناهم‏.‏ فقال حرقوص‏:‏ ذلك ذنب تبتغي التوبة منه‏.‏ فقال علي‏:‏ ليس بذنب ولكن عجز من الرأي فقال زرعة‏:‏ لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك أطلب وجه الله فقال علي‏:‏ بؤساً لك كأني بك قتيلاً تسفى عليك الرياح قال‏:‏ وددت لو كان ذلك وخرجا من عنده يناديان لا حكم إلا لله‏.‏ وخطب علي يوماً فتنادوا من جوانب المسجد بهذه الكلمة فقال علي‏:‏ الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل‏.‏ وخطب ثانياً فقالوا كذلك فقال‏:‏ أما آن لكم عندنا ثلاثاً صحبتمونا لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ولا الفيء ما دمتم معنا ولا نقاتلكم حتى تبدأونا وننتظر فيكم أمر الله‏.‏ ثم اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فوعظهم وحرضهم على الخروج إلى بعض النواحي لإنكار هذه البدع وتبعه حرقوص بن زهير في المقال‏.‏ فقال حمزة بن سنان الأزدي‏:‏ الرأي ما رأيتم لكن لا بد لكم من أمير وراية فعرضوها على زيد بن حصين الطائي ثم حرقوص ثم زهير‏.‏ حمزة بن سنان ثم شريح بن أبي أوفى العنسي فأبوا كلهم ثم عرضوها على عبد الله بن وهب فأجاب فبايعوه لعشر خلون من شوال‏.‏ وكان يقال له ذو الثفنات‏.‏ ثم اجتمعوا في منزل شريح وتشاوروا وكتب ابن وهب إلى أهل البصرة منهم يستحث بهم على اللحاق بهم‏.‏ ولما اعترفوا على المسير تعبدوا ليلة الجمعة ويومها وساروا فخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم الطائي واتبعه أبوه إلى المدائن فلم يقدروا عليه فرجع ولقيه عبد الله بن وهب في عشرين فارسأ وأراد قتله فمنعه من كان معه من طيء‏.‏ وأرسل علي إلى عامل المدائن بن سعد بن مسعود يخبرهم فاستخلف ابن أخيه المختار بن أبي عبيد وسار في طلبهم في خمسمائة فارس فتركوا طريقهم وساروا على بغداد ولحقهم سعد بالكرخ مساءً وجاءه عبد الله في ثلاثين فارساً وقاتلهم وامتنعوا‏.‏ وأشار أصحابه بتركهم إلى أن يأتي فيهم أمر علي فأبى ولما جن عليهم الليل عبر عبد الله إليهم دجلة وسار إلى أصحابه بالنهروان واجتمعت خوارج البصرة في خمسمائة رجل عليهم مسعر بن فدكي التميمي واتبعهم أبو الأسود الدؤلي بأمر ابن عباس ولحقه فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل‏.‏ فأدلج مسعر بأصحابه فلحق بعبد الله بن وهب بالنهروان ولما خرجت الخوارج بايع علياً أصحابه على قتالهم‏.‏ ثم أنكر شأن الحكمين فخطب الناس وقال‏:‏ بعد الحمد لله والموعظة إلا أن هذين الحكمين نبذا حكم القرآن واتبع كل واحد هواه واختلفا في الحكم وكلاهما لم يرشد فاستعدوا للسير إلى الشام‏.‏ وكتب إلى الخوارج بالنهروان بذلك واستحثهم للمسير إلى العدو وقال‏:‏ نحن على الأمر الأول الذي كنا عليه‏.‏ فكتبوا إليه إنك غضبت لنفسك ولم تغضب لربك فإن شهدت على نفسك بالكفر وتبت نظرنا بيننا وبينك وإلا فقد نابذناك على سواء فيئس علي منهم ورأى أن يمضي إلى الشام ويدعهم‏.‏ وقام في الناس يحرضهم لذلك‏.‏ وكتب إلى ابن عباس من معسكره بالنخيلة يأمره بالشخوص في العساكر والمقام إلى أن يأتي أمره فأشخص ابن عباس الأحنف بن قيس في ألف وخمسمائة‏.‏ ثم خطب ثانية وندب الناس وقال‏:‏ كيف ينفر هذا العدد القليل وأنتم ستون ألف مقاتل ثم تهددهم وأمرهم بالنفير مع جارية بن قدامة السعدي فخرج معه ألف وستمائة ثم خطب أهل الكوفة ولاطفهم بالقول وحرضهم وأخبرهم بما فعل أهل البصرة مع كثرتهم وقال‏:‏ ليكتب إلى كل رئيس منكم ما في عشيرته من المقاتلين من أبنائهم إليهم فأجابه سعيد بن قيس الهمداني ومعقل بن قيس وعدي بن حاتم وزياد بن خصفة وحجر بن عدي وأشراف الناس بالسمع والطاعة وأمروا ذويهم ألا يتخلف منهم فكانوا أربعين ألف مقاتل وسبعة عشر ألفأ ممن بلغ الحلم‏.‏ وانتهت عساكره إلى ثمانية وستين ألفاً‏.‏ وبلغه أن الناس يرون تقديم الخوارج فقال لهم‏:‏ إن قتال أهل الشام أهم علينا لأنهم يقاتلونكم ليكونوا ملوكاً جبارين وليتخذوا عباد الله خولاً فرجعوا إلى رأيه وقالوا‏:‏ سر بنا إلى حيث شئت وبينما هو على اعتزام السير إلى أهل الشام بلغه أن خوارج أهل البصرة لقوا عبد الله بن خباب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً من النهروان فعرفهم بنفسه فسألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى خيراً ثم عن عثمان في أول خلافته وآخرها فقال كان محقاً في الأول والآخر فسألوه عن علي قبل التحكيم وبعده فقال هو أعلم بالله وأشد توقياً على دينه‏.‏ فقالوا إنك توالي الرجال على أسمائها ثم ذبحوه وبقروا بطن امرأته ثم قتلوا ثلاث نسوة من طيء‏.‏ فآسف علياً قتلهم عبد الله بن ضباب واعتراضهم الناس‏.‏ فبعث الحرث بن مرة العبدي لينظر فيما بلغه عنهم فقتلوه فقال له أصحابه‏:‏ كيف ندع هؤلاء ونأمن غائلتهم في أموالنا وعيالنا إنما نقدم أمرهم على الشام‏.‏ وقام الأشعث بن قيس بمثل ذلك‏.‏ فوافقهم علي وسار إليهم وبعث من يقول لهم إدفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم فنكف عنكم حتى نرجع من قتال العرب لعل الله يردكم إلى خير فقالوا‏:‏ كلنا قتلهم وكلنا مستحل دماءكم ودماءهم‏.‏ ثم جاءهم قيس بن سعد ووعظهم وأبو أيوب الأنصاري كذلك‏.‏ ثم جاءهم علي فتهددهم وسفه رأيهم وبين لهم شأن الحكمين وإنهما لما خالفا حكم الكتاب والسنة نبذنا أمرهما ونحن على الأمر الأول فقالوا‏:‏ إنا كفرنا بالتحكيم وقد تبنا فإن تبت أنت فنحن معك وإن أبيت فقد نابذناك‏.‏ فقال‏:‏ كيف أحكم على نفسي بالكفر بعد إيماني وهجرتي وجهادي ثم انصرف عنهم‏.‏ وقيل إن علياً خطبهم وأغلظ عليهم فيما فعلوه من الاستعراض والقتل فتنادوا لا تكلموهم وتأهبوا للقاء الله‏.‏ ثم قصدوا جسر الخوارج ولحقهم علي دونه وقد عبى أصحابه وعلى ميمنته حجر بن عدي وعلى ميسرته شبث بن ربعي أو معقل بن قيس وعلى الخيل أبو أيوب وعلى الرجالة أبو قتادة وعلى أهل المدينة سبعمائة أو ثمانمائة قيس بن سعد‏.‏ وعبأت نحوه الخوارج على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي وعلى الميسرة شريح بن أوفى العنسي وعلى الخيل حمزة بن سنان الأسدي وعلى الرجالة حرقوص بن زهير ودفع علي إلى أبي أيوب راية أمان لهم لمن جاءها ممن لم يقتل ولم يستعرض فناداهم إليها وقال‏:‏ من انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن‏.‏ فاعتزل عنهم فروة بن نوفل الأشجعي في خمسمائة وقال أعتزل حتى يتضح لي أمر في قتال علي فنزل الدسكرة‏.‏ وخرج آخرون إلى الكوفة ورجع آخرون إلى علي وكانوا أربعة آلاف‏.‏ وبقي منهم ألف وثمانمائة فحمل عليهم علي والناس حتى فرقهم على الميمنة والميسرة‏.‏ ثم استقبلتهم الرماة وعطفت عليهم الخيل من المجنبتين ونهض إليهم الرجال بالسلاح فهلكوا كلهم في ساعة واحدة كأنما قيل لهم موتوا وقتل عبد الله بن وهب وزيد بن حصن وحرقوص بن زهير وعبد الله بن شجرة وشريح بن أوفى‏.‏ وأمر علي أن يلتمس المخدج في قتلاهم وهو الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في علاماتهم فوجد في القتلى‏.‏ فاعتبر علي وكبر واستبصر الناس وأخذ ما في عسكرهم من السلاح والدواب فقسمه بين المسلمين ورد عليهم المتاع والإماء والعبيد‏.‏ ودفن عدي بن حاتم ابنه طرفة ورجالاً من المسلمين فنهى علي عن ذلك وارتحل ولم يفقد من أصحابه إلا سبعة أو نحوهم‏.‏ وشكى إليه الناس الكلال ونفود السهام والرماح وطلبوا الرجوع إلى الكوفة ليستعدوا فإنه أقوى على القتال‏.‏ وكان الذي تولى كلامه الأشعث بن قيس فلم يجبه وأقبل فنزل النخيلة ومنعهم من دخول منازلهم حتى يسيروا إلى عدوهم فتسللوا أيام المقامة إلى البيوت وتركوا المعسكر خالياً‏.‏ فلما رأى علي ذلك دخل في ندبهم ثانياً فلم ينفروا فأقام أياماً ثم كلم رؤساءهم عن رأيهم والذي يبطىء بهم فلم ينشط لذلك إلا القليل‏.‏ فخطبهم وأغلظ في عتابهم وأعلمهم بما له عليهم من الطاعة في الحق والنصح فتثاقلوا وسكتوا‏.‏

ولاية عمرو بن العاص على مصر
قد تقدم لنا ما كان من اجتماع العثمانية بنواحي مصر مع معاوية بن حديج السكوني وإن محمد بن أبي بكر بعث إليهم العساكر من الفسطاط مع ابن مضاهم فهزموه وقتلوه واضطرمت الفتنة بمصر على محمد بن أبي بكر وبلغ ذلك علياً فبعث إلى الأشتر من مكان عمله بالجزيرة وهو نصيبين فبعثه على مصر وقال‏:‏ ليس لها غيرك‏.‏ وبلغ الخبر إلى معاوية وكان قد طمع في مصر فعلم إنها ستمتنع بالأشتر‏.‏ وجاء الأشتر فنزل على صاحب الخراج بالقلزم فمات هنالك وقيل إن معاوية بعث إلى صاحب القلزم فسمه على أن يسقط عنه الخراج وهذا بعيد‏.‏ وبلغ خبر موته علياً فاسترجع واسترحم وكان محمد بن أبي بكر لما بلغته ولاية الأشتر شق عليه فكتب علي يعتذر إليه وإنه لم يوله لسوء رأيه في محمد وإنما هو لما كان يظن فيه من الشدة‏.‏ فقد صار إلى الله ونحن عنه راضون فرضي الله عنه وضاعف له الثواب فاصبر لعدوك وشمر للحرب وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وأكثر من ذكر الله والإستعانة به والخوف منه يكفيك ما أهمك ويعينك على ما ولاك فأجابه محمد بالرضا برأيه والطاعة لأمره‏.‏ وأنه مزمع على حرابة من خالفه‏.‏ ثم لما كان من أمر الحكمين ما كان واختلف أهل العراق على علي وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة‏.‏ فأراد معاوية صرف عمله إلى مصر لما كان يرجو من الاستعانة على حروبه بخراجها‏.‏ ودعا بطانته أبا الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة وبسر بن أرطاة والضحاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وشرحبيل بن السمط وشاورهم في شأنها فأشار عليه عمرو بافتتاحها‏.‏ وأشار ببعث الجيش مع حازم صارم يوثق ويجتمع إليه من كان على رأيه من العثمانية‏.‏ فقال معاوية‏:‏ بل الرأي أن نكاتب العثمانية بالوعد ونكاتب العدو بالصلح والتخويف ونأتي الحرب بعد ذلك‏.‏ ثم قال معاوية‏:‏ إنك يا ابن العاص بورك لك في العجلة وأنا في التؤدة فقال‏:‏ إفعل ما تراه وأظن الأمر لا يصير إلا للحرب‏.‏ فكتب معاوية إلى معاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد يشكرهما على الخلاف ويحثهما على الحرب والقيام في دم عثمان وفرحا بجوابهما فطلب المدد فأمر عمرو بن العاص أن يتجهز إلى مصر في ستة آلاف رجل ووصاه بالتوبة وترك العجلة فنزل أدنى أرض مصر واجتمعت إليه العثمانية‏.‏ وبعث كتابه وكتاب معاوية إلى محمد بن أبي بكر بالتهديد وإن الناس اجتمعوا عليك وهم مسلموك فأخرج فبعث بالكتابين إلى علي فوعده بإنفاذ الجيوش وأمره بقتال العدو والصبر‏.‏ فقدم محمد بن أبي بدر كنانة بن بشر في ألفين فبعث معاوية عمرو بن حديج وسرحه في أهل الشام فأحاطوا بكنانة فترجل عن فرسه وقاتل حتى استشهد‏.‏ وجاء الخبر إلى محمد بن أبي بكر فافترق عنه أصحابه وفروا وآوى في مفرة إلى خربة واستتر في تلك الخربة فقبض عليه فأخذه ابن حديج وجاء به إلى الفسطاط وطلب أخوه عبد الرحمن من عمرو أن يبعث إلى ابن حديج في البقاء عليه فأبى‏.‏ وطلب محمد الماء فمنعه ابن حديج جزاء بما فعل بعثمان ثم أحرقه في جوف حمار بعد أن لعنه ودعا عليه وعلى معاوية وعمرو‏.‏ وكانت عائشة تقنت في الصلاة بالدعاء على قتلته ويقال إنه لما انهزم اختفى عند جبلة بن مسروق حتى أحاط به معاوية بن حديج وأصحابه فخرج إليهم فقاتل حتى قتل‏.‏ ولما بلغ الخبر علياً خطب الناس وندبهم إلى أعدائهم وقال‏:‏ اخرجوا بنا إلى الجزعة بين الحيرة والكوفة‏.‏ وخرج عن الغد إلى منتصف النهار يمشي إليها حتى نزلها فلم يلحق به أحد فرجع من العشي وجمع أشراف الناس ووبخهم فأجاب مالك بن كعب الأرحبي في ألفين‏.‏ فقال سر وما أراك تدركهم فسار خمساً‏.‏ ولحق حجاج بن عرفة الأنصاري قادماً من مصر فأخبر بقتل محمد‏.‏ وجاء إلى علي عبد الرحمن بن شبث الفزاري وكان عيناً له بالشام‏.‏ فأخبره بقتل محمد واستيلاء عمرو على مصر فحزن بذلك وبعث إلى مالك بن كعب أن يرجع بالجيش‏.‏ وخطب الناس فأخبرهم بالشبر وعذلهم على ما كان منهم من التثاقل حتى فات هذا الأمر ووبخهم طويلاً ثم نزل‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:11 PM

دعاء ابن الحضرمي بالبصرة لمعاوية ومقتله
ولما افتتح معاوية مصر بعث عبد الله بن الحضرمي إلى البصرة داعياً لهم وقد آنس منهم الطاعة بما كان من قتل علي إياهم يوم الجمل وأنهم على رأيه في دم عثمان وأوصاه بالنزول في مصر وأن يتودد إلى الأزد وحذره من ربيعة وقال‏:‏ إنهم ترائبه يعني شيعة لعلي‏.‏ فسار ابن الحضرمي حتى قدم البصرة‏.‏ وكان ابن عباس قد خرج إلى علي واستخلف عليها زياداً ونزل في بنى تميم واجتمع إليه العثمانية فحضهم على الطلب بدم عثمان من علي‏.‏ فقال الضحاك بن قيس الهلالي‏:‏ قبح الله ما جثت به وما تدعو إليه تحملنا على الفرقة بعد الاجتماع وعلى الموت ليكون معاوية أميراً فقال له عبد الله بن حازم السلمي اسكت‏!‏ فلست لها بأهل‏.‏ ثم قال لابن الحضرمي نحن أنصارك ويدك والقول‏!‏ قولك فقرأ كتاب معاوية يدعوهم إلى رأيه من الطلب بدم عثمان على أن يعمل فيهم بالسنة ويضاعف لهم الأعطية فلما فرغ من قراءته قام الأحنف بن قيس معتزلاً وحض عمر بن مرحوم على لزوم البيعة والجماعة‏.‏ وقام العباس بن حجر في مناصرة ابن الحضرمي فقال له المثنى بن خرمة‏:‏ لا يغرنك ابن صحار وارجع من حيث جئت‏.‏ فقال ابن الحضرمي لضبرة بن شيمان الأزدي ألا تنصرني قال لو نزلت عندي فعلت‏!‏ ودعا زياد أمير البصرة حصين بن المنذر ومالك بن مسمع ورؤوس بكر بن وائل إلى المنعة من ابن الحضرمي إلى أن يأتي أمر علي فأجاب حصين وتثاقل مالك وكان هواه في بني أمية‏.‏ فأرسل زياد إلى صبرة بن شيمان يدعوه إلى الجدار بما معه من بيت المال فقال‏:‏ إن حملته إلى داري أجرتك فتحول إليه ببيت المال والمنبر وكان يصلي الجمعة في مسجد قومه وأراد زياد اختبارهم فبعث إليهم من ينذرهم بمسيره إليهم وأخذ زياد جنداً منهم بعد صبره لذلك وقال‏:‏ إن جاءوا جئناهم‏.‏ وكتب زياد إلى علي بالخبر فأرسل أعين بن ضبيعة لنفرق تميماً عن ابن الحضرمي ويقاتل من عصاه بمن أطاعه‏.‏ فجاء لذلك وقاتلهم يوماً أو بعض يوم‏.‏ ثم اغتاله قوم فقتلوه يقال من الخوارج‏.‏ ولما قتل ابن الحضرمي بالبصرة والناس مختلفون على علي طمع أهل النواحي من بلاد العجم في كسر الخراج وأخرج أهل فارس عاملهم سهل بن حنيف فأشار علي الناس فأشار عليه جارية بن قدامة بزياد فأمر ابن عباس أن يوليه عليه فبعثه إليها في جيش كثيف فطوى بهم أهل فارس وضرب ببعضهم بعضاً وهرب قوم وأقام آخرون وصفت له فارس بغير حرب‏.‏ ثم تقدم إلى كرمان فدوخها مثل ذلك فاستقامت وسكن الناس ونزل اصطخر وسكن قلعة بها تسمى قلعة زيار‏.‏

فراق ابن عباس لعلي رضي الله عنه
وفي سنة أربعين فارق عبد الله بن عباس علياً ولحق بمكة وذلك أنه مر يوماً بأبي الأسود ووبخه على أمر فكتب أبو الأسود إلى علي بأن ابن عباس استتر بأموال الله فأجابه علي يشكره على ذلك وكتب لابن عباس ولم يخبره بالكاتب فكتب إليه بكذب ما بلغه من ذلك وإنه ضابط للمال حافظ له‏.‏ فكتب إليه علي‏:‏ أعلمني ما أخذت ومن أين أخذت وفيما وضعت فكتب إليه ابن عباس فهمت استعظامك لما رفع إليك إني رزأته من هذا المال فابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه واستدعى أخواله من بني هلال فجاءته قيس كلها فحمل المال وقال‏:‏ هذه أرزاقنا واتبعه أهل البصرة ووقفت دونه قيس فرجع صبرة بن شيمان الهمداني بالأزد وقال قيس‏:‏ إخواننا وهم خير من المال فأطيعوني‏.‏ وانصرف معهم بكر وعبد القيس ثم انصرف الأحنف بقومه من بني تميم وحجز بقية بني تميم عنه ولحق ابن عباس بمكة‏.‏

مقتل علي رضي الله عنه
قتل علي رضي الله عنه سنة أربعين لسبع عشرة من رمضان وقيل لإحدى عشرة وقيل في ربيع الآخر والأول أصح‏.‏ وكان سبب قتله أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي والبرك بن عبد الله التميمي الصريمي واسمه الحجاج وعمرو بن بكر التميمي السعدي‏:‏ ثلاثتهم من الخوارج لحقوا من فلهم بالحجاز واجتمعوا فتذاكروا ما فيه الناس وعابوا الولاة وترحموا على قتلى النهروان وقالوا‏:‏ ما نصنع بالبقاء بعدهم فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلال وأرحنا منهم الناس‏.‏ فقال ابن ملجم‏:‏ وكان من مصر أنا أكفيكم علياً وقال البرك أنا أكفيكم معاوية وقال عمرو بن بكر التميمي‏:‏ إنا أكفيكم عمرو بن العاص وتعاهدوا أن لا يرجع أحد عن صاحبه حتى يقتله أو يموت‏.‏ واتعدوا لسبع عشرة من رمضان وانطلقوا‏.‏ ولقي ابن ملجم أصحابه بالكوفة فطوى خبره عنهم‏.‏ ثم جاء إلى شبيب بن شجرة من أشجع ودعاه إلى الموافقة في شأنه‏.‏ فقال شبيب‏:‏ ثكلتك أمك فكيف تقدر على قتله قال أكمن له في المسجد في صلاة الغداة فإن قتلناه وإلا فهي الشهادة‏.‏ قال ويحك لا أجدني انشرح لقتله مع سابقته وفضله قال ألم يقتل العباد الصالحين أهل النهروان قال بلى‏!‏ فال فنقتله بمن قتله منهم فأجابه‏.‏ ثم لقي امرأةً من تيم الرباب فائقة الجمال قتل أبوها وأخوها يوم النهروان فأخذت قلبه فخطبها فشرطت عليه عبداً وقينة وقتل علي‏.‏ فقال كيف يمكن ما أنت تريدين قالت التمس غرته فإن قتلته شفيت النفوس وإلا فهي الشهادة قال‏:‏ والله ما جئت إلا لذلك ولك ما سألت‏.‏ قالت‏:‏ سأبعث معك من يشد ظهرك ويساعدك فبعثت معه رجلاً من قومها إسمه وردان فلما كانت الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه على قتل علي وكانت ليلة الجمعة جاء إلى المسجد ومعه شبيب ووردان وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي للصلاة‏.‏ فلما خرج ونادى للصلاة علاه شبيب بالسيف فوقع بعضادة الباب وضربه ابن ملجم على مقدم رأسه وقال‏:‏ الحكم لله لا لك يا علي ولا لأصحابك وهرب وردان إلى منزلة وأخبر بعض أصحابه بالأمر فقتله وهرب شبيب مغلساً‏.‏ وصاح الناس به فلحقه رجل من حضرموت فأخذه وجلس عليه والسيف في يد شبيب والناس قد أقبلوا في طلبه‏.‏ وخشي الحضرمي على نفسه لاختلاط الغلس وشد الناس على ابن ملجم واستخلف علي على الصلاة جعدة بن هبيرة وهو ابن أخته أم هانىء فصلى الغداة بالناس وأدخل ابن ملجم مكتوفاً على علي فقال‏:‏ إيه عدو الله ما حملك على هذا قال شحذته أربعين صباحاً وسألت الله أن يقتل به شر خلقة‏.‏ فقال أراك مقتولاً به‏!‏ ثم قال إن هلكت فاقتلوه كما قتلني وإن بقيت رأيت فيه رأيي‏.‏ يا بني عبد المطلب لا تحرضوا على دماء المسلمين وتقولوا قتل أمير المؤمنين لا تقتلوا إلا قاتلي‏.‏ يا حسن‏!‏ أنا إن مت من ضربتي هذه فاضربه بسيفه ولا تمثلن بالرجل فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إياكم والمثلة‏.‏ وقالت أم كلثوم لابن ملجم وهو مكتوف وهي تبكي‏:‏ أي عدو الله لا بأس على أبي والله مخزيك قال فعلام تبكين والله لقد شريته بألف وصقلته أربعين ولو كانت هذه الضربة بأهل بلد ما بقي منهم أحد‏.‏ وقال جندب بن عبد الله لعلي أنبايع الحسن إن فقدناك قال ما آمركم به ولا أنهاكم أنتم أبصر‏.‏ ثم دعا الحسن والحسين ووصاهما قال‏:‏ أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ولا تأسفا على شيء زوى منها عنكما وقولا الحق وارحما اليتيم وأعينا الضائع وكونا للظالم خصماً وللمظلوم ناصراً واعملا بما في كتاب الله ولا تأخذكما في الله لومة لائم‏.‏ ثم قال لمحمد بن الحنفية إني أوصيك بمثل ذلك وبتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك ولا تقطع أمراً دونهما‏.‏ ثم وصاهما بابن الحنفية ثم أعاد على الحسن وصيته‏.‏ ولما حضرته الوفاة كتب وصيته العامة ولم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض‏.‏ وأحضر الحسن ابن ملجم فقال له هل لك البقاء علي‏!‏ وإني قد عاهدت الله أن أقتل علياً ومعاوية وإني عاهدت الله على الوفاء بالعهد فخل بيني وبين ذلك فإن قتلته وبقيت فلك عهد الله أن آتيك فقال‏:‏ لا والله حتى تعاين النار ثم قدمه فقتلة وأما البرك فإنه قصد لمعاوية تلك الليلة فلما خرج للصلاة ضربه بالسيف في إليته وأخذ فقال‏:‏ عندي بشرى أتنفعني إن أخبرتك بها قال نعم‏!‏ قال إن أخاً لي قتل علياً هذه الليلة‏.‏ قال فلعله لم يقدر عليه‏.‏ قال بلى إن علياً ليس معه حرس‏.‏ فأمر به معاوية فقتل وأحضر الطبيب فقال‏:‏ ليس إلا الكي أو شربة تقطع منك الولد فقال‏:‏ في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني والنار لا صبر لي عليها‏.‏ وقد قيل إنه أمر بقطع البرك فقطع وأقام إلى أيام زياد فقتله بالبصرة‏.‏ وعند ذلك اتخذ معاوية المقصورة وحرس الليل وقيام الشرطة على رأسه إذا سجد‏.‏ ويقال إن أول من اتخذ المقصورة مروان بن الحكم سنة أربع وأربعين حين طعنه اليماني‏.‏ وأما عمرو بن بكر فإنه جلس إلى عمرو بن العاص تلك الليلة فلم يخرج وكان اشتكى فأمر صاحب شرطته خارجة بن أبي حبيبة بن عامر بن لؤي يصلي بالناس فشد عليه فضربه فقتله وهو يرى أنه عمرو بن العاص‏.‏ فلما أخذوه وأدخلوه على عمرو قال‏:‏ فمن قتلت إذا‏.‏ قالوا خارجة فقال لعمرو بن العاص والله ما ظننته غيرك‏!‏ فقال عمر‏:‏ أردت عمراً وأراد الله خارجة‏.‏ وأمر بقتله وتوفي علي رضي الله عنه وعلى البصرة عبد الله بن عباس وعلى قضائها أبو الأسود الدؤلي وعلى فارس زياد بن سمية وعلى اليمن عبيد الله بن لعباس حتى وقع أمر بسر بن أبي أرطاة وعلى مكة والطائف قثم بن عباس وعلى المدينة أبو أيوب الأنصاري وقيل سهل بن حنيف‏.‏

بيعة الحسن وتسليمه الأمر لمعاوية
ولما قتل علي رضي الله عنه اجتمع أصحابه فبايعوا ابنه الحسن وأول من بايعه قيس بن سعد وقال‏:‏ أبسط يدك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال الملحدين فقال الحسن‏:‏ على كتاب الله وسنة رسوله‏.‏ ويأتيان على كل شرط ثم بايعه الناس فكان يشترط عليهم إنكم سامعون مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت‏.‏ فارتابوا وقالوا‏:‏ ما هذا لكم بصاحب وما يريد القتال‏.‏ وبلغ الخبر بمقتل علي إلى معاوية فبويع الخلافة ودعي بأمير المؤمنين وكان قد بويع بها بعد اجتماع الحكمين‏.‏ ولأربعين ليلة بعد مقتل علي مات الأشعث بن قيس الكندي من أصحابه‏.‏ ثم مات من أصحاب معاوية شرحبيل بن السمط الكندي وكان علي قبل قتله قد فلما بويع الحسن زحف معاوية في أهل الشام إلى الكوفة فسار الحسن في ذلك الجيش للقائه وعلى مقدمته قيس بن سعد في اثني عشر ألفاً وقيل بل كان عبد الله بن عباس على المقدمة وقيس في طلائعه‏.‏فلما نزل الحسن في المدائن شاع في العسكر أن قيس بن سعد قتل واهتاج الناس وماج بعضهم في بعض وجاءوا إلى سرادق الحسن ونهبوا ما حوله حتى نزعوه بساطه الني كان عليه واستلبوه رداءه وطعنه بعضهم في فخذه‏.‏ وقامت ربيعة وهمدان دونه واحتملوه على سرير إلى المدائن‏.‏ ودخل إلى القصر وكاد أمره أن ينحل فكتب إلى معاوية يذكر له النزول عن الأمر على أن يعطيه ما في بيت المال بالكوفة ومبلغه خمسة آلاف ألف ويعطيه خراج دارابجرد من فارس وأن لا يشتم علياً وهو يسمع‏.‏ وأخبر بذلك أخاه الحسين وعبد الله بن جعفر وعذلاه فلم يرجع إليهما‏.‏ وبلغت صحيفته إلى معاوية فأمسكها وكان قد بعث عبد الله بن عامر وعبد الله بن سمرة إلى الحسن ومعهما صحيفة بيضاء ختم في أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت فهو لك فاشترط فيها أضعاف ما كان في الصحيفة‏.‏ فلما سلم له وطالبه في الشروط أعطاه ما في الصحيفة الأولى وقال‏:‏ هو الذي طلبت ثم نزعه أهل البصرة خراج دارا بجرد وقالوا‏:‏ هو فيئنا لا نعطيه‏.‏ وخطب الحسن أهل العراق وقال سخى نفسي عنكم ثلاث‏:‏ قتل أبي وطعني وانتهاب بيتي ثم قال ألا وقد أصبحتم بين قبيلتين قبيل بصفين يبكون له وقبيل بالنهروان يطلبون بثأره‏.‏ وأما الباقي فخاذل وأما الباكي فثائر‏.‏ وإن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله بظبى السيوف وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى‏.‏ فناداه الناس من كل جانب البقية الباقية فأمضي الصلح‏.‏ ثم بايع لمعاوية لستة أشهر من بيعته ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس‏.‏ وكتب الحسن إلى قيس بن سعد يأمره بطاعة معاوية فقام قيس في أصحابه فقال‏:‏ نحن بين القتال مع غير إمام أو طاعة إمام ضلالة فقال له الناس‏:‏ طاعة الإمام أولى‏.‏ وانصرفوا إلى معاوية فبايعوه وامتنع قيس وانصرف‏.‏ فلما دخل معاوية الكوفة أشار عليه عمرو بن العاص أن يقيم الحسن للناس خطيباً ليبدو للناس عيه فلما قدم حمد الله وقال‏:‏ أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وإن لهذا الأمر مدة وإن الدنيا دول والله عز وجل يقول لنبيه‏:‏ ‏"‏ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ‏"‏‏.‏ فقال له معاوية‏:‏ إجلس وعرف أنه خدع في رأيه‏.‏ ثم ارتحل الحسن في أهل بيته وحشمهم إلى المدينة وخرج أهل الكوفة لوداعه باكين فلم يزل مقيماً بالمدينة إلى أن هلك سنة تسع وأربعين‏.‏ وقال أبو الفرج الأصبهاني سنة إحدى وخمسين على فراشه بالمدينة‏.‏ وما ينقل من أن معاوية دس إليه السم مع زوجته جعدة بنت الأشعث فهو من أحاديث الشيعة وحاشا لمعاوية من ذلك‏.‏ وأقام قيس بن سعد على امتناعه من البيعة وكان معاوية قد بعث عبد الله بن عامر في جيش إلى عبيد الله بن عباس لما كتب إليه في الأمان بنفسه فلقيه ليلاً وأمنه وسار معه إلى معاوية فقام بأمر العسكر بعده قيس بن سعد وتعاقدوا على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي على دمائهم وأموالهم وما كانوا أصابوا في الفتنة‏.‏ وبلغ الخبر إلى معاوية وأشار عليه عمرو في قتاله فقال معاوية‏:‏ يقتل في ذلك أمثالهم من أهل الشام ولا خير فيه ثم بعث إليه بصحيفة ختم في أسفلها وقال‏:‏ اكتب في هذا ما شئت فهو لك‏:‏ فكتب قيس له ولشيعته الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال ولم يسأل مالاً فأعطاه معاوية ذلك لك وبايعه قيس والشيعة الذين معه‏.‏ ثم جاء سعد بن أبي وقاص فبايعه واستقر الأمر معاوية واتفق الجماعة على بيعته وذلك في منتصف سنة إحدى وأربعين وسمي ذلك العام عام الجماعة من أجل ذلك‏.‏ ثم خرج عليه الخوارج من كل جهة من بقية أهل النهروان وغيرهم فقاتلهم واستلحمهم كما يأتي في أخبارهم على ما اشترطناه في تأليفنا من أفراد الأخبار عن الدول أهل النحل دولة دولة وطائفةً طائفة‏.‏ وهذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية وما كان فيها من الردة والفتوحات والحروب ثم الاتفاق والجماعة أوردتها ملخصة عيونها ومجامعها من كتاب محمد بن جرير الطبري وهو تاريخه الكبير فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك وأبعد من المطاعن عن الشبه في كبار الأمة وخيارهم وعدولهم من الصحابة رضي الله عنهم التابعين‏.‏ فكثيراً ما يوجد في كلام المؤرخين أخبار فيها مطاعن وشبه في حقهم أكثرها من أهل الأهواء فلا ينبغي أن تسود بها العيون‏.‏ وأبعتها بمفردات من غير كتاب الطبري بعد أن تخيرت الصحيح جهد الطاقة وإذا ذكرت شيئاً في الأغلب نسبته إلى قائله‏.‏ وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم فهو تأليهم في الفضل والعدالة والصحبة ولا ينظر في ذلك إلى حديث‏:‏ الخلافة بعدي ثلاثون فإنه لم يصح‏.‏ والحق إن معاوية في عداد الخلفاء وإنما أخره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين‏:‏ الأول‏:‏ إن الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما قدمناه من العصبية التي حدثت لعصره وأما قبل ذلك فكانت اختياراً واجتماعاً فميزوا بين الحالتين‏.‏ فكان معاوية أول خلفاء المغالبة والعصبية الذين يعبر عنهم أهل الأهواء بالملوك ويشبهون بعضهم ببعض وحاشى لله أن يشبه معاوية بأحد ممن بعده‏.‏ فهو من الخلفاء الراشدين ومن كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانية ممن تلاه في المرتبة كذلك وكذلك من بعدهم من خلفاء بني العباس‏.‏ ولا يقال‏:‏ إن الملك أدون رتبة من الخلافة فكيف يكون خليفة ملكاً‏.‏ واعلم أن الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هي الجبروتية والمعبر عنها بالكسروية التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها وأما الملك الذي هو الغلبة والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوة فقد كان سليمان بن داود وأبوه صلوات الله عليهما نبيين وملكين وكانا على غاية الاستقامة في دنياهما وعلى طاعة ربهما عز وجل‏.‏ ومعاوية لم يطلب الملك ولا أبهته للاستكثار من الدنيا وإنما ساقه أمر العصبية بطبعها لما استولى المسلمون على الدولة كلها وكان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عندما تستعمل العصبية وتدعو لطبيعة الملك‏.‏ وكذلك شأن الخلفاء أهل الدين من بعده إذا دعتهم ضرورة الملك إلى استعمال أحكامه ودواعيه‏.‏ والقانون في ذلك عرض أفعالهم على الصحيح من الأخبار لا بالواهي‏.‏ فمن جرت أفعاله عليها فهو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين ومن خرجت أفعاله من ذلك فهو من ملوك الدنيا‏.‏ وإن سمي خليفة في المجاز‏.‏

الأمر الثاني‏:‏ في ذكر معاوية مع خلفاء بني أمية دون الخلفاء الأربعة
أنهم كانوا أهل نسب واحد عظيمهم معاوية فجعل مع أهل نسبه والخلفاء الأولون مختلفو الأنساب فجعلوا في نمط واحد وألحق بهم عثمان وإن كان من أهل هذا النسب للحوقه بهم قريباً في الفضل والله يحشرنا في زمرتهم ويرحمنا بالاقتداء بهم‏.‏ بسم الله الرحمن الرحيم دولة بني أمية كان لبني عبد مناف في قريش جمل من العدد والشرف‏.‏ لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قريش‏.‏ وكان فخذاهم بنو أمية وبنو هاشم حياً جميعاً ينتمون لعبد مناف وينسبون إليه‏.‏ وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرياسة عليهم إلا أن بني أمية كانوا أكثر عدد اً من بني هاشم وأوفر رجالاً والعزة إنما هي بالكثرة قال الشاعر‏:‏ وإنما العزة للكاثر‏.‏ وكان لهم قبيل الإسلام شرف معروف انتهى إلى حرب بن أمية وكان رئيسهم في حرب الفجار‏.‏ وحدث الاخباريون أن قريشا تواقعوا ذات يوم وحرب هذا مسند ظهره إلى الكعبة فتبادر إليه غلمة منهم ينادون يا عم أدرك قومك فقام يجر إزاره حتى أشرف عليهم من بعض الربا ولوح بطرف ثوبه إليهم أن تعالوا فبادرت الطائفتان إليه بعد أن كان حمي وطيسهم‏.‏ ولما جاء الإسلام دهش الناس لما وقع من أمر النبوة والوحي وتنزل الملائكة وما وقع من خوارق الأمور ونسي الناس أمر العصبية مسلمهم وكافرهم‏.‏ أما المسلمون فنهاهم الإسلام عن أمور الجاهلية كما في الحديث أن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها لأننا وأنتم بنو آدم وآدم من تراب‏.‏ وأما المشركون فشغلهم ذلك الأمر العظيم عن شأن العصائب وذهلوا عنه حيناً من الدهر‏.‏ ولذلك لما افترق أمر بني أمية وبني هاشم بالإسلام‏.‏ إنما كان ذلك الإفتراق بحصار بني هاشم في الشعب لا غير‏.‏ ولم يقع كبير فتنة لأجل نسيان العصبيات والذهول عنها بالإسلام حتى كانت الهجرة وشرع الجهاد‏.‏ ولم يبق إلا العصبية الطبيعية التي لا تفارق وهي بعزة الرجل على أخيه وجاره في القتل والعدوان عليه فهذه لا يذهبها شيء ولا هي محظورة بل هي مطلوبة ونافعة في الجهاد والدعاء إلى الدين‏.‏ ألا ترى إلى صفوان بن أمية وقوله عندما انكشف المسلمون يوم حنين وهو يومئذ مشرك في المدة التي جعل له رسول الله فقال له أخوه ألا بطل السحر اليوم فقال له صفوان اسكت فض الله فاك لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن‏.‏ ثم إن شرف بني عبد مناف لم يزل في بني عبد شمس وبني هاشم‏.‏ فلما هلك أبو طالب وهاجر بنوه مع رسول الله وحمزة كذلك‏.‏ ثم من بعده العباس والكثير من بني عبد المطلب وسائر بني هاشم خلا الجو حينئذ من مكان بني هاشم بمكة واسغلظت رياسة بني أمية في قريش ثم استحكمتها مشيخة قريش من سائر البطون في بدر و هلك فيها عظماء بني عبد شمس‏:‏ عتبة وربيعة والوليد وعقبة بن أبي معيط وغيرهم‏.‏ فاستقل أبو سفيان بشرف بني أمية والتقدم في قريش وكان رئيسهم في أحد وقائدهم في الأحزاب وما بعدها‏.‏ ولما كان الفتح قال العباس للنبي لما أسلم أبو سفيان ليلتئذ كما هو معروف وكان صديقاً له يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له ذكراً فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏.‏ ثم من على قريش بعد أن ملكهم يومئذ وقال‏:‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء وأسلموا‏.‏ وشكت مشيخة قريش بعد ذلك لأبي بكر ما وجدوه في أنفسهم التخلف عن رتب المهاجرين الأولين وما بلغهم من كلام عمر في تركه شوارهم فاعتذر لهم أبو بكر وقال‏:‏ أدركوا إخوانكم بالجهاد وأنفذهم لحروب الردة فأحسنوا الغناء عن الإسلام وقوموا الأعراب عن الحيف والميل‏.‏ ثم جاء عمر فرمى بهم الروم وأرغب قريشاً في النفير إلى الشام فكان معظمهم هنالك‏.‏ واستعمل يزيد بن أبي سفيان على الشام وطال أمد ولايته إلى أن هلك في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة فولى مكانه أخاه معاوية وأقره عثمان من بعد عمر فاتصلت رياستهم على قريش في الإسلام برياستهم قبيل الفتح التي لم تحل صبغتها ولا ينسى عهدها أيام شغل بني هاشم بأمر النبوة برسوله‏.‏ وما زال الناس يعرفون ذلك لبني أمية‏.‏ وانظر مقالة حنظلة بن زياد الكاتب لمحمد بن أبي بكر‏:‏ أن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبك عليه بنو عبد مناف‏.‏ ولما هلك عثمان اختلف الناس على علي كانت عساكر علي أكثر عدداً لمكان الخلافة والفضل إلا أنها من سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم‏.‏ وجموع معاوية إنما هي جند الشام من قريش شوكة مضر وبأسهم نزلوا بثغور الشام منذ الفتح فكانت عصبيته أشد وأمضى شوكة‏.‏ ثم كسر من جناح علي ما كان من أمر الخوارج وشغله بهم إلى أن ملك معاوية وخلع الحسن نفسه واتفقت الجماعة على بيعة معاوية في منتصف سنة إحدى وأربعين عندما نسي الناس شأن النبوة والخوارق ورجعوا إلى أمر العصبية والتغالب وتعين بنوا أمية للغلب على مضر وسائر العرب ومعاوية يومئذ كبيرهم‏.‏ فلم تتعده الخلافة ولا ساهمه فيها غيره فاستوت قدمه واستفحل شأنه واستحكمت في أرض مصر رياسته وتوثق عقده‏.‏ وأقام في سلطانه وخلافته عشرين سنة ينفق من بضاعة السياسة التي لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يداً من أهل الترشيح من ولد فاطمة وبني هاشم وآل الزبير وأمثالهم ويصانع رؤوس العرب وقروم مضر بالإغضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه‏.‏ وكانت غايته في الحلم لا تدرك وعصابته فيها لا تنزع ومرقاته فيها تزل عنها ذكر أنه مازح عدي بن حاتم يوما يؤنبه بصحبة علي فقال له عدي‏:‏ والله إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا وإن السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ولئن أدنيت إلينا من الغدر شبراً لندنين إليك من الشر باعاً وإن حز الحلقوم وحشرجة الحيزوم لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي فشم السيف يا معاوية يبعث السيف‏.‏ فقال معاوية هذه كلمات حق فاكتبوها وأقبل عليه ولاطفه وتحادثا وأخباره في الحلم كثيرة‏.‏ بعث معاوية العمال إلى الأمصار لما استقل معاوية بالخلافة عام عدم الجماعة بعث العمال إلى الأمصار فبعث على الكوفة المغيرة بن شعبة‏.‏ ويقال إنه ولى عليها أولاً عبد الله بن عمرو بن العاص فأتاه المغيرة منتصحاً وقال عمرو بمصر وابنه بالكوفة فأنت بين نابي أسد فعزله وولى المغيرة‏.‏ وبلغ ذلك عمراً فقال لمعاوية‏:‏ يختان المال فلا تقدر على رده فعد فاستعمل من يخافك‏.‏ فنصب المغيرة على الصلاة وولى على الخراج غيره وكان على القضاء شريح‏.‏ ولما ولى المغيرة على الكوفة استعمل كثير بن شهاب على الري وأقره زياد بعده‏.‏ وكان يغزو الديلم‏.‏ ثم بعث على البصرة بسر بن أرطأة وكان قد تغلب عليها حمران بن زيد عند صلح الحسن مع معاوية فبعث بسراً عليها فخطب الناس وتعرض لعلي‏.‏ ثم قال‏:‏ نشدت الله رجلاً يعلم أني صادق أو كاذب ولا صدقني أو كذبني‏.‏ فقال أبو بكرة‏:‏ اللهم لا نعلمك إلا كاذباً فأمر به فخنق‏.‏ فقام أبو لؤلؤة الضبي فدفع عنه‏.‏ أن على فارس من أعمال البصرة زياد ابن أبيه‏.‏ وبعث إليه معاوية يطلبه في المال فقال‏:‏ صرفت بعضه في وجهه واستودعت بعضه للحاجة إليه وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله‏.‏ فكتب إليه معاوية بالقدوم لينظر في ذلك فامتنع‏.‏ فلما ولي بسر على البصرة جمع عنده أولاد زياد والأكابر عبد الرحمن وعبد الله وعباد وكتب إليه لتقدمن أو لأقتلن بنيك فامتنع واعتزم بسر على قتلهم فأتاه أبو بكرة وكان أخا زياد لأمه فقال‏:‏ أخذتهم بلا ذنب‏.‏ وصالح الحسن على أصحاب علي حيث كانوا فأمهله بسر إلى أن يأتي بكتاب معاوية‏.‏ ثم قدم أبو بكرة على معاوية وقال‏:‏ إن الناس لم يبايعوك على قتل الأطفال وإن بسراً يريد قتل بني زياد فكتب إليه بتخليتهم وجاء إلى البصرة يوم المهاد ولم يبق منه إلى ساعة وهم موثقون للقتل فأدركهم وأطلقهم انتهى‏.‏ ثم عزل معاوية بسراً عن البصرة وأراد أن يولي عتبة بن أبي سفيان فقال له ابن عامر إن لي بالبصرة أموالا وودائع وإن لم تولني عليها ذهبت‏.‏ فولاه وجعل إليه معها خرسان وسجستان وقدمها سنة إحدى وأربعين فولي على خراسان قيس بن الهيثم السلمي وكان أهل بلخ وباذغيس وهراة وبوشنج قد نضوا فسار إلى بلخ وحاصرها حتى سألوا الصلح وراجعوا الطاعة‏.‏ وقيل إنما صالحهم الربيع بن زياد سنة إحدى وخمسين على ما سيأتي‏.‏ ثم قدم قيس على ابن عامر فضربه وحبسه وولى مكانه عبد الله بن حازم وقدم خرسان فأرسل إليه أهل هراة وباذغيس وبوشنج في الأمان والصلح فأجابهم وحمل لابن عامر مالاً انتهى‏.‏ ثم ولى معاوية سنة اثنتين وأربعين على المدينة مروان بن الحكم وعلى مكة خالد بن العاص بن هشام‏.‏ واستقضى مروان عبد الله بن الحارث بن نوفل وعزل مروان عن المدينة سنة تسع وأربعين وولى مكانه سعيد بن العاص وذلك لثمان سنين من ولايته‏.‏ وجعل سعيد على القضاء ابن عبد الرحمن مكان عبد الله بن الحارث ثم عزل معاوية سعيد سنة أربع وخمسين ورد إليها مروان‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:12 PM

قدوم زياد
وكان زياد قد امتنع بفارس بعد مقتل علي كما قدمناه وكان عبد الرحمن ابن أخيه أبي بكرة يلي أمواله بالبصرة ورفع إلى معاوية أن زياداً استودع أمواله عبد الرحمن فبعث إلى المغيرة بالكوفة أن ينظر في ذلك فأحضر عبد الرحمن وقال له‏:‏ إن يكن أبوك أساء إلي فقد أحسن عمك وأحسن العذر عند معاوية‏.‏ثم قدم المغيرة على معاوية فذكر له ما عنده من الوجل باعتصام زياد بفارس فقال‏:‏ داهية العرب معه أموال فارس يدبر الحيل فما آمن أن يبايع لرجل من أهل البيت ويعيد الحرب خدعة فاستأذنه المغيرة أن يأتيه ويتلطف له ثم أتاه وقال‏:‏ إن معاوية بعثني إليك وقد بايعه الحسن ولم يكن هناك غيره فخذ لنفسك قبل أن يستغني معاوية عنك‏.‏ قال أشر علي والمستشار مؤتمن‏.‏ فقال‏:‏ أرى أن تشخص إليه وتصل حبلك بحبله وترجع عنه‏.‏ فكتب إليه معاوية بأمانه‏.‏ وخرج زياد من فارس نحو معاوية ومعه المنجاب بن رابد الضبي وحارثة بن بدر الغداني واعترضه عبد الله بن حازم في جماعة وقد بعثه ابن عامر ليأتيه به‏.‏ فلما رأى كتاب الأمان تركه وقم على معاوية فسأله عن أموال فارس فأخبره بما أنفق وبما حمل إلى علي وبما بقي عنده مودعاً للمسلمين فصدقه معاوية وقبضه منه‏.‏ ويقال‏:‏ إنه قال له أخاف أن تكون مكروباً بي فصالحني فصالحه على ألفي ألف درهم بعث بها إليه واستأذنه في نزول الكوفة فأذن له‏.‏ وكان المغيرة يكرمه ويعظمه وكتب إليه معاوية أن يلزم زياداً وحجر بن عدي وسليمان بن صرد وسيف بن ربعي وابن الكوا وابن الحميق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه الصلوات‏.‏

عمال ابن عامر على الثغور
لما ولي ابن عامر على البصرة استعمل عبد الرحمن بن سمرة على سجستان فأتاها وعلى شرطتها عباد بن الحصين ومعه من الأشراف عمر بن عبيد الله بن معمر وغيره‏.‏ وكان أهل البلاد قد كفروا‏.‏ ففتح أكثرها حتى بلغ كابل وحاصرها أشهراً ونصب عليها المجانيق حتى ثلم سورها ولم يقدر مشركون على سد الثلمة‏.‏ وبات عباد بن الحسين عليها يطاعنهم إلى الصبح ثم خرجوا من الغد للقتال فهزمهم المسلمون ودخلوا البلد عنوة اه‏.‏ ثم سار إلى نسف فملكها عنوة ثم إلى حسك فصالحه أهلها ثم إلى الرخج فقاتلوه وظفر بهم وفتحها اه‏.‏ ثم إلى زابلستان وهي غزنة وأعمالها ففتحها ثم عاد إلى كابل وقد نكث أهلها ففتحها اه‏.‏ واستعمل على ثغر الهند عبد الله بن سوار العبدي ويقال بل ولاه معاوية من قبله فغزا التيعان فأصاب مغنماً ووفد على معاوية وأهدى له من خيولها ثم عاد إلى غزوهم فاستنجدوا بالترك وقتلوه وكان كريماً في الغاية‏.‏ يقال‏:‏ لم يكن أحد يوقد النار في عسكره وسأل ذات ليلة عن نار رآها فقيل له خبيص يصنع لنفساء فأمر أن يطعم الناس الخبيص ثلاثة أيام‏.‏ واستعمل على خراسان قيس بن الهيثم فتغافل بالخراج والهدنة فولى مكانه عبد الله بن حاتم‏.‏ فخاف قيساً وأقبل فزاد ابن عامر غضباً لتضييعه الثغر وبعث مكانه رجلاً من يشكر وقيل ثم بعث عبد الله بن حازم وقيل إن ابن حازم قال لابن عامر إن قيساً لا ينهض بخراسان وأخاف إن لقي قيس حرباً أن ينهزم ويفسد خراسان فاكتب لي عهداً إن عجز عن عدو قمت مقامه‏.‏ فكتب وخرجت خارجة من طخارستان فأشار ابن حازم عليه أن يتأخر حتى يجتمع عليه الناس فلما سار غير بعيد أخرج ابن حازم عهده وقام بأمر الناس وهزم العدو‏.‏ وبلغ الخبر إلى الأمصار فغضبت أصحاب قيس وقالوا خدع صاحبنا وشكوا إلى معاوية فاستقدمه فاعتذر فقبل منه وقال له أقم في الناس بعذرك فعل اه‏.‏ وفي سنة ثلاث وأربعين توفي عمرو بن العاص بمصر فاستعمل معاوية عبد الله ابنه‏.‏

عزل ابن عامر
وكان ابن عامر حليماً ليناً للسفهاء فطرق البصرة الفساد من ذلك‏.‏ وقال له زياد جرد السيف فقال‏:‏ لا أصلح الناس بفساد نفسي‏.‏ ثم بعث وفداً من البصرة إلى معاوية فوافقوا عنده وفد الكوفة ومنهم ابن الكوا وهو عبد الله بن أبي أوفى اليشكري‏.‏ فلما سألهم معاوية عن الأمصار أجابه ابن الكوا بعجز ابن عامر وضعفه فقال معاوية‏:‏ تكلم عن أهل البصرة وهم حضور وبلغ ذلك ابن عامر فغضب وولى على خراسان من أعداء ابن الكوا عبد الله بن أبي شيخ اليشكري أو طفيل بن عوف فسخر منه ابن الكوا لذلك وقال‏:‏ وددت أنه ولى كل يشكري من أجل عداوتي‏.‏ ثم إن معاوية استقدم ابن عامر فقدم وأقام أياماً فلما ودعه قال‏:‏ إني سائلك ثلاثا قال هن لك قال ترد علي عملي ولاتغضب وتهب لي مالك بعرفة ودورك بمكة قال‏:‏ قد فعلت‏.‏ قال وصلتك رحم فقال ابن عامر وإني سائلك ثلاثاً‏:‏ ترد علي عملي بعرفة ولا تحاسب لي عاملاً ولا تتبع لي أثراً وتنكحني ابنتك هنداً‏.‏ قال قد فعلت ويقال إن معاوية خيره بين أن يرده على اتباع أثره وحسابه بما سار إليه أو يعزله ويسوغه ما أصاب‏.‏ فاختار الثالثة فعزله وولى مكانه الحارث بن عبد الله الأسدي‏.‏

استخلاف زياد
كانت سمية أم زياد مولاة للحارث بن كندة الطبيب وولدت عنده أبا بكرة ثم زوجها بمولى له وولدت زياداً‏.‏ وكان أبو سفيان قد ذهب إلى الطائف في بعض حاجاته فأصابها بنوع من أنكحة الجاهلية‏.‏ وولدت زياداً هذا ونسبه إلى أبي سفيان وأقر لها به إلا أنه كان بخفية ولما شب زياد سمت به النجابة‏.‏ واستكتبه أبو موسى الأشعري وهو على البصرة واستكفاه عمر في أمر فحسن منار دينه وحضر عنده يعلمه بما صنع فأبلغ ما شاء في الكلام‏.‏ فقال عمرو بن العاص - وكان حاضراً - لله هذا الغلام لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه‏.‏ قال أبو سفيان وعلي يسمع‏:‏ والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم أمه فقال له علي‏:‏ اسكت فلو سمع عمر هذا منك كان إليك سريعاً‏.‏ ثم استعمل علي زياداً على فارس فضبطها وكتب إليه معاوية يتهدده ويعرض له بولادة أبي سفيان إياه فقام في الناس فقال‏:‏ عجباً لمعاوية يخوفني دين ابن عم الرسول في المهاجرين والأنصار‏.‏ وكتب إليه علي إني وليتك وأنا أراك أهلاً وقد كان من أبي سفيان فلتة من آمال الباطل وكذب النفس لا توجب ميراثاً ولا نسباً‏.‏ ومعاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثم احذر والسلام اه‏.‏ ولما قتل علي وصالح زياد معاوية وضع مصقلة بن هبيرة الشيباني على معاوية ليعرض له بنسب أبي سفيان ففعل ورأى معاوية أن يستميله باستلحاقه فالتمس الشهادة بذلك ممن علم لحوق نسبه بأبي سفيان فشهد له رجال من أهل البصرة وألحقه وكان أكثر شيعة علي ينكرون ذلك وينقمونه على معاوية حتى أخوه أبو بكرة‏.‏ وكتب زياد إلى عائشة في بعض الأحيان من زياد بن أبي سفيان يستدعي جوابها بهذا النسب ليكون له حجة فكتبت إليه‏:‏ من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد‏.‏ وكان عبد الله بن عامر يبغض زياداً وقال يوماً لبعض أصحابه من عبد القيس‏:‏ ابن سمية يقبح آثاري ويعترض عمالي لقد هممت بقسامة من قريش أن أبا سفيان لم ير سمية‏.‏ فأخبر زياد بذلك فأخبر به معاوية‏.‏ فأمر حاجبه أن يرده من أقصى الأبواب وشكا ذلك إلى يزيد فركب معه فأدخله على معاوية فلما رآه قام من مجلسه ودخل إلى بيته‏.‏ فقال يزيد نقعد في انتظاره فلم يزالا حتى عدا ابن عامر فيما كان منه من القول وقال إني لا أتكثر بزياد من قلة ولا أتعزز به من ذلة ولكن ولاية زياد البصرة‏:‏ كان زياد بعد صلح معاوية واستلحاقه نزل الكوفة وكان يتشوف الإمارة عليها‏.‏ فاستثقل المغيرة ذلك منه فاستعفى معاوية من ولاية الكوفة فلم يعفه‏.‏ فيقال إنه خرج زياد إلى الشام ثم إن معاوية عزل الحارث بن عبد الله الأزدي عن البصرة وولى عليها زياداً سنة خمس وأربعين‏.‏ وجمع له خراسان وسجستان‏.‏ ثم جمع له السند والبحرين وعمان وقدم البصرة فخطب خطبته البتراء وهي معروفة‏.‏ وإنما سميت البتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد والثناء فحذرهم في خطبته ما كانوا عليه من الانهماك في الشهوات والاسترسال في الفسق والضلال وانطلاق أيدي السفهاء على الجنايات وانتهاك الحرم وهم يدنون منهم فأطال في ذلك‏.‏ عنفهم ووبخهم وعرفهم ما يجب عليهم من الطاعة من المناصحة والانقياد للأمة‏.‏ وقال لكم عندي ثلاث‏:‏ لا أحتجب عن طالب حاجة ولو طرقني ليلاً ولا أحبس العطاء عن إباية ولا أجر البعوث‏.‏ فلما فرغ من خطبته قال له عبد الله بن الأيهم أشهد أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب‏.‏ قال كذبت ذاك نبي الله داود‏.‏ ثم استعمل على شرطته عبد الله بن حصين وأمره أن يمنع الناس من الولوج بالليل‏.‏ وكان قد قال في خطبته لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه‏.‏ وكان يأمر بقراءة سورة البقرة بعد صلاة العشاء مؤخرة‏.‏ ثم يمهل بقدرما يبلغ الرجل أقصى البصرة‏.‏ ثم يخرج صاحب الشرطة فلا يجد أحداً إلا قتله وكان أول من شدد أمر السلطان وشيد الملك فجرد السيف وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة وخافه السفهاء والدعار وأمن الناس على أنفسهم ومتاعهم حتى كان الشيء يسقط من يد الإنسان فلا يتعرض له أحد حتى يأتي صاحبه فيأخذه ولا يغلق أحد بابه وأدر العطاء واستكثر من الشرط فبلغوا أربعة آلاف‏.‏ وسئل في إصلاح السابلة فقال حتى أصلح المصر‏.‏ فلما ضبطه أصلح ما وراءه وكان يستعين بعدة من الصحابة منهم عمران بن حصين ولاه قضاء البصرة فاستعفى فولى مكانه عبد الله بن فضالة الليثي ثم أخاه عاصماً ثم زرارة بن أوفى وكانت أخته عند زياد وكان يستعين بأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب‏.‏ ويقال إن زياداً أول من سير بين يديه بالحراب والعمد واتخذ الحرس رابطة فكان خمسمائة منهم لا يفارقون المسجد‏.‏ ثم قسم ولاية خراسان على أربعة فولى على مرو أمين بن أحمد اليشكري وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفي وعلى مرو الروذ والعاربات والطالقان قيس بن الهيثم‏.‏ وعلى هراة وباذغيس وبوشنج نافع بن خالد الطائي‏.‏ ثم إن نافعاً بعث إليه بجواد باهر غنمه في بعض وجوهه وكانت قوائمه منه فأخذ منها قائمة وجعل مكانها أخرى ذهباً وبعث الجواد مع غلامه زيد وكان يتولى أموره فسعى فيه عند زياد بأمر تلك القائمة فعزله وحبسه وأغرمه مائة ألف كتب عليه بها كتاباً وقيل ثمانمائة ألف‏.‏ وشفع فيه رجال من الأزد فأطلقه‏.‏ واستعمل مكانه الحكم بن عمرو الغفاري وجعل معه رجالاً على الجباية منهم أسلم بن زرعة الكلابي‏.‏ وغزا الحكم طخارستان فغنم غنائم كثيرة‏.‏ ثم سار سنة سبع وأربعين إلى جبال الغور وكانوا قد ارتدوا ففتح وغنم وسبى وعبر النهر في ولايته إلى ما وراءه‏.‏ فملأه غارة‏.‏ ولما رجع من غزاة الغور مات بمرو واستخلف على عمله أنس بن أبي إياس بن ربين فلم يرضه زياد‏.‏ وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفي بولاية خراسان ثم بعث الربيع بن زياد المحاربي في خمسين ألفاً من البصرة والكوفة‏.‏

صوائف الشام
ودخل المسلمون سنة اثنتين وأربعين إلى بلاد الروم فهزموهم وقتلوا جماعة من البطارقة وأثخنوا فيها‏.‏ ثم دخل بسر بن أرطأة أرضهم سنة ثلاث وأربعين ومشى بها وبلغ القسطنطينية‏.‏ ثم دخل عبد الرحمن بن خالد وكان على حمص فشتى بهم وغزاهم بسر تلك السنة في البحر‏.‏ ثم دخل عبد الرحمن إليها سنة ست وأربعين فشتى بها وشتى أبو عبد الرحمن السبيعي على أنطاكية‏.‏ ثم دخلوا سنة ثمان وأربعين فشتى عبد الرحمن بأنطاكية أيضاً ودخل عبد الله بن قيس الفزاري في تلك السنة بالصائفة‏.‏ وغزاهم مالك بن هبيرة اليشكري في البحر وعقبة بن عامر الجهني في البحر أيضاً بأهل مصر وأهل المدينة‏.‏ ثم دخل مالك بن هبيرة سنة تسع وأربعين فشتى بأرض الروم ودخل عبد الله بن كرز الجيلي بالصائفة وشتى يزيد بن ثم بعث معاوية سنة خمسين جيشاً كثيفاً إلى بلاد الروم مع سفيان بن عوف وندب يزيد ابنه معهم فتثاقل فتركه‏.‏ ثم بلغ الناس أن الغزاة أصابهم جوع ومرض وبلغ معاوية أن يزيد أنشد في ذلك‏:‏ ما إن أبالي بما لاقت جموعهم بالفدفد البيد من حمى ومن شوم‏.‏ إذا اتطأت على الأنماط مرتفقاً بدير مران عندي أم كلثوم‏.‏ وهي امرأته بنت عبد الله بن عامر فحلف ليلحقن بهم فسار في جمع كثير جمعهم إليه معاوية‏.‏ فيهم ابن عباس وابن عامر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري فأوغلوا في بلاد الروم وبلغوا القسطنطينية وقاتلوا الروم عليها‏.‏ فاستشهد أبو أيوب الأنصاري ودفن قريباً من سورها‏.‏ ورجع يزيد والعساكر إلى الشام ثم شتى فضالة بن عبيد بأرض الروم سنة إحدى وخمسين وغزا بسر بن أرطأة بالصائفة‏.‏

وفاة المغيرة
توفي المغيرة وهو عامل على الكوفة سنة خمسين بالطاعون وقيل سنة تسع وأربعين وقيل سنة إحدى وخمسين فولى مكانه معاوية زياداً وجمع له المصرين‏.‏ فسار زياد إليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب‏.‏ فلما وصل الكوفة خطبهم فحصبوه على المنبر فلما نزل جلس على كرسي وأحاط أصحابه بأبواب المسجد يأتونه بالناس يستحلفهم على ذلك‏.‏ ومن لم يحلف حبسه‏.‏ فبلغوا ثمانين واتخذ المقصورة من يوم حبس‏.‏ ثم بلغه عن أوفى بن حسين شيء فطلبه فهرب ثم أخذه فقتله‏.‏ وقال له عمارة بن عتبة بن أبي معيط إن عمرو بن الحمق يجتمع إليه شيعة علي فأرسل إليه زياد ونهاه عن الاجتماع عنده‏.‏ وقال لا أبيح أحداً حتى يخرج علي وأكثر سمرة بن جندب اليتامى بالبصرة‏.‏ يقال قتل ثمانية آلاف فأنكر ذلك عليه زياد اه‏.‏كان عمرو بن العاص قبل وفاته استعمل عقبة بن عامر بن عبد قيس على أفريقية وهو ابن خالته انتهى إلى لواتة ومرانة فأطاعوا ثم كفروا فغزاهم وقتل وسبى‏.‏ ثم افتتح سنة اثنتين وأربعين غذامس‏.‏ وفي السنة التي بعدها ودان وكوراً من كور السودان وأثخن في تلك النواحي وكان له فيها جهاد وفتوح‏.‏ ثم ولاه معاوية على أفريقية سنة خمسين وبعث إليه عشرة آلاف فارس فدخل أفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر فكبر جمعه ووضع السيف في أهل البلاد لأنهم كانوا إذا جاءت عساكر المسلمين أسلموا فإذا رجعوا عنهم ارتدوا‏.‏ فرأى أن يتخذ مدينة يعتصم بها العساكر من البربر فاختط القيروان وبنى بها المسجد الجامع وبنى الناس مساكنهم ومساجدهم وكان دورها ثلاثة آلاف باع وستمائة باع وكملت في خمس سنين وكان يغزو ويبعث السرايا للإغارة والنهب ودخل أكثر البربر في الإسلام‏.‏ واتسعت خطة المسلمين ورسخ ثم ولى معاوية على مصر وأفريقية مسلمة بن مخلد الأنصاري واستعمل على أفريقية مولاه أبا المهاجر فأساء عزل عقبة واستخف به فسير ابن مخلد الأنصاري عقبة إلى معاوية وشكا إليه فاعتذر له ووعده برده إلى عمله ثم ولاه يزيد سنة اثنتين وستين‏.‏ وذكر الواقدي أن عقبة ولي أفريقية سنة ست وأربعين فاختط القيروان ثم عزله يزيد سنة اثنتين وستين بأبي المهاجر‏.‏ فحينئذ قبض على عقبة وضيق عليه فكتب إليه يزيد يبعثه إليه وأعاده والياً على أفريقية فحبس أبا المهاجر إلى أن قتلهم جميعا كسلة ملك البرانس من البربر كما نذكر بعد‏.‏ كان المغيرة بن شعبة أيام إمارته على الكوفة كثيراً ما يتعرض لعلي في مجالسه وخطبه ويترحم على عثمان ويدعو له‏.‏ فكان حجر بن عدي إذا سمعه يقول‏:‏ بلاياكم قد أضل الله ولعن‏.‏ ثم يقول أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل ومن تزكون أحق بالذم‏.‏ فبعث له المغيرة يقول‏:‏ يا حجر اتق غضب السلطان وسطوته فإنها تهلك أمثالك لا يزيده على ذلك‏.‏ ولما كان آخر أمارة المغيرة قال في بعض أيامه مثل ما كان يقول فصاح به حجر ثم قال له‏:‏ مر لنا بأرزاقنا فقد حبستها منا وأصبحت مولعاً بذم المؤمنين وصاح الناس من جوانب المسجد صدق حجر فمر لنا بأرزاقنا فالذي أنت فيه لا يجدي علينا نفعاً‏.‏ فدخل المغيرة إلى بيته وعذله قومه في جراءة حجر عليه يوهن سلطانه ويسخط عليه معاوية‏.‏ فقال لا أحب أن آتي بقتل أحد من أهل المصر‏.‏ وسيأتي بعدي من يصنع معه مثل ذلك فيقتله‏.‏ ثم توفي المغيرة وولي زياد‏.‏ فلما قدم خطب الناس وترحم على عثمان ولعن قاتليه‏.‏ وقال حجر ما كان يقول فسكت عنه ورجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث وبلغه أن حجراً يجتمع إليه شيعة علي ويعلنون بلعن معاوية والبراءة منهم وأنهم حصبوا عمرو بن حريث فشخص إلى الكوفة حتى دخلها ثم خطب الناس وحجر جالس يسمع فتهدده وقال‏:‏ لست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأودعه نكالاً لمن بعده‏.‏ ثم بعث إليه فامتنع من الإجابة فبعث صاحب الشرطة شداد بن الهيثم الهلالي إليه جماعة فسبهم أصحابه‏.‏ فجمع زياد أهل الكوفة وتهددهم فتبرؤوا‏.‏ فقال ليدع كل رجل منكم عشيرته الذين عند حجر ففعلوا حتى إذا لم يبق معه إلا قومه قال زياد لصاحب الشرطة‏:‏ انطلق إليه فأت به طوعاً أو كرهاً‏.‏ فلما جاء يدعوه امتنع عن الإجابة فحمل عليهم وأشار إليه أبو العمرطة الكندي بأن يلحق بكندة فمنعوه هذا وزياد على المنبر ينتظر‏.‏ ثم غشيهم أصحاب زياد وضرب عمرو بن الحمق فسقط ودخل في دور الأزد فاختفى وخرج حجر من أبواب كندة فركب ومعه أبو العمرطة إلى دور قومه واجتمع إليه الناس ولم يأته من كندة إلا قليل‏.‏ ثم أرسل زياد وهو على المنبر مذحج وهمدان ليأتوه بحجر فلما علم أنهم قصدوه تسرب من داره إلى النخع ونزل على أخي الأشتر‏.‏ وبلغه أن الشرطة تسأل عنه في النخع‏.‏ فأتى الأزد واختفى عند ربيعة بن ناجد وأعياهم طلبه‏.‏ فدعا حجر محمد بن الأشعث أن يأخذ له أماناً من زياد حتى يبعث به إلى معاوية فجاء محمد ومعه جرير بن عبد الله وحجر بن يزيد وعبد الله بن الحارث أخو الأشتر فاستأمنوا له زياداً فأجابهم‏.‏ ثم أحضروا حجراً فحبسه وطلب أصحابه فخرج عمرو بن الحمق إلى الموصل ومعه زواعة بن شداد فاختفى في جبل هناك‏.‏ ورفع أمرهما إلى عامل الموصل وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ابن أخت معاوية ويعرف بابن أم الحكم‏.‏ فسار إليهما وهرب زواعة وقبض على عمرو وكتب إلى معاوية بذلك‏.‏ فكتب إليه أنه طعن عثمان سبعاً بمشاقص كانت معه فأطعنه كذلك فمات في الأولى والثانية‏.‏ ثم جد زياد في طلب أصحاب حجر وأتي بقبيصة بن ضبيعة العبسي بأمان فحبسه‏.‏ وجاء قيس بن عباد الشبلي برجل من قومه من أصحاب حجر فأحضره زياد وسأله عن علي فأثنى عليه فضربه وحبسه‏.‏ وعاش قيس بن عباد حتى قاتل مع ابن الأشعث‏.‏ ثم دخل بيته في الكوفة وسعى به إلى الحجاج فقتله‏.‏ ثم أرسل زياداً إلى عبد الله بن خليفة الطائي من أصحاب حجر فتوارى وجاء الشرط فأخذوه‏.‏ ونادت أخته الفرار بقومه فخلصوه فأخذ زياد عدي بن حاتم وهو في المسجد وقال‏:‏ ائتني بعبد الله وخبره جهرةً فقال آتيك بابن عمي تقتله والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه فحبسه فنكر ذلك الناس وكلموه وقالوا تفعل هذا بصاحب رسول الله وكبير طيىء قال‏:‏ أخرجه على أن يخرج ابن عمه عني فأطلقه وأمر عدي عبد الله أن يلحق بجبل طيىء فلم يزل هنالك حتى مات‏.‏ وأتي زياد بكريم بن عفيف الخثعمي من أصحاب حجر وغيره‏.‏ ولما جمع منهم اثني عشر في السجن دعا رؤوس الأرباع يومئذ وهم عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة وأبو بردة بن أبي موسى على ربع مذحج وأسد‏.‏ فشهدوا كلهم أن حجراً جمع الجموع وأظهر شتم معاوية ودعا إلى حربه‏.‏ وزعم أن الأمر لا يصلح إلا في الطالبيين‏.‏ ووثب بالمصر وأخرج العامل وأظهر غدر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه وأهل حربه وأن النفر الذين معه وهم رؤوس أصحابه على مقدم رأيه‏.‏ ثم استكثر زياد من الشهود فشهد إسحق وموسى ابنا طلحة والمنذر بن الزبير عمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمر بن سعد بن أبي وقاص وغيرهم‏.‏ وفي الشهود شريح بن الحارث وشريح بن هانىء‏.‏ ثم استدعى زياد وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب ودفع إليهما حجر بن عدي وأصحابه وهم‏:‏ الأرقم بن عبد الله الكندي شريك بن شداد الحضرمي وصيفي بن فضيل الشيباني وقبيصة بن ضبيعة العبسي وكريم بن عفيف الخثعمي وعاصم بن عوف البجلي وورقاء بن سمي البجلي وكرام بن حبان العنزي وعبد الرحمن بن حسان العنزي ومحرز بن شهاب التميمي عبد الله بن حوية السعدي‏.‏ ثم اتبع هؤلاء الإحدى عشر بعتبة بن الأخنس من سعد بن بكر وسعد بن غوات الهمداني وأمرهما أن يسيرا إلى معاوية‏.‏ ثم لحقهما شريح بن هانىء ودفع كتابه إلى معاوية بن وائل‏.‏ ولما انتهوا إلى مرج غدراء قريب دمشق تقدم ابن وائل وكثير إلى معاوية فقرأ كتاب شريح وفيه‏:‏ بلغني أن زياداً كتب شهادتي وأني أشهد على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حرام الدم والمال فإن شئت فاقبله أو فدعه‏.‏ فقال معاوية ما أرى هذا إلا أخرج نفسه من شهادتكم وحبس القوم بمرج غدراء حتى لحقهم عتبة بن الأخنس وسعد بن غوات اللذين ألحقهما زياد بهما‏.‏ وجاء عامر بن الأسود العجيلي إلى معاوية فأخبره بوصولهما فاستوهب يزيد بن أسد البجلي عاصماً وورقاء ابني عمه‏.‏ وقد كتب يزيد يزكيهما ويشهد ببراءتهما فأطلقهما معاوية‏.‏ وشفع وائل بن حجر في الأرقم وأبو الأعور السلمي في ابن الأخنس وحبيب بن سلمة في أخويه فتركهم‏.‏ وسأله مالك بن هبيرة السكوني في حجر فرده‏.‏ فغضب وحبس في بيته‏.‏ وبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي والحسين بن عبد الله الكلابي وأبا شريف البدري إلى حجر وأصحابه ليقتلوا منهم من أمرهم بقتله فأتوهم وعرض عليهم البراءة من علي فأبوا وصلوا عامة ليلتهم‏.‏ ثم قدموا من الغد للقتل‏.‏ وتوضأ حجر وصلى وقال‏:‏ لولا أن يظنوا بي الجزع من الموت لاستكثرت منها‏.‏ اللهم إنا نستعديك على أمشاء أهل الكوفة يشهدون علينا وأهل الشام يقتلوننا‏.‏ ثم مشى إليه هدبة بن فياض بالسيف فارتعد‏.‏ فقالوا كيف وأنت زعمت أنك لا تجزع من الموت فابرأ من صاحبك وندعك‏.‏ فقال وما لي لا أجزع وأنا بين القبر والكفن والسيف‏.‏وإن جزعت من الموت لا أقول ما يسخط الرب فقتلوه وقتلوا ستة معه وهم‏:‏ شريك بن شداد وصيفي بن فضيل وقبيصة بن حنيفة ومحرز بن شهاب وكرام بن حبان ودفنوهم وصلوا عليهم بعبد الرحمن بن حسان العنزي وجيء بكريم بن الخثعمي إلى معاوية فطلب منه البراءة من علي فسكت واستوهبه سمرة بن عبد الله الخثعمي من معاوية فوهبه له على أن لا يدخل الكوفة فنزل إلى الموصل‏.‏ ثم سأل عبد الرحمن بن حسان عن علي فأثنى خيراً‏.‏ ثم عن عثمان فقال‏:‏ أول من فتح باب الظلم وأغلق باب الحق‏.‏ فرده إلى زياد ليقتله شر قتلة فدفنه حياً وهو سابع القوم‏.‏ وأما مالك بن هبيرة السكوني فلما لم يشفعه معاوية في حجر جمع قومه وسار ليخلصه وأصحابه فلقي القتلة وسألهم فقالوا‏:‏ مات القوم‏.‏ وسار إلى عدي فتيقن قتلهم فأرسل في أثر القتلة فلم يدركوهم وأخبروا معاوية فقال‏:‏ تلك حرارة يجدها في نفسه وكأني بها قد طفئت‏.‏ ثم أرسل إليه بمائة ألف وقال‏:‏ خفت أن يعيد القوم حرباً فيكون على المسلمين أعظم من قتل حجر فطابت نفسه‏.‏ ولما بلغ عائشة خبر حجر وأصحابه أرسلت عبد الرحمن بن الحارث إلى معاوية يشفع فيهم فجاء وقد قتلوا‏.‏ فقال لمعاوية أين غاب عنك حلم أبي سفيان‏.‏ فقال حيث غاب علي مثلك من حلماء قومي وحملني ابن سمية فاحتملت‏.‏ وأسفت عائشة لقتل حجر وكانت تثني عليه‏.‏ وقيل في سياقة الحديث غير ذلك‏.‏ وهو أن زياداً أطال الخطبة في يوم جمعة فتأخرت الصلاة فأنكر حجر ونادى بالصلاة فلم يلتفت إليه‏.‏ وخشي فوت الصلاة فحصبه بكف من الحصباء وقام إلى الصلاة فقام الناس معه فخافهم زياد ونزل فصلى‏.‏ وكتب إلى معاوية وعظم عليه الأمر فكتب إليه أن يبعث به موثقا في الحديد‏.‏ وبعث من يقبض عليه فكان ما مر‏.‏ ثم قبض عليه وحمله إلى معاوية فلما رآه معاوية أمر بقتله فصلى ركعتين وأوصى من حضره من قومه لا تفكوا عني قيداً ولا تغسلوا دماً فإني لاق معاوية غداً على الجادة وقتل اه‏.‏وقالت عائشة لمعاوية أين حلمك عن حجر قال‏:‏ لم يحضرني رشيد اه‏.‏ وكان زياد قد ولى الربيع بين زياد الحارثي على خراسان سنة إحدى وخمسين بعد أن هلك حسن بن عمر الغفاري وبعث معه من جند الكوفة والبصرة خمسين ألفاً فيهم بريدة بن الحصيب وأبو برزة الأسلمي من الصحابة وغزا بلخ ففتحها صلحاً وكانوا انتقضوا بعد صلح الأحمق بن قيس‏.‏ ثم فتح قهستان عنوة واستلحم من كان بناحيتها من الترك ولم يفلت منهم إلا قيزل طرخان‏.‏ وقتله قتيبة بن مسلم في ولايته‏.‏ فلما بلغ الربيع بن زياد بخراسان قتل حجر سخط لذلك وقال‏:‏ لا تزال العرب تقتل بعده صبراً‏.‏ ولو نكروا منعوا أنفسهم من ذلك لكنهم أقروا فذلوا‏.‏ ثم دعا بعد صلاة جمعة لأيام من خبره وقال للناس إني قد مللت الحياة وإني داع فأمنوا ثم رفع يديه وقال‏:‏ اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلاً وأمن الناس س‏.‏ ثم خرج فما تواترت ثيابه حتى سقط فحمل إلى بيته واستخلف ابنه عبد الله ومات من يومه‏.‏ ثم مات ابنه بعد شهرين واستخلف خليد بن عبد الله الحنفي وأقره زياد‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:14 PM

وفاة زياد
ثم مات زياد في رمضان سنة ثلاث وخمسين بطاعون أصابه في يمينه يقال بدعوة ابن عمر وذلك أن زياداً كتب إلى معاوية أني ضبطت العراق بشمالي ويميني فارغة فأشغلها بالحجاز فكتب له عهده بذلك وخاف أهل الحجاز وأتوا عبد الله بن عمر يدعو لهم الله أن يكفيهم ذلك‏.‏ فاستقبل القبلة ودعا معهم وكان من دعائه اللهم اكفناه ثم كان الطاعون فأصيب في يمينه فأشير عليه بقطعها فاستدعى شريحاً القاضي فاستشاره فقال إن يكن الأجل فرغ فتلقى الله أجذم كراهية في لقائه وإلا فتعيش أقطع ويعير ولدك‏.‏ فقال لا أبيت والطاعون في لحاف واحد واعتزم على قطعها‏.‏ فلما نظر إلى النار والمكاوي جزع وتركه وقيل تركه لإشارة شريح‏.‏ وعذل د شريحاً في ذلك فقال المستشار مؤتمن‏.‏ ولما حضرته الوفاة قال له ابنه قد هيأت لكفنك ستين ثوباً‏.‏ فقال يا بني قد دنا لأبيك لباس خير من لباسه‏.‏ ثم مات ودفن بالتوسة قرب الكوفة وكان يلبس القميص ويرقعه‏.‏ ولما مات استخلف على الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد وكان خليفته على البصرة عبد الله بن عمر بن غيلان وعزل بعد ذلك عبد الله بن خالد عن الكوفة وولى عليها الضحاك بن قيس‏.‏ ولاية عبد الله بن زياد على خراسان ثم على البصرة ولما قدم ابنه عبيد الله على معاوية وهو ابن خمس وعشرين سنة قال‏:‏ من استعمل أبوك على المصرين فأخبره فقال‏:‏ لو استعملك لاستعملتك‏.‏ فقال عبيد الله‏:‏ أنشدك الله أن يقول لي أحد بعدك لو استعملك أبوك وعمك استعملتك‏.‏ فولاه خراسان ووصاه فكان من وصيته‏:‏ اتق الله ولا تؤثرن على تقواه شيئاً فإن في تقواه عوضاً وق عرضك من أن تدنسه وإن أعطيت عهداً فأوف به ولا تتبعن كثيراً بقليل ولا يخرجن منك أمر حتى تبرمه فإذا خرج فلا يردن عليك‏.‏ وإذا لقيت عدوك فكبر أكبر من معك وقاسمهم على كتاب الله ولا تطعمن أحداً في غير حقه ولا تؤيسن أحداً من حق هو له‏.‏ ثم ودعه فسار إلى خراسان أول سنة أربع وخمسين وقدم إليها أسلم بن زرعة الكلابي ثم قدم فقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل ففتح رامين ونسف وسكند‏.‏ ولقيه الترك فهزمهم وكان مع ملكهم امرأته خاتون فأعجلوها عن لبس خفيها فأصاب المسلمون أحدهما وقوم بمائتي ألف درهم‏.‏ وكان عبيد الله ذلك اليوم يحمل عليهم وهو يطعن حتى يغيب عن أصحابه ثم يرفع رايته تقطر دماً‏.‏ وكان هذا الزحف من زحوف خراسان المعدودة وكانت أربعة منها للأحنف بن قيس بقهستان والمرعات‏.‏ وزحف لعبد الله بن حازم قضى فيه جموع فاران‏.‏وأقام عبيد الله والياً على خراسان سنتين وولاه معاوية سنة خمس وخمسين على البصرة‏.‏ وذلك أن ابن غيلان خطب وهو أمير على البصرة‏.‏ فحصبه رجل من بني ضبة فقطع يده فأتاه بنو ضبة يسألونه الكتاب إلى معاوية بالاعتذار عنه وأنه قطع على أمر لم يصح مخافة أن يعاقبهم معاوية جميعاً‏.‏ فكتب لهم وسار ابن غيلان إلى معاوية رأس السنة وأوفاه الضبيون بالكتاب فادعوا أن ابن غيلان قطع صاحبهم ظلماً‏.‏ فلما قرأ معاوية الكتاب قال‏:‏ أما القود من عمالي فلا سبيل إليه ولكن أدي صاحبكم من بيت المال‏.‏ وعزل عبد الله بن غيلان عن البصرة واستعمل عليها عبيد الله بن زياد فسار إليها عبيد الله وولى على خراسان أسلم بن زرعة الكلابي فلم يغز ولم يفتح‏.‏

العهد ليزيد
ذكر الطبري بسنده قال‏:‏ قدم المغيرة على معاوية فشكا إليه الضعف فاستعفاه فأعفاه وأراد أن يولي سعيد بن العاص‏.‏ وقال أصحاب المغيرة للمغيرة‏:‏ إن معاوية قلاك فقال لهم رويداً ونهض إلى يزيد وعرض له بالبيعة‏.‏ وقال ذهب أعيان الصحابة وكبراء قريش ورادوا أسنانهم وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأياً وسياسة وما أدري ما يمنع أمير المؤمنين من العهد لك‏.‏ فأدى ذلك يزيد إلى أبيه واستدعاه وفاوضه في ذلك‏.‏ فقال قد رأيت ما كان من الاختلاف وسفك الدماء بعد عثمان وفي يزيد منك خلف فاعهد له يكون كهفاً للناس بعدك فلا تكون فتنة ولا يسفك دم‏.‏ وأنا أكفيك الكوفة ويكفيك ابن زياد البصرة‏.‏ فرد معاوية المغيرة إلى الكوفة وأمره أن يعمل في بيعة‏.‏ يزيد فقدم الكوفة وذاكر من يرجع إليه من شيعة بني أمية فأجابوه وأوفد منهم جماعة مع ابنه موسى فدعاه إلى عقد البيعة ليزيد‏.‏ فقال‏:‏ أو قد رضيتموه قالوا‏:‏ نعم نحن ومن وراءنا‏.‏ فقال ننظر ما قدمتم له يقضي الله أمره والأناة خير من العجلة ثم كتب إلى زياد يستنيره بفكر‏.‏وكف عن هدم دار سعيد‏.‏ وكتب سعيد إلى معاوية يعذله في إدخال الضغينة بين قرابته ويقول لو لم نكن بني أب واحد لكانت قرابتنا ما جمعنا الله عليه من نصرة الخليفة المظلوم يجب عليك أن تدعي ذلك فاعتذر له معاوية وتنصل‏.‏ وقدم سعيد عليه وسأله عن مروان فأثنى خيراً فلما كان سنة سبع وخمسين عزل مروان وولى مكانه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وقيل سنة ثمان وخمسين‏.‏ عزل الضحاك عن الكوفة وولاية‏.‏ ابن أم الحكم ثم النعمان في بشير عزل معاوية الضحاك عن الكوفة سنة ثمان وخمسين وولى مكانه عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي وهو ابن أم الحكم أخت معاوية فخرجت عليه الخوارج اللذين كان المغيرة حبسهم في بيعة المستورد بن علقمة وخرجوا من سجنه بعد موته‏.‏فاجتمعوا على حيان بن ظبيان السلمي ومعاذ بن جرير الطائي فسير إليهم عبد الرحمن الجيش من الكوفة فقتلوا أجمعين كما يذكر في أخبار الخوارج‏.‏ ثم إن أهل الكوفة نقلوا عبد الرحمن سوء سيرته فعزله معاوية عنهم‏.‏ وولى مكانه النعمان بن بشير‏.‏ وقال‏:‏ أوليك خيراً من الكوفة فولاه مصر وكان عليها معاوية بن خديج السكوني وسار إلى مصر فاستقبله معاوية على مرحلتين منها وقال ارجع إلى حالك لا تسر فينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة فرجع إلى معاوية وأقام معاوية بن خديج في عمله‏.‏

ولاية عبد الرحمن بن زياد خراسان
وفي سنة تسع وخمسين قدم عبد الرحمن بن زياد وافداً على معاوية فقال يا أمير المؤمنين أما لنا حق‏.‏ قال‏:‏ بلى فماذا قال توليني قال بالكوفة النعمان بن بشير من أصحاب رسول الله بالبصرة وخراسان عبيد الله أخوك وبسجستان عباد أخوك‏.‏ ولا أرى ما بشبهك إلا أن أشركك في عمل عبيد الله فإن عمله واسع يحتمل الشركة‏.‏ فولاه خراسان فسار إليها وقدم بين يديه قيس بن الهيثم السلمي فأخذ أسلم بن زرعة وحبسه‏.‏ ثم قدم عبد الرحمن فأغرمه ثلاثمائة ألف درهم‏.‏ وأقام بخراسان وكان متضعفاً لم يقر قط‏.‏ وقدم على يزيد بين يدي قتل الحسين فاستخلف على خراسان قيس بن الهيثم‏.‏ فقال له يزيد‏:‏ كم معك من مال خراسان قال عشرون ألف ألف درهم‏.‏ فخيره بين أخذها بالحساب ورده إلى عمله أو تسويغه إياها وعزله على أن يعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم فاختار تسويغها والعزل‏.‏ وبعث إلى ابن جعفر بألف ألف وقال نصفها من يزيد ونصفها مني‏.‏ ثم إن أهل البصرة وفدوا مع عبيد الله بن زياد على معاوية فأذن له على منازلهم ودخل الأحنف آخرهم وكان هيأ المنزلة من عبيد الله فرحب به معاوية وأجلسه معه على سريره ثم تكلم القوم وأثنوا على عبيد الله وسكت الأحنف فقال معاوية‏:‏ تكلم يا أبا بحر فقال أخشى خلاف القوم فقال انهضوا فقد عزلت عنكم عبيد الله واطلبوا والياً ترضونه فطفق القوم يختلفون إلى رجال بني أمية وأشراف الشام وقعد الأحنف فني منزله ثم أحضرهم معاوية وقال من اخترتم فسمى كل فريق رجلاً والأحنف ساكت‏.‏ فقال معاوية تكلم يا أبا بحر فقال‏:‏ إن وليت علينا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحداً وإن وليت من غيرهم ينظر في ذلك‏.‏ قال فإني قد أعدته عليكم ثم أوصاه بالأحنف وقبح رأيه في مباعدته‏.‏ ولما هاجت الفتنة لم يعزله غير الأحنف ثم أخذ على وفد البصرة البيعة لابنه يزيد معهم‏.‏

بقية الصوائف
دخل بسر بن أرطاة سنة اثنتين وخمسين أرض الروم وشتى بها وقيل رجع ونزل هناك سفيان بن عوف الأزدي فشتى بها وتوفي هنالك اه‏.‏ وغزا بالصائفة محمد بن عبد الله الثقفي ثم دخل عبد الرحمن بن أم الحكم سنة ثلاث وخمسين إلى أرض الروم وشتى بها وافتتحت في هذه السنة رودس فتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي ونزلها المسلمون على حذر من الروم ثم كانوا يعترضونه في البحر ويأخذون سفنه وكان معاوية يدركهم بالعطاء حتى خافهم الروم ثم نقلهم يزيد في ولايته‏.‏ ثم دخل سنة أربع وخمسين إلى بلاد الروم محمد بن مالك وشتى بها وغزا بالصائفة ابن يزيد السلمي وفتح المسلمون جزيرة أروى القسطنطينية ومقدمهم جنادة بن أبي أمية فملكوها سبع سنين ونقلهم يزيد في ولايته‏.‏ وفي سنة خمس وخمسين كان شتى سفيان بن عوف بأرض الروم وقيل عمر بن محرز وقيل عبد الله بن قيس وفي سنة ست وخمسين كان شتى جنادة بن أبي أمية وقيل عبد الرحمن بن مسعود وقيل غزا في البحر يزيد بن سمرة‏.‏ وفي البر عياض بن الحارث‏.‏ وفي سنة سبع خمسين كان شتى عبد الله بن قيس بأرض الروم‏.‏ وغزا مالك بن عبد الله الخثعمي في البر وعمر بن يزيد الجهني في البحر‏.‏ وفي سنة ثمان وخمسين كان شتي عمر بن مرة الجهني بأرض الروم وغزا في البحر جنادة بن أمية‏.‏ وفتح المسلمون في هذه السنة حصن كفخ من بلاد الروم وعليهم عمير بن الحباب السلمي صعد سورها وقاتل عليه وحده حتى انكشف الروم وفتحه وفي‏.‏ سنة ستين غزا مالك بن وفاة معاوية‏:‏ وتوفي معاوية سنة ستين وكان خطب الناس قبل موته وقال‏:‏ إني كزرع مستحصد وقد طالت إمارتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه كما أن من كان قبلي خير مني‏.‏ وقد قيل من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه‏.‏ اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي وبارك لي‏.‏ فلم يمض إلا قليل حتى ازداد به مرضه فدعا ابنه يزيد وقال‏:‏ يا بني إني قد كفيتك الرحلة والترحال ووطأت لك الأمور وأخضعت لك رقاب العرب‏.‏ وجمعت لك معه أحد‏.‏ وإني لا أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر الذي انتسب لك إلا أربعة نفر قريش‏:‏ الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير عبد الرحمن بن أبي بكر‏.‏ فأما ابن عمر فرجل قد وقذته العبادة إذا لم يبق غيره بايعك‏.‏ وأما الحسين فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه فإن له رحماً ما مثله وحقاً عظيماً‏.‏ وأما ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله وليس له همة إلا في النساء‏.‏ وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب وإذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير‏.‏ فإن هو فعلها بك وقدرت عليه فقطعه إرباً إرباً‏.‏ هذا حديث الطبري عن هاشم وله عن هاشم من طريق آخر قال‏:‏ لما حضرت وفاة معاوية سنة ستين كان يزيد غائباً فدعا بالضحاك بن قيس الفهري وكان صاحب شرطته ومسلم بن عتبة المزني فقال‏:‏ أبلغا يزيد وصيتي انظر أهل الحجاز فإنهم أهلك فأكرم من قدم إليك منهم وتعاهد من غاب‏.‏ وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل فإن عزل عامل أخف من أن يشهر عليك مائة ألف سيف‏.‏ وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك وإن رابك شيء من عدوك فانتصر بهم فإذا أصبتم فاردد أهل الشام إلى بلادهم فإنهم إن قاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم‏.‏ ولست أخاف عليك من قريش إلا ثلاثاً ولم يذكر في هذا الطريق عبد الرحمن بن أبي بكر‏.‏ وقال في ابن عمر قد وقذه الدين فليس ملتمساً شيئاً قبلك‏.‏ وقال في الحسين ولو أني صاحبه عفوت عنه وأنا أرجو أن يكفيك الله بمن قتل أباه وخذل أخاه‏.‏ وقال في ابن الزبير إذا شخص إليك فالبد له إلا أن يلتمس منك صلحاً فاقبل واحقن دماء قومك ما استطعت‏.‏ وتوفي في منتصف رجب ويقال في جمادى لتسع عشرة سنة وأشهر من ولايته وكان على خاتمه عبد الله بن محصن الحميري وهو أول من اتخذ ديوان الخاتم وكان سببه أنه أمر لعمر بن الزبير بمائة ألف درهم وكتب له بذلك إلى زياد بالعراق ففض عمر الكتاب وصير المائة مائتين فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية وأخذ عمر بردها وحبسه فأداها عنه أخوه عبد الله‏.‏ فأحدث عند ذلك ديوان الخاتم وحزم الكتب ولم تكن تحزم‏.‏ وكان على شرطته قيس بن همزة الهمداني فعزله ابن بيد بن عمر العدوي وكان على حرسه المختار من مواليه‏.‏ وقيل أبو المحاري مالك مولى حميرة وهو أول من اتخذ الحرس‏.‏ وعلى حجابه مولاه سعد وكان كاتبه وصاحب أمره سرجون بن منصور الرومي وعلى القضاء فضالة بن عبد الله الأنصاري وبعده أبو دويس عائد بن عبد الله الخولاني‏.‏

بيعة يزيد
بويع يزيد بعد موت أبيه وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وعلى مكة عمرو بن سعيد بن العاص وعلى البصرة عبيد الله بن زياد وعلى الكوفة النعمان بن بشير ولم يكن همه إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته فكتب إلى الوليد بموت معاوية وأن يأخذ حسيناً وابن عمر وابن الزبير بالبيعة من غير رخصة‏.‏ فلما قرأ مروان الكتاب بنعي معاوية استرجع وترحم واستشاره الوليد في أمر أولئك النفر فأشار عليه أن يحضرهم لوقته فإن بايعوا وإلا قتلتهم قبل أن يعلموا بموت معاوية فيثب كل رجل في ناحية إلا ابن عمر فإنه لا يحب القتال ولا يحب الولاية إلا أن يرفع إليه الأمر فبعث الوليد لوقته عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث فجاء إلى الحسين وابن الزبير في المسجد في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس‏.‏ وقال وجمع الحسين فتيانه وأهل بيته وسار إليهم فأجلسهم بالباب وقال إن دعوتكم أو سمعتم صوتي عالياً فادخلوا بأجمعكم‏.‏ ثم دخل فسلم ومروان عنده فشكرهما على الصلة بعد القطيعة ودعا لهما بإصلاح ذات البين‏.‏ فأقرأه الوليد الكتاب بنعي معاوية ودعاه إلى البيعة فاسترجع وترحم وقال‏:‏ مثلي لا يبايع سراً ولا يكتفي بها مني فإذا ظهرت إلى الناس ودعوتهم كان أمرنا واحداً وكنت أول مجيب‏.‏ فقال الوليد‏:‏ وكان يحب المسالمة انصرف‏.‏ فقال مروان‏:‏ لا يقدر منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينك وبينهم ألزمه البيعة وإلا اضرب عنقه‏.‏ فوثب الحسين وقال‏:‏ أنت تقتلني أو هو كذبت والله وانصرف إلى منزله‏.‏ وأخذ مروان في عذل الوليد‏.‏ فقال يا مروان والله ما أحب أن لي ما طلعت الشمس من مال الدنيا وملكها وأني قتلت الحسين أن قال لا أبايع‏.‏ وأما ابن الزبير فاختفى في داره وجمع أصحابه وألح الوليد في طلبه وبعث مواليه فشتموه وهددوه وأقاموا ببابه في طلبه فبعث ابن الزبير أخاه جعفراً يلاطف الوليد ويشكو ما أصابه من الذعر ويعده بالحضور من الغداة وأن يصرف رسله من بابه فبعث إليهم وانصرفوا وخرج ابن الزبير من ليلته مع أخيه جعفر وحدهما وأخذا طريق الفرع إلى مكة فسرح الرحالة في طلبه فلم يدركوه ورجعوا وتشاغلوا بذلك عن الحسين سائر يومه‏.‏ ثم أرسل إلى الحسين يدعوه فقال‏:‏ وسار في الليلة الثانية ببنيه وإخوته وبني أخيه إلا محمد بن الحنفية وكان قد نصحه وقال تنح عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت وابعث دعاتك إلى الناس فإن أجابوك فاحمد الله وإن اجتمعوا على غيرك فلم يضر بذلك دينك ولا عقلك ولم تذهب به مروءتك ولا فضلك‏.‏ وأنا أخاف أن تأتي مصراً أو قوماً فيختلفون عليك فتكون الأول إساءة فإذاً خير الأمة نفساً وأباً أضيعها ذماراً وأذلها‏.‏ قال له الحسين‏:‏ فإني ذاهب‏.‏ قال انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك وإن فاتت بك لحقت بالرمال وشعب الجبال ومن بلد إلى آخر حتى ننظر مصير أمر الناس وتعرف الرأي‏.‏ فقال يا أخي نصحت وأشفقت ولحق بمكة‏.‏ وبعث الوليد إلى ابن عمر ليبايع فقال‏:‏ أنا أبايع أمام الناس وقيل ابن عمر وابن عباس كانا بمكة ورجعا إلى المدينة فلقيا الحسين وابن الزبير وأخبراهما بموت معاوية وبيعة يزيد‏.‏ فقال ابن عمر‏:‏ لا تفرقا جماعة المسلمين وقم هو وابن عباس المدينة وبايعا عنه بيعة الناس‏.‏ ولما دخل ابن الزبير مكة وعليها عمرو بن سعيد قال‏:‏ أنا عائذ بالبيت ولم يكن يصلي ولا يقف معهم ويقف هو وأصحابه ناحية‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:15 PM

عزل الوليد عن المدينة وولاية عمرو بن سعيد
ولما بلغ الخبر إلى يزيد بصنيع الوليد بن عتبة في أمر هؤلاء النفر عزله عن المدينة واستعمل عليها عمرو بن سعيد الأشدق فقدمها في رمضان واستعمل على شرطته عمر بن الزبير بالمدينة لما كان بينه وبين أخيه من البغضاء وأحضر نفراً من شيعة الزبير بالمدينة فضربهم من الأربعين إلى الخمسين إلى الستين منهم المنذر بن الزبير وابنه محمد وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم‏.‏ ثم جهز البعوث إلى مكة سبعمائة أو نحوها‏.‏ وقال لعمر بن الزبير‏:‏ من نبعث إلى أخيك‏:‏ فقال لا تجد رجلاً أنكى له مني فجهز معه سبعمائة مقاتل فيهم أنس بن عمير الأسلمي‏.‏ وعذله مروان بن الحكم في غزو مكة وقال له‏:‏ اتق الله ولا تحل حرمة البيت‏.‏ فقال‏:‏ والله لنغزونه في جوف الكعبة‏.‏ وجاء أبو شريح الخزاعي إلى عمرو بن سعيد فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إنما أذن لي بالقتال فيها ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس ‏"‏‏.‏ فقال له عمرو‏:‏ نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ وقيل‏:‏ إن يزيد كتب إلى عمرو بن سعيد أن يبعث عمر بن الزبير بالجيش إلى أخيه فبعثه في ألفي مقاتل وعلى مقدمته أنيس‏.‏ فنزل أنيس بذي طوى ونزل عمر بالأبطح وبعث إلى أخيه أن بريمين يزيد فإنه حلف أن لا يقبل بيعة إلا أن يؤتى بك في جامعه فلا يضرب الناس بعضهم بعضاً فإنك في بلد حرام‏.‏ فأرسل عبد الله بن الزبير من اجتمع له من أهل مكة مع عبد الله بن صفوان فهزموا أنيساً بذي طوى وقتل أنيس في الهزيمة وتخلف عن عمر بن الزبير أصحابه فدخل دار ابن علقمة وأجاره عبدة بن الزبير‏.‏ وقال لأخيه قد أجرته فأنكر ذلك عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن صفوان قال لعبد الله بن الزبير اكفني أخاك وأنا أكفيك أنيس بن عمر وسار إلى أنيس فهزمه‏.‏ وقتله وسار مصعب بن عبد الرحمن إلى عمر فتفرق عنه أصحابه وأجاره أخوه عبدة يجز أخوه عبد الله جواره وضربه بكل من ضربه بالمدينة وحبسه بسجن عارم ومات تحت السياط‏.‏ مسير الحسين إلى الكوفة ومقتله ولما خرج الحسين إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع وسأله أين تريد فقال مكة وأستخير الله فيما بعد فنصحه أن لا يقرب الكوفة وذكره قتلهم أباه وخذلانهم أخاه وأن يقيم بمكة لا يفارق الحرم حتى يتداعى إليه الناس‏.‏ ورجع عنه وترك الحسين بمكة فأقام والناس يختلفون إليه وابن الزبير في جانب الكعبة يصلي ويطوف عامة النهار ويأتي الحسين فيمن يأتي ويعلم أن أهل الحجاز لا يلقون إليه مع الحسين‏.‏ ولما بلغ أهل الكوفة بيعة يزيد ولحاق الحسين بمكة اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد وكتبوا إليه عن نفر منهم سليمان والمسيب بن محمد ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وغيرهم يستدعونه وأنهم لم يبايعوا للنعمان ولا يجتمعون معه في جمعة ولا عيد ولو جئتنا أخرجناه‏.‏ وبعثوا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال‏.‏ ثم كتبوا إليه ثانياً بعد ليلتين نحو مائة وخمسين صحيفة ثم ثالثاً يستحثونه للحاق بهم‏.‏ كتب له بذلك شيث بن ربعي وحجاز بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمر بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي‏.‏ فأجابهم الحسين‏:‏ فهمت ما قصصتم وقد بعثت إليكم ابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل يكتب إلي بأمركم ورأيكم فإن اجتمع ملؤكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم عليكم قريبًا‏.‏ ولعمري ما الإمام إلى العامل بالكتاب القائم بالقسط يدين بدين الحق‏.‏ وسار مسلم فدخل المدينة وصلى في المسجد وودع أهله واستأجر دليلين من قيس فضلا الطريق وعطش القوم فمات الدليلان بعد أن أشارا إليهم بموضع الماء فانتهوا إليه وشربوا ونجوا‏.‏ فتطير مسلم من ذلك وكتب إلى الحسين يستعفيه‏.‏ فكتب إليه‏:‏ خشيت أن لا يكون حملك على ذلك إلا الجبن فامض لوجهك والسلام وسار مسلم فدخل الكوفة أول ذي الحجة من سنة ستين واختلف إليه الشيعة وقرأ عليهم كتاب الحسين فبكوا ووعدوه النصر‏.‏ وعلم مكانه النعمان بن بشير أمير الكوفة وكان حليماً يجنح إلى المسالمة فخطب وحذر الناس الفتنة‏.‏ وقال‏:‏ لا أقاتل من لا يقاتلني ولا آخذ بالظنة والتهمة ولكن إن نكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم فو الله لأضربنكم بسيفي ما دام قائمته بيدي ولو لم يكن لي ناصر‏.‏ فقال له بعض حلفاء بني أمية‏:‏ لا يصلح ما ترى إلا الغشم وهذا الذي أنت عليه مع عدوك رأي المستضعفين‏.‏ فقال‏:‏ أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله ثم تركه‏.‏ فكتب عبد الله بن مسلم وعمارة بن الوليد وعمارة بن سعد بن أبي وقاص إلى يزيد بالخبر وتضعف النعمان وضعفه فابعث إلى الكوفة رجلاً قوياً ينفذ أمرك ويعمل عملك في عدوك فأشار عليه سرجون مسيرة المختار إلي الكوفة وأخذها من ابن المطيع بعد وقعة كربلاء مضى إبراهيم إلى المختار وأخبره الخبر وبعثوا في الشيعة ونادوا بثأر الحسين ومضى إبراهيم إلى النخع فاستركبهم وسار بهم في المدينة ليلاً وهو يتجنب المواضع التي فيها الأمراء‏.‏ ثم لقي بعضهم فهزمهم ثم آخرين كذلك ثم رجع إلى المختار فوجد شبث بن ربعي وحجاز بن أبجر العجلي يقاتلانه فهزمهما وحاشب بن المطيع فأشار إليه بجمع الناس والنهوض إلى القوم قبل‏.‏ فولى أمرهم فركب واجتمع الناس وتوافى إلى المختار نحو أربعة آلاف من الشيعة وبعث ابن مطيع شبث بن ربعي في ثلاثة آلاف وربع بن إياس في أربعة آلاف‏.‏ فسرح إليهم المختار إبراهيم بن الأشتر لراشد في ستمائة فارس وستمائة راجل ونعيم بن هبيرة لشبث في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل واقتتلوا من بعد صلاة الصبح‏.‏ وقتل نعيم فوهن المختار لقتله وظهر شبث وأصحابه عليهم‏.‏ وقاتل إبراهيم بن الأشتر راشد بن إياس فقتله وانهزم أصحابه وركبهم الفشل‏.‏ وبعث ابن المطيع جيشاً كثيفاً فهزمهم ثم حمل على شبث فهزمه وبعث المختار فمنعه الرماة من دخول الكوفة‏.‏ ورجع المنهزمون إلى ابن مطيع فدهش فشجعه عمر بن الحجاج الزبيدي وقال له اخرج واندب الناس ففعل‏.‏ وقام في الناس ووبخهم على هزيمتهم وندبهم‏.‏ ثم بعث عمر بن الحجاج في ألفين وشمر بن ذي الجوشن في ألفين ونوفل بن مساحق في خمسة آلاف‏.‏ ووقف هو بكتائبه‏.‏ واختلف على القصر شبث بن ربعي فحمل ابن الأشتر على ابن مساحق فهزمه وأسره ثم من عليه‏.‏ ودخل ابن مطيع القصر وحاصره إبراهيم بن الأشتر ثلاثاً ومعه زيد بن أنس وأحمد بن شميط ولما اشتد الحصار على ابن مطيع أشار عليه شيث بن ربعي بأن يستأمن للمختار ويلحق بابن الزبير وله ما يعده‏.‏ فخرج عنهم مساءً ونزل دار أبي موسى‏.‏ واستأمن القوم للمختار فدخل القصر وغدا على الناس في المسجد خطبهم ودعاهم إلى بيعة ابن الحنفية فبايعه أشراف الكوفة على الكتاب والسنة واللطف بأهل البيت ووعدهم بحسن السيرة‏.‏ وبلغه أن ابن مطيع في دار أبي موسى بعث إليه بمائة ألف درهم وقال يجهز بهذه‏.‏ وكان ابن مطيع قد فرق بيوت الأموال على الناس وسار ابن مطيع إلى وجهه وملك الكوفة وجعل على شرطته عبد الله بن كامل على حرسه كيسان أبا عمرة وجعل الأشراف جلساءه وعقد لعبد الله بن الحارث بن الأشتر على أرمينية ولمحمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان ولعبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل ولإسحق بن مسعود على المدائن ولسعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان‏.‏ وأمره بقتال الأكراد وإصلاح السابلة‏.‏ وولى شريحًا على القضاء‏.‏ ثم طعنت فيه الشيعة بأنه شهد على حجر بن عدي ولم يبلغ عن هانىء بن عروة رسالته إلى قومه وأن علياً غرمه وأنه عثماني‏.‏ وسمع ذلك هو فتمارض فجعل مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود ثم مرض فولى مكانه عبد الله بن مالك الطائي‏.‏

مسيرة ابن زياد إلى المختار وخلافة أهل الكوفة عليه
كان مروان بن الحكم لما استوثق له الشام بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز مع جيش بن دلجة القيني وقدشاتة ومقتلة والأخر إلى العراق مع عبيد الله بن زياد فكان من أمره وأمر التوابين من الشيعة ما تقدم وأقام محاصراً لزفر بن الحارث بقرقيسيا وهو مع قومه قيس على طاعة ابن الزبير فاشتغل بهم عن العراق سنة أو نحوها‏.‏ ثم توفي مروان وولى بعده عبد الملك فأقره على ولايته وأمره بالجد ويئس من أمر زفر وقيس فنهض إلى الموصل فخرج عنها عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار إلى تكريت وكتب إلى المختار بالخبر فبعث يزيد بن أنس الأسدي في ثلاثة آلاف إلى الموصل فسار إليها على المدائن وسرح ابن زياد للقائه ربيعة بن المختار الغنوي في ثلاثة آلاف‏.‏ فالتقيا ببابل‏.‏ وعبى يزيد أصحابه وهو راكب على حمار وحرضهم‏.‏ وقال إن مت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي وإن هلك فعبد الله بن ضمرة الفزاري وإن هلك فسعد الخثعمي‏.‏ ثم اقتتلوا يوم عرفة وانهزم أهل الشام وقتل ربيعة وسار الفل غير بعيد فلقيهم عبد الله بن حملة الخثعمي قد سرحه ابن زياد في ثلاثة آلاف فرد المنهزمين وعاد القتال يوم الأضحى فانهزم أهل الشام وأثخن فيهم أهل الكوفة بالقتل والنهب وأسروا منهم ثلاثمائة فقتلوهم‏.‏ وهلك يزيد بن أنس من آخر يومه وقام بأمرهم ورقاء بن عازب خليفته وهاب لقاء ابن زياد بعد يزيد وقال‏:‏ نرجع بموت أميرنا قبل أن يتجرأ علينا أهل الشام بذلك‏.‏ وانصرف الناس وتقدم الخبر إلى وسر المختار رجوع العسكر فسرح إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف وضم إليه جيش يزيد ثم تأخر ابن زياد فسار لذلك‏.‏ ثم اجتمع أشراف الكوفة عند شيث بن ربعي وكان شيخهم جاهلياً إسلامياً وشكوا من سيرة المختار وإيثاره الموالي عليهم ودعوه إلى الوثوب به‏.‏ فقال حتى ألقاه وأعذر إليه ثم ذهب إليه وذكر له جميع ما نكروه فوعده الرجوع إلى مرادهم وذكر له شأن الموالي وشركتهم في الفيء‏.‏ فقال‏:‏ إن أعطيتموني عهدكم على قتال بني أمية وابن الزبير تركتهم‏.‏ فقال اخرج إليهم بذلك وخرج فلم يرجع‏.‏ واجتمع رأيهم على قتاله وهم شبث بن ربعي ومحمد بن الأشعث وعبد الرحمن بن سعد بن قيس وشمر بن ذي الجوشن وكعب بن أبي كعب النخعي وعبد الرحمن بن مخنف الأزدي‏.‏ وقد كان ابن مخنف أشار عليهم بأن يمهلوه لقدوم أهل الشام وأهل البصرة فيكفونكم أمره قبل أن يقاتلكم بمواليكم وشجعانكم وهم عليكم أشد فأبوا من رأيه وقالوا لا تفسد جماعتنا‏.‏ ثم خرجوا وشهروا السلاح وقالوا للمختار‏:‏ اعتزلنا فإن ابن الحنفية لم يبعثك‏.‏قال نبعث إليه الرسل مني ومنكم وأخذ يعللهم بأمثال هذه المراجعات وكف أصحابه عن قتالهم ينتظر وصول إبراهيم بن الأشتر وقد بعث إليه بالرجوع‏.‏ فجاء فرأى القوم مجتمعين ورفاعة بن شداد الجلي يصلي بهم‏.‏ فلما وصل إبراهيم عبأ المختار أصحابه وسرح بين يديه أحمد بن شميط البجيلي وعبد الله بن كامل الشادي فانهزم أصحابهما وصبرا ومدهما المختار بالفرسان والرجال فوجاً بعد فوج وسار ابن الأشتر إلى مصر وفيهم شيث بن ربعي فقاتلوه فهزمهم فاشتد ابن كامل على اليمن ورجع رفاعة بن شداد أمامهم إلى المختار فقاتل معه حتى قتل من أهل اليمن عبد الله بن سعيد بن قيس والفرات بن زحر برت قيس وعمر بن مخنف‏.‏ وخرج أخوه عبد الرحمن فمات وانهزم أهل اليمن هزيمةً قبيحة وأسر من الوادعيين خمسمائة أسير فقتل المختار كل من شهد قتل الحسين منهم فكانوا نصفهم وأطلق الباقين‏.‏ ونادى المختار الأمان إلا من شهد في دماء أهل البيت وفر عمر بن الحجاج الزبيدي وكان أشد من حضر قتل الحسين فلم يوقف له على خبر‏.‏ وقيل أدركه أصحاب المختار فأخذوا رأسه وبعث في طلب شمر بن ذي الجوشن فقتل طالبه وانتهى إلى قرية الكلبانية فارتاح يظن أنه نجا‏.‏ وإذا في قرية أخرى بإزائه أبو عمرة صاحب المختار بعثه مسلحة بينه وبين أهل البصرة فنمي إليه خبره فركب إليه فقتله شلوه للكلاب‏.‏ وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلاً أكثرهم من اليمن وكان آخر سنة ست وستين وخرج أشراف الناس إلى البصرة وتتبع المختار قتلة الحسين ودل على عبيد الله بن أسد الجهني ومالك بن نسير الكندي‏.‏ وحمل ابن مالك المحاربي بالقادسية فأحضرهم وقتلهم‏.‏ ثم أحضر زياد بن مالك الضبعي وعمران بن خالد العثري عبد الرحمن بن أبي حشكارة البجلي وعبد الله بن قيس الخولاني وكانوا نهبوا من الورث الذي كان مع الحسين فقتلهم‏.‏ وأحضر عبد الله أو عبد الرحمن بن طلحة وعبد الله بن وهيب الهمداني ابن عم الأعشى فقتلهم‏.‏ وأحضر عثمان بن خالد الجهني وأبا أسماء بشر بن سميط القابسي وكانا مشتركين في قتل عبد الرحمن بن عقيل وفي سلبه فقتلهما وحرقهما بالنار‏.‏ وبحث عن خولي بن يزيد الأصبحي صاحب رأس الحسين فجيء برأسه وحرق بالنار‏.‏ ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص بعد أن كان أخذ له الأمان منه عبد الله بن أبي جعدة بن هبيرة فبعث أبا عمرة فجاءه برأسه وابنه حفص عنده‏.‏ فقال تعرف هذا قال‏:‏ نعم ولا خير في العيش بعده فقتله‏.‏ ويقال‏:‏ إن الذي بعث المختار على قتلة الحسين أن يزيد بن شراحيل الأنصاري قدم على محمد بن الحنفية فقال له ابن الحنفية‏:‏ يزعم المختار أن لنا شيعة وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدثونه‏.‏ فلما سمع المختار ذلك تتبعهم بالقتل وبعث برأس عمرو ابنه إلى ابن الحنفية وكتب إليه أنه قتل من قدر عليه وهو في طلب الباقين‏.‏ ثم أحضر حكيم بن طفيل الطائي وكان رمى الحسين بسهم وأصاب سلب العباس ابنه‏.‏ وجاء عدي بن حاتم يشفع فيه فقتله ابن كامل والشيعة قبل أن يصل حذراً من قبول المختار شفاعته‏.‏ وبحث عن مرة بن منقذ بن عبد القيس قاتل علي بن الحسين فدافع عن نفسه ونجا إلى مصعب بن الزبير وقد شلت يده بضربة‏.‏ وبحث عن زيد وفاد الحسين قاتل عبد الله بن مسلم بن عقيل رماه بسهمين وقد وضع كفه على جبهته يتقي النبل فأثبت كفه في جبهته وقتله بالأخرى فخرج بالسيف يدافع‏.‏ فقال ابن كامل ارموه بالحجارة فرموه حتى سقط وأحرقوه حياً‏.‏ وطلب سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين فلحق بالبصرة‏.‏ وطلب عمر بن صبح الصدائي فقتله طعناً بالرماح وأرسل في طلب محمد بن الأشعث وهو في قريته عند القادسية فهرب إلى مصعب وهدم المختار داره‏.‏ وطلب آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين فلحقوا بمصعب وهدم دورهم‏.‏ شأن المختار مع ابن الزبير كان على البصرة الحارث بن أبي ربيعة وهو القباع عاملاً لابن الزبير‏.‏ وعلى شرطته عباد بن حسين وعلى المقاتلة قيس بن الهيثم‏.‏ وجاء المثنى بن مخرمة العبدي وكان ممن شهد مع سليمان بن صرد ورجع فبايع للمختار وبعثه إلى البصرة يدعو له بها فأجابه كثير من الناس وعسكر لحرب القباع فسرح إليه عباد بن حسين وقيس بن الهيثم في العساكر فانهزم المثنى إلى قومه عبد القيس وأرسل القباع عسكراً يأتونه به‏.‏ فجاءه زياد بن عمر العنكبي فقال له‏:‏ لتردن خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنهم‏.‏ فأرسل الأحنف بن قيس وأصلح الأمر على أن يخرج المثنى عنهم فسار إلى الكوفة‏.‏ وقد كان المختار لما أخرج ابن مطيع من البصرة كتب إلى ابن الزبير يخادعه ليتم أمره في الدعاء لأهل البيت وطلب المختار في الوفاء بما وعده به الولاية فأراد ابن الزبير أن يتبين الصحيح من أمره فولى عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على الكوفة وأعلمه بطاعة المختار وبعثه إليها‏.‏ وجاء الخبر إلى المختار فبعث زائدة بن قدامة في خمسمائة فارس وأعطاه سبعين ألف درهم وقال ادفعها إلى عمر فهي ضعف ما أنفق وأمره بالانصراف بعد تمكث فإن أبى فأره الخيل فكان كذلك‏.‏ ولما رأى عمر الخيل أخذ المال وسار نحو البصرة واجتمع هو وابن مطيع في إمارة القباع قبل وثوب ابن مخرمة‏.‏ وقيل إن المختار كتب إلى ابن الزبير إني اتخذت الكوفة داراً فإن سوغتني ذلك وأعطيتني مائة ألف درهم سرت إلى الشام وكفيتك مروان فمنعه من ذلك‏.‏ فأقام المختار بطاعته ويوادعه ليتفرغ لأهل الشام‏.‏ ثم بعث عبد الملك بن مروان عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى فكتب المختار إلى ابن الزبير يعرض عليه المدد فأجابه أن يعجل بإنفاذ الجيش إلى جند عبد الملك بوادي القرى فسرح شرحبيل بن دوس الهمداني في ثلاثة آلاف أكريم من الموالي وأمره أن يأتي المدينة ويكاتبه بذلك واتهمه ابن الزبير فبعث من مكة عباس بن سهل بن سعد في ألفين وأمره أن يستنفر العرب وإن رأى من جيش المختار خلافاً ناجزهم وأهلكهم‏.‏ فلقيهم عباس بالرقيم وهم على تعبية فقال سيروا بنا إلى العدو الذي بوادي القرى‏.‏ فقال ابن دوس إنما أمرني المختار أن آتي المدينة ففطن عباس لما يريد‏.‏ فأتاهم بالعلوفة والزاد وتخير ألفاً من أصحابه وحمل عليهم فقتل ابن دوس وسبعين معه من شجعان قومه وأمن الباقين فرجعوا للكوفة ومات أكثرهم في الطريق‏.‏ وكتب المختار إلى ابن الحنفية يشكو ابن الزبير ويوهمه أنه بعث الجيش في طاعته ففعل بهم ابن الزبير ما فعل‏.‏ ويستأذنه في بعث الجيوش إلى المدينة ويبعث ابن الحنفية عليهم رجلاً من قبله فيفهم الناس أني في طاعتك فكتب إليه ابن الحنفية قد عرفت قصدك ووفاءك بحقي وأحب الأمر إلي الطاعة فأطع الله وتجنب دماء المسلمين‏.‏ فلو أردت القتال لوجدت الناس إلي سراعاً والأعوان كثيراً لكني أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين‏.‏ ثم دعا ابن الزبير محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وشيعته إلى البيعة فامتنع وبعث إليه ابن الزبير وأغلظ عليه وعليهم فاستكانوا وصبروا فتركهم‏.‏ فلما استولى المختار على الكوفة وأظهر الشيعة دعوة ابن الحنفية خاف ابن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا به فاعتزم عليهم في البيعة وتوعدهم بالقتل وحبسهم بزمزم وضرب لهم أجلاً‏.‏ وكتب ابن الحنفية إلى المختار بذلك فأخبر الشيعة وندبهم وبعث أمراء منهم في نحو ثلاثمائة عليهم أبو عبد الله الجدلي‏.‏ وبعث لابن الحنفية أربعمائة ألف درهم وساروا إلى مكة فدخلوا المسجد الحرام وبأيديهم الخشب كراهة إشهار السيوف في الحرم وطفقوا ينادون بثأر الحسين حتى انتهوا إلى زمزم‏.‏ وأخرج ابن الحنفية وكان قد بقي من أجله يومان واستأذنوه في قتال ابن الزبير فقال لا أستحل القتال في الحرم‏.‏ ثم جاء باقي الجند وخافهم ابن الزبير وخرج ابن الحنفية إلى شعب علي واجتمع له أربعة آلاف رجل فقسم بينهم المال‏.‏ ولما قتل المختار واستوثق أمر ابن الزبير بعث إليهم في البيعة فخافه على نفسه وكتب لعبد الملك فأذن له أن يقدم الشام حتى يستقيم أمر الناس ووعده بالإحسان‏.‏ وخرج ابن الحنفية وأصحابه إلى الشام‏.‏ ولما وصل مدين لقيه خبر مهلك عمرو بن سعيد فندم وأقام بايلة وظهر في الناس فضله وعبادته وزهده‏.‏ وكتب له عبد الملك أن يبايعه فرجع إلى مكة ونزل شعب أبي طالب فأخرجه ابن الزبير فسار إلى الطائف وعذل ابن عباس بن الزبير على شأنه ثم خرج عنه ولحق بالطائف ومات هنالك‏.‏ وصلى عليه أبن الحنفية وعاش إلى أن أدرك حصار‏.‏ الحجاج لابن الزبير‏.‏ ولما قتل ابن الزبير بايع لعبد الملك وكتب عبد الملك إلى الحجاج بتعظيم حقه وبسط أمله ثم قدم إلى الشام وطلب من عبد الملك أن يرفع حكم الحجاج عنه ففعل وقيل إن ابن الزبير بعث إلى ابن عباس وابن الحنفية في البيعة حتى يجتمع الناس على إمام فإن في هذه فتنةً‏.‏ فحبس ابن الحنفية في زمزم وضيق على ابن عباس في منزله وأراد إحراقهما فأرسل المختار جيشه كما تقدم ونفس عنهما‏.‏ ولما قتل المختار قوي ابن الزبير عليهما فخرجا إلى الطائف‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:16 PM

مقتل ابن زياد
ولما فرغ المختار من قتال أهل الكوفة آخر سنة ست وستين بعث إبراهيم بن الأشتر لقتال ابن زياد وبعث معه وجوه أصحابه وفرسانهم وشيعته وأوصاه‏.‏ وبعث معه بالكرسي الذي كان يستنصر به وهو كرسي قد غشاه بالذهب‏.‏ وقال للشيعة هذا فيكم مثل التابوت في بني إسرائيل فكبر شأنه وعظم‏.‏ وقاتل ابن زياد فكان له الظهور وافتتن به الشيعة ويقال‏:‏ إنه كرسي علي بن أبي طالب وأن المختار أخذه من والد جعدة بن هبيرة وكانت أمه أم هانىء بنت أبي طالب فهو ابن أخت علي‏.‏ ثم أسرع إبراهيم بن الأشتر في السير وأوغل في أرض الموصل وكان ابن زياد قد ملكها كما مر‏.‏ فلما دخل إبراهيم أرض الموصل عبى أصحابه ولما بلغ نهر الحارم بعث على مقدمته الطفيل بن لقيط النخعي ونزل ابن زياد قريباً من النهر وكانت قيس مطبقة على بني مروان عند المرج وجند عبد الملك يومئذ فلقي عمير بن الحباب السلمي إبراهيم بن الأشتر وأوعده أن ينهزم بالمسيرة وأشار عليه بالمشاجرة‏.‏ ورأى عند ابن الأشتر ميلاً إلى المطاولة فثناه عن ذلك‏.‏ وقال‏:‏ إنهم ميلوا منكم رعباً وإن طاولتهم اجترؤوا عليكم‏.‏ قال وبذاك أوصاني صاحبي‏.‏ ثم عبى أصحابه في السحر الأول ونزل يمشي ويحرض الناس حتى أشرف على القوم‏.‏ وجاءه عبد الله بن زهير السلولي بأنهم خرجوا على دهش وفشل وابن الأشتر يحرض أصحابه ويذكرهم أفعال ابن زياد وأبيه‏.‏ ثم التقى الجمعان وحمل الحصين بن نمير من ميمنة أهل الشام على ميسرة إبراهيم فقتل علي بن مالك الخثعمي ثم أخذ الراية فرد ابن علي فقتل وانهزمت المسيرة فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي ورجع بالمنهزمين إلى الميسرة كما كانوا‏.‏ وحملت ميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد وهم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب كما وعدهم فمنعته الأنفة من ذلك وقاتل قتالاً شديداً‏.‏ وقصد ابن الأشتر قلب العسكر وسواده الأعظم فاقتتلوا أشد قتال حتى كانت أصوات الضرب بالحديد كأصوات القصارين وإبراهيم يقول لصاحب رايته انغمس برايتك فيهم‏.‏ ثم حملوا حملة رجل واحد فانهزم أصحاب ابن زياد‏.‏ وقال ابن الأشتر إني قتلت رجلاً تحت راية منفردة شممت منه رائحة المسك وضربته بسيفي فقصمته نصفين فالتمسوه فإذا هو ابن زياد فأخذت رأسه وأحرقت جثته‏.‏ وحمل شريك بن جدير الثعلبي على الحصين بن نمير فاعتقله وجاء أصحابه فقتلوا الحصين‏.‏ ويقال‏:‏ إن الذي قتل ابن زياد هو ابن جدير هذا وقتل شرحبيل بن ذي الكلاع وأدعى قتله سفيان بن يزيد الأزدي وورقاء بن عازب الأزدي وعبيد الله بن زهير السلمي واتبع أصحاب ابن الأشتر المنهزمين فغرق في النهر أكثر ممن قتل وغنموا جميع ما في العسكر‏.‏ وطرأ ابن الأشتر بالبشارة إلى المختار فأتته بالمدائن وأنفذ ابن الأشتر عماله إلى البلاد فبعث أخاه عبد الرحمن على نصيبين وغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض الجزيرة‏.‏ وولى زفر بن الحارث قيس وحاتم بن النعمان الباهلي حران والرها وشمشاط وعمير بن الحباب السلمي كفرنوبي وطور عبدين وأقام بالموصل وأنفذ رؤوس عبيد الله وقواده إلى المختار‏.‏

مسير مصعب إلى المختار وقتله إياه
كان ابن الزبير في أول سنة سبع وستين أو آخر ست عزل الحارث بن ربيعة وهو القباع وولى مكانه أخاه مصعباً فقدم البصرة وصعد المنبر وجاء الحارث فأجلسه مصعب تحته بدرجة ثم خطب وقرأ الآيات من أول القصص ونزل ولحق به أشراف الكوفة حتى قربوا من المختار ودخل عليه شيث بن ربعي وهو ينادي واغوثاه ثم قدم محمد بن الأشعث بعده واستوثقوه إلى المسير وبعث إلى المهلب بن أبي صفرة وهو عامله على فارس ليحضر معه قتال المختار فأبطأ وأغفل‏.‏ وأرسل إليه محمد بن الأشعث بكتابه فقال المهلب‏:‏ ما وجد مصعب بريداً غيرك فقال‏:‏ ما أنا ببريد ولكن غلبنا عبيدنا على أبنائنا وحرمنا فأقبل معه المهلب بالجموع والأموال وعسكر مصعب عند الجسر فأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة سرًا ليثبط الناس عن المختار ويدعو إلى ابن الزبير‏.‏ وسار على التعبية وبعث في مقدمته عباد بن الحصين الحبطي التميمي وعلى ميمنته عمر بن عبيد الله بن معمر وعلى ميسرته المهلب‏.‏ وبلغ الخبر المختار فقام في أصحابه وقربهم إلى الخروج مع ابن شميط وعسكر مع محمد في أعفر‏.‏ وبعث رؤوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر مع ابن شميط وأصحابه فثبتوا وحمل المهلب من الميسرة على ابن كامل فثبت ثم كر المهلب وحمل حملة منكره وصبر ابن كامل قليلاً وانهزموا وحمل الناس جميعاً على ابن شميط فانهزم وقتل‏.‏ واستمر القتل في الرجالة وبعث مصعب عباداً فقتل كل أسير أخذه‏.‏ وتقدم محمد بن الأشعث في خيل من أهل الكوفة فلم يدركوا منهزماً إلا قتلوه‏.‏ ولما فرغ مصعب منهم أقبل فقطع الفرات من موضع واسط وحملوا الضعفاء وأثقالهم في السفن ثم خرجوا إلى نهر الفرات وسار إلى الكوفة‏.‏ ولما بلغ المختار في الهزيمة ومن قتل من أصحابه وأن مصعباً أقبل إليه في البر والبحر سار إلى مجتمع الأنهار نهر الجزيرة والمسلحين والقادسية ونهر يسر‏.‏ فسكر الفرات فذهب ماؤه في الأنهار‏.‏ وبقيت سفن أهل البصرة في الطين فخرجوا إلى السكر وأزالوه وقصدوا الكوفة‏.‏ وسار المختار ونزل حروراء بعد أن حصن القصر وأدخل عدة الحصار وأقبل مصعب وعلى ميمنته المهلب و على ميسرته عمر بن عبيد الله وعلى الخيل عباد بن الحصين وجعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندي وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني وعلى الخيل عمر بن عبيد الله النهدي‏.‏ ونزل محمد بن الأشعث فيمن هرب من أهل الكوفة بين العسكرين‏.‏ ولما التقى الجمعان اقتتلوا ساعة وحمل عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي على من بإزائه فحطم أصحاب المختار حطمة منكرة وكشفوهم وحمل مالك بن عمر النهدي في الرجالة عند المساء على ابن الأشعث حملة منكرة فقتل ابن الأشعث وعامة أصحابه وقتل عبيد الله بن علي بن أبي طالب وقاتل المختار‏.‏ ثم افترق الناس ودخل القصر وسار مصعب من الغد فنزل السبخة وقطع عنهم الميرة‏.‏ وكان الناس يأتونهم بالقليل من الطعام والشراب خفية ففطن مصعب ثم إن المختار أشار على أصحابه بالاستماتة فتحنط وتطيب وخرج في عشرين رجلاً منهم السائب بن مسلك الأشعري فعذله‏.‏ فقال‏:‏ ويحك يا أحمق وثب ابن الزبير الحجاز ووثب بجدة باليمامة وابن مروان بالشام فكنت كأحدهم إلا أني طلبت بثأر أهل البيت إذ نامت عقد العرب فقاتل على حسبك إن لم يكن لك نية‏.‏ ثم تقدم فقاتل حتى قتل على يد رجلين من بني حنيفة أخوين طرفة وطراف ابني عبد الله بن دجاجة‏.‏ وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة لما رأى عزم المختار على الاستماتة تدلى من القصر واختفى عند بعض إخوانه ثم بعث الذين بقوا بالقصر إلى مصعب ونزلوا على حكمه فقتلهم أجمعين‏.‏ وأشار عليه المهلب باستبقائهم فاعترضه أشراف أهل الكوفة ورجع إلى رأيهم‏.‏ ثم أمر بكف المختار بن أبي عبيد فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد فلم ينزعها من هنالك إلا الحجاج‏.‏ وقتل زوجة عمرة بنت النعمان بن بشير زعمت أن المختار فاستأذن أخاه عبد الله وقتلها‏.‏ ثم كتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته‏.‏ ووعده بولاية أعنة الخيل وما غلب عليه من المغربة‏.‏ وكتب إليه عبد الملك بولاية العراق واختلف عليه أصحابه فجنح إلى مصعب خشية مما أصاب ابن زياد وأشراف أهل الشام‏.‏ وكتب إلى مصعب بالإجابة وسار إليه فبعث على عمله بالموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان المهلب بن أبي صفرة‏.‏ وقيل إن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة وأنه بعث على مقدمته أحمد بن شميط وبعث مصعب عباداً الحبطي ومعه عبيد الله بن علي بن أبي طالب وتراضوا ليلاً فناجزهم المختار من ليلته‏.‏ وانكشف أصحاب مصعب إلى عسكرهم واشتد القتال وقتل من أصحاب مصعب جماعة منهم محمد بن الأشعث‏.‏ فلما أصبح المختار وجد أصحابه قد توغلوا في أصحاب مصعب وليس عنده أحد فانصرف ودخل قصر الكوفة وفقد أصحابه فلحقوا به ودخل القصر معه ثمانية آلاف منهم‏.‏ وأقبل مصعب فحاصرهم أربعة أشهر يقاتلهم بالسيوف كل يوم حتى قتل وطلب الذين في القصر الأمان من مصعب ونزلوا على حكمه فقتلهم جميعاً وكانوا ستة آلاف رجل‏.‏ ولما ملك مصعب الكوفة بعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة على البصرة مكان مصعب فأساء السيرة وقصر بالأشراف ففزعوا إلى مالك بن مسمع فخرج إلى الجسر وبعث إلى حمزة أن ألحق بأبيك‏.‏ وكتب الأحنف إلى أبيه أن يعزله عنهم ويعيد لهه مصعباً ففعل‏.‏ وخرج حمزة بالأموال فعرض له مالك بن مسمع وقال‏:‏ لا تدعك تخرج بأعطيتنا فضمن له عمر بن عبيد الله العطاء فكف عنه‏.‏ وقيل‏:‏ إن عبيد الله بن الزبير إنما رده مصعباً إلى البصرة عند وفادته عليه بعد سنة من قتل المختار‏.‏ ولما رده إلى البصرة استعمل عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس وولاه حرب الأزارقة‏.‏ وكان المهلب على حربهم أيام مصعب وحمزة فلما رد مصعباً أراد أن يولي المهلب الموصل والجزيرة وأرمينية ليكون بينه وبين عبد الملك فاستقدمه واستخلف على عمله المغيرة‏.‏ فلما قدم البصرة عزله مصعب عن حرب الخوارج وبلاد فارس واستعمل عليها عمر بن عبيد الله بن معمر فكان له في حروبهم ما نذكره في أخبار الخوارج‏.‏

خلاف عمرو بن سعيد الأشدق ومقتله
كان عبد الملك بعد رجوعه من قنسرين أقام بدمشق زماناً ثم سار لقتال زحر بن الحارث الكلابي بقرقيسيا واستخلف على دمشق عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي ابن أخته وسار معه عمرو بن سعيد‏.‏ فلما بلغ بطنان انتقض عمرو وأسرى ليلاً إلى دمشق وهرب ابن أم الحكم عنها فدخلها عمرو وهدم داره واجتمع إليه الناس فخطبهم ووعدهم‏.‏ وجاء عبد الملك على أثره فحاصره بدمشق ووقع بينهما القتال أياماً‏.‏ ثم اصطلحا وكتب بينهما كتاباً وأمنه عبد الملك فخرج إليه عمرو ودخل عبد الملك دمشق فأقام أربعة أيام‏.‏ ثم بعث إلى عمرو ليأتيه فقال له عبد الله بن يزيد بن معاوية وهو صهره وكان عنده‏:‏ لا تأتيه فإني أخشى عليك منه‏.‏ فقال‏:‏ والله لو كنت نائماً ما أيقظني‏.‏ ووعد الرسول بالرواح إليه ثم أتى بالعشي ولبس درعه تحت القباء ومضى في مائة من مواليه وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان وحسان بن نجد الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي وأذن لعمرو فدخل‏.‏ ولم يزل أصحابه يجلسون عند كل باب حتى بلغوا قاعة الدار وما معه إلا غلام واحد ونظر إلى عبد الملك والجماعة حوله فأحس بالشر وقال للغلام انطلق إلى أخي يحيى وقل له يأتيني فلم يفهم عنه وأعاد عليه فيجيبه الغلام لبيك وهو لا يفهم‏.‏ فقال له اغرب عني‏.‏ ثم أذن عبد الملك لحسان وقبيصة فلقيا عمراً ودخل فأجلسه معه على السرير وحادثه زمناً‏.‏ ثم أمر بنزع السيف عنه‏.‏ فأنكر ذلك عمرو وقال‏:‏ اتق الله يا أمير المؤمنين فقال له عبد الملك‏.‏ أتطمع أن تجلس معي متقلداً سيفك فأخذ عنه السيف ثم قال له عبد الملك يا أبا أمية إنك حين خلعتني حلفت يمين إن أنا رأيتك بحيث أقدر عليك أن أجعلك في جامعة فقال بنو مروان ثم تطلقه يا أمير المؤمنين قال‏:‏ نعم وما عسيت أن أصنع بأبي أمية‏.‏ فقال بنو مروان أبر قسم أمير المؤمنين يا أبا أمية فقال عمرو قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين‏.‏ فأخرج من تحت فراشه جامعة وأمر غلاماً فجمعه فيها وسأله أن لا يخرجه على رؤوس الناس‏.‏ فقال أمكراً عند الموت‏.‏ تم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته ثم سأل الإبقاء‏.‏ فقال عبد الملك‏:‏ والله لو علمت أنك تبقى أن أبقيت عليك وتصلح قريش لأبقيتك ولكن لا يجتمع رجلان مثلنا في بلد‏.‏ فشتمه عمرو وخرج عبد الملك إلى الصلاة وأمر أخاه عبد العزيز بقتله‏.‏ فلما قام إليه بالسيف ذكره الرحم فأمسك عنه وجلس‏.‏ ورجع عبد الملك من الصلاة وغلقت الأبواب فغلظ لعبد العزيز ثم تناول عمراً فذبحه بيده وقيل أمر غلامه ابن الزغير فقتله‏.‏ وافتقد الناس عمر مع عبد الملك حين خرج إلى الصلاة فأقبل أخوه يحيى في أصحابه وعبيده وكانوا ألفاً ومعه حميد بن الحارث وحريث وزهير بن الأبرد فهتفوا باسمه ثم كسروا باب المقصورة وضربوا الناس بالسيوف وخرج الوليد بن عبد الملك واقتتلوا ساعة‏.‏ ثم خرج عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي بالرأس فألقاه إلى الناس وألقى إليهم عبد العزيز بن مروان بدر الأموال فانتهبوها وافترقوا‏.‏ ثم خرج عبد الملك إلى الناس وسأل عن الوليد فأخبر بجراحته وأتى بيحيى بن سعيد وأخيه عنبسة فحبسهما وحبس بني عمر بن سعيد ثم أخرجهم جميعاً وألحقهم بمصعب حتى حضروا عنده بعد قتل مصعب فأمنهم ووصلهم‏.‏ وكان بنو عمرو أربعة‏:‏ أمية وسعد وإسماعيل ومحمد‏.‏ ولما حضروا عنده قال أنتم أهل بيت ترون لكم على جميع قومكم فضلاً لن يجعله الله لكم والذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثاً بل كان قديماً في أنفس أوليكم على أولينا في الجاهلية‏.‏ فقال سعيد‏:‏ يا أمير المؤمنين تعد علينا أمراً كان في الجاهلية والإسلام قد هدم ذلك ووعد جنة حذر ناراً‏.‏ وأما عمرو فهو ابن عمك وقد وصك إلى الله وأنت أعلم بما صنعت إن أحدثنا به فبطن الأرض خير لنا من ظهرها‏.‏ فرق لهم عبد الملك وقال أبوكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله واخترت قتله على قتلتي أما أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأحسن حالتهم‏.‏ وقيل إن عمراً إنما كان خلفه وقتله حين سار عبد الملك لقتال مصعب طلبه أن يجعل له العهد بعده كما فعل أبوه فلم يجبه إلى ذلك فرجع إلى دمشق فعصى وامتنع بها وكان قتله سنة تسع وستين‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:17 PM

مسير عبد الملك إلى العراق ومقتل مصعب
ولما صفا الشام لعبد الملك اعتزم على غزو العراق وأتته الكتب من أشرافهم يدعونه فاستمهله أصحابه فأبى‏.‏ وسار نحو العراق وبلغ مصعباً سيره فأرسل إلى المهلب بن أبي صفرة وهو بفارس في قتال الخوارج يستشيره‏.‏ وقد كان عزل عمر بن عبيد الله بن معمر عن فارس وحرب الخوارج وولى مكانه المهلب وذلك حين استخلف على الكوفة‏.‏ وجاء خالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد على البصرة مختفياً وأعيد لعبد الملك عند مالك بن مسمع في بكر بن وائل والأزد وأمد عبد الملك بعبيد الله بن زياد بن ظبيان وحاربهم عمر بن عبيد الله بن معمر ثم صالحهم على أن يخرجوا خالداً فأخرجوه‏.‏ وجاء مصعب وقد طمع أن يدرك خالداً فوجده قد خرج فسخط على ابن معمر وسب أصحابه وضربهم وهدم دورهم وحلقهم وهم دار مالك بن مسمع واستباحها‏.‏ وعزل بن معمر عن فارس وولى المهلب وخرج إلى الكوفة‏.‏ فلم يزل بها حتى سار للقاء عبد الملك وكان معه الأحنف فتوفي بالكوفة‏.‏ ولما بعث عن المهلب ليسير معه أهل البصرة إلا أن يكون المهلب على قتال الخوارج رده وقال له المهلب‏:‏ إن أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا يتعدى‏.‏ ثم بعث مصعب عن إبراهيم بن الأشتر وكان على الموصل والجزيرة فجعله في مقدمته وسار حتى عسكر في معسكره وسار عبد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد بن مروان وخالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد فنزلوا قريباً من قرقيسيا‏.‏ وحضر زفر بن الحارث الكلابي ثم صالحه‏.‏ وبعث زفر معه الهذيل ابنه في عسكر وسار معه فنزل بمسكن قريباً من مسكن مصعب وفر الهذيل بن زفر فلحق بمصعب‏.‏ وكتب عبد الملك إلى أهل العراق وكتبوا إليه وكلهم بشرط أصفهان وأتى ابن الأشتر بكتاب مختوماً إلى مصعب فقرأه فإذا هو يدعوه إلى نفسه ويجعل له ولاية العراق فأخبره مصعب بما فيه وقال مثل هذا لا يرغب عنه‏.‏ فقال إبراهيم‏:‏ ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة‏.‏ ولقد كتب عبد الملك لأصحابك كلهم مثل هذا فأطعني واقتلهم أو احبسهم في أضيق محبس فأبى عليه مصعب وأضمر أهل العراق الغدر ولما تدانى العسكران بعث عبد الملك إلى مصعب يقول فقال‏:‏ تجعل الأمر شورى‏.‏ فقال مصعب ليس بيننا إلا السيف‏.‏ فقدم عبد الملك أخاه محمداً وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر وأمده بالجيش فأزال محمداً عن موقفه وأمده عبد الملك بعبيد الله بن يزيد فاشتد القتال وقتل من أصحاب مصعب بن عمر الباهلي والد قتيبة وأمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء فساء ذلك إبراهيم ونكره‏.‏ وقال‏:‏ أوصيته لا يمدني بعتاب وأمثاله‏.‏ وكان قد بايع لعبد الملك فجر الهزيمة على إبراهيم وقتله وحمل رأسه إلى عبد الملك‏.‏ وتقدم أهل الشام فقاتل مصعب ودعا رؤوس العراق إلى القتال فاعتذروا وتثاقلوا‏.‏ فدنا محمد بن مروان من مصعب وناداه بالأمان وأشعره بأهل العراق فأعرض عنه فنادى ابنه عيسى بن مصعب فأذن له أبوه في لقائه‏.‏ فجاءه وبذل له الأمان وأخبر أباه فقال‏:‏ أتظنهم يعرفون لك ذلك فإن أحببت فافعل‏.‏ قال لا يتحدث نساء قريش إني رغبت بنفسي عنك‏.‏ قال‏:‏ فاذهب إلى عمك بمكة فأخبره بصنيع أهل العراق ودعني فأتى مقتول فقال لا أخبر قريشاً عنك أبداً ولكن الحق أنت بالبصرة فإنهم على الطاعة أو بأمير المؤمنين بمكة‏.‏ فقال لا يتحدث قريش إني فررت‏.‏ثم قال لعيسى تقدم يا بني أحتسبك فتقدم في ناس فقتل وقتلوا‏.‏ وألح عبد الملك في قبول أمانه فأبى ودخل سرادقه فتحفظ ورمى السرادق وخرج فقاتل ودعاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فشتمه وحمل عليه وضربه فجرحه‏.‏ وخذل أهل العراق مصعباً حتى بقي في سبعة أنفس وأثخنته الجراحة فرجع إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فقتله وجاء برأسه إلى عبد الملك فأمر له بألف دينار فلم يأخذها‏.‏ وقال‏:‏ إنما قتلته بثأر أخي وكان قطع الطريق فقتله صاحب شرطته وقيل‏:‏ إن الذي قتله زائدة بن قدامة الثقفي من أصحاب المختار‏.‏ وأخذ عبيد الله رأسه وأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا بدار الجاثليق عند نهر رحبيل‏.‏ وكان ذلك سنة إحدى وسبعين‏.‏ ثم دعا عبد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه وسار إلى الكوفة فأقام بالنخيلة أربعين يوماً وخطب الناس فوعد المحسن وطلب يحيى بن سعيد عن جعفة وكانوا أخواله فأحضروه فأمنه‏.‏ وولى أخاه بشر بن مروان على الكوفة ومحمد بن نمير على همدان ويزيد بن ورقاء بن رويم على الري ولم يف لهم بأصبهان كما شرطوا عليه وكان عبد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري ويحيى بن معتوق الهمداني قد لجآ إلى علي بن عبد الله بن عباس ولجأ هذيل بن زفر بن الحارث وعمر بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد فأمنهم عبد الملك‏.‏ وصنع عمر بن حريث لعبد الملك طعاماً فأخبره بالخورنق وأذن للناس عامة فدخلوا وجاء عمر بن حريث فأجلسه معه على سريره وطعم الناس‏.‏ ثم طاف مع عمر بن حريث على القصر يسأله عن مساكنه ومعالمه ولما بلغ عبد الله بن حازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال‏:‏ أمعه عمر بن معمر قيل‏:‏ هو على فارس‏.‏ قال فالمهلب‏.‏ قيل في قتال الخوارج‏.‏ قال فعباد بن الحسين قيل على البصرة‏.‏ قال‏:‏ وأنا بخراسان‏.‏ خذيني فجريني جهاراً وأنشدي بلحم امرىء لم يشهد اليوم ناصره‏.‏ ثم بعث عبد الملك برأس مصعب إلى الكوفة ثم إلى الشام‏.‏ فنصب بدمشق وأرادوا التطاوف به فمنعت من ذلك زوجة عبد الملك عاتكة بنت يزيد بن معاوية فغسلته ودفنته‏.‏ انتهى قتل مصعب إلى المهلب وهو يحارب الأزارقة فبايع الناس لعبد الملك بن مروان‏.‏ ولما جاء خبر مصعب لعبد الله بن الزبير خطب الناس فقال‏:‏ الحمد لله الذي له الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء وبذل من يشاء‏.‏ ألا وأنه لم يذل الله من كان الحق معه وإن كان الناس عليه طراً‏.‏ وقد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا أتانا قتل مصعب‏.‏ فالذي أفرحنا منه أن قتله شهادة وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة‏.‏ ثم عبد من عبيد الله وعون من أعواني ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق سلموه وباعوه بأقل الثمن فإن فوالله ما نموت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص والله ما قتل رجل منهم في الجاهلية ولا في الإسلام‏.‏ ولا نموت إلا طعناً بالرماح وتحت ظلال السيوف ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكة فإن تقبل لا آخذها أخذ الأشر البطور وإن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهين‏.‏ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم‏.‏ ولما بلغ الخبر إلى البصرة تنازع ولايتها حمدان بن أبان وعبد الله بن أبي بكرة واسعان حمدان بعبد الله بن الأهتم عليها وكانت له منزلة عند بني أمية فلما تمهد الأمر بالعراق لعبد الملك بعد مصعب ولى على البصرة خالد بن عبد الله بن أسيد فاستخلف عليها عبيد الله بن أبي بكرة فقدم على حمدان وعزله حتى جاء خالد ثم عزل خالداً سنة ثلاث وسبعين وولى مكانه على البصرة أخاه بشراً وجمع له المصرين وسار بشر إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمر بن حريث‏.‏ وولى عبد الملك على الجزيرة وأرمينية بعد قتل مصعب أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث وستين فغزا الروم ومزقهم بعد أن كان هادن ملك الروم أيام الفتنة على ألف دينار يدفعها إليه في كل يوم‏.‏

أمر زفر بن الحارث بقرقيسيا
قد ذكرنا في وقعة راهط مسير ابن زفر إلى قرقيسيا واجتماع قيس عليه‏.‏ وأقام بها يدعو لابن الزبير‏.‏ ولما ولي عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط وهو على حمص بالمسير إلى زفر فسار وعلى مقدمته عبد الله بن رميت العلائي فعاجله عبد الله بالحرب وقتل من أصحابه نحو ثلثمائة‏.‏ ثم أقبل إبان فواقع زفر وقيل ابنه وكيع بن زفر وأوهنه‏.‏ ثم سار إليه عبد الملك إلى قرقيسيا قبل مسيره إلى مصعب فحاصره ونصب عليه المجانيق وقال‏:‏ كلب لعبد الملك لا تخلط معنا القيسية فإنهم ينهزمون إذا التقينا مع زفر ففعل‏.‏ واشتد حصارهم وكان زفر يقاتلهم في كل غداة وأمر ابنه الهذيل يوماً أن يحمل زفر حتى يضرب فسطاط عبد الملك ففعل وقطع بعض أطنابه‏.‏ثم بعث عبد الملك أخاه بالأمان لزفر وابنه الهذيل على أنفسهما ومن معهما وأن لهم ما أحبوا‏.‏ فأجاب الهذيل وأدخل أباه في ذلك‏.‏ وقال عبد الملك لنا خير من ابن الزبير فأجاب أن له الخيار في بيعته سنة‏.‏ وأن ينزل حيث شاء ولا يعين على ابن الزبير‏.‏ وبينما الرسل تختلف بينهم إذ قيل لعبد الملك قد قدم من المدينة أربعة أبراج فترك الصلح وزحف إليهم فكشفوا أصحابه إلى عسكرهم ورجع إلى الصلح واستقر بينهم على الأمان ووضع الدماء والأموال‏.‏ وأن لا يبايع لعبد الملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة التي له في عنقه وأن يدفع إليه مال نفسه في أصحابه‏.‏ وتأخر زفر عن لقاء عبد الرحمن خوفاً من فعلته بعمر بن سعد‏.‏ فأرسل إليه بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إليه وأجلسه عبد الملك معه على سريره‏.‏ وزوج ابنه مسلمة الرباب بنت زفر‏.‏ وسار عبد الملك إلى قتال مصعب فبعث زفر ابنه الهذيل معه بعسكر ولما قارب مصعباً هرب إليه وقاتل مع ابن الأشتر حتى إذا اقتتلوا اختفى الهذيل في الكوفة حتى أمنه عبد الملك كما مر‏.‏

مقتل ابن حازم بخراسان وولاية بكير بن وشاح عليها
قد تقدم لنا خلاف بني تميم على ابن حازم بخراسان وأنهم كانوا على ثلاث فرق وكف فرقتين منهم‏.‏ وبقي يقاتل الفرقة الثالثة من نيسابور وعليهم بجير بن ورقاء الصريمي‏.‏ فلما قتل مصعب بعث عبد الملك إلى حازم يدعوه إلى البيعة ويطعمه خراسان سبع سنين وبعث الكتاب مع رجل من بني عامر بن صعصعة‏.‏ فقال ابن حازم‏:‏ لولا الفتنة بين سليم وعامر ولكن كل كتابك فأكله‏.‏ وكان بكير بن وشاح التميمي خليفة ابن حازم على مرو فكتب إليه عبد الملك بعهده على خراسان ورغبة بالمطامع أن انتهى فخلع ابن الزبير ودعا إلى عبد الملك وأجابه أهل مرو‏.‏ وبلغ ابن حازم فخاف أن يأتيه بكير ويجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور فترك بجيراً وارتحل عنه إلى مرو ويزيد ابنه يترمد‏.‏ فاتبعه بجير ولحقه قريباً من مرو واقتتلوا فقتل ابن حازم‏.‏ طعنه وبعث بجير البشير بذلك إلى عبد الملك وترك الرأس وجاء بكير بن وشاح في أهل مرو وأراد إنفاذ الرأس إلى عبد الملك وأنه الذي قتل ابن حازم وأقام في ولاية خراسان‏.‏ وقيل إن ذلك إنما كان بعد قتل ابن الزبير وأن عبد الملك أنفذ رأسه إلى ابن حازم ودعاه إلى البيعة فغسل الرأس وكفنه وبعثه إلى ابن الزبير بالمدينة‏.‏ وكان من شأنه مع الرسول ومع بجير وبكير ما ذكرناه‏.‏ كان عبد الملك لما بويع بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشام وأمره أن يسكن بالعرصة ولا يدخل المدينة وعامل ابن الزبير يومئذ على المدينة الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر الجمحي فهرب الحارث وأقام ابن أنيف شهراً يصلي بالناس الجمعة بالمدينة ويعود إلى معسكره‏.‏ ثم رجع ابن أنيف إلى الشام ورجع الحارث إلى المدينة‏.‏ وبعث ابن الزبير سليمان بن خالد الدورقي على خيبر وفدك‏.‏ ثم بعث عبد الملك إلى الحجاز عبد الملك بن الحارث بن الحكم في أربعة آلاف فنزل وادي القرى وبعث سريةً إلى سليمان بخيبر وهرب وأدركوه فقتلوه ومن معه‏.‏ وأقاموا بخيبر وعليهم ابن القمقام‏.‏ وذكر لعبد الملك ذلك فاغتم وقال‏:‏ قتلوا رجلاً صالحاً بغير ذنب‏.‏ ثم عزل ابن الزبير الحارث بن حاطب عن المدينة وولى مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري فبعث جابر إلى خيبر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة فانهزم ابن القمقام وأصحابه أمامه وقتلوا صبراً‏.‏ ثم بعث عبد الملك طارق بن عمر مولى عثمان وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى ويعمل كما يعمل عمال ابن الزبير من الانتشار وليس خللاً إن ظهر له بالحجاز فبعث طارق خيلاً إلى أبي بكير بخيبر واقتتلوا فأصيب أبو بكير في مائتين من أصحابه وكتب ابن الزبير إلى القباع وهو عامله على البصرة يستمده ألفي فارس إلى المدينة‏.‏ فبعثهم القباع وأمر ابن الزبير جابر بن الأسود أن يسيرهم إلى قتال طارق ففعل ولقيهم طارق فهزمهم وقتل مقدمهم‏.‏ وقتل من أصحابه خلقاً وأجهز على جريحهم ولم يستبق أسيرهم ورجع إلى وادي القرى‏.‏ ثم عزل ابن الزبير جابراً عن المدينة واستعمل طلحة بن عبد الله بن عوف وهو طلحة النداء وذلك سنة سبعين‏.‏ فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق‏.‏ ولما قتل عبد الملك مصعباً ودخل الكوفة وبعث منها الحجاج بن يوسف الثقفي في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال ابن الزبير وكتب معه بالأمان لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا‏.‏ فسار في جمادى سنة اثنتين وسبعين فلم يتعرض للمدينة ونزل الطائف‏.‏ وكان يبعث الخيل إلى عرفة ويلقاهم هناك خيل ابن الزبير فينهزمون دائماً وتعود خيل الحجاج بالظفر‏.‏ ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره بضعف ابن الزبير وتفرق أصحابه ويستأذنه في دخول الحرم لحصار ابن الزبير ويستمده فكتب عبد الملك إلى طارق يأمره باللحاق بالحجاج فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين وأخرج عنها طلحة النداء عامل بن الزبير وولى مكانه رجلاً من أهل الشام وسار إلى الحجاج بمكة في خمسة آلاف‏.‏ ولما قدم الحجاج مكة أحرم بحجه ونزل بئر ميمون وحج بالناس ولم يطف ولا سعى وحصر ابن الزبير عن عرفة فنحر بدنة بمكة ولم يمنع الحاج من الطواف والسعي‏.‏ ثم نصب الحجاج المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة وكان ابن عمر قد حج تلك السنة فبعث إلى الحجاج بالكف عن المنجنيق لأجل الطائفين ففعل ونادى منادي الحجاج عند الإفاضة انصرفوا فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير ورمى بالمنجنيق على الكعبة وألحت الصواعق عليهم في يومين وقتلت من أصحاب الشام رجالاً فذعروا‏.‏ فقال لهم الحجاج لا شك فهذه صواعق تهامة وأن الفتح قد حضر فأبشروا‏.‏ثم أصابت الصواعق من أصحاب ابن الزبير فسري عن أهل الشام فكانت الحجارة تقع بين يدي ابن الزبير وهو يصلي فلا ينصرف ولم يزل القتال بينهم وغلت الأسعار وأصاب الناس مجاعةً شديدة حتى ذبح ابن الزبير فرسه وقسم لحمها في أصحابه‏.‏ وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم والمد من الذرة بعشرين وبيوت ابن الزبير مملوءة قمحاً وشعيراً وذرةً وتمراً ولا ينفق منها إلا ما يمسك الرمق يقوي بها نفوس أصحابه‏.‏ ثم أجهدهم الحصار وبعث الحجاج إلى أصحاب ابن الزبير بالأمان فخرج إليه منهم نحو عشرة آلاف وافترق الناس عنه‏.‏ وكان ممن فارقه ابناه حمزة وحبيب وأقام ابنه الزبير حتى قتل معه‏.‏ وحرض الناس الحجاج وقال‏:‏ قد ترون قلة أصحاب ابن الزبير وما هم فيه من الجهد والضيق فتقدموا واملؤوا ما بين الحجون والأبواء‏.‏ فدخل ابن الزبير على أمه أسماء وقال يا أمه‏:‏ قد خذلني الناس حتى ولدي والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك فقالت أنت أعلم بنفسك إن كنت على حق وتدعو إليه فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك وقد بلغت بها علمين بين بني أمية‏.‏ وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتل معك‏.‏ وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين فقال يا أمه أخاف أن يمثلوا بي ويصلبوني‏.‏ فقالت يا بني الشاة إذا ذبحت لا تتألم بالسلخ فامض على بصيرتك واستعن بالله‏.‏ فقبل رأسها وقال هذا رأي والذي خرجت به داعياً إلى يومي هذا وما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة وما أخرجني إلا الغضب لله وأن تستحل حرماته ولكن أحببت أن أعلم رأيك فقد زدتيني بصيرة‏.‏ وإني يا أمه في يومي هذا مقتول فلا يشتد حزنك وسلمي لأمر الله فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عمد بفاحشة ولم يجر ولم يغدر ولم يظلم ولم يقر على الظلم ولم يكن آثر عندي من رضا الله تعالى‏.‏ اللهم لا أقر هذا تزكية لنفسي لكن تعزية لأمي حتى تسلو عني‏.‏ فقالت إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلاً إن تقدمتني احتسبتك وإن ظفرت سررت بظفرك‏.‏ ثم قالت‏:‏ اخرج حتى أنظر ما يصير أمرك جزاك الله خيراً‏.‏ قال فلا تدعي الدعاء لي فدعت له وودعها وودعته ولما عانقته للوداع وقعت يدها على الدرع فقالت‏:‏ ها هذا صنيع من يريد ما تريد فقال ما لبستها إلا لأشد منك‏.‏ فقالت إنه لا يشد مني فنزعها وقالت له البس ثيابك مشمرة‏.‏ ثم خرج فحمل على أهل الشام حملةً منكرة فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه وأشار عليه بعضهم بالفرار فقال‏:‏ بئس الشيخ إذن أنا في الإسلام إذا واقعت قوماً فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم‏.‏ وامتلأت أبواب المسجد بأهل الشام والحجاج وطارق بناحية الأبطح إلى المروة وابن الزبير يحمل على هؤلاء وعلى هؤلاء وينادي أبا صفوان لعبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف فيجيبه من جانب المعترك‏.‏ ولما رأى الحجاج إحجام الناس عن ابن الزبير غضب وترجل وحمل إلى صاحب الراية بين يديه فتقدم ابن الزبير إليهم وكشفهم عنه ورجع فصلى ركعتين عند المقام وحملوا على صاحب الراية فقتلوه عند باب بني شيبة وأخذوا الراية‏.‏ ثم قاتلهم وابن مطيع معه حتى قتل ويقال أصابته جراحة فمات منها بعد أيام ويقال إنه قال لأصحابه يوم قتل‏:‏ يا آل الزبير أوطبتم لي نفساً عن أنفسكم كأهل بيت من العرب اصطلمنا في الله فلا يرعكم وقع السيوف فإن ألم الدواء في الجرح أشد من ألم وقعها صونوا سيوفكم بما تصونون وجوهكم وغضوا أبصاركم عن البارقة وليشغل كل امرىء قرنه ولا تسألوا عني‏.‏ ومن كان سائلاً فإني في الرعيل الأول‏.‏ ثم حمل حتى بلغ الحجون فأصابته حجارة في وجهه فأرغش لها ودمي وجهه‏.‏ ثم قاتل قتالاً شديداً وقتل في جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين‏.‏ وحمل رأسه إلى الحجاج فسجد وكبر أهل الشام وثار الحجاج وطارق حتى وقفا عليه وبعث الحجاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى عبد الملك‏.‏ وصلب جثته منكسةً على ثنية الحجون اليمنى‏.‏ وبعثت إليه أسماء في دفنه فأبى وكتب إليه عبد الملك يلومه على ذلك فخلى بينها وبينه‏.‏ ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة وسبق الحجاج إلى عبد الملك فرحب به وأجلسه على سريره وجرى ذكر عبد الله فقال عروة‏:‏ إنه كان فقال عبد الملك وما فعل‏.‏ قال قتل فخر ساجداً‏.‏ ثم أخبره عروة أن الحجاج صلبه فاستوهب جثته لأمه‏.‏ فقال نعم‏:‏ وكتب إلى الحجاج ينكر عليه صلبه فبعث بجثته إلى أمه وصلى عليه عروة ودفنه وماتت أمه بعده قريباً‏.‏ ولما فرغ الحجاج من ابن الزبير دخل إلى مكة فبايعه أهلها لعبد الملك وأمر بكنس المسجد من الحجارة والدم وسار إلى المدينة وكانت من عمله فأقام بها شهرين وأساء إلى أهلها وقال‏:‏ أنتم قتلة عثمان‏.‏ وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة‏.‏ منهم جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسهل بن سعد‏.‏ ثم عاد إلى مكة ونقلت عنه في ذم المدينة أقوال قبيحة أمره فيها إلى الله وقيل إن ولاية الحجاج المدينة وما دخل منها كانت سنة أربع وسبعين وأن عبد الملك عزل عنها طارقاً واستعمله ثم هدم الحجاج بناء الكعبة الذي بناه ابن الزبير وأخرج الحجر منه وأعاده إلى البناء الذي أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصدق بن الزبير في الحديث الذي رواه عن عائشة‏.‏ فلما صح عنده بعد ذلك قال وددت أني تركته وما تحمل‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:18 PM

ولاية المهلب حرب الأزارقة
ولما عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة واستعمل مكانه أخاه بشر بر مروان وجمع له المصرين أمره أن يبعث المهلب إلى حرب الأزارقة فيمن ينتخبه من أهل البصرة ويتركه وراءه في الحرب وأن يبعث من أهل الكوفة رجلاً شريفاً معروفاً بالبأس والنجدة والتجربة في جيش كثيف إلى المهلب فيتبعوا الخوارج حتى يهلكوهم‏.‏ فأرسل المهلب جذيع بن سعيد بن قبيصة ينتخب الناس من الديوان‏.‏ وشق على بشر أن امرأة المهلب جاءت من عند عبد الملك فغص به ودعا عبد الرحمن بن مخنف فأعلمه منزلته عنده وقال‏:‏ إني أوليك جيش الكوفة بحرب الأزارقة فكن عند حسن ظني بك‏.‏ ثم أخذ يغريه بالمهلب وأن لا يقبل رأيه ولا مشورته فأظهر له الوفاق‏.‏ وسار إلى المهلب فنزلوا رامهرمز ولقي بها الخوارج فحدق عليه على ميل من المهلب حيث يتراءى العسكران‏.‏ ثم أتاهم نعي بشر بن مروان لعشر ليال من مقدمهم وأنه استخلف على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد فافترق الناس من أهل المصرين إلى بلادهم ونزلوا الأهواز وكتب إليهم خالد بن عبد الله يتهدهم ويحذرهم عقوبة عبد الملك إن لم يرجعوا إلى المهلب فلم يلتفتوا إليه ومضوا إلى الكوفة واستأذنوا عمر بن حريث في الدخول ولم يأذن لهم فدخلوا وأضربوا عن إذنه‏.‏

ولاية أسد بن عبد الله علي خراسان
ولما ولي بكير بن وشاح على خراسان اختلف عليه بطون تميم وأقاموا في العصبية له وعليه سنتين وخاف أهل خراسان أن تفسد البلاد ويقهرهم العدو فكتبوا إلى عبد الملك بذلك وأنها لا تصلح إلا على رجل من قريش‏.‏ واستشار أصحابه فقال له أمية بن عبيد الله بن خالد بن أسيد نزكيهم برجل منك‏.‏ فقال لولا انهزامك عن أبي فديك كنت لها‏.‏ فاعتذر وحلف أن الناس خذلوه ولم يجد مقاتلاً فانحزت بالعصبة التي بقيت من المسلمين عن الهلكة وقد كتب إليك خالد بن عبد الله بعذري وقد علمه الناس فولاه خراسان‏.‏ ولما سمع بكير بن وشاح بمسيره بعث إلى بجير بن ورقاء وهو في حبسه كما مر فأبى وأشار عليه بعض أصحابه أن يقبل مخافة القتل فقبل‏.‏ وصالح بكيراً وبعث إليه بكير بأربعين ألفاً على أن لا يقاتله‏.‏ فلما قارب أمية نيسابور سار إليه بجير وعرفه عن أمور خراسان وما يحسن به طاعة أهله‏.‏ وحذره غدر بكير‏.‏ وجاء معه إلى مرو فلم يعرض أمية لبكير ولا لعماله وعرض عليه شرطته فأبى‏.‏ وقال لا أحمل الجزية اليوم وقد كانت تحمل إلي بالأمس وأراد أن يوليه بعض النواحي من خراسان فحذره بجير منه‏.‏ ثم ولى أمية ابنه عبد الله على سجستان فنزل بستا وغزا رتبيل الذي ملك على الترك‏.‏ بعد المقتول الأول وكان هائباً للمسلمين فراسلهم في الصلح وبعث ألف ألف وبعث بهدايا ورقيق‏.‏ فأبى عبد الله من قبولها وطلب الزيادة فجلا رتبيل عن البلاد حتى أوغل فيها عبد الله‏.‏ ثم أخذ عليه الشعاب والمضايق حتى سأل منه الصلح وأن يخلي عينه عن المسلمين فشرط رتبيل عليه ثلثمائة ألف درهم والعهد بأن لا يغزو بلادهم‏.‏

ولاية الحجاج العراق
ثم ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف على الكوفة والبصرة سنة خمسة وسبعين وأرسل إليه وهو بالمدينة يأمره بالمسير إلى العراق فسار على النجب في اثني عشر راكباً حتى قدم الكوفة في شهر رمضان‏.‏ وقد كان بشر بعث المهلب إلى الخوارج فدخل المسجد وصعد المنبر وقال‏:‏ علي بالناس فظنوه من بعض الخوارج فهموا به حتى تناول عمير بن ضابي البرجمي الحصباء وأراد أن يحصبه فلما تكلم جعل الحصباء يسقط من يديه وهو لا يشعر به‏.‏ ثم حضر الناس فكشف الحجاج عن وجهه وخطب خطبته المعروفة‏.‏ ذكرها الناس وأحسن من أوردها المبرد في الكامل يتهدد فيها أهل الكوفة وبتوعدهم عن التخلف عن المهلب‏.‏ ثم نزل وحضر الناس عنده للعطاء واللحاق بالمهلب فقام إليه عمير بن ضابي وقال‏:‏ أنا شيخ كبير عليل وابني هذا أشد مني‏.‏ فقال هذا خير لنا منك‏.‏ قال ومن أنت قال‏:‏ عمير بن ضابي‏.‏ قال الذي غزا عثمان في داره قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال يا عدو الله إلى عثمان بدلاً قال إنه حبس أبي وكان شيخاً كبيراً‏.‏ فقال‏:‏ إني لا أحب حياتك إن في قتلك صلاح المصرين وأمر به فقتل ونهب ماله‏.‏ وقيل إن عنبسة بن سعيد بن العاص هو الذي أغرى به الحجاج حين دخل عليه‏.‏ ثم أمر الحجاج مناديه فنادى ألا إن ابن ضابي تخلف بعد ثالثة من النداء فأمرنا بقتله وذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب‏.‏ فتساءل الناس إلى المهلب وهو بدار هرمز وجاءه العرفاء فأخذوا كتبه بموافاة العسكر‏.‏ ثم بعث الحجاج على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله وبلغه الخبر فقسم في أهل البصرة ألف ألف وخرج عنها‏.‏ ويقال إن الحجاج أول من عاقب على التخلف عن البعوث بالقتل قال الشعي كان الرجل إذا أخل بوجهه الذي يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعلي تنزع عمامته ويقام بين الناس فلما ولي مصعب أضاف إليه حلق الرؤوس و اللحى فلما ولي بشر أضاف إليه تعليق الرجل بمسمارين في يده في حائط فيخرق المسماران يده وربما مات‏.‏ فلما جاء الحجاج ترك ذلك كله وجعل عقوبة من تخلى بمكانه من الثغر أو البعث القتل‏.‏ ثم ولى الحجاج على السند سعيد بن أسلم بن زرعة فخرج عليه معاوية بن الحارث الكلابي العلاقي وأخوه فغلباه على البلاد وقتلاه‏.‏ فأرسل الحجاج مجاعة بن سعيد التميمي مكانه فغلب على الثغر وغزا وفتح فتوحات بمكران لسنة من ولايته‏.‏

وقوع أهل البصرة بالحجاج
ثم خرج الحجاج من الكوفة واستخلف عليها عروة بن المغيرة بن شعبة وسار إلى البصرة وقدمها وخطب كما خطب بالكوفة وتوعد على القعود عن المهلب كما توعد فأتاه شريك بن عمرو السكري وكان به فتق فاعتذر به وبأن بشر بن مروان قبل عذره بذلك وأحضر عطاءه ليرد لبيت المال فضرب الحجاج عنقه وتتابع الناس مزدحمين إلى المهلب ثم سار حتى كان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخًا‏.‏ وأقام يشد ظهره وقال يا أهل المصرين هذا والله مكانكم حتى يهلك الله الخوارج‏.‏ ثم قطع لهم الزيادة التي زادها مصعب في الأعطية وكانت مائة مائة‏.‏ وقال‏:‏ لسنا نجيزها‏.‏ فقال عبد الله بن الجارود إنما هي زيادة عبد الملك وقد أجازها أخوه بشر بأمره فانتهره الحجاج فقال‏:‏ إني لك ناصح وإنه قول من ورائي فمكث الحجاج أشهراً لا يذكر الزيادة ثم أعاد القول فيها فرد عليه ابن الجارود مثل الرد الأول‏.‏ فقال له مضفلة بن كرب العبدي سمعاً وطاعة للأمير فيما أحببنا وكرهنا وليس لنا أن نرد عليه‏.‏ فانتهره ابن الجارود وشتمه وأتى الوجوه إلى عبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعي وقالوا‏:‏ إن هذا الرجل مجمع على نقص هذه الزيادة وإنا نبايعك على إخراجه من العراق ونكتب إلى عبد الملك أن يولي علينا غيره وإلا خلعناه وهو يخافنا ما دامت الخوارج في العراق فبايعوه سراً وتعاهدوا وبلغ الحجاج أمرهم فاحتاط وجد‏.‏ ثم خرجوا في ربيع سنة ست وسبعين وركب عبد الله بن الجارود في عبد قيس على راياتهم ولم يبق مع الحجاج إلا خاصته وأهل بيته وبعث الحجاج يستدعيه فأفحش في القول لرسوله وصرح بخلع الحجاج فقال له الرسول‏:‏ تهلك قومك وعشيرتك‏.‏ وأبلغه تهديد الحجاج إياه فضرب وأخرج وقال لولا أنك رسول لقتلتك‏.‏ ثم زحف ابن الجارود في الناس حتى غشي فسطاطه فنهبوا ما فيه من المتاع وأخذوا زجاجته وانصرفوا عنها‏.‏ فكان رأيهم أن يخرجوه ولا يقتلوه‏.‏ وقال الغضبان بن أبي القبعثري الشيباني لابن الجارود‏:‏ لا ترجع عنه وحرضه على معالجته‏.‏ فقال إلى الغداة وكان مع الحجاج عثمان بن قطن وزياد بن عمر العتكي صاحب الشرطة بالبصرة فاستشارهما فأشار زياد بأن يستأمن القوم ويلحق بأمير المؤمنين‏.‏ وأشار عثمان بالثبات ولو كان دونه الموت‏.‏ وقال لا تخرج إلى أمير المؤمنين من العراق بعد أن رقاك إلى ما رقاك وفعلت ما فعلت بابن الزبير في الحجاز‏.‏ فقبل رأي عثمان وحقد على زياد في إشارته وجاءه عامر بن مسمع يقول‏:‏ قد أخذ لك الأمان من الناس فجعل الحجاج يغالطه رافعاً صوته عليه ليسمع الناس ويقول‏:‏ والله لا آمنهم حتى تؤتوني بالهذيل بن عمران وعند الله بن حكيم ثم أرسل إلى عبيد بن كعب الفهري أن ائتني فامنعني‏.‏ فقال له إن أتيتني منعتك فأبى وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد وعبد الله بن ثم إن عباد بن الحصين الجفطي مر بابن الجارود والهذيل وعبد الله بن حكيم يتناجون فطلب الدخول معهم فأبوا وغضب وسار إلى الحجاج وجاءه قتيبة بن مسلم في بني أعصر للحمية القتيبية‏.‏ ثم جاءه سبرة بن علي الكلابي وسعيد بن أسلم الكلابي وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فثابت إليه نفسه وعلم أنه قد امتنع‏.‏ وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع إن شئت أتيتك وإن شئت أقمت وثبطت عنك فأجابه أن أقم فلما أصبح إذا حوله ستة آلاف‏.‏ وقال ابن الجارود لعبد الله بن زياد بن ضبيان ما الرأي قال تركته أمس ولم يبق إلا الصبر‏.‏ ثم تراجعوا وعبى ابن الجارود وأصحابه على ميمنة الهذيل وعلى ميسرته سعيد بن أسلم وحمل ابن الجارود حتى حاصر أصحاب الحجاج وعطف الحجاج عليه فقارب بن الجارود أن يظفر‏.‏ ثم أصابه سهم غرب فوقع ميتاً‏.‏ ونادى منادي الحجاج بأمان الناس إلا الهذيل وابن الحكيم وأمر أن لا يتبع المنهزمين ولحق ابن ضبيان بعمارة فهلك هنالك‏.‏ وبعث الحجاج برأس ابن الجارود ورأس ثمانية عشر من أصحابه إلى الملك نصبت ليراها الخوارج ليتأسوا من الاختلاف وحبس الحجاج عبيد بن كعب محمد بن عمير لامتناعهما من الإتيان إليه وحبس ابن القبعثري لتحريضه عليه فأطلقه عبد الملك وكان فيمن قتل مع ابن الجارود عبد الله بن أنس بن مالك‏.‏ فقال الحجاج لا أرى أنساً يعين علي‏.‏ ودخل البصرة وأخذ ماله‏.‏ وجاءه أنس فأساء عليه وأفحش في شتمه وكتب أذس إلى عبد الملك يشكوه‏.‏ فكتب عبد الملك إلى الحجاج يشتمه ويغلظ عليه في التهديد على ما فعل بأنس وأن تجيء إلى منزله وتتنصل إليه وإلا نبعث من يضرب ظهرك ويهتك سترك‏.‏ قالوا‏:‏ وجعل الحجاج في قراءته يتغير ويرتعد وجبينه يرشح عرقاً‏.‏ ثم جاء إلى أنس بن مالك واعتذر إليه وفي عقب هذه الواقعة خرج الزنج بفرات البصرة وقد كانوا خرجوا قبل ذلك أيام مصعب ولم يكونوا بالكثير وأفسدوا الثمار و الزوع ثم جمع لهم خالد بن عبد الله فافترقوا قبل أن ينال منهم وقتل بعضهم وصلبه‏.‏ فلما كانت هذه الواقعة قدموا عليهم رجلاً منهم اسمه رياح ويلقب بشير زنجي أي أسد الزنج وأفسدوا‏.‏ فلما فرغ الحجاج من ابن الجارود أمر زياد ابن عمر صاحب الشرطة أن يبعث إليهم من يقاتلهم وبعث ابنه حفصاً في جيش فقتلوه وانهزم أصحاب فبعث جيشاً فهزم الزنج وأبادهم‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 05:20 PM

مقتل ابن مخنف وحرب الخوارج
كان المهلب وعبد الرحمن بن مخنف واقفين للخوارج برامهرمز فلما أمدهم الحجاج بالعساكر من الكوفة والبصرة تأخر الخوارج من رامهرمز إلى كازرون وأتبعهم العساكر حتى نزلوا بهم وخندق المهلب على نفسه وقال ابن مخنف وأصحابه خدمنا سيوفنا فبيتهم الخوارج وأصابوا الغرة في ابن مخنف فقاتل هو وأصحابه حتى قتلوا هكذا حديث أهل البصرة‏.‏ وأما أهل الكوفة فذكروا أنهم لما ناهضوا الخوارج اشتد القتال بينهم ومال الخوارج على المهلب فاضطروه إلى معسكره وأمده عبد الرحمن بالخيل والرجال‏.‏ ولما رأى الخوارج مدده تركوا من يشغل المهلب وقصدوا عبد الرحمن فقاتلوه وانكشفوا عنه وصبر في سبعين من قومه فثابوا إلى عتاب بن ورقاء وقد أمره الحجاج أن يسمع للمهلب فثقل ذلك عليه فلم يحسن بينهما العشرة وكان يتراءف في الكلام وربما أغلظ له المهلب‏.‏ فأرسل عتاب إلى الحجاج يسأله القعود وكان حرب الخوارج وشبيب قد اتسع عليه فصادفا منه ذلك مرقعاً واستقدمه وأمره أن يترك العسكر مع المهلب فولى المهلب عليهم ابنه حبيباً وأقام يقاتلهم بنيسابور نحواً من سنة وتحركت الخوارج على الحجاج من لدن سنة ست وسبعين إلى سنة ثمان وشغل بحربهم وأول من خرج منهم صالح بن سرح من بني تميم‏.‏ بعث إليه العساكر فقتل فولوا عليهم شبيباً واتبعه كثير من بني شيبان وبعث إليهم الحجاج العساكر مع الحارث بن عميرة ثم مع سفيان الخثعمي ثم انحدر ابن سعيد فهزموها وأقبل شبيب إلى الكوفة فحاربهم الحجاج وامتنع ثم سرح عليه العساكر وبعث في أثرهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فهزموهم‏.‏ ثم بعث عتاب بن ورقاء وزهرة بن حوبة مدداً لهم فانهزموا وقتل عتاب وزهرة ثم قتل شبيب ضرب السكة الإسلامية كان عبد الملك كتب في صدر كتابه إلى الروم‏:‏ قل هو الله أحد وذكر النبي مع التاريخ فنكر ذلك ملك الروم وقال‏:‏ اتركوه وإلا ذكرنا نبيكم في دنانيرنا بما تكرهونه‏.‏ فعظم ذلك عليه واستشار الناس فأشار عليه خالد بن يزيد بضرب السكة وترك دنانيرهم ففعل‏:‏ ثم نقش الحجاج فيها قل هو الله أحد‏.‏ فكره الناس ذلك لأنه قد يمسها غير الطاهر ثم بالغ في تخليص الذهب والفضة من الغش‏.‏ وزاد ابن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك عليه‏.‏ ثم زاد خالد القسري عليهم في ذلك أيام هشام‏.‏ ثم أفرط يوسف بن عمر من بعدهم في المبالغة وامتحان العيار وضرب عليه فكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية‏.‏ ثم أمر المنصور أن لا يقبل في الخراج غيرها وسميت النقود الأولى مكروهة إما لعدم جودتها أو لما نقش عليها الحجاج وكرهه‏.‏ وكانت دراهم العجم مختلفة بالصغر والكبر فكان منها مثقال وزن عشرين قيراطاً واثني عشر وعشرة قراريط وهي أنصاف المثاقيل‏.‏ فجمعوا قراريط الأنصاف الثلاثة فكانت اثنين وأربعين فجعلوا ثلثها وهو اثنا عشر قيراطاً وزن الدرهم العربي فكانت كل عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل‏.‏ وقيل إن مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله والأصح

مقتل بكير بن وشاح بخراسان
قد تقدم لنا عزل بكير عن خراسان وولاية أمية بن عبيد الله بن خالد بن أسيد سنة أربع وسبعين وأن بكيراً أقام في سلطان أمية بخراسان وكان يكرمه ويدعوه لولاية ما شاء من أعمال خراسان فلا يجيب وأنه ولاه طخارستان وتجهز لها فيه بجير بن ورقاء فمنعه ثم أمره بالتجهز لغزو ما وراء النهر فحذره منه بجير فرده فغضب بكير‏.‏ ثم تجهز أمية لغزو غارا وموسى بن عبد الله بن حازم لترمذ واستخلف ابنه على خراسان‏.‏ لما أراد قطع النهر قال لبكير ارجع إلى مرو فاكفنيها فقد وليتكها وقم بأمر ابن حازم فإني أخشى أن لا يضبطها‏.‏ فانتخب من وثق به من أصحابه ورجع وأشار عليه صاحبه عتاب بأن يحرق السفن ويرجع إلى مرو فيخلع أمية ووافقه الأحنف بن عبد الله العنبر على ذلك‏.‏ فقال لهم بكير‏:‏ أخشى على من معي‏.‏ قالوا نأتيك من أهل مرو بمن تشاء قال يهلك المسلمون‏.‏ قال ناد في الناس برفع الخراج فيكونون معك‏.‏ قال فيهلك أمية وأصحابه‏.‏ قال لهم عدد وعدد يقاتلون عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين فأحرق بكير السفن ورجع إلى مرو فخلع أمية وحبس ابنه‏.‏ وبلغ الخبر أمية فصالح أهل الشام بخارى ورجع وأمر باتخاذ السفن وعبر وجاءه موسى بن عبد الله بن حازم من مدداً له وبعث شماس بن ورقاء في ثمانمائة في مقدمته فبيته بكير وهزمه فبعث مكانه ثابت بن عطية فهزمه‏.‏ ثم التقى أمية وبكير فاقتتلوا أياماً ثم انهزم بكير إلى مرو وحاصره أمية أياماً حتى سأل الصلح على ولاية ما شاء من خراسان وأن يقضي عنه أربعمائة ألف دينه ويصل أصحابه ولا يقبل فيه سعاية بجير فتم الصلح ودخل أمية مدينة مرو وأعاد بكيراً إلى ما كان عليه من الكرامة وأعطى عتاب العدابي عشرين ألفاً وعزل بجير عن شرطته بعطا بن أبي السائب‏.‏ وقيل إن بكيراً لم يصحب أمية إلى النهر وإنما استخلفه على مرو فلما عبر أمية النهر خلع وفعل ما فعل‏.‏ ثم إن بجيراً سعى بأمية بأن بكيراً دعاه إلى الخلاف وشهد عليه جماعة من أصحابه وأن معه ابني أخيه‏.‏ فقبض عليه أمية وقتله وقتل معه ابني أخيه وذلك سنة سبع وسبعين‏.‏ ثم عبر النهر لغزو بلخ فحصره الترك حتى جهد هو وعسكره وأشرفوا على الهلاك ثم نجوا ورجعوا إلى مرو‏.‏

مقتل بجير بن زياد
ولما قتل بكير بسعاية بجير بن ورقاء تعاقد بنو سعد بن عوف من تميم وهم عشيرته على الطلب بدمه وخرج فتى منهم من البادية اسمه شمردل وقدم خراسان ووقف يوماً على بجير فطعنه فصرعه ولم يمت وقتل شمردل وجاء مكانه صعصعة بن حرب العوفي ومضى إلى سجستان وجاور قرابة بجير مدة‏.‏ وانتسب إلى حنفية ثم قال لهم إن لي بخراسان ميراثاً فاكتبوا إلى بجير يعينني فكتبوا له وجاء إليه وأخبره بنسبه وميراثه وأقام عنده شهراً يحضر باب المهلب وقد أنس به وأمن غائلته وجاء صعصعة يوماً وهو عند المهلب في قميص ورداء ودنا ليكلمه فطعنه ومات من الغد‏.‏ وقال صعصعة فمنعته مقاعس وقالوا أخذ بثأره فحمل المهلب دم صعصعة وجعل دم بجير ببكير‏.‏ وقيل إن المهلب بعثه إلى بجير فقتله والله أعلم وكان ذلك سنة إحدى وثمانين‏.‏

ولاية الحجاج علي خراسان وسجستان
وفي سنة ثمان وسبعين عزل عبد الملك أمية بن عبد الله عن خراسان وسجستان وضمهما إلى الحجاج بن يوسف‏.‏ فبعث المهلب بن أبي صفرة على خراسان وقد كان فرغ من حرب الأزارقة فاستدعاه وأجلسه معه على السرير وأحسن إلى أهل البلاد من أصحابه وزادهم وبعث عبيد الله بن أبي بكرة على سجستان‏.‏ فأما المهلب فقدم ابنه حبيباً إلى خراسان فلم يعرض لأمية ولا لعماله حتى قدم أبوه المهلب بعد سنة من ولايته وسار في خمسة آلاف وقطع النهر الغربي وما وراء النهر وعلى مقدمته أبو الأدهم الرماني في ثلاثة آلاف فنزل على كش وجاءه ابن عمر الختن يستنجده على ابن عمه فبعث معه ابنه يزيد‏.‏ فبيت ابن العم عساكر الختن وقتل الملك وجاءه صر يريد قلعتهم حتى صالحوا بما رضي ورجع وبعث المهلب ابنه حبيباً في أربعة آلاف ووافى صاحب بخارى في أربعين ألفاً‏.‏ وكبس بعضهم جنده في قرية فقتلهم وأحرقها ورجع إلى أبيه‏.‏ وأقام المهلب يحاصر كش سنتين حتى صالحوه على فدية‏.‏ وأما عبد الله بن أبي بكرة فأقام بسجستان ورتبيل على صلحه يؤدي الخراج‏.‏ ثم امتنع فأمر الحجاج ابن أبي بكرة فغزوه واستباحوا بلاده فسار في أهل المصرين وعلى أهل الكوفة شريح بن هانىء من أصحاب علي فدخل بلاد رتبيل وتوغل فيها حتى كانوا على ثمانية عشر فرسخاً من مدينتهم وأثخن واستباح وخرب القرى والحصون‏.‏ ثم أخذ الترك عليهم القرى والشعاب حتى ظنوا الهلكة فصالحهم عبيد الله على الخروج من أرضهم على أن يعطيهم سبعمائة ألف درهم‏.‏ ونكر ذلك عليه شريح وأبى إلا القتال وحرض الناس ورجع‏.‏ وقتل حين قتل بناس من أصحابه ونجا الباقون وخرجوا من بلاد رتبيل ولقيهم الناس بالأطعمة فكانوا يموتون إذا شبعوا‏.‏ فجعلوا يطعمونهم السمن قليلاً قليلاً حتى استمروا وكتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في غزو بلاد رتبيل فأذن له فجهز عشرين ألف فارس من الكوفة وعشرين ألفاً من البصرة واختار أهل الغنى والشجاعة وأزاح عللهم وأنفق فيهم ألفي ألف سوي أعطياتهم وأخذهم بالخيل الرائعة والسلاح الكامل‏.‏ وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وكان يبغضه ويقول أريد قتله‏.‏ ويخبر الشعبي بذلك عبد الرحمن فيقول أنا أزيله عن سلطانه فلما بعثه على ذلك الجيش تنصح أخوه إسماعيل للحجاج وقال‏:‏ لا تبعثه فإني أخشى خلافه‏.‏ فقال هو أهيب لي من أن يخالف أمري‏.‏ وسار عبد الرحمن في الجيش وقدم سجستان واستنفرهم وحذر العقوبة لمن يتعدى‏.‏ وساروا جميعاً إلى بلاد رتبيل وبذل الخراج فلم يقبل منا ودخل بلاده فحواها شيئاً فشيئاً‏.‏ وبعث عماله عليها ورجع المصالح بالنواحي والأرصاد على العقاب والشعاب وامتلأت أيدي الناس من الغنائم ومنع من التوغل في البلاد إلى قابل وقد قيل في بعث عبد الرحمن بن الأشعث غير هذا‏.‏ وهو أن الحجاج كان قد أنزل هميان بن عدي السدي مسلحة بكرمان أن احتاج إليه عامل السند وسجستان فمضى هميان فبعث الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث فهزمه وقام بموضعه‏.‏ ثم مات عبد الله بن أبي بكرة فولاه الحجاج مكانه وجهز إليه هذا الجيش وكان يسمى جيش الطواويس لحسن زيهم‏.‏ ولما وصل كتاب ابن الأشعث إلى الحجاج كتب إليه يوبخه على القعود عن التوغل ويأمره بالمضي لما أمره به من هدم حصونهم وقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم‏.‏ وأعاد عليه الكتاب بذلف ثانياً وثالثاً وقال له إن مضيت وإلا فأخوك إسحق أمير الناس‏.‏ فجمع عبد الرحمن الناس ورد الرأي عليهم وقال‏:‏ قد كنا عزمنا جميعاً على ترك التوغل في بلد العدو ورأينا رأياً وكتبت بذلك إلى الحجاج وهذا كتابه يستعجزني ويستضعفني ويأمرني بالتوغل بكم وأنا رجل منكم فثار الناس وقالوا لا نسمع ولا نطيع الحجاج‏.‏ وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني‏:‏ اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن فتنادى الناس من كل جانب‏:‏ فعلنا فعلنا‏.‏ وقال عبد المؤمن بن شيث بن ربعي‏:‏ انصرفوا إلى عدو الله الحجاج فانفوه عن بلادكم ووثب الناس إلى عبد الرحمن على خلع الحجاج ونفيه من العراق وعلى النصرة له ولم يذكر عبد الملك‏.‏ وصالح عبد الرحمن رتبيل على أنه إن ظهر فلا خراج على رتبيل ما بقي من الدهر وإن هزم منعه بمن يريده‏.‏ وجعل عبد الرحمن على سبت عياض بن هميان الشيباني وعلى رومج عبد الله بن عامر التميمي وعلى كرمان حرثة بن عمر التميمي‏.‏ ثم سار إلى العراق في جموعه وأعشى همدان بين يديه يجري بمدحه وذم الحجاج وعلى مقدمته عطية بن عمير العيرني‏.‏ ولما بلغ فارس بدا للناس في أمر عبد الملك وقالوا إذا خلعنا الحجاج فقد خلعناه فخلعه الناس وكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره ويستمده وكتب المهلب إلى الحجاج بأن لا يعترض أهل العراق حتى يسقطوا إلى أهليهم فنكر كتابه واتهمه وجند عبد الملك الجند إلى الحجاج فساروا إليه متتابعين وسار الحجاج من البصرة فنزل تستر وبعث مقدمة خيل فهزمهم أصحاب عبد الرحمن بعد قتال شديد وقتل منهم جمعاً كثيراً وذلك في أضحى إحدى وثمانين وأجفل الحجاج إلى البصرة ثم تأخر عنها إلى الغاوية وراجع كتاب المهلب فعلم نصيحته ودخل عبد الرحمن البصرة فبايعه أهلها وسائر نواحيها لأن الحجاج كان اشتد على الناس في الخراج وأمر من دخل الأمصار أن يرجع إلى القرى يستوفي الجزية فنكر ذلك الناس وجعل أهل القرى يبكون منه فلما قدم عبد الرحمن بايعوه على حرب الحجاج وخلع عبد الملك‏.‏ ثم اشتد القتال بينهم في المحرم سنة اثنتين وثمانين وتزاحفوا على حرب الحجاج وخلع عبد الملك‏.‏ وانهزم أهل العراق وقصدوا الكوفة وانهزم منهم خلق كثير‏.‏ وفشا القتل في القرى فقتل منهم عقبة بن عبد الغافر الأزدي في جماعة استلحموا معه وقتل الحجاج بعد الهزيمة منهم عشرة آلاف وكان هذا اليوم يسمى يوم الراوية‏.‏ واجتمع من بقي بالبصرة على عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وبايعوه فقاتل بهم الحجاج خمس ليال ثم لحق بابن الأشعث بالكوفة ربيعة طائفة من أهل البصرة‏.‏ ولما جاء عبد الرحمن الكوفة وخليفة الحجاج عليها عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله الحضرمي وثب به مطر بن ناجية من ابني تميم مع أهل الكوفة فاستولى على القصر وأخرجه‏.‏ فلما وصل ابن الأشعث لقيه أهل الكوفة واحتف به همدان‏.‏ وجاء إلى القصر فمنعه مطر فصعد الناس القصر وأخذوه فحبسه عبد الرحمن وملك الكوفة‏.‏ ثم إن الحجاج استعمل على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي ورجع إلى الكوفة فنزل دوير فيرة ونزل عبد الرحمن دير الجماجم واجتمع إلى كل واحد أمداده وخندق على نفسه‏.‏وبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمداً في جند كثيف وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق عزل الحجاج ويجري عليهم أعطياتهم كأهل الشام وينزل عبد الرحمن إلى أي بلد شاء عاملاً لعبد الملك‏.‏ فوجم الحجاج لذلك وكتب إلى عبد الملك أن هذا مما يزيدهم جراءة وذكره بقضية عثمان وسعيد بن العاص فأبى عبد الملك من رأيه وعرض عبد الله ومحمد بن مروان ما جاء به عبد الملك وتشاور أهل العراق بينهم وأشار عليهم عبد الرحمن بقبول ذلك وأن العزة لهم على عبد الملك لا تزول فتواثبوا من كل جانب منكرين لذلك ومجددين الخلع‏.‏ وتقدمهم في ذلك عبد الله بن دواب السلمي وعمير بن تيحان ثم برزوا للقتال‏.‏ وجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي وعلى الخيل سفيان بن الأبرد الكلبي وعلى الرجالة عبد الله بن حبيب الحكمي‏.‏ وجعل عبد الرحمن على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي وعلى خيله عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وعلى رجالته محمد بن سعد بن أبي وقاص وعلى مجنبته عبد الله بن رزم الحرشي وعلى القرى جبلة بن زخر بن قيس الجعفي‏.‏ وفيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى‏.‏ ثم أقاموا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون بقية سنتهم وكتيبة القرى معروفة بالصبر يحملون عليها فلا تنتقص‏.‏ فعبى الحجاج ثلاث كتائب مع الجراح بن عبد الله الحكمي وحملوا على القرى ثلاث حملات وجبلة يحرض القرى ويبيتهم والشعبي وسعيد بن جبير كذلك‏.‏ ثم حملوا على الكتائب ففرقوها وأزالوها عن مكانها وتأخر جبلة عنهم ليكون لهم فئة يرجعون إليه وأبصره الوليد بن نجيب الكلبي فقصده في جماعة من أهل الشام وقتله وجيء برأسه إلى الحجاج وقدموا عليهم مكانه وظهر القتل في القرى‏.‏ ثم اقتتلوا بعد ذلك ما يزيد على مائة يوم كثر فيها القتلى والمبارزة‏.‏ ثم اقتتلوا يوماً في منتصف جمادى الآخرة وحمل سفيان بن الأبرد في ميمنة الحجاج على ميسرة عبد الرحمن فانهزم الأبرد بن قرة من غير قتال فتقوضت صفوف الميمنة وركبهم أصحاب الحجاج ثم انهزم عبد الرحمن وأصحابه‏.‏ ومضى الحجاج إلى الكوفة ومحمد بن مروان إلى الموصل وعبد الله وأخذ الحجاج الناس على أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر وقتل من أبى ذلك‏.‏ودعا بكميل بن زياد صاحب علي فقتله لاقتصاصه ثم أقام بالكوفة شهراً وأنزل أهل الشام في بيوت أهل الكوفة ولحق ابن الأشعث بالبصرة فاجتمع إليه جموع المنهزمين ومعه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة ولحق به محمد بن سعد بن أبي وقاص بالمدائن وسار نحو الحجاج ومعه بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني كان قدم عليه قبل الهزيمة من الري وكان انتقض بها ثم غلب عليها ولحق بعبد الرحمن فكان معه‏.‏ وبايع عبد الرحمن خلق كثير على الموت ونزل مسكن وخندق عليه وعلى أصحابه والحجاج قبالتهم وقاتلهم خالد بن جرير بن عبد الله‏.‏ وكان قدم من خراسان في بعث الكوفة فقاتلهم خمسة عشر يوماً من شعبان أشد قتال وقتل زياد بن غنيم القيني‏.‏ وكان علي صالح الحجاج فهد منهم ثم أبى بكر القتال‏.‏ وحمل بسطام بن مصقلة هبيرة في أربعة آلاف من فرسان الكوفة والبصرة كسروا جفون سيوفهم وحملوا على أهل الشام فكشفوهم مراراً وأحاط بهم الرماة ولحقوا فقتلوا‏.‏ وحمل عبد الملك بن المهلب على أصحاب عبد الرحمن فكشفوهم‏.‏ ثم حمل أصحاب الحجاج من كل جانب فانهزم عبد الرحمن وأصحابه وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه وأبو البختري الطائي ومعلى بن الأشعث نحو سجستان‏.‏ ويقال إن بعض الأعراب جاء إلى الحجاج فدله على طريق من وراء معسكر ابن الأشعث فبعث معه أربعة آلاف جاؤوا من ورائه وأصبح الحجاج فقاتله واستطرد له حتى نهب معسكره‏.‏ وأقبلت السرية من الليل إلى معسكر ابن الأشعث وكان الغرقى منهم أكثر من القتلى وجاء الحجاج إلى المعسكر فقتل من وجد فيه وكان عدة القتلى أربعة آلاف‏:‏ منهم عبد الله بن شداد بن الهادي وبسطام بن مصقلة وعمر بن ربيعة الرقاشي وبشر بن المنذر بن الجارود وغيرهم‏.‏ ولما سار ابن الأشعث إلى سجستان أتبعه الحجاج بالعساكر وعليهم عمارة بن تميم اللخمي ومعهم محمد بن الحجاج فأدركوه بالسوس فقاتلوه وانهزم إلى سابور واجتمع إليه الأكراد وقاتلوا العساكر قتالاً شديداً فهزم وخرج عمارة ولحق ابن الأشعث بكرمان فلقيه عامله بها وهيأ له النزول فنزل‏.‏ ثم رحل إلى زرنج فمنعه عامله من الدخول فحاصرها أياماً ثم سار إلى بست وعليها من قبله عياض بن هميان بن هشام السلوبي الشيباني ثم استغفله فأوثقه‏.‏ وكان رتبيل ملك الترك قد سار ليستقبله ونزل على بست وتهدد عياضاً فأطلقه وحمل رتبيل إلى بلاده وأنزله عنده‏.‏ واجتمع المنهزمون فاتفقوا على قصد خراسان لينموا بعشائرهم وقصدوا للصلاة عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث وكتبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث يستقدمونه فقدم عليهم وثناهم عن قصد خراسان مخافة من سطوة يزيد بن المهلب وأن يجتمع أهل الشام وأهل خراسان فأبوا وقالوا بل يكثر بها تابعنا‏.‏ فسار معهم إلى هراة فهرب عنهم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة فخشي الانتقاض وقال‏:‏ إنما أتيتكم وأمركم جميعاً‏.‏ وأنا الآن منصرف إلى صاحبي الذي جئت من عنده يعني رتبيل‏.‏ ورجع عنهم في قليل‏.‏ وبقي معظم العسكر مع عبد الرحمن بن العباس بسجستان فجمع بابن الأشعث وسار إلى خراسان في عشرين ألفاً ونزل هراة ولقوا الرقاد فقتلوه‏.‏ وبعث إليه يزيد بن المهلب بالرحلة من البلاد فقال إنما نزلنا لنستريح ونرتحل‏.‏ثم أخذ في الجباية وسار نحوه يزيد بن المهلب والتقوا فافترق أصحاب عبد الرحمن عنه وصبرت معه طائفة ثم انهزموا وأمر يزيد بالكف عنهم وغنم ما في عسكرهم وأسر جماعة منهم فيهم محمد بن سعد بن أبي وقاص وعمر بن موسى بن عبد الله بن معمر وعباس بن الأسود بن عوف والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة وفيروز وأبو لعلج مولى عبيد الله بن معمر وسوار بن مروان وعبد الله بن طلحة الطلحات وعبد الله بن فضالة الزهراني الأزدي‏.‏ ولحق عبد الرحمن بن العباس بالسند وأتى ابن سمرة إلى مرو وانصرف يزيد إلى مرو‏.‏ وبعث بالأسرى إلى الحجاج مع سيدة بن نجدة‏:‏ قال له أخوه حبيب‏:‏ ألا تبعث عبد الرحمن بن طلحة فإن له عندنا يدين وقد ودى عن المهلب أبو طلحة مائة ألف فتركه وترك عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد‏.‏ وبعث الباقين وقدموا عليه بمكان واسط قبل بنائها فدعا بفيروز وقال‏:‏ ما أخرجك مع هؤلاء وليس بينك وبينهم نسب‏.‏ قال فتنة عمت الناس قال اكتب أموالك فكتب ألفي ألف وأكثر‏.‏ فقال للحجاج وأنا آمن على دمي قال لا والله لتؤدينها ثم أقتلك‏.‏ قال لا تجمع مالي ولحمي وأمر به فنحي‏.‏ ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقاص فوبخه طويلاً ثم أمر به فقتل ثم عاد بعمر موسى فوبخه ولاطفه في العذر فلم يقبل ثم أمر به فقتل‏.‏ ثم أحضر الهلقام بن نعيم فوبخه‏.‏ وقال‏:‏ ابن الأشعث طلب الممالك فما الذي طلبت أنت‏.‏ قال أن توليني العراق مكانك فأمر به فقتل‏.‏ ثم أحضر عبد الله بن عامر فعذله في عبد الله بن يزيد بن المهلب لأنه أطلق قومه من الأسر وقاد نحوه مطراً فأطرق الحجاج ثم قال‏:‏ ما أنت وذاك ثم أمر به فقتل فلم يزل في نفسه من يزيد حتى عزله‏.‏ ثم أمر بفيروز فعذب ولما أحس بالموت قال أظهروني للناس ليردوا علي ودائعي فلما ظهر نادى من كان لي عنده شيء فهو في حل فأمر به فقتل وأمر بقتل عمر بن فهر الكندي وكان شريفاً وأحضر أعشى همدان واستنشده قصيدته بين الأثلج وبين قيس وفيها تحريض ابن الأشعث وأصحابه فقال‏:‏ ليست هذه وإنما التي بين الأثلج وبين قيس بارق على روي الدال وسأل الحجاج عن الشعبي فقال له يزيد بن أبي مسلم أنه لحق بالري فكتب إلى قتيبة بن مسلم وهو عامله على الري بإرسال الشعبي‏.‏ فقدم على الحجاج سنة ثلاث وثمانين وكان ابن أبي مسلم له صديقاً فأشار عليه بحسن الاعتذار‏.‏ فلما دخل على الحجاج سلم عليه بالإمرة وقال‏:‏ وايم الله لا أقول إلا الحق قد والله حرضنا وجهدنا فما كنا أقوياء فجرة ولا أتقياء بررة وقد نصرك الله وظفرت فإن سطوت فبذنوبنا وإن عفوت فبحلمك والحجة لك علينا‏.‏ فقال الحجاج هذا والله أحب إلي ممن يقول ما شهدت ولا فعلت وسيفه يقطر من دمائنا‏.‏ ثم أمنه وانصرف‏.‏ ولما ظفر الحجاج بابن الأشعث وهزمه لحق كثير من المنهزمين بعمر بن الصلت وقد كان غلب على الري في تلك الفتنة‏.‏ فلما اجتمعوا أرادوا أن يحظوا عند الحجاج ويمحوا عن أنفسهم ذنب الجماجم فأشاروا على عمر بخلع الحجاج فامتنع فدسوا عليه أباه فأجاب‏.‏ ولما سار قتيبة إلى الري خرجوا مع عمر لقتاله ثم غدروا به فانهزم ولحق بطبرستان وأقره الأصبهبد وأحسن إليه وأرادوا الوثوب على الأصبهبد فشاور أباه وقال‏:‏ قد علمت الأعاجم أني أشرف منه فمنعه أبوه ودخل قتيبة الري وكتب الحجاج إلى الأصبهبد أن يبعث بهم أو برؤوسهم ففعل ذلك‏.‏ ولما انصرف عبد الرحمن بن الأشعث من هراة إلى رتبيل قال له علقمة بن عمر الأزدي لا أدخل معك دار الحرب لأن رتبيل إن دخل إليه الحجاج فيك وفي أصحابك قتلكم أو أسلمكم إليه ونحن خمسمائة وقد تبايعنا على أن نتحصن بمدينة حتى نأمن أو نموت كراماً وقدم عليهم مودود البصري وزحف إليهم عمارة بن تميم اللخمي وحاصرهم حتى استأمنوا فخرجوا إليه وقلاهم وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن يرهبه ويرغبه‏.‏ وكان عبيد بن سميع التميمي من أصحاب ابن الأشعث وكان رسوله إلى رتبيل أولا فأنس به رتبيل وزحف عليه وأغرى القاسم بن الأشعث أخاه عبد الرحمن بقتله فخافه وزين لرتبيل أخذ العهد من الحجاج وإسلام عبد الرحمن إليه على أن يكف عن أرضه سبع سنين فأجابه رتبيل وخرج إلى عمارة سراً‏.‏ وكتب عمارة إلى الحجاج بذلك فأجاب وكتب له بالكف عنه عشر سنين وبعث إليه رتبيل برأس عبد الرحمن وقيل مات بالسل فقطع رأسه وبعث به وقيل أرسله مقيدًا مع ثلاثين من أهل بيته إلى عمارة فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح القصر فمات فبعث عمارة برأسه وذلك سنة أربع أو خمس وثمانين‏.‏ قد كنا قدمنا حصار المهلب مدينة كش من وراء النهر فأقام عليها سنتين وكان استخلف على خراسان ابنه المغيرة فمات سنة اثنتين وثمانين فجزع عليه وبعث ابنه يزيد إلى مرو ومكنه في سبعين فارساً ولقيهم في مفازة نسف جمع من الترك يقاربون الخمسمائة فقاتلوهم قتالاً شديداً يطلبون ما في أيديهم والمغيرة يمتنع حتى أعطى بعض أصحابه لبعضهم شيئاً من المتاع والسلاح ولحقوا بهم ولحق يزيد بمرو‏.‏ ثم سأل أهل كش من المهلب الصلح على مال يعطونه فاسترهن منهم رهناً من أبنائهم في ذلك وانفتل المهلب وخلف حريث بن قطنة مولى خزاعة ليأخذ الفدية ويرد الرهن فلما صار ببلخ كتب إليه لا تخل الرهن وإن قبضت الفدية حتى تقدم أرض بلخ لئلا يغيروا عليك‏.‏ فأقرأ صاحب كش كتابه وقال‏:‏ إن عجلت أعطيتك الرهن وأقول له جاء الكتاب بعد إعطائه‏.‏ فعجل صاحب كش بالفدية وأخذ الرهن وعرض له الترك كما عرضوا ليزيد وقاتلهم فقتلهم وأسر منهم أسرى ففدوهم فرداً فرداً وأطلقهم‏.‏ ولما وصل إلى المهلب ضربه ثلاثين سوطاً عقوبة على مخالفة كتابه في الرهن‏.‏ فحلف حريث أن ابن قطنة ليقتلن المهلب وخاف ثابتاً إن كان ذلك المسير إليه‏.‏ فبعث إليه المهلب أخاه ثابت بن قطنة يلاطفه فأبى وحلف ليقتلن المهلب وخاف ثابت إن كان ذلك أن يقتلوا جميعًا فأشار عليه باللحاق بموسى بن عبد الله بن حازم فلحق به في ثلاثمائة من أصحابهما‏.‏ ثم هلك المهلب واستخلف ابنه يزيد وأوصى ابنه حبيباً بالصلاة وأوصى ولده جميعاً بالاجتماع والإلفة ثم قال‏:‏ أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنها تنسىء في الأجل وتثري المال وتكثر العدد وأنهاكم عن القطيعة فإنها تعقب النار والذلة والقلة وعليكم بالطاعة والجماعة ولتكن فعالكم أفضل من مقالكم‏.‏ واتقوا الجواب وزلة اللسان فإن الرجل تزل قدمه فينعش ويزل لسانه فيهلك واعرفوا لمن يغشاكم حقه فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له‏.‏ وآثروا الجود على البخل وأحبوا العرف واصنعوا المعروف فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت فكيف بالصنيعة عنده‏.‏ وعليكم في الحرب بالتؤدة والمكيدة فإنها أنفع من الشجاعة وإذا كان اللقاء نزل القضاء وإن أخذ الرجل بالحزم فظفر قيل أتى الأمر من وجهه فظفر وإن لم يظفر قيل ما فرط ولا ضيع ولكن القضاء غالب‏.‏ وعليكم بقراءة القرآن وتعلم السنن وآداب الصالحين وإياكم وكثرة الكلام في مجالسكم‏.‏ ثم مات وذلك سنة اثنتين وثمانين‏.‏ ويقال إنه لما حثهم على الإلفة والاجتماع أحضر سهاماً محزومة فقال أتكسرون هذه مجتمعة قالوا لا‏.‏ قال فتكسرونها متفرقة قالوا نعم‏.‏ قال فهكذا الجماعة‏.‏ واستولى يزيد على خراسان بعد أبيه وكتب له الحجاج بالعهد عليها‏.‏ ثم وضع العيون على بيزك حتى بلغه خروجه عن قلعته فسار إليها وحاصرها ففتحها وغنم ما كان فيها من الأموال والذخائر وكانت من أحصن القلاع‏.‏ وكان بيزك إذا أشرف عليها يسجد لها‏.‏ ولما فتحها كتب إلى الحجاج بالفتح وكان كاتبه يعمر العدواني حليف هذيل فكتب‏:‏ إنا لقينا العدو فمنحنا الله أكنافهم فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ولحقت طائفة برؤوس الجبال ومهامه الأودية وأهضام الغيطان وأفناء الأنهار‏.‏ فقال الحجاج‏:‏ من يكتب ليزيد قيل يحيى بن يعمر‏:‏ فكتب بحمله على البريد‏.‏ فلما جاءه قال أين ولدت قال بالأهواز‏.‏ قال فمن أين هذه الفصاحة قال حفظت من أولاد أبي وكان فصيحاً‏.‏ قال يلحن عنبسة بن سعيد قال نعم كثيراً قال فضلان قال نعم قال فأنا قال تلحن خفيفاً تجعل أن موضع إن وإن موضع أن‏.‏ قال أجلتك ثلاثاً وإن وجدتك بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان‏.‏ بناء الحجاج مدينة واسط كان الحجاج ينزل أهل الشام على أهل الكوفة فضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان سنة ثلاث وثمانين وعسكروا قريباً من الكوفة حتى يستتموا ورجع منهم ذات ليلة فتى حديث عهد بعرس بابنة عمه فطرق بيته ودق الباب فلم يفتح له إلا بعد هنيهة وإذا سكران من أهل الشام فشكت إليه ابنة عمه مراودته إياها فقال لها ائذني له فأذنت له وجاء فقتله الفتى وخرج إلى العسكر‏.‏ وقال ابعثي إلى الشاميين وارفعي إليهم صاحبهم فأحضروها عند الحجاج فأخبرته‏.‏ فقال صدقت وقال للشاميين لا قود له ولا عقل فإنه قتيل الله إلى النار‏.‏ ثم نادى مناديه لا ينزل أحد على أحد وبعث الرواد فارتادوا له مكان واسط ووجد هناك راهباً ينظف بقبعته من النجاسات فقال‏:‏ ما هذه قال نجد في كتبنا أنه ينشأ ههنا مسجد للعبادة‏.‏ فاختط الحجاج مدينة واسط هنالك وبنى المسجد في تلك البقعة‏.‏ عزل يزيد عن خراسان يقال إن الحجاج وفد إلى عبد الملك ومر في طريقه براهب قيل له إن عنده علماً من الحدثان فقال‏:‏ هل تجدون في كتابكم ما أنتم فيه‏.‏ قال نعم‏:‏ فقال مسمى أو موصوفاً قال موصوفاً‏.‏ قال‏:‏ فما تجدون صفة ملكنا قال صفته كذا‏.‏ قال ثم من‏.‏ قال آخر اسمه الوليد‏.‏ قال ثم من قال آخر اسمه ثقفي‏.‏ قال فمن تجد بعدي‏.‏ قال رجل يدعى يزيد‏.‏ قال أتعرف صفته قال لا أعرف صفته إلا أن يغدر غدرة‏.‏ فوقع في نفس الحجاج أنه يزيد بن المهلب ووجل منه وقدم على عبد الملك‏.‏ ثم عاد إلى خراسان وكتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب وأنهم زبيرية فكتب إليه أن وفاءهم لآل الزيبر يدعوهم إلى الوفاء لي‏.‏ فكتب إليه الحجاج يخوفه غدرهم وما يقول الراهب‏.‏ فكتب إليه عبد الملك أنك أكثرت في يزيد فانظر من تولي مكانه‏.‏ فسمى له قتيبة بن مسلم فكتب له أن يوليه‏.‏وكره الحجاج أن يكاتبه بالعزل فاستقدمه وأمره أن يستخلف أخاه المفضل واستشار يزيد حصين بن المنذر الرقاشي فقال له‏:‏ أقم واعتل وكاتب عبد الملك فإنه حسن الرأي فيك‏.‏ نحن أهل بيت بورك لنا في الطاعة وأنا أكره الخلاف وأخذ يتجهز وأبطأ‏.‏ فكتب الحجاج إلى المفضل بولاية خراسان واستلحاق يزيد‏.‏ فقال إنه لا يضرك بعدي وإنما ولاك مخافة أن أمتنع‏.‏ وخرج يزيد في ربيع سنة خمس وثمانين‏.‏ ثم عزل المفضل لتسعة أشهر من ولايته وولى قتيبة بن مسلم‏.‏ وقيل سبب عزل اليزيد أن الحجاج أذل العراق كلهم إلا آل المهلب وكان يستقدم يزيد فيعتل عليه بالعدا والحروب‏.‏ وقيل كتب إليه أن يغزو خوارزم فاعتذر إليه بأنها قليلة السلب شديدة الكلف‏.‏ ثم استقدمه بعد ذلك فقال إلى أن أغزو خوارزم‏.‏ فكتب الحجاج لا تغزها فغزاها وأصاب سبياً وصالحه أهلها وانفتل في الشتاء‏.‏ وأصاب الناس البرد فتدثروا بلباس الأسرى فبقوا عراياً وقتلهم المفضل‏.‏ ولما ولي المفضل خراسان غزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنماً فقسمه ثم غزا شومان فغنم وقسم ما أصابه‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:18 PM

مقتل موسى بن حازم
كان عبد الله بن حازم لما قتل بني تميم بخراسان وافترقوا عليه فخرج إلى نيسابور وخاف بنو تميم على ثقله بمرو فقال لابنه موسى‏:‏ اقطع نهر بلخ حتى نلتجىء إلى بعض الملوك أو إلى حصن نقيم فيه‏.‏ فسار موسى عن مرو في مائتين وعشرين فارساً واجتمع إليه شبه الأربعمائة وقوم من بني سليم وأتى قم فقاتله أهلها فظفر بهم وأصاب منهم مالاً وقطع النهر‏.‏ وسأل صاحب بخارى أن يأوي إليه فأبى وخافه وبعث إليه بصلة فسار عنه وعرض نفسه على ملوك الترك فأبوا خشية منه وأتى سمرقند فأذن له ملكها طرخون ملك الصغد في المقام فأقام وبلغه قتل أبيه عبد الله بن حازم ولم يزل مقيماً بسمرقند‏.‏ وبارز بعض أصحابه يوماً بعض الصغد فقتله فأخرجه طرخون عنه فأتى كش فنزلها ولم يطق صاحبها مدافعته واستجاش عليه بطرخون‏.‏ فخرج موسى للقائه وقد اجتمع معه سبعمائة فارس فاقتتلوا إلى الليل ودس موسى بعض أصحابه إلى طرخون يخوفه عاقبة أمره وأن كل من يأتي خراسان يطالبه بدمه‏.‏ فقال يرتحل عن كش‏.‏ قال له نعم وكف حتى ارتحل وأتى ترمذ فنزل إلى جانب حصن بها مشرف على النهر وأبى ملك ترمذ من تمليكه الحصن فأقام هنالك ولاطف الملك وتودد له وصار يتصيد معه‏.‏ وصنع له الملك يوماً طعاماً وأحضره في مائة من أصحابه ليأكلوا فلما طعموا امتنعوا من الذهاب وقال موسى‏:‏ هذا الحصن إما بيتي أو قبري وقاتلهم فقتل منهم عدة واستولى على الحصن وأخرج ملك ترمذ ولم يتعرض له ولا لأصحابه‏.‏ ولحق به جمع من أصحاب أبيه فقوي بهم وكان يغير على ما حوله‏.‏ولما ولي أمية خراسان سار لغزوه وخالفه بكير كما تقدم‏.‏ ثم بعث إليه بعد صلحه مع بكير الجيوش مع رجل من خزاعة وحاصروه‏.‏ وعاود ملك ترمذ استنصاره بالترك في جمع كثير ونزلوا عليه من جانب آخر‏.‏ وكان يقاتل العرب أول النهار والترك آخره ثلاثة أشهر‏.‏ ثم بيت الترك ليلة فهزمهم وحوى عسكرهم بما فيه من المال والسلاح ولم يهلك من أصحابه إلا ستة عشر رجلاً‏.‏ وأصبح الخزاعي والعرب وقد خافوا مثلها‏.‏ وغدا عمر بن خالد بن حصين الكلابي على موسى بن حازم وكان صاحبه فقال إنا لا نظفر إلا بمكيدة فاضربني وخلني فضربه خمسين سوطاً فلحق بالخزاعي وقال‏:‏ إن ابن حازم اتهمني بعصبيتكم وإني عين لكم فأمنه الخزاعي وأقام عنده‏.‏ ودخل عليه يوماً وهو خال فقال له لا ينبغي أن تكون بغير سلاح‏.‏ فرفع طرف فراشه وأراه سيفاً منتضى تحته فضربه عمر حتى قتله ولحق بموسى‏.‏ وتفرق الجيش واستأمن بعضهم موسى‏.‏ ولما ولي المهلب على خراسان قال لبنيه إياكم وموسى فإنه إن مات جاء على خراسان أمير من قيس‏.‏ ثم لحق به حريث وثابت ابنا قطنة الخزاعي فكانا معه‏.‏ ولما ولي يزيد أخذ أموالهما وحرمهما وقتل أخاهما للأم الحارث بن معقد فسار ثابت إلى طرخون صريخاً وكان محبباً إلى الترك فغضب له طرخون‏.‏ وجمع له نيزك وملك الصغد وأهل بخارى والصاغان فقدموا مع ثابت إلى موسى وقد اجتمع عليه فل عبد الرحمن بن عباس من هراة وفل ابن الأشعث من العراق ومن كابل‏.‏ فكان معه نحو ثمانية آلاف فقال له ثابت وحريث‏:‏ سر بنا في هذا العسكر مع الترك فنخرج يزيد من خراسان ونوليك فحذر موسى أن يغلباه على خراسان ونصحه بعض أصحابه في ذلك فقال لهما إن أخرجنا يزيد قدم عامل المدينة عبد الملك ولكنا نخرج عمال يزيد من وراء النهر ويكون لنا فأخرجوهم وانصرف طرخون والترك‏.‏ وقوي أمر العرب بترمذ وجبوا الأموال واستبد ثابت وحريث على موسى وأغراه أصابه بهما فهم بقتلهما وإذا بجموع العجم قد خرجت إليهم من الهياطلة والتبت والترك فخرج موسى فيمن معه للقتال‏.‏ ووقف ملك الترك على ما قيل في عشرة آلاف فحمل عليهم حريث بن قطنة حتى أزالهم عن موضعهم وأصيب بسهم في وجهه وتحاجزوا‏.‏ ثم بيتهم موسى فانهزموا وقتل من الترك خلق كثير ومات منهم قليل‏.‏ ومات حريث بعد يومين ورجع موسى بالظفر والغنيمة‏.‏ وقال له أصحابه قد كفينا أمر حريث فاكفنا أمر ثابت فأبى‏.‏ وبلغ ثابت بعض ما كانوا يخوضون فيه ودس محمد بن عبد الله الخزاعي عليهم على أنه من سبي الباسيان ولا يحسن العربية فاتصل بموسى وكان ينقل إلى ثابت خبر أصحابه فقال لهم ليلة قد أكثرتم علي فعلى أي وجه تقتلونه ولا أغدر به‏.‏ فقال له أخوه نوح إذا أتاك غداً عدلنا به إلى بعض الدور فقتلناه قبل أن يصل إليك‏.‏ فقال والله إنه لهلاككم وجاء الغلام إلى ثابت بالخبر فخرج من ليلته في عشرين فارساً وأصبحوا ففقدوه وفقدوا الغلام فعلموا أنه كان عيناً‏.‏ ونزل ثابت بحشود واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم‏.‏ وسار إليه موسى وقاتله فحصر ثابتاً بالمدينة‏.‏ وأتاه طرخون مدد فرجع موسى إلى ترمذ‏.‏ ثم اجتمع ثابت وطرخون وأهل بخارى ونسف وأهل كش في ثمانين ألفاً‏.‏ فحاصروا موسى بترمذ حتى جهد أصحابه‏.‏ وقال يزيد بن هذيل والله لأقتلن ثابتاً أو أموت فاستأمن إليه وحذره بعض أصحابه منه فأخذ ابنيه قدامة والضحاك رهناً وأقام يزيد يتلمس غرة ثابت‏.‏ ومات ابن الزياد والقصير الخزاعي فخرج إليه ثابت يعزيه وهو بغير سلاح فضربه يزيد على رأسه وهرب‏.‏ وأخذ طرخون قدامة والضحاك ابني يزيد فقتلهما‏.‏ وهلك ثابت لسبعة أيام وقام مكانه من أصحابه ظهير وضعف أمرهم وبيتهم موسى ليلاً في ثلثمائة فبعث إليه طرخون كف أصحابك فإنا نرحل الغداة‏.‏ فرجع وارتحل طرخون والعجم جميعاً‏.‏ولما ولي المفضل خراسان بعث عثمان بن مسعود في جيش إلى موسى بن حازم وكتب إلى مدرك بن المهلب في بلخ بالمسير معه فعبر النهر في خمسة عشر ألفاً وكتب إلى رتبيل وإلى طرخون أن يكونوا مع عثمان فحاصروا موسى بن حازم فضيقوا عليه شهرين وقد خندق عثمان على معسكره‏.‏ حذر البيات‏.‏ فقال موسى لأصحابه اخرجوا بنا مستميتين واقصدوا الترك فخرجوا وخلف النضر ابن أخيه سليمان في المدينة‏.‏ وقال له‏:‏ إن أنا قتلت فملك المدينة لمدرك بن المهلب دون عثمان وجعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان وقال لا تقاتلوه إلا إن قاتلكم‏.‏ وقصد طرخون وأصحابه وصدقوهم القتال فانهزم طرخون وأخذوا وحجزت الترك والصغد بينهم وبين الحصن فقاتلهم فعقروا فرسه وأردفه مولى له فبصر به عثمان حين وثب فعرفه فقصده وعقروا به الفرس وقتلوه وقتل خلق كثير من العرب‏.‏ وتولى قتل موسى واصل العنبري ونادى منادي عثمان بكف القتل وبالأسر وبعث النضر بن سليمان إلى مدرك بن المهلب فسلم إليه مدينة ترمذ وسلمها مدرك إلى عثمان‏.‏ وكتب المفضل إلى الحجاج بقتل موسى فلم يسره لأنه من قيس وكان قتل موسى سنة خمس وثمانين لخمس عشرة سنة من تغلبه على ترمذ‏.‏

البيعة للوليد بالعهد
وكان عبد الملك يروم خلع أخيه عبد العزيز من ولاية العهد والبيعة لابنه الوليد وكان قبيصة ينهاه عن ذلك ويقول‏:‏ لعل الموت يأتيه وتدفع العار عن نفسك وجاءه روح بن زنباغ ليلة وكان عنده عظيماً ففاوضه في ذلك فقال‏:‏ لو فعلته ما انتطح فيه عنزان‏.‏ فقال نصلح إن شاء الله وأقام روح عنده ودخل عليهما قبيصة بن ذؤيب من جنح الليل وهما نائمان وكان لا يحجب عنه وإليه الخاتم والسكة فأخبره بموت عبد العزيز أخيه‏.‏ فقال روح كفانا الله ما نريد‏.‏ ثم ضم مصر إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك وولاه عليها‏.‏ ويقال‏:‏ إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد فكتب إلى عبد العزيز إني رأيت أن يصير الأمر إلى ابن أخيك فكتب له أن تجعل الأمر له من بيعة فكتب له إني أرى في أبي بكر ما ترى في الوليد‏.‏ فكتب له عبد الملك أن يحمل خراج مصر فكتب إليه عبد العزيز إني وإياك يا أمير المؤمنين قد أشرفنا على عمر أهل بيتنا ولا ندري أينا يأتيه الموت فلا تفسد علي بقية عمري فرق له عبد الملك وتركه‏.‏ ولما بلغ الخبر بموت عبد العزيز عبد الملك أمر الناس بالبيعة لابنه الوليد وسليمان وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان‏.‏ وكان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا وأبى سعيد بن المسيب فضربه ضرباً مبرحاً وطاف به وحبسه‏.‏ وكتب عبد الملك إلى هشام يلومه ويقول‏:‏ إن سعيداً ليس عنده شقاق ولا نفاق ولا خلاف وقد كان ابن المسيب امتنع من بيعة ابن الزبير‏.‏ فضربه جابر بن الأسود عامل المدينة لابن الزبير ستين سوطاً وكتب إليه ابن الزبير يلومه‏.‏ وقيل‏:‏ إن بيعة الوليد وسليمان كانت سنة أربع وثمانين والأول أصح‏.‏ وقيل قدم عبد العزيز على أخيه عبد الملك من مصر فلما فارقه وصاه عبد الملك فقال ابسط بشرك وألن كنفك وآثر الرفق في الأمور فهو أبلغ لك وانظر حاجبك وليكن من خير أهلك فإنه وجهك ولسانك‏.‏ ولا يقفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتكون أنت الذي تأذن له أو ترده فإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك وتثبت في قلوبهم محبتك‏.‏ وإذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشورة فإنها تفتح مغاليق الأمور المبهمة‏.‏ واعلم أن لك نصف الرأي ولأخيك نصفه ولن يهلك امرؤ من مشورة‏.‏ وإذا سخطت على أحد فأخر عقوبته فإنك على العقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على ردها بعد إصابتها‏.‏

وفاة عبد الملك وبيعة الوليد
ثم توفي عبد الملك منتصف شوال سنة ست وثمانين وأوصى إلى بنيه فقال‏:‏ أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلية وأحصن كهف ليعطف الكبير منكم على الصغير وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الذي عنه تفترون ولحيكم الذي عنه ترمون‏.‏ وأكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم المنابر ودوخ لكم البلاد وأذل لكم مغنى الأعداء‏.‏ وكونوا بني أم بررة لا تدب بينكم العقارب‏.‏ وكونوا في الحرب أحراراً فإن القتال لا يقرب منية‏.‏ وكونوا للمعروف مناراً فإن المعروف يبقى أجره وذخره وذكره وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب فإنه لصون له واشكر لما يؤتى إليهم منه وتعهدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا وإن عادوا فانتقموا‏.‏ ولما دفن عبد الملك قال الوليد‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون والله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة‏.‏ فكان أول من عزى نفسه وهنأها‏.‏ ثم قام عبد الله بن همام السامولي وهو يقول‏:‏ الله أعطاك التي لا فوقها وقد أراد الملحدون عوقها‏.‏ عنك ويأبى الله إلا سوقها إليك حتى قلدوك طوقها‏.‏ وبايعه ثم بايعه الناس بعده وقيل إن الوليد صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس لا مقدم لما أخره الله ولا مؤخر لما قدمه الله وقد كان من قضاء الله وسابق علمه وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت وقد صار إلى منازل الأبرار وولي هذه الأمة بالذي يحق عليه في الشدة على المذنب واللين لأهل الحق والفضل وإقامة ما أقام الله من منازل الإسلام وإعلائه من حج البيت وغزو الثغور وشن الغارة على أعداء الله فلم يكن عاجزاً ولا مفرطاً‏.‏ أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة فإن الشيطان مع المنفرد‏.‏ أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ومن سكت مات بدائه ثم نزل‏.‏ قدم قتيبة خراسان أميراً عن الحجاج سنة ست وثمانين فعرض الجند وحث على الجهاد وسار غازياً وجعل على الحرب بمرو إياس بن عبد الله بن عمرو وعلى الخراج عثمان بن السعد وتلقاه دهاقين البلخ والطالقان وساروا معه‏.‏ ولما عبر النهر تلقاه ملك الصغانيان بهداياه‏.‏ وكان ملك أخرون وسومان يسيء جواره فدعاه إلى بلاده وسلمها إليه‏.‏ وسار قتيبة إلى أخرون وسومان وهو من طخارستان فصالحه ملكهما على فدية أداها إليه وقبضها ثم انصرف إلى مرو واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم ففتح بعد رجوع قتيبة كاشان وأورشت من فرغانة ثم أخسيكت مدينة فرغانة القديمة‏.‏ وكان معه ابن يسار وأبلى في هذه الغزاة‏.‏ وقيل إن قتيبة قدم خراسان سنة خمس وثمانين وكان من ذلك السبي امرأة برمك‏.‏ وكان برمك على النوبهار فصارت لعبد الله بن مسلم أخي قتيبة فوقع عليها وعلقت منه بخالد ثم صالح أهل بلخ وأمر قتيبة برد السبي فألحق عبد الله به حملهما‏.‏ ثم ردت إلى برمك‏.‏وذكر أن ولد عبد الله بن مسلم ادعوه ورفعوا أمرهم إلى المهدي وهو بالري فقال لكم بعض قرابتهم إنكم إن استلحقتموه لا بد لكم أن تزوجوه فتركوه‏.‏ ولما صالح قتيبة ملك سومرن كتب إلى بترك طرخان صاحب باذغيس فيمن عنده من أسرى المسلمين وهددهم فبعث بهم إليه‏.‏ ثم كتب إليه يستقدمه على الأمان فخشي وتثاقل ثم قدم وصالح لأهل باذغيس على أن لا يدخلها قتيبة ثم غزا بيكنداد في مدائن بخارى إلى النهر سنة سبع وثمانين‏.‏ فلما نزل بهم استجاشوا بالصغد وبمن حولهم من الترك وساروا إليه في جموع عظيمة وأخذوا عليه الطرق‏.‏ فانقطعت الأخبار والرسل ما بينه وبين المسلمين شهرين ثم هزمهم بعض الأيام وأثخن فيهم بالقتل والأسر وجاء إلى السور ليهدمه فسألوا الصلح فصالحهم واستعمل عليهم وسار عنهم غير بعيد‏.‏ فقتلوا العامل ومن معه فرجع إليهم وهدم سورهم وقتل المقاتلة وسبى الذرية وغنم من السلاح وآنية الذهب والفضة ما لم يصيبوا مثله‏.‏ثم غزا سنة ثمان وثمانين بلد نومكثت فصالحوه وسار إلى رامسة فصالحوه أيضاً فانصرف وزحف أيضاً إليه الترك والصغد وأهل فرغانة في مائتي ألف وملكهم كوربعابور ابن أخت ملك الصين واعترضوا مقدمته وعليها أخوه عبد الرحمن فقاتلهم حتى جاء قتيبة وكان ينزل معه فأبلى مع المسلمين‏.‏ ثم انهزم الترك وجموعهم ورجع قتيبة إلى مرو ثم أمره الحجاج سنة تسع وثمانين بغزو بخارى وملكها وردان خذاه فعبر النهر من زم ولقيه الصغد وأهل كش ونسف بالمفازة وقاتلوه فهزمهم ومضى إلى بخارى فنزل عن يمين وردان ولم يظفر منه بشيء ورجع إلى مرو‏.‏كان الوليد عزل هشام بن إسماعيل المخزومي عن المدينة سنة سبع وثمانين لأربع سنين من ولايته وولى عليها عمر بن عبد العزيز فقدمها ونزل دار مروان ودعا عشرة من فقهاء المدينة فيهم الفقهاء السبعة المعروفون فجعلهم أهل مشورته لا يقطع أمراً دونهم وأمرهم أن يبلغوه الحاجات والظلامات فشكروه وجزوه خيراً ودعا له الناس‏.‏ ثم كتب إليه سنة ثمان أن يدخل حجر أمهات المؤمنين في المسجد ويشتري ما في نواحيه حتى يجعله مائتي ذراع في مثلها وقدم القبلة‏.‏ ومن أبى أن يعطيك ملكه فقومه قيمة عدل وادفع إليه الثمن واهدم عليه الملك ولك في عمر وعثمان أسوة‏.‏ فأعطاه أهل الأملاك ما أحب منها بأثمانها وبعث الوليد إلى ملك الروم أنه يريد بناء المسجد فبعث إليه ملك الروم بمائة ألف مثقال من الذهب ومائة من الفعلة وأربعين حملاً من الفسيفساء وبعث بذلك كله إلى عمر بن عبد العزيز واستكثر معهم من فعلة الشام وشرع عمر في عمارته اه‏.‏ وولى الوليد في سنة تسع وثمانين على مكة خالد بن عبد الله القسري‏.‏

فتح السند
كان الحجاج قد ولى على ثغر السند ابن عمه محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل وجهز معه ستة آلاف مقاتل ونزل مكران فأقام بها أياماً‏.‏ ثم أتى فيريوز ففتحها ثم أرمايل‏.‏ ثم سار إلى الدبيل وكان به بد عظيم في وسط المدينة على رأسه دقل عظيم وعليه راية‏.‏ فإذا هبت الريح دارت فأطافت بالمدينة‏.‏ والبد صنم مركوز في بناء والدقل منارة عليه‏.‏ وكل ما يعبد فهو عندهم بد‏.‏ فحاصر الدبيل ورماهم بالمنجنيق فكسر الدقل فتطيروا بذلك‏.‏ ثم خرجوا إليه فهزمهم وتسنم الناس الأسوار ففتحت عنوة وأنزل فيها أربعة آلاف من المسلمين وبنى جامعها وسار عنها إلى النيروز‏.‏ وقد كانوا بعثوا إلى الحجاج وصالحوه فلقوا محمداً بالميرة وأدخلوه مدينتهم وسار عنها‏.‏ وجعل لا يمر بمدينة من مدائن السند إلا فتحها حتى بلغ نهر مهران واستعد ملك السند لمحاربته واسمه داهر بن صصة‏.‏ ثم عقد الجسر على النهر وعبر فقاتله داهر وهو على الفيل وحوله الفيلة‏.‏ ثم اشتد القتال وترجل داهر فقاتل حتى قتل وانهزم الكفار واستلحمهم المسلمون‏.‏ ولحقت امرأة داهر بمدينة رارو فساروا إليها وخافته فأحرقت نفسها وجواريها‏.‏ وملك المدينة ولحق الفل بمدينة بدهمتاباد العتيقة على فرسخين من مكان المنصورة وهي يومئذ غيضة ففتحها عنوة واستلحم من وجد بها وخربها‏.‏ ثم استولى على مدائن السند واحدة واحدة وقطع نهر ساسل إلى الملقاد فحاصرها وقطع الماء عنها فنزلوا على حكمه‏.‏ فقتل المقاتلة وسبى الذرية وقتل سدنة البلد وهم ستة آلاف‏.‏ وأصابوا في البلد ذهباً كثيراً في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية كانت الأموال تهدى إليه من البلدان ويحجون إليه ويحلقون شعرهم عنده ويزعمون أنه هو أيوب‏.‏ فاستكمل فتح السند وبعث من الخمس بمائة وعشرين ألف‏:‏ ألف وكانت النفقة نصفها‏.‏

فتح الطالقان وسمرقند وغزو كش ونسف والشاش وفرغانة وصلح خوارزم
قد تقدم أن قتيبة غزا بخارى سنة تسع وثمانين وانصرف عنها ولم يظفر‏.‏ وبعث إليه الحجاج سنة تسعين يوبخه على الانصراف عنها ويأمره بالعود‏.‏ فسار إليها ومعه نيزك طرخان صاحب باذغيس وحاصرها‏.‏ واستجاش ملكها وردان أخذاه بمن حوله من الصغد والترك‏.‏ فلما جاء مددهم خرجوا إلى المسلمين وكانت الأزد في المقدمة فانهزموا حتى جازوا عسكر المسلمين ثم رجعوا وزحفت العساكر حتى ردوا الترك إلى موقفهم ثم زحف بنو تميم وقاتلوا الترك حتى خالطوهم في مواقفهم وأزالوهم عنها‏.‏ وكان بين المسلمين وبينهم نهر لم يتجاسر أحد على عبوره إلا بنو تميم فلما زالوا عن مواقفهم عبر الناس واتبعوهم وأثخنوا فيهم بالقتل وخرج خاقان وابنه وفتح الله على المسلمين وكتب بذلك إلى الحجاج‏.‏ ولما استوت الهزيمة جاء طرخون ملك الصغد ومعه فارسان ودنا من عسكر قتيبة يطلب الصلح على فدية يؤديها فأجابه قتيبة وعقد له ورجع قتيبة ومعه نيزك وقد خافه لما رأى من الفتوح فاستأذنه في الرجوع وهو بآمد فرجع يريد طخارستان وأسرع السير‏.‏ وبعث قتيبة إلى المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسه وتبعه المغيرة فلم يدركه وأظهر نيزك الخلع ودعا لذلك الأصبهبذ ملك بلخ وباذان ملك مرو الروذ وملك الطالقان وملك الفارياب وملك الجوزجان فأجابوه وتوعدوا لغزو قتيبة‏.‏ وكتب إلى كاتب شاه يستظهر به وبعث إليه بأثقاله وأمواله واستأذنه في الإتيان إن اضطر إلى ذلك‏.‏ وكان جيفونة ملك طخارستان نيزك عنده فاستضعفه وقبض عليه وقيده خشية من خلافه وأخرج عامل قتيبة من بلده‏.‏ وبلغ قتيبة خبرهم قبل الشتاء وقد تفرق الجند فبعث أخاه عبد الرحمن بن مسلم في اثني عشر ألف إلى البروقان وقال أقم بها ولا تحدث شيئاً فإذا انقضى الشتاء تقدم إلى طخارستان وأنا قريب منك‏.‏ ولما انصرم الشتاء استقدم قتيبة الجنود من نيسابور وغيرها فقدموا فسار نحو الطالقان وكان ملكها قد دخل معهم في الخلع ففتحها وقتل من أهلها مقتلة عظيمة وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في مثلها واستخلف عليها أخاه محمد بن مسلم وسار إلى القاربات فخرج إليه ملكها مطيعاً‏.‏ واستعمل عليها وسار إلى ثم أتى بلخ وتلقاه أهلها بالطاعة وسار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب حمله ومضى نيزك إلى بغلان وخلف المقاتلة على فم الشعب ولا يهتدي إلى مدخل ومضايقوه يمنعونه‏.‏ ووضع أثقاله في قلعة من وراء الشعب‏.‏ وأقام قتيبة أياماً يقاتلهم على فم الشعب ولا يهتدي إلى مدخل حتى دله عليه بعض العجم هنالك على طريق سرب منه الرجال إلى القلعة فقاتلوهم وهرب من بقي منهم ومضى إلى سمنجان ثم إلى نيزك وقدم أخاه عبد الرحمن‏.‏ وارتحل نيزك إلى وادي فرغانة وبعث أثقاله وأمواله إلى كابل شاه ومضى إلى السكون فتحصن به ولم يكن له إلا مسلك واحد صعب على الدواب فحاصره قتيبة شهرين حتى جهدوا وأصابهم جهد الجدري‏.‏ وقرب فصل الشتاء فدعا قتيبة بعض خواصه ممن كان يصادق نيزك فقال‏:‏ انطلق إليه وأثن عليه بغير أمان وإن أعياك فأمنه‏.‏ وإن جئت دونه صلبتك‏.‏ فمضى الرجل وأشار علية بلقائه وأنه عازم على أن يشق هنالك فقال أخشاه فقال له لا يخلصك إلا إتيانك وتنصح له بذلك ولأنه يخشى عليه من غدر أصحابه الذين معه‏.‏ ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب وهو يمتنع حتى قال له إنه قد أمنك‏.‏ فأشار عليه أصحابه بالقبول لعلمهم بصدقه وخرج معه نيزك ومعهم جيفونة ملك طخارستان الذي كان قيده حتى انتهوا إلى الشعب وهناك خيل أكمنه الرجل ما كان فيه وكتب إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك فوافاه كتابه لأربعين يوماً بقتله فقتله وقتل معه صول طرخان خليفة جيفونة وابن أخي نيزك ومن أصحابه سبعمائة وصلبهم وبعث برأسه إلى الحجاج‏.‏ وأطلق جيفونة وبعث إلى الوليد‏.‏ثم رجع إلى مرو‏.‏ وأرسل إليه ملك الجوزجان يستأمنه فأمنه على أن يأتيه فطلب الرهن فأعطاه وقدم‏.‏ ثم رجع فمات بالطالقان وذلك سنة إحدى وتسعين‏.‏ ثم سار إلى شومان فحاصرها وقد كان ملكها طرد عامل قتيبة من عنده فبعث إليه بعد مرجعه من هذه الغزاة أن يؤدي ما كان صالح عليه فقتل الرسول فسار إليه قتيبة وبعث له صالح أخو قتيبة وكان صديقه ينصحه في مراجعة الطاعة فأبى فحاصره قتيبة ونصب عليه المجانيق فهدم الحصن وجمع الملك ما في الحصن من مال وجوهر ورمى به في بئر لا يدرك قعره ثم استمات وخرج فقاتل حتى قتل‏.‏ وأخذ قتيبة القلعة عنوة فقتل المقاتلة وسبى الذرية ثم بعث أخاه عبد الرحمن إلى الصغد وملكهم طرخون فأعطى ما كان عليه قتيبة‏.‏ وسار قتيبة إلى كش ونسف فصالحوه ورجع ولقي أخاه ببخارى وساروا إلى مرو‏.‏ ولما رجع عن الصغد حبس الصغد ملكهم طرخون لإعطائه الجزية وولوا عليهم غورك فقتل طرخون نفسه‏.‏ ثم غزا في سنة اثنتين وتسعين إلى سجستان يريد رتبيل فصالحه وانصرف‏.‏ وكان ملك خوارزم قد غلبه أخوه خراد على أمره وكان أصغر منه وعاث في الرعية وأخذ أموالهم وأهليهم فكتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه ليسلمها إليه على أن يمكنه من أخيه ومن عصاه من دونهم‏.‏ فأجابه قتيبة ولم يطلع الملك أحداً من مرازبته على ذلك‏.‏ وتجهز قتيبة سنة ثلاث وتسعين وأظهر غزو الصغد فأقبل أهل خوارزم على شأنهم ولم يحتفلوا بغزوه وإذا به قد نزل هزار سب قريباً منهم‏.‏ وجاء أصحاب خوارزم شاه إليه يدعوه للقتال‏.‏ فقال ليس لنا به طاقة ولكن نصالحه على شيء نعطيه كما فعل غيرنا‏.‏ فوافقوه وسار إلى مدينة الفيد من وراء النهر وهذا حصن بلاده‏.‏ وصالحه بعشرة آلاف رأس وعين ومتاع وأن يعينه على خام جرد وقيل على مائة ألف رأس‏.‏ وبعث قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى خام جرد وهو عدو لخوارزم شاه فقاتله وقتله عبد الرحمن وغلب على أرضه وأسر منهم أربعة آلاف فقتلهم‏.‏ وسلم قتيبة إلى خوارزم شاه أخاه ومن كان يخالفه من أمرائه فقتلهم ودفع أموالهم إلى قتيبة‏.‏ ولما قبض قتيبة أموالهم أشار عليه المحشر بن مخازم السلمي بغزو الصغد وهم آمنون على مسافة عشرة أيام‏.‏ فقال اكتم ذلك فقدم أخاه الفرسان والرماة وبعثوا بالأثقال إلى مرو وخطب قتيبة الناس وحثهم على الصغد وذكرهم الضغائن فيهم‏.‏ ثم سار فأتى الصغد بعد ثلاث من وصول أخيه فحاصرهم بسمرقند شهراً واستجاشوا ملك الشاش وأخشاد خاقان وفرغانة فانتخبوا أهل النجدة من أبناء الملوك والمرازبة والأساورة وولوا عليهم ابن خاقان وجاؤوا إلى المسلمين فانتخب قتيبة من عسكره ستمائة فارس وبعث بهم أخاه صالحاً لاعتراضهم في طريقهم فلقوهم بالليل وقاتلوهم أشد قتال فهزموهم وقتلوهم وقتلوا ابن خاقان ولم يفلت منهم إلا القليل وغنموا ما معهم ونصب قتيبة المجانيق فرماهم بها وثلم السور واشتد في قتالهم وحمل الناس عليهم إلى أن بلغوا الثلمة‏.‏ ثم صالحوه على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال في كل عام وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس وأن يمكنوه من بناء مسجد بالمدينة ويخلوها حتى يدخل فيصلي فيه‏.‏ فلما فعل ذلك ودخل المدينة أكرههم على إقامة جند فيها‏.‏ وقيل إنه شرط عليهم الأصنام وما في بيوت النار فأعطوه فأخذ الحلية وأحرق الأصنام وجمع من بقايا مساميرها وكانت ذهباً خمسين ألف مثقال‏.‏ وبعث بجارية من سبيها من ولد يزدجرد إلى الحجاج فأرسلها الحجاج إلى الوليد وولدت له يزيد‏.‏ ثم قال فورك لقتيبة انتقل عنا فانتقل وبعث إلى الحجاج بالفتح‏.‏ ثم رجع إلى مرو واستعمل على سمرقند إياس بن عبد الله على حربها وعبيد الله بن أبي عبيد الله مولى مسلم على خراجها فاستضعف أهل خوارزم إياساً وجمعوا له فبعث قتيبة عبد الله عاملاً على سمرقند وأمره أن يضرب إياساً وحبايا السطي مائة مائة ويخلعهما‏.‏ فلما قرب عبد الله من خوارزم مع المغيرة بن عبد الله فبلغهم ذلك وخشي ملكهم من أبناء الذين كان قتلهم ففر إلى بلاد الترك‏.‏ وجاء المغيرة فقتل وسبى وصالحه الباقون على الجزية ورجع إلى قتيبة فولاه على نيسابور‏.‏ ثم غزا قتيبة سنة أربع وتسعين إلى ما وراء النهر وفرض البعث على أهل بخارى وكش ونسف وخوارزم فسار منهم عشرون ألف مقاتل فبعثهم إلى الشاش‏.‏ وسار هو إلى خجندة فجمعوا له واقتتلوا مراراً كان الظفر فيها للمسلمين وفتح الجند الذين ساروا إلى مدينة الشاش وأحرقوها ورجعوا إلى قتيبة وهو على كشان مدينة فرغانة وانصرف إلى مرو‏.‏ ثم بعث الحجاج إليه جيشاً من العراق وأمره بغزو الشاش فسار لذلك وبلغه موت الحجاج فرجعوا إلى مرو‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:19 PM

خبر يزيد بن المهلب وإخوته
كان الحجاج قد حبس يزيد وإخوته سنة ست وثمانين وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان فأقاموا في محبسهم إلى سنة تسعين وبلغه أن الأكراد غلبوا على فارس فعسكر قريباً من البصرة للبعث وأخرج معه بني المهلب وجعلهم في فسطاط قريباً منه ورتب عليهم الحرس من أهل الشام‏.‏ ثم طلب منهم ستة آلاف ألف وأمر بعذابهم وبكت أختهم هند بنت المهلب زوجة الحجاج فطلقها‏.‏ ثم كف عنهم وجعل يستأدبهم وبعثوا إلى أخيهم مروان وكان على البصرة أن يعد لهم خيلاً وكان حبيب منهم يعذب بالبصرة‏.‏ فصنع يزيد للحرس طعاماً كثيراً وأمر لهم بشراب فآقاموا يتعاقرون واستغفلهم يزيد والمفضل وعبد الملك وخرجوا ولم يفطنوا لهم‏.‏ ورفع الحرس خبرهم إلى الحجاج فخشيهم على خراسان وبعث البريد إلى قتيبة ليخبرهم ليحذرهم وكان يزيد قد ركب السفن إلى البطائح واستقبلته الخيل المعدة له هناك وساروا إلى الشام على السماوة ومعهم دليل من كلب‏.‏ ونمي خبرهم فبعث إلى الوليد بذلك وقدموا إلى فلسطين فنزلوا على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي وكان كريماً على سليمان فأخبره بحالهم وأنهم استجاروا به من الحجاج فقال ائتني بهم فقد أجرتهم‏.‏ وكتب الحجاج إلى الوليد أن بني المهلب خانوا مال الله وهربوا مني فلحقوا بسليمان فسكن ما به لأنه كان خشيهم على خراسان كما خشيهم الحجاج وكان غاضباً للمال الذي ذهبوا به‏.‏ فكتب سليمان إلى الوليد أن يزيداً عندي وقد أمنته وكان الحجاج أغرمه ستة آلاف ألف فأد نصفها وأنا أؤدي النصف‏.‏فكتب الوليد لا أؤمنه حتى تبعث به فكتب سليمان لأجيئن معه فكتب الوليد إذن لا أؤمنه‏.‏ فقال يزيد لسليمان لا يتشاءم الناس بي لكما فاكتب معي وتلطف ما أطقت فأرسله وأرسل معه ابنه أيوب وكان الوليد أمر أن يبعث مقيداً‏.‏ فقال سليمان لابنه ادخل على عمك أنت ويزيد في سلسلة‏.‏ فقال الوليد لما رأى ذلك لقد بلغنا من سليمان‏.‏ ثم دفع أيوب كتاب أبيه بالشفاعة وضمان المال عن يزيد فقرأه الوليد واستعطفه أيوب في ذمة أبيه وجواره وتكلم يزيد واعتذر فأمنه الوليد ورجع إلى سليمان وكتب الوليد إلى الحجاج بالكف عنهم فكف عن حبيب وأبي عبسة وكانا عنده وأقام يزيد عند سليمان يهدي إليه الهدايا ويصنع له الأطعمة‏.‏

ولاية خالد القسري علي مكة وإخراج سعيد بن جبير عنها ومقتله
ولما كان في سنة ثلاث وتسعين كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد يقص عليه أفعال الحجاج بالعراق وما هم فيه من ظلمه وعدوانه فبلغ بذلك الحجاج فكتب إلى الوليد‏:‏ إن كثيراً من المراق وأهل الشقاق قد انجلوا عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة ومنعهم عمر وأصابه من ذلك وهن‏.‏ فولى الوليد على مكة خالد بن عبد الله القسري وعثمان بن حيان بإشارة الحجاج وعزل عمر عن الحجاز وذلك في شعبان من السنة‏.‏ ولما قدم خالد مكة أخرج من كان بها من أهل العراق كرهاً وتهدد من أنزل عراقياً أو أجره داراً وكانوا أيام عمر بن عبد العزيز يلجأ إلى مكة والمدينة كل من خاف الحجاج فيأمن‏.‏ وكان منهم سعيد بن جبير هارباً من الحجاج وكان قد جعله على عطاء الجند الذين وجههم مع عبد الرحمن بن الأشعث إلى قتال رتبيل‏.‏ فلما خرج عبد الرحمن كان سعيد فيمن خلع فكان معه إلى أن هزم وسار إلى بلاد رتبيل فلحق سعيد بأصبهان وكتب الحجاج فيه إلى عماملها فتحرج من ذلك ودس إلى سعيد فسار إلى أذربيجان‏.‏ ثم طال عليه المقام فخرج إلى مكة فكان بها مع ناس أمثاله من طلبة الحجاج يستخفون بأسمائهم‏.‏ فلما قدم خالد بن عبد الله مكة أمره الوليد بحمل أهل العراق إلى الحجاج فأخذ سعيد بن جبير ومجاهداً وطلق بن حبيب وبعث بهم إلى الحجاج فمات طلق في الطريق وجيء بالآخرين إلى الكوفة وأدخلا على الحجاج‏.‏ فلما رأى سعيداً شتم خالداً القسري على إرساله وقال‏:‏ لقد كنت أعرف أنه بمكة وأعرف البيت الذي كان فيه ثم أقبل على سعيد وقال‏:‏ ألم أشركك في أمانتي‏.‏ ألم أستعملك‏.‏ ثم تفعل يعدد أياديه عنده‏.‏ فقال‏:‏ بلى قال‏:‏ فما أخرجك على قتالي أنا امرؤ من المسلمين أخطىء مرة وأصيب أخرى‏.‏ ثم استمر في محاورته فقال‏:‏ إنما كانت بيعـة فـي عنقـي فغضـب الحجـاج وقـال‏:‏ ألـم آخـذ بيعتك لعبد الملك بمكة بعد مقتل ابن الزبير ثم جـددت لـه البيعـة بالكوفـة فأخـذت بيعتـك ثانيـاً قـال‏:‏ بلـى قـال‏:‏ فنكثـت بيعتيـن لأميـر المؤمنيـن وتوفـي بواحدة للفاعل ابن الفاعل والله لأقتلنك‏.‏ فقال‏:‏ إني لسعيد كما سمتني أمي فضربت عنقه فهلـل رأسـه ثلاثـاً أفصـح منهـا بمرة‏.‏ ويقال إن عقل الحجاج التبس يومئذ وجعل يقول قيودنا قيودنا فظنوها قيود سعيد بن جبير فأخذوها من رجليه وقطعوا عليها ساقيه وكان إذا نام يرى سعيد بن جبير في منامه آخـذاً بمجامـع ثوبـه يقـول‏:‏ يـا عـدو اللـه فيـم قتلتنـي فينتبـه مرعوبـاً يقـول مـا لـي ولسعيد بن جبير‏.‏

وفاة الحجاج
وتوفـي الحجـاج فـي شـوال سنـة خمس وتسعين لعشرين سنة من ولايته العراق ولما حضرته الوفاة استخلف على ولايته ابنه عبد الله وعلى حرب الكوفة والبصرة يزيد بن أبي كبشة وعلى خراجهمـا يزيـد بـن أبـي مسلـم فأقرهـم الوليـد بعـد وفاتـه‏.‏ وكتـب إلـى قتيبـة بن مسلم بخراسان‏:‏ قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجهدك وجهادك أعداء المسلمين وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الـذي تحـب فأتمـم مغازيـك وانتظر ثواب ربك ولا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك حتى كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت فيه ولم يغير الوليد أحداً من عمال الحجاج‏.‏

أخبار محمد بن القاسم بالسند
كـان محمـد بـن القاسم بالملتان وأتاه خبر وفاة الحجاج هنالك فرجع إلى الدور والثغور وكان قد فتحها ثم جهزه الناس إلى السلماس مع حبيب فأعطوا الطاعة وسالمه أهل شرست وهي مغـزى أهـل البصـرة وأهلهـا يقطعـون فـي البحـر‏.‏ ثم سار في العسكر إلى فخرج إليه دوهر فقاتله محمـد وهزمـه وقتلـه ونـزل أهـل المدينـة علـى حكمـه فقتـل وسبـا‏.‏ ولـم يزل عاملاً على السند إلى أن ولـي سليمـان بـن عبـد الملـك فعزلـه وولـى يزيـد بـن أبـي كبشـة السكسكـي علـى السنـد مكانه‏.‏ فقيده يزيد وبعث به إلى العراق فحبسه صالح بن عبد الرحمن بواسط وعذبه في رجال من قرابة الحجـاج على قتلهم‏.‏ وكان الحجاج قتل أخاه آدم على رأي الخوارج‏.‏ ومات يزيد بن أبي كبشة لثمان عشرة ليلة من مقدمه‏.‏فولى سليمان على السند حبيب بن المهلب فقدمها وقد رجع ملوك السند إلى ممالكهم ورجع حبشة بن داهر إلى برهماباذ فنزل حبيب على شاطىء مهران وأعطاه أهل الروم الطاعـة وحارب فظفر ثم أسلم الملوك لما كتب عمر بن عبد العزيز إلى الإسلام على أن يملكهم وهم أسـوة المسلميـن فيمـا لهـم وعليهـم فأسلـم حبشـة والملـوك وتسمـوا بأسمـاء العرب وكان عمر بن مسلم الباهلـي عامـل عمـر علـى ذلـك الثغـر فغـزا بعـض الهنـد وظفـر‏.‏ ثـم ولـى الجنيـد بـن عبد الرحمن على السنـد أيـام هشـام بـن عبـد الملـك فأتـى شـط مهـران‏.‏ ومنعـه حبشة بن داهر العبور وقال‏:‏ إني قد أعملت وولاني الرجل الصالح ولست آمنك فأعطاه الرهـن ثـم ردهـا حبشـة وكفـر وحـارب فحاربه الجنيد في السفن وأسره ثم قتله‏.‏وهرب صصة بن داهر إلى العراق شاكياً لغدر الجنيد فلم يزل يؤنسه حتى جاءه فقتله‏.‏ ثم غـزا الجنيـد المكيـرج مـن آخر الهند وكانوا انقضوا فاتخذ كباشاً زاحفة ثم صك بها سور المدينة فثلمهـا ودخـل فقتـل وسبـى وغنـم وبعـث العمال إلى المرمد والمعدل ودهج وبعث جيشاً إلى أرين فأغاروا عليها وأحرقوا ربضها وحصل عنده سوى ما حمل أربعون ألف ألف وحمل مثلهـا وولـى تميـم بـن زيـد الضبـي فضعـف ووهـن ومـات قريباً من الدبيل‏.‏ وفي أيامه خرج المسلمون عن بلـاد الهنـد وتركـوا مراكزهـم‏.‏ ثم ولي الحكم ابن سوام الكلبي وقد كفر أهل الهند إلا أهل قصة فبنـى مدينـة سماها المحفوظة وجعلها مأوى المسلمين‏.‏ وكان معه عمر بن محمد بن القاسم وكان يفوض إليه عظائم الأمور وأغزاه عن المحفوظة‏.‏ فلما قدم وقد ظهر أمره فبنى مدينة وسماها المنصورة وهي التي كان أمراء السند ينزلونها واستخلص ما كان غلب عليه العدو ورضي الناس بولايته‏.‏ ثم قتل الحكم وضعفت الدولة الأموية عن الهند وتأتي أخبار السند في دولة المأمون‏.‏ فتح مدينة كاشغر أجمـع قتيبـة لغزو مدينة كاشغر سنة ست وتسعين وهي أدنى مدائن الصين فسار لذلك وحمل مع الناس عيالاتهم ليضعها بسمرقند وعبر النهر وجعل على المجاز مسلحة يمنعون الراجع من العساكر إلا بإذنه‏.‏ وبعث مقدمة إلى كاشغر فغنموا وسبوا وختم أعناق السبي وأوغل حتى قـارب الصيـن‏.‏ فكتـب إليـه ملـك الصيـن يستدعـي مـن أشـراف العـرب مـن يخبره عنهم وعن دينهم‏.‏ فانتخـب قتيبـة عشـرة مـن العـرب كـان منهم هبيرة بن شمرج الكتابي وأمر لهم بعدة حسنة ومتاع من الخز والوشي وخيول أربعة وقال لهم أعلموه أني حالف إني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم‏.‏ ولما قدموا على ملك الصين دعاهم في اليوم الأول فدخلوا وعليهم الغلائل والأردية وقـد تطيبـوا ولبسـوا النعـال فلـم يكلمهـم الملـك ولا أحـد ممـن حضـره وقالوا بعد انصرافهم هؤلاء نسوان‏.‏ فلبسوا الوشي والمطارف وعمائم الخز وغدوا عليه فلم يكلمهـم وقالـوا هـذه أقـرب إلـى هيئـة الرجال‏.‏ ثم دعاهم الثالثة فلبسوا أسلاحهم وعلى رؤوسهم البيضـات والمغافـر وتوشحـوا السيـوف واعتقلـوا الرمـاح ونكبـوا القسـي فهالهـم منظرهم‏.‏ ثم انصرفـوا وركبـوا فتطـاردوا فعجـب القـوم منهـم‏.‏ ثـم دعـا زعيمهـم هبيرة بن شمرج فسأله لم خالفوا في زيهم فقال‏:‏ أما الأول فإنا نساء في أهلنا وأما الثاني فزينا عند أمرائنا وأما الثالث فزينا لعدونا‏.‏ فاستحسن ذلك ثم قال له‏:‏ قد رأيتم عظم ملكي وأنه ليس أحد يمنعكم مني وقد عرفـت قلتكـم فقولـوا لصاحبكـم ينصـرف وإلا بعثـت مـن يهلككـم‏.‏ فقال هبيرة كيف نكون في قلة وأول خيلنـا فـي بلـادك وآخرهـا فـي منابـت الزيتـون وأما القتل فلسنا نكرهه ولا نخافه ولنا آجال إذا حضرت فلن نتعداها وقد حلف صاحبنا أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويأخذ جزيتكم‏.‏ قال الملك فإنا نخرجه من يمينه نبعث له بتراب من أرضنا فيطؤه ويقبض أبناءنا فيختمهم وبهدية ترضيه ثم أجازهم فأحسن‏.‏ وقدموا على قتيبة فقبل الجزية ووطىء التراب وختم الغلمان وردهم ثم انصرف من غداته‏.‏ وأوفد هبيرة إلى الوليد وبلغه وهو في الفرات موت الوليد‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:21 PM

وفاة الوليد وبيعة سليمان
ثـم توفـي الوليـد فـي منتصـف جمـادى الأخيرة من سنة ست وتسعين وصلى عليه عمر بن عبد العزيز وكان من أفضل خلفاء بني أمية وبنى المساجد الثلاثة‏.‏ مسجد المدينة ومسجد القدس ومسجد دمشق‏.‏ ولمـا أراد بنـاء مسجـد دمشـق كانـت فـي موضعـه كنيسـة فهدمهـا وبناهـا مسجـداً‏.‏ وشكوا ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال‏:‏ نرد عليكم كنيستكم ونهم كنيسة توما فإنها خارج المدينة مما فتح عنوة ونبنيها مسجداً فتركوا ذلك‏.‏ وفتح في ولايته الأندلس وكاشغر والهند وكان يتخذ الضياع وكان متواضعًا يمر بالبقال فيسأله بكم حزمة البقل ويسعر عليه‏.‏ وكان يختم القرآن في ثلـاث وفـي رمضـان فـي يوميـن وكـان أراد أن يخلـع أخـاه سليمـان وبايـع لولـده عبـد العزيـز فأبـى سليمـان فكتـب إلى عماله ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه إلا الحجاج وقتيبة وبعض خواصه‏.‏ واستقدم سليمان ثم استبطأه فأجمع السير إليه ليخلعه فمرت دون ذلك‏.‏ ولما مات بويـع سليمـان مـن يومـه وهـو بالرملـة فعـزل عثمان بن حيان من المدينة آخر رمضان وولى عليها أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعزل ولاة الحجاج عن العراق فولى يزيد بن المهلب على المصريـن وعـزل عنهمـا يزيـد بن أبي مسلم‏.‏ فبعث يزيد أخاه زياداً على عمان وأمر سليمان يزيد بـن المهلـب بنكبـة آل أبـي العقيـل قـوم الحجـاج وبني أبيه وبسط أصناف العذاب عليهم فولى على ذلك عبد الملك بن المهلب‏.‏

مقتل قتيبة بن مسلم
ولمـا ولي سليمان خافه قتيبة لما قدمناه من موافقته الوليد على خلعه فخشي أن يولي يزيد بن المهلب خراسان فأجمع خلعه وكتب إليه لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمني لأخلعنك ولأملأنها عليك خيلاً ورجلاً فأمنه وكتب له العهد على خراسان‏.‏ وبعث إليه رسوله بذلك فبعـث الرسـول وهـو بحلوان أنه قد خلع وكان هو بعد بعثة كتاب إلى سليمان قد اشتد وجله وأشار عليه أخوه عبد الله بالمعاجلة فدعا الناس إلى الخلع وذكرهم بوائقه وسوء ولاية من تقدمـه فلـم يجبـه أحـد فغضـب وشتمهـم وعدد مثالبهم قبيلة قبيلة فأثنى على نفسه بالأب والبلد والمعشر‏.‏ فغضب الناس وكرهوا خلع سليمان وأجمعوا على خلع قتيبة وخلافه‏.‏ وعذل قتيبة أصحابه فيما كان منه فقال‏:‏ لما لم تجيبوني غضبت فلم أدر ماقلت‏.‏وجـاء الـأزد إلى حضين بن المنذر ‏"‏ بالضاد المعجمة ‏"‏ فقالوا‏:‏ كيف ترى هذا يدعو إلى فساد الدين ويشتمنا فعرف مغزاهم فقال‏:‏ إن مضر بخراسان كثير وتميم أكثرهم وهـم شوكتهـا ولا يرضون بغيرهم فيصيبوا قتيبة ولا أرى لها إلا وكيعاً‏.‏ وكان وكيع موثقاً من قتيبة بعزله وولاية ضـرار بـن حصيـن الضبـي مكانـه‏.‏ وقـال حيـان النبطـي مولـى بنـي شيبـان ليـس لهـا غيـر وكيـع ومشـى النـاس بعضهـم إلـى بعـض سـراً وتولى كبر ذلك حيان‏.‏ ونمي خبره إلى قتيبة فأمر بقتله إذا دخل عليه وتنصح بعض خدم قتيبة بذلك إلى حيان فلما دعاه تمارض واجتمع الناس إلى وكيع وبايعـوه‏.‏ فمـن أهـل البصرة والعالية من المقاتلة تسعة آلاف ومن بكر سبعة آلاف رئيسهم حضين بن المنذر ومن تميم عشرة آلاف عليم ابن زخر ومن الموالي سبعة آلاف عليهم حيان النبطي وقيل من الديلم وسمي نبطياً للكنته‏.‏ وشرط على وكيع أن يحول له الجانب الشرقي من نهر بلخ فقبل وفشا الخبر وبلغ قتيبة فدس ضـرار بـن حيـان الضبـي إلـى وكيـع فبايعـه وجـاء إلـى قتيبة بالخبر فأرسل قتيبة إلى وكيع فاعتذر بالمـرض فقال لصاحب شرطته ائتني به وإن أبى ائتني برأسه فلما جاء وكيع ركب ونادى في الناس فأتوه أرسالاً‏.‏ واجتمع إلى قتيبة أهل بيته وخواصه وثقاته وبنو عمه وأمر فنودي في النـاس قبيلـةً قبيلـةً وأجابـوه بالجفـوة‏.‏ يقـول أيـن بنو فلان فيقولون حيث وضعتهم فنادى بأذكركم الله والرحم فقالوا أنت قطعتها فنادى لكم العتبى فقالوا لا إنا لنا الله إذاً‏.‏ فدعا ببرذون ليركبه فمنعـه ورمحـه فعـاد إلـى سريـره‏.‏ وجـاء حيـان النبطـي فـي العجـم فأمـره عبـد اللـه أخـو قتيبـة أن يحمل على القوم فاعتذر وقال لابنه إذا لقيتني حولت قلنسوتي فمل بالأعاجم إلى وكيع ثم حولها وسار بهم ورمى صالح أخو قتيبة بسهم فحمل إلى أخيه‏.‏ ثم تهايج الناس وجاء إلى عبد الرحمـن أخـي قتيبـة الغوغـاء ونحوهـم فأحرقـوا آرياً فيه إبل قتيبة ودوابه ثم زحفوا به حتى بلغوا فسطاطـه فقطعـوا أطنابـه وجـرح جراحـات كثيرة‏.‏ ثم قطعوا رأسه وقتل معه إخوته عبد الرحمن وعبـد اللـه وصالـح وحصيـن وعبـد الكريم ومسلم وابنه كثير وقيل قتل عبد الكريم بقزوين فكان عدة من قتل من أهله أحد عشر رجلاً ونجا أخوه عمر مع أخواله من تميم‏.‏ ثم صعد وكيع المنبر وأنشد الشعر في الثناء على نفسه وفعله والذم من قتيبة ووعد‏.‏ بحسن السيرة وطلب رأس قتيبة وخاتمه من الأزد وهددهم عليه فجاؤوا به فبعثه إلى سليمان ووفى وكيع لحيان النبطي بما ضمن له‏.‏ كان يزيد بن المهلب لما ولاه سليمان العراق على الحرب والصلاة والخراج استكـره أن يحيـف على الناس في الخراج فتلحقه المذمة كما لحقت الحجاج ويخرب العراق وإن قصر عن ذلك لم يقبل منه‏.‏ فرغب من سليمان أن يعفيه من الخراج وأشار عليه بصالح بن عبد الرحمن مولى تميم‏.‏ فولاه سليمان الخراج وبعثـه قبـل يزيـد‏.‏ فلمـا جـاء صالـح إلـى يزيـد ضيـق عليـه صالـح وكـان يزيـد يطعم على ألف خوان‏.‏ فاستكثرها صالح فقال اكتب ثمنها علي وغير ذلك‏.‏ وضجر يزيد‏.‏ وجـاء خبـر خراسـان ومقتـل قتيبـة فطمع يزيد في ولايتها ودس عبد الله بن الأهتم على سليمان أن يوليه خراسان ولا يشعر بطلبته بذلك وسيره على البريد فقال له سليمان إن يزيد كتب إلي يذكر عملك بالعراق فقال نعم بها ولدت وبها نشأت‏.‏ ثـم استشـاره فيمـن يوليـه خراسـان‏.‏ ولم يزل سليمان يذكر الناس وهو يردهم ثم حذره من وكيع وغدره قال‏:‏ فسم أنت قال شريطة الكمال الإجازة ممن أشير به وإذا علم بكره ذلك‏.‏ ثم قال هو يزيد بن المهلب فقال سليمان العراق أحب إليه فقال ابن الأهتم‏:‏ قد علمت ولكن نكرهه فيستخلف على العراق ويسير إلى خراسان فكتب عهد يزيد على خراسان وبعثه مع ابن الأهتم‏.‏ فلما جاءه بعث ابنه مخاداً على خراسان وبعثه مـع ابـن الأهتـم‏.‏ ثـم سـار بعـده واستخلف على واسط الجراح بن عبد الله الحكمي وعلى البصرة ابن عبد الله بن هلـال الكلابـي وعلـى الكوفـة حرملـة بن عبد اللخمي‏.‏ ثم عزله لأشهر بشير بن حيان النهدي فكانت قيس تطلـب بثـأر قتيبـة وتزعـم أنـه لـم يخلـع‏.‏ فأوصـى سليمـان يزيـد أن أقامـت قيـس بينـة أنـه لـم يخلـع أن يقيده من وكيع‏.‏الصوائف أخبار الصوائف وحصار قسطنطينية كانت الصوائف تعطلت من الشام منذ وفاة معاوية وحدوث الفتن واشتدت الفتن أيام عبـد الملك اجتمعت الروم واستجاشوا على أهل الشام فصالح عبد الملك صاحـب قسطنطينيـة على أن يؤدي إليه كل يوم جمعة ألف دينار خشية منه على المسلمين ونظراً لهم وذلك سنة سبعين لعشر سنين من وفاة معاوية‏.‏ ثم لما قتل مصعب وسكنت الفتنة بعث الجيوش سنة إحـدى وسبعيـن فـي الصائفـة‏.‏ فدخـل فافتتـح قيساريـة ثـم ولـى علـى الجزيـرة وأرمينيـة أخـاه محمـد بـن مروان سنة ثلاث وسبعين فدخل في الصائفة إلى بلاد الروم فهزمهم‏.‏ ودخل عثمان بن الوليد مـن ناحيـة أرمينيـة فـي أربعـة آلـاف ولقيـه الـروم فـي ستيـن ألفاً فهزمهم وأثخن فيهم بالقتل والأسر‏.‏ ثم غزا محمد بن مروان سنة أربع وسبعيـن فبلـغ أنبوليـة وغـزا فـي السنـة بعدهـا فـي الصائفـة مـن طريـق مرعـش فـدوخ بلادهـم وخـرج الروم في السنة بعدها إلى العتيق فغزاهم من ناحية مرعش ثانية ثـم غزاهـم سنـة سـت وسبعيـن مـن ناحيـة ملطيـة ودخـل فـي الصائفة سنة سبع وسبعين الوليد بن عبد الملك فأثخن فيهم ورجع‏.‏وجاء الروم سنة تسع وسبعين فأصابوا من أهل أنطاكية وظفروا بهم فبعث عبد الملك سنة إحـدى وثمانيـن ابنـه عبيـد اللـه بالعسكـر ففتـح قاليقـلا‏.‏ ثـم غـزا محمد بن مروان سنة اثنتين وثمانين أرمينية وهزمهم فسألوه الصلح فصالحهم وولى عليهم أبا شيخ بن عبد الله فغدروه وقتلوه فغزاهم سنة خمس وثمانين‏.‏ وصاف فيها وشتى ثم غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ودوخهـا ورجـع وعـاد إليهـا سنـة سبع وثمانين‏.‏ فأثخن فيهم بناحية المصيصة وفتح حصوناً كثيرة منها حصن بولق والأحزم وبولس وقمقيم‏.‏ وقتل من المستقربة ألف مقاتل وسبى أهاليهم‏.‏ ثم غـزا بلـاد الروم سنة تسع وثمانين مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد فافتتح مسلمة حصن سورية وافتتح أردولية ولقي جمعاً من الروم فهزمهم‏.‏وقيل‏:‏ إن مسلمة قصد عمورية فلقي بها جمعاً من الروم فهزمهم وافتتح هرقلة وقمولية وغزا العباس الصائفة من ناحية البلد بدون‏.‏ وغزا مسلمة بن عبد الملك الترك سنة تسع وثمانين من ناحية أذربيحان ففتح حصوناً ومدائن هناك‏.‏ ثم غزا سنة تسعين ففتح الحصون الخمس التي وفـي سنـة إحـدى وتسعيـن غـزا عبـد العزيـز بن الوليد في الصائفة مع مسلمة بن عبد الملك وكان الوليد قد ولى مسلمة على الجزيرة وأرمينية وعزل عمه محمد بن مروان عنها فغزا الترك من ناحية أذربيجان حتى الباب وفتح مدائن وحصوناً ثم غزا سنة اثنتين وتسعين بعدها ففتح ثلاثـة حصـون وجـلا أهـل سرسنـة إلـى بلـاد الـروم ثم غزا العباس بن الوليد سنة ثلاث بعدها بلاد الروم ففتح سبيطلة وغزا مروان بن الوليد فبلغ حنجرة‏.‏ وغزا مسلمة ففتح ماشية وحصن الحديـد وغزالـة مـن ناحيـة ملطيـة‏.‏ وغـزا العبـاس بـن الوليـد سنة أربع وتسعين ففتح أنطاكية‏.‏ وغزا عبـد العزيـز بـن الوليـد ففتـح غزالـة وبلـغ الوليـد بن هشام المعيطي مروج الحمام ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية‏.‏ وفـي سنـة خمـس وتسعين غزا العباس الروم ففتح هرقلة‏.‏ وفي سنة سبع وتسعين غزا مسلمة أرض الرضاخية وفتح الحصن الذي فتحه الرصاع وغزا عمر بن هبيرة أرض الروم في البحر فشتـى بهـا وبعـث سليمـان بـن عبـد الملـك الجيـوش إلى القسطنطينية وبعث ابنه داود على الصائفة ففتح حصن المراة وفي سنة ثمان وتسعين مات ملك الروم فجاء ألقون إلى سليمان فأخبره وضمن له فتح الروم وسار سليمان إلى وابق وبعث الجيوش مع أخيه مسلمة ولما دنا مـن القسطنطينية أمر أهل المعسكر أن يحمل كل واحد مدين مدين من الطعام ويلقوه في معسكرهم فصار أمثال الجبال واتخذ البيوت من الخشب‏.‏ وأمر النـاس بالزراعـة وصـاف وشتـى وهـم يأكلون من زراعتهم وطعامهم الذي استاقوه مدخراً‏.‏ثم جهد أهل القسطنطينية الحصار وسألوا الصلح على الجزية ديناراً على الرأس فلم يقبـل مسلمة وبعث الروم إلى ألقون إن صرفت عنا المسلمين ملكناك فقال لمسلمة لو أحرقت هذا الزرع علم الروم أنك قصدتهم بالقتال فنأخذهم باليد وهم الآن يظنون مع بقاء الزرع أنـك تطاولهم فأحرق الزرع فقوي الروم وغدر ألقون وأصبح محارباً وأصاب النـاس الجـوع فأكلـوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وسليمان مقيم بوابق وحال الشتاء بينهم وبينه فلـم يقـدر أن يمدهـم حتـى مات‏.‏ وأغارت برجان على مسلمة وهو في قلة فهزمهم وفتح مدينتهم‏.‏ وغزا في هذه السنة الوليد بن هشام فأثخن في بلاد الروم‏.‏وغزا داود بن سليمان سنة ثمان وتسعين ففتح حصن المراة مما يلي ملطية‏.‏ وفي سنة تسع وتسعيـن بعث عمر بن عبد العزيز مسلمة وهو بأرض الروم وأمده بالنفول بالمسلمين وبعث إليه بالخيـل والـدواب وحـث النـاس علـى معونتهـم‏.‏ ثـم أمـر عمـر بـن عبـد العزيـز أهل طريدة بالجلاء عنها إلـى ملطيـة وخربهـا‏.‏ وكـان عبـد اللـه بـن عبـد الملـك قد أسكنها المسلمين وفرض على أهل الجزيرة مسلحـةً تكـون عندهـم إلـى فصل الشتاء وكانت متوغلة في أرض الروم فخربها عمر وولى على ملطيـة جعونـة بـن الحـارث مـن بنـي عامـر بـن صعصعـة‏.‏ وأغزى عمر سنة مائة من الهجرة بالصائفة الوليد بن هشام المعيطي وعمر بن قيس الكندي‏.‏

فتح جرجان وطبرستان
كان يزيد بن المهلب يريد فتحهما لما أنهما كانتا للكفار وتوسطتا بين فارس وخراسان ولـم يصبهما الفتح وكان يقول وهو في جوار سليمان بالشام إذا قصت عليه أخبار قتيبة وما يفعله بخراسان وما وراء النهر ما فعلت جرجان التي قطعت الطريق وأفسـدت يوسـس ونيسابـور وليسـت هـذه الفتـوح بشـيء والشـأن فـي جرجـان‏.‏ فلما ولاه سليمان خراسان سار إليها في مائة ألف من أهل العراق والشام وخراسان سوى الموالي والمتطوعة ولم تكن جرجان يومئذ مدينة إنما هي جبال ومخارم يقوم الرجل على باب منها فيمنعه‏.‏ فابتدأ بقهستان فحاصرها وبها طائفـة مـن التـرك فكانوا يخرجون فيقاتلون وينهزمون في كل يوم ويدخلون حصنهم‏.‏ ولم يزل على ذلـك حتـى بعـث إليـه دهقـان بتستـاذن يسـأل في الصلح ويسلم المدينة وما فيها فصالحه وأخذ ما فيها من الأموال والكنوز والسبي ما لا يحصى وقتل أربعة عشر ألفاً من التـرك وكتـب إلـى سليمان بذلك‏.‏ثم سار إلى جرجان وكان سعيد بن العاصي قد صالحهم على الجزية مائة ألف في السنة فكانوا أحياناً يجبون مائة وأحياناً مائتين وأحياناً ثلثمائة وربما أعطوا ذلك وربما منعوا ثم كفروا ولم خراجاً ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد ومنعوا الطريق إلى خراسان على فكان الناس يسلكـون علـى فـارس وسلماس‏.‏ ثم فتح قتيبة طريق قومس وبقي أمر جرجان حتى جاء يزيد فصالحوه‏.‏ ولما فتح يزيد قهستان وجرجان طمع في طبرستان فاستعمل عبد الله بن معمر اليشكري على ساسان وقهستان وخلف معه أربعة آلاف فارس وسار إلى أدنى جرجان من جهة طبرستان ونزل بآمد‏.‏ ونسا راشد بن عمر في أربعة آلاف ودخل بلاط طبرستان فسأل صاحبها الأصبهبذ في الصلح وأن يخرج من طبرستان‏.‏ فأبى يزيد ورجا أن يفتحها ووجه أخاه عيينة من وجه وابنه خالد بن زيد من وجه وإذا اجتمعا فعيينة على الناس‏.‏ واستجاش الأصبهبذ أهـل جيلـان والديلم والتقوا فانهـزم المشركـون واتبعهـم المسلمـون إلـى الشعـب وصعـد المشركـون فـي الجبـل فامتنعوا على المسلمين وصعد أبو عيينة بمن معه خلفهم فهزمهم المشركون في الوعر فكفوا‏.‏ وكاتب الأصبهبذ أهل جرجان ومقدمهم المرزبان أن يبيتوا للمسلمين عندهم ليقطعوا المادة عن يزيد والطرق بينه وبين جرجان ووعدهم بالمكافأة على ذلك‏.‏ فساروا بالمسلمين وهم غارون وقتل عبد الله بن معمر وجميع من معه ولم ينج أحد‏.‏ وكتبوا إلى الأصبهبذ بأخذ المضايق والطرق وبلغ ذلك يزيد وأصحابه فعظم عليهم وهالهم وفزع يزيد إلى حيان النبطي وكان قد غرمـه مائتـي ألـف درهـم بسبـب أنـه كتـب إلـى ابنـه مخلـد كتابـاً فبـدأ بنفسـه فقـال لـه لا يمنعـك ما كان منـي إليـك مـن نصيحـة المسلميـن وقـد علمـت مـا جـاء من جرجان فاعمل في الصلح‏.‏ فأتى حيان الأصبهبذ ومت إليه بنسب العجم وتنصل له وفتل له في الذروة والغارب حتى صالحه على سبعمائة ألف درهم وأربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين وأربعمائة رجل على يد كل رجـل منهـم ترس وطيلسان وجام من فضة وخرقة حرير وكسوة فأرسل يزيد لقبض ذلك ورجع اه‏.‏وقيـل فـي سبـب مسيـر يزيد إلى جرجان أن صولاً التركي كان على قهستان والبحيرة جزيرة في البحر على خمسة فراسخ من قهستان وهما من جرجان مما يلي خوارزم وكان يغيـر علـى فيـروز بـن فولفـول مرزبـان جرجـان‏.‏ وأشـار فيـروز بنصيـب مـن بلاده فسار فيروز إلى يزيد هارباً منه وأخذ صول جرجان وأشار فيروز على يزيد أن يكتب إلى الأصبهبذ وبرغبه في العطاء إن هو حبس صولاً بجرجان حتى يحاصر بها ليكون ذلك وسيلة إلى معاكسته وخروجه عن جرجـان فيتمكـن يزيـد منـه‏.‏ فكتـب إلـى الأصبهبـذ وبعـث بالكتـاب إلـى صول فخرج من جينه إلى البحيرة‏.‏ وبلغ يزيد الخبر فسار إلى جرجان ومعه فيروز واستخلف على خراسان ابنه مخلداً وعلى سمرقند وكش ونسف وبخارى ابنه معاوية وعلى طخارستان ابن قبيصة بن المهلب وأتـى جرجـان فلـم يمنعـه دونها أحد ودخلها‏.‏ ثم سار منها إلى البحيرة وحصر صولاً بها شهراً حتى سأل الصلح على نفسه وماله وثلثمائة ويسلم إليه البحيرة فأجابه يزيد وخرج صول عن البحيـرة وقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفاً وأمر إدريس بن حنظلة العمي أن يحصي ما في البحريـة ليعطي الجند فلم يقدر وكان فيها من الحنطة والشعير والأرز والسمسم والعسل شيء كثير ومن والذهب والفضة كذلك‏.‏ ولما صالح يزيد أصبهبذ طبرستان كما قدمناه سار إلى جرجـان عاهـد اللـه إن ظفـر بهم ليطحنن القمح على سائل دمائهم ويأكل منه‏.‏ فحاصرهم سبعه أشهـر وهـم يخرجـون إليـه فيقاتلونـه ويرجعـون وكانـوا متمنعيـن فـي الجبل والأوعار‏.‏ وقصد رجل من عجـم خراسـان فأتبـع بخلاً في الجبل وانتهى إلى معسكرهم وعرف الطريق إليه ودل الأدلة على معالمه وأتى يزيد فأخبره‏.‏ فانتخب ثلثمائة رجل مع ابنه خالد وضم إليه جهم بن ذخر وبعثه وذلك الرجل يدل به وواعده أن يناهضهم العصر من الغداة‏.‏ ولما كان الغد وقت الظهر أحرق يزيـد كـل حطـب عنـده حتـى اضطرمت النيران ونظر العدو إلى النار فهالهم وحاملوا للقتال آمنين خلفهم فناشبهم يزيد إلى العصر وإذا بالتكبير من ورائهم فهربوا إلى حصنهم واتبعهم المسلمون فأعطـوا مـا بأيديهـم ونزلـوا علـى حكـم يزيـد‏.‏ فقتـل المقاتل وسبى الذرية وقاد منهم اثني عشر ألفاً إلى وادي جرجان ومكن أهل الثأر منهم حتى استلحموهم‏.‏ وجرى الماء على الدم وعليه الأرحاء فطحن وخبز وأكل وقتل منهم أربعين ألفاً‏.‏ وبنى مدينة جرجان ولم تكن بنيت قبل ورجـع إلـى خراسـان وولـى علـى جرجـان جهـم بـن ذخر الجعفي ولما قتل مقاتلهم صلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره‏.‏

وفاة سليمان وبيعة عمر بن عبد العزيز
ثـم توفي سليمان بدابق من أرض قنسرين من سنة تسع وتسعين في صفر منها وقد كان في مرضه أراد أن يعهد إلى ولده داود ثم استصغره وقال له كاتبه رجاء بن حيوة ابنك غائب عنـك بقسطنطيينة ولا يعرف حياته من موته فعمل إلى عمر بن عبد العزيز وقال له‏:‏ إني والله لأعلـم أنهـا تكـون فتنـة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده وكان عبد الملك قد جعـل ذلـك لـه وكتـب بعد البسملة‏:‏ هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيـز‏:‏ إني قد وليتك الخلافة بعدي ومن بعدك يزيد بن عبد الملك فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم وختم الكتاب‏.‏ثم أمر كعب بن جابر العبسي صاحب الشرطة أن يجمع أهل بيته وأمر رجاء بن حيوة أن يدفع لهم كتابه وقال‏:‏ أخبرهم أنه كتابي فليبايعوا من وليت فيه فبايعوه رجلاً رجلاً وتفرقوا‏.‏ وأتـى عمـر إلى رجاء يستعمله ويناشده الله والمودة يستعفي من ذلك فأبى‏.‏ وجاءه هشام أيضاً يستعمله ليطلب حقه في الأمر فأبى فانصرف أسفاً أن يخرج من بني عبد الملك‏.‏ ثم مات سليمان وجمع رجاء أهل بيته فقرأ عليهم الكتاب‏.‏ فلما ذكر عمر قال هشام‏:‏ والله لا نبايعه أبـداً‏.‏ فقـال لـه رجـاء‏:‏ واللـه نضـرب عنقك‏.‏ فقام أسفاً يجر رجليه حتى جاء إلى عمر بن عبد العزيز وقد أجلسه رجاء على المنبر وهو يسترجع لما أخطأه فبايعه واتبعـه الباقـون‏.‏ ودفـن سليمان وصلى عليه عمر بن عبد العزيز والوليد كان غائباً عن موت سليمان ولم يعلم بيعة عمـر فعقـد لـواءً ودعا لنفسه وجاء إلى دمشق‏.‏ ثم بلغه عهد سليمان فجاء إلى عمر واعتذر إليه وقال‏:‏ بلغني أن سليمان لم يعهد فخفت على الأموال أن تنهب فقال عمر‏:‏ لو قمت بالأمر لقعـدت فـي بيتي ولم أنازعك فقال عبد العزيز‏:‏ والله لا أحب لهذا الأمر غيرك وأول ما بدأ به عمـر لمـا استقـرت البيعـة أنه رد ما كان لفاطمة بنت عبد الملك زوجته من المال والحلي والجوهر إلـى بيـت المـال‏.‏ وقـال‏:‏ لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد فردته جميعه‏.‏ ولما ولي أخواها يزيـد مـن بعـد رده عليهـا فأبت وقالت‏:‏ ما كنت أعطيه حياً أعطيه ميتاً ففرقه يزيد على أهله‏.‏ وكان بنو أمية يسبون علياً فكتب عمر إلى الآفاق بترك ذلك وكتب إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول بالمسلمين‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:22 PM

عزل يزيد بن المهلب وحبسه والولاية على عماله
ولمـا استقـرت البيعـة لعمـر كتـب فـي سنة مائة إلى يزيد بن المهلب أن يستخلف على عماله ويقدم فاستخلف مخلداً ابنه وقدم من خراسان وقد كان عمر ولى على البصرة عدي بن أرطاة الفزاري وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وضم إليه أبا الزناد فكتب إلى عدي بن أرطاة موسى أن يقبض على يزيد بن المهلب ويبعثه مقيداً فلما نزل يزيد واسـط وركـب السفـن يريـد البصـرة بعـث علـي بـن أرطـاة موسى بن الرحيبة الحميري فلقيه في نهر معقل عند الجسر فقيده وبعث به إلى عمر وكان عمر يبغضه ويقـول إنـه مـراء وأهـل بيتـه جبابرة‏.‏فلمـا طالبـه بالأموال التي كتب بها إلى سليمان من خمس جرجان قال‏:‏ إنما كتبت لأسمع الناس وعلمت أن سليمان لم يكن ليأخذني بذلك‏.‏ فقال له عمر‏:‏ اتق الله هذه حقوق المسلمين لا يسعنـي تركهـا‏.‏ ثم حبسه بحصن حلب وبعث الجراح بن عبد الله الحكمي والياً على خراسان مكانه‏.‏ وانصرف يزيد بن يزيد فقدم على عمر واستعطفه لأبيه وقال له يا أمير المؤمنين إن كانت له بينة فخذ بها وإلا فاستحلفه وإلا فصالحه أو فصالحني على ما تسأل فأبى عمر من ذلـك وشكـر من مخلد ما فعل ثم ألبس يزيد جبة صوف وحمله على جمل وسيره إلى دهلك‏.‏ ومر يزيد على الناس وهو ينادي بعشيره وبالنكير لما فعل به فدخل سلامة بن نعيم الخولاني علـى عمـر وقـال اردد يزيـد إلـى محبسـه لئـلا ينزعـه قومـه فإنهم قد غضبوا فرده إلى أن كان من أمر فزارة ما يذكر‏.‏

ولاية عبد الرحمن بن نعيم القشيري علي خراسان
ولما عزل يزيد عن خراسان وكان عامل جرجان جهم بن ذخر الجعفي فأرسل عامل العراق على جرجان عاملاً مكانه فحبسه جهم وقيده‏.‏ فلما جاء الجراح إلى خراسان أطلق جرجان عاملهـم ونكـر الجـراح علـى جهـم مـا فعـل‏.‏ وقال لولا قرابتك مني ما سوغتك هذا يعني أن جهماً وجعفـاً معـاً ابنـا سعـد العشيـرة‏.‏ ثـم بعـث فـي الغـزو وأوفـد علـى عمـر وفـداً فكلـم فيه بعضهم عمر بأنه يعري الموالي بلا عطاء ولارزق ويؤاخذ من أسلم من أهل الذمة بالخراج‏.‏ ثم عرض بأنه سيـف مـن سيـوف الجـراح قـد علـم بالظلـم والعـدوان فكتـب عمر إلى الجراح انظر من صلى قبلك فخل عنه الجزية فسارع الناس إلى الإسلام فراراً من الجزية فامتحنهم بالختان وكتب إلى عمر ذلك‏.‏فكتب إليه عمران‏:‏ الله بعث محمداً داعياً ولم يبعثه خاتناً واستقدم الجراح وقال‏:‏ احمل معك أبا مخلد واستخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم القشيري‏.‏ ولما قدم على عمر قال‏:‏ متى خرجت قال في شهر رمضان‏.‏ قال صدقك من وصفك بالجفاء ألا أقمت حتى تفطر ثم تسافر ثم سأل عمر أبا مخلد عن عبد الرحمن بن عبد الله فقال‏:‏ يكافىء الأكفاء ويعـادي الأعـداء ويقـدم إن وجد ما يساعده‏.‏ قال فعبد الرحمن بن نعيم قال يحب العافية وتأتيه قـال هـو أحـب إلـي فولـاه الصلـاة والحـرب وولـى عبـد الرحمن القشيري الخراج‏.‏ فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان حتى قتل يزيد بن المهلب وولي مسلمة‏.‏ فكانت ولايته أكثر من سنة ونصـف‏.‏ وظهـر مـن أيـام الجـراح بخراسـان دعـاة بنـي العبـاس فيمـن بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس إلى الآفاق حسبما يذكر في أخبار الدولة العباسية‏.‏

وفاة عمر بن عبد العزيز وبيعة يزيد
ثـم توفـي عمـر بـن عبـد العزيـز فـي رجـب سنـة إحـدى ومائـة بديـر سمعـان ودفـن بها لسنتين وخمسة أشهـر مـن ولايتـه ولأربعيـن مـن عمره وكان يدعى أشج بني أمية رمحته دابة وهو غلام فشجته‏.‏ ولمـا مـات ولـي بعـده يزيـد بن عبد الملك بعهد سليمان كما تقدم وقيل لعمر حين احتضر‏:‏ اكتب إلـى يزيـد فأوصـه بالأمـة فقـال بمـاذا أوصيـه إنـه مـن بني عبد الملك ثم كتب‏:‏ أما بعد فاتق يا يزيد الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة ولا تقدر على الرجعة إنك تترك ما أترك لمن لا يحمدك وتصير إلى من لا يعذرك والسلام‏.‏ ولما ولي يزيد عزل أبا بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن المدينـة وولـى عليها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري وغير كل ما صنعه عمر بن عبد العزيز وكان من ذلك شأن خراج اليمن‏.‏ فإن محمداً أخا الحجاج جعل عليهم خراجاً مجدداً وأزال ذلـك عمـر إلـى العشـر أو نصـف العشـر‏.‏ وقال‏:‏ لئن يأتيني من اليمن حبة ذرة أحب إلي من تقريـر هـذه الوظيفـة‏.‏ فلمـا ولـي يزيد أعادها وقال لعامله خذها منهم ولو صاروا حرضاً‏.‏ وهلك عمـه محمد بن مروان فولى مكانه على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية عمه الآخر مسلمة بن عبد الملك‏.‏

احتيال يزيد في المهلب ومقتله
قد تقدم لنا حبس يزيد بن المهلب فلم يزل محبوساً حتى اشتد مرض عمر بن عبد العزيز فعمـل فـي الهـرب مخافـة يزيـد بـن عبـد الملـك لـأن زوجتـه بنـت أخـي الحجـاج‏.‏ وكـان سليمان أمر ابن المهلـب بتعذيـب قرابـة الحجـاج كلهـم فنقلهم من البلقاء وفيهم زوجة يزيد وعذبها‏.‏ وجاءه يزيد بن عبـد الملـك إلـى منزلـه شافعاً فلم يشفعه فضمن حمل ما قرر عليها فلم يقبل فتهدده فقال له ابن المهلب‏:‏ لئن وليت أنت لأرمينك بمائة ألف سيف فحمل يزيد بن عبد الملك عنها مائة ألف دينـار ولما اشتد مرض عمر خاف من ذلك وأرسل إلى مواليه أن يغدوا إليه بالإبل والخيل في مكان عينه لهم‏.‏ وبعث إلى عامل حلب بإشفاقه من يزيد وبذل له المال وإلى الحرس الذين يحفظونـه فخلـي سبيلـه وأتـى إلـى دوابـه فركبهـا ولحـق بالبصـرة‏.‏ وكتب إلى عمر إني والله لو وثقت بحياتـك لـم أخـرج مـن محبسـك‏.‏ ولكـن خفـت أن يقتلنـي يزيـد شـر قتلـة‏.‏ فقـرأ عمـر الكتاب وبه رمق فقال اللهم إن كان ابن المهلب يريد بالمسلمين سوءاً فألحقه به وهضه فقد هاض‏.‏ انتهى‏.‏ ولما بويع ليزيد بن عبد الملك كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة وإلى عدي بن أرطاة بالبصرة بهربه والتحرز منه وأبى عدي أن يأخذ المهلب بالبصرة فحبس المفضل حبيبًا ومـروان ابنـي المهلـب وبعـث عبـد الحميـد مـن الكوفـة جنـداً عليهم هشام بن ساجق بن عامر فأتوا العذيـب ومـر بيزيـد عليهـم فـوق القطقطانـة فلـم يقدمـوا عليـه‏.‏ ومضـى نحـو البصـرة وقـد جمـع عدي بن أرطاة أهل البصرة وخندق عليها وبعث على خيلها المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل‏.‏ وجاء يزيـد علـى أصحابـه الذيـن معه وانضم إليه أخوه محمد فيمن اجتمع إليه من قومهم‏.‏ وبعث عدي بـن أرطـاة علـى كـل خمـس مـن أخمـاس البصـرة رجالاً‏:‏ فعلى الأزد المغيرة بن زياد بن عمر العتكي وعلـى تميـم محـرز بـن حمـدان السعـدي وعلـى بكرة نوح بن شيبان بن مالك بن مسمع وعلى عبد القيس مالك بن المنذر بن الجارود وعلى أهل العالية عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر وهم قريش وكتانة والأزد وبجيلة وخثعـم وقيـس عيلـان ومزينـة فلـم يعرضـوا ليزيـد وأقبـل فانـزل‏.‏ انتهى‏.‏واختلف الناس إليه وأرسل إلى عدي أن يطلق له إخوته فينزل به البصرة ويخرج حتى يأخذ لنفسه من يزيد وبعث حميد ابن أخيه عبد الملك بن المهلب يستأمن له من يزيد بن عبد الملك فأجاره خالد القسري وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد له ولأهله‏.‏ وقد كان بعد منصرف حميد فرق في الناس قطع الذهب والفضة فالثالوا عليه وعدي يعطي درهمين درهمين‏.‏ ثم تناجزوا الحرب وحمل أصحاب يزيد على أصحاب عدي فانهزموا ودنا يزيد من القصر وخرج عدي بنفسه فانهزم أصحابه وخاف أخوة يزيد وهم في الحبس أن يقتلوا قبل وصوله فأغلقوا الباب وامتنعوا فجاءهم الحرس يعالجون فأجفلهم الناس عنه فخلوا عنهم وانطلقوا إلى أخيهم‏.‏ونزل يزيد دار مسلم بن زياد إلى جانب القصر وتسور القصر بالسلالم وفتحه وأتى بعدي بن أرطاة فحبسه‏.‏ وهرب رؤوس البصرة من تميم وقيس ومالك بن المنذر إلى الكوفة والشام‏.‏ وخرج المغيرة بن زياد بن عمر العتكي إلى الشام فلقي خالداً القسري وعمر بن يزيد وقد جاؤوا بأمان يزيد بن المهلب مع حميد ابن أخيه فأخبرهما بظهور يزيد على البصرة وحبسه عديـاً فرجعـا إلـى وعـد لهمـا فلـم يقبـلا فقبـض عبـد الحميـد بن عبد الرحمن بالكوفة على خالد بن يزيد بن المهلب وحمـاد بـن ذخـر وحملهمـا وسيرهمـا إلـى الشـام فحبسهمـا يزيـد حتـى هلكـا بالسجن‏.‏ وبعث يزيد بن عبد الملك إلى أهل الكوفة يثني عليهم ويمنيهم الزيادة وجهز أخاه مسلمة وابن أخيه العباس بن الوليد إلى العراق في سبعين ألف مقاتل أو ثمانين من أهل الشام والجزيرة فقدموا الكوفة ونزلوا النخيلة‏.‏وتكلم العباس يوماً ببعض الكلام فأساء عليه حيان النبطي بالكشة الأعجمية‏.‏ ولما سمع ابن المهلـب بوصـول مسلمـة وأهـل الشـام فخطـب النـاس وشجعهـم للقائهم وهون عليهم أمرهم وأخبرهم أن أكثرهم له‏.‏ واستوثق له أهل البصرة وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان‏.‏ وبعـث إلـى خراسـان مـدرك بـن المهلـب وعليهـا عبـد الرحمـن بـن نعيـم وبعث بنو تميم ليمنعوه‏.‏ ولقيه الـأزد علـى رأس المغارة فقالوا ارجع عنا حتى نرى مآل أمركم‏.‏ ثم خطب يزيد الناس يدعوهم إلـى الكتـاب والسنـة ويحثهـم علـى الجهاد وأن جهاد أهل الشام أعظم ثواباً من جهاد الترك والديلم وسار يزيد من البصرة إلى واسط واستخلف عليها أخاه مروان بن المهلب‏.‏ وأقام بواسط أيامًا ثم خرج منها سنة اثنتين ومائة واستخلف عليها أمان معونة‏.‏ وقدم أخاه عبد الملك بن المهلب نحو الكوفة فاستقبله ابن الوليد بسور له فاقتتلوا وانهزم عبد الملك وعاد إلى يزيد‏.‏ وأقبـل مسلمـة علـى شاطـىء الفـرات إلـى الأنهـار فعقـد الجسر وعبر وسار حتى نزل على يزيد بن المهلـب وفـزع إليـه ناس من أهل الكوفة وكان عسكره مائة وعشرين‏.‏ وكان عبد الحميد بن عبد الرحمـن قـد عسكـر بالنخيلـة وشـق المياه وجعل الأرصاد على أهل الكوفة أن يفزعوا إلى يزيد بن المهلـب وبعـث بعثـاً إلـى مسلمـة مـع صبـرة بن عبد الرحمن بن مخنف فعزل مسلمة بن عبد الحميد عن الكوفة واستعمل عليها محمد بن عمر بن الوليد بن عقبة‏.‏ثـم أراد يزيد بن المهلب أن يبعث أخاه محمداً بالعساكر يبيتون مسلمة فأبى عليه أصحابه وقالوا قد وعدناهم بالكتاب والسنة ووعدوا بالإجابة فلا نغدرهم‏.‏ فقال يزيد‏:‏ ويحكم تصدقونهم إنهـم يخادعونكـم ليمكـروا بكـم فـلا يسبقوكـم إليه والله ما في بني مروان أمكر ولا أبعد غوراً من هذه الجرادة الصغرى يعني مسلمة‏.‏ وكان مروان بن المهلب بالبصرة يحث الناس على اللحاق بيزيد أخيه والحسن البصري يثبطهم ويتهدده فلم يكف‏.‏ ثم طلب الذين يجتمعون إليه فافترقوا فأقـام مسلمـة بـن عبـد الملـك يطـاول يزيـد بـن المهلب ثمانية أيام‏.‏ ثم خرج يوم الجمعة منتصف صفر فعبى أصحابه وعبـى العبـاس بـن الوليـد كذلـك والتقـوا واشتـد القتـال وأمـر مسلمـة فأحـرق الجسـر فسطـع دخانـه‏.‏فلمـا رآه أصحـاب يزيـد انهزمـوا واعترضهـم يزيـد يضـرب في وجوههم حتى كثـروا عليـه فرجـع وترجـل فـي أصحابـه‏.‏ وقيـل لـه قتـل أخـوك حبيـب فقال لا خير في العيش بعده ولا بعد الهزيمة‏.‏ثـم استمـات ودلـف إلـى مسلمة لا يريد غيره فعطف عليه أهل الشام فقتلوه هو وأصحابه وفيهم أخـوه محمـد‏.‏ وبعـث مسلمة برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد عقبة‏.‏ وقيل‏:‏ إن الـذي قتلـه الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي وأنف أن ينزل فيأخذ رأسه فأخذه غيره‏.‏ وكان المفضل بن المهلب يقاتل في ناحية المعترك وما علم بقتل يزيد فبقي ساعة كذلك يكر ويفر حتـى أخبـر بقتـل إخوتـه فافتـرق النـاس عنـه ومضـى إلـى واسط وجاء أهل الشام إلى عسكر يزيد فقاتلهم أبو رؤبة رأس الطائفة المرجئة ومعه جماعة منهم صدق فقاتلوا ساعة من النهار ثم انصرفوا‏.‏ وأسر مسلمة ثلثمائة أسير حبسهم في الكوفة‏.‏وجاء كتاب يزيد إلى محمد بن عمر بن الوليد بقتلهم فأمر العريان بن الهيثم صاحب الشرطة بذلـك وبـدأ بثمانيـن مـن بنـي تميـم فقتلهـم‏.‏ ثـم جـاء كتـاب يزيـد بإعفائهـم فتركهـم‏.‏ وأقبـل مسلمة فنزل الحيرة وجاء الخبر بقتل يزيد إلى واسط فقتل ابنه معاوية عدي بن أرطاة ومحمداً ابنه ومالكاً وعبـد الملـك ابنـا مسمـع فـي ثلاثيـن ورجـع إلى البصرة بالمال والخزائن‏.‏ واجتمع بعمه المفضل وأهل بيتهم وتجهزوا للركوب في البحر وركبوا إلى قندابيل وبها وداع بن حميد الأسدي ولاه عليها يزيـد بـن المهلـب ملجـأً لأهـل بيته إن وقع بهم ذلك فركبوا البحر بعيالهم وأموالهم إلى جبال كرمان فنزلوا بها واجتمع إليه الفل من كل جانب‏.‏وبعـث مسلمـة مـدرك بن ضب الكلبي في طلبهم فقاتلهم وقتل من أصحاب المفضل النعمان بن إبراهيم ومحمد بن إسحق بن محمد بن الأشعث وأسر ابن صول قهستان‏.‏ وهرب عثمان بن إسحق بن محمد الأشعث فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة بالحيرة رجع ناس من أصحاب بني المهلـب فاستأمنـوا وأمنهـم مسلمـة منهـم مالـك بـن إبراهيـم بـن الأشتر والورد بن عبد الله بن حبيب السعـدي التميمي‏.‏ ومضى إلى آل المهلب ومن معهم بقندابيل فمنعهم وداع بن حميد من دخولها وخـرج معهـم لقتـال عدوهـم‏.‏ وكـان مسلمـة قـد رد مدرك بن ضب بعد هزيمتهم في جبال كرمان وبعث في أثرهم هلال بن أحور التميمي فلحقهم بقندابيل فتبعوا لقتاله‏.‏وبعث هلال راية أمان فمال إليه وداع بن حميد وعبد الله بن هلال وافترق الناس عن آل المهلب‏.‏ ثم استقدموا فاستأمنوا فقتلهم عن آخرهم‏:‏ المفضل وعبد الملك وزياد ومروان بنو المهلب ومعاوية بن يزيد بن المهلب والمنهال بن أبي عيينة بن المهلب وعمر بن يزيد بـن المهلب وعثمان بن المفضل بن المهلب برتبيل ملك التـرك‏.‏ وبعـث هلـال بـن أحـوز برؤوسهـم وسبيهـم وأسراهـم إلـى مسلمـة بالحيـرة فبعـث بهـم مسلمـة إلـى يزيـد بـن عبـد الملـك فسيرهم يزيد إلى العبـاس بـن الوليـد في حلب فنصب الرؤوس‏.‏ وأراد مسلمة أن يبتاع الذرية فاشتراهم الجراح بن عبد الله الحكيمي بمائة ألف وخلى سبيلهم‏.‏ ولم يأخذ مسلمة من الجراح شيئاً‏.‏ ولما قدم بالأسرى على يزيد بن عبد الملك وكانوا ثلاثة عشر أمر يزيد فقتلوا وكلهم من ولد المهلب واستأمنت هند بنت المهلب لأخيها عيينة إلى يزيد بن عبد الملك فأمنه وأقام عمرو وعثمان عند رتبيل حتى أمنهما أسد بن عبد الله القسري وقدما عليه بخراسان‏.‏

ولاية مسلمة على العراق وخراسان
ولمـا فـرغ مسلمـة بـن عبـد الملك من حرب بني المهلب ولاه يزيد بن عبد الملك على العراق وجمع لـه ولايـة البصـرة والكوفـة وخراسـان فأقر على الكوفة محمد بن عمر بن الوليد وكان قد قام بأمر البصـرة بعد بني المهلب شبيب بن الحارث التميمي فبعث عليها مسلمة عبد الرحمن بن سليم الكلبي وعلى شرطتها عمر بن يزيد التميمي‏.‏ وأراد عبد الرحمن أن يقتل شيعة ابن المهلب بالبصـرة فعزلـه وولـى علـى البصـرة عبـد الملـك بـن بشـر بـن مـروان‏.‏ وأقـر عمـر بـن يزيـد علـى الشرطـة‏.‏ واستعمل مسلمة على خراسان صهره سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العباس ويلقب سعيد خدينة‏.‏دخل عليه بعض العرب بخراسان وعليه ثياب مصبغة وحوله مرافق مصبغة‏.‏ وسئل عنه لما خرج فقال‏:‏ خدينة وهي الدهقانة ربة البيت‏.‏ ولما ولاه على خراسان سار إليها فاستعمل شعبة بن ظهير النهشلي على سمرقند‏.‏ فسار إليها وقدم الصغد وكان أهلها كفروا أيام عبد الرحمن بن نعيم ثم عادوا إلى الصلح‏.‏ فوبخ ساكنها من العرب بالجبن فاعتذروا بأمر أميرهم علـي بن حبيب العبدي‏.‏ ثم حبس سعيد عمال عبد الرحمن بن عبد الله وأطلقهم ثم حبس عمال يزيد بن المهلب ورفع لهم أنهم اختانوا الأموال فعذبهم فمات بعضهم في العذاب وبقي بعضهم في السجن حتى غزاهم الترك والصغد فأطلقهم‏.‏

العهد لهشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد
لمـا بعـث يزيـد بـن عبـد الملـك الجيـوش إلـى يزيـد بـن المهلب مع مسلمة أخيه والعباس بن أخيه الوليد قال له العباس‏:‏ إنا نخاف أن يرجف أهل العراق بموتك ويبث ذلك في أعضادنا وأشار عليه بالعهـد لعبـد العزيـز أخيـه ابن الوليد وبلغ ذلك مسلمة فجاءه وقال‏:‏ أخوك أحق فإن ابنك لم يبلغ وأشار عليه بأخيه هشام وابنه الوليد من بعده والوليد ابن إحدى عشرة سنـة فبايـع لهمـا كذلك‏.‏ ثم بلغ ابنه الوليد فكان إذا رآه يقول‏:‏ الله بيني وبين من قدم هشاماً عليك‏.‏

غزوة الترك
لمـا ولـي سعيـد خراسان استضعفه الناس وسموه خدينة واستعمل شعبة على سمرقند ثم عزله كمـا مـر وولـى مكانـه عثمـان بـن عبـد اللـه بـن مطـرف بـن الشخير فطمعت الترك وبعثهم خاقان إلى الصغد وعلى الترك كورصول وأقبلوا حتى نزلوا قصر الباهلي وفيه مائة أهل بيت بذراريهم وكتبـوا إلى عثمان بسمرقند وخافوا أن يبطىء المدد فصالحوا الترك على أربعين ألفاً وأعطوهم سبعـة عشـر رجلاُ رهينة‏.‏ وندب عثمان الناس فانتدب المسيب بن بشر الرياحي ومعه أربعة آلاف من سائر القبائل‏.‏ فقال لهم من أراد الغزو والصبر على الموت فليتقدم فرجع عنه ألف وقالها بعد فرسخ فرجع ألف آخر ثم أعادها ثالثة بعد فرسخ فاعتزله ألف‏.‏وسـار حتى كان على فرسخين من العدو فأخبره بعض الدهاقين بقتل الرهائن وميعادهم غداً وقـال أصحابـي ثلثمائـة مقاتـل وهـم معكـم فبعث المسيب إلى القصر رجلين عجمياً وعربياً يأتيانه بالخبر فجاؤوا في ليلة مظلمة وقد أجرت الترك الماء بدائر القصر لئلا يصل إليه أحد فصاح بهمـا فقـالا لـه اسكـت وادع لنا فلاناً‏.‏ فأعلماه قرب العسكر وسألا هل عندكم امتناع غداً فقال لهمـا نحـن مستميتـون‏.‏ فرجعا إلى المسيب فأخبراه فعزم على تبييت الترك وبايعه أصحابه على الموت وساروا يومهم إلى الليل‏.‏ ولما أمسى حثهم على الصبر وقال‏:‏ ليكن شعاركم يا محمد ولا تتبعوا مولياً واعقروا الدواب فإنه أشد عليهم وليست بكم قلة فإن سبعمائـة سيـف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنته وإن كثر أهله‏.‏ ثم دنوا من العسكر في السحر وثار الترك وخالطهم المسلمون وعقروا الدواب وترجل المسيب في أصحاب له فقاتلوا قتالاً شديداً وقتل عظيم من عظماء الترك فانهزموا‏.‏ ونادى منادي المسيب لا تتبعوهم واقصدوا القصر واحملوا من فيه ولا تحملوا من متاعهم إلا المال‏.‏ ومن حمل امرأة أو صبياً أو ضعيفاً حسبةً فأجره على اللـه وإلا فلـه أربعون درهماً‏.‏ وحملوا من في القصر إلى سمرقند ورجع الترك من الغد فلم يروا في القصر أحداً‏.‏ ورأوا قتلاهم فقالوا لم يكن الذين جاؤونا بالأمس‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:23 PM

غزو الصغد
ولما كان من انتقاض الصغد وإعانتهم الترك على المسلمين ما ذكرنا تجهز سعيد لغزوهم وعبر النهر فلقيه الترك وطائفة من الصغد فهزمهم المسلمون‏.‏ ونهاهم سعيد عن أتباعهم وقال‏:‏ هم جباية أمير المؤمنين فانكفوا عنهم‏.‏ ثم سار المسلمون إلى واد بينهم وبين المرج فقطعه بعض العسكر وقد أكمن لهم التـرك فخرجـوا عليهـم‏.‏ وانهـزم المسلمـون إلـى الـوادي وقيـل بـل كـان المنهزمون مسلحةً للمسلمين‏.‏ وكان فيمن قتل شعبة بن ظهر في خمسين رجلاً‏.‏ وجاء الأمير والناس فانهزم العدو‏.‏ وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا وغنموا وسبوا رد السبي وعاقب السرية فثقل سعيد على الناس وضعفوه‏.‏ ولما رجع من هذه الغزاة وكان سورة بن الأبجر قد قال لحيان النبطي يوم أمر سعيد بالكف عن الصغد وأنهم جباية أمير المؤمنين‏.‏ فقال سورة ارجـع عنهـم يـا حيـان فقال‏:‏ عقيرة الله لا أدعها فقال‏:‏ انصرف يا نبطي‏.‏ قال أنبط الله وجهك‏.‏ فحقدهـا عليـه سـورة وأغـرى بـه سعيـد خدينـة وقـال‏:‏ إنـه أفسـد خراسان على قتيبة ويثب عليك ويتحصـن ببعـض القلـاع‏.‏ فقـال لـه سعيد‏:‏ لا يسمع هذا منك أحد ثم حاول عليه وسقاه لبناً قد ألقى فيه ذهباً مسحوقاً‏.‏ ثم ركض والناس معه أربعة فراسخ فعاش حيان من بعدها ليالي قلائل ومات‏.‏

ولاية هبيرة على العراق وخراسان
كـان مسلمـة لمـا ولـي علـى هذه الأعمال لم يدفع من الخراج شيئاً واستحيا يزيد من عزله فكتب إليه بالقدوم وأن يستخلف على عمله‏.‏ وسار لذلك سنة ثلاث وأربعمائة فلقيه عمر بن هبيرة بالطريق على دواب البريد وقال‏:‏ وجهني أمير المؤمنين لحيازة أموال بني المهلب فارتاب لذلك وقـال لـه بعـض أصحابـه‏:‏ كيـف يبعـث ابـن هبيـرة مـن عنـد الجزيرة لمثل هذا الغرض‏.‏ ثم أتاه أن ابن هبيـرة عـزل عمالـه‏.‏ وكـان عمر بن هبيرة من النجابة بمكان وكان الحجاج يبعثه في البعوث وهو ممن سار لقتال مطرف بن المغيرة حين خلع ويقال إنه الذي قتله وجاء برأسه‏.‏فسيـره الحجـاج إلـى عبـد الملـك فأقطعـه قريـة قريبـة مـن دمشق ثم بعثه إلى كروم ابن مرثد الفزاري ليخلـص منـه مـالاً فارتـاب وأخذ المال ولحق بعبد الملك عائداً به من الحجاج‏.‏ وقالت قتلت ابن عمه ولست آمنه على نفسي فأجاره عبد الملك وكتب الحجاج إليه فيه‏.‏ فقال أمسك عنه وعظـم شأنـه عبـد الملـك وبنـوه واستعملـه عمـر بـن عبـد العزيز على الروم من ناحية أرمينية وأثخن فيهـم وأسـر سبعمائـة منهـم وقتلهـم‏.‏ واستخـدم أيـام يزيـد لمحبوبتـه حبابـة فسعت له في ولاية العراق فولاه يزيد مكان أخيه مسلمة ولما ولي قدم عليه المجشر بن مزاحم السلمي وعبد الله بن عمر الليثي في وفد فشكوا من سعيد وحذيفة عاملهم وهو صهر مسلمة فعزله وولى مكانه على خراسان سعيد بن عمر الحريشي من بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فسار خدينة عن خراسان وقدم سعيد فلم يعرض لعماله‏.‏ولما قدم على خراسان كان الناس بإزاء العدو وقد نكثوا فحثهم على الجهاد الصغد منه بما كانوا أعانوا الترك أيام حذيفة فقال لهم ملكهم احملوا له خراج ما مضى واضمنوا خراج ما يأتي والعمارة والغزو معه وأعطوه الرهن بذلك‏.‏ فأبوا إلا أن يستجيروا بملك فرغانة وخرجوا من بلادهم إلى خجندة وسألوا الجوار وأن ينزلوا شعب عصام‏.‏ فقال‏:‏ أمهلونا عشرين يوماً أو أربعين لنخليه لكم وليس لكم علي جوار قبل دخولكم إياه‏.‏ ثم غزاهم الحريش سنة أربع ومائة فقطع النهر وترك قصر الريح على فرسخين من الدنوسية وأتاه ابن عم ملك فرغانة يغريه بأهـل الصغـد وأنهـم بخجنـدة ولـم يدخلوا جواره بعد فبعث معه عبد الرحمن القسري في عسكر وجاء في أثره حتى نزلوا على خجندة وخرج أهل صغد لقتالهم فانهزموا وقد كانوا حفروا خندقـاً وغطـوه بالتراب ليسقط فيه المسلمون عند القتال فلما انهزموا ذلك اليوم أخطأهم الطريق وأسقطهم الله في ذلك الخندق‏.‏ثم حاصرهم الحريشي ونصب عليهم المجانيق وأرسلوا إلى ملك فرغافة ليجيرهم‏.‏ فقال قد شرت عليكم أن لا جوار قبل الأجل الذي بيني وبينكم‏.‏ فسألوا الصلح من الحريشي على أن يـردوا مـا في أيديهم من سبي العرب ويعطوا ما كسر من الخراج ولا يتخلف أحد منهم بخجندة وإن أحدثـوا حدثـاً استبيحـت دماؤهـم‏.‏ فقبـل منهـم وخرجوا من خجندة ونزلوا في العسكر على كـل مـن يعرفـه‏.‏ وبلـغ الحريشـي أنهـم قتلوا امرأة فقتل قاتلها فخرج قبيل منهم فاعترض الناس وقتل جماعـة‏.‏ وقتـل الصغد من أسرى المسلمين مائة وخمسين ولقي الناس منهم عنفاً ثم أحاطوا بهم وهم يقاتلون بالخشب ليس لهم سلاح فقاتلوا عن آخرهم ثلاثة آلاف أو سبعة آلاف‏.‏وكتب الحريشي إلى يزيد بن عبد الملك ولم يكتب لعمر بن هبيرة فأحفظه ذلك ثم سرح الحريشي سليمان بن أبي السرى إلى حصن يطيف به وراء الصغد ومعه خوارزم شاه وملك أجرون وسومان فسار سليمان وعلى مقدمته المسيب بن بشر الرياحي ولقيـه أهـل الحصـن فهزمهم ثم حاصرهم فسألوا الصلح على أن لا يعرض لسبيهم ويسلموا القلعـة بمـا فيهـا فقبـل وبعث إلى الحريشي فقبضه وبعث من قبضه‏.‏ وسار الحريشي إلى كش فصالحوه على عشرة آلاف رأس وولى نصر بن سيار على قبضها‏.‏ واستعمل على كش ونسـف حربـاً وخراجـاً سليمـان بـن السـرى واستنـزل مكانه آخر اسمه قشقري من حصنه على الأمان وجاء به إلى مرو فشنقه وصلبه‏.‏

ولاية الجراح على أرمينية وفتح بلنجر
ولما سار ابن هبيرة على الجزيرة وأرمينية تشبب البهراني فحفل لهـم الخـزر وهـم التركمـان واستجاشوا بالقفجاق وغيرهم من أنواع الترك ولقوا المسلمين بمرج الحجارة فهزموهم واحتوى التركمان على عسكرهم وغنموا ما فيه‏.‏ وقدم المنهزمون على يزيد بن عبد الملك فولى على أرمينية الجراح بن عبد الله الحكمي وأمده بجيش كثيـف وسـار لغـزو الخـزر فعـادوا لبـاب الأبواب‏.‏ ونزل الجراح بردعة فأراح بها قليلاً‏.‏ ثم سار نحوهم وعبر نهر الكر وأشاع الإقامة ليرجع بذلك عيونهم إليهم‏.‏ ثم أسرى من ليلته وأجد السير إلى مدينة الباب فدخلها وبث السرايا للنهب والغارة‏.‏وزحف إليه التركمان وعليهم ابن ملكهم فلقيهم عند نهر الزمان واشتد القتال بينهم ثم انهزم التركمان وكثر القتل فيهم وغنـم المسلمـون مـا معهـم وسـاروا حتـى نزلـوا علـى الحصـن ونـزل أهلها على الأمان فقتلهم‏.‏ ثم سار إلى مدينة برغوا فحاصرها ستة أيام ثم نزلوا على الأمان ونفلهم ثم سـاروا إلـى بلنجـر وقاتلهـم التركمـان دونهـا فانهزمـوا وافتتـح الحصـن عنـوة‏.‏ وغنـم المسلمـون جميع ما فيه‏.‏ فأصاب الفارس ثلاثمائة دينار وكانوا بضعة وثلاثين ألفاً‏.‏ ثم إن الجراح رجع حصن بلنجر إلى صاحبه ورد عليـه أهلـه ومالـه علـى أن يكـون عينـاً للمسلميـن علـى الكفار‏.‏ ثم نزل على حصن الوبيد وكان به أربعون ألف بيت من الترك فصالحوا الجراح على مـال أعطـوه إيـاه‏.‏ ثـم تجمـع الترك والتركمان وأخذوا الطرق على المسلمين فأقام في رستاق سبى وكتب إلى يزيد بالفتح وطلب المدد وكان ذلك آخر عمر يزيد‏.‏ وبعث هشام بعد ذلك إليه بالمدد وأقره على العمل‏.‏

ولاية عبد الواحد القسري علي المدينة ومكة
كان عبد الرحمن بن الضحاك عاملاً على الحجاز منذ أيام عمر بن عبد العزيز وأقام عليها ثلاث سنين ثم حدثته نفسه خطبة فاطمة بنت الحسين فامتنعت فهددها بأن يجلد ابنها في الخمـر وهـو عبـد الله بن الحسين المثنى وكان على ديوان المدينة عامل من أهل الشام يسمى ابن هرمز‏.‏ ولما رفع حسابه وأراد السير إلى يزيد جاء ليودع فاطمة فقالت اخبر أمير المؤمنين بما ألقـى مـن ابـن الضحـاك ومـا يتعـرض لـي‏.‏ ثـم بعـث رسولهـا بكتابهـا إلـى يزيـد يخبره‏.‏ وقدم ابن هرمز على يزيد فبينا هو يحدثه عن المدينة قال الحاجب‏:‏ بالباب رسول فاطمة بنت الحسين فذكر ابن هرمز ما حملته‏.‏ فنزل عن فراشه وقال‏:‏ عندك مثل هذا وما تخبرني به فاعتذر بالنسيان‏.‏فأدخـل يزيـد الرسـول وقـرأ الكتـاب وجعـل ينكـث الأرض بخيزرانة ويقول‏:‏ لقد اجتر ابن الضحـاك هـل مـن رجـل يسمعنـي صوتـه فـي العذاب‏.‏ قيل له عبد الواحد بن عبد الله القسري‏.‏ سفكتب إليه بيده‏:‏ قلى وليتك المدينة فانهض إليها واعزل ابن الضحاك وغرمـه أربعيـن ألـف دينار وعذبه حتى أسمع وأنا على فراشي‏.‏ وجاء البريد بالكتاب إليه ولم يدخل على ابن الضحاك فأحضر البريد ودس إليه بألف دينار فأخبره الخبر فسار بن الضحاك إلى مسلمة بن عبد الملك واستجار به وسأل مسلمة فيه يزيد‏.‏ فقال والله لا أعفيه أبداً فرده مسلمة إلى عبد الواحد بالمدينة فعذبه ولقي شراً ولبس جبة صوف يسأل الناس وكان قد آذى الأنصار فذموه وكان قدوم القسري في شوال سنة أربع ومائة وأحسن السيرة فأحبه الناس وكان يستشير القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله‏.‏ عزل الحريشي وولاية مسلم الكلبي على خراسان كان سعيد الحريشي عاملاً على خراسان لابن هبيرة كما ذكرنا وكان يستخف به ويكاتب الخليفة دونه ويكنيه أبا المثنى‏.‏ وبعث من عيونه من يأتيه بخبره فبلغه أعظم مما سمع فعزله وعذبـه حتـى أدى الأمـوال وعـزم علـى قتلـه ثـم كـف عنـه‏.‏ وولـى بـن هبيرة على خراسان مسلم بن سعيـد بـن أسلـم بـن زرعـة الكلابـي ولما جاء إلى خراسان حبسه وقيده وعذبه كما قلنا‏.‏ فلما هرب ابن هبيرة بعد ذلك عن العراق أرسل خالد القسري في طلبه الحريشي فأدركه على الفـرات‏.‏ وقـال لابـن هبيـرة مـا ظنـك بـي قـال إنـك لا تدفـع رجـلاً مـن قومـك إلـى رجـل مـن قسر‏.‏ قال وفاة يزيد وبيعة هشام ثـم توفـي يزيـد بـن عبد الملك في شعبان سنة خمس ومائة لأربع سنين من خلافته وولى بعده أخوه هشام بعهده إليه بذلك كما مر وكان بحمص فجاءه الخبر بذلك فعزل عمر بن هبيرة عن العراق وولى مكانه خالد بن عبد الله القسري فسار إلى العراق من يومه‏.‏

غزو مسلم الترك
غـزا مسلـم بـن سعيـد التـرك سنـة خمسـة ومائـة فعبـر النهـر وعاث في بلادهم ولم يفتح شيئاً وقفل فأتبعه الترك ولحقوه على النهر فعبر بالناس ولم ينالوا منه‏.‏ ثم غزا بقية السنة وحاصر أفشين حتـى صالحـوه علـى ستـة آلـاف رأس ثـم دفعوا إليه القلعة‏.‏ ثم غزا سنة ست ومائة وتباطأ عنه النـاس وكـان ممـن تباطـأ البختـري بـن درهـم فـرد مسلـم نصـر بـن سيار إلى بلخ وأمره أن يخرج الناس إليه وعلى بلخ عمر بن قتيبة أخو مسلم فجاء نصر وأحرق باب البختري وزياد بن طريف الباهلي‏.‏ ثم منعهم عمر من دخول بلخ وقد قطع سعيد النهر ونزل نصر بن سيار البروقان وأتـى جنـد الضلاضيان وتجمعت ربيعة والأزد بالبروقان على نصف فرسخ من نصر وخرجـت مضـر إلـى نصـر وخـرج عمـر بـن مسلـم إلـى ربيعـة والـأزد وتوافقوا وسفر الناس بينهما في ثم حمل البختري وعمر بن مسلم على نصر فكر عليهم فقتل منهم ثمانية عشر وهزمهم وأتى بعمر بن مسلم والبختري وزياد بن طريف فضربهم مائة مائة وحلق رؤوسهم ولحاهم وألبسهم المسـوح‏.‏ وقيـل إن سبـب تعزيـز عمـر بـن مسلم انهزام تميم عنه وقيل انهزام ربيعة والأزد ثم أمنهم نصر بعد ذلك وأمرهم أن يلحقوا بمسلم بن سعيد‏.‏ ولما قطع مسلم النهر ولحقه من لحق من أصحابـه سـار إلـى بخـارى فلحقـه بهـا كتاب خالد بن عبد الله القسري بولايته ويأمره بإتمام غزاته فسار إلى فرغانة وبلغه أن خاقان قد أقبل إليه فارتحل‏.‏ ولحقه خاقان بعد ثلاثة مراحل لقي فيها طائفة من المسلمين فأصابهم‏.‏ ثم أطاف بالعسكر وقاتل المسلمين وقتل المسيب بن بشر الرياحي والبراء من فرسان المهلب وأخو غورك‏.‏وثار الناس في وجوههم فأخرجوهم من العسكر‏.‏ ورحـل مسلـم بالنـاس ثمانيـة أيـام والتـرك مطيفـون بهـم بعـد أن أمـر بإحـراق مـا ثقـل من الأمتعة فأحرقوا ما قيمته ألف ألف‏.‏ وأصبحوا في التاسع قريب النهر دونه أهل فرغانة والشاش‏.‏ فأمر مسلم الناس أن يخرطوا سيوفهم ويحملوا‏.‏ فأفـرج أهـل فرغانـة والشـاش عـن النهر ونزل مسلم بعسكره ثم عبر من الغد وأتبعهم ابن خاقان‏.‏ فكان حميد بن عبد الله على الساقة من وراء النهر وهو مثخن بالجراحة‏.‏ فبعث إلى مسلم بالانتظار وعطف على الترك فقاتلهم وأسر قائدهم وقائد الصغد ثم أصابه سهم فمات وأتوا خجنـدة وقـد أصابتهـم مجاعـة وجهد ولقيهم هنالك كتاب أسد بن عبد الله القسري أخي خالد بولايته على خراسان واستخلافه عبد الرحمن بن نعيم فقرأ مسلم الكتاب وقال سمعاً وطاعة‏.‏

ولاية أسد القسري علي خراسان
ولمـا غـزا خالـد بـن عبـد الله خراسان واستخلف عليها أخاه أسد بن عبد الله فقدم ومسلم بن سعيد بفرغانة فطما رجع وأتى النهر ليقطعه منعه الأشهب بن عبد الله التميمي وكان على السفـن بآمـد حتـى عرفـه أنـه الأميـر فـأذن لـه‏.‏ ثـم عبـر أسـد النهـر ونـزل بالمرج وعلى سمرقند هانىء بـن هانىء فخرج بالناس وتلقى أسداً وأدخله سمرقند‏.‏ وبعث أسد إلى عبد الرحمن بن نعيم بالولايـة علـى العسكـر فقفل بالناس إلى سمرقند ثم عزل أسداً عنها وولى مكانه الحسن بن أبي العمرطـة الكنـدي‏.‏ ثـم قـدم مسلـم بـن سعيـد بـن عبـد اللـه بخراسان فكان يكرمه‏.‏ ومر بابن هبيرة وهو يروم الهرب وأسلم على يديه‏.‏ ثم غزا الغور وهي جبال هراة‏.‏ فوضع أهلها أثقالهم في الكهـوف ولـم يكـن إليهم طريق‏.‏ فاتخذ التوابيت ووضع فيها الرجال ودلاها بالسلاسل فاستخرجوا ما قدروا عليه‏.‏ ثم قطع كماق النهر وجاءه خاقان ولم يكن بينهما قتال‏.‏ وقيل عاد مهزوماً من الجسر ثم سار إلى عوبرين وقاتلها وأبلى نصر بن سيار ومسلم بن أحوز

ولاية أشرس على العراق
كـان أسـد بـن عبـد الله في ولايته على خراسان يتعصب حتى أفسد الناس‏.‏ وضرب نصر بن سيار بالسياط وعبد الرحمن بن نعيم وسورة بن أبجر والبختري بن أبي درهم وعامر بن مالـك الحمانـي وحلقهـم وسيرهـم إلـى أخيـه وكتـب إليه أنهم أرادوا الوثوب بي‏.‏ فلامه خالد وعنفه وقـال‏:‏ هـلا بعثـت برؤوسهـم وخطـب أسـد يومـاً فلعـن أهـل خراسـان‏.‏ فكتـب هشام بن عبد الملك إلى خالد اعزل أخاك فعزله في رمضان سنة تسع وولى مكانه الحكم بن عوانة الكلبي فقعد عن الصائفة تلك السنة‏.‏ فاستعمل هشام على خراسان أشرس بن عبد الله السلمي وأمره أن يراجع خالداً فكان خيراً ففرح به أهل خراسان‏.‏

عزل أشرس
أرسـل أشـرس إلـى سمرقنـد سنـة عشـر ومائـة أبـا الصيـدا صالـح بـن ظريف مولى بني ضبة والربيع بـن عمـران التميمـي إلـى سمرقنـد وغيرهـا مما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية وعليها الحسن بن العمرطة الكندي على حربها وخراجها فدعاهم إلى ذلك وأسلموا‏.‏ وكتـب غـورك إلى الأشرس أن الجراح قد انكسر فكتب أشرس إلى ابن العمرطة بلغني أن أهل الصغـد وأشباههم لم يسلموا رغبة وإنما أسلموا نفوراً من الجزية فانظر من اختتن وأقام الفرائض وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه‏.‏ثـم عـزل ابـن العمرطـة عـن الخـراج وولـى عليهـا ابن هانىء ومنعهم أبو الصيد أخذ الجزية ممن أسلم وكتـب هانـىء إلـى أشـرس بأنهـم أسلمـوا وبنـوا المساجد‏.‏ فكتب إليه وإلى العمال أن يعيدوا الجزية على من كانت عليه ولو أسلم فامتنعوا واعتزلوا في سبعة آلاف على فراسخ من سمرقند‏.‏ وخـرج معهم أبو الصيد وربيع بن عمران والهيثم الشيباني وأبو فاطمة الأزدي وعامر بن قشير وبشيـر الجحـدري وبيـان العنبـري وإسماعيـل بـن عقبـة لينصروهـم‏.‏ وبلـغ الخبـر إلى أشرس فعزل ابن العمرطة عن الحرب وولى مكانه المجشر بن مزاحم السلمي وعميرة بن سعد الشيباني فكتب المجشـر إلـى أبـي الصيدا يستقدمه هو وأصحابه فقدم ومعه ثابت قطنة فحبسهما وسيرهما إلى أشـرس واجتمع الباقون وولوا عليهم أبا فاطمة ليقاتلوا هانئاً فكتب أشرس ووضع عنهم الخراج فرجعوا ضعف أمرهم وتتبعوا فحبسوا كلهم‏.‏وألـح هانـىء فـي الخـراج واستخـف بفعـل العجـم والدهاقين‏.‏ وأقيموا في العقوبات وحرقت ثيابهم والقيت مناطقهم في أعناقهم وأخذت الجزية ممن أسلم‏.‏ فكفرت الصغد وبخارى واستجاشوا بالترك وخرج أشرس غازياً فنزل آمد وأقام أشهراً‏.‏ وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم في عشرة آلاف فعبر النهر ولقي الترك وأهل الصغد وبخارى ومعهم خاقان فحصروا قطناً في خندقه‏.‏ وأغار الترك على سرح المسلمين وأطلق أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمر وبعثه معه في خيل فاستقدمه من أيدي الترك ما أخدوه‏.‏ ثم عبر أشرس بالناس ولحق بقطن ولقيهم العدو‏:‏ فانهزموا أمامهم‏.‏ وسار أشرس بالناس حتى جاء بيكند فحاصرهـا المسلمـون وقطـع أهـل البلـد عنهـم المـاء وأصابهم العطش فرحلوا إلى المدينة‏.‏ واعترضهم دونها العدو فقاتلوهم قتالاً شديداً وأبلى الحارث بن شريح وقطن بن قتيبة بلاءً شديداً وأزالوا الترك عن الماء فقتل يومئذ ثابت قطنة وصخر بن مسلم بن النعمان العبدي وعبد الملك بن دثار الباهلي وغيرهم‏.‏ وحمـل قطـن بـن قتيبة في جماعة تعاقدوا على الموت فانهزم العدو واتبعهم المسلمون يقتلونهم إلى الليل‏.‏ ثم رجع أشرس إلى بخارى وجهز عليهم عسكراً يحاصرونها وعليهم الحارث بن شريح الأزدي‏.‏ ثم حاصر خاقان مدينة كمرجة من خراسان وبها جمع من المسلمين وقطعوا القنطرة وأتاهم ابن جسر وابن يزدجرد وقال‏:‏ إن خاقان جاء يرد علي منكبي وأنا آخذ لكم الأمان فشتموه وأتاهم يزغري في مائتين وكان داهيةً وكان خاقان لا يخالفه‏.‏ فطلب رجـلاً يكلمـه فجاء يزيد بن سعد الباهلي فرغبه بإضعاف‏.‏ العطاء والإحسان على النزول ويسيرون معهم فلاطفه ورجع إلى أصحابه وقال هؤلاء يدعونكم لقتـال المسلميـن فأبـوا وأمـر خاقـان فألقـى الحطـب الرطـب فـي الخنـدق ليقطعـه‏.‏ وألقـى المسلمون البهائم ليأكلوها ويحشوا جلودها تراباً ويملؤا بها الخندق‏.‏ وأرسل الله سبحانه فاحتمل السيل ما في الخندق إلى النهر الأعظـم ورمـى المسلمون بالسهام فأصيب يزغري بسهم ومات من ليلته فقتلوا جميع ما عندهم من الأسرى والرهن‏.‏ ولم يزالوا كذلك حتى نزلت جيوش المسلمين فرغانة فجردوا عليهم واشتد قتالهم وصالحهم المسلمون على أن يسلموا لهم كمرجة ويرحلوا عليها إلى سمرقند والدنوسية وتراهنوا على ذلك‏.‏ وتأخر خاقان حتى يخرجوا وخلف معهم كورصول ليبلغهم إلى مأمنهم فارتحلوا حتى بلغوا الدنوسية‏.‏ وأطلقوا الرهن وكانت مدة الحصار ستين يوماً‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:24 PM

عزل أشرس عن خراسان وولاية الجنيد
وفـي سنـة إحـدى عشـرة ومائـة عـزل هشـام أشرس بن عبد الله عن خراسان وولى مكانه الجنيد بن عبد الرحمن بن عمر بن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبى حارثة المري أهدى إلى أم حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادة فيها جواهر فأعجبت هشاماً فأهدى له أخرى مثلها فولاه خراسان وحمله على البريد‏.‏ فقدم خراسان في خمسمائة ووجد الخطاب بن محرز السلمـي خليفـة أشـرس علـى خراسـان‏.‏ فسـار الجنيـد إلـى ما وراء النهر ومعه الخطاب واستخلف على مرو المجشر بن مزاحم السلمي وعلى بلخ سورة بن أبجر التميمي وبعث إلى أشرس وهو يقاتل أهل بخارى والصغد أن يبعث إليه بسرية مخافة أن يعترضه العدو‏.‏فبعث إليه أشرس عامر بن مالك الجابي فعرض له الترك والصغد فقاتلوهم ثم استداروا وراء معسكر الترك وحمل المسلمون عليهم من أمامهم فانهزم الترك ولحق عامر بالجنيد فأقبل معه وعلى مقدمته عمارة بن حزيم واعترضه الترك فهزمهم‏.‏ وزحف إليه خاقان بنواحي سمرقند وقطـن بن قتيبة على ساقته فهزم خاقان وأسر ابن أخيه وبعث به إلى هشام ورجع إلى مرو ظافراً واستعمل قطن بن قتيبة على بخارى والوليد بن القعقاع العبسي على هراة وحبيب بن مرة العبسي على شرطته ومسلم بن عبد الرحمن الباهلي على بلخ وعليها نصر بن سيار‏.‏ فبعـث مسلـم إلـى نصر وجيء به في قميص دون سراويل فقال شيخ مضر جئتم به على هذه الحالة‏.‏ فعزل الجنيد مسلماً عن بلخ وأوفد وفداً إلى هشام بخبر غزاته‏.‏

مقتل الجراح الحكمي
قد كان تقدم لنا دخوله إلى بلاد الخزر سنة أربع ومائة وانهزامهم أمامه وأنه أثخن فيهم وملك بلنجر وردها على صاحبها وأدركه الشتاء فأقام هنالك‏.‏ وأن هشاماً أقرة على عمله ثم ولاه أرمينية فدخل بلاد التركمـان مـن ناحيـة تفليـس سنـة إحـدى عشـرة ففتـح مدينتهـم البيضـاء وانصرف ظافراً فاجتمع الخزر والترك من ناحية اللاف وزحف إليهم الجراح سنة اثنتي عشرة ولقيهم بمرج أردبيل فاقتتلوا أشد قتال‏.‏ وتكاثر العدو عليه فاستشهد ومن معه وقد كـان استخلف أخاه الحجاج على أرمينية‏.‏ ولما قتل طمع الخزر وهم التركمان وأوغلوا في البلاد حتـى قاربـوا الموصـل وقيل كان قتله ببلنجر‏.‏ ولما بلغ الخبر هشاماً دعا سعيدًا الحريشي فقال‏:‏ بلغني أن الجراح انهزم‏.‏ قال الجراح أعرف بالله من أن ينهزم لكن قتل فابعثني على أربعين من دواب البريـد وابعـث إلـي كل يوم أربعين رجلاً مدداً واكتب إلى الأمراء الأجناد يواسوني‏.‏ ففعل وسار الحريشي فلا يمر بمدينة إلا ويستنهض أهلها فيجيبه من أراد الجهاد‏.‏ووصـل مدينـة أزور فلقيـه جماعـة مـن أصحاب الجراح فردهم معه‏.‏ ووصل إلى خلاط فحاصرها وفتحها وقسم غنائمها‏.‏ ثم سار عنها يفتح القلاع والحصون إلى بروعة فنزلها وابن خاقـان يومئـذ بأذربيجـان يحاصـر مدينـة ورثان منها ويبعث في نواحيها وبعث الحريشي إلى أهل ورثان يخبرهم بوصوله فأخرج العدو عنهم ووصل إليهم الحريشي‏.‏ثـم اتبـع العـدو إلـى أردبيـل وجـاءه بعـض عيونـه بأن عشرة آلاف من عسكرهم على أربعة فراسخ منه ومعهم خمسة آلاف بيت من المسلمين أسارى وسبايا فبيتهم وقتلهم أجمعين ولم ينج منهم أحد‏.‏ واستنقذ المسلمين منهم‏.‏وسار إلى باجروان فجاءه عين آخر ودله على جمع منهم فسار إليهم واستلحمهم أجمعين واستنقـذ مـن معهـم مـن المسلميـن وكان فيهم أهل الجراح وولده فحملهم إلى باجروان‏.‏ ثم زحف إليهـم جموع الخزر مع ابن ملكهم والتقوا بأرض زرند واشتد القتال والسبي من معسكر الكفار فبكى المسلمون رحمة لهم وصدقوا الحملـة‏.‏ فانهـزم الكفـار وأتبعهـم المسلمـون إلـى نهـر أرس وغنموا ما كان معهم من الأموال واستنقذوا الأسرى والسبايا وحملوهم إلى باجروان ثم تناصر الخـزر فـي ملكهـم ورجعـوا فنزلـوا نهـر البيلقـان واقتتلـوا قتـالاً شديـداً‏.‏ ثـم انهزمـوا فكـان مـن غـرق أكثر ممـن قتـل وجمـع الحريشي الغنائم وعاد إلى باجروان فقسمها وكتب إلى هشام بالفتح‏.‏ واستقدمه وولى أخاه مسلمة على أرمينية وأذربيجان‏.‏وقعة الشعب بين الجنيد وخاقان وخرج الجنيد سنة اثنتي عشرة ومائة من خراسان غازياً إلى طخارستان وبعث إليها عمارة بن خزيم في ثمانية عشر ألفاً وبعث إبراهيم بن سام الليثي في عشرة آلاف إلى وجه آخر وحاشتك التركي‏.‏ وزحف بهم خاقان إلى سمرقند وعليها سورة بن أبجر فكتب إلى الهند مستغيثاً فأمر الجنيد بعبور النهر‏.‏ فقال له المجشر بن مزاحم السلمي وابن بسطام الأزدي إن الترك ليسوا كغيرهم وقد مزقت جندك‏.‏ فسلم ابـن عبـد الرحمـن بالنبـراود والبختـري بهـراة وعمـارة بـن حزيـم بطخارستـان‏.‏ ولا تعبـر النهر في أقل من خمسين ألفاً‏.‏ فاستقدم عمارة وأمهل فقـال أخـي علـى سـورة وعبـر الجنيـد فنـزل كـش وتأهـب للسيـر‏.‏ وغـور التـرك الآبـار في طريق كش وسار الجنيد على التعبية واعترضه خاقان ومعه أهل الصغد وفرغانة والشاش وحملوا على مقدمته وعليها عثمان بن عبد الله بن الشخير فرجعوا والترك في اتباعهم‏.‏ثم حملوا على المدينة وأمدهم الجنيد بنصر بن سيار وشدوا على العدو وقتل أعياناً منهم‏.‏ وأقبل الجنيد على الميمنة وأقبل تحت راية الأزد فقال له صاحب الراية‏:‏ ما قصدت كرامتنا لكن علمت أنا لا نصل إليك ومنا عين تطرف فصبروا وقاتلوا حتى كلت سيوفهم‏.‏ وقطع عبيدهم الخشب فقاتلوا بها حتى أدركهم الملل وتعانقوا ثم تحاجزوا وهلك من الأزد في ذلك المعتـرك نحـو مـن ثمانيـن فيهـم عبـد اللـه بـن بسطـام ومحمـد بـن عبـد الله بن جودان والحسين بن شيخ ويزيد بن المفضل الحراني‏.‏ وبينا الناس كذلك إذ طلعت أوائل عسكر خاقان فنـادى منـادي الجنيـد بالنـزول فترجلـوا وخنـدق كل كائن على رجاله‏.‏ وقصد خاقان جهة بكر بن وائل وعليهم وأشـار أصحـاب الجنيـد عليـه بـأن يبعـث إلـى سورة بن أبجر من سمرقند ليتقدم الترك إليه ليكون لهـم شغـل بـه عن الجنيد وأصحابه‏.‏ فكتب يستقدمه فاعتذر فأعاد عليه وتهدده وقال‏:‏ اخرج وسـر مـع النهـر لا تفارقـه فلمـا خرج هو استبعد طريق النهر واستخلف على سمرقند موسى بن أسـود الحنظلـي‏.‏ وسـار محمـد فـي اثنـي عشـر ألفـاً حتـى إذا بقـي بينـه وبيـن الجنيـد وعساكـره فرسـخ لقيه خاقان عند الصباح وحال بينهم وبين الماء وأضرم النار في اليبس حواليهم فاستماتوا وحملـوا وانكشف الترك وأظلم الجو بالعجاج‏.‏ وكان من وراء الترك لهب سقط فيه جميع العدو والمسلمـون وسقـط سـورة فاندقـت فخـذه‏.‏ ثـم عطـف التـرك فقتلـوا المسلميـن ولم يبق منهم إلا القليل وانحاش بالناس المهلب بن زياد والعجمي في ستمائة أو ألف ومعه قريش بن عبد الله العبدي إلى رستاق المرغاب وقاتلوا بعض قصوره فأصيب المهلب وولوا عليهم الرحب بن خالد‏.‏ وجاءهم الأسكيد صاحب نسف وغورك ملك الصغد فنزلوا معه إلى خاقان فلم يجز أمان غورك وقتلهم ولم ينج منهم أحد‏.‏ ثم خرج الجنيد من الشعب قاصداً سمرقند وأشار عليه مجشر بن مزاحم بالنزول فنزل ووافقته جموع الترك‏.‏ فجال الناس جولة وصبر المسلمون وقاتل العبيد وانهزم العدو‏.‏ ومضى الجنيد إلى سمرقند فحمل العيالات إلى مرو وأقام بالصغد أربعة أشهر‏.‏ وكان صاحب الرأي بخراسان في الحرب المجشر بن مزاحم السلمي وعبد الرحمن بن أصبح المخزومي وعبيد الله بن حبيب الهجري‏.‏ ولما انصرفت الترك بعث الجنيد نهار بن توسعـة بـن تيـم اللـه وزميـل بـن سويـد بـن شيـم بالخبر‏.‏ وتحامل فيه على سورة بن أبجر بما عصاه مـن مفارقة النهر حتى نال العدو منه‏.‏ فكتب إليه هشام قد بعث إليك من المدد عشرة آلاف من البصرة ومثلها من الكوفة وثلاثون ألف رمح ومثلها سيفاً‏.‏ وأقام الجنيد بسمرقند وسار خاقـان إلـى بخـارى وعليهـا قطن بن قتيبة بن مسلم فخاف عليه من الترك‏.‏ واستشار عبد الله بن أبي عبد الله مولى بن سليم بعد أن اختلف عليه أصحابه فاشترط عليه أن لا يخالفه‏.‏ فأشـار بحمـل العيالـات مـن سمرقنـد فقدمهم واستخلف بسمرقند عثمان بن عبد الله بن الشخير في أربعمائه فارس وأربعمائه راجل ووفر أعطياتهم‏.‏ وسار العيالات في مقدمته حتى من الضيـق ودنـا من الطواويس فأقبل إليه خاقان بكير ميمنة أول رمضان سنة اثنتي عشرة واقتتلوا قليلاً‏.‏ ثم رجع الترك وارتحل من الغد فاعترضه التـرك ثانيـاً وقتـل مسلـم بـن أحـوز بعـض عظمائهم فرجعوا من الطواويس‏.‏ ثم دخل الجنيد بالمسلمين بخارى وقدمت الجنود من البصرة والكوفة فسرح الجنيد معهم حورثة بن زيد العنبري فيمن انتدب معه‏.‏

ولاية عاصم علي خراسان وعزل الجنيد
بلغ هشاماً سنة ست عشرة أن الجنيد بن عبد الرحمن عامل خراسان تزوج بنت يزيد بن المهلب فغضب لذلك وعزله وولى مكانه عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي وكان الجنيد قد مرض بالاستسقاء‏.‏ فقال هشام لعاصم إن أدركته وبه رمق فأزهق نفسه فلما قدم عاصم وجده قد مات وكانت بينهما عداوة فحبس عمارة بن حزيم وكان الجنيد استخلفه وهو ابن عذبة فعذبه عاصم وعذب عمال الجنيد‏.‏

ولاية مروان بن محمد على أرمينية وأذربيجان
لمـا عـاد مسلمـة مـن غـزو الخـزر وهـم التركمـان إلـى بلـاد المسلمين وكان في عسكره مروان بن محمد بن مروان فخرج مختفياً عنه إلى هشام وشكا له من مسلمة وتخاذله عن الغزو وما أدخـل بذلـك علـى المسلميـن مـن الوهـم‏.‏ وبعث إلى العدو بالحرب وأقام شهراً حتى استعدوا وحشدوا ودخل بلادهم فلم يكن له فيهم نكاية وقصد أراد السلامة ورغب إليه بالغزو إليهم لينتقم منهم وأن يمده بمائة وعشرين ألف مقاتل ويكتم عليه‏.‏ فأجابه لذلك وولاه على أرمينية فسار إليها وجاءه المدد من الشام والعراق والجزيرة‏.‏ فأظهر أنه يريد غزو اللان وبعث إلى ملك الخزر فـي المادنـة فأجـاب وأرسـل رسلـه لتقرير الصلح فأمسكهم مروان إلى أن تجهز وودعهم وسار إلى أقرب الطرق‏.‏ فوافاهم ورأى ملك الخزر أن اللقاء على تلك الحال غرر فتأخر إلـى أقصـى بلاده‏.‏ودخل مروان فأوغل فيها وخرب وغنم وسبى إلى آخرها‏.‏ ودخل بلاد ملك السرير وفتح قلاعها وصالحوه علـى ألـف رأس نصفهـا غلمـان ونصفهـا جـواري ومائـة ألـف مـد تحمـل إلـى البـاب‏.‏ وصالحـه أهل تومان على مائة رأس نصفين وعشرين ألف مد‏.‏ ثم دخل أرض وردكران فصالحوه‏.‏ ثم أتى حمرين وافتتح حصنهم ثم أتى سبدان فافتتحها صلحاً ثم نزل صاحب اللكـز فـي قلعتـه وقـد امتنـع مـن أداء الوظيفـة فخرج يزيد ملك الخزر فأصيب بسهم ومات وصالح أهل اللكز مروان وأدخل عامله وسار مروان إلى قلعة سروان فأطاعوا وسار إلى الرودانية فأوقع بهم ورجع‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:25 PM

خلع الحارث بن شريح بخراسان
كـان الحـارث هذا عظيم الأزد بخراسان فخلع سنة ست عشرة ولبس السواد ودعا إلى كتاب الله وسنة نبيه والبيعة للرضا على ما كان عليه دعاة بني العباس هناك‏.‏ وأقبل إلى الغاربات وجاءته رسل عاصم مقاتل بن حيان النبطي والخطاب بن محرز السلمي فحبسهما وفروا من السجـن إلى عاصم بدم الحارث وغدره‏.‏ وسار الحارث من الغاربات إلى بلخ وعليها نصر بن سيار والنجيبي فلقياه في عشرة آلاف وهو في أربعة فهزمهم وملك بلخ واستعمـل عليهـا سليمان بـن عبـد اللـه بـن حـازم‏.‏ وسـار إلـى الجوزجـان عليهـا ثـم سـار إلـى مـرو ونمـي إلـى عاصـم أن أهـل مرو يكاتبونه فاستوثق منهم بالقسامة وخرج وعسكر قريباً من مرو وقطع الجسور‏.‏ وأقبل الحارث في ستين ألفاً ومعه فرسان الأزد وتميم ودهاقين الجوزجان والغاربات وملك الطالقان وأصلحـوا القناطـر ثـم نـزع محمـد بـن المثنـى فـي ألفيـن مـن الـأزد وحمـاد بن عامر الجابي في مثلها من بنـي تميـم إلـى عاصـم ولحقـوا بـه ثم اقتتلوا‏.‏ فانهزم الحارث وغرق كثير من أصحابه في نهر مرو وقتلـوا قتـلاً ذريعـاً‏.‏ وكـان ممـن غرق حازم‏.‏ ولما قطع الحارث نهر مرو ضرب رواقه واجتمع إليه بها ثلاثة آلاف فارس وكف عاصم عنهم‏.‏

ولاية أسد القسري الثانية بخراسان
كتب عاصم إلى هشام سنة سبع عشرة أن خراسان لا تصلح إلا أن تضم إلى العراق ليكون مددها قريب الغوث فضم هشام خراسان إلى خالد بن عبد الله القسري وكتب إليه ابعث أخاك يصلح ما أفسد فبعث خالد أخاه أسداً فسار على مقدمته محمد بن مالك الهمداني‏.‏ ولما بلغ عاصم الخبر راود الحارث بن شريح على الصلح وأن يكتبا جميعاً إلى هشام يسألانه الكتـاب والسنة فإن أبى اجتمعا‏.‏ وأبى بعض أهل خراسان ذلك فانتقض بينهما واقتتلا فانهزم الحارث وأسر من أصحابه كثير قتلهم عاصم‏.‏ وبعث بالفتح إلى هشام مع محمد بن مسلم العنبري فلقيه أسد بالري‏.‏ وجاء إلى خراسان فبعث عاصماً وطلبه بمائة ألف درهم وأطلق عمارة بن حزيم وعمال الجنيد ولم يكن لعاصم بخراسان إلا مرو ونيسابور‏.‏ وكانت مرو الروذ للحـارث وواصـل لخالـد بن عبيد الله الهجري على مثل رأي الحارث‏.‏ فبعث أسد عبد الرحمن بـن نعيـم فـي أهـل الكوفـة والشـام إلـى الحـارث وسـار هـو بالنـاس إلـى آمـد‏.‏ فخـرج إليـه زياد القرشي مولى حيان النبطي في العسكر فهزمهم أسد وحاصرهم حتى سألوا الأمان واستعمل عليهم يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني وسار إلى بلخ‏.‏ وقد بايعوا سليمان بن عبد الله بن حازم فسـار حتـى قدمهـا‏.‏ ثم سار منها إلى ترمذ والحارث محاصر لهما‏.‏ وأعجزه وصول المدد إليها فخرج إلى بلخ وخرج أهل ترمذ فهزموا الحارث وقتلوا أكثر أصحابه‏.‏ثم سار أسد إلى سمرقند ومر بحصن زم وبه أصحاب الحارث فبعث إليهم وقال إنما نكرتم منـا سوء السيرة ولم يبلغ ذلك النساء واستحلال الفروج ولا مظاهر المشركين على مثل سمرقند وأعطـاه الأمـان علـى تسليـم سمرقنـد‏.‏ وهـدده إن قاتـل بأنـه لا يؤمنـه أبداً‏.‏ فخرج إلى الأمان وسار معـه إلـى سمرقنـد فنزلهـم علـى الأمـان‏.‏ ثـم رجـع أسد إلى بلخ وسرح جديعاً الكرماني إلى القلعة التي فيها ثقل الحارث وأصحابه في طخارستان فحاصرها وفتحها وقتل مقاتلهم ومنهم بنو بزري من ثعلب أصحاب الحارث‏.‏ وباع سبيهم في سوق بلخ وانتقض على الحارث أربعمائة وخمسون من أصحابه بالقلعة ورئيسهم جرير بن ميمون القاضي‏.‏ فقال لهم الحارث إن كنتم مفارقي ولا‏.‏ بد فاطلبوا الأمان وإن طلبتموه بعد رحيلي لا يعطونـه لكـم فأبـوا إلا إن ارتحـل فبعثـوا بالأمـان فلـم يجبهـم إليـه‏.‏ وسـرح جديعـة الكرمانـي فـي ستـة آلـاف فحصرهـم حتـى نزلوا على حكمه‏.‏ وحمل خمسين منهم إلى أسد فيهم ابن ميمون القاضي‏.‏ فقتلهم وكتب إلى الكرماني بإهلاك الباقين واتخذ أسد مدينة بلخ داراً ونقل إليها الدواوين‏.‏ ثم عزا طخارستـان وأرض حبونة فغنم وسبى‏.‏

مقتل خاقان
ولمـا كانـت سنـة تسع عشرة غزا أسد بن عبد الله بلاد الختل فافتتح منها قلاعاً وامتلأت أيدي العسكر من السبي والشاء‏.‏ وكتب ابن السائحي صاحب البلاد يستجيش خاقان على العرب ويضعفهم له فتجهز وخفف من الأزودة استعجالاً للعرب‏.‏ فلما أحسن به ابن السائحي بعث بالنذير إلى أسد فلم يصدقه فأعاد عليه أني الذي استمددت خاقان لأنك معرت البلاد‏.‏ ولا أريد أن يظفر بك خشية من معاداة العرب واستطالة خاقان علي فصدقه حينئذ أسد وبعث الأثقال مع إبراهيم بن عاصم العقيلي الذي كان ولي سجستان وبعث معه المشيخة كثير بن أميـة وأبـا سفيـان بـن كثيـر الخزاعـي وفضيل بن حيان المهري وغيرهم وأمدهما بجند آخر‏.‏ وجاء في أثرهـم فانتهـى إلـى نهـر بلـخ وقـد قطعـه إبراهيـم بـن عاصـم بالسبـي والأثقـال فخـاض النهـر مـن ثلاثـة وعشرين موضعاً وحمل الناس شياههم حتى حمل هو شاة فما استكمل العبور حتى طلعت عليهـم التـرك وعلـى المسلحـة الـأزد وتميـم‏.‏ فحمـل خاقـان عليهـم فانكشفوا فرجع أسد إلى عسكره وخندق‏.‏وظنوا أن خاقان لا يقطع النهر فقطع النهر إليهم وقاتله المسلمون في معسكرهم وباتوا والترك محيطـون بهـم‏.‏ فلمـا أصبحـوا لـم يـروا منهـم أحـداً فعلمـوا أنهـم اتبعـوا الأثقـال والسبـي واستعملوا علمها من الطلائع فشاور أسد الناس فأشاروا بالمقام وأشار نصر بن سيار باتباعهم يخلص الأثقال ويقطع شقة لا بد من قطعها فوافقه أسد وطير النذير إلى إبراهيم بن عاصم وصبح خاقان للأثقـال وقـد خندقـوا عليهـم‏.‏ فأمر أهل الصغد بقتلهم فهزمتهم مسلحة المسلمين فصعد على تل حتى رأى المسلمين من خلفهم‏.‏ وأمـر التـرك أن يأتوهـم مـن هنالـك ففعلـوا وخالطوهـم فـي معسكرهـم وقتلـوا صاغان خذاه وأصحابه وأحسوا بالهلاك‏.‏ وإذا بالغبار قد رهج والترك يتنحون قليلاً قليلاً‏.‏ وجـاء أسـد ووقـف على التل الذي كان‏.‏ عليه خاقان‏.‏ وخرج إليه بقية الناس وجاءته امرأة صاغان خذاه معولـة فأعـول معهـا ومضـى خاقـان يقـود أسـرى المسلميـن فـي الآفـاق ويسـوق الإبـل الموقـورة والجواري‏.‏ وأراد أهل العسكر قتالهم فمنعهم أسد‏.‏ ونادى رجل من عسكر خاقان وهو من أصحاب الحارث بن شريح يعير أسداً ويحرضه ويقول‏:‏ قد كان لك عن الختل مندوحة وهي أرض آبائي وأجدادي قد كان ما رأيت ولعل الله ينتقم منك‏.‏ومضى أسد إلى بلخ فعسكر في مرجها حتى جاء الشتاء فدخل البلد وشتى فيها‏.‏ وكان الحارث بن شريح بناحية طخارستان فانضم إلى خاقان وأغراه بغزو خراسان وزحفوا إلى بلخ‏.‏ وخرج أسد يوم الأضحى فخطب النـاس وعرفهـم بـأن الحـارث بـن شريـح استجلـب الطاغية ليطفىء نور الله ويبدل دينهم وحرضهم على الاستنصار بالله‏.‏ وقال أقرب ما يكون العبـد للـه ساجـداً‏.‏ ثـم سجـد وسجـد الناس وأخلصوا الدعاء وخرج للقائهم وقد استمد خاقان من وراء النهر وأهل طخارستان وحبونة في ثلاثين ألفاً وجاء الخبر إلى أسد وأشار بعض النـاس بالتحصـن منهـم بمدينـة بلـخ واستمد خالد وهشام وأبي الأسد إلا اللقاء فخرج واستخلف على بلخ الكرماني ابن علي‏.‏ وعهد إليه أنه لا يدع أحداً يخرج من المدينة‏.‏ واعتزم نصر بن سيـار والقاسـم بـن نجيـب وغيرهـم علـى الخـروج فـأذن لهـم وصلى بالناس ركعتين وطول‏.‏ ثم دعا وأمر الناس بالدعاء ونزل من وراء القنطرة ينتظر من تخلف‏.‏ ثم بدا له وارتحل فلقي طليعة خاقـان وأسـر قائدهـم‏.‏ وسـار حتـى نـزل على فرسخين من الجوزجان‏.‏ ثم أصبحوا وقد تراءى الجمعان وأنزل أسد الناس ثم تهيأ للحرب ومعه الجوزجان اه‏.‏وحملـت الترك على الميسرة فانهزموا إلى رواق أسد فشدت عليهم الأسد وبنو تميم والجوزجان من الميمنة فانكشفوا إلى خاقان وقد انهزم والحارث معه‏.‏ وأتبعهم الناس ثلاثة فراسخ يقتلونهم واستاقوا مائة وخمسين ألفاً من الشاء ودواب كثيرة‏.‏ وسلك خاقان غير الجادة والحارث بن شريـح ولقيهـم أسـد عنـد الطريق وسلك الجوزجان بعثمان بن عبد الله بن الشخير طريقاً يعرفها حتى نزلوا على خاقان وهو آمن فتركوا الأبنية والقدور تغلي وبناء العرب والموالي والعسكر مشحون من آنية الفضة وركب خاقان والحارث يمانع عنه‏.‏ وأعجلوا امرأة خاقان عن الركوب فقتلها الخصي الموكل بها‏.‏ وبعث أسد بجوار الترك دهاقين خراسان يفادون بها أسراهم وأقام خمسة أيام وانصرف إلى بلخ لتاسعة من خروجه‏.‏ ونزل الجوزجان وخاقان هارب أمامه‏.‏ وانتهى خاقان إلى جونة الطخاري فنزل عليه وانصرف أسد إلى بلخ وأقام خاقان عند جونة حتى أصلح آلته وسار وسبية بها‏.‏ فأخذه جد كاوش أبو فشين فأهدى إليه وأتحفه وحمل أصحابـه يتخـذ بذلك عنده يداً‏.‏ ثم وصل خاقان بلاده وأخذ في الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند وحمل الحارث وابن شريح وأصحابه على خمسة آلاف برذون ولاعب خاقان بالنرد كورصول يومـاً فغمـزه كورصـول فأنـف وتشاجـر فصـك كورصـول يـد خاقـان فحلـف خاقـان ليكسرن يده فتنحى وجمع‏.‏ثم بيت خاقان فقتله وافترق الترك وحملوه وتركوه بالعراء فحمله بعض عظمائهم ودفنه‏.‏ وكان أسد بعث بالفتح من بلخ إلى خالد بن عبد الله فأخبره وبعث به إلى هشام فلم يصدقه ثم بعـده القاسـم بن نجيب بقتل خاقان فبعث قيس أسداً وخالداً وقالوا لهشام‏:‏ استقدم مقاتل بن حيـان‏.‏ فكتـب بذلـك إلـى خالـد فأرسل إلى أسد أن يبعث به فقدم على هشام والأبرش وزيره جالـس عنـده فقـص عليـه الخبـر فسـر بذلـك وقال لمقاتل‏:‏ ما حاجتك قال يزيد بن المهلب أخذ من حيان أبي مائة ألف درهم بغير حق فأمر بردها علي‏.‏ فاستخلفه وكتب له بردها وقسمها مقاتل بين ورثة حيان‏.‏ ثم غزا أسد الختل بعد مقتل خاقان وقدم مصعب بن عمر الخزاعي إليها فسار إلى حصن بدر طرخان فاستأمن له أن يلقى أسداً فأمنه وبعث إلى أسد فسأل أن يقبل منه ألف درهم وراوده على ذلك فأبى أسد ورده إلى مصعب ليرده إلى حصنه فقال له مسلمة بن أبي عبد اللـه‏:‏ وهـو مـن الموالـي إن أميـر المؤمنيـن سينـدم علـى حبسـه‏.‏ ثـم أقبـل أسـد بالناس ووعد له المجشر بن مزاحم بدر طرخان أو قبول ما عرض فندم أسد وأرسل إلى مصعب يسأل عنه فوجده مقيمـاً عنـد مسلمـة فجـيء بـه وقطعـت يـده‏.‏ ثم أمر رجلاً من الأسد كان بدر طرخان قتل أباه فضرب عنقه وغلب على القلعة وبعث العساكر في بلاد الختـل فامتلـأت أيديهـم مـن الغنائـم والسبي وامتنع ولد بدر طرخان وأمواله في قلعة فوق بلدهم صغيرة فلم يوصل إليهم‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:26 PM

وفاة أسد
وفـي ربيـع الـأول سنـة عشريـن توفـي ابـن عبـد اللـه القسـري بمدينـة بلخ واستخلف جعفر بن حنظلة النهرواني فعمل أربعة أشهر ثم جاء عهد نصر بن سيار بالعمل في رجب‏.‏

ولاية يوسف بن عمر الثقفي على العراق
وعزل خالد وفـي هذه السنة عزل هشام خالداً من أعماله جميعها بسعاية أبي المثنى وحسان النبطي وكانا يتوليان ضياع هشام بالعراق فثقلا على خالد وأمر الأشدق بالنهوض على الضياع‏.‏ وأنهـى ذلـك حسـان بعـد أبـي المثنـى وأن غلتـه فـي السنـة ثلاثـة عشـر ألف ألف فوقرت في نفس هشام‏.‏ وأشار عليه بلال بن أبي بردة والعريان بن الهيثم أن يعرض أملاكه على هشام ويضمنون له الرضا فلم يجبهم‏.‏ ثم شكا من خالد بعض آل عمر والأشدق بأنه أغلظ له في القول بمجلسه فكتب إليه هشام يوبخه ويأمره بأن يمشي ساعياً على قدميه إلى بابه ويترضاه‏.‏ ونميـت عنـه مـن هـذا أقـوال كثيـرة وأنـه يستقـل ولايـة العراق فكتب إليه هشام يا ابن أم خالد بلغني أنك تقول ما ولاية العراق لي بشرف يا ابن اللخناء كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفاً وأنت من بجيلة القليلة الذليلة أما والله إني لأظن أن أول من يأتيك صقر من قريش يشد يديك إلى عنقـك‏.‏ ثـم كتـب إلـى يوسـف بـن عمـر الثقفـي وهـو باليمـن يأمـره أن يقـدم فـي ثلاثيـن مـن أصحابـه إلـى العراق فقد ولاه ذلك‏.‏ فسار إلى الكوفة ونـزل قريبـاً منهـا وقـد ختـن طـارق خليفـة خالـد بالكوفة ولده وأهدى إليه وصيفاً ووصيفة سوى الأموال والثياب‏.‏ ومر يوسف وأصحابه ببعض أهل العراق فسألوهم فعرضوا وظنوهم خوارج وركب يوسف إلى دور ثقيف فكتموا ثم جمع يوسف بالمسجد من كان هنالك من مضر ودخل مع الفجر فصلى وأرسل إلى خالد وطارق فأخذهما‏.‏ وقيل إن خالداً كان بواسط وكتب إليه بالخبر بعـض أصحابـه مـن دمشـق فركـب إلـى خالـد وأخبـره بالخبـر وقـال‏:‏ اركب إلى أمير المؤمنين واعتذر إليه قال لا أفعل بغير إذن قال فترسلني أستأذنه‏.‏ قال‏:‏ لا قال فاضمن له جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهده وهي مائة ألف ألف‏.‏ قال‏:‏ والله ما أجد عشرة آلاف ألف‏.‏ قال أتحملها أنا وفلان وفلان قال لا أعطي شيئاً وأعود فيه‏.‏ فقال طارق‏:‏ إنما نقيك ونقي أنفسنا بأموالنا ونستبقي الدنيا وتبقى الدنيا عليك وعلينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال وهي عند الكوفة فنقتل ويأكلوا الأموال‏.‏ فأبى خالد من ذلك كله فودعـه طـارق ومضـى وبكـى ورجع إلى الكوفة‏.‏ وخرج خالد إلى الحمة وجاء كتاب هشام بخطه إلى يوسف بولاية العراق وأن يأخـذ ابـن النصرانية يعني خالداً وعماله فيعذبهم فأخذ الأولاد وسار من يومه واستخلف على اليمن ابنه الصلت‏.‏ وقدم في جمادى الأخيرة سنة عشرين ومائة فنزل النجف وأرسل مولى كيسـان فجـاء بطـارق ولقيـه بالحيرة فضربه ضرباً مبرحاً ودخل الكوفة‏.‏ وبعث عثمان عطاء بن مقدم إلى خالد بالحمة فقدم عليه وحبسه وصالحه عنه أبان بن الوليد وأصحابه على سبعة آلـاف ألـف‏.‏ وقيـل أخـذ منـه مائـة ألـف وكانت ولايته العراق خمس عشرة سنة‏.‏ ولما ولي يوسف نزلت الذلة بالعراق في العرب وصار الحكم فيه إلى أهل الذمة‏.‏

ولاية نصر بن سيار خراسان
وغزوه وصلح الصغد ولما مات أسد بن عبد الله ولى هشام على خراسان نصر بن سيار وبعث إليه على عهده عبد الكريم بن سليط الحنفي وقد كان جعفر بن حنظلة لما استخلفه أسد عند موته عرض علـى نصـر أن يوليـه بخـارى‏.‏ فقـال لـه البختـري بـن مجاهـد مولـى بنـي شيبـان لا تقبـل فإنـك شيـخ مضـر بخراسان وكان عهدك قد جاء على خراسان كلها فكان كذلك‏.‏ ولما ولي نصر استعمل على بلـخ مسلـم بـن عبـد الرحمـن وعلـى مـرو الـروذ وشـاح بـن بكيـر بـن وشـاح وعلـى هراة الحرث بن عبد اللـه بـن الحشـرج وعلـى نيسابور زياد بن عبد الرحمن القسري وعلى خوارزم أبا حفص علي بن حقنـة وعلـى الصغـد قطـن بـن قتيبـة‏.‏ وبقـي أربـع سنيـن لا يستعمل في خراسان إلا مضرياً فعمرت عمارة لم تعمر مثلها وأحسن الولاية والجباية‏.‏ وكـان وصـول العهـد إليـه بالولايـة في رجب سنة عشرين فغزا غزوات أولها إلى ما وراء النهر من نحو باب الحديد‏.‏ وسار إليها من بلخ ورجع إلى مرو فوضع الجزية على من أسلم من أهل الذمـة وجعلهـا على من كان يخفف عنه منهم‏.‏ وانتهى عددهم ثلاثين ألفاً من الصنفين وضعت عـن هـؤلاء وجعلـت علـى هؤلاء ثم غزا الثانية إلي سمرقند ثم الثالثة إلى الشاش سار إليها من مرو ومعه ملك بخارى وأهل سمرقند وكش ونسف في عشرين ألفاً‏.‏ وجـاء إلـى نهـر الشـاش فحـال بينه وبين عبوره كورصول عسكر نصر في ليلة ظلماء ونادى نصر لا يخرج أحد‏.‏ وخرج عاصم بن عمير في جند سمرقند فجاولته خيل التـرك ليـلاً وفيهـم كورصـول فأسـره عاصـم وجـاء بـه إلى نصر فقتله وصلبه على شاطىء النهر فحزنت الترك لقتله وأحرقوا أبنيته وقطعوا آذانهم وشعورهم وأذناب خيولهـم‏.‏ وأمـر نصـر بإحـراق عظامـه لئـلا يحملوهـا بعـد رجوعـه‏.‏ ثـم سـار إلـى فرغانـة فسبـى منها ألف رأس وكتب إليه يوسف بن عمران ليسير إلى الحارث بن شريح في الشاش ويخرب بلادهم ويسبيهم‏.‏ فسار لذلك وجعل على مقدمته يحيى بـن حصيـن وجـاء بهـم إلـى الحـارث وقاتلهـم وقتـل عظيمـاً مـن عظمـاء التـرك وانهزموا‏.‏ وجـاء ملـك الشـاش فـي الصلـح والهدنـة والرهـن‏.‏ واشتـرط نصر عليه إخراج الحارث بن شريح من بلده فأخرجـه إلـى فـاراب‏.‏ واستعمـل علـى الشـاش بنـزل بـن صالـح مولـى عمـرو بـن العـاص‏.‏ ثـم سـار إلى أرض فرغانة وبعث أمه في إتمام الصلح فجاءت لذلك وأكرمها نصر وعقد لها ورجعت‏.‏ وكـان الصغـد لمـا قتـل خاقـان طمعوا في الرجعة إلى بلادهم فلما ولي نصر بعث إليهم في ذلك وأعطوه ما سألوه من الشروط وكان أهل خراسان قد نكروا شروطهم وكان منها أن لا يعاقب من ارتد عن الإسلام إليهم ولا يؤخذ منهم أسرى إلا ببينة وحكم وعاب الناس ذلك علـى نصر لما أمضاه لهـم‏.‏ فقـال‏:‏ لـو عاينتـم شكوتهـم فـي المسلميـن مثـل مـا عاينـت مـا أنكرتـم‏.‏ وأرسـل إلـى ظهور زيد بن علي ومقتله ظهر زيد بن علي بالكوفة خارجاً على هشام داعياً للكتاب والسنـة وإلـى جهـاد الظالميـن والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين والعدل في قسمة الفيء ورد المظالم وأفعال الخير ونصر أهل البيت‏.‏ واختلف في سبب خروجه فقيل‏:‏ إن يوسف بن عمر لما كتب في خالد القسري كتب إلى هشام أنه شيعة لأهل البيت وأنه ابتاع من زيد أرضاً بالمدينة بعشرة آلاف دينار ورد عليه الأمن‏.‏ وأنه أودع زيداً وأصحابه الوافدين عليه مالاً فكان زيد قد قدم على خالـد بالعـراق هـو ومحمـد بـن عمـر بـن علي بن أبي طالب وداود بن علي بن عبد الله بن عباس فأجازهم ورجعوا إلى المدينة‏.‏ فبعث هشام عنهم وسألهم فأقروا بالجائزة وحلفوا على ما سوى ذلك وأن خالداً لم يودعهم شيئاً‏.‏ فصدقهم هشام وبعثهم إلى يوسف فقاتلوا خالداً وصدقهم الآخر وعادوا إلى المدينة ونزلوا القادسية‏.‏ وراسـل أهـل الكوفـة زيـداً فعـاد إليهـم وقيل في سبب ذلك‏:‏ إن زيداً اختصم مع ابن عمه جعفر بن الحسن المثنى في وقف علي وكانا يحضران عند عامل خالد بن عبد الملك بن الحارث‏.‏ فوقعت بينهما في مجلسه مشاتمة وأنكر زيد من خالد إطالته للخصومة وأن يستمع لمثل هذا فأغلـظ لـه زيـد وسـار إلـى هشـام فحجبـه ثـم أذن لـه بعد حين‏.‏ فحاوره طويلاً ثم عرض له بأنه ينكـر الخلـاف وتنقصـه‏.‏ ثـم قال له اخرج قال نعم ثم لا أكون إلا بحيث تكره فسار إلى الكوفة‏.‏ وقـال لـه محمـد بن عمر بن علي بن أبي طالب ناشدتك الله الحق بأهلك ولا تأت الكوفة وذكره بفعلهم مع جده وجده يستعظم ماوقع به‏.‏وأقبل الكوفة فأقام بها مستخفياً ينتقل في المنازل‏.‏ واختلف إليه الشيعة وبايعه جماعة‏:‏ منهم مسلمـة بـن كهيـل ونصـر بـن خزيمة العبسي ومعاوية بن إسحق بن زيد بن حارثة الأنصاري وناس مـن وجـوه أهـل الكوفـة يذكـر لهـم دعوتـه ثـم يقول أتبايعون على ذلك‏.‏ فيقولون نعم فيضع يده على أيديهم ويقول عهد الله عليك وميثاقه وذمته وذمة نبيه بيقين تتبعني ولا تقاتلني مع عدوي ولتنصحن لي في السـر والعلانيـة‏.‏ فـإذا قـال نعـم وضـع يـده فـي يـده ثـم قـال‏:‏ اللهـم اشهـد فبايعـه خمسـة عشر ألفاً وقيل أربعون‏.‏ وأمرهم بالاستعداد وشاع أمره في الناس وقيل‏:‏ إنه أقام في الكوفة ظاهراً ومعه داود بن علي بن عبد الله بن عباس لما جاؤوا لمقاتلة خالد فاختلف إليه الشيعة وكانت البيعة‏.‏ وبلغ الخبر إلى يوسف بن عمر فأخرجه من الكوفة ولحق الشيعة بالقادسية أو الغلبيـة وعذلـه داود بـن علـي فـي الرجـوع معـه وذكـره حـال جـده الحسين‏.‏ فقالت الشيعة لزيد‏:‏ هذا إنما يريد الأمر لنفسه ولأهل بيته فرجع معهم ومضى داود إلى المدينة‏.‏ ولما أتى الكوفة جاءه مسلمة بن كهيل فصده عن ذلك وقال أهل الكوفة لا يعولون ذلك‏.‏ وقد كـان مـع جـدك منهـم أضعـاف ممـا معـك ولـم تعادلـه وكـان أعـز عليهم منك على هؤلاء‏.‏ فقال له قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وعنقهم‏.‏ قال فتأذن لي أن أخرج من هذا البلد فلا آمن أن يحدث حدث وأنا لا أهلك نفسي فخرج لليمامة‏.‏ وكتب عبد الله بن الحسن المثنى إلى زيد يعذله ويصده فلم يصغ إليه‏.‏ وتزوج نساء بالكوفة وكان يختلف إليهن والناس يبايعونه ثم أمر أصحابه يتجهزون‏.‏ ونمـي الخبـر إلـى يوسـف بـن عمـر فطلبـه وخـاف فتعجـل الخروج وكان يوسف بالحيرة وعلى الكوفة الحكم بن الصلت وعلى شرطته عمر بن عبد الرحمن من القاهرة ومعه عبيد الله بن عباس الكنـدي فـي ناس من أهل الشام‏.‏ ولما علم الشيعة أن يوسف يبحث عن زيد جاء إليه جماعة منهم فقالوا‏:‏ ما تقول في الشيخين فقال زيد‏:‏ رحمهما الله وغفر لهما وما سمعت أهل بيتي يذكرونهما إلا بخير‏.‏ وغاية ما أقول إنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس فدفعونا عنه ولم يبلغ ذلك الكفر وقد عدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنة‏.‏ قال‏:‏ فإذا كان أولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتالهم فقال إن هؤلاء ظلموا المسلمين أجمعين فإنا ندعوهم إلى الكتاب والسنة وأن نحيي السنن ونطفىء البدع فإن أجبتم سعدتـم وإن أبيتـم فلست عليكم بوكيل‏.‏ ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا‏:‏ سبق الإمام الحق يعنون محمداً الباقر وأن جعفراً ابنه إمامنا بعده فسماهم زيد الرافضة ويقال إنما سماهم الرافضة حيث فارقوه‏.‏ ثـم بعـث يوسـف بـن عمـر إلـى الحكـم بـأن يجمـع أهـل الكوفـة فـي المسجد فجمعوا وطلبوا زيداً في دار معاويـة بـن إسحـق بن زيد بن حارثة فخرج منها ليلاً واجتمع إليه ناس من الشيعة وأشعلوا النيـران ونـادوا يـا منصـور حتـى طلع الفجر وأصبح جعفر بن أبي العباس الكندي فلقي اثنين من أصحـاب زيـد يناديان بشعاره فقتل واحداً وأتى بالآخر إلى الحكم فقتله وأغلق أبواب المسجد علـى النـاس‏.‏ وبعـث إلـى يوسـف بالخبـر فسـار مـن الحيـرة وقـدم الريـان بن سلمة الأراشي في ألفين خيالـة وثلثمائـة ماشيـة‏.‏ وافتقـد زيـد النـاس فقيـل إنهـم فـي الجامـع محصـورون ولم يجد معه إلا مائتين وعشرين‏.‏ وخرج صاحب الشرطة في خيله فلقي نصر بن خزيمة العبسي من أصحاب زيد ذاهباً إليه فحمل عليه نصر وأصحابه فقتلوه وحمل زيد على أهل الشام فهزمهم‏.‏ وانتهى إلى دار أنس بن عمر الأسدي ممن بايعه وناداه فلم يخرج إليه‏.‏ ثـم سـار زيـد إلـى الكناسـة فحمـل علـى أهل الشام فهزمهم ثم دخل الكوفة والرايات في أتباعه‏.‏ فلمـا رأى زيـد خذلـان الناس قال لنصر بن خزيمة أفعلتموها حسينية‏.‏ قال‏:‏ أما أنا فوالله لأموتن معك وإن الناس بالمسجد فامض بنا إليهم‏.‏ فجاء إلى المسجد ينادي بالناس بالخروج إليه‏.‏ فرماه أهل الشام بالحجارة من فوق المسجد فانصرفوا عند المساء‏.‏ وأرسل يوسف بن عمر مـن الغد العباس بن سعد المزني في أهل الشام فجاءه في دار الزرق وقد كان أوى إليها عند المساء‏.‏ فلقيه زيد بن ثابت فاقتتلوا فقتل نصر‏.‏ ثم حملوا على أصحاب العباس فهزمهم زيد وأصحابه وعباهم يوسف بن عمر من العشي ثم سرحهم فكشفهم أصحاب زيد ولم تثبت خيلهم لخيله‏.‏ وبعـث إليهـم يوسـف بـن عمر بالقادسية واشتد القتال وقتل معاوية بن زيد‏.‏ ثم رمي زيد عند المساء بسهم أثبته فرجع أصحابه وأهل الشام يظنون أنهم تحاجزوا ولما نزع النصل من جبهته مات فدفنوه وأجروا عليه الماء‏.‏ وأصبح الحكم يوم الجمعة يتبع الجرحى من الدور ودله بعض الموالي على قبر زيد فاستخرجه وقطع رأسه وبعث بها إلى يوسف بالحيرة فبعثه إلى هشام فنصبه على باب دمشق‏.‏ وأمر يوسف الحكم أن يصلب زيـداً بالكناسـة ونصـر بـن خزيمـة ومعاويـة بـن إسحـق ويحرسهـم‏.‏ فلمـا ولـي الوليـد أمـر بإحراقهـم واستجـار يحيى بن زيد بعبد الملك بن شبر بن مروان فأجاره حتى سكن المطلب ثم سار إلى خراسان في نفر من الزيدية‏.‏ ظهور أبي مسلم بالدعوة العباسية كان أهل الدعوة العباسية بخراسان يكتمون أمرهم منذ بعث محمد بن علي بن عبد الله بن عبـاس دعاتـه إلـى الآفـاق سنـة مائـة مـن الهجـرة أيـام عمـر بـن عبد العزيز لما مر أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ذاهباً وجائياً من الشام من عند سليمان بن عبد الملك فمرض عنده بالحميمة من أعمال البلقاء وهلك هنالك وأوصى له بالأمر‏.‏ وكان أبو هاشم قد علم شيعته بالعـراق وخراسـان وأن الأمـر صائـر فـي ولـد محمـد بـن علـي بن عبد الله بن عباس‏.‏ فلما مات أبو هاشـم قصـدت الشيعـة محمـداً وبايعـوه سـراً وبعث دعاته منهم إلى الآفاق‏.‏ وكان الذي بعث إلى العراق مسيرة ابن والي خراسان محمد بن حبيش وأما عكرمة السراج وهو أبو محمد الصادق وحيان العطار خال إبراهيم بن سلمة فجاؤوا إلى خراسان ودعوا إليه سراً وأجابهم الناس وجاؤوا بكتب من أجاب إلى مسيرة اه فبعـث بهـا إلـى محمـد واختار أبو محمد الصادق اثني عشر رجلاً من أهل الدعوة فجعلهم نقباء عليهـم وهـم‏:‏ سليمـان بـن كثير الخزاعي ولاهز بن قريط التميمي وأبو النجم عمران بن إسماعيل مولى أبي معيط ومالك بن الهيثم الخزاعي وطلحة بن زريق الخزاعي وأبو حمزة بن عمر بن أعيـن مولـى خزاعـة وأخـوه عيسـى وأبـو علي شبلة بن طهمان الهروي مولى بني حنيفة‏.‏ واختار بعـده سبعيـن رجـلاً وكتـب إليـه محمـد بـن علـي كتابـاً يكـون لهـم مثـالاً يقتدون به في الدعوة وأقاموا علـى ذلـك ثم بعث مسيرة رسله من العراق سنة اثنتين ومائة في ولاية سعيد خدينة وخلافة يزيد بن عبد الملك‏.‏ وسعى بهم إلى سعيد فقالوا نحن تجار فضمنهم قوم من ربيعة واليمن فأطلقهم‏.‏ وولد محمد ابنه عبد الله السفاح سنة أربع ومائة وجاء إليه أبو محمد الصادق في جماعة من دعـاة خراسـان فأخرجـه لهـم ابـن خمسة عشر يوماً وقال هذا صاحبكم الذي يتم الأمر على يده فقبلـوا أطرافـه وانصرفـوا‏.‏ ثـم دخـل معهـم فـي الدعـوة بكيـر بـن هامـان جـاء مـن السند مع الجنيد بن عبد الرحمن‏.‏ فلما عزل قدم الكوفة ولقي أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد بن حبيش وعمـار العبـادي خـال الوليـد الـأزرق دعـاه إلـى خراسان في ولاية أسد القسري أيام هشام ووشى بهم إليه فقطع أيدي من ظفر به منهم وصلبه‏.‏ وأقبل عمار إلى بكير بن هامان فأخبره فكتب إلى محمد بن علي بذلك فأجابة‏:‏ الحمد لله الذي صدق دعوتكم ومقالتكم وقد بقيت فيكم قتلى ستعد‏.‏ ثم كان أول من قدم محمد بن علـي إلـى خراسـان أبـو محمـد زيـاد مولـى همـذان بعثـه محمـد بـن علـي سنـة تسعـة فـي ولايـة أسـد أيـام هشام وقال له‏:‏ انزل في اليمن وتلطف لمضر ونهاه عن غالب النيسابوري شيعة بني فاطمة‏.‏ فشتـى زيـاد بمـرو ثـم سعـى بـه إلـى أسـد فاعتـذر بالتجـارة ثـم عـاد إلـى أمـره‏.‏ فأحضره أسد وقتله فـي عشـرة مـن أهـل الكوفـة‏.‏ ثـم جـاء بعدهـم إلـى خراسان رجل من أهل الكوفة اسمه كثير ونزل على أبي الشحم وأقام يدعوا سنتين أوثلاثـة ثـم أخـذ أسـد بـن عبـد اللـه فـي ولايتـه الثانيـة سنـة سبـع عشرة‏.‏ أخذ سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وموسى بن كعب ولاهز بن قريط بثلاثمائة سوط وشهد حسن بن زيد الأسدي ببراءتهم فأطلقهم‏.‏ ثم بعث بكير بن هامان سنة ثماني عشر عمار بن زيد على شيعتهم بخراسان فنزل مرو وتسمـى بخـراش وأطاعـه النـاس‏.‏ ثـم نـزل دعوتهم بدعوة الخرمية فأباح النساء وقال‏:‏ إن الصوم إنما هو عن ذكر الإمام وأشار إلى إخفاء اسمه‏.‏ والصلاة الدعاء له والحج القصـد إليـه‏.‏ وكـان خـراش هـذا نصرانيـاً بالكوفـة واتبعـه علـى مقالته مالك بن الهيثم والحريش بن سليم‏.‏ وظهر أسد علـى خبـره وبلـغ الخبـر بذلـك إلـى محمـد بـن علي فنكر عليهم قبولهم من خراش وقطع مراسلتهم‏.‏ فقدم عليه ابن كثير منهم يستعلم خبره ويستعطفه على ما وقع منهم وكتب معه إليهم كتاباً مختومـاً لم يجدوا فيه غير البسملة فعلموا مخالفة خراش لأمره وعظم عليهم‏.‏ ثم بعث محمد بن بكيـر بـن أبـان وكتب معه بكذب خراش فلم يصدقوه فجاء إلى محمد وبعث مع عصيا مضببةً بعضهـا بالحديـد وبعضهـا بالنحـاس‏.‏ ودفـع إلـى كـل رجـل عصـاً فعلموا أنهم قد خالفوا السيرة فتابوا ورجعوا‏.‏ وتوفي محمد بن علي سنة أربع وعشرين وعهد إلى ابنه إبراهيم بالأمر وأوصى الدعاة بذلك وكانوا يسمونه الإمام‏.‏ وجاء بكير بن هامان إلى خراسان بنعيه والدعاء لإبراهيم الإمام سنة سـت وعشرين ومائة‏.‏ ونزل مرو ودفع إلى الشيعة والنقباء كتابه بالوصية والسيرة فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقاتهم فقدم بها بكير على إبراهيم‏.‏ ثـم بعـث إليهـم أبـا مسلـم سنـة أربـع وعشريـن وقد اختلف في أوليته اختلافاً كثيراً‏.‏ وفي سبب اتصاله بإبراهيم الإمام أو أبيه محمد فقيل كان من ولد بزرجمهر ولد بأصبهان وأوصى به أبوه إلى عيسى بن موسى السراج فحمله إلى الكوفة ابن سبع سنين‏.‏ ونشأ بها واتصل بإبراهيم الإمام‏.‏ وكان اسم أبي مسلم إبراهيم بن عثمان بن بشار‏.‏ فسماه إبراهيم الإمام عبد الرحمن وزوجـة أبيـه أبـي النجـم عمـران بـن إسماعيـل مـن الشيعـة‏.‏ فبنـى بها بخراسان وزوج ابنته من محرز بن إبراهيم فلم يعقب‏.‏ وابنته اسماء من فهم بن محرز فأعقبت فاطمة وهي التي يذكرها الخرمية‏.‏ وقيل في اتصاله بإبراهيم الإمام‏:‏ إن أبا مسلم كان موسى السراج وتعلم منه صناعة السروج وكـان يتجهـز فيهـا بأصبهان والجبال والجزيرة والموصل‏.‏ واتصل بعاصم بن يونس العجلي صاحب عيسـى السراج وابن أخيه عيسى وإدريس ابني معقل وإدريس هو جد أبي دلف‏.‏ ونمي إلى يوسف بن عمران العجلي من دعاة بني العباس فحبسهم مع عمال خالد القسري‏.‏ وكان أبو مسلـم معهـم فـي السجـن بخدمتهـم وقبـل منهـم الدعـوة‏.‏ وقيـل لـم يتصـل بهم من عيسى السراج وإنما كان مـن ضيـاع بنـي العجلـي بأصبهـان أو الجبـل‏.‏ وتوجـه سليمـان بـن كثيـر ومالـك بـن الهيثـم ولاهـز بـن قريط وقحطبة بن شبيب من خراسان يريدون إبراهيم الإمام بمكة فمروا بعاصم بن يونس وعيسـى وإدريـس ابنـي معقـل العجلـي بمكانهـم مـن الحبـس فـرأوا معهـم أبـا مسلـم فأعجبهم وأخذوه‏.‏ ولقـوا إبراهيم الإمام بمكة فأعجبه فأخذه وكان يخدمه‏.‏ ثم قدم النقباء بعد ذلك على إبراهيم الإمـام يطلبـون أن يوجـه مـن قلبه إلى خراسان فبعث معه أبا مسلم‏.‏ فلما تمكن ونوى أمره ادعى أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عباس‏.‏ وكان من أولية هذا الخبر أن جارية لعبد الله بن العباس ولدت لغير رشدة فحدها واستعبد وليدهـا وسمـاه سليطـاً فنشأ واختص بالوليد‏.‏ وادعى أن عبد الله بن عباس أقر بأنه ابنه وأقام البينـة علـى ذلـك‏.‏ وخاصـم علـي بـن عبـد اللـه فـي الميـراث وأذاه‏.‏ وكـان فـي صحابتـه عمـر الدن من ولد أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها سليط بالخبر فاستعدت الوليد على علي فأنكر وحلف فنبشوا في البستان فوجدوه‏.‏ فأمر الوليد بعلي فضرب ليدله على عمر الدن‏.‏ ثم شفع فيه عباد بن زياد فأخرج إلى الحميمة‏.‏ لما ولي سليمان رده إلى دمشق‏.‏ وقيل إن أبا مسلم كان عبداً للعجليين وابن بكير بن هامان كان كاتباً لعمال بعض السند‏.‏ وقدم الكوفة فكان دعاة بني العباس فحبسوا وبكير معهم‏.‏ وكان العجليون في الحبس وأبو مسلم العبسي بن معقـل فدعاهـم بكيـر إلـى رأيـه فأجابـوه واستحسن الغلام فاشتراه من عيسى بن معقل بأربعمائة درهم وبعث به إلى إبراهيم الإمام فدفعـه إبراهيـم إلى موسى السراج من الشيعة‏.‏ فسمع منه وحفظ وصار يتردد إلى خراسان‏.‏ وقيل كان لبعض أهل هراة وابتاعه منه إبراهيم الإمام ومكث عنده سنين وكان يتردد بكتبه إلـى خراسـان‏.‏ ثـم بعثـه أميـراً علـى الشيعـة وكتـب إليهـم بالطاعة له وإلى أبي سلمة الخلال داعيهم بالكوفـة يأمره بإنفاذه إلى خراسان فنزل على سليمان بن كثير وكان من أمره ما يذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى‏.‏ ثم جاء سليمان بن كثير ولاهز بن قريط وقحطبة إلى مكة سنة سبع وعشرين بعشرين ألف دينار للإمام إبراهيم ومائتي ألف درهم ومسك ومتاع كثير ومعهم أبو مسلـم وقالـوا‏:‏ هـذا مولاك‏.‏ وكتب بكير بن هامان إلى الإمام بأنه أوصى بأمر الشيعة بعده لأبي سلمة حفص بن سليمـان الخلـال وهو رضى‏.‏ فكتب إليه إبراهيم بالقيام بأمر أصحابه وكتب إلى أهل خراسان بذلك فقبلوه وصدقوه وبعثوا بخمس أموالهم ونفقة الشيعة للإمام إبراهيم‏.‏ ثـم بعـث إبراهيـم فـي سنـة ثماني وعشرين مولاه أبا مسلم إلى خراسان وكتب له‏:‏ أني قد أمرته بأمـري فاسمعوا له وأطيعوا وقد أمرته على خراسان وما غلبت غليه فارتابوا من قوله ووفدوا على إبراهيم الإمام من قابل مكة وذكر له أبو مسلم أنهم لم يقبلوه‏.‏ فقال لهم‏:‏ قد عرضت عليكم الأمر فأبيتم من قبوله وكان عرضه على سليمان بن كثير ثم على إبراهيم بن مسلمة فأبوا‏.‏ وإني قد أجمع رأيي على مسلم وهو منا أهل البيت فاسمعوا له وأطيعوا‏.‏ وقال لأبي مسلـم انـزل فـي أهـل اليمـن وأكرمهـم‏.‏ فـإن بهـم يتـم الأمر وآتهم البيعة‏.‏ أما مضر فهم العدو الغريب واقتل من شككت فيه وإن قدرت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل وارجع إلى سليمان بن كثير واكتف به مني وسرجه معهم فساروا إلى خراسان‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:27 PM

وفاة هشام بن عبد الملك وبيعة الوليد بن يزيد
توفـي هشـام بـن عبـد الملـك بالرصافـة فـي ربيـع الآخـر سنـة خمس وعشرين ومائة لعشرين سنة من خلافته وولى بعده الوليد ابن أخيه يزيد بعهد يزيد بذلك كما مر وكان الوليد متلاعباً وله مجون وشراب وندمان وأراد هشام خلعه فلم يمكنه‏.‏ وكان يضرب من يأخذه فـي صحبتـه فخرج الوليد في ناس من خاصته ومواليه وخلف كاتبه عياض بن مسلم ليكاتبه بالأحـوال فضربه هشام وحبسه‏.‏ ولم يزل الوليد مقيمًا بالبرية حتى مات هشام وجاءه مولى أبي محمد السفيانـي علـى البريـد بكتـاب سالـم بـن عبـد الرحمـن صاحـب ديـوان الرسائل بالخبر فسأل عن كاتبه عيـاض فقـال‏:‏ لـم يـزل محبوسًـا حتـى مـات هشـام فأرسـل إلـى الحـراق أن يحتفظـوا بمـا فـي أيديهـم حتى منعوا هشاماً من شيء طلبه‏.‏ ثم خرج بعد موته من الحبس وختم أبواب الخزائن‏.‏ ثم كتب الوليـد مـن وقتـه إلـى عمـه العبـاس بـن عبـد الملـك أن يأتـي الرصافـة فيحصـي مـا فيها من أموال هشام وولده وعماله وخدمه إلا مسلمة بن هشام فإنه كان يراجع أباه بالرفق بالوليد فانتهى العباس لما أمـر بـه الوليـد‏.‏ ثـم استعمـل الوليـد العمـال وكتـب إلـى الآفـاق بأخذ البيعة‏.‏ فجاءته بيعتهم‏.‏ وكتب مروان ببيعتـه واستـأذن فـي القـدوم‏.‏ ثـم عقـد الوليـد مـن سنتـه لابنيـه‏:‏ الحكـم وعثمـان بعـده وجعلهمـا وليي عهده وكتب بذلك إلى العراق وخراسان‏.‏

ولاية نصر للوليد علي خراسان
وكتـب الوليـد في سنته إلى نصر بن سيار بولاية خراسان وأفرده بها ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى منه نصرًا وعماله فرد إليه الوليد خراسان‏.‏ وكتـب يوسـف إلـى نصـر بالقدوم ويحمل معه الهدايا والأموال وعياله جميعاً وكتب له الوليد بأن يتخذ له برابط وطنابير وأباريـق ذهـب وفضـة ويجمـع لـه البراذيـن الغرة ويجمع بذلك إليه في وجوه أهل خراسان واستحثه رسـول يوسـف فأجـازه‏.‏ ثـم سـار واستخلـف علـى خراسان عصمة بن عبد الله الأسدي وعلى شاس موسى بن ورقاء وعلى سمرقند حسان ابن من أهل الصغانيان وعلى آمد مقاتل بن علـي الصغـدي وأسـر إليهـم أن يداخلـوا التـرك في المسير إلى خراسان ليرجع إليهم‏.‏ وبينا هو في طريقـه إلـى العـراق ببيهـق لقيـه مولـى لبني ليث وأخبره بقتل الوليد والفتنة بالشام‏.‏ وأن منصور بن جمهور قدم العراق وهرب يوسف بن عمر فرجع الناس‏.‏

مقتل يحيي بن زياد
كـان يحيـى بـن زيـاد سـار بعـد قتـل أبيـه وسكـون الطلب عنه كما مر فأقام عنه الحريش بن عمرو ومروان في بلخ‏.‏ ولما ولي الوليد كتب إلى نصر بأن يأخذه من عند الحريش فأحضر الحريش وطالبـه بيحيـى فأنكـر فضربـه ستمائة سوط فجاء ابنه قريش ودله على يحيى فحبسه‏.‏ وكتب إلى الوليد فأمره أن يخلي سبيله وسبيل أصحابه‏.‏ فأطلقه نصر وأمره أن يلحق بالوليد فسار وأقام بسرخس فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس بن عياد يخرجه عنها فأخرجه إلى بيهق وخـاف يحيـى بـن يوسـف بـن عمـر فسـار إلـى نيسابـور وبها عمر بن زرارة وكان مع يحيى سبعون رجلاً ولقوا دواب وأدركهم الإعياء فأخذوها بالثمن‏.‏ وكتب عمر بن زرارة بذلك إلى نصر فكتـب إليـه يأمـره بحربهـم‏.‏ فحاربهم في عشرة آلاف فهزموه وقتلوه ومروا بهراة فلم يعرضوا لها‏.‏ وسرح نصر بن سيار مسلم بن أحوز المازني إليهم فلحقهم بالجوزجان فقاتلهم قتالاً شديداً وأصيـب يحيـى بسهم في جبهته فمات‏.‏ وقتل أصحابه جميعاً وبعثوا برأسه إلى الوليد وصلب بالجـوزان‏.‏ وكتـب الوليـد إلـى يوسـف بـن عمـر بـأن يحـرق شلو زيد فأحرقه وذراه في الفرات‏.‏ ولم يزل يحيى مصلوباً بالجوزحان حتـى استولـى أبـو مسلـم علـى خراسـان فدفنـه ونظـر فـي الديـوان أسمـاء من حضر لقتله فمن كان حياً قتله ومن كان ميتاً خلفه في أهله بسوء‏.‏

مقتل خالد بن عبد الله القسري
قد تقدم لنا ولاية يوسف بن عمر على العراق وأنه حبس خالداً أصحاب العراق وخراسان قبلـه فأقـام بحبسـه فـي الحيـرة ثمانيـة عشـر شهـراً مـع أخيـه إسماعيـل وابنه يزيد بن خالد والمنذر ابن أخيه أسد‏.‏ واستـأذن هشامـاً فـي عذابـه فـأذن لـه علـى أنـه إن هلـك قتـل يوسـف بـه فعذبـه‏.‏ ثـم أمـر هشام بإطلاقه سنة إحدى وعشرين فأتى إلى قرية بإزاء الرصافة فأقام بها حتى خرج زيد وقتل وانقضى أمره فسعى يوسف بخالد عند هشام بأنه الذي داخل زيداً في الخروج فرد هشـام سعايتـه ووبـخ رسولـه وقال‏:‏ لسنا نتهم خالداً في طاعة‏.‏ وسار خالد إلى الصائفة وأنزل أهله دمشق وعليها كلثوم بن عياض القشيري وكان يبغض خالدًا‏.‏ فظهـر فـي دمشـق حريـق فـي ليـال فكتـب كلثـوم إلـى هشـام بـأن موالـي خالـد يريـدون الوثـوب إلـى بيت المـال ويتطرقـون إلـى ذلـك بالحريـق كـل ليلـة فـي البلـد‏.‏ فكتـب إليـه هشـام بحبـس الكبيـر منهـم والصغيـر والموالي فحبسهم ثم على صاحب الحريق وأصحابه‏.‏ وكتب بهم الوليد بن عبد الرحمن عامل الخـراج ولـم يذكـر فيهم أحداً من آل خالد ومواليه فكتب هشام إلى كلثوم يوبخه ويأمره بإطلاق آل خالـد وتـرك الموالـي‏.‏ فشفـع فيهم خالد عند مقدمه من الصائفة فلما قدم دخل منزله وأذن للناس فاجتمعوا ببابه فوبخهم وقال‏:‏ إن هشاماً يسوقهن إلى الحبس كل يوم‏.‏ ثم قال‏:‏ خرجت غازياً سامعاً مطيعاً فحبس أهلي مع أهل الجرائم كما يفعل بالمشركين‏.‏ ولم يغير ذلك أحد منكم أخفتم القتل أخافكم الله‏.‏ والله ليكفن عني هشام أن لأعودن إلى عراقي الهوى شامي الدار حجازي الأصل يعني محمد بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏ وبلغ ذلك هشاماً فقال‏:‏ خرف أبو الهيثم‏.‏ ثم تتابعت كتب يوسف بن عمر إلى الشام بطلب يزيد بن خالد فأرسل إلى كلثوم بإنفاذه إليه فهرب يزيد فطلبه كلثوم من خالد وحبسه فيه ولما ولي الوليد بن يزيد استقدم خالداً وقال‏:‏ أين ابنك قال هرب من هشام وكنا نراه عندك حتـى استخلفـك اللـه فلم نره وطلبناه ببلاد قومه من الشراة فقال‏:‏ ولكن خلفته طلباً للفتنة فقال‏:‏ إنا أهل بيت طاعة‏.‏ فقال لتأتيني به أو لأرهقن نفسك‏.‏ فقال والله لوكان تحت قدمي ما رفعتهمـا عنـه‏.‏ فأمـر الوليـد بضربـه‏.‏ ولمـا قـدم يوسـف بـن عمـر مـن العـراق بالأموال اشتراه من الوليد بخمسين ألف ألف‏.‏ فقال له الوليد إن يوسف يشتريك بكذا فاضمنها لي قبل أن أدفعك إليه‏.‏ فقـال مـا عهـدت العـرب تبـاع واللـه لو سألتني عوداً ما ضمنته‏.‏ فدفعه إلى يوسف فألبسه عباءة وحمله على غير وطاء وعذبه عذاباً شديداً وهو لا يكلمه‏.‏ ثم حمله إلى الكوفة فاشتد في عذابـه ثـم قتلـه ودفنـه فـي عبـاءة يقـال إنـه قتله بشيء وضعه على وجهه وقيل وضع على رجليه الأعواد وقام عليها الرجال حتى تكسرت قدماه‏.‏ وذلك في المحرم سنة ست وعشرين ومائة‏.‏

مقتل الوليد وبيعة يزيد
ولما ولي الوليد لم يقلع عما كان عليه من الهوى والمجون حتى نسب إليه في ذلك كثير من الشنائع‏.‏ مثل رميه المصحف بالسهام حين استفتح فوقع على قوله‏:‏ وخاب كل جبار عنيد‏.‏ وينشدون له في ذلك بيتين تركتهما لشناعة مغزاهما‏.‏ ولقد ساءت القالة فيه كثيراً وكثير من النـاس نفـوا ذلـك عنـه وقالـوا‏:‏ إنهـا مـن شناعات الأعداء ألصقوها به‏.‏ قال المدائني دخل ابن الغمر بـن يزيـد علـى الرشيـد فسألـه‏:‏ ممـن أنـت‏.‏ فقـال‏:‏ من قريش‏.‏ قال‏:‏ من أيها فوجم‏.‏ فقال‏:‏ قل وأنت آمـن ولـو أنـك مـروان‏.‏ فقـال‏:‏ أنـا ابـن الغمـر بن يزيد‏.‏ فقال‏:‏ رحم الله الوليد ولعن يزيد الناقص فإنه قتل خليفةً مجمعاً عليه ارفع حوائجك فرفعها وقضاها‏.‏ وقال شبيب بن شبة كنا جلوساً عند المهدي فذكر الوليد فقال المهدي كان زنديقاً فقام ابن علانة الفقيه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل أعدل من أن يولي خلافة النبوة وأمر الأمة زنديقـاً لقـد أخبرني عنه من كان يشهده في ملاعبه وشربه ويراه في طهارته وصلاته فكان إذا حضرت الصلاة يطرح الثياب التي عليه المصببة المصبغة‏.‏ ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ويؤتى بثيـاب بيـض نظيفـة فيلبسهـا ويشتغـل بربـه‏.‏ أتـرى هـذا فعـل مـن لا يؤمـن باللـه فقال المهدي‏:‏ بارك الله عليك يا ابن علانة وإنما كان الرجل محسوداً في خلاله ومزاحماً بكبار عشيرته بيته من بني عمومته مع لهو كان يصاحبه أوجد لهم به السبيل على نفسه‏.‏ وكـان مـن خلالـه قـرض الشعر الوثيق ونظم الكلام البليغ‏.‏ قال يوماً لهشام يعزيه في مسلمة أخيه‏:‏ إن عقبى من بقي لحوق من مضى وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى واختل الثغر فهوى‏.‏ وعلـى أثـر من سلف يمضي من خلف فتزودوا فإن خير الزاد التقوى‏.‏ فأعرض هشام وسكت وأما حكاية مقتله فإنه لما تعرض له بنو عمه ونالوا من عرضه أخذ في مكافأتهم‏.‏ فضرب سليمان ابن عمه هشام مائة سوط وحلقه وغربه إلى معان من أرض الشام فحبسه إلى آخر دولته‏.‏ وحبس أخاه يزيد بن هشام وفرق بين ابن الوليد وبين امرأته وحبس عدة من ولد الوليـد فرمـوه بالفسق والكفر واستباحة نساء أبيه‏.‏ وخوفوا بني أمية منه بأنة اتخذ ميتة جامعة لهـم وطعنـوا عليـه فـي توليـة ابنيـه الحكـم وعثمـان العهـد مـع صغرهمـا‏.‏ وكـان أشدهـم عليـه فـي ذلـك يزيد بن الوليد لأنه كان يتنسك فكان الناس إلى قوله أميل‏.‏ ثـم فسـدت اليمامـة عليـه بمـا كـان منه لخالد القسري‏.‏ وقالوا‏:‏ إنما حبسه ونكبه لامتناعه من بيعة ولديـه‏.‏ ثـم فسـدت عليـه قضاعـة وكـان اليمـن وقضاعة أكثر جند الشام‏.‏ واستعظموا منه ما كان من بيعة خالد ليوسف بن عمر وصنعوا على لسان الوليد قصيدة معيرة اليمنية بشأن خالد فـازداد واختفـى‏.‏ وأتـوا إلـى يزيـد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة‏.‏ وشاور عمر بن زيـد الحكمـي فقال‏:‏ شاور أخاك العباس وإلا فأظهر إنه قد يايعك فإن الناس له أطوع‏.‏ فشاور العباس فنهاه عن ذلك فلم ينته ودعا الناس سراً وكان بالبادية‏.‏ وبلغ الخبر مروان بأرمينية فكتـب إلـى سعيـد بـن عبـد الملـك يعظـم عليـه الأمر ويحذره الفتنة ويذكر له أمر يزيد فأعظم ذلك سعيد وبعث بالكتاب إلى العباس فتهدد أخاه يزيد فكتمه فصدقه‏.‏ دمشـق ليـلاً وقـد بايـع له أكثر أهلها سراً وأهل المزة‏.‏ وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج فاستوياها فنزل قطنا واستخلف عليها ابنه محمداً‏.‏ وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي‏.‏ ونمي الخبر إليهما فكذباه وتواعد يزيد مـع أصحابـه بعـد المغـرب ببـاب الفراديس‏.‏ ثم دخلوا المسجد فصلوا العتمة ولما قضوا الصلاة جاء حرس المسجد لإخراجهم فوثبـوا عليهـم ومضـى يزيـد بـن عنبسـة إلـى يزيد بن الوليد فجاء به إلى المسجد في زهاء مائتين وخمسين وطرقوا باب المقصورة فأدخلهم الخادم فأخذوا أبا العاج وهو سكران وخزان بيت المال‏.‏ وبعـث عـن محمـد بن عبد الملك فأخذوه وأخذوا سلاحاً كثيراً كان بالمسجد وأصبح الناس من الغد من النواحي القريبة متسائلين للبيعة أهل المزة والسكاسك وأهل دارا‏.‏ وعيسى بن شيب الثعلبي في أهل درهة وحرستا وحميد بن حبيب اللخمي في أهل دمرعران وأهل حرش والحديثـة ودريركـا وربعـي بن هشام الحرشي في جماعة من عروسلامان‏.‏ ويعقوب بن عمير بن هانـىء العبسـي جهينـة ومواليهـم‏.‏ ثـم بعـث عبـد الرحمـن بن مصادي في مائتي فارس فجاء بعبد الملك بن محمد بن الحجاج من قصره على الأمان‏.‏ ثم جهز يزيد الجيش إلى الوليد بمكانه من البادية مع عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك ومنصور بن جمهور‏.‏ وقد كان الوليد لما بلغه ثم بايع ليزيد وأشار على الوليد أصحابه أن يلحق بحمص فيتحصن بها‏.‏ قال له ذلك يزيد بن خالد بن يزيد وخالفه عبد الله بن عنبسة‏.‏ وقال‏:‏ ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره وحرمه قبـل أن يقاتل‏.‏ فسار إلى قصر النعمان بن بشير ومعه أربعون من ولد الضحاك وغيره‏.‏ وجاء كتـاب العبـاس بـن الوليد بأنه قادم عليه وقاتلهم عبد العزيز ومنصور بعد أن بعث إليهم زياد بن حصيـن الكلبي يدعوهم إلى الكتاب والسنة‏.‏ فقتله أصحاب الوليد واشتد القتال بينهم وبعث عبـد العزيـز بـن منصـور بـن جمهـور لاعتـراض العبـاس بـن الوليـد أن يأتـي بالوليـد‏.‏ فجاء به كرهاً إلى عبد العزيز وأرسل الوليد إلى عبد العزيز بخمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقي على أن ينصرف عنه فأبى‏.‏ ثم قاتل قتالاً شديداً حتى سمع النداء بقتله وسبه من جوانب الحومة فدخل القصر فأغلق الباب وطلب الكلام من أعلى القصر فكلمه يزيد بن عنبسة السكسكي فذكره بحرمه وفعله فيهـم‏.‏ فقال ابن عنبسة‏:‏ إنا ما ننقم عليك في أنفسنا وإنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر ونكـاح أمهـات أولـاد أبيـك واستخفافـك بأمـر اللـه‏.‏ قـال حسبـك اللـه يـا أخـا السكاسك فلعمري لقد أكثرت وأغرقت وإن فيما أحل الله سعة عما ذكرت‏.‏ ثم رجع إلى الـدار فجلس يقرأ في المصحف وقال‏:‏ يوم كيوم عثمان‏:‏ فتسوروا عليه وأخذ يزيد بن عنبسة بيـده يقيـه لا يريـد قتلـه وإذا بمنصـور بن جمهور في جماعة معه ضربوه واجتزوا رأسه فساروا به إلى يزيد فأمر بنصبه‏.‏ فتلطف له يزيد بن فروة مولى بني مرة في المنع من ذلك وقال‏:‏ هذا ابن عمك وخليفة وإنما تنصب رؤوس الخوارج ولا آمن أن يتعصب له أهل بيته فلم يجبه وأطافه بدمشق على رمح ثـم دفـع إلـى أخيـه سليمان بن يزيد وكان معهم عليه‏.‏ وكان قتله آخر جمادى الآخرة سنة ست وعشريـن لسنتيـن وثلاثـة أشهـر مـن بيعتـه‏.‏ ولمـا قتـل خطـب النـاس يزيـد فذمـه وثلبـه وإنـه إنما قتله من أجل ذلك‏.‏ ثم وعدهم بحسن الظفر والاقتصار عن النفقة في غير حاجاتهم وسد الثغور والعدل في العطاء والأرزاق ورفع الحجاب ء وإلا فلكم ما شئتم مـن الخلـع‏.‏ وكـان يسمـى الناقـص لأنـه نقـص الزيادة التي زادها الوليد في أعطيات الناس وهي عشرة عشرة‏.‏ ورد العطاء كمـا كـان أيـام هشام وبايع لأخيه إبراهيم بالعهد ومن بعده لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك حمله على ذلك أصحابه القدرية لمرض طرقه‏.‏ ولمـا قتـل الوليـد وكان قد حبس سليمان ابن عمه هشام بعمان خرج سليمان من الحبس وأخذ ما كان هناك من الأموال ونقله إلى دمشق‏.‏ ثم بلغ خبر مقتله إلى حمص وإن العباس بن الوليد أعان على قتله فانتقضوا وهدموا دار العباس وسبوها وطلبـوه فلحـق بأخيـه يزيـد‏.‏ وكاتبـوا الأجنـاد فـي الطلـب بـدم يزيـد وأمـروا عليهـم مـروان بـن عبـد الله بن عبد الملك ومعاوية بن يزيد بن حصيـن بـن نميـر وراسلهـم يزيـد فطـردوا رسولـه فبعـث أخـاه مسـروراً فـي الجيش فنزل حوارين‏.‏ ثم جاء سليمان به هشام من فرد عليه ما أخذ الوليد من أموالهم وبعث على الجيش وأمر أخاه مسرورًا بالطاعة‏.‏ واعتزم أهل حمص على المسير إلى دمشق فقال لهم مروان‏:‏ ليس من الرأي أن تتركوا خلفكم هـذا الجيـش وإنمـا نقاتله قبل فيكون ما بعده أهون علينا‏.‏ فقال لهم السميط بن ثابت إنما يريد خلافكم وإنما هواه مع يزيد والقدريـة فقتلـوه وولـوا عليهـم محمـداً السفيانـي وقصـدوا دمشـق فاعترضهـم ابن هشام بغدر فقاتلهم قتالاً شديداً‏.‏ وبعث يزيد عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملـك فـي ثلاثـة آلـاف إلـى ثنيـة العقـاب وهشـام بـن مضـاد فـي ألف وخمسمائة إلى عقبة السلامية‏.‏ وبينما سالم يقاتلهم إذ أقبلت عساكر من ثنية العقاب فانهزم أهل حمص ونادى يزيد بن خالد بـن عبـد اللـه القسـري‏:‏ اللـه اللـه على قومك يا سليمان‏.‏ فكف الناس عنهم وبايعوا ليزيد‏.‏ وأخذ أبا محمد السفياني ويزيد بن خالد بن يزيد وبعثهما إلى يزيد فحبسهما اه‏.‏ واستعمل على حمص معاوية بن يزيد بن الحصين وكان لما قتل الوليد وثب أهل فلسطين على عاملهم سعيد بن عبد الملك فطردوه وتولى منهم سعيد وضبعان ابنا روح وكان ولد سليمان ينزلون فلسطين فضروا يزيد بن سليمان وولوه عليهم وبلغ ذلك أهل الأردن فولوا عليهم محمد بن عبد الملك‏.‏ وبعث يزيد سليمان بن هشام في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني على ثمانين ألفاً وبعث إلى ابني روح بالإحسان والولاية فرجعا بأهل فلسطين‏.‏ وقدم سليمان عسكراً من خمسة آلاف إلى طبرية فنهبوا القرى والضياع وخشي أهل طبرية على من وراءهم فانتهبوا يزيد بن سليمان ومحمد بن عبد الملك ونزلوا بمنازلهم فافترقت جموع الأردن وفلسطين‏.‏ وسار سليمان بن هشام ولحقه أهل الأردن فبايعوا ليزيد وسار إلى طبرية والرملة وأخذ على أهلهما البيعة ليزيد وولى على فلسطين ضبعان بن روح وعلى الأردن إبراهيم بن الوليد‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:29 PM

ولاية منصور بن جمهور على العراق
ثم ولاية عبد الله بن عمر لما ولي يزيد استعمل منصور بن جمهور على العراق وخراسان ولم يكن من أهل الدين وإنما صـار مـع يزيـد لرأيه في الغيلانية وحنقاً على يوسف بقتله خالداً القسري‏.‏ ولما بلغ يوسف قتل الوليد ارتاب في أمره وحبس اليمانية لما تجتمع المضرية عليه فلم ير عندهم ما يحب فأطلق اليمانية‏.‏ وأقبل المنصور وكتب من عين البقر إلى قواد الشام في الحيرة بأخذ يوسف وعماله فأظهـر يوسـف الطاعـة‏.‏ ولمـا قـرب منصور دخل دار عمر بن محمد بن سعيد بن العاصي ولحق منها بالشام سراً وبعث يزيد بن الوليد خمسين فارساً لتلقيه‏.‏ فلما أحس بهم هرب واختفى ووجـد بيـن النسـاء فأخـذوه وجـاؤوا بـه إلـى يزيـد فحبسـه مـع ابنـي الوليـد حتـى قتلهـم مولـى ليزيد بن خالد القسري‏.‏ ولما دخل منصور بن جمهور الكوفة لأيام خلت من رجب أفاض العطاء وأطلق من كان في السجون من العمال وأهل الخراج واستعمل أخاه على الري وخراسان فسار لذلك فامتنع نصر بـن سيـار مـن تسليـم خراسـان لـه‏.‏ ثـم عزل يزيد منصور بن جمهور لشهرين من ولايته وولى على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وقال‏:‏ سر إلى أهل العراق فإن أهله يميلون إلى أبيك فسار وانقاد له أهل الشام وسلم إليه منصور العمل وانصرف إلى الشام‏.‏ وبعث عبد الله العمال علـى الجهـات واستعمـل عمـر بـن الغضبـان بـن القبعثـرا علـى الشرطـة وخـراج السـواد والمحاسبات وكتب إلى نصر بن سيار بعهده على خراسان‏.‏

انتقاض أهل اليمامة
ولما قتل الوليد كان علي بن المهاجر على اليمامة عاملاً ليوسف بن عمر فجمع له المهير بن سليمـان بـن هلال من بني الدول بن خولة‏.‏ وسار إليه وهو في قصره بقاع هجر فالتقوا وانهزم علـي وقتـل نـاس من أصحابه وهرب إلى المدينة‏.‏ وملك المهير اليمامة ثم مات واستخلف عليها عبـد الله بن النعمان من بني قيس بن ثعلبة من الدول فبعث المندلب بن إدريس الحنفي على الفلـج قريـة مـن قرى بني عامر بن صعصعة فجمع له بني كعب بن ربيعة بن عامر وبني عمير فقتلـوا المندلـب وأكثـر أصحابـه‏.‏ فجمـع عبـد اللـه بن النعمان جموعاً من حنيفة وغيرها وغزا الفلج وهزم بني عقيل وبني بشير وبني جعدة وقتل أكثرهم‏.‏ ثـم اجتمعـوا ومعهم نمير فلقوا بعض حنيفة بالصحراء فقتلوهم وسلبوا نساءهم ثم جمع عمر بن الوازع الحنفي الجموع وقال‏:‏ لست بدون عبد الله بن النعمان وهذه فترة من السلطان‏.‏ وأغار وامتلأت يداه من الغنائم وأقبل ومن معه وأقبلت بنو عامـر والتقـوا فانهـزم بنـو حنيفـة ومـات أكثرهـم مـن العطـش‏.‏ ورجـع بنو عامر بالأسرى والنساء ولحق عمر بن الوازع باليمامة‏.‏ ثم جمع عبيـد اللـه بـن مسلـم الحنفـي جمعاً وأغار على قشير وعكل فقتل منهم عشرين وسمى المثنى بن يزيـد بـن عمـر بـن هبيـرة واليـاً علـى اليمامـة مـن قبـل أبيـه حتـى ولـي العـراق لمـروان فتعـرض المثنـى لبنـي عامـر وضـرب عـدة مـن بنـي حنيفـة وحلقهـم ثـم سكنـت البلـاد ولم يزل عبيد الله بن مسلم الحنفي مستخفياً حتى قدم كسرى بن عبيد الله الهاشمي والياً على العامة لبني العباس ودل عليه اختلاف أهل خراسان ولما قتل الوليد وقدم على نصر عهد خراسان من عبد الله بن عمر بن عبد العزيز صاحب العـراق انتقـض عليـه جديـع بـن علـي الكرمانـي وهـو أزدي‏.‏ وإنمـا سمـي الكرمانـي لأنه ولد بكرمان وقال لأصحابه هذه فتنة فانظروا لأموركم رجلاً فقالوا له أنت وولوه‏.‏ وكان الكرماني قـد أحسـن إلـى نصـر فـي ولايـة أسـد بـن عبـد اللـه فلمـا ولـى نصـر عزلـه عـن الرياسـة بغيـره فتباعد ما بينهما‏.‏ وأكثر على نصر أصحابه في أمر الكرماني فاعتـزم علـى حبسـه وأرسـل صاحـب حرسه ليأتي به‏.‏ وأراد الأزد أن يخلصوه فأبى وجاء إلـى نصـر يعـدد عليـه أياديـه قبلـه مـن مراجعة يوسف بن عمر في قتله والغرامة عنه وتقديم ابنه للرياسة‏.‏ ثم قال‏:‏ فبدلت ذلك بالإجماع على الفتنة فأخذ يعتذر ويتنصل وأصحاب نصر يتحاملون عليه مثل مسلم بن أحور وعصمة بن عبد الله الأسدي‏.‏ ثم ضربه وحبسه آخر رمضان سنة ست وعشرين ثم نقب السجن واجتمع له ثلاثة آلاف وكانت الأزد قد بايعوا عبد الملك بن حرملة على الكتاب والسنة‏.‏ ولما جاء الكرماني قدمه عبـد الملـك ثم عسكر نصر على باب مرو الروذ واجتمع إليه الناس وبعث سالم بن أحور في الجمـوع إلـى الكرمانـي وسفر الناس بينهما على أن يؤمنه نصر ولا يحبسه‏.‏ وأجاب نصر إلى ذلك وجـاء الكرمانـي إليـه وأمـره بلزوم بيته‏.‏ ثم بلغه عن نصر شيء فعاد إلى حاله وكلموه فيه فأمنه وجاء إليـه وأعطـى أصحابـه عشـرة عشـرة‏.‏ فلمـا عـزل جمهـور عـن العـراق وولـي عبـد اللـه بـن عمـر بـن عبد العزيز خطب نصر قدام بن جمهور وأثنى على عبد الله فغضب الكرماني لابن الجمهور وعـاد لجمـع المـال واتخـاذ السلـاح‏.‏ وكـان يحضـر الجمعـة فـي ألـف وخمسمائـة ويصلـي خـارج المقصـورة ويدخـل فيسلم ولا يحبس‏.‏ ثم أظهر الخلاف وبعث إليه نصر سالم بن أحور فأفحش فـي صرفـه وسفـر بينهمـا النـاس فـي الصلـح علـى أن يخـرج الكرمانـي مـن خراسان وتجهز للخروج إلى جرجان‏.‏ أمان الحارث بن شريح وخروجه من دار الحارث لما وقعت الفتنة بخراسان بين نصر والكرماني خاف نصر أن يستظهر الكرماني عليه بالحارث بـن شريـح وكـان مقيمـاً ببلـاد التـرك منـذ اثنتي عشرة سنة كما مر فأرسل مقاتل بن حيان النبطي يـراوده على الخروج من بلاد الترك بخلاف ما يقتضي له الأمان من يزيد بن الوليد‏.‏ وبعث خالد بن زياد البدي الترمذي وخالد بن عمرة مولى بني عامر لاقتضاء الأمان له من يزيد فكتب له الأمـان‏.‏ وأمـر نصـراً أن يرد عليه ما أخذ له وأمر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز عامل الكوفة أن يكتب لهما بذلك أيضاً‏.‏ ولما وصل إلى نصر بعث إلى الحارث بذلك فلقيه الرسول راجعاً مع مقاتل بن حيان وأصحابه ووصل سنة سبع وعشرين في جمادى الأخيرة وأنزله نصر بمرو ورد عليـه مـا أخـذ له وأجرى عليه كل يوم خمسين درهماً وأطلق أهله وولده‏.‏ وعرض عليه أن يوليه ويعطيه مائة ألف دينار فلم يقبل وقال‏:‏ لست من الدنيا واللذات في شيء وإنما أسأل كتاب الله والعمل بالسنة وبذلك أساعدك على عدوك‏.‏ وإنما خرجت من البلاد منذ ثلاث عشره سنة إنكاراً للجور فكيف تزيدني عليه‏.‏ وبعث إلى الكرماني إن عمل نصر بالكتاب عضدتـه فـي أمـر اللـه ولا أعتبـك إن ضمنـت لـي القيـام بالعدل والسنة‏.‏ ثم دعا قبائل تميم فأجاب منهم ومن غيرهم كثير واجتمع إليه ثلاثة آلاف وأقام على ذلك‏.‏ انتقاض مروان لما قتل الوليد كـان مـروان بـن محمد بن مروان على أرمينية وكان على الجزيرة عبدة بن رياح العبادي‏.‏ وكان‏.‏ الوليد قد بعث بالصائفة أخاه فبعث معه مروان ابنه عبد الملك‏.‏ فلما انصرفوا من الصائفة لقيهم بجرزان حين مقتل الوليد وسار عبدة عن الجزيرة‏.‏ فوثب عبد الملك بالجزيرة وجرزان فضبطهمـا وكتـب إلـى أبيـه بأرمينيـة يستحثـه فسـار طلبـاً بدم الوليد بعد أن أرسل إلى الثغور من يضبطهـا‏.‏ وكـان معـه ثابـت بـن نعيـم الجذامي من أهل فلسطين وكان صاحب فتنة‏.‏ وكان هشام قد حبسه على إفساد الجند بأفريقية عند مقتل كلثوم بن عياض وشفع فيه مروان فأطلقاه وأتخنـه عنده يداً‏.‏ فلما سار من أرمينية داخل ثابت أهل الشام في العود إلى الشام من وجه الفـرات‏.‏ واجتمع له الكبير من جند مروان وناهضه القتال‏.‏ ثم غلبهم وانقادوا له وحبس ثابت بـن نعيـم وأولـاده ثـم أطلقهـم مـن حـران إلـى الشـام وجمع نيفاً وعشرين ألفاً من الجزيرة ليسير بهم إلى يزيد وكتب إليه يشترط ما كان عبد الملك ولى أباه محمداً من الجزيرة والموصل وأذربيجان فأعطاه يزيد ولاية‏.‏ ذلك وبايع له مروان وانصرف‏.‏ وفاة يزيد وبيعة أخيه إبراهيم ثم توفي يزيد آخر سنة ست وعشرين لخمسة أشهر من ولايته ويقال‏:‏ إنه كان قدرياً وبايعوا لأخيـه إبراهيـم مـن بعـده إلا أنـه انتقـض عليـه النـاس ولـم يتـم لـه الأمـر‏.‏ وكـان يسلـم عليه تارة بالخلافة وتارة بالإمارة وأقام على ذلك نحواً من ثلاثة أشهر ثم خلعه مروان بن محمد على ما يذكر‏.‏ وهلك سنة اثنتين وثلاثين‏.‏ ولمـا توفـي يزيـد وولـى أخـوه إبراهيـم وكـان مضعفـاً انتقض عليه مروان لوقته وسار إلى دمشق‏.‏ فلما انتهى إلى قنسرين وكان عليها بشر بن الوليد عاملاً لأخيه يزيد ومعه أخوهما مسرور دعاهم مروان إلى بيعته‏.‏ ومال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة وخرج بشر للقاء مروان‏.‏ فلما تراءى الجمعان مال ابن هبيرة وقيس إلى مروان وأسلموا بشراً ومسروراً فأخذهما مروان وحبسهمـا وسـار بأهـل قنسريـن ومـن معـه إلى حمص وكانوا امتنعوا من بيعة إبراهيم‏.‏ فوجه إليهم عبـد العزيـز بـن الحجـاج بـن عبـد الملك في جند أهل دمشق فكان يحاصرهم‏.‏ فلما دخل مروان رحل عبد العزيز عنهم وبايعوا مروان وخرج للقائه سليمان بن هشام في مائة وعشرين ألفاً ومـروان فـي ثمانيـن فدعاهـم إلـى الصلـح وتـرك الطلـب بـدم الوليـد علـى أن يطلقـوا ابنيـه الحكـم وعثمـان ولبى عهده فأبوا وقاتلوه‏.‏ وسرب عسكراً جاؤوهـم مـن خلفهـم فانهزمـوا وأثخـن فيهـم أهـل حمص فقتلوا منهم نحواً من سبعة عشر ألفاً وأسروا مثلها‏.‏ ورجع مروان بالفل وأخذ عليهم البيعة للحكم وعثمان ابني الوليد وحبس يزيد بن العفار والوليد بن مصاد الكلبيين فهلكا في حبسه‏.‏ وكان ممن شهد قتل الوليد بن الحجاج وهرب يزيد بن خالد القسري إلى دمشق فاجتمع له مع إبراهيم وعبد العزيز بن الحجاج وتشاوروا في قتل الحكم وعثمان خشية أن يطلقهما مروان فيثـأرا بأبيهمـا‏.‏ وولـوا ذلـك يزيـد بن خالد فبعث مولاه أبا الأسد فقتلهما وأخرج يوسف بن عمر فقتله واعتصم أبو محمد السفياني ببيت في الحبس فلم يطيقوا فتحه وأعجلهم خيل مروان‏.‏ فدخـل دمشـق وأتـى بأبي الوليد ويوسف بن عمر مقتولين فدفتها وأتى بأبي عمر السفياني في قيوده فسلم عليه بالخلافة وقال‏:‏ إن ولي العهد جعلها لك‏.‏ ثم بايعه وسمع الناس فبايعوه وكان أولهم بيعه معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير وأهل حمص‏.‏ ثم رجع مروان إلى خراسان واستأمـن لـه إبراهيـم بـن الوليـد وسليمـان بن هشام وقدما عليه وكان قدوم سليمان من تدمر بمن معه من إخوته وأهل بيته ومواليه الذكوانية فبايعوا لمروان‏.‏

انتقاض الناس علي مروان
ولما رجع إلى خراسان راسل ثابت بن نعيم من فلسطين أهل حمص في الخلاف على مروان فأجابوه وبعثوا إلى من كان بتدمر ممن طلب وجاء الأصبغ بن دوالة الكلبي وأولاده ومعاوية السكسكي فارس أهل الشام وغيرها في ألف من فرسانهم ودخلوا حمص ليلة الفطر من سنة سبـع وعشرين‏.‏ وزحف مروان في العساكر من حران معه إبراهيم المخلوع وسليمان بن هشام ونزل عليهم ثالث يوم الفطر وقد سدوا أبوابهم فنادى مناديه‏:‏ ما دعاكم إلى النكث‏.‏ قالوا لم ننكث ونحن على الطاعة‏.‏ ودخل عمر بن الوضاح في ثلاثة آلاف فقاتله المحتشدون هنالك للخلاف وخرجوا من الباب الآخر وجفل مروان في اتباعهم وعلا البـاب‏.‏ فقتـل منهـم نحـو خمسمائة وصلبهم وهدم من سورها علوه وأفلت الأصبغ بن دوالة وابنه فرافصة‏.‏ ثـم بلـغ مـروان وهـو بحمـص خلـاف أهـل الغوطـة وأنهـم ولـوا عليهـم يزيـد بـن خالـد القسـري وحاصروا دمشق وأميرها زامل بن عمر فبعث مروان إليهم أبا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحارث وعمر بن الوضاح في عشرة آلاف فلما دنوا من دمشق حملوا عليهم وخرج إليهم من كـان بالمدينـة فهزموهـم وقتلـوا يزيـد بن خالد وبعثوا برأسه إلى مروان وأحرقوا المزة وقرى البرامة‏.‏ ثـم خـرج ثابت بن نعيم في أهل فلسطين وحاصر طبرية وعليها الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكـم‏.‏ فبعـث مـروان إليـه أبـا الـورد فلمـا قرب منه خرج أهل طبرية عليه فهزموه ولقيه أبو الورد منهزماً فهزمه أخرى وافترق أصحابه وأسر ثلاثة من ولده وبعث بهم إلى مروان‏.‏ وتغيب ثابت وولى مروان على فلسطين الرماحس بن عبد العزيز الكناني فظفر بثابت بعد شهرين وبعث به إلى مروان موثقاً فقطعه وأولاده الثلاثة وبعثهم إلى دمشق فصلبوا‏.‏ ثم بايع لابنيه عبد الله وعبيد الله وزوجهما بنتي هشام ثم سار إلى ترمذ من دير أيوب وكانوا قد غوروا المياه‏.‏ فاستعمل المزاد والقرب والإبل وبعث وزيره الأبرش الكلبي إليهم وأجابوا إلـى الطاعـة‏.‏ وهـرب نفـر منهـم إلـى البلـد وهـدم الأبـرش سورهـا ورجـع بمن أطاع إلى مروان‏.‏ ثم بعث مـروان يزيـد بـن عمـر بـن هبيـرة إلـى العـراق لقتال الضحاك الشيباني الخارجي بالكوفة وأمده ببعوث أهل الشام ونزل قرقيسيا ليقدم ابن هبيرة لقتال الضحاك‏.‏ وكـان سليمان بن هشام قد استأذنه بالمقام في الرصافة أياماً ويلحق به فرجعت طائفة عظيمة من أهل الشام الذين بعثهم مروان مع ابن هبيرة فأقاموا بالرصافة ودعوا سليمان بن هشام بالبيعة فأجاب وسار معهم إلى قنسرين فعسكر بها وكاتب أهل الشام فأتوه من كل وجه‏.‏ وبلغ الخبر مروان فكتب إلى ابن هبيرة بالمقام ورجع من قرقيسيا إلى سليمان فقاتله فهزمه واستبـاح معسكره وأثخن فيهم وقتل أسراهم وقتل إبراهيم أكبر ولد سليمان وخالد بن هشام المخزومـي جـا أبيه فيما ينيف على ثلاثين ألفاً وهرب سليمان إلى حمص في الفل فعسكر بها وبنى ما كان تهدم من سورها‏.‏ وسار مروان إليه فلما قرب منه بيته جماعة من أصحاب سليمان تبايعوا على الموت وكان على احتراس وتعبية فترك القتال بالليل وكمنوا له في طريقه من الغد فقاتلهم إلى آخر النهار وقتل منهم نحواً من ستمائة‏.‏ وجاؤوا إلى سليمان فلحق بتدمر وخلف أخاه سعيداً بحمص وحاصره مروان عشرة أشهر ونصب عليهم نيفاً وثمانين منجنيقاً حتى استأمنوا له وأمكنوه من ثم سار لقتال الضحاك الخارجي بالكوفة‏.‏ وقيل إن سليمان بن هشام لما انهزم بقسرين لحق بعبـد اللـه بـن عمـر بـن عبـد العزيـز بالعـراق وسار معه إلى الضحاك فبايعوه وكان النضر بن سعيد قد ولي العراق‏.‏ فلما اجتمعوا على قتاله سار نحو مروان فاعترضه بالقادسية جنود الضحاك من الكوفة مع ابن ملحان فقتله النضر‏.‏ وولى الضحاك مكانه بالكوفة المثنى بن عمران وسار الضحـاك إلـى الموصـل وأقبـل ابـن هبيـرة إلـى الكوفة فنزل بعيد التمر‏.‏ وسار إليه المثنى فهزمه ابن هبيرة وقتله وعدة من قواد الضحاك‏.‏ وانهزم الخوارج ومعهم منصور بن جمهور ثم جاؤوا إلى الكوفة واحتشدوا وساروا للقاء ابن هبيرة فهزمهم ثانية ودخل الكوفة وسار إلى واسـط‏.‏ وأرسل الضحاك عبيدة بن سوار الثعلبي لقتاله فنزل الصراة وقاتله ابن هبيرة هنالك فانهزمت الخوارج كما يأتي في أخبارهم‏.‏ ظهورعبد الله بن معاوية كـان عبـد اللـه بـن معاويـة بـن عبـد اللـه بـن جعفـر قـدم علـى عبـد اللـه بن عمر بن عبد العزيز الكوفة فـي إخوانـه وولـده فأكرمهـم عبـد اللـه وأجـرى عليهـم ثلاثمائة درهم في كل يوم وأقاموا كذلك‏.‏ ولما بويـع إبراهيـم بـن الوليد بعد أخيه واضطرب الشام وسار مروان إلى دمشق حبس عبد الله بن عمر عبد الله بن معاوية عنده وزاد في رزقه بعده لمروان يبايعه ويقاتله‏.‏ فلما ظفر مروان بإبراهيم سار إسماعيل بن عبد الله القسري إلى الكوفة وقاتله عبد الله بن عمر‏.‏ ثم خاف إسماعيـل أن يفتضـح فكفـوا خبرهـم فوقعت العصبية بين الناس من إيثار عبد الله بن عمر بعضاً من مضر وربيعة بالعطاء دون غيرهم فثـارت ربيعـة فبعـث إليهـم أخـاه عاصمـاً ملقيـاً بيـده فاستحيوا ورجعوا‏.‏ وأفاض في رؤوس الناس يستميلهم‏.‏ فاستنفـر النـاس واجتمعـت الشيعـة إلـى عبـد اللـه بـن معاويـة فبايعـوه وأدخلـوه قصـر الكوفة وأخرجـوا منـه عاصـم بـن عمـر‏.‏ فلحـق بأخيـه بالحيـرة وبايع الكوفيون ابن معاوية ومنهم منصور بن جمهور وإسماعيل أخو خالد القسري وعمر بن العطاء وجاءته البيعة من المدائن وجمع الناس وخـرج إلـى عبـد اللـه بـن عمـر بالحيـرة فسـرح للقائـه مولـاه‏.‏ ثـم خـرج فـي أثـره وتلاقيـا ونزع منصور بن جمهـور وإسماعيـل أخـو خالـد القسـري وعمـر بـن العطـاء‏.‏ وجاءتـه البيعـة من ابن عمر ولحقوا بالحيرة وانهزم ابن معاوية إلى الكوفة‏.‏ وكان عمر بن الغضبان قد حمل على ميمنة ابن عمر فكشفهما وانهزم أصحابه من ورائه‏.‏ فرجع إلى الكوفة وأقام مع ابن معاوية في القصر ومعهم ربيعـة والزيدية على أفواه السكك يقاتلون ابن عمر‏.‏ ثم أخذ ربيعة الأمـان لابـن معاويـة ولأنفسهـم وللزيدية‏.‏ وسار ابن معاوية إلى المدائن وتبعه قوم من أهل الكوفة فتغلب بهم على حلوان غلبة الكرماني على مرو وقتله الحارث بن شريح لما ولي مروان وولى على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة كتب يزيد إلى نصر بعهده على خراسان فبايع لمروان بن محمد فارتاب الحارث وقال‏:‏ ليس لي أمان من مروان وخرج فعسكـر وطلـب مـن نصـر أن يجعل الأمر شورى فأبى‏.‏ وقرأ جهم بن صفوان مولى راسب وهو رأس الجهميـة سيرته وما يدعو إليه على الناس فرضوا وكثر جمعه‏.‏ وأرسل إلى نصر في عزل سالـم بـن أحـور عـن الشرطـة وتغيـر العمـال فتقـرر الأمـر بينهمـا علـى أن يـردوا ذلـك إلـى رجال أربعة‏:‏ مقاتـل بـن سليمـان ومقاتـل بـن حيـان بتعييـن نصـر والمغيـرة بـن شعبـة الجهضي ومعاذ بن جبلة بتعيين الحارث‏.‏ وأمر نصر أن يكتب بولاية سمرقنذ وطخارستان لمن يرضاه هؤلاء الأربعة‏.‏ وكان الحارث يقول إنه صاحب السور وإنه يهدم سور دمشق ويزيل ملك بني أمية‏.‏ فأرسل إليه نصر‏:‏ إن كان ما تقوله حقاً فتعال نسير إلى دمشق وإلا فقد أهلكـت عشيرتـك‏.‏ فقـال الحارث هو حق لكن لا تبايعني عليه أصحابي‏.‏ قال فكيف تهلك عشرين ألفاً مـن ربيعـة واليمن‏.‏ ثم عرض عليه ولاية ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف فلم يقبل‏.‏ فقال لـه فابـدأ بالكرمانـي فاقتله وأنا في طاعتك‏.‏ ثم اتفقا على تحكيم جهم ومقاتل فاحتكما بأن يعزله نصر ويكون الأمر شورى‏.‏ فأتى نصر فخالفه الحارث وقدم على نصر جمع من أهل خراسان حين سمعوا بالفتنة‏:‏ منهم عاصم بن عمير الضريمي وأبو الديال الناجي ومسلم بـن عبـد الرحمـن وغيرهم‏.‏ فكانوا معه‏.‏ وأمر الحارث أن يقرأ سيرته في الأسواق والمساجد وأتاه الناس وقرئت على باب نصر‏.‏ فضرب غلمان نصر قارئها فنادى بهم وتجهزوا للحرب‏.‏ ونقب الحارث سور مرو من الليـل ودخل بالنهار فاقتتلوا وقتل جهم بن مسعود الناجي وأعين مولى حيان ونهبوا منزل مسلم بن أحور فركب سالم حين أصبح فقاتل الحارث وهزمه وجاء إلى عسكره فقتل كاتبه‏.‏ وبعث نصر إلى الكرماني وكان في الأزد وربيعة وكان موافقًا للحارث لما قدمناه فجاءه نصر على الأمـان وحادثهـم وأغلظـوا لـه فـي القـول فارتـاب ومضـى وقتـل مـن أصحابـه جهـم بـن صفوان ثم بعث الحارث ابنه حاتماً إلى الكرماني يستجيشه فقال له أصحابه دع عدويك يضطربان ثم ضرب بعد يومين وناوش القتال أصحاب نصر فهزمهم وصرع تميم بن نصر ومسلم بن أحور‏.‏ وخرج نصر من مرو من الغـد فقاتلهـم ثلاثـة أيـام وانهـزم الكرمانـي وأصحابـه ونـادى منـاد يـا معشـر ربيعة واليمن إن أبا سيار قتل فانهزمت مضر ونصر وترجل ابنه تميم فقاتل وأرسل إليه الحارث أني كاف عنك فإن اليمانية يعيرونني بانهزامكم فاجعل أصحابك إزاء الكرماني‏.‏ ولما انهزم نصر غلب الكرماني على مرو ونهب الأموال فأنكر ذلك عليه الحارث ثـم اعتـزل عـن الحـارث بشـر بن جرموز الضبي في خمسة آلاف وقال‏:‏ إنما كنا نقاتل معك طلباً للعدل فأما إن اتبعت الكرماني للعصبية فنحن لا نقاتل‏.‏ فدعى الحارث الكرماني إلى الشورى فأبى فانتقل الحارث عنه وأقاموا أياماً‏.‏ ثم ثلم الحارث السور ودخل البلد وقاتله الكرماني قتالاً شديداً فهزمه وقتله وأخاه سوادة‏.‏ واستولى الكرماني على مرو وقيل إن الكرماني خرج مع الحارث لقتال بشر بن جرموز‏.‏ ثم ندم الحارث على اتباع الكرماني‏.‏ وأتى عسكر بشر فأقام معهم وبعث إلى مضر من عسكر الكرمانـي فسـاروا إليهـم وكانوا يقتتلون كل يوم ويرجعون إلى خنادقهم‏.‏ ثم نقب الحارث بعد أيام سور مرو ودخلها وتبعه الكرماني واقتتلوا فقتل الحارث وأخاه وبشر بن جرموز وجماعة من بني تميم‏.‏ وذلك سنة ثمان وعشرين ومائة فانهـزم الباقـون وصفـت مـرو لليمـن وهدمـوا دور المضرية‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:29 PM

ظهور الدعوة العباسية بخراسان
قـد ذكرنـا أن أبـا مسلـم كـان يتـرد إلـى الإمام من خراسان ثم استدعاه سنة تسعة وعشرين ليسأله عـن النـاس فسـار فـي سبعين من النقباء مؤدين بالحج‏.‏ ومر بنسا فاستدعى أسيداً فأخبره بأن كتـب الإمـام جـاءت إليـه مـع الأزهـر بـن شعيـب وعبد الملك بن سعيد ودفع إليه الكتب‏.‏ ثم لقيه بقومـس كتـاب الإمـام إليـه وإلـى سليمـان بـن كثيـر أنـي قـد بعثـت إليك براية النصر فارجع من حيث يلقاك كتابي ووجه قحطبة إلى الإمام بما معه من الأموال والعروض‏.‏ وجاء أبو مسلم إلى مرو وأعطـى كتاب الإمام لسليمان بن كثير وفيه الأمر بإظهار الدعوة فنصبوا أبا مسلم وقالوا رجل مـن أهـل البيت ودعوا إلى طاعة بني العباس‏.‏ وكتبوا إلى الدعاة بإظهار الأمر وترك أبو مسلم بقرية من قرى مرو في شعبان من سنة تسع وعشرين‏.‏ ثـم بثـوا الدعـاة في طخارستان ومرو الروذ والطالقان وخوارزم وأنهم إن أعجلهم عدوهم‏.‏ دون الوقت عاجلوه وجردوا السيوف للجهاد ومن شغله العدو عن الوقت فلا حرج عليه أن يظهر بعد الوقت‏.‏ ثم سار أبو مسلم فنزل على سليمان بن كثير الخزاعي آخر رمضان ونصر بن سيار يقاتل الكرماني وشيبان‏.‏ فعقد للواء الذي بعث به الإمام إليه وكان يدعى الظل على رمـح طولـه أربعـة عشـر ذراعـاً‏.‏ ثـم عقـد الرايـة التـي بعثهـا معه وتسمى السحاب وهو يتلو‏:‏ ‏"‏ أذن للذين يقاتلون ‏"‏ الآية‏.‏ ولبسوا السواد هو وسليمان بن كثير وأخوه سليمان ومواليه ومن أجاب الدعوة من أهل تلك القـرى وأوقـدوا النيـران ليلتهـم لشيعتهـم فـي خرقـان فأصبحـوا عنـده‏.‏ ثـم قـدم عليه أهل السقادم مع أبي الوضاح في سبعمائة راجـل وقـدم مـن الدعـاة أبـو العبـاس المـروزي وحصـن أبـو مسلـم بسفيدنج ورمها وحضر عيد الفطر فصلى سليمان بن كثير وخطب على المنبر في العسكر وبـدأ بالصلـاة قبـل الخطبـة بلا أذان ولا إقامة‏.‏ وكبر في الأولى ست تكبيرات وفي الثانية خمسًا خلاف ما كانوا بنو أمية يفعلون‏.‏ وكل ذلك مما سنه لهم الإمام وأبوه‏.‏ ثم انصرفوا من الصلاة مع الشيعة فطمعوا وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا كتب نصر بن سيـار يبـدأ باسمـه فلمـا قوي بمن اجتمع إليه كتب إلى نصر وبدأ بنفسه وقال‏:‏ أما بعد فإن الله تياركـت أسمـاؤه عيـر قومـاً فـي القـرآن فقال‏:‏ ‏"‏ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ‏"‏ إلى‏:‏ ‏"‏ ولـن تجـد لسنـة اللـه تحويـلاً ‏"‏‏.‏ فاستعظـم الكتـاب وبعـث مولـاه يزيـد لمحاربـة أبـي مسلـم لثمانيـة عشر شهـراً مـن ظهوره فبعث إليه أبو مسلم مالك بن الهيثم الخزاعي فدعاه إلى الرضا من آل رسول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم فاستكبـروا فقاتلهـم مالـك وهـو فـي مائتيـن يوماً بكماله‏.‏ وقدم على أبي مسلم صالح بن سليمان الضبي وإبراهيم بن يزيد وزياد بن عيسى فسرحهم إلى مالك فقوي مالك بهم وقاتلوا القوم فحمل عبد الله الطائي على يزيد مولى نصر فأسره وانهزم أصحابه وأرسله الطائي إلى أبي مسلم ومعه رؤوس القتلى فأحسن أبو مسلم إلى يزيد وعالجه ولما اندملت جراحة قال إن شئت أقمت عندنا وإلا رجعت إلى مولاك سالماً بعد أن تعاهدنا على وتفرس نصر أنه عاهدهم فقال‏:‏ والله هو ما ظننت وقد استحلفوني أن لا أكذب عليهم وأنهم والله يصلون الصلاة لوقتها بأذان وإقامة ويتلون القرآن ويذكرون الله كثيرًا ويدعون إلى ولاية آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحسب أمرهم إلا سيعلو‏.‏ ولولا أنـك مولـاي لأقمـت عندهم وكان الناس يرجفون عنهم بعبادة الأوثان واستحلال الحرام‏.‏ ثـم غلـب حـازم بن خزيمة على مرو الروذ وقتل عامل نصر بها‏.‏ وكان من بني تميم من الشيعة وأراد بنو تميم منعه‏.‏ فقال أنا منكم فإن ظفرت فهي لكم وإن قتلت كفيتم أمري فنزل قرية زاها‏.‏ ثم تغلب على أهلها فقتل بشر بن جعفر السغدي عامل نصر عليها أوائل في القعدة وبعـث بالفتح إلى أبي مسلم مع ابنه خزيمة بن حازم‏.‏ وقيل في أمر أبي مسلم غير هذا وإن إبراهيم الإمام أزوج أبا مسلم لما بعثه إلى خراسان بابنة أبي النجم وكتب إلى النقباء بطاعته‏.‏ وكان أبو مسلم من سواد الكوفة فهزما فانتهى لإدريس بن معقل العجلي‏.‏ ثم سار إلى ولاية محمـد بن علي ثم ابنه إبراهيم ثم للأئمة من ولاية من ولمه‏.‏ وقدم خراسان وهو حديث السن واستصغـره سليمـان بـن كثيـر فرده‏.‏ وكان أبو داود خالد بن إبراهيم غائباً وراء النهر‏.‏ فلما جاء إلـى مـرو أقـرأه كتـاب الإمـام وسألهم عن أبي مسلم فأخبروه أن سليمان بن كثير رده لحداثة سنة وأنـه لا يقـدر علـى الأمـر فنخـاف على أنفسنا وعلى من يدعوه‏.‏ فقال لهم أبو داود‏:‏ إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى جميع خلقه وأنزل عليه كتابه بشرائعه وأنبأه بما كان وما يكون وخلـف علمـه رحمـة لأمتـه وعلمـه إنمـا هو عند عترته وأهل بيته وهم معدن العلم وورثة الرسول فيمـا علمـه اللـه‏.‏ أتشكـون فـي شـيء مـن ذلـك‏.‏ قالـوا لا‏.‏ قـال فقـد شككتـم والرجـل لـم يبعثه إليكم حتـى علـم أهليتـه لمـا يقـوم بـه فبعثوا عن أبي مسلم وردوه من قومس بقول أبي داود وولوه أمرهم وأطاعـوه‏.‏ ولـم نـزل فـي نفـس أبـي مسلـم من سليمان بن كثير‏.‏ ثم بعث الدعاة ودخل الناس في الدعوة أفواجاً واستدعاه الإمام سنة تسع وعشرين أن يوافيه بالمرسوم ليأمره بأمره في إظهار الدعـوة وأن يقدم معه قحطبة بن شبيب ويحمل ما اجتمع عنده من الأموال‏.‏ فسار في جماعة من النقباء والشيعة فلقيه كتاب الإمام بقومس يأمره بالرجوع وإظهار الدعوة بخراسان وبعث قحطبة بالمال وأن قحطبة سار إلى جرجان‏.‏ واستدعى خالد بن برمك وأبا عون فقدما بما عندهما من مال الشيعة فسار به نحو الإمام‏.‏

قتل الكرماني
قـد ذكرنا من قبل أن الكرماني قتل الحارث بن شريح فخلصت له مرو وتنحى نصر عنها‏.‏ ثم بعـث نصـر سالـم بـن أحـور فـي رابطتـه وفرسانـه إلـى مـرو فوجـد يحيى بن نعيم الشيباني في ألف رجل من ربيعة ومحمد بن المثنى في سبعمائة من الأزد وأبو الحسن بن الشيخ في ألف منهم والحربـي السغدي في ألف من اليمن‏.‏ فتلاحى سالم وابن المثنى وشتم سالم الكرماني فقاتلوه فهزمـوه وقتـل مـن أصحابـه نحـو مائة‏.‏ فبعث نصر بعده عصمة بن عبد الله الأسدي فكان بينهم مثل ما كان أولاً‏.‏ فقاتلهم محمد السغدي فانهزم السغدي وقتل من أصحابه أربعمائة ورجـع إلـى نصـر‏.‏ فبعـث مالـك بن عمر التميمي فاقتتلوا كذلك وانهزم مالك وقتل من أصحابه سبعمائة ومن أصحاب الكرماني ثلاثمائة‏.‏ ولما استيقن أبو مسلم أن كلا الفريقين قد أثخن صاحبه وأنه لا مدد لهم جعل يكتب إلـى شيبـان الخارجـي يـذم اليمانيـة تـارة ومضر أخرى ويوصي الرسول بكتاب مضر أن يتعرض لليمانية ليقـرؤوا ذم مضـر والرسـول بكتـاب اليمانيـة أن يتعـرض لمضـر ليقـرؤوا ذم اليمانية حتى صار هـوى الفريقيـن معـه‏.‏ ثـم كتـب إلـى نصـر بـن سيـار والكرماني أن الإمام أوصاني بكم ولا أعدو رأيه فيكم‏.‏ ثم كتب يستدعي الشيعة‏:‏ أسد بن عبد الله الخزاعي بنسا ومقاتل بن حكيم بن غزوان وكانوا أول من سود ونادوا يا محمد يا منصور ثم سود أهل أبي ورد ومرو الروذ وقرى مرو فاستدعاهم أبو مسلم وأقبل فنزل بين خندق الكرمانـي وخنـدق نصـر وهابـه الفريقـان وبعث إلى الكرماني أني معك وقبل فانضم أبو مسلم إليه وكتب نصر بن سيار إلى الكرماني يحذره منه ويشير عليه بدخول مرو ليصالحه‏.‏ فدخل ثم خرج من الغد وأرسل إلى نصر في إتمـام الصلـح فـي مائتـي فـارس فـرأى نصـر فيـه غـرة فبعـث إليـه ثلاثمائة فارس فقتلوه وسار ابنه إلى أبي مسلم وقاتلوا نصر بن سيار حتى أخرجوه من دار الإمارة إلى بعض الدور‏.‏ ودخل أبو مسلـم مـرو فبايعـه علـي بـن الكرمانـي وقـال لـه أبـو مسلـم أقـم علـى ما أنت عليه حتى آمرك بأمري‏.‏ وكـان نصـر حيـن نـزل أبـو مسلـم بيـن خندقـه وخنـدق الكرمانـي ورأى قوتـه كتـب إلـى مروان بن محمد يعلمه بخروجه وكثرة من معه ودعائه لإبراهيم بن محمد‏:‏ أرى خلل الرمـاد وميـض جمـر ويوشك أن يكون لهـا ضـرام‏.‏ فإن النار بالعوديـن تذكـو وإن الحـرب أولهـا الكلـام‏.‏ فإن لم تطفئوها يخرجوها مسجرةً يشيب لها الغلام‏.‏ أقول من التعجب ليت شعري أأيقـاظ أمية أم نيام‏.‏ فـإن يـك قومنـا أضحـوا نياماً فقل قومـوا فقـد حـان القيـام‏.‏ تعـزي عـن رجالـك ثم قولي على الإسلام والعرب السلام‏.‏ فوجده مشتغلاً بحرب الضحاك بن قيس فكتب إليه‏:‏ الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فأحثهم التلـول قبلـك‏.‏ فقال نصر‏:‏ أما صاحبكم فقد أعلمكم أنه لا نصر عنده‏.‏ وصادف وصول كتاب نصر إلى مـروان عثورهـم علـى كتـاب مـن إبراهيـم الإمـام لأبـي مسلـم يوبخـه حيـث لـم ينتهـز الفرصـة مـن نصر والكرماني إذ أمكنته ويأمره أن لا يدع بخراسان متكلماً بالعربية‏.‏ فلما قرأ الكتاب بعث إلى عامله بالبلقاء أن يسير إلى الحيسة فيبعث إليه إبراهيم بن محمد مشدوداً لوثاق فحبسه مروان‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:30 PM

اجتماع أهل خراسان علي قتل أبي مسلم
لما أظهر أبو مسلم أمره سارع إليه الناس وكان أهل مرو يأتونه ولا يمنعهم نصر وكان الكرماني وشيبـان الخارجـي لا يكرهـان أمـر أبي مسلم لأنه دعا إلى خلع مروان‏.‏ وكان أبو مسلم ليس له حرس ولا حجاب ولا غلظة الملك فكان الناس يأنسون بـه لذلـك وأرسـل نصـر إلـى شيبـان الخارجـي فـي الصلـح ليتفـرغ لقتـال أبي مسلم أما أن يكون معه أو يكف عنه ثم نعود إلى ما كنا فيه‏.‏ فهم شيبان بذلك وكتب أبو مسلم إلى الكرماني فحرضه على منع شيبان من ذلك فدخـل عليـه وثنـاه عنـه‏.‏ ثـم بعـث أبـو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة فملكها وطرد عنها عيسى بن عقيل بن معقل الليثي عامل نصر‏.‏ فجـاء يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني إلى الكرماني وشيبان وأغراهما بمصالحة نصر‏.‏ وقال‏:‏ إن صالحتم نصراً قاتله أبو مسلم وترككم لأن أمر خراسان لمضر‏.‏ وإن لـم تصالحـوه صالحـه وقاتلكم فقدموا نصراً قبلكم‏.‏ فأرسل شيبان إلى نصر في الموادعة فأجاب وجاء مسلم بن أحـور بكتـب الموادعـة فكتبوهـا‏.‏ وبعـث أبـو مسلـم إلـى شيبـان في موادعة ثلاثة أشهر‏.‏ فقال ابن الكرماني‏:‏ إذا ما صالحت نصراً إنما صالحه شبيان وأنا موتور بأبي‏.‏ ثم عاود القتال وقعد شيبان عن نصره وقال‏:‏ لا يحل الغدر فاستنصر ابن الكرماني‏.‏ بأبي مسلم فأقبل حتى نزل الماخران لاثنتين وأربعين يوماً من نزوله بسفيدنج وخندق على معسكره وجعل له بابين وعلى شرطتـه مالـك بـن الهيثـم وعلى الحرس أبا إسحق خالد بن عثمان وعلى ديوان الجند أبا صالح كامل بن المظفر وعلى الرسائل أسلم بن صبيح وعلى القضاء القاسم بن مجاشع النقيب‏.‏ وكـان القاسـم يصلـي بأبـي مسلم ويقرأ القصص بعد العصر فيذكر فضل بني هاشم وسالفه بني أمية‏.‏ فلما نزل أبو مسلم الماخران أرسل إلى ابن الكرماني بأنه معه فطلب لقاءه فجاءه أبو مسلـم وأقام عنده يومين ثم رجع وذلك أول المحرم سنة ثلاثين‏.‏ ثم عرض الجند وأمر كامل بن المظفر بكتب أسمائهم وأنسابهم في دفتر فبلغت عدته سبعة آلاف‏.‏ ثم إن القبائل من ربيعة ومضـر واليمـن توادعـوا علـى وضـع الحـرب والاجتمـاع علـى قتـال أبي مسلم فعظم ذلك عليه وتحول عـن الماخـران لأربعـة أشهـر مـن نزولهـا لأنهـا كانـت تحـت الماء‏.‏ وخشي أن يقطع فتحول إلى طبسين وخندق بها وخندق نصر بن سيار على نهر عياض وأنزل عماله بالبلاد‏.‏ فأنزل أبا الدبال في جنـده لطوسـان فـآذوا أهلهـا وعسفوهـم وكـان أكثرهـم مع أبي مسلم في خندق فسير إليهم جنداً فقاتلـوه فهزمـوه وأسـروا مـن أصحابـه ثلاثيـن فأطلقهـم أبو مسلم ثم بعث محرز بن إبراهيم في جمع مـن الشيعـة ليقطـع مـادة نصـر مـن مرو الروذ وبلخ وطخارستان فخندق بين نصر وبين هذه البلاد واجتمع إليه ألف رجل وقطع المادة عن نصر‏.‏

مقتل عبد الله بن معاوية
قـد تقـدم لنـا أن عبـد اللـه بـن معاويـة بـن عبـد اللـه بن جعفر بويع بالكوفة وغلبه عليها عبد الله بن عمـر بـن عبـد العزيـز ولحـق بالمدائـن‏.‏ وجـاءه نـاس من أهل الكوفة وغيرها فسار إلى الجبال وغلب عليهـا وعلـى حلـوان وقومـس وأصبهـان والـري وأقام بأصبهان‏.‏ وكان محارب بن موسى مولى بني يشكر عظيم القدر بفارس فجاء إلى دار الإمارة بإصطخر وطرد عامل عبد الله عنها وبايع النـاس لعبد الله بن معاوية‏.‏ ثم سار إلى كرمان فأغار عليها وانضم إليه قواد من أهل الشام‏.‏ فسـار إلـى سالـم بـن المسيـب عامـل عبـد اللـه بن عمر على شيراز فقتله سنة ثمان وعشرين‏.‏ ثم سـار محـارب إلـى أصبهان وحول عبد الله بن معاوية إلى اصطخر بعد أن استعمل على الجبال أخـاه الحسـن بـن معاويـة وأتـى إلى اصطخر فنزل بها وأتاه بنو هاشم وغيرهم وجبى المال وبعث العمـال‏.‏ وكـان معه منصور بن جمهور وسليمان بن هشام وأتاه شيبان بن عبد العزيز الخارجي ولمـا قدم يزيد بن عمر بن هبيرة على العراق أرسل نباتة بن حنظلة الكلابي على الأهواز وأن يقاتـل عبـد اللـه بـن معاويـة وبلغ سليمان بن حبيب وهو بالأهواز فسرح داود بن حاتم للقاء نباتة وهرب سليمان من الأهواز إلى نيسابور وقد غلب الأكراد عليها فطردهم عنها وبايع لابن معاوية فبعث أخاه يزيد بن معاوية عليها‏.‏ ثم إن محارب بن موسى فارق عبد الله بن معاوية وجمع وقصد نيسابور‏.‏ فقاتله يزيد بن معاوية وهزمه فأتى كرمان‏.‏ وأقام بها حتى قدم محمد بـن الأشعـث فصـار معـه ثـم نافـره‏.‏ فقتلـه ابـن الأشعـث وأربعة وعشرين ابناً له‏.‏ ثم بعث يزيد بن هبيـرة بعـد نباتـة بـن حنظلـة ابنـه داود بـن يزيـد فـي العساكر إلى عبد الله بن معاوية وعلى مقدمته داود بن ضبارة‏.‏ وبعث معن بن زائدة من وجه آخر فقاتلوا عبد الله بن معاوية وهزموه وأسروا وقتلوا وهرب منصـور بن جمهور إلى السند وعبد الرحمن بن يزيد إلى عمان وعمر بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان إلى مصر وبعثوا بالأسرى إلى ابن هبيرة فأطلقهم مضى ابن معاوية عن فارس إلى خراسـان‏.‏ وسـار معـن بن زائدة في طلب منصور بن جمهور وكان فيمن أسر مع عبد الله بن معاويـة عبـد اللـه بـن علي بن عبد الله بن عباس شفع فيه حرب بن قطن من أخواله بني هلال فوهبـه لـه ضبـارة وغـاب عبـد اللـه بـن معاويـة عـن ابـن ضبـارة‏.‏ ورمـى أصحابه باللواطة فبعث إلى ابـن هبيـرة ليخبـره وسـار ابـن ضبـارة فـي طلـب عبـد اللـه بـن معاويـة إلى شيراز فحاصره بها حتى خرج منها هارباً ومعه أخوه الحسن ويزيد وجماعة من أصحابه فسلك المفازة على كرمان إلى خراسـان طمعـاً فـي أبـي فسلـم لأنـه كـان يدعـو إلـى الرضـا مـن آل محمـد وقد استولى على خراسان فوصـل إلى نواحي هراة وعليها مالك فقال له‏:‏ انتسب نعرفك‏.‏ فانتسب له فقال‏:‏ أما عبد الله وجعفر فمن أسماء آل الرسول وأما معاوية فلا نعرفه في أسمائهم‏.‏ قال إن جدي كان عنـد معاويـة حيـن ولـد أبـي فبعـث إليـه مائـة ألـف علـى أن يسمـي ابنه باسمه‏.‏ فقال لقد اشتريتم الأسماء الخبيثة بالثمن اليسير فلا نرى لك حقاً فيما تدعو إليه‏.‏ ثم بعث يخبره إلى أبي مسلم فأمره بالقبـض عليـه وعلـى مـن معـه فحبسهـم‏.‏ ثم كتب إليه بإطلاق أخويه الحسن ويزيد وقتل عبد الله فوضـع الفـراش علـى وجهـه فمـات‏.‏ لمـا تعاقـد نصـر وابن الكرماني وقبائل ربيعة واليمن ومضر على قتال أبي مسلم عظم على الشيعة وجمع أبو مسلم أصحابه ودس سليمان بن كثير إلى ابن الكرمانـي يذكـره بثـأر أبيه من نصر فانتقضوا فبعث نصر إلى أبي مسلم بموافقة مضر وبعث إليه أصحـاب ابـن الكرمانـي وهـم ربيعـة واليمـن بمثـل ذلـك‏.‏ واستدعـى وفـد الفريقين ليختار الركون إلى أحدهما وأحضر الشيعة لذلك وأخبرهم أن مضر أصحاب مروان وعماله وشيعته وقبله يحيى بـن يزيـد‏.‏ فلمـا حضـر الوفـد تكلـم سليمان بن كثير ويزيد بن شقيق السلمي بمثل ذلك وبأن نصر بـن سيـار عامـل مـروان ويسميـه أمير المؤمنين وينفذ أوامره فليس على هدى وإنما يختار علي بن الكرماني‏.‏ وأصحابه ووافق السبعون من الشيعة على ذلك وانصرف الوفد‏.‏ ورجع أبو مسلم من أبين إلى الماخران وأمر الشيعة ببناء المساكن وأمن من فتنة العرب‏.‏ ثم أرسل إليه علي بن الكرماني أن يدخل مرو من ناحيته ليدخل هو وقومه من الناحية الأخرى فلـم يطمئـن لذلك أبو مسلم وقال‏:‏ ناشبهم الحرب من قبل فناشب ابن الكرماني نصر بن سيار الحرب ودخل مرو من ناحيته وبعث أبو مسلم بعض النقباء‏.‏ فدخل معه ثم سـار وعلـى مقدمته أسيد بن عبد الله الخزاعي وعلى ميمنته مالك بن الهيثم وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع‏.‏ فدخل مرو والفريقان يقتتلان ومضى إلى قصر الإمارة وهو يتلو‏:‏ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها‏.‏ وأمر الفريقين بالانصراف فانصرفوا إلى معسكرهم وصغت له مرو وأمر بأخذ البيعة من الجند وتولى أخذها أبو منصور طلحة بن زريق أحد النقباء الذين اختارهم محمد بن علي من الشيعة حين بعث دعاته إلى خراسان سنة ثلاث وأربع وكانوا اثني عشر رجلاً‏.‏ فمـن خزاعـة سليمـان بـن كثيـر ومالـك بـن الهيثـم وزيـاد بـن صالـح وطلحـة بـن زريـق وعمر بن أعين‏.‏ ومـن طـيء قحطبـة بـن شبيـب بـن خالد بن سعدان ومن تميم أبو عيينة موسى بن كعب ولاهز بن قريط والقاسم بن مجاشع وأسلم بن سلام‏.‏ ومن بكر بن وائل أبو داود خالد بن إبراهيم الشيبانـي وأبـو علـي الهروي ويقال شبل بن طهمان‏.‏ وكان عمر بن أعين مكان موسى بن كعب وأبـو النجـم إسماعيـل بـن عمـران مكـان أبـي علـي الهـروي وهـو ختـن أبي مسلم‏.‏ ولم يكن أحد من النقباء غير أبي منصور طلحة بن زريق بن سعد وهو أبو زينب الخزاعي وقد شهد حرب ابن الأشعث وصحب المهلب غزا معه وكان أبو مسلم يشاوره في الأمور‏.‏ وكان نص البيعة‏:‏ أبايعكـم علـى كتـاب اللـه وسنـة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والطاعة للرضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله الحرام وعلى أن لا تسألوا رزقاً ولا طمعاً حتى تبدأكم به ولاتكم وذلك سنة ثلاثين ومائة‏.‏ ثـم أرسـل أبـو مسلـم لاهـز بـن قريـط فـي جماعـة إلـى نصـر بـن سيار يدعو إلى البيعة وعلم نصر أن أمره قد استقام ولا طاقة لـه بأصحابـه فوعـده بأنـه يأتيـه يبايعـه مـن الغـد وأرسـل أصحابـه بالحـروج مـن ليلتهـم إلـى مكـان يأمنـون فيـه‏.‏ فقـال أسلم بن أحوز لا يتهيأ لنا اليلة‏.‏ فلما أصبح أبو مسلـم كتابـه وأعـاد لاهز بن قريط إلى نصر يستحثه فأجاب وأقام لوضوئه‏.‏ فقال لاهز‏:‏ إن الملأ يأتمـرون بـك ليقتلـوك‏.‏ فخـرج نصـر عنـد المسـاء مـن خلف حجرته ومعه ابنه تميم والحكم بن غيلة النميري وامرأته المرزبانة وانطلقوا هراباً‏.‏ واستبطأه لاهز فدخل المنزل فلم يجده وبلغ أبا مسلم هربه فجاء إلى معسكره وقبض على أصحابه منهم سالم بن أحوز صاحب شرطته والبختري كاتبه وابنان له ويونس بن عبد ربه ومحمد بن قطن وغيرهم‏.‏ وسار أبو مسلم وابن الكرماني في طلبه ليلتهما فأدركا امرأته قد خلفهـا وسـار فرجعـوا إلـى مـرو‏.‏ وبلـغ نصـر من سرخس فأقام بطوس خمس عشرة ليلة‏.‏ ثم جاء نيسابـور فأقام بها وتعاقد ابن الكرماني مع أبي مسلم على رأيه ثم بعث إلى شيبان الحروري يدعوه إلى البيعة فقال شيبان‏:‏ بل أنت تبايعني واستنصر بابن الكرماني فأبى عليه وسار شيبـان إلى سرخس واجتمع له جمع من بكر بن وائل وبعث إليه أبو مسلم في الكف فسجن الرسـل‏.‏ فكتـب إلـى بسـام بـن إبراهيـم مولـى بنـي ليـث المكنى بأبي ورد أن يسير إليه فقاتله وقتله وقتل بكر بن وائل الرسل الذين كانوا عنده‏.‏ وقيل إن أبا مسلم إنما وجه إلى شيبان عسكراً من عنده عليهم خزيمة بن حازم وبسام بن إبراهيم‏.‏ ثـم بعـث أبـو مسلـم كعبـاً مـن النقبـاء إلـى أبيـورد فافتتحهـا ثـم أبـا داود خالـد بـن إبراهيـم مـن النقبـاء إلـى بلـخ وبهـا زيـاد بـن عبـد الرحمن القشيري فجمع له أهل بلخ وترمذ وجند طخارستان ونـزل الجوزجـان ولقيهـم أبـو داود فهزمهـم وملـك مدينـة بلـخ‏.‏ وسـاروا إلـى ترمـذ فكتـب أبـو مسلـم إلى أبـي داود يستقدمـه وبعـث مكانـه على بلخ يحيى بن نعيم أبا الميلا فداخله زياد بن عبد الرحمن في الخلاف على أبي مسلم واجتمع لذلك زياد ومسلم بن عبد الرحمن الباهلي وعيسى بن زرعة السلمي وأهل بلخ وترمذ وملوك طخارستان وما وراء النهر‏.‏ ونزلوا على فرسخ من بلخ وخرج إليهم يحيى بن نعيم بمن معه‏.‏ واتفقت كلمة مضر وربيعة واليمن ومن معهم من العجم على قتال المسودة وولوا عليهم مقاتل بن حيان النبطي مخافة أن يتنافسوا‏.‏ وبعث أبو مسلم أبا داود إليهـم فأقبـل بعساكـره حتـى اجتمعوا على نهر السرخسان واقتتلوا‏.‏ وكان زياد وأصحابه قد خلفوا أبا سعيـد القرشـي مسلحةً وراءهم خشية أن يؤتوا من خلفهم وكانت راياته سـوداً وأغفلـوا ذلـك‏.‏ فلمـا اشتـد القتال زحف أبو سعيد في أصحابه لمددهم فظنوه كميناً للمسودة فانهزموا وسقطوا في النهر وحوى أبو داود معسكرهم بما فيه وملك بلخ‏.‏ ومضى زياد ويحيى ومن معهما إلى ترمذ وكتب أبو مسلم يستقدم أبا داود‏.‏ وبعث النضر بن صبيـح المزنـي علـى بلـخ‏.‏ ولمـا قـدم أبـو داود أشـار علـى أبـي مسلـم بالتفرقـة بين علي وعثمان ابني الكرماني‏.‏ فبعث عثمان على بلخ وقدمها فاستخلف الفرافصة بن ظهير العبسي وسار هو والنضر بن صبيح إلى مرو الروذ‏.‏ وجاء مسلم بن عبد الرحمن الباهلي من ترمذ في المضرية فاستولـى علـى بلـخ‏.‏ ورجـع إليـه عثمـان والنضـر فهربـوا مـن ليلتهـم ولـم يعـن النضـر فـي طلبهـم وقاتلهم عثمـان ناحيـة عنـه فانهـزم ورجـع أبو داود إلى بلخ‏.‏ وسار أبو مسلم إلى نيسابور ومعه علي بن الكرماني وقد اتفق مع أبي داود على قتال ابني الكرماني فقتل أبو داود عثمان في بلخ وقتل أبو مسلم علياً في طريقه إلى نيسابور‏.‏ مسير قحطبة للفتح وفـي سنـة ثلاثيـن قـدم قحطبـة بن شبيب على أبي مسلم من عند الإمام إبراهيم وقد عقد له لواء على محاربة العدو فبعثه أبو مسلم في مقدمته وضم إليه العساكر وجعل إليـه التوليـة والعـزل وأمـر الجنـود بطاعتـه‏.‏ وقـد كان حين غلب على خراسان بعث العمال على البلاد فبعث ساعـي بـن النعمـان الـأزدي علـى سمرقنـد وأبـا داود خالـد بـن إبراهيم على طخارستان ومحمد بن الأشعـث الخزاعـي علـى طبسيـن وجعـل مالـك بـن الهيثـم على شرطته‏.‏ وبعث قحطبة إلى طوس ومعه عدة من القواد‏:‏ أبو عون عبد الملك بن يزيد وخالد بن برمك وعثمان بن نهيك وحازم بن خزيمة وغيرهم فهزم أهل طوس وأفحش في قتلهم‏.‏ ثـم بعث أبو مسلم القاسم بن مجاشع إلى نيسابور على طريق الحجة وكتب إلى قحطبة بقتال تميم بن نصر بالسودقان ومعه الثاني ابن سويد وأصحاب شيبان وأمده بعشرة آلاف مع علي بن معقل‏.‏ فزحف إليهم ودعاهم بدعوته وقاتلهم فقتل تميـم بـن نصـر وجماعـة عظيمـة مـن أصحابه يقال بلغوا ثلاثين ألفاً واستبيح معسكرهم وتحصن الباقي بالمدينة فاقتحمهـا عليهـم وخلـف خالـد بـن برمك على قبض الغنائم وسار إلى نيسابور‏.‏ فهرب منها نصر بن سيار إلى قومـس ثـم تفـرق عنـه أصحابـه فسـار إلـى نباتـة بـن حنظلـة بجرجـان وكان يزيد بن هبيرة بعثه مدداً لنصر فأتى فارس وأصبهان ثم سار إلى الري ثم إلى جرجان‏.‏ وقدم قحطبة نيسابور فأقام بها رمضان وشوال وارتحل إلى جرجان وجعل ابنه الحسن على مقدمته وانتهى إلى جرجان وأهل الشام بها مع نباتة فهابهم أهل خراسان فخطبهم قحطبة وأخبرهم أن الإمام أخبره أنهم يلقونه مثل هذه العدد فينصرونه عليهم‏.‏ ثم تقدم للقتال وعلى ميمنته ابنه الحسن فانهزم أهل الشام وقتل نباتة في عشرة آلاف منهم وبعث برأسه إلى أبي مسلـم وذلك في ذي الحجة من السنة وملك قحطبة جرجان‏.‏ ثم بلغه أن أهل جرجان يرومون الخـروج عليـه فاستعرضهـم وقتـل منهـم نحـواً من ثلاثين ألفاً وسار نصر من قومس إلى خوار الري وعليهـا أبـو بكـر العقيلـي وكتـب إلـى ابـن هبيـرة بواسط يستمده فحبس رسله‏.‏ فكتب مروان إلى ابن هبيرة فجهز ابن هبيرة جيشاً كثيفاً إلى نصر وعليهم ابن عطيف‏.‏ ثم بعث قحطبة ابنـه الحسـن إلـى محاصـرة نصـر فـي جـوار الـري فـي محـرم سنـة إحـدى وثلاثيـن وبعـث إليـه المـدد مـع أبـي كامـل وأبـي القاسـم محـرز بـن إبراهيـم وأبـي العباس المروزي‏.‏ ولما تقاربوا نزع أبو كامـل إلـى نصـر فكـان معـه وهـرب جند قحطبة وأصحاب نصر أصابهم شيء من متاعهم فبعثه نصـر إلـى ابـن هبيـرة فاعترضه ابن عطيف بالري فأخذه فغاضبه نصر فأقام ابن عطيف بالري‏.‏ وسـار نصـر إلـى الـري وعليها حبيب بن يزيد النهشلي فلما قدمها سار ابن عطيف إلى همذان وكان فيها مالك بن أدهم بن محرز الباهلي فعدل بن عطيف عنها إلى أصبهان وبها عامر بن ضبارة وقدم نصر الري فأقام بها يومين ومرض وارتحل‏.‏ فلما بلغ نهاوند مات لاثني عشر من ربيع الأول من السنة ودخل أصحابه همذان‏.‏ استيلاء قحطبة علي الري ولمـا مـات نصـر بـن سيـار بعث الحسن بن قحطبة خزيمة بن حازم إلى سمنان وأقبل قحطبة من جرجان وقدم زياد بن زرارة القشيري وقد كان قدم على طاعة أبي مسلـم واعتـزم علـى اللحـاق بابن ضبارة فبعث قحطبة في أثره المسيب بن زهير الضبي فهزمه وقتل عامة من مع ابـن معاويـة ورجـع‏.‏ ولحـق قحطبـة ابنـه الحسـن إلـى الـري فخـرج عنهـا حبيـب بـن يزيـد النهشلي وأهل وقـد أكثـر أهـل الـري إلـى بنـي أميـة فأخـذ أبـو مسلـم أملاكهـم ولـم يردهـا عليهـم إلا السفـاح بعـد حيـن‏.‏ فأقام قحطبة بالري وكتب أبو مسلم إلـى أصبهبـذ طبرستـان بالطاعـة وأداء الخـراج فأجـاب وكتـب إلـى المصمغـان صاحـب دنباونـد وكبيـر الديلـم بمثـل ذلـك فأفحـش فـي الـرد‏.‏ فكتـب أبو مسلم إلى موسى بن كعب أن يسير إليه من الري فسار ولم يتمكن منه لضيق بلاده‏.‏ وكان الديلم يقاتلونه كل يوم فكثر فيهم الجراح والقتل ومنعهم الميرة فأصابهم الجوع فرجع موسى إلى الري ولـم يـزل المصمغـان متمنعـاً إلـى أيـام المنصـور فأغـزاه حمـاد بـن عمـر في جيش كثيف ففتح دنباوند‏.‏ ولما ورد كتاب قحطبة على أبي مسلم ارتحل عن مرو ونزل نيسابور ثم سير قحطبة ابنه الحسـن بعـد نزوله الري بثلاث ليال فسار عنها مالك بن أدهم وأهل الشام وخراسان إلى نهاوند ونـزل علـى أربعـة فراسـخ مـن المدينـة وأمـده قحطبـة بأبـي الجهم بن عطية مولى باهلة في سبعمائة وأقام محاصرًا لها‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:31 PM

استيلاء قحطبة على أصبهان
ومقتل ابن ضبارة وفتح نهاوند وشهرزور قد تقدم لنا أن ابن هبيرة بعث ابنه داود بن يزيد لقتال عبد الله بن معاوية باصطخر وبعث معـه عامـر بـن ضبـارة فهزمـوه واتبعـوه إلـى كرمان سنة تسع وعشرين فلما بلغ ابن هبيرة مقتل نباتة بجرجان سنة ثلاثين كتب إلى ابنه داود بن ضبارة بالمسير إلى قحطبة فسار من كرمان في خمسيـن ألفـاً ونزلـوا أصبهـان‏.‏ وبعـث إليهـم قحطبـة جماعـة مـن القـواد عليهـم مقاتل بن حكيم الكعبي فنزلوا قم وسار قحطبة إلى نهاوند مدداً لولده الحسن الذي حاصرهم فبعث مقاتلاً بذلك قحطبة فسار حتى لحقه وزحفوا للقاء داود بن ضبارة وهم فـي مائـة ألـف وقحطبـة فـي عشرين ألفاً‏.‏ وحمل قحطبة وأصحابه فانهزم ابن ضبـارة وقتـل واحتـووا علـى مـا كـان فـي معسكرهم مما لا يعبر عنه من الأصناف وذلك في رجب‏.‏ وطيـر قحطبـة بالخبر إلى ابنه الحسن وسار إلى أصبهان فأقام بها عشرين ليلة وقدم على ابنه فحاصـروا نهاونـد ثلاثـة أشهـر إلـى آخـر شـوال ونصبـوا عليهـا المجانيـق وبعـث بالأمان إلى من كان في نهاوند من أهل خراسان فلم يقبلوا فبعث إلى أهل الشام فقالوا اشغل عنا أهل المدينة بالقتال نفتح لك المدينة من ناحيتنا ففعلوا وخرجوا إليه جميعاً فقتلوا أهل خراسان فيهم أبو كامـل وحاتـم بـن شريـح وابـن نصـر بـن سيـار وعاصـم بـن عميـر وعلـي بـن عقيـل وبيهـس‏.‏ وكـان قحطبـة لما جاء إلى نهاوند بعث ابنه الحسن إلى جهات حلوان وعليها عبد الله بن العلاء الكندي فتركها وهـرب‏.‏ ثـم بعـث قحطبـة عبـد الملـك بـن يزيـد ومالـك بن طرا في أربعة آلاف إلى شهرزور وبها عثمان بن سفيان على مقدمته عبد الله بن محمد فقاتلوا عثمان آخر ذي الحجة فانهزم وقتل وملك أبو عوف بلاد الموصل‏.‏ وقيل إن عثمان هرب إلى عبد الله بن مروان وغنم أبو عون عسكـره وقتـل أصحابـه وبعث إليه قحطبة بالمدد‏.‏ وكان مروان بن محمد بحران فسار في أهل الشام والجزيرة والموصل ونزل الزاب الأكبر وأتوا شهرزور إلى المحرم سنة اثنتين وثلاثين‏.‏

حرب السفاح ابن هبيرة مع قحطبة ومقتلهما
وفتح الكوفة ولما قدم على يزيد بن هبيرة ابنه داود منهزماً من حلوان خرج يزيد للقاء قحطبة في مدد لا يحصى وكان مروان أمده بحوثرة بن سهيل الباهلي فسار معه حتى نزل حلوان واحتفر الخندق الذي كانت فارس احتفرته أيام الواقعة‏.‏ وأقام وأقبل قحطبة إلى حلوان ثم عبر دجلة إلى الأنبـار فرجـع ابـن هبيـرة مبـادراً إلـى الكوفـة‏.‏ وقـدم إليهـا حوثـرة فـي خمسـة عشـرة ألفاً وعبر قحطبة الفـرات مـن الأنبـار لثمـان مـن المحـرم سنـة اثنتين وثلاثين وابن هبيرة معسكر على فم الفرات وعلى ثلاثة وعشرين فرسخاً من الكوفة ومعه حوثرة وفل ابن ضبارة‏.‏ وأشار عليه أصحابه أن يدع الكوفة ويقصد هو خراسان فيتبعه قحطبة فأبى إلا البدار إلى الكوفة وعبر إليها دجلة من المدائن وعلى مقدمته حوثرة والفريقان يسيران على جانب الفرات‏.‏ وقال قحطبة لأصحابه إن الإمام أخبرني بأن وقعة تكون بهذا المكان والنصر لنا ثم دلوه على مخاضة فعبر منها وقاتل حوثرة وابن نباتة فانهزم أهل الشام وقعد قحطبة وشهد مقاتل العللي بـأن قحطبـة عهـد لابنـه الحسـن بعده فبايع جميع الناس لأخيه الحسن وكان في سرية فبعثوا عنه وولـوه‏.‏ ووجـد قحطبـة فـي جـدول هـو وحـرب بن كم بن أحوز وقيل‏:‏ إن قحطبة لما عبر الفرات وقاتـل ضربـه معـن بن زائدة فسقط وأوصى إذا مات أن يلقى في الماء‏.‏ ثم انهزم ابن نباتة وأهل الشام ومات قحطبة وأوصى بأمر الشيعة إلى أبي مسلمة الخلال بالكوفة وزير آل محمد‏.‏ ولما انهـزم ابـن نباتـة وحوثـرة لحقـوا بابـن هبيـرة فانهـزم إلـى واسـط واستولـى الحسـن بـن قحطبـة علـى مـا في معسكرهم‏.‏ وبلغ الخبر إلى الكوفة فثار بها محمد بن خالد القسري بدعوة الشيعة خرج ليلة عاشوراء وعلـى الكوفة زياد بن صالح الحارثي وعلى شرطته عبد الرحمن بن بشير العجلي وسار إلى فهرب زياد ومن معه من أهل الشام ودخل القصر ورجع إليه حوثرة وعن محمد عامة من معه ولـزم القصـر‏.‏ ثـم جـاء قـوم مـن بجيلـة مـن أصحـاب حوثـرة فدخلـوا في الدعوة‏.‏ ثم آخرون من كنانة ثـم آخـرون مـن بحـدل فارتحـل حوثـرة نحـوه وكتـب محمـد إلـى قحطبـة وهـو لـم يعلـم بهلاكـه فقرأه الحسن على الناس‏.‏ وارتحل نحو الكوفة فصبحها الرابعة من مسيره وقيل إن الحسن بن قحطبة سار إلـى الكوفـة بعـد قتـل ابـن هبيـرة وعليهـا عبـد الرحمـن بـن بشيـر العجلـي فهـرب عنها وسبق محمد بن خالـد وخرج في أحد عشر رجلاً فلقي الحسن ودخل معه وأتوا إلى أبي مسلمة فاستخرجوه من بني مسلمة وعسكر بالنخيلة ثم نزل حمام أعين‏.‏ وبعـث الحسـن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة وبايع الناس أبا مسلمة حفص بن سليمان الخلال وزير آل محمد واستعمل محمد بن خالد القسري على الكوفة وكان يسمى الأمير حتى ظهـر أبـو العبـاس السفـاح وبعـث حميـد بـن قحطبة إلى المدائن في قواد والمسيب بن هبيرة وخالد بن مرمل إلى ديـر فنـاء وشراحيـل إلـى عيـر وبسـام بـن إبراهيـم بـن بسـام إلـى الأهـواز وبهـا عبـد الرحمـن بـن عمـر بن هبيرة فقاتله بسام وانهزم إلى البصرة وعليها مسلم بن قتيبة الباهلي عاملاً لأخيه‏.‏ وبعـث بسـام في أثره سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب والياً على البصرة فجمع سالم قيساً ومضـر وبنـي أميـة‏.‏ وجـاء قائـد مـن قـواد ابـن هبيـرة فـي ألفـي رجـل وجمـع سفيان اليمانية وحلفاءهم مـن ربيعـة واقتتلوا في صفر‏.‏ وقتل ابن سفيان واسمه معاوية فانهزم لذلك‏.‏ ثم جاء إلى سالم أربعـة آلـاف مـدداً من عند مروان فقاتل الأزد واستباحهم ولم يزل بالبصرة حتى قتل ابن هبيرة فهـرب عنهـا‏.‏ واجتمـع ولـد الحـارث بـن عبـد المطلـب إلـى محمد بن جعفر فولوه أياماً حتى قدم أبو مالـك عبـد اللـه بـن أسيـد الخزاعـي مـن قبـل أبـي مسلـم‏.‏ فلمـا بويـع أبو العباس السفاح ولاها سفيان بن معاوية‏.‏ قد كنا قدمنا خبر الدعاة وقبض مروان على إبراهيم بن محمد وأنه حبسه بحران وكان نعى نفسـه إلـى أهـل بيتـه وأمرهـم باللحـاق بالكوفـة وأوصـى علـى أخيـه أبـي العبـاس عبـد اللـه بـن الحرثيـة‏.‏ فسـار أبـو العبـاس ومعـه أهـل بيته ومن أخوته أبو جعفر المنصور وعبد الوهاب ومحمد ابن أخيه إبراهيـم وعيسـى ابـن أخيه موسى ومن أعمامه داود وعيسى صالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد وبنو علي بن عبد الله بن عباس وموسى ابن عمه داود ويحيى بن جعفر بن تمام بن العبـاس‏.‏ فقدمـوا الكوفـة فـي صفـر وأبـو سلمـة والشيعـة على حمام أعين بظاهر الكوفة وأنزلهم أبو سلمـة دار الوليـد بـن سعد مولى بني هاشم في بني أود وكتم أمرهم عن جميع القواد والشيعة أربعيـن ليلـة وأراد فيمـا زعمـوا أن يحـول الأمـر إلـى أبي طالب‏.‏ وسأله أبو الجهم من الشيعة وغيره فيقول‏:‏ لا تعجلوا ليس هذا وقته‏.‏ ولقـي أبـو حميـد محمـد بـن إبراهيم ذات يوم خادم إبراهيم الإمام وهو سابق الخورزمي فسأله عن الإمـام فقـال‏:‏ قتـل إبراهيـم وأوصـى إلـى أخيـه أبـي العبـاس وهـا هو بالكوفة ومعه أهل بيته‏.‏ فسأله فـي اللقـاء فقـال‏:‏ حتـى استـأذن‏:‏ وواعـده مـن الغـد فـي ذلـك المكان وجاء أبو حميد إلى أبي الجهم فأخبـره وكـان فـي عسكـر أبـي سلمة فقال له تلطف في لقائهم‏.‏ فجاء إلى موعد سابق ومضى معـه ودخـل عليهم فسأل عن الخليفة فقال داود بن علي‏:‏ هذا إمامكم وخليفتكم يشير إلى أبي العباس‏.‏ فسلم عليه بالخلافة وعزاه بإبراهيم الإمام ورجع ومعه خادم من خدمهم إلى أبي الجهـم فأخبره عن منزنهم وأن أبا العباس أرسل إلى أبي سلمة أن يبعث إليه كراء الرواحل التي جـاؤوا إليهـا فلم يبعث إليهم شيئاً‏.‏ فمشى أبو الجهم وأبو الحميد والخادم إلى موسى بن كعب وأخبروه بالأمر وبعثوا إلى الإمام مائتي دينار مع خادمه‏.‏ واتفق رأي القواد على لقاء الإمام فنهض موسى بن كعب وأبو الجهم عبد الحميد بن ربعي وسلمـة بـن محمـد وعبـد اللـه الطائـي وإسحـق بـن إبراهيـم وشراحيـل وأبو حميد وعبد الله بن بسام ومحمـد بـن إبراهيـم ومحمـد بـن حصيـن وسليمـان بـن الأسـود فدخلـوا على أبي العباس فسلموا عليه بالخلافة وعزوه في إبراهيم‏.‏ ورجع موسى بن كعب وأبو الجهم وخلفوا الباقين عند الإمام وأوصوهم إن جاء أبو سلمة لا يدخلن إلا وحده‏.‏ وبلغه الخبر فجاء ودخل وحده كما حددوا له وسلم على أبي العباس بالخلافة وأمره بالعود إلى معسكره وأصبح الناس يوم الجمعة لاثنتي عشـرة خلـت مـن ربيـع الـأول فلبسـوا الصفاح واصطفوا للخروج إلى أبي العباس وأتوه بالدواب وله ولمن معه من أهل بيته وأركبوهم إلى دار الإمارة‏.‏ ثم رجع إلى المسجد فخطب وصلى بالناس وبايعوه ثم صعد المنبر ثانيـة فقـام فـي أعلـاه وصعـد عمـه داود فقـام دونـه وخطـب خطبته البليغة المشهورة وذكر حقهم في الأمر وميراثهم له‏.‏ وزاد النـاس فـي أعطياتهـم وكـان موعوكـاً فاشتـد عليـه الوعك فحبس على المنبر‏.‏ وقام عمه داود على أعلى المراقي فخطب مثله وذم سيرة بني أمية وعاهد الناس على إقامة الكتاب والسنة وسيرة النبي ثم اعتذر عن عود السفاح بعد الصلاة على المنبر وأنـه أراد أن لا يخلـط كلـام الجمعة بغيرها وإنما قطعه عن إتمام الكلام شدة الوعك فادعوا الله له بالعافية‏.‏ ثم بالـغ ذم مروان وشكر شيعتهم من أهل خراسان وأن الكوفة منزلهم لا يتخلون عنهـا وأنـه مـا صعـد هـذا المنبـر خليفـة بعـد رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم إلا علـي بـن أبـي طالـب أميـر المؤمنيـن وأمير المؤمنيـن عبـد اللـه بـن محمـد وأشـار إلـى السفـاح‏.‏ وأن هـذا الأمـر فينـا ليـس بخارج عنا حتى نسلمه لعيسى بن مريم‏.‏ ثم نزل أبو العباس وداود أمامه حتى دخل القصر وأجلس أخاه أبا جعفر في المسجد يأخذ البيعـة علـى النـاس حتـى جـن الليـل وخـرج أبـو العبـاس إلـى عسكـر أبـي سلمة ونزل معه في حجرته بينهما ستر‏.‏ وحاجب السفاح يومئذ عبد الله بن بسام‏.‏ واستخلف على الكوفة عمه داود وبعث عمه عبد الله إلى أبي عون بن يزيد بشهرزور وبعث ابن أخيه موسى إلى الحسن بن قحطبـة وهـو يحاصر ابن هبيرة بواسط وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس إلى أحمد بن قحطبـة بالمدائـن‏.‏ وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيـم بـن بسـام بالأهواز وبعث سلمة بن عمر بن عثمان بن مالك بن الطواف‏.‏ وأقام السفاح بالعسكر شهراً ثم ارتحل فنزل قصر الإمارة من المدينة الهاشمية وقد قيل إن داود بن علي وابنه موسى لم يكونا بالشام عند مسير بني العباس إلى الكوفة وإنهما لقياهم بدومة الجندل فعرفـا خبرهـم‏.‏ وقـال لهـم داود‏:‏ كيـف تأتـون الكوفـة‏.‏ ومروان بن محمد في حران في أهل الشام والجزيـرة فطـل علـى العـراق ويزيد بن هبيرة بالعراق‏.‏ فقال يا عم‏:‏ من أحب الحياة ذل فرجع داود وابنه معه‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:33 PM

مقتل إبراهيم ابن الإمام
قد تقدم لنا أن مروان حبسه بحران وحبس سعيد بن هشام بن عبد الملك وابنيه عثمان ومـروان والعبـاس بـن الوليـد بن عبد الملك وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز وأبا محمد السفياني فهلـك منهـم فـي السجـن مـن وبـاء وقـع بحـران العبـاس بـن الوليـد وإبراهيـم بـن الإمـام وعبـد اللـه بـن عمر وخـرج سعيـد بـن هشـام ومـن معـه مـن المحبوسيـن بعد أن قتلوا صاحب السجن فقتلهم الغوغاء من أهل حران‏.‏ وكان فيمن قتلوه شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك وعبد الملك بن بشر الثعلبي وبطريـق أرمينيـة واسمـه كوشـان‏.‏ وتخلـف أبـو محمـد السفياني في الحبس لم يستحل الخروج منه‏.‏ ولمـا قدم مروان منهزماً من الزاب حل عنه فيمن بقي وقيل إن شراحيل بن مسلمة كان محبوساً مـع إبراهيـم وكانـا يتـزاوران ويتهاديـان فـدس فـي بعـض الأيـام إلـى إبراهيـم ابـن الإمـام بلبن مسموم على لسان شراحيل فاستطلق بطنه‏.‏ وقيل إن شراحيل قال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون احتيل والله عليه وأصبح ميتاً من ليلته‏.‏

هزيمة مروان بالزاب ومقتله بمصر
قد ذكرنا أن قحطبة أرسل أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور فقتل عثمان بن سفيان وأقام بناحية الموصل وأن مروان بن محمد سار إليه من حران في مائة وعشرين ألفاً وسـار أبـو عـون إلـى الـزاب ووجـه أبـو سلمـة عيينـة بـن موسـى والمنهال بن قبان وإسحق بن طلحة كـل واحـد فـي ثلاثـة آلـاف مـدداً لـه‏.‏ فلمـا بويـع أبـو العبـاس وبعـث مسلمة بن محمد في ألفين وعبد الله الطائي في ألف وخمسمائة وعبد الحميد بن ربعي الطائي في ألفين ودراس بن فضلة في خمسمائـة كلهـم مـدداً لأبـي عـون‏.‏ ثـم نـدب أهـل بيتـه إلـى المسيـر إلـى أبـي عـون فانتـدب عبـد اللـه بن علـي فسـار وقـدم علـى أبـي عـون فتحـول لـه عـن سرادقـه بمـا فيـه‏.‏ ثـم أمـر عيينـة بـن موسـى بخمسة آلاف تعبر النهـر مـن الـزاب أول جمـادى الأخيـر سنـة اثنتيـن وثلاثيـن وقاتـل عساكـر مـروان إلـى المسـاء‏.‏ ورجـع ففقـد مـروان الجسـر مـن الغـد وقدم ابنه عبد الله وعبر فبعث عبد الله بن علي المخارق بن غفار في أربعة نحو عبد الله بن مروان فسرح ابن مروان الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم فانهزم أصحاب المخارق وأسر هو وجيء به إلى مروان مع رؤوس القتلى‏.‏ فقال‏:‏ أنت المخـارق‏.‏ قـال‏:‏ لا فتعرفـه فـي هـذه الـرؤوس قـال‏:‏ نعـم قـال‏:‏ هـو ذا فخلـى سبيلـه‏.‏ وقيـل بـل أنكـر أن يكون في الرؤوس فخلى سبيله‏.‏ وعاجلهم عبد الله بن علي بالحرب قبل أن يفشوا الخبر وعلى ميمنته أبو عون وعلى ميسرته الوليـد بـن معاويـة‏.‏ وكـان عسكـره نحواً من عشرين ألفاً وقيل اثني عشر‏.‏ وأرسل مروان إليه في الموادعة فأبى وحمل الوليد بن معاوية بن مروان وهو صهر مروان على ابنته فقاتل أبا عون حتى انهزم إلى عبد الله بن علي فأمر الناس فارتحلوا‏.‏ ومشى قدماً ينادي يا لثارات إبراهيم وبالأشعار يا محمـد يـا منصـور‏.‏ وأمـر مـروان القبائـل بـأن يحملـوا فتخاذلـوا واعتـذروا حتـى صاحـب شرطتـه‏.‏ ثـم ظهـر لـه الخلـل فأبـاح الأمـوال للناس على أن يقاتلوا فأخذوها من غير قتال‏.‏ فبعث ابنه عبد الله يصدهم عن ذلك فتبادروا بالفرار وانهزموا وقطع مروان الجسر وكان من غرق أكثر ممن قتل‏.‏ وغرق إبراهيم بن الوليد المخلوع وقيل بل قتله عبد الله بن علي بالشام وممن قتل يحيى بن علي بن هشام وكان ذلك في جمادى الأخيرة سنة اثنتين وثلاثين‏.‏ وأقام عبد الله في عسكره سبعة أيام واجتاز عسكر مروان بما فيه‏.‏ وكتب بالفتح إلى أبي العبـاس السفـاح وسـار مـروان منهزمـاً إلـى مدينـة الموصل وعليها هشام بن عمر الثعلبى وابن خزيمة الأسدي فقطعا الجسـر ومنعـاه العبـور إليهـم وقيـل هـذا أميـر المؤمنيـن فتجاهلـوا وقالـوا أميـر المؤمنيـن لا يفـر‏.‏ ثـم أسمعـوه الشتـم والقبائـح فسـار إلـى حران وبها أبان ابن أخيه وسار إلى حمص وجاء عبد الله إلى حران فلقيه أبو مسعود فأمنه ولقي الجزيرة ولما بلغ مروان حمص أقام بها ثلاثـاً وارتحـل فاتبعـه أهلهـا لينهبوه فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم‏.‏ وسار إلى دمشق وعليها الوليد بن عمه فأوصاه بقتال عدوه‏.‏ وسـار إلـى فلسطين فنزل نهر أبي فطرس وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي فأرسـل إلـى عبـد اللـه بـن يزيـد بـن روح بـن زنبـاع الجذامـي فأجـاره‏.‏ ثـم سـار عبـد اللـه بـن علي في أثـره مـن حـران بعـد أن هـدم الـدار التـي حبـس فيهـا أخـوه الإمام إبراهيم‏.‏ وانتهى إلى قنج فأطاعه أهلهـا وقـدم عليـه أخـوه عبـد الصمـد بعثـه السفاح مدداً في ثمانية آلاف وافترق قواد الشيعة على أبواب دمشق فحاصروها أياماً‏.‏ ثم دخلوهما عنوةً لخمس من رمضان واقتتلوا بها كثيراً وقتل عاملها الوليد بن معاوية‏.‏ وأقام عبد الله بدمشق خمـس عشـرة ليلـة وارتحـل يريـد فلسطيـن فأجفل مروان إلى العريش‏.‏ وجـاء عبـد اللـه فنـزل نهـر أبي فطرس ووصله هناك كتاب السفاح بأن يبعث صالح بن علي في طلب مروان فسار صالح في ذي القعدة وعلى مقدمته أبو عون وعامر بن إسماعيل الحارثي فأجفل مروان إلى النيل ثم إلى الصعيد ونزل صالح الفسطاط وتقدمت عساكره فلقوا خيلاً لمروان فهزموهم وأسروا منهم ودلوهم على مكانه ببوصير‏.‏ فسار إليه أبو عون وبيته هنالك خوفـاً مـن أن يفضحه الصبح فانهزم مروان وطعن فسقط في آخر ذي الحجة الحرام وقطع رأسه وبعـث بـه طليعـة أبـي عون إليه‏.‏ فبعثه إلى السفاح وهرب عبد الله وعبيد الله ابنا مروان إلى الحبشة وقاتلوهم فقتل عبيد الله ونجا عبد الله وبقي إلى أيام المهدي‏.‏ فأخذه عامل فلسطين وسجنـه المهـدي‏.‏ وكـان طليعـة أبـي عـون عامـر بـن إسماعيـل الحارثـي فوجـد نسـاء مـروان وبناته في كنيسة بوصير قد وكل بهن خادماً يقتلهن بعده فبعث بهن صالح‏.‏ ولما دخلن عليه سألنه في الإبقـاء فلامهـن علـى قتالهـم عنـد بنـي أميـة‏.‏ ثـم عفـا عنهـن وحملهـن إلى حران يبكين‏.‏ وكان مروان يلقـب بالحمـار لحرنـه فـي مواطـن الحرب‏.‏ وكان أعداؤه يلقبونه الجعدي نسبة إلى الجعد بن درهم كان يقول بخلق القرآن ويتزندق‏.‏ وأمر هشام خالداً القسري بقتله فقتله‏.‏ ثم تتبعوا بني أمية بالقتل‏.‏ ودخل أسديف يوماً على السفاح وعنده سليمان بن هشام وقد أمنه والده فقال‏:‏ لايغرنك ماترى من رجال أن بين الضلوع داءً دويا فأمـر السفـاح بسليمـان فقتـل‏.‏ ودخـل شبـل بـن عبـد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده ثمانون أو تسعون من بني أمية يأكلون على مائدته فقال‏:‏ أصبح الملك في ثبات الأسـاس بالبهاليل من بنـي العبـاس طلبـوا أمـر هاشـم فنعونـا بعد ميل من الزمان وباس لاتقيلن عبد شمس عثاراً فاقطعن كل رقلة وغراس فلنا أظهر التودد منها وبها منكم كحز المواسي فلقد غاضني وغـاض سوائـي قربهم من نمارق وكراسي أنزلوها بحيـث أنزلهـا اللـه بـدار الهـون والإتعـاس واذكروا مصرع الحسين وزيـداً وقتيلاً بجانب المهـراس والقتيـل الـذي بحـران أضحى ثاوياً رهن غربة ونعاس‏.‏ فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد وبسط من فوقهم الأنطاع فأكل الطعام عليها وأنينهم يسمع حتى ماتوا وذلك بنهر أبي فطرس‏.‏ وكان فيمن قتل محمد بن عبد الملك بن مروان والمعز بن يزيد وعبد الواحد بن سليمان وسعيد بن عبد الملك وأبو عبيدة بن الوليد بن عبد الملك‏.‏ وقيل‏:‏ إن إبراهيم المخلوع قتل معهم وقيل إن أسديفاً هو الذي أنشد هذا الشعر للسفاح وأنه الـذي قتلهـم‏.‏ ثـم قتـل سليمـان بـن علـي بـن عبـد اللـه بن العباس بالبصرة جماعة من بني أمية فأمر بأشلائهـم فـي الطـرق فأكلتهـم الكلـاب‏.‏ وقيـل‏:‏ إن عبـد اللـه بـن علـي أمـر بنبـش قبـور الخلفـاء مـن بنـي أميـة فلـم يجـدروا فـي القبـور إلا شبـه الرمـاد وخيطـاً فـي قبـر معاويـة وجمجمة في قبر عبد الملك‏.‏ وربما وجد فيها بعد الأعضاء إلا هشام بن عبد الملك فإنه وجد كما هو لم يبل فضربـه بالسـوط ثـم صلبـه وحرقـه وذراه فـي الريـح واللـه أعلـم بصحـة ذلـك‏.‏ ثـم تتبعوا بني أمية بالقتل فلم يفلـت منهـم إلا الرضعـاء أو مـن هرب إلى الأندلس مثل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام وغيرهم ممن تبعه من قرابته كما يذكر في أخبارهم‏.‏

بقية الصوائف في الدولة الأموية
قـد انتهينـا بالصوائـف إلـى آخـر أيـام عمـر بن عبد العزيز وفي اثنتين ومائة أيام اليزيد غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية أرمينية وهو على الجزيرة قبل أن يلي العراق فهزمهم وأسر منهم خلقًا وقتـل منهـم سبعمائة أسير‏.‏ وغزا العباس بن الوليد الروم أيضاً ففتحها لسنة ثم غزا سنة ثلاث بعدها فافتتح مدينة رسلة‏.‏ ثم غزا الجراح الحكمي أيام هشام سنة خمس فبلغ وراء بلنجر وغنـم وغـزا فـي هـذه السنـة سعيـد بـن عبـد الملـك أرض الـروم وبعث ألف مقاتل في سرية فهلكوا جميعـاً‏.‏ وغـزا فيهـا مـروان بـن محمد بالصائفة اليمنى ففتح مدينةً قريبةً من أرض الزوكخ‏.‏ ثم غزا سعيد بن عبد الملك بالصائفة أيام هشام سنة ست‏.‏ ثم غزا مسلمة بن عبد الملك الروم من الجزيرة وهو وال عليها ففتح قيسارية‏.‏ وغزا إبراهيم بن هشام ففتح حصناً‏.‏ وغزا معاوية بن هشام في البحر قبرس وغزا سنة تسع ففتح حصناً آخر يقال له طبسة‏.‏ وغزا سنة عشر بالصائفة عبد الله بن عقبة الفهري وكان على جيش البحر عبد الرحمن بن معاوية بن خديج‏.‏ وغزا بالصائفة اليسرى سنة إحدى عشرة معاوية بن هشام وبالصائفة اليمنى سعيد بن هشام وفي البحر عبد الله بـن أبـي مريـم‏.‏ وافتتـح معاويـة فـي صائفـة ثلاثـة عشـرة سنـة خرشفـة‏.‏ وغـزا سنـة ثلاث عشرة عبد الله البطال فانهزم فثبت عبد الوهاب من أصحابه فقتل‏.‏ ودخل معاوية بن هشـام أرض الـروم مـن ناحيـة مرعـش‏.‏ ثـم غـزا سنـة أربـع عشرة بالصائفة اليسرى وأصحاب ربض أفرق‏.‏ والتقى عبد الله البطال مع قسطنطين فهزمه البطال وأسره‏.‏ وغزا سليمان بن هشام بالصائفة اليسرى فبلغ قيسارية‏.‏ وهزم مسلمة بن عبد الملك خاقان وباب الباب‏.‏ وغزا معاوية بن هشام بالصائفة سنة خمس عشرة‏.‏ وغزا سفيان بن هشام بالصائفة اليسرى سنة سبع عشرة وسليمان بن هشام بالصائفة اليمنى من ناحية الجزيرة وفرق السرايا في أرض الروم وبعث فيها مروان بن محمد من أرمينية فافتتحوا من أرض اللان أهلها أخذها قومانساه صلحـاً‏.‏ وغزا معاوية وسليمان أيضاً أرض الروم سنة ثماني عشرة‏.‏ وغزا فيها مروان بن محمد من أرمينية ودخل أرض وارقيس فهرب وارقيس إلى الحرور ونازل حصنه فحاصره‏.‏ وقتل وارقيس بعض من اجتاز به وبعث برأسه إلى مروان ونزل أهل الحصن على حكمه فقتل وسبـى‏.‏ وغـزا سنـة تسـع عشـرة مـروان بـن محمـد من أرمينية ومر ببلاد اللان إلى بلاد الخزر على بلنجر وسمندر وانتهى إلى خاقان فهرب خاقان منه‏.‏ وغزا سليمان بن هشام سنة عشرين بالصائفـة فافتتـح سنـدرة وغـزا إسحـق بـن مسلـم العقيلـي قومانسـاه وافتتـح قلاعه وخرب أرضـه‏.‏ وغـزا مـروان مـن أرمينيـة سنة إحدى وعشرين وأفنى قلعة بيت السرير فقتل وسبى ثم قلعة أخرى كذلك ودخل عزسك وهو حصن الملك فهرب منه الملك ودخل حصناً له يسمى جرج فيه سرير الذهب فنازله مروان حتى صالحه على ألف فارس كل سنة ومائـة ألـف مدني‏.‏ ثم دخل أرض أرزق ونصران فصالحه ملكها ثم أرض نومان كذلك ثم أرض حمديـن فأخرب بلاده وحصر حصناً له شهراً حتى صالحه ثم أرض مسداد ففتحها على صلح‏.‏ ثم نزل كيلان فصالحه أهل طبرستان وكيلان‏.‏ وكل هذه الولايات على شاطىء البحر من أرمينية إلى طبرستـان‏.‏ وغـزا مسلمـة بـن هشـام الـروم فـي هـذه السنـة فافتتـح بهـا مطاميـر‏.‏ وفـي سنـة اثنتيـن وعشريـن بعدهـا قتـل البطـال واسمـه عبـد اللـه بن الحسين الأنطاكي وكان كثير الغزو في بلاد الروم والإغـارة عليهـم‏.‏ وقدمـه مسلمـة على عشرة آلاف فارس فكان يغزو بلاد الروم إلى أن قتل هذه السنـة‏.‏ وفـي سنـة أربعـة وعشريـن غـزا سليمـان بـن هشـام بالصائفـة علـى عهـد أبيـه فلقـي اليـون ملك الروم فهزمه وغنم وفي سنة خمسة وعشرين خرجت الروم إلى حصن زنطره وكان افتتحه حبيـب بن مسلمة الفهري وخزينة الروم وبنى بناء غير محكم فأخربوه ثانية أيام مروان‏.‏ ثم بناه الرشيد وطرقه الروم أيام المأمون فشعبوه فأمر ببنائه وتحصينه‏.‏ ثم طرقوه أيام المعتصم وخبره معروف‏.‏ وفي هذه السنة غزا الوليد بن يزيد بالصائفة أخاه العمر وبعث الأسـود بـن بلـال المحاربـي بالجيـش فـي البحر إلى قبرس ليجير أهلها بين الشام والروم فافترقوا فريقين‏.‏ وغزا أيام مروان سنة ثلاثين بالصائفة الوليد بن هشام ونزل العمق وبنى حصن مرعش‏.‏ عمال بني أمية على النواحي استعمل معاوية أول خلافته سنة أربعين عبد الله بن عمرو بن العاصي على الكوفة ثم عزله واستعمـل المغيـرة بـن شعبـة على الصلاة واستعمل على الخراج وكان على النقباء بها شريح وكان حمـران بـن أبـان قد وثب على البصرة عندما صالح الحسن معاوية فبعث معاوية بشر بن أرطاة علـى البصـرة وأمـده فقتـل أولـاد زيـاد ابـن أبيـه وكـان عاملاً على فارس لعلي بن أبي طالب‏.‏ فقدم البصرة وقد ذكرنا خبـره مـع بنـي زيـاد فيمـا قيـل‏.‏ ثـم ولـى علـى البصـرة عبـد اللـه بـن عامـر بـن كريـز بـن حبيـب بن عبد شمس وضم إليه خراسان وسجستان فجعل على شرطته حبيب بن شهاب وعلـى القضـاء عميـرة بـن تبـرى وقـد تقـدم لنـا أخبـار قيس في خراسان‏.‏ وكان عمرو بن العاصي علـي كمـا تقـدم فولـى سنـة إحـدى وأربعيـن مـن قبلـه علـى أفريقيـة عقبـة بـن نافع بن عبد قيس وهو ابـن خالتـه فانتهـى إلـى لواتـة ومزاتـة فأطاعـوه ثـم كفـروا فغزاهـم وقتـل وسبـى‏.‏ ثم افتتح سنة اثنتين وأربعيـن بعدهـا غذامـس وقتـل وسبـى وافتتـح سنـة ثلاثة وأربعين بعدها بلدودان‏.‏ وولى معاوية بالمدينة سنة اثنتين وأربعين مروان بن الحكم فاستقضى عبد الله بن الحارث بن نوفل‏.‏ وولـى معاويـة على مكة في هذه السنة خالد بن العاصي بن هشام وكان على أرمينية حبيب بن مسلمة الفهـري وولـاه عليهـا معاويـة ومـات سنـة اثنتيـن وأربعيـن فولـى مكانـه واستعمـل ابـن عامـر فـي هذه السنة على ثغر الهند عبد الله بن سوار العبدي ويقال ولاه معاوية‏.‏ وعزل ابن عامر في هـذه السنـة قيـس بن الهيثم عن خراسان وولى مكانه الحارث بن عبد الله بن حازم‏.‏ ثم عزل معاويـة عبـد اللـه بـن عامـر عـن البصـرة سنـة أربع أربعين وولى مكانه الحارث بن عبد الله الأزدي ثـم عزلـه لأربعـة أشهـر وولـى أخـاه زيـاداً سنـة خمـس وأربعيـن‏.‏ فولـى علـى خراسـان الحكم بن عمر الغفـاري وجعـل معـه علـى الخـراج أسلـم بن زرعة الكلابي‏.‏ ثم مات الحكم فولى خليد بن عبد ثـم ولـى علـى خراسان سنة ثمان بعدها غالب بن فضالة الليثي وتولى عمرو بن العاصي سنة تسـع وأربعيـن فولـى مكانـه سعيد بن العاصي فعزل عبد الله بن الحارث عن القضاء واستقضى أبـا سلمـة بـن عبـد الرحمـن‏.‏ وفـي سنـة خمسيـن توفـي المغيـرة بـن شعبـة فضـم الكوفـة إلى أخيه زياد فجـاء إليهـا واستخلـف على البصرة سمرة بن جندب وكان يقسم السنة بين المصرين في الإقامة نصفـاً بنصف‏.‏ وفي سنة خمسين هذه اقتطع معاوية أفريقية عن معاوية بن خديج بمصر وولى عقبة بن نافع الفهري وكان مقيماً ببرقة وزويلة من وقت فتحها أيام عمرو بن العاصي فأمده بعشرة آلاف فسار إليها‏.‏ وانضاف إليه من أسلم من البربر ودوخ البلاد وبنى بالقيروان وأنزل عساكر المسلمين ثم استعمل معاوية على مصر وأفريقية مولاه أبا المهاجر فأساء عزل عقبة‏.‏ وجاء عقبة إلى الشام فاعتذر إليه معاولة ووعده بعمله ومات معاوية فولاه يزيد سنة اثنتين وستين‏.‏ وذكـر الواقـدي أن عقبـة ولـي سنـة اثنتيـن وستيـن واستعمـل أبـا المهاجـر فولي الأمصار فحبس عقبة وضيـق عليـه وأمـره يزيـد بإطلاقـه فوفد عقبة فأعاده إلى عمله‏.‏ فحبس أبا المهاجر وخرج غازياً وأثخن حتى قتله كسيلة كما يأتي فـي أخبـاره‏.‏ وفـي سنـة إحـدى وخمسيـن ولـى زيـاد علـى خراسـان الربيـع بـن زياد الحارث مكان خليد بن عبد الله الحنفي‏.‏ وفي سنة ثلاث وخمسين توفي زياد واستخلـف علـى البصرة سمرة بن جندب وعلى الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد‏.‏ ثم ولى الضحاك بن قيس سنة خمس بعدها‏.‏ وفي هذه السنة مات الربيع بن زياد عامل خراسان قبل موت زياد واستخلفه ابنه عبد الله ومات لشهرين‏.‏ واستخلف خليد بن يربوع الحنفي وكـان علـى صفابيـروز الديلمـي مـن قبـل معاويـة فمـات سنة ثلاث وخمسين‏.‏ وفي سنة أربع وخمسين عزل معاوية عن المدينة سعيد بن العاص ورد إليها مروان بن الحكم ثم عزله سنة سبعة وولى مكانه الوليد بن عقبة بن أبي سفيـان‏.‏ وعزل سنة تسعة وخمسين عن البصرة ابن جندب وولى مكانه عبد الله بن عمر بن غيلان وولى على خراسان عبيد الله بن زياد ثم ولاه سنة خمس بعدها على البصرة مكان غيلـان‏.‏ ثـم ولـى علـى خراسـان سنـة ستـة وخمسيـن سعيـد بـن عثمـان بـن عفان‏.‏ وفي سنة ثمانية وخمسين عزل معاوية عن الكوفة الضحاك بن قيس واستعمل مكانه ابن أم الحكم وهي أخته وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي وطرده أهل الكوفة فولاه مصر‏.‏ فرده معاوية بن خديج وولـى مكانـه على الكوفة سنة تسعة وخمسين النعمان بن بشير وولى فيها على خراسان عبد الرحمن بن زياد‏.‏ فقدم إليها قيس بن الهيثم السلمي فحبس أسلم بن زرعة فأغرمه ثلاثمائة ألف درهم‏.‏ ثم مات معاوية سنة ستين وولاته على النواحي من ذكرناه وعلى سجستان عباد بن زياد وعلى كرمان شريك بن الأعور‏.‏ وعزل يزيد لأول ولايته الوليد بن عقبة عن المدينة والحجاز وولاهـا عمـر بـن سعيـد الأشدق‏.‏ ثم عزله سنة إحدى وستين ورد الوليد بن عقبة وولى على خراسان سالم بن زياد فبعث سالم إليها الحارث بن معاوية الحارثي وبعث أخاه يزيد إلى سجستان وكان بها أخوهما عباد فخرج عنهما‏.‏ وقاتل يزيد أهل كابل فهزموه فبعث مسلم علـى سجستـان طلحـة الطلحـات وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي فبقي سنة وبعث سنة اثنتين وستيـن عقبـة بـن نافـع إلـى أفريقيـة فحبـس أبـا المهاجـر واستخلـف علـى القيـروان زهيـر بـن قيس البلوي كما نذكر في أخباره‏.‏ وتوفـي في هذه السنة مسلمة بن مخلد الأنصاري أمير مصر‏.‏ ثم هلك يزيد سنة أربع وستين واستخلـف علـى أهـل العـراق عبيـد اللـه بـن زيـاد‏.‏ وولـى أهـل البصـرة عليهـم عبـد اللـه بـن الحـارث بـن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ويلقب ببه وهرب ابن زياد إلى الشام‏.‏ وجاء إلى الكوفة عامـر بـن مسعود من قبل ابن الزبير وبلغه خلاف أهل الري وعليهم الفرخان فبعث عليهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب فهزموه فبعث عتاب بن ورقاء فهزمهم‏.‏ ثـم بويـع مروان وسار إلى مصر فملكها من يد عبد الرحمن بن حجام القرشي داعية ابن الزبير وولـى عليهـا عمـر بـن سعيد‏.‏ ثم بعثه للقاء مصعب بن الزبير لما بعثه أخوه عبد الله إلى الشام وولـى علـى مصـر ابنـه عبـد العزيـز فلـم يـزل عليهـا واليـاً إلـى أن هلك لسنة خمسة وثمانين فولى عبد الملك عليها ابنه عبد الله بن عبد الملك‏.‏ وخلع أهل خراسان بعد يزيد سالم بن زياد واستخلف المهلب لن أبي صفرة ثم ولى مسلم عبـد اللـه بـن حـازم فاستبـد بخراسـان إلـى حيـن‏.‏ ثـم أخرج أهل الكوفة عمر بن حريث خليفة بن زيـاد وبايعـوا لابـن الزبيـر وقدم المختار بن أبي عبيد أميراً على الكوفة من قبله بعد ستة أشهر مـن مهلـك يزيد وامتنع شريح من القضاء أيام الفتنة واستعمل ابن الزبير على المدينة أخاه مصعباً سنـة خمـس وستيـن مكـان أخيـه عبـد اللـه وثار بنو تميم بخراسان على عبد الله بن حازم فغلبه عليها بكير بن وشاح‏.‏ وغلب المختار على بن مطيع عامل ابن الزبير بالكوفة سنة ست وستين‏.‏ ثـم مـات مـروان سنـة خمـس وستيـن وولي عبد الملك‏.‏ وولى ابن الزبير أخاه مصعباً على البصرة وولـى مكانـه بالمدينـة جابـر بـن الأسـود بـن عـوف الزهـري‏.‏ ثم ملك عبد العزيز العراق سنة إحدى وسبعين واستعمل على البصرة خالد بن عبد الله بن أسد على الكوفة أخاه بشر بن مروان وكـان علـى خراسـان عبـد اللـه بـن حـازم بدعـوة ابـن الزبيـر فقـام بكيـر بـن وشـاح التميمـي بدعـوة عبد الملـك وقتلـه وولـاه عبـد الملـك خراسـان‏.‏ وكـان علـى المدينـة طلحـة بـن عبـد اللـه بـن عـوف بدعـوة ابن الزبيـر بعـد جابـر بـن الأسـود فبعـث عبـد الملـك طـارق بـن عمر مولى عثمان فغلبه عليها‏.‏ ثم قتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين وانفرد عبد الملك بالخلافة وولى على الجزيرة وأرمينيـة أخـاه محمداً‏.‏ وعزل خالد بن عبد الله عن البصرة وضمها إلى أخيه بشر فسار إليها واستخلف علـى الكوفـة عمـرو بـن حريـث‏.‏ وولـى على الحجاز واليمن واليمامة الحجاج بن يوسف وبعثه من الكوفة لحرب ابن الزبير‏.‏ وعزل طارقاً عن المدينة وسار من جنده‏.‏ وفـي سنـة أربـع وسبعين استقضى أبا إدريس الخولاني وأمر بشر أخاه أن يبعث المهلب بن أبي صفرة لحرب الأزارقة‏.‏ وعزل عن خراسان بكير بن وشاح وولى مكانه أمية بن عبد الله بن خالـد بن أسيد فبعث أمية ابنه عبد الله على سجستان‏.‏ وكان على أفريقية زهير بن قيس البلـوي فقتلـه البربـر سنـة تسـع وستيـن‏.‏ وشغـل عبـد الملـك بفتنـة ابـن الزبير فلما فرغ منها بعث إلى أفريقية سنة أربع وسبعين حسان بن النعمان القيساني في عساكر لم ير مثلها فأثخن فيها وافترقت جموع الروم والبربر‏.‏ وقتل الكاهنة كما يذكر في أخبار أفريقية‏.‏ ثـم ولـى عبـد الملـك سنـة خمـس وسبعيـن الحجـاج بن يوسف على العراق فقط وولى على السند سعيـد بـن أسلـم بـن زرعـة وقتـل في حروبها وكان أمر الخوارج‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:35 PM

وفي سنة ست وسبعين
ولى علـى المدينـة إبـان بـن عثمـان وكـان علـى قضـاء الكوفة شريح‏.‏ وعلى قضاء البصرة زرراة بن أبي أوفـى بعـد هشـام بـن هبيـرة وعلـى قضاء المدينة عبد الله بن قشير بن مخرمة‏.‏ ثم كانت حروب الخـوارج كمـا نذكـر فـي أخبارهـم‏.‏

وفي سنة ثمـان وسبعيـن
عـزل عبـد الملـك أمية بن عبد الله عن خراسان وسجستان وضمهما إلى الحجاج بن يوسف فبعث الحجاج على خراسان المهلب بن أبي صفرة وعلى سجستان عبد الله بن أبي بكرة وولى على قضاء البصرة موسى بن أنس واستعفـى شريـح بـن الحـارث مـن القضـاء بالكوفـة فولـى مكانـه أبـا بـردة بـن أبي موسى ثم ولى على قضـاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة‏.‏ وخرج عبد الرحمن بن الأشعث فملك سجستان وكرمان وفارس والبصرة ثم قتل ورجعت إلى حالها وذلك سنة إحدى وثمانين‏.‏

وفي سنة اثنتين وثمانين
مات المهلب بن أبي صفرة واستخلف ابنه يزيد على خراسان فأقره الحجاج‏.‏ وفي هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة وولى مكانه هشام بن إسماعيل المخزومي فعزل هشام نوفل بن مساحق عـن القضـاء وولـى مكانـه عمـر بـن خالـد الزرقـي‏.‏ وبنـى الحجـاج مدينـة واسـط‏.‏

وفي سنة خمـس وثمانيـن
عـزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسـان وولـى مكانـه هشـام أخـاه المفضـل قليـلاً ثـم ولـي قتيبـة بـن مسلـم وتوفي عبد الملك‏.‏ وعزل الوليد لأول ولايته هشام بن إسماعيل عن المدينة وولى مكانه عمر بن عبد العزيز فولى على القضـاء أبـا بكـر بـن عمـرو بـن حزم وولى الحجاج على البصرة الجراح بن عبد الله الحكمي وولى

وفي سنة تسـع وثمانين
ولى الوليد على مكة خالد بن عبد الله القسري وكان على ثغر السند محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي وهو ابن عم الحجاج‏.‏ ففتح السند وقتـل ملكه‏.‏ وكان على مصر عبد الله بن عبد الملك ولاه عليها أبوه ففل ملكها‏.‏ فعزله الوليد في هذه السنة وولى مكانه قرة بن شريك وعزل خالداً عن الحجاز وولى عمر بن عبد العزيز‏.‏

وفي سنة إحدى وتسعين
عزل الوليد عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية وولى مكانه أخاه مسلمة بن عبد الملك وكان على طندة في قاصية المغرب طارق بن زياد عاملاً لمولاه موسى بن نصير عامل الوليد بالقيروان فأجاز البلاد والبحر إلى بلاد الأندلس وافتتحها سنة اثنتيـن وتسعيـن كمـا يذكـر في أخبارها‏.‏

وفي سنة ثلاث وتسعين
عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجاز وولى مكانه خالد بن عبد الله على مكة وعثمان بن حيان على المدينة‏.‏ ومات الحجاج سنة خمس وتسعين ثم مات الوليد سنة ست وتسعين وفيها قتل قتيبة بن مسلم لانتقاضه على سليمان وولاها سليمان يزيد بن المهلب‏.‏ وفيها مات قرة بن شريك وكان علـى المدينـة أبـو بكـر بـن محمـد بـن عمـر بـن حـزم وعلـى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيـد وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن موسى وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة

وفي سنة سبع وتسعين
عزل سليمان بن موسى بن نصير عن أفريقية وولى مكانه محمد بن يزيد القرشـي حتـى مـات سليمـان فعـزل‏.‏ واستعمـل عمـر مكانـه إسماعيـل بن عبد الله‏.‏

وفي سنة ثمان وتسعين
كان فتح طبرستان وجرجان أيام سليمان بن عبد الملك على يد يزيد بن المهلب‏.‏

وفي سنة تسـع وتسعيـن
استعمـل عمـر بـن عبـد العزيـز على البصرة عدي بن أرطاه الفزاري وأمره بإبقاء يزيد بن المهلب موثوقاً فولى على القضاء الحسن بن أبي الحسن البصري ثم إياس بن معاويـة وعلـى الكوفـة عبـد الحميـد بـن عبـد الرحمن بن يزيد بن الخطاب‏.‏ وولى على المدينة عبد العزيـز بـن أرطـاة وولـى علـى خراسـان الجـراح بـن عبـد اللـه الحكمـي ثـم عزل سنة مائة‏.‏ وولي عبد الرحمن بن نعيم القرشي وولى على الجزيرة عمر بن هبيرة الفزاري وعلى أفريقية إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم وعلى الأندلس السمح بن مالك الخولاني‏.‏ ثم في سنة إحدى ومائة عزل إسماعيل عن أفريقية وولاها يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج فلم يزل عليها إلى أن قتـل‏.‏

وفي سنة اثنتيـن ومائـة
ولـى يزيـد بـن عبـد الملـك أخـاه مسلمـة علـى العـراق وخراسـان فولـى علـى خراسـان سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاصي بن أميـة ويقـال لـه سعيـد خدينـة‏.‏ ثم استحيا من مسلمة في أمر الجراح فعزله وولى مكانه ابن يزيد بن هبيرة‏.‏ فجعل على قضاء الكوفة القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى‏.‏ وكان على مصر أسامة بن زيد وليها بعد قرة بن شريك

وفي سنة ثلاث ومائة
جمع يزيد مكة والمدينة لعبد الرحمن بن الضحاك وعزل عبد العزيز بن عبد الله بن خالد عن مكة وعن الطائف وولى مكانه عبد الواحد بن عبد الله البصري‏.‏

وفي سنة أربـع ومائـة
ولـى يزيـد علـى أرمينيـة الجراح بن عبد الله الحكمي وعزل عبد الرحمن بن الضحاك عن مكة والمدينة لثلاث سنين من ولايته وولى عليهما مكانه عبد الواحد البصري وعـزل ابـن هبيـرة سعيـداً الحرشـي عـن خراسـان وولى عليها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي‏.‏ وولى على قضاء الكوفة الحسين بن حسين الكندي‏.‏ ومات يزيد بن عبد الملك سنة خمس وولي هشام فعزل ابن هبيرة عن العراق وولي مكانه خالد بن عبد الله القسري واستعمل خالد على خراسان أخاه أسداً سنة سبع ومائة وعزل مسلم بن سعيد وولى على البصرة عقبة بن عبد الأعلى وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنـس‏.‏ وولـى علـى السنـد الجنيـد بـن عبـد الرحمـن‏.‏ واستعمل هشام على الموصل الحر بن يوسف وعـزل عبـد الواحـد البصـري عـن الحجـاز وولـى مكانـه بـن هشام بن إسماعيل المخزومي واستقضى بالمدينة محمد بن صفوان الجمحي ثم عزله واستقضى الصلـت الكنـدي‏.‏ وعـزل الجراح بن عبد الله عن أرمينية وأذربيجان وولى مكانه أخاه مسلمة فولى عليها الحارث بن عمرو الطائي‏.‏ وكان على اليمن سنة ثمان يوسف بن عمر‏.‏

وفي سنة تسع
عزل خالد أخاه أسـداً عـن خراسـان وولـى هشـام عليها أشرس بن عبد الله السلمي وأمره أن يكاتب خالداً بعد كان خالد ولى الحكـم بـن عوانـة الكلبـي مكـان أخيـه فلـم يقـر فعزلـه هشـام‏.‏ ومـات فـي سنـة تسـع عامـل القيـروان بشـر بـن صفوان فولى هشام مكانه عبيدة بن عبد الرحمن بن الأغر السلمي فعزل عبيدة يحيى بن سلمة الكلبي عن الأندلس واستعمل حذيفة بن الأخوص الأشجعي‏.‏ ثم عزل لستة أشهر ووليها عثمان بن أبي تسعة الخثعمي‏.‏

وفي سنة عشر ومائة
خالد الصلاة والأحداث والشرط والقضـاء بالبصـرة لبلـال بـن أبـي بـردة وعـزل ثمامـة عـن القضـاء‏.‏

وفي سنة إحدى عشرة
عزل هشام عـن خراسـان أشـرس بـن عبـد اللـه وولـى مكانـه الجنيـد بن عبد الرحمن بن الحارث بن خارجة بن سنـان بـن أبـي حارثـة المـري وولـى علـى أرمينيـة الجـراح بـن عبـد الله الحكمي وعزل مسلمة‏.‏ وفيها عـزل عبيـدة بـن عبـد الرحمـن عامـل أفريقيـة وعثمـان بن أبي تسعة عن الأندلس وولى مكانه الهيثم بن عبيد الكناني‏.‏

وفي سنة اثنتـي عشـرة
قتـل الجـراح بـن عبـد اللـه صاحـب أرمينيـة قتلـه التركمان فولى هشام مكانه سعيداً الحرشي ومات الهيثم عامل الأندلس وولوا علـى أنفسهـم مكانـه حمـد بـن عبـد اللـه الأشجعي شهرين وبعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي من قبيل ابن عبد الرحمن السلمي عامل أفريقية وغزا إفرنجة فاستشهد‏.‏ فولى عبيدة مكانه عبد الملك بن قطن الفهري وعزل عبيدة عن أفريقية وولى مكانه عبيد الله بن الحبحاب وكان على مصر فسار إليها‏.‏

وفي سنة أربع عشرة
عزل هشام مسلمة عن أرمينية وولى مكانه مروان بن محمد بن مروان وعـزل إبراهيـم بـن هشـام عـن الحجـاز وولـى مكانـه علـى المدينـة خالـد بـن عبد الملك بن الحارث بن الحكـم وعلـى مكـة والطائـف محمـد بـن هشـام المخزومـي‏.‏

وفي سنة سـت عشرة ومائة
عزل هشام الجنيد بن عبد الرحمن المري عن خراسان وولى مكانه عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي‏.‏ وفيهـا استعمـل عبـد اللـه بـن الحبحـاب علـى الأندلـس عقبـة بـن الحجـاج القيسـي مكـان عبـد الملك بن قطـن ففتـح خليتيـه‏.‏

وفي سنة سبع عشرة ومائة
عزل هشام عاصم بن عبد الله عن خراسان وولـى مكانـه خالـد بـن عبـد اللـه القسري فاستخلف خالد أخاه أسداً‏.‏ وولى هشام على أفريقية والأندلس عبيد الله بن الحباب وكان على مصر فسار عليها‏.‏ واستخلف على مصر ولده‏.‏ وولـى علـى الأندلـس عقبـة بـن الحجـاج وعلـى طنجـة ابنه إسماعيل‏.‏ وبعث حبيب بن أبي عبيدة بـن عقبـة بـن نافـع غازيـاً إلـى المغـرب فبلـغ السـوس الأقصـى وأرض السـودان وفتـح وغنـم‏.‏ وأغزاه إلى صقلية سنة اثنتين وعشرين ومائة ففتح أكثرها‏.‏ ثم استدعاه لفتنة ميسـرة كمـا نذكـره فـي أخبارهم‏.‏

وفي سنة ثمـان عشـرة
عـزل هشـام عـن المدينـة خالد بن عبد الملك بن الحارث وولى مكانه محمد بـن هشـام بـن إسماعيـل‏.‏

وفي سنة عشريـن
مـات أسـد بـن عبـد اللـه الخراسانـي وولـي مكانـه نصـر بـن سيـار‏.‏ وعـزل هشـام خالـداً القسـري عـن جميـع أعمالـه بالعراقين وخراسان وولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي استقدمه إليها من ولاية اليمن‏.‏ فأقر نصر بن سيار على خراسان وكان على قضـاء الكوفـة ابـن شبرمـة وعلـى قضـاء البصـرة عامـر بـن عبيدة‏.‏ وولى يوسف بن عمر بن شبرمة علـى سجستـان واستقضـى مكانـه محمـد بـن عبـد الرحمن بن أبي ليلى‏.‏ وكان على قضاء البصرة إياس بن معاوية بن قرة فمات في هذه السنة‏.‏

وفي سنة ثلاث وعشرين
قتل كلثوم بن عياض الـذي بعثـه هشام لقتال البربر بالمغرب‏.‏ وتوفي عقبة بن الحجاج أمير الأندلس وقيل بل خلعوه‏.‏ وولـي مكانـه عبـد الملـك بـن قطـن ولايته الثانية كما يذكر‏.‏

وفي سنة أربع وعشرين
ظهر أمر أبي مسلـم بخراسـان وتلقـب بلـخ علـى الأندلس ثم مات‏.‏ وكان سار إليها من فل كلثوم بن عياض لما قتلـه البربـر بالمغـرب‏.‏ وولـى هشـام علـى الأندلـس أبـا الخطار حسام بن ضرار الكلبي فأمر حنظلة بن صفوان أن يوليه فولاه‏.‏ وكان ثعلبة بن خزامة سلامة الجرابي قد ولوه بعد بلخ فعزله أبو الخطار‏.‏ وفـي هـذه السنـة ولـي الوليد بن يزيد خالد بن يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي على الحجاز فأسـره‏.‏ ثم قتل الوليد سنة ست وعشرين فعزل يزيد عن العراق يوسف بن عمر وولى مكانه منصور بن جمهور فبعت عامله على خراسان فامتنع نصر بن سيار من تسليم العمل له‏.‏ ثم عزل يزيد منصور بن جمهور وولى مكانه على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وغلب حنظلـة علـى أفريقيـة عبـد الرحمـن بـن حبيـب كمـا يذكـر فـي خبرهـا‏.‏ وعزل يزيد عن المدينة يوسف بـن محمـد بـن يوسـف وولـى مكانـه عبـد العزيـز بـن عمر بن عثمان وغلب سنة سبع وعشرين عبد اللـه بـن معاويـة بـن عبـد اللـه بـن جعفـر على الكوفة وولى مروان على الحجاز عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وعلى العراق النضر بن سعيد الحرشي‏.‏ وامتنع ابن عمر من استلام العمل إليه ووقعت الفتنة بينهـم‏.‏ ولحـق ابـن عمـر بالخـوارج كمـا يذكـر فـي أخبارهـم‏.‏ واستولـى بنـو العبـاس علـى العباس‏.‏

وفي سنة تسـع وعشريـن
ولـي يوسـف بـن عبد الرحمن الفهري على الأندلس بعد نوابة بن سلامة كمـا يأتـي فـي أخبارهـم‏.‏ وولى مروان على الحجاز عبد الواحد وعلى العراق يزيد بن عمر بن هبيرة‏.‏

وفي سنة ثلاثين
ملك أبو مسلم خراسان وهرب عنها نصر بن سيار فمات بنواحي همذان سنة إحدى وثلاثين‏.‏ وجاء المسودة وعليهم قحطبة فطلبوا ابن هبيرة على العراق وملكـوه وبايعـوا خليفتهـم أبا العباس السفاح‏.‏ ثم غلبوا مروان على الشام ومصر وقتلوه‏.‏ وانقرض أمر بني أمية وعاد الأمر والخلافة لبني العباس‏.‏ والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده‏.‏ وهذه أخبـار بنـي أميـة مخلصـة مـن كتـاب أبـي جعفـر الطبـري‏.‏ ولنرجـع إلـى أخبـار الخـوارج كمـا شرطنـا فـي أخبارها بالذكر‏.‏ والله المعين لارب غيره‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:36 PM

الخبر عن الخوارج وذكر أوليتهم وتكرر خروجهم في الملة الإسلامية
قـد تقـدم لنـا خبـر الحكمين في حرب صفين واعتزل الخوارج علينا منكرين للتحكيم مكفرين به ولاطفهـم فـي الرجـوع عـن ذلـك وناظرهـم فيـه بوجـه الحـق فلجـوا وأبـوا إلا الحرب‏.‏ وجعلوا شعارهم النـداء بـلا حكـم إلا اللـه‏.‏ وبايعـوا عبـد اللـه بـن وهـب الراسبـي‏.‏ وقاتلهم علي بالنهروان فاستلحمهم أجمعين‏.‏ ثم خرج من فلهم طائفة بالأنبار فبعث إليهم من استلحمهم‏.‏ ثم طويفة أخرى مع هلال بن علية فبعث معقل بن قيس فقتلهم‏.‏ ثم أخرى ثالثة كذلك ثم أخرى على المدائن كذلك ثم أخرى بشهرزور كذلك‏.‏ وبعث شريح بن هانىء فهزموه فجرح واستلحمهم أجمعين واستأمن من بقي فأمنهم وكانوا نحو خمسين‏.‏ وافتـرق شمـل الخـوارج ثـم اجتمع من وجدانهم الثلاثة الذين توعدوا لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العـاص‏.‏ فقتـل بالسهـم عبـد الرحمن بن ملجم علياً رضي الله عنه وباء بإثمه وسلم الباقون‏.‏ ثم اتفقت الجماعة على بيعة معاوية سنة إحدى وأربعين واستقل معاوية بخلافة الإسلام‏.‏ وقد كـان فـروة بـن نوفـل الأشجعـي اعتـزل عليـاً والحسـن ونـزل شهرزور وهو في خمسمائة من الخوارج‏.‏ فلمـا بويـع معاويـة قـال فـروة لأصحابـه‏:‏ قد جاء الحق فجاهدوا واقبلوا فنزلوا النخيلة عند الكوفة فاستنفر معاوية أهل الكوفة فخرجوا لقتالهم وسألوا أهل الكوفة أن يخلوا بينهم وبين معاوية فأبوا فاجتمعت أشجع على فروة فوعظوه فلم يرجع فأخذوه قهراً وأدخلوه الكوفة‏.‏ واستعمل الخوارج بعده عبد الله بن أبي الحريشي من طيىء‏.‏ وقاتلوا أهل الكوفة فقاتلوا وابن أبـي الحريشي معهم‏.‏ ثـم اجتمعـوا بعـده علـى حوثـرة بـن وداع الأسدي وقدموا إلى النخيلة في مائة وخمسين ومعهم فل بن أبي الحريشي‏.‏ وبعث معاوية إلى حوثرة أباه ليرده عن شأنه فأبى فبعث إليه عبد الله بن عـوف فـي معسكـر فقتلـه وقتـل أصحابه إلا خمسين دخلوا الكوفة وتفرقوا فيها وذلك في جمادى الأخيرة سنة إحدى وأربعين‏.‏ وسار معاوية إلى الشام وخلف المغيرة بن شعبة فعاد فروة بن نوفـل الأشجعـي إلـى الخـروج‏.‏ فبعـث إليـه المغيـرة خيـلاً عليهـا ابـن ربعي ويقال معقل بن قيس فلقيه بشهرزور فقتله‏.‏ ثم بعث المغيرة إلى شبيب بن أبجر من قتله وكان من أصحاب ابن ملجم‏.‏ وهـو الـذي أتـى معاويـة يبشـره بقتـل علـي فخافـه علـى نفسـه وأمـر بقتله‏.‏ فتنكر بنواحي الكوفة إلى أن بعث المغيرة من قتله‏.‏ ثم بلغ المغيرة أن بعضهم يريد الخروج وذكر له معن بن عبد الله المحاربي فحبسه ثم طالبه بالبيعـة لمعاويـة فأبـى فقتلـه ثـم خـرج علـى المغيـرة أبو مريم مولى بني الحارث بن كعب فأخرج معه النسـاء‏.‏ فبعـث المغيـرة مـن قتلـه وأصابـه‏.‏ ثـم حكـم أبـو ليلـى فـي المسجـد بمشهد الناس وخرج في اثنين من الموالي فأتبعه المغيرة معقل بن قيس الرياحي فقتله بسور الكوفة اثنتين وأربعين‏.‏ ثم خرج على ابن عامر فـي البصـرة سهـم بـن غانـم الجهنـي فـي سبعيـن رجـلاً منهـم الحطيـم وهـو يزيـد بـن حالك الباهلي ونزلوا بين الجسرين والبصرة‏.‏ ومر بهم بعض الصحابة منقلباً من الغزو فقتلوه وقتلوا ابنه وابن أخيه وقالوا هؤلاء كفرة‏.‏ وخرج إليهم ابن عامر فقتل منهم عدة وأمن باقيهم‏.‏ ولما أتى زياد البصرة سنة خمس وأربعين هرب منهم الحطيم إلى الأهواز وجمع ورجع إلى البصرة فافترق عنه أصحابه فاختفى وطلب الأمان من زياد فلـم يؤمنـه ثـم دل عليـه فقتلـه وصلبه بداره‏.‏ وقيل بل قتله عبد الله بعد زياد سنة أربع وخمسين‏.‏ ثـم اجتمـع الخـوارج بالكوفـة علـى المستـورد بـن عقلـة التيمـي مـن تيم الرباب وعلى حيان بن ظبيان السلمي وعلى معاذ بن جوين الطائي وكلهم من فل النهروان الذين ارتموا في القتلى ودخلوا الكوفـة بعـد مقتـل علي واجتمعوا في أربعمائة في منزل حيان بن ظبيان وتشاوروا في الخروج وتدافعـوا الإمـارة‏.‏ ثـم اتفقـوا علـى المستـورد وبايعـوه فـي جمـادى الأخيـرة‏.‏ وكبسهـم المغيـرة فـي منزلهـم فسجن حيان وأفلت المستورد فنزل الحيرة واختلف إليه الخوارج وبلغ المغيرة خبرهم فخطب الناس وتهدد الخوارج فقام إليه معقل بن قيس فقال‏:‏ ليكفك كل رئيس قومه‏.‏ وجـاء صعصعة بن صوحان إلى عبد القيس وكان عالمًا بمنزلهم عند سليم بن مخدوج العبدي إلا أنـه لا يسلـم عشيرتـه فخرجـوا ولحقـوا بالصراة في ثلاثمائة فجهز إليهم معقل بن قيس في ثلاثة آلاف وجعل معظمهم من شيعة علي وخرج معقل في الشيعة وجاء الخوارج ليعبروا النهر إلى المدائـن فمنعهـم عاملهـا سمـال بـن عبـد العبسـي ودعاهم إلى الطاعة على الأمان فأبوا فساروا إلى المذار‏.‏ وبلغ ابن عامر بالبصرة خبرهم فبعث شريك بن الأعور الحارثي فى ثلاثة آلاف من الشيعة وجاء معقل بن قيس إلى المدائن وقد ساروا إلى المذار فقدم بين يديه أبـا الـرواع الشاكري في ثلاثمائة وسار لحقهم أبو الرواع بالمذار فقاتلهم‏.‏ ثم لحقه معقل بن قيس متقدماً أصحابه عند المساء فحملت الخوارج عليه فثبت باتوا على تعبيـة وجـاء الخبـر إلـى الخـوارج بنهـوض شريـك بـن الأعور من البصرة فأسروا من ليلتهم راجعين‏.‏ وأصبـح معقـل واجتمـع بشريك وبعث أبا الرواع في أتباعهم في ستمائة فلحقهم بجرجان فقاتلهم فهزمهم إلى ساباط وهو في اتباعهم‏.‏ ورأى المستورد أن هؤلاء مع أبي الرواع حماة أصحاب معقـل فتسـرب عنهـم إلى معقل وأبو الرواع في اتباعه‏.‏ ولما لحق بمعقل قاتلهم قتالاً وأدركهم أبو الـرواع بعـد أن لقـي كثيـراً مـن أصحـاب معقـل منهزميـن فردهـم واقتتلـوا قتـالاً شديـداً وقتـل المستورد معقلاً طعنـه بالرمـح فأنفـذه وتقـدم معقـل والرمـح فيـه إلـى المستـورد فقسـم دماغـه بالسيـف وماتـا جميعـاً‏.‏ وأخـذ الرايـة عمـر بـن محـرز بـن شهاب التميمي بعهد معقل بذلك‏.‏ ثم حل الناس على الخوارج فقتلوهم ولم ينج منهم إلا خمسة أو ستة‏.‏ وعند ابن الكلبي أن المستورد من تيم من بني رياح‏.‏ خرج بالبصرة أيام زياد قريب الأزدي ورجـاف الطائـي ابنـا الخالة وعلى البصرة سمرة بن جندب وقتلوا بعض بني ضبة فخرج عليهم شبان من بني علي وبني راسب فرموهم بالنيل وقتل قريب وجاء عبد الله بن أوس الطائي برأسه واشتـد زيـاد فـي أمـر الخـوارج وسمـرة وقتلـوا منهـم خلقـاً‏.‏ ثـم خـرج سنـة اثنتيـن وخمسيـن علـى زيـاد بـن حـراش العجلـي فـي ثلاثمائـة بالسـواد فبعـث إليهـم زيـاد سعد بن حذيفة في خيل فقتلوهم وخرج أيضاً أصحاب المستورد حيان بن ظبيان ومعاذ من طيىء فبعث إليهما مـن قتلهمـا وأصحابهما‏.‏ وقيل بل استأمنوا وافترقوا‏.‏ ثـم اجتمـع بالبصـرة سنـة ثمـان وخمسيـن سبعون رجلاً من الخوارج من عبد القيس وبايعوا طواف بن على أن يفتكوا بابن زياد وكان سبب ذلك أن ابن زياد حبس جماعة من الخوارج بالبصرة وحملهم على قتل بعضهم بعضاً وخلى سبيل القاتلين ففعلوا وأطلقهم وكان منهم طواف‏.‏ ثم ندمـوا وعرضـوا علـى أوليـاء المقتوليـن القود والدية فأبوا وأفتاهم بعض علماء الخوارج بالجهاد لقوله تعالـى‏:‏ ‏"‏ ثـم إن ربـك للذيـن هاجـروا مـن بعـد مـا فتنـوا ‏"‏ الآية فاجتمعوا للخروج كما قلنا‏.‏ وسعى بهـم إلـى ابـن زيـاد فاستعجلـوا الخـروج وقتلـوا رجـلاً ومضـوا إلـى الجلحـاء كمـا قلنا‏.‏ فندب ابن زياد الشرط والمحاربة فقاتلوهم‏.‏ فانهزم الشرط أولاً ثم كثرهم الناس فقتلوا عن آخرهم واشتد ابن زياد على الخوارج وقتل منهـم جماعـة كثيـرة منهـم عـروة بـن أديـة أخـو مـرداس وأديـة أمهمـا وأبوهما جرير بن تميم‏.‏ وكـان وقـف علـى ابـن زيـاد يومـاً يعظه فقال‏:‏ أتبنون بكل ريع آية‏.‏ تعبثون الآيات‏.‏ فظن ابن زياد أن معه غيره فأخذه وقطعه وقتل ابنيه‏.‏ وكان أخوه مرداس من عظمائهم وعبادهم وممن شهد النهروان بالاستعراض‏.‏ ويحرم خروج النسـاء ولا يـرى بقتـال مـن لا يقاتلـه‏.‏ وكانـت امرأتـه مـن العابدات من بني يربوع وأخذها ابن زياد فقطعها‏.‏ وألح ابن زياد في طلب الخوارج وقتلهم وخلى سبيل مرداس من بينهم لما وصف له من عبادته ثم خاف فخرج إلى الأهواز‏.‏ وكان يأخذ مال المسلمين إذا مر به فيعطي منه أصحابه ويرد الباقي‏.‏ وبعـث ابـن زيـاد إليهـم أسلـم بـن زرعـة الكلابـي فـي ألفي رجل ودعاهم إلى معاودة الجماعة فأبوا وقاتلوهم فهزموا أسلم وأصحابه‏.‏ فسرح إليهم ابن زياد عباد بن علقمة المازني ولحقهم بتوج وهـم يصلـون فقتلهـم أجمعيـن مـا بيـن راجـع وساجـد لـم يتغيـروا عـن حالهـم‏.‏ ورجـع إلـى البصـرة برأس أبـي بلـال مـرداس فرصـده عبيـدة بـن هلـال فـي ثلاثـة نفر عند قصر الإمارة ليستفتيه فقتلوه واجتمع عليهـم النـاس فقتلـوا منهـم‏.‏ وكـان علـى البصـرة عبيـد اللـه بـن أبـي بكـرة فأمـره زيـاد بتتبـع الخوارج إلى أن تقدم فحبسهم وأخذ الكفلاء على بعضهم وأتى بعروة بن أدية فقال‏:‏ أنا كفيلك وأطلقه‏.‏ ولما جاء ابن زياد قتل المحبوسين منهم والمكفولين وطانب ابن أبي بكرة بعروة بن أدية فبحث عنه حتى ظفر به وجاء به إلى ابن زياد فقطعه وصلبه سنة ثمان وخمسين‏.‏ ثم مات يزيد واستفحـل أمـر ابـن الزبيـر بمكـة وكـان الخـوارج لما اشتد عليهم ابن زياد بعد قتل أبي بلال مرداس أشار عليهم نافع بن الأزرق منهم باللحاق بابن الزبير لجهاد عساكر يزيد لما ساروا إليه قالوا‏:‏ وإن لـم يكـن على رأينا داحضاً عن البيت وقاموا يقاتلون معه فلما مات يزيد وانصرفت العساكر كشفـوا عـن رأي ابـن الزبير فيهم وجاؤوه يرمون من عثمان ويتبرؤون منه فصرح بمخالفتهم‏.‏ وقال بعد خطبة طويلة أثنى فيها على الشيخين وعلي وعثمان واعتذر عنه فيما يزعمون وقال‏:‏ أشهدكـم ومـن حضرنـي أني ولي لابن عفان وعدو لأعدائه قالوا‏:‏ فبرىء الله منك قال بل برىء وأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي وعبد الله بن صفار السعدي وعبد الله بن إباض وحنظلة بن بيهـس وبنـو الماخـور‏:‏ عبـد اللـه وعبيد الله والزبير من بني سليط بن يربوع وكلهم من تميم حتى أتـوا البصـرة‏.‏ وانطلـق أبـو طالـوت عـن بنـي بكـر بن وائل وأبو فديك عبد الله بن نور بن قيس بن ثعلبـة بـن الأسـود اليشكـري إلـى اليمامـة فوثبـوا بهـا مع أبي طالوت‏.‏ ثم تركوه ومالوا عنه إلى نجدة بن عامر الحنفي‏.‏ ومن هنا افترقت الخوارج على أربع فرق‏:‏ الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي وكان رأيـه البـراءة مـن سائـر المسلميـن وتكفيرهم والاستعراض وقتل الأطفال واستحلال الأمانة لأنه يراهم كفاراً‏.‏ والفرقة الثانية النجدية وهم بخلاف الأزارقة في ذلك كله‏.‏ والفرقة الثالثة الإباضيـة أصحاب عبد الله بن إباض المري وهم يرون أن المسلمين كلهم يحكم لهم بحكم المنافقين فلا ينتهون إلى الـرأي الـأول ولا يقفـون عنـد الثانـي ولا يحرمـون مناكحـة المسلميـن ولا موارثتهـم ولا المنافقين فيهم وهم عندهم كالمنافقيق وقول هؤلاء أقرب إلى السنة‏.‏ ومن هـؤلاء البيهسيـة أصحـاب أبـي بيهـس هيصـم بـن جابـر الضبعـي‏.‏ والفرقـة الرابعـة الصفرية وهم موافقون للإباضية إلا في العقدة فإن الإباضية أشد على العقدة منهم‏.‏ وربما اختلفت هذه الآراء من بعد ذلك واختلف في تسمية الصفرية فقيل نسبوا إلـى ابـن صفـار وقيـل اصفـروا بما نهكتهم العبادة‏.‏ وكانت الخوارج من قبل هذا الافتراق على رأي واحد لا يختلفـون إلا فـي الشـاذ مـن الفـروع‏.‏ وفـي أصـل اختلافهـم هـذا مكاتبـات بيـن نافـع بن الأزرق وأبي بيهس وعبد الله بن إباض ذكرها المبرد في كتاب الكامل فلينظر هناك‏.‏ ولما جاء نافع إلى نواحي البصرة سنة أربع وستين فأقام بالأهواز يعترض الناس وكان على البصـرة عبـد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب‏.‏ فسرح إليه مسلم عبس بن كويز بن ربيعة من أهل البصرة بإشارة الأحنف بن قيس فدافعه عن نواحي البصرة وقاتله بالأهواز وعلى ميمنة مسلم الحجاج بن باب الحميري وعلى ميسرته حارثة بن بحر الغداني‏.‏ وعلـى ميمنـة ابـن الأزرق عبيدة بن هلال وعلى ميسرته الزبير بن الماخور التميمي‏.‏ فقتل مسلم ثم قتل نافع وأفر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب والخوارج عبد الله بن الماخور‏.‏ ثم قتل الحجاج وعبد الله فأمر أهل البصرة ربيعة بن الأخزم والخوارج عبيد الله بن الماخور‏.‏ ثم اقتتلوا حتى أمسوا وجاء إلى الخوارج مدد فحملوا على أهل البصرة فهزموهم‏.‏ وقتل ربيعة وولوا مكانه حارثة بن بدر فقاتل وردهم على الأعقاب ونزل الأهواز‏.‏ ثم عزل عن البصرة عبد الله بن الحارث وبعث ابن الزبير عليها الحارث القباع بن أبي ربيعة فزحـف الخـوارج إلـى البصـرة وأشـار الأحنف بن قيس بتولية المهلب حروبهم وقد كان ابن الزبير ولاه خراسان فكتبوا لابن الزبير بذلك فأجاب‏.‏ واشترطوا للمسلم ما سأل من ولاية ما غلب عليه والإعانة بالأموال فاختار من الجند اثني عشر ألفاً وسار إليهم فدفعهم عـن الجسـر‏.‏ وجـاء حارثـة بـن بـدر بمـن كـان معـه فـي قتـال الخوارج فردهم الحارث إلى المهلب‏.‏ وركب حارثة البحر يريد البصرة فغرق في النهر‏.‏ وسار المهلب وعلى مقدمته ابنه المغيرة فقاتلهم المقدمة ودفعوهم عن سوق الأهواز إلى مادر‏.‏ ونزل المهلب بسولاف وقاتله الخوارج وصدقوا الحملة فكشفوا أصحاب المهلب‏.‏ ثم ترك من الغد قتالهم وقطع دجيل ونزل العقيل ثم ارتحل فنزل قريباً منهم وخندق عليه وأذكى العيون والحرس‏.‏ وجـاء منهـم عبيـدة بـن هلـال والزبيـر بـن الماخـور في بعض الليالي ليبيتوا عسكر المهلب فوجدوهم حذريـن‏.‏ وخـرج إليهـم المهلـب مـن الغـد فـي تعبيـة والـأزد وتميـم في ميمنته وبكر وعبد القيس في ميسرتـه وأهـل العاليـة فـي القلـب‏.‏ وعلـى ميمنـة الخوارج عبيدة بن هلال اليشكري وعلى ميسرتهم الزبير بن الماخور وأقتتلوا ونزل الصبر‏.‏ ثم شدوا على الناس فأجفل عسكر المهلب وانهـزم وسبـق المنهزميـن إلـى ربـوة ونـادى فيهم فاجتمع له ثلالة آلاف أكثرهم من الأزد فرجع بهم وقصد عسكر الخوارج واشتد قتالهم ورموهم بالحجـارة وقتـل عبـد اللـه بـن الماخـور وكثيـر منهـم وانكفؤوا راجعين إلى كرمان وناحية أصبهان منهزمين واستخلفوا عليهم الزبير بن الماخور وأقام وأما نجدة وهو نجدة بن عامر بن عبد الله بن سيار بن مفرج الحنفـي وكـان مـع نافـع بـن الـأزرق‏.‏ فلمـا افترقـوا سـار إلـى اليمامة ودعا أبو طالوت إلى نفسه وهو من بكر بن وائل وتابعه نجدة ونهب الحصارم بلد بني حنيفة وكان فيها رقيق كثير يناهز أربعة آلاف فقسمها في أصحابه وذلك سنة خمس وستين‏.‏ واعترض عيراً من البحرين جاءت لابن الزبير فأخذها وجاء بها إلى أبي طالوت فقسمها بمن أصحابه‏.‏ ثم رأى الخوارج أن نجدة خير لهم من أبي طالـوت فخالفـوه وبايعـوا نجدة‏.‏ وسار إلى بني كعب بن ربيعة فهزمهم وأثخن فيهم ورجع نجدة إلـى اليمامـة فـي ثلاثـة آلـاف ثـم سـار إلـى البحريـن سنـة سبـع وستيـن فاجتمـع أهـل البحرين من عبد القيس وغيرهم على محاربته‏.‏ وسالمته الأزد والتقوا بالعطيف فانهزمت عبد القيس وأثخـن فيهـم نجـدة وأصحابـه وأرسـل سريـة إلى الخط فظفروا بأهله‏.‏ ولما قدم مصعب بن الزبير البصرة سنة تسع وستين بعث عبد الله بن عمر الليثي الأعور في عشرين ألفاً ونجـدة بالعطيـف فقاتلوهـم وهزمهـم نجـدة وغنـم مـا فـي عسكرهـم‏.‏ وبعـث عطيـة بـن الأسـود الحنفـي مـن الخـوارج إلى عمان وبها عباد بن عبـد اللـه شيـخ كبيـر فقاتلـه عطيـة فقتلـه وأقـام أشهـراً وسـار عنهـا‏.‏ واستخلف عليها بعض الخوارج فقتله أهل عمان وولوا عليهم سعيداً وسليمان ابني عباد‏.‏ ثم خالف عطية نجدة وجاء إلى عمان فامتنعت منه‏.‏ فركب البحر إلى كرمان وأرسل إليه المهلب جيشاً فهرب إلى سجستان ثم إلى السند فقتله خيل المهلب بقندابيل‏.‏ ثم بعث نجدة المعرفين إلـى البـوادي بعـد هزيمـة ابـن عميـر فقاتلـوا بنـي تميـم بكاظمـة وأعانهـم أهـل طويلـع فبعـث نجـدة من استباحهم وأخذ منهم الصدقة كرهاً‏.‏ ثم سار إلى صنعاء فبايعوه وأخذ الصدقة مـن مخالفيهـا‏.‏ ثـم بعث أبا فديك إلى حضرموت فأخذ الصدقة منهم‏.‏ وحج سنة ثمان وستين في تسعمائة رجل وقيل في ألفين ووقف ناحية عن ابن الزبير على صلح عقد بينهما‏.‏ ثم سار نجدة إلى المدينة وتأهبوا لقتاله فرجع إلى الطائف وأصاب بنتاً لعبد الله بن عمر بن عثمان فضمها إليه‏.‏ وامتحنه الخوارج بسؤاله بيعها فقال‏:‏ قـد أعتقـت نصيبـي منهـا‏.‏ قالـوا فزوجها قال هي أملك بنفسها وقد كرهت الزواج‏.‏ ولما قرب من الطائف جاءه عاصم بن عـروة بـن مسعـود فبايعـه عـن قومه وولى عليهم الخازرق وعلى يبانة والسراة‏.‏ وولى على ما يلي نجـران سعـد الطلائـع ورجـع إلـى البحريـن وقطع الميرة عن الحرمين‏.‏ وكتب إليه ابن عباس أو ثمامة بـن أثـال لمـا أسلـم قطـع الميـرة عـن مكـة وهـم مشركـون فكتـب إليـه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل مكة أهل الله فلا تمنعهم الميرة فخلاها لهم وأنك قطعت الميرة ونحن مسلمون فخلاها لهم نجدة‏.‏ ثم اختلف إليه أصحابه لأن أبا سنان حيي بن وائل أشار عليه بقتل من أطاعه تقية فانتهره نجـدة وقـال‏:‏ إنمـا علينـا أن نحكـم بالظاهـر‏.‏ وأغضبه عطية في منازعة جرت بينهما على تفضيله لسرية البر علـى سريـة البحـر فـي الغنيمـة فشتمـه نجـدة فغضـب‏.‏ وسألـه فـي درء الحـد فـي الخمـر عـن رجل من شجعانهم فأبى‏.‏ وكاتبه عبد الملك في الطاعة على أن يوليه اليمامة ويهدر لهم ما أصـاب مـن الدمـاء‏.‏ فاتهموه في هذه المكاتبة ونقموا عليه أمثال هذه وفارقه عطية إلى عمان‏.‏ ثـم انحـازوا عنـه وولوا أمرهم أبا فديك عبد الله بن ثور أحد بني قيس بن ثعلبة‏.‏ واستخفى نجـدة وألـح أبـو فديـك فـي طلبـه وكـان مستخفيـاً فـي قريـة من قرى حجر‏.‏ ثم نذر به فذهب إلى أخواله من تميم وأجمع المسير إلى عبد الملك فعلم به أبو فديك وجاءت سرية منهم وقاتلهم فقتلوه‏.‏ وسخط قتله جماعة من أصحاب أبي فديك واعتمده مسلم بن جبير فطعنه اثنتي عشرة طعنة وقتل مسلم لوقته وحمل أبو فديك إلى منزله‏.‏ ثم جاء مصعب إلى البصرة سنة ثمان وستين والياً على العراقين عن أخيه وكان المهلب في حرب الأزارقة فأراد مصعب أن يوليه بلاد الموصل والجزيرة وأرمينية ليكون بينه وبين عبد الملك‏.‏ فاستقدمه من فارس وولاه وولى على فارس وحرب الأزارقة عمر بن عبد الله بن معمر‏.‏ وكان الخوارج قد ولوا عليهم بعد قتل عبد الله بن الماخور سنة خمس وستين أخاه الزبيـر فجـاؤوا بـه إلـى إصطخـر وقـدم عمـر ابنـه عبيد الله إليهم فقتلوه ثم قاتل الزبير عمر فهزمهم وقتل منهم سبعون‏.‏ وفلق قطري بن الفجاءة وشتر صالح بن مخراق وساروا إلى نيسابور فقاتلهـم عمـر بهـا وهزمهم فقصدوا أصبهان فاستحموا بها‏.‏ ثم أقبلوا إلى فارس وتجنبوا عسكر عمر ومروا على ساجور ثم أرجان فأتوا الأهواز قاصدين العراق‏.‏ وأغذ عمر السير في أثرهم وعسكر مصعب عند الجسر‏.‏ فسار الزبير والخوارج فقطع أرض صرصر وشن الغارة على أهل المدائن يقتلون الولدان والرجال ويبقرون بطون الحبالى‏.‏ وهرب صاحب المدائن عنها وانتهت جماعة منهم إلى الكرخ فقاتلهم أبو بكر بن مخنف فقتلوه وخرج أمير الكوفة وهو الحارث بن أبي ربيعة القباع حتى انتهى إلى الصراة ومعه إبراهيم بن الأشتر وشبيب بن ربعي وأسماء بن خارجة ويزيد بن الحارث ومحمد بن عمير وأشـاروا عليه بعقد الجسر والعبور إليهم فانهزموا إلى المدائن‏.‏ وأمر الحارث عبد الرحمـن بـن مخنـف باتباعهـم فـي ستـة آلـاف إلـى حـدود أرض الكوفـة فانتهـوا إلـى الـري وعليهـا يزيـد بـن الحـارث بن دويم الشيباني وما والاهم عليه أهل الري فهزموه وقتلوه‏.‏ ثم انحطوا إلى أصبهان وبها عتاب بن ورقاء فحاصروه‏.‏ أشهراً وكان يقاتلهم على باب المدينة‏.‏ ثم دعا إلى الاستماتة في قتالهم فخرجوا وقاتلوهم وانهزمت الخوارج وقتل الزبير واحتووا على معسكرهم‏.‏ ثم بايع الخوارج قطري بن الفجاءة المازني ويكنى أبا نعامة وارتحل بهم إلى كرمـان حتـى استجمعـوا فرجعـوا إلـى أصبهـان فامتنعت فأتوا الأهواز وقاموا‏.‏ وبعث مصعب إلى المهلب فرده إلى قتال الخوارج وولى على الموصل والجزيرة إبراهيم بن الأشتر وجاء المهلـب فانتجعت الناس من البصرة وسار إلى الخوارج فلقيهم بسولاف‏.‏ واقتتلوا ثمانية أشهر وبعث مصعـب إلـى عتـاب بـن ورقـاء الرياحـي عامـل أصبهـان بقتـال أهـل الـري بمـا فعلـه في ابن دويم فسار إليهم وعليهم الفرخان فقاتلهم وافتتحها عنوة وقلاعها وعاث في نواحيها‏.‏


الساعة الآن 07:59 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى