منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب تاريخ ابن خلدون (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8921)

ميارى 7 - 8 - 2010 05:22 PM

دولة بني زنكي بن أقسنقر
الخبر عن دولة بني زنكي في أقسنقر من موالي السلجوقية بالجزيرة والشام ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدم لنا ذكر أقسنقر مولى السلطان ملك شاه وأنه كان يلقب قسيم الدولة‏.‏ وأن السلطان ملك شاه لما بعث الوزير فخر الدولة ابن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة بفتح ديار بكر من يد بن مروان واستنجد ابن مروان صاحب الموصل شرف الدولة مسلم بن عقيل وهزمته العساكر وانحصر بآمد فبعث السلطان عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير ليخالف شرف الدولة إلى السلطان فلقيه في الرحبة وأهدى له فرضي عنه ورده إلى بلده الموصل‏.‏ واستولى بنو جهير بعد ذلك على ديار بكر كما مر في موضعه من دولة بني مروان‏.‏ ثم كان بعد ذلك شأن حلب وأستبد بها أهلها بعد انقراض دولة بني صالح بن مرداس الكلابي وطمع فيها شرف الدولة مسلم بن قريش وسليمان بن قطلمش صاحب بلاد الروم وتتش ابن السلطان ألب أرسلان‏.‏ وقتل سليمان بن قطلمش مسلم بن قريش‏.‏ ثم قتل تتش سليمان بن قطلمش وجاء إلى حلب فملكها وامتنعت عليه القلعة فحاصرها‏.‏ وقد كانوا بعثوا إلى السلطان ملك شاه واستدعوه لملكها فوصل إليهم سنة تسع وسبعين ورحل تتش عن القلعة ودخل البرية‏.‏ واستولى السلطان على حلب وولى عليها قسيم الدولة أقسنقر وعاد إلى العراق فعمرها أقسنقر وأحسن السيرة فيها وسار معه تتش حين عهد له أخوه السلطان ملك شاه فتح بلاد العلوية بمصر والشام ففتح الكثير منها وهو معه كما مر‏.‏ وزحف قبل ذلك سنة ثمانين إلى بني منقذ بشيزر فحاصره وضيق عليه‏.‏ ثم رجع عنه عن صلح وأقام بحلب ولم يزل والياً عليها إلى أن هلك السلطان سنة خمس وثمانين‏.‏ واختلف ولده من بعده وكان أخوه تتش قد استولى على الشام منذ سنة إحدى وسبعين‏.‏ فلما هلك أخوه طمع في ملك السلجوقية من بعده فجمع العساكر وسار لاقتضاء الطاعة من الأمراء معه بالشام وقصد حلب فأطاعه قسيم الدولة أقسنقر وحمل باغيسيان صاحب إنطاكية وتيران صاحب الرها وحران على طاعته حتى يظهر مآل الأمر في ولد سيدهم ملك شاه‏.‏ وساروا مع تتش إلى الرحبة فملكها وخطب لنفسه فيها ثم إلى نصيبين ففتحها عنوة ثم إلى الموصل فهزم صاحبها إبراهيم بن قريش بن بدران وتولى كبر هزيمته أقسنقر وقتل قريش بن إبراهيم وملك الموصل من يده وولى تتش عليها ابن عمته علي بن مسلم بن قريش‏.‏ وسار إلى ديار بكر فملكها ثم إلى أذربيجان‏.‏ وكان بركيارق بن ملك شاه قد استولى على الري وهمذان وكثير من البلاد فسار لمدافعته وجنح قسيم الدولة أقسنقر وبوزان صاحب الرها إلى بركيارق ابن سيدهم فلحقوا به وتركوا تتش فانقلب عائداً إلى الشام ساخطاً على أقسنقر وبوزان ما فعلاه جمع العساكر وسار إلى حلب سنة سبع وثمانين لقتال قسيم الدولة‏.‏ وأمده بركيارق لأمير كربوقا في العساكر فبرزوا إلى لقائهم والتقوا على ست فراسخ من حلب‏.‏ ونزع بعض عساكر أقسنقر إلى تش فاختل مصافه وتمت الهزيمة عليه وجيء به أسيراً إلى تتش فقتله صبراً‏.‏ ولحق كربوقا وبوزان بحلب وتبعهما فحاصرهما وملكها وأخذهما أسيرين كما مر في أخبار الدولة‏.‏ وكان قسيم الدولة حسن السياسة كثير العدل وكانت بلاده آمنة‏.‏ ولما مات نشأ ولده في ظل الدولة السلجوقية‏.‏ وكان أكبرهم زنكي فنشأ مرموقاً بعين التجلة‏.‏ ولما ولي كربوقا الموصل من قبل بركيارق أيام الفتنة بين بركيارق وأخيه محمد كان زنكي في جملته لأنه كان صاحب أبيه‏.‏ وسار كربوقا أيام ولايته لحصار آمد وصاحبها يومئذ بعض أمراء التركمان‏.‏ وأنجده سقمان بن أرتق‏.‏ وكان زنكي بن أقسنقر يومئذ صبياً وهو وفي جملة رجال كربوقا ومعه جماعة من أصحاب أبيه فجلا في تلك الحرب‏.‏ وانهزم سقمان وظهر كربوقا‏.‏ وفي هذه الحرب أسر بن ياقوتي ابن أرتق وسجنه كربوقا بقلعة ماردين فكان ذلك سبباً لملك بني أرتق فيها كما مر في أخبار دولتهم‏.‏ ثم تتابعت الولاة على الموصل فوليها جكرمش بعد كربوقا وبعده جاولي سكاوو وبعده مودود بن أيتكين وبعده أقسنقر البرسقي كما تقدم في أخبار السلجوقية‏.‏ وولاه السلطان محمد بن ملك شاه سنة ثمان وخمسين وبعث معه ابنه مسعوداً‏.‏ وكتب إلى سائر الأمراء هناك بطاعته ومنهم يومئذ عماد الدين زنكي بن أقسنقر فاختص به‏.‏ ولما ملك السلطان محمود بعد أبيه محمد سنة إحدى عشرة كان أخوه مسعود بالموصل كما تقدم أتابكه حيوس بك ونقل البرسقي من الموصل إلى شحنة بغداد‏.‏ وانتقض دبيس بن صدقة صاحب الحلة على المسترشد والسلطان محمود وجمع البرسقي العساكر وقصد الحلة فكاتب دبيس السلطان مسعود وأتابكه حيوس بك بالموصل وأغراهما بالمسير إلى بغداد فسار لذلك مع السلطان مسعود وزيره فخر الملك وأبو علي بن عمار صاحب طرابلس وزنكي بن قسيم ودخل مسعود إلى بغداد وجاء منكبرس إلى بغداد ونزع إليه دبيس بن صدقة‏.‏ ووقعت الحرب بينهما على بغداد كما تقدم في أخبار الدولة‏.‏ وأقام منكبرس ببغداد‏.‏ ثم كان له في خدمة السلطان محمود عند حربه مع أخية مسعود مقامات جليلة‏.‏ وغلب السلطان أخاه مسعودا وأخذه عنده واستنزل أتابكه حيوس بك من الموصل وأعاد إليها البرسقي سنة خمسة عشر فعاد زنكي إلى الإختصاص به كما مر‏.‏ ثم أضاف إليه السلطان محمود شحنة بغداد وولاية واسط مضافة إلى ولاية الموصل سنة ستة عشر فولى عليها عماد الدين زنكي فحسن أثره في ولايتهما‏.‏ ولما كانت الحرب بين دبيس بن صدقة وبين الخليفة المسترشد وبرز المسترشد لقتاله من بغداد وحضر البرسقي من الموصل وعماد زنكي فانهزم دبيس عماد الدين‏.‏ في ذلك المقام‏.‏ ثم ذهب دبيس إلى البصرة وجمع المنتفق من بني عقيل فدخلوا البصرة ونهبوها وقتلوا أميرها‏.‏ وبعث المسترشد إلى البرسقي فعذله في إهماله أمر دبيس حتى فعل في البصرة ما فعل فبادر إلى قصره وهرب دبيس واستولى على البصرة وولى عليها عماد الدين زنكي بن أقسنقر فأحسن حمايتها والدفاع عنها‏.‏ وكبس العرب في حللهم بضواحيها وأجفلوا‏.‏ ثم عزل البرسقي سنة ثمان عشرة عن شحنة بغداد وعاد إلى الموصل فاستدعى عماد الدين زنكي من البصرة فضجر من ذلك وقال كل يوم للموصل جديد يستنجدنا‏.‏ وصار إلى السلطان ليكون في جملته فلما قدم عليه بأصفهان أقطعه البصرة وأعاده عليها من قبله‏.‏ ثم ملك البرسقي مدينة حلب سنة ثمان عشرة وقتل بها سنة تسع عشرة‏.‏ وكان ابنه الدين مسعود بحلب فبادر إلى الموصل وأقام ملك أبيه بها ووقع الخلاف بين المسترشد والسلطان محمود وبعث الخليفة عفيفاً الخادم إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان محمود فسار إليه عماد الدين زنكي من البصرة وقاتله فهزمه ونمى عفيف إلى المسترشد وأقام عماد الدين في واسط وأمره أن يحضر بالعساكر في السفن وفي البر فجمع السفن من البصرة وشحنها بالمقاتلة شاكي السلاح وأصعد في البر وقدم على السلطان وقد تسلحت العساكر فهاله منظرهم ووهن المسترشد لما رأى فأجابه إلى الصلح‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:22 PM

ولاية زنكي شحنة بغداد والعراق
ولما ظهر من عماد الدين زنكي من الكفاءة والغناء في ولاية البصرة وواسط ما ظهر ثم كان له المقام المحمود مع السلطان محمود على بغداد كما مر ولاه شحنة بغداد والعراق لما رأى أنه يستقيم إليه في أمور الخليفة بعد أن شاور أصحابه فأشاروا به وذلك سنة إحدى وعشرين وسار عن بغداد بعد أن ولاه على كرسي ملكه بأصفهان والله تعالى أعلم‏.‏ قد قدمنا أن عز الدين مسعود بن البرسقي لما قتل الباطنية أباه بالموصل وكان نائبه فبادر إلى الموصل وضبط أمورها وخاطب السلطان محموداً فولاه مكان أبيه وكان شجاعاً قرماً فطمع في ملك الشام فسار وبدأ بالرحبة فحاصرها حتى استأمن إليه أهل القلعة‏.‏ وطرقه مرض فمات وتفرقت عساكره ونهب بعضهم بعضاً حتى شغلوا عن دفنه وكان جاولي مولى أبيه مقدم العساكر عنده فنصب مكانه أخاه الأصغر وكاتب السلطان في تقرير ولايته‏.‏ وأرسل في ذلك الحاجب صلاح الدين محمد الباغيسياني والقاضي أبا الحسن علي ابن القاسم الشهرزوري فأوصى صلاح الدين صهره جقري فيما جاء فيه‏.‏ وكان شيعة لعماد الدين زنكي فخوف الحاجب وحذره مغبة حاله معه‏.‏ وأشار عليه وعلى القاضي بطلب عماد الدين زنكي وضمن لهما عنده الولايات والإقطاع‏.‏ وركب القاضي مع الحاجب إلى الوزير شرف الدين أنو شروان ابن خالد‏.‏ وذكر له حال الجزيرة والشام و استيلاء الإفرنج على أكثرها من ماردين إلى العريش‏.‏ وأنها تحتاج إلى من يكف طغيانهم وابن البرسقي المنصوب بالموصل صغير لا يقوى على مدافعتهم وحماية البلاد منهم‏.‏ ونحن قد خرجنا عن العهدة وأنهينا الأمر إليكم فرفع الوزير قولهما إلى السلطان فشكرهما واستدعاهما واستشارهما فيمن يصلح للولاية فذكرا جماعة وأدرجا فيهم عماد الدين زنكي وبذلا عنه مالاً جزيلاً لخزانة السلطان فأجابهما إليه لما يعلم من كفايته وولاه البلاد كلها وكتب منشوره بها وشافهه بالولاية‏.‏ وسار إلى ولايته فبدأ بالفوارع وملكها‏.‏ ثم سار إلى الموصل وخرج جاولي والعساكر للقائه‏.‏ ودخل الموصل في رمضان سنة إحدى وعشرين وبعث جاولي والياً على الرحبة وولى على القلعة نصير الدين جقري‏.‏ وولى على حجابته صلاح الدين الباغيسياني‏.‏ وعلى القضاء ببلاده جميعاً بهاء الدين الشهرزوري‏.‏ وزاد في إقطاعه‏.‏ وكان لا يصدر إلا عن رأيه‏.‏ ثم خرج إلى جزيرة ابن عمر وبها موالي البرسقي فامتنعوا عليه وحاصرهم‏.‏ وكان بينه وبين البلد دجلة فعبرها‏.‏ وبين دجلة والبلد فسيح من الأرض فعبر دجلة‏.‏ وقاتلهم في ذلك الفسيح‏.‏ وهزمهم فتحصنوا بالأسوار‏.‏ ثم استأمنوا فدخل البلد وملكه وسار لنصيبين‏.‏ وكانت لحسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي صاحب ماردين فاستنجد عليه ابن عمه ركن الدولة داود بمن سقمان صاحب كيفا فوعده بالنجدة وبعث حسام الدين بذلك إلى أهل نصيبين يأمرهم بالمصابرة عشرين يوماً إلى حين وصوله فسقط في أيديهم لعجزهم عن ذلك‏.‏ واستأمنوا لعماد الدين فأمنهم وملكها وسار عنها لسنجار فامتنعوا عليه أولاً‏.‏ ثم استأمنوا وملكها‏.‏ وبعث منها إلى الخابور فملك جميعه‏.‏ ثم سار إلى حران‏.‏ وكانت الرها وسروج والبيرة في جوارها لإفرنج وكانوا معهم في ضيقة فبادر أهل حران إلى طاعته‏.‏ وأرسل إلى جوسكين وهادنه حتى يتفرغ له فاستقر بينهما الصلح‏.‏ والله

استيلاء الأتابك زنكي على مدينة حلب
كان البرسقي قد ملك حلب وقلعتها سنة ثماني عشرة‏.‏ واستخلف عليها ابنه مسعود‏.‏ ثم قتل الباطنية البرسقي بالموصل فبادر ابنه مسعود إلى الموصل‏.‏ واستحلف حلب الأمير قرمان‏.‏ ثم عزله وبعث بولايتها إلى الأمير قطلغ أبه فمنعه قرمان وقال بيني وبينه علامة لم أرها في التوقيع فرجع إلى مسعود فوجده قد الرحبة فعاد إلى حلب مسرعاً ومال إليه أهل البلد ورئيسها مضال بن ربيع وأدخلوه وملكوه واستنزلوا قرمان من القلعة وأعطوه ألف دينار وبلغوه مأمنه‏.‏ وملك قطلغ القلعة والبلد منتصف إحدى وعشرين‏.‏ ثم ساءت سيرته وفحش ظلمه واشتمل عليه أشرار فاستوحش الناس منه وثاروا به في عيد الفطر من السنة وقبضوا على أصحابه‏.‏ وولوا عليهم بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق الذي كان ملكها من قبل وحاصروا قطلغ بالقلعة‏.‏ ووصل حسان صاحب منبج وحسن صاحب مراغة لإصلاح الأمر فلم يتم‏.‏ وزحف جوسكين صاحب الرها من الإفرنج إلى حلب فصانعوه بالمال ورجع فزحف صاحب إنطاكية وحاصر البلد وهم يحاصرون القلعة إلى منتصف ذي القعدة من آخر السنة‏.‏ وانتهى عماد الدين زنكي إلى صاحب حران كما ذكرناه فبعث إلى أهل حلب ن من أصحابه بتوقيع السلطان له بالموصل والجزيرة والشام فبادروا إلى الطاعة‏.‏ وسار إليه بدر الدولة ابن عبد الجبار وقطلغ أبه‏.‏ وأقام أحد الأميرين بحلب‏.‏ ولما وصلا إلى عماد الدين أصلح بينهما وأقاما عنده‏.‏ وبعث الحاجب صلاح الدين محمد الباغسياني في عسكر إليهما فملك القلعة ورتب الأمور وولى‏.‏ ثم وصل عماد الدين بعده محرم سنة اثنتين وعشرين وملك في طريقه منبج من يد حسان ومراغة من يد حسن‏.‏ وتلقاه أهل حلب فاستولى وأقطع أعمالها للأمراء والأجناد ثم قبض على قطلغ أبه وأسلمه إلى ابن بديع فلحق ومات واستوحش ابن بديع فلحق بقلعة جعبر مستنجداً بصاحبها وأقام عماد الدين في مكانه في رياسة حلب علي بن عبد الرزاق وعاد إلى الموصل والله أعلم‏.‏

استيلاء الأتابك زنكي علي مدينة حماة
ثم سار عماد الدين زنكي لجهاد الإفرنج وعبر الفرات إلى الشام‏.‏ واستنجد تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق فأنجده بعد التوثق باستحلافه‏.‏ وبعث عسكره من دمشق إلى ابنه سونج وأمره بالمسير إلى زنكي فلما وصلوا إليه أكرمهم‏.‏ ثم غدر بهم بعد أيام وقبض على سونج والأمراء الذين معه فاعتقلهم بحلب ونهب خيامهم وبادر إلى حماة وهي خلو من الحامية فملكها وسار عنها إلى حمص وصاحبها قيرجان بن قراجا معه في عساكره وهو الذي أشار بحبس سونج وأصحابه فقبض عليه يظن أن أهل حمص يسلمون بلادهم إليه فامتنعوا وبعث إليهم قيرجان بذلك فلحق إليها فحاصرها مدة وامتنعت عليه فعاد إلى الموصل ومعه سونج بن بوري والله أعلم‏.‏ فتح عماد الدين حصن الأتارب وهزيمة الإفرنج ولما عاد عماد الدين إلى الموصل أراح عساكره أياماً ثم تجهز سنة أربع وعشرين إلى الغزو وعاد إلى الشام وقصد حلب واعتزم على قصد حصن الأتارب وهو على ثلاثة فراسخ من حلب‏.‏ وكان الإفرنج الذين به قد ضيقوا على حلب فسار إليه وحاصره وجاء الإفرنج من إنطاكية لدفاعه‏.‏ واستفرغوا فتبعهم وترك الحصن وسار إليهم واستمات المسلمون فانهزم الإفرنج وأسر كثير من زعمائهم وقتل كثير حتى بقيت عظامهم ماثلة بذلك الموضع أكثر من ستين سنة‏.‏ ثم عاد إلى حصن الأتارب فملكه عنوة وخربه وتقسم جميع من فيه بين القتل والأسر وسار إلى قلعة حارم قرب إنطاكية وهي للإفرنج فحاصرها حتى صالحوه على نصف خراجها فرجع عنها‏.‏ وملئ الإفرنج رعباً منه ومن استبداد المسلمين به وذهب ما كان عندهم من الطمع‏.‏ واقعة عماد الدين مع بني أرتق ولما فرغ عماد الدين من غزو الإفرنج وفتح الأتارب وقلعة حارم عاد إلى الجزيرة وحاصر مدينة سرخس وهي لصاحب ماردين بينها وبين نصيبين فاجتمع حسام الدين صاحب ماردين وركن الدولة صاحب آمد وهما لأبي الغازي صاحب ماردين بن حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي وصاحب كيفا ركن الدولة داود بن سقمان وتمرتاش بن أرتق‏.‏ وجمعوا من التركمان نحواً من عشرين ألفاً‏.‏ وساروا لمدافعة زنكي فهزمهم وملك سرخس وسار ركن الدولة إلى جزيرة ابن عمر لينهبها فاتبعه عماد الدين فرجع إلى بلده فعاد عنه لضيق مسالكه‏.‏ وملك من قلاعه همرد ورجع إلى الموصل إلى آخره‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:23 PM

حصول دبيس بن صدقة في أسر الأتابك زنكي
قد تقدم لنا أن دبيس بن صدقة لما فارق البصرة سار إلى سرخد من قلاع الشام سنة خمس وعشرين باستدعاء الجارية التي خلفها الحسن هنالك ليتزوج بها وأنه مر في الغوطة بحي من أحياء كلب فأسروه وحملوه إلى تاج الملوك صاحب دمشق‏.‏ وبلغ الخبر إلى الأتابك زنكي‏.‏ وكان عدواً له فبعث فيه إلى تاج الملوك بوري‏.‏ وفادى من ابنه سونج والأمراء الذين معه عنده فأطلقهم‏.‏ وبعث بوري إليه بدبيس وهو مستيقن الهلاك فلما وصله أكرمه وأحسن إليه وأزاح علله‏.‏ وبعث المسترشد فيه إلى بوري بن طغركين صاحب دمشق فوجده قد فات بتسلمه إلى زنكي‏.‏ فذم الرسل زنكي فيما فعله فأرصد لهم في طريقهم وسيقوا إليه وهم سديد الدولة بن الأنباري‏.‏ وأبو بكر بن بشر الجزري فحبسهما حتى شفع فيهما المسترشد‏.‏ وبقي دبيس عنده حتى انحدر معه إلى العراق‏.‏

مسير الأتابك زنكي إلى العراق لمظاهرة السلطان مسعود وانهزامه
ولما توفي السلطان محمود سنة خمس وعشرين‏.‏ واختلف ولده داوود وأخوه مسعود‏.‏ وسار داود إلى مسعود وحاصره بتبريز في محرم سنة ست وعشرين‏.‏ ثم صالحه وخرج مسعود من تبريز واجتمعت عليه العساكر وسار إلى همذان وبعث يطلب الخطبة من المسترشد فمنعه وكتب الأتابك عماد الدين زنكي يستنجده‏.‏ وسار إلى بغداد فحاصرها وكان قد سبق إليها أخوه سلجوق شاه صاحب فارس وخوزستان مع أتابك قراجا الشامي في عسكر كثير‏.‏ وأنزله المسترشد بدار السلطان فلما جاء مسعود ونزل عباسة‏.‏ وبرز عسكر المسترشد وعسكر سلجوق شاه وقراجا الشامي لمحاربة مسعود أتاهم خبر بوصول عماد الدين زنكي من ورائهم‏.‏ وأنه وصل إلى المعشوب فرجع قراجا الشامي إلى محاربته وسار سلجوق شاه بالعساكر إلى محاربة أخيه مسعود وأغذ قراجا السير‏.‏ وصبح عماد الدين بعد يوم وليلة على المعشوب وقاتله وهزمه‏.‏ وأسر كثيراً من أصحابه‏.‏ وسار زنكي منهزماً إلى والنائب بها نجم الدين أيوب بن شادي والد السلطان صلاح الدين فتأخر‏.‏ ثم اصطلح مع الخليفة على أن يكون العراق له والسلطنة لمسعود‏.‏ وولاية العهد لسلجوق شاه‏.‏ وذلك منتصف سنة ست وعشرين‏.‏

مسير الأتابك عماد الدين إلى بغداد بابنه وانهزامه
قد قدمنا ما كان بعد وفاة السلطان محمود من الخلاف بين ابنه داود وأخويه مسعود وسلجوق شاه‏.‏ ثم استقرار مسعود في السلطنة وصلحه مع أخيه سلجوق‏.‏ على أن يكون ولي عهده‏.‏ ثم إن السلطان سنجر سار من خراسان يطلب السلطنة لطغرل ابن أخيه السلطان محمود وكان عنده مقيماً فبلغ همذان‏.‏ وخرج السلطان مسعود وسلجوق شاه للقائه وساروا متباطئين ينتظرون لحاق المسترشد بهم وخرج المسترشد إلى فجاءته الأخبار بوصول الأتابك زنكي ودبيس بن صدقة إلى بغداد فذكر دبيس أن السلطان سنجر أقطعه الحلة وبعث يسترضي فلم يشفعه وذكر الأتابك زنكي أن السلطان سنجر ولاه شحنة بغداد‏.‏ واستمر السلطان مسعود وأخوه سلجوق على المسير للقاء سنجر وكانت الهزيمة على مسعود كما مر فعاد المسترشد إلى بغداد‏.‏ ونزل العباسة من الجانب الغربي ولقي الأتابك زنكي ودبيس على حصن البرامكة فهزمهما آخر رجب سنة ست وعشرين ولحق الأتابك بالموصل‏.‏ واقعة الإفرنج على أهل حلب وفي غيبة الأتابك زنكي سار ملك الإفرنج من القدس إلى حلب فخرج نائبها عن الأتابك زنكي وهو الأمير أسوار‏.‏ وجمع التركمان مع عساكره‏.‏ وقاتل الإفرنج عند قنسرين وصابرهم ومحص الله المسلمين وانهزموا إلى حلب وسار ملك الإفرنج في أعمال حلب ظافراً ثم سار بعض الإفرنج من الرها للغارة في أعمال حلب فخرج إليهم الأمير أسوار ومعه حسان التغلبي الذي كان صاحب منبج فأوقعوا بهم واستلحموهم وأسروا من بقي منهم وعادوا ظافرين‏.‏ حصار المسترشد الموصل ولما وقع ما قدمناه من وصول زنكي‏.‏ إلى بغداد وانهزامه أمام المسترشد حقد عليه المسترشد ذلك وأقام يتربص‏.‏ ثم كثر الخلاف بين سلاطين السلجوقية واعتزلهم جماعة من أمرائهم فراراً من الفتنة ولحقوا بالخليفة وأقاموا في ظله فأراد الخليفة المسترشد أن ينتصف بهم من الأتابك زنكي و فقدم إليه بهاء الدين أبا الفتوح الاسفرايني الواعظ وحمله عتاباً أغلظ فيه وزاده الواعظ غلظة حفظاً على ناموس الخلافة في معتقده فامتعض الأتابك لما شابهه به وأهانه وحبسه‏.‏ وأرسل المسترشد إلى السلطان مسعود على قصد الموصل وحاصرها لما وقع من زنكي‏.‏ ثم سار في شعبان سنة سبع وعشرين إلى الموصل في ثلاثين ألف مقاتل‏.‏ فلما قارب الموصل فارقها الأتابك زنكي إلى سنجار وترك نائبه بها نصر الدين جقري وجاء المسترشد فحاصرها والأتابك زنكي قد قطع الميرة عن معسكره فتعذرت الأقوات وضاقت عليهم الأحوال وأرادت جماعة من أهل البلد الوثوب بها‏.‏ وسعى بهم فأخذوا وصلبوا ودام الحصار ثلاثة أشهر وامتنعت عليه فأفرح عنها وعاد إلى بغداد‏.‏ وقيل إن مطراً الخادم جاءه من بغداد وأخبره أن السلطان مسعوداً عازم على قصد العراق فعاد مسرعاً‏.‏

ارتجاع صاحب دمشق مدينة حماة
قد كنا قدمنا أن الأتابك زنكي تغلب على حماة من يد تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق سنة ثلاث وعشرين وأقامت في ملكه أربع سنين‏.‏ وتوفي تاج الملوك بوري في رجب سنة ست وعشرين وولي بعده ابنه شمس الملوك إسماعيل وملك بانياس من الإفرنج في صفر سنة سبع وعشرين ثم بلغه أن المسترشد بالله حاصر الموصل فسار هو إلى حماة وحاصرها وقاتلها يوم الفطر ويومين بعده فملكها عنوة واستأمنوا فأمنهم‏.‏ ثم حصر الوالي ومن معه بالقلعة فاستأمنوا أيضاً واستولى على ما فيها من الذخائر والسلاح وسار منها إلى قلعة شيزر فحاصرها ابن منقذ فحمل إليه مالاً صانعه به وعاد إلى دمشق في ذي الحجة من السنة‏.‏

حصار الأتابك زنكي قلعة آمد واستيلاؤه على قلعة النسور
ثم حصار قلاع الحميدية وفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة اجتمع الأتابك زنكي صاحب الموصل وصاحب ماردين على حصار آمد‏.‏ واستنجد صاحبها بداود بن سقمان صاحب كيفا فجمع العساكر وسار إليهما ليدافعهما عنه وقاتلاه فهزماه وقتل كثير من عسكره‏.‏ وأطالا حصار آمد وقطعا شجرها وكرومها وامتنعت عليهما فرحلا عنها‏.‏ وسار زنكي إلى قلعة النسور من ديار بكر فحاصرها وملكها منتصف رجب من السنة‏.‏ ووفد عليه ضياء الدين أبو سعيد ابن الكفرتوثي فاستوزره الأتابك وكان حسن الطريقة عظيم الرئاسة والكفاية محبباً في الجند وتوفي سنة ست وثلاثين بعدها‏.‏ ثم استولى الأتابك على سائر قلاع الأكراد الحميدية مثل قلعة العقر وقلعة سوس وغيرهما‏.‏ وكان لما ملك الموصل أمر صاحب هذه القلاع الأمير عيسى الحميري على ولايتها‏.‏ فلما حاصر المسترشد الموصل قام في خدمته أحسن القيام وجمع له الأكراد‏.‏ فلما عاد المسترشد إلى بغداد من قتال الأتابك زنكي حاصر قلاعهم وحاصرتها العساكر وقاتلوها قتالاً شديداً حتى ملكوها في هذه السنة ورفع الله شرهم عن أهل السواد المحاربين لهم فقد كانوا منهم في ضيقة من كثرة عيثهم في البلاد وتخريبهم والله تعالى أعلم‏.‏

استيلاء الأتابك على قلاع الهكارية وقلعة كواشي
حدث ابن الأثير عن الجنيبي أن الأتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء بن عبد الله على قلعة أشب والجزيرة وكواشي فاستأمن الأتابك واستحلفه وحمل له مالاً‏.‏ ثم وفد عليه بالموصل بعد أن أخرج ابنه أحمد من أشب خشية أن يغلب عليها وأعطاه قلعة كواشي وولى على أشب رجلاً من الكرد واسمه باد الأرمني‏.‏ وابنه أحمد هذا هو أبو علي بن أحمد المشطوب من أمراء السلطان صلاح الدين‏.‏ ولما مات أبو الهيجاء واسمه موسى وسار أحمد إلى أشب ليملكها فامتنع عليه باد وأراد حفظها لعلي الصغير من بني أبي الهيجاء فسار الأتابك زنكي في عساكره ونزل على أشب وبرز أهلها لقتاله‏.‏ واستجرهم حتى ابعدوا ثم كر عليهم فأفناهم قتلاً وأسراً وملك القلعة في الحال‏.‏ وسيق إليه باد في جماعة من مقدمي الأكراد وقتلهم وعاد إلى الموصل‏.‏ ثم سار غازياً في بعض مذاهبه فبعث نائبه نصر الدين جقري عسكراً وخلى كنجا ورسى في قلعة العمادية وحاصروا قلعة الشغبان وفرح وكواشي والزعفراني والغي وسرف وسفروه وهي حصون الهكارية فحاربها وملكها جميعاً‏.‏ واستقام أمر الجبل والزوزان‏.‏ وأمنت الرعية من الأكراد‏.‏ وأما باقي قلاع الهكارية وهي حلا وصوراً وهزور والملايسي ويامرما ومانرحا وباكرا ونسر فإن قراجا صاحب العمادية فتحها بعد قتل زنكي بمدة طويلة‏.‏ كان أميراً على تلك الحصون الهكارية من قبل زين الدين علي على ما قال ابن الأثير‏.‏ ولم أعلم قال وحدثني بخلاف هذا الحديث بعض فضلاء الأكراد‏.‏ أن أبا بكر زنكي لما فتح قلعة أسب وحرساني وقلعة العمادية ولم يبق في الهكارية إلا صاحب جبل صورا وصاحب هزور ولم يكن لهما شوكة يخشى منهما‏.‏ ثم عاد إلى الموصل وخافه أهل القلاع الجبلية‏.‏ ثم توفي عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الريبة والغي وفرح وملكها بعده ابنه علي وكانت أمه خديجة ابنة الحسن أخت إبراهيم وعيسى وهما من الأمراء مع زنكي بالموصل فأرسلها ابنها علي إلى أخويها المذكورين وهما خالاه ليستأمنا‏.‏ له من الأتابك فاستحلفاه وقدم عليه فأقره على قلاعه واستقل بفتح قلاع الهكارية‏.‏ وكان الشغبان هذا الأمير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر فأخذه منه وخربه لكبره وقلة أعماله‏.‏ وكان نصر الدين جقري يكره علياً صاحب الريبة والغي وفرح فسعى عند الأتابك في حبسه فأمره بحبسة ثم ندم وكتب إليه أن يطلقه فوجده قد مات فاتهم نصر الدين قتله‏.‏ ثم بعث العساكر إلى قلعة الرحبية فنازلوها بغتة وملكوها عنوة وأسروا ولد علي وأخوته ونجت أمه خديجة لمغيبها‏.‏ وجاء البشير إلى الأتابك بفتح الريبة فسره ذلك‏.‏ بعث العساكر إلى ما بقي من قلاع علي فأبى إلا أن يزيدوه قلعة كواشي فمضت خديجة أم علي إلى صاحب كواشي من المهرانية واسمه جرك راهروا وسألته النزول عن كواشي لإطلاق أسراهم ففعل ذلك وتسلم حصار الأتابك زنكي مدينة دمشق كان شمس الملوك إسماعيل بن بوري قد انحل أمره وضعفت دولته واستطال عليه الإفرنج وخشي عاقبه أمرهم فاستدعى الأتابك زنكي سراً ليملكه دمشق ويريح نفسه‏.‏ وشعر بذلك أهل دولته فشكوا إلى أمه فوعدتهم الراحة منه ثم اغتالته فقتلته‏.‏ وجاء الأتابك زنكي فقدم رسله من الفرات فألفوا شمس الملوك قد مات وولي مكانه أخوه محمود واشتمل أهل الدولة عليه ورجعوا الخبر إلى الأتابك فلم يحفل به‏.‏ وسار حتى نزل بظاهر دمشق واشتد أهل الدولة على مدافعته ومقدمهم معين الدين أبربوه أتابك طغركين‏.‏ ثم بعث المسترشد أبا بكر بن بشر الجزري إلى الأتابك زنكي فأمره بصلح صاحب دمشق فصالحه ورحل عنه منتصف السنة والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:24 PM

فتنة الراشد مع السلطان مسعود ومسيره إلى الموصل وخلعه
كان كثير من أمراء السلجوقية قد اجتمعوا على الانتقاض على السلطان مسعود والخروج عليه‏.‏ ولحق داود ابن السلطان محمود من أذربيجان ببغداد في صفر سنة اثنين وثلاثين فأنزل بدار السلطنة وراسله أولئك الأمراء‏.‏ وقدم عليه بعضهم مثل صاحب قزوين وصاحب أصفهان وصاحب الأهواز وصاحب الأبلة وصاحب الموصل الأتابك زنكي‏.‏ وخرجت إليهم العساكر من بغداد وولي داود شحنية بغداد وخرج موكب الخليفة مع الوزير جلال الدين الرضي وكان الخليفة قد تغير عليه وعلى قاضي القضاة الزينبي فسمع بهم الأتابك‏.‏ ثم وقعت العزيمة من الراشد والسلطان داود الأتابك زنكي وحلف كل منهم لصاحبه وبعث الراشد إلى الأتابك بمائتي ألف دينار‏.‏ ووصل سلجوق شاه إلى واسط وقبض على الأمير بك أبه ونهب ماله فانحدر الأتابك زنكي لمدافعته فاصطلحا وعاد زنكي إلى بغداد ومر على جميع العساكر لقتال السلطان مسعود‏.‏ وخرج على طريق خراسان وبلغهم أن السلطان مسعوداً سار إلى بغداد فعاد إليها ثم عاد الملك داود وجاء السلطان مسعود فنزل على بغداد وحاصرهم نيفاً وخمسين يوماً وارتحل إلى النهروان‏.‏ ثم قدم عليه طرتطاي صاحب واسط بالسفن فرجع إلى بغداد وعبر إلى الجانب الغربي‏.‏ ثم اختلف العسكر ببغداد ورجع الملك داود إلى ولايته بأذربيجان‏.‏ وافترق الأمراء الذين معه ولحق الراشد بالأتابك زنكي في نفر من أصحابه وهو بالجانب الغربي‏.‏ وسار معه إلى الموصل ودخل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين واستقر بها سكن الناس‏.‏ وجمع القضاة وأنفقها وعرض عليهم يمين الراشد بخطه بأنه متى جمع أو خرج لحرب السلطان فقد خلع نفسه فأفتوا بخلعه‏.‏ ثم وقعت الشهادات من أهل الدولة وغيرهم إلى الراشد بموجبات العزل وكتبت وأفتى الفقهاء عقبها باستحقاق العزل وحكم به القاضي المعين حينئذ لغيبة قاضي القضاة بالموصل مع الراشد ونصب للخلافة ابن المستظهر‏.‏ وجاء رسول الأتابك زنكي إلى بغداد وهو القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري وبايع بعد أن ثبت عنده الخلع وانصرف إلى الأتابك بإقطاع من خاص الخليفة ولم يكن ذلك لأحد قبله‏.‏ وعاد كمال الدين إلى الأتابك وحمل كتب الخلع فحكم بها قاضي القضاة بالموصل‏.‏ وانصرف الراشد عن الموصل إلى أذربيجان كما مر في أخبار الخلفاء والسلجوقية والله تعالى ولي التوفيق‏.‏ غزاة عساكر حلب إلى الإفرنج ثم اجتمعت عساكر حلب مع الأمير أسوار نائب الأتابك زنكي بحلب في شعبان سنة ثلاثين وساروا غازين إلى بلاد الإفرنج وقصدوا اللاذقية على غرة فنالوا منها وانساحوا في بسائطها واكتسحوها وامتلأت أيديهم من الغنائم وخربوا بلاد اللاذقية وما جاورها وخرجوا على شيزر وملؤوا الشام بالأتراك والظهر ووهن الإفرنج لذلك‏.‏ والله سبحانه وتعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده‏.‏ حصار الأتابك زنكي مدينة حمص واستيلاؤه على بغدوين وهزيمة الإفرنج واستيلاؤه حمص ثم سار الأتابك في العساكر في شعبان سنة إحدى وثلاثين إلى مدينة حمص وبها معين الدين بن القائم بدولة صاحب دمشق وحمص من أقطاعه فقدم إليه صاحبه صلاح الدين الباغيسياني في تسليمها فاعتذر بأن ذلك ليس من الإصابة فحاصرها والرسل تردد بينهما وامتنعت عليه فرحل عنها إلى بغدوين من حصون الإفرنج في شوال من السنة فجمع الإفرنج وأوعبوا وزحفوا إليه واشتد القتال بينهم‏.‏ ثم هزم الله العدو ونجا المسلمين منهم ودخل ملوكهم إلى حصن بغدوين فامتنعوا به وشد الأتابك حصاره‏.‏ وذهب القسوس والرهبان إلى بلاد النصرانية من الروم والإفرنج يستنجدونهم على المسلمين ويخوفونهم استيلاء الأتابك على قلعة بغدوين وما يخشى بعد ذلك من ارتجاعهم بيت المقدس‏.‏ وجد الأتابك بعد ذلك في حصارها والتضييق عليها حتى جهدهم الحصار ومنع الأخبار‏.‏ ثم استأمنوا على أن يحملوا إليه خمسين ألف دينار فأجابهم وملك القلعة‏.‏ ثم سمعوا بمسير الروم والإفرنج لانجادهم وكان الأتابك خلال الحصار قد فتح المعرة وكفر طاب في الولايات التي بين حلب وحماة ووهن الإفرنج‏.‏ ثم سار الأتابك زنكي في محرم سنة اثنين وثلاثين إلى بعلبك وملك حصن المعدل من أعمال صاحب دمشق‏.‏ وبعث إليه نائب بانياس بالطاعة كذلك‏.‏ ثم كانت حادثة ملك الروم ومنازلته حلب كما نذكره‏.‏ فسار إلى سلمية ولما انجلت حادثة الروم رجع إلى حصار حمص وبعث إلى محمود صاحب دمشق في خطبة أمه مردخان بنت جاولي التي قتلت ابنها فتزوجها وملك حمص وقلعتها‏.‏ وحملت الخاتون إليه في رمضان وظن أنه يملك دمشق بزواجها فلم يحصل على شيء من ذلك‏.‏ والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده‏.‏

مسير الروم إلى الشام وملكهم مراغة
ولما استنجد الإفرنج ببغدوين ملك أمم النصرانية كما مر جمع ملك الروم بالقسطنطينية وركب البحر سنة إحدى وثلاثين ولحقته أساطيله وسار إلى مدينة قيليقية فحاصرها وصالحوه بالمال وسار عنها إلى أدنة والمصيصة وهما لابن ليون الأرمني صاحب قلاع الدروب فحاصرهما وملكهما‏.‏ وسار إلى عين زربة فملكها عنوة وملك تل حمدون ونقل أهله إلى جزيرة قبرص‏.‏ ثم ملك مدينة إنطاكية في ذي القعدة من السنة وبها ريمند من ملوك الإفرنج فصالحه ورجع إلى بغراس ودخل منها بلاد ابن ليون فصالحه بالأموال ودخل في طاعته‏.‏ ثم خرج إلى الشام أول سنة اثنتين وثلاثين وحاصر مراغة على ستة فراسخ من حلب وبعثوا بالصريخ إلى الأتابك زنكي فبعث بالعساكر إلى حلب لحمايتها وقاتل ملك الروم مراغة فملكها بالأمان منتصف السنة‏.‏ ثم غدر بهم واستباحهم ورحل إلى حلب فنزل بدابق ومعه الإفرنج ورجعوا من الغد إلى حلب وحاصروها ثلاثاً فامتنعت عليهم وقتل عليها بطريق كبير منهم‏.‏ ورحل عنها إلى قلعة الأثارب في شعبان من السنة فهرب عنها أهلها ووضع الروم بها الأسرى والسبي وأنزلوا بها حامية‏.‏ وبعث إليهم أسوار نائب حلب عسكراً فقتلوا الحامية وخلصوا الأسرى والسبي ورحل الأتابك من حصن الأثارب بعد فتحه إلى سلمية وقطع الفرات إلى الرقة‏.‏ واتبع الروم فقطع عنهم الميرة وقصد الروم قلعة شيزر وبها سلطان بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني فحاصروها ونصبوا المجانيق عليها‏.‏ واستصرخ صاحبها بالأتابك زنكي فسار إليه ونزل نهر العاصي بين شيزر وحماة‏.‏ وبعث السرايا تختطف من حول معسكر الروم‏.‏ وبعث إلى الروم يدعوهم إلى المناجزة والنزول إلى البسيط فخاموا عن ذلك فرجع إلى التضريب بين الروم والإفرنج يحذر أحد الفريقين من الآخر حتى استراب كل بصاحبه فرحل ملك الروم في رمضان من السنة بعد حصار شيزر أربعين يوماً واتبعه الأتابك فلحقهم واستلحمهم واستباحهم‏.‏ ثم أرسل القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري إلى السلطان مسعود يستنجده على العدو ويحذره الروم واستيلاءهم على حلب وينحدرون من الفرات إلى بغداد فوضع القاضي كمال الدين في جامع القصر من ينادي بصريخ المسلمين والخطيب على المنبر وكذا في جامع السلطان فعظم الصراخ والبكاء وتسايلت العوام من كل جانب وجاؤوا إلى دار السلطان في تلك الحالة وقد وقع العويل والصراخ فعظم الهول على السلطان مسعود وجهز عسكراً عظيماً‏.‏ وخاف القاضي كمال الدين غائلته ثم وصل الخبر برحيل ملك الروم فأخبر القاضي السلطان مسعود بذلك ومن مسير العسكر والله تعالى أعلم‏.‏

استيلاء الأتابك زنكي على بعلبك
ثم قتل محمود صاحب دمشق سنة ثلاث وثلاثين في شوال كما مر في أخبار دولتهم وكانت أمه زمردخان متزوجة بالأتابك كما مر فبعثت إليه وهو بالجزيرة تعرفه بالخبر وتطلب منه أن يسير إلى دمشق ويثأر بولدها من أهل دولته فسار لذلك‏.‏ واستعد أهل دمشق للحصار ثم قصد الأتابك مدينة بعلبك ونزلها وكان ابن القائم بالدولة قد نصب كمال الدين محمد بن بوري بدمشق وتزوج أمه وبعث بجاريته إلى بعلبك‏.‏ فلما سار الأتابك إلى دمشق قدم رسله إلى أنز في تسليم البلد على أن يبذل له ما يريد فأبى من ذلك وسار الأتابك إلى بعلبك فنازلها آخر ذي الحجة من السنة ونصب عليها المجانيق‏.‏ وشدد حصارها حتى استأمنوا فملكها‏.‏ واعتصم الحامية بالقلعة حتى يئسوا من أنز فاستأمنوا إلى الأتابك‏.‏ فلما ملكها قبض عليهم وصلبهم وتزوج جارية أنز ونقلها إلى حلب إلى أن بعثها ابنه نور الدين محمود إلى صاحبها بعد موت الأتابك والله تعالى حصار الأتابك زنكي مدينة دمشق ثم سار الأتابك زنكي إلى حصار دمشق في ربيع الأول من سنة أربع وثلاثين بعد الفراغ من بعلبك فنزل بالبقاع وأرسل إلى جمال الدين محمد صاحبها في أن يسلمها إليه ويعوضه عنها بما شاء فلم يجب إلى ذلك فزحف إليه ونزل داريا والتقت الطلائع فكان الظفر لأصحاب الأتابك‏.‏ ثم تقدم إلى المصلى فنزل بها وقاتله أهل دمشق بالغوطة فظفر بهم وأثخن فيهم‏.‏ ثم أمسك عن القتال عشراً يراود فيها صاحب دمشق‏.‏ وبذل له بعلبك وحمص وما يختاره في البلاد‏.‏ فجنح إلى ذلك ولم يوافقه أصحابه فعادت الحرب‏.‏ ثم توفي صاحب دمشق جمال الدين محمد في شعبان من السنة ونصب معين الدين أنز مكانه ابنه محيي الدين أنز وقام بأمره‏.‏ وطمع زنكي في ملك البلد فامتنعت عليه‏.‏ وبعث معز الدين أنز إلى الإفرنج يستدعيهم إلى النصر على الأتابك ويبذل لهم ويخوفهم غائلته ويشترط لهم إعانتهم على بانياس حتى يملكوها فأجاب الإفرنج لذلك وأجفل زنكي إلى حوران خامس رمضان من السنة معتزماً على لقائهم فلم يصلوا فعاد إلى حصار دمشق وأحرق قراها وارتحل إلى بلاده‏.‏ ثم وصل الإفرنج وارتحل معين الدين أنز في عساكر دمشق إلى بانياس وهي الأتابك زنكي ليوفي للإفرنج بشرطه لهم فيها‏.‏ وقد كان نائبها سار للإغارة على مدينة صور ولقيه في طريقه صاحب إنطاكية ذاهباً إلى دمشق منجداً فهزم عسكر بانياس وقتلوا ولحق قلهم بالبلد وقد وهنوا وحاصرهم معين الدين أنز والإفرنج وملكها عنوة وسلمها للإفرنج وأحفظه ذلك‏.‏ وفرق العسكر في حوران وأعمال دمشق وسار هو فصاحب دمشق ولم يعلموا بمكانه فبرزوا إليه وقاتلوه وقتل منهم جماعة‏.‏ ثم أحجم عنهم لقلة من معه وارتحل إلى مرج راهط قي انتظار عسكره فلما‏.‏ توافوا عنده عاد إلى بلاده‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:25 PM

استيلاء الأتابك على شهرزور وأعمالها
كان شهرزور بيد قفجاق بن أرسلان شاه أمير التركمان وصالحهم وكانت الملوك تتجافى عن أعماله لامتناعها ومضايقها فعظم شأنه واشتمل عليه التركمان وسار إليه الأتابك زنكي سنة أربع وثلاثين فجمع ولقيه فظفر به الأتابك واستباح معسكره وسار في اتباعه فحاصر قلاعه وحصونه وملك جميعها‏.‏ واستأمن إليه قفجاق فأمنه وسار في خدمته وخدمة بنيه بعده إلى آخر المائة‏.‏ ثم كان في سنة خمس وثلاثين بين الأتابك زنكي وبين داود بن سقمان صاحب كيفا فتنة وحروب‏.‏ وانهزم داود وملك الأتابك من بلاده قلعة همرد وأدركه فعاد إلى الموصل ثم سار الأتابك إلى مدينة الحرمية فملكها سنة ست وثلاثين ونقل آل مهارش الذين كانوا بها إلى الموصل ورتب أصحابه مكانهم‏.‏ ثم خطب له صاحب آمد وصار في طاعته بعد أن كان مع داود عليه‏.‏ ثم بعث الأتابك لسنة سبع وثلاثين عسكراً إلى قلعة أشهب وهي من أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها‏.‏ وفيها أهلوهم وذخائرهم فحاصرها وملكها وأمره الأتابك بتخريبها وبنى قلعة العمادية عوضاً عنها وكانت خربت قبل ذلك لاتساعها وعجزهم عن حمايتها فأعيدت الآن‏.‏ وكان نصير الدين نائب الموصل قد فتح أكثر القلاع الحربية والله تعالى أعلم‏.‏ صلح الأتابك مع السلطان مسعود واستيلاؤه على أكثر ديار بكر كان السلطان مسعود ملك السلجوقية قد حقد على الأتابك زنكي شأن الخارجين على طاعته من أهل الأطراف وينسب ذلك إليه وكان يفعل ذلك مشغلة للسلطان عنه‏.‏ فلما فرغ السلطان مسعود من شواغله سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة سار إلى بغداد عازماً على قصد الأتابك وحصار الموصل فأرسل الأتابك يستعطفه ويستميله على أن يدفع إليه ألف دينار ويعود عنه فشرع في ذلك وحمل منها عشرين ألفاً‏.‏ ثم حدثت الفتنة على السلطان فاحتاج إلى مداراته وترك له الباقي وبالغ هو في مخالصة السلطان بحيث إن غازي كان عند السلطان فهرب إلى الموصل فبعث إلى نائبه نصير الدين جقري يمنعه من دخولها وبعث إلى ابنه بالرجوع إلى خدمة السلطان‏.‏ وكتب إلى السلطان بأن ابني هرب للخوف من تغير السلطان عليه وقد أعدته إلى الخدمة ولم ألقه وأنا مملوكك والبلاد لك فوقع ذلك من السلطان أحسن المواقع‏.‏ ثم سار الأتابك إلى ديار بكر ففتح طره واسعرد وحران وحصن الرزق وحصن تطليت وحصن ياسنه وحصن ذي القرنين وغير هذه وملك أيضاً من بلاد ماردين الإفرنج حملين والمودن وتل موزر وغيرها من بلاد حصون سجستان وأنزل بها الحامية وقصد آمد فحاصرها وسير عسكراً إلى مدينة عانة من أعمال الفرات فملكها والله تعالى أعلم‏.‏

فتح الرها وغيرها من أعمال الإفرنج
كان الإفرنج بالرها وسروج والبيرة قد أضروا بالمسلمين جوارهم مثل آمد ونصيبين ورأس العين والرقة وكان زعيمهم ومقدمهم بتلك البلاد جوسكين الزعيم ورأى الأتابك أنه يوري عن قصدهم بغيره لئلا يجمعوا له فوري بغزو ديار بكر كما قلناه وجوسكين وعبر الفرات من الرها إلى غزنة‏.‏ وجاء الخبر بذلك إلى الأتابك فارتحل منتصف جمادى الأخيرة سنة تسع وثلاثين وحرض المسلمين وحثهم على عدوهم ووصل إلى الرها وجوسكين غائب عنها فانحجز الإفرنج بالبلد وحاصرهم شهراً وشد في حصارهم وقتالهم ولج في ذلك قبل اجتماع الإفرنج ومسيرهم إليه‏.‏ ثم ضعف سورها فسقطت ثلمة منه وملك البلد عنوة‏.‏ ثم حاصر القلعة وملكها كذلك‏.‏ ثم رد على أهل البلد ما أخذ منهم وأنزل فيه حامية‏.‏ وسار إلى سروج وجميع البلاد التي بيد الإفرنج شرقياً فملكها جميعاً إلا البيرة لامتناعها فأقام يحاصرها حتى امتنعت ورحل عنها والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

مقتل نصير الدين جقري نائب الموصل وولاية زين الدين علي كجك مكانه بالقلعة
كان استقر عند الأتابك زنكي بالموصل الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمد ويلقب الخفاجي وكان شبيهاً به وتوهم السلطان أن البلاد له وأنه نائبه وينتظر وفاة السلطان مسعود فيخطب له ويملك البلد باسمه‏.‏ وكان يتردد له ويسعى في خدمته فداخله بعض المفسدين في غيبة الأتابك وزين له قتل نصير الدين النائب والاستيلاء على الموصل‏.‏ فلما دخل إليه أغرى به أجناد الأتابك ومواليه فوثبوا به وقتلوه في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين‏.‏ ثم ألقوا برأسه إلى أصحابه يحسبون أنهم يفترقون فاعصوا صبوا واقتحموا عليه الدار‏.‏ ودخل عليه القاضي تاج الدين يحيى ابن الشهرزوري فأوهمه بطاعته وأشار عليه بالصعود إلى القلعة ليستولي على المال والسلاح فركب وصعد معه وتقدم إلى حافظ القلعة وأشار عليه بأن يمكنه من الدخول‏.‏ ثم يقبض عليه فدخل ودخل معه الذين قتلوا نصير الدين فحبسهم والي القلعة وعاد القاضي إلى البلد‏.‏ وطار الخبر إلى الأتابك زنكي بحصار البيرة فخشي اختلاف البلد وعاد إلى الموصل وقدم زين الدين علي بن كجك وولاه القلعة مكان نصير الدين وأقام ينتظر الخبر‏.‏ وخاف الإفرنج الذين بالبيرة من عودته إليهم فبعثوا إلى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها له فملكها المسلمون‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:29 PM

حصار زنكي حصن جعبر وفنك
ثم سار الأتابك زنكي سنة إحدى وأربعين في المحرم إلى حصن جعبر ويسمى دوس وهو مطل على الفرات وكان لسالم بن مالك العقيلي أقطعه السلطان ملك شاه لأبيه حين أخذ منه حلب وبعث جيشاً إلى قلعة فنك على فرسخين من جزيرة ابن عمر فحاصروها وصاحبها يومئذ حسام الدين الكردي فحاصر قلعة جعبر حتى توسط الحال بينهما حسان المنبجي ورغبه ورهبه‏.‏ وقال في كلامه من يمنعك منه فقال الذي منعك أنت من مالك بن بهرام وقد حاصر حسان منبج فأصاحبه في بعض الأيام سهم فقتله وأفرج عن حسان وقدر قتل الأتابك كذلك والله تعالى أعلم‏.‏

مقتل الأتابك عماد الدين زنكي
كان الأتابك عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب الموصل‏.‏ والشام محاصراً لقلعة جعبر كما ذكرنا واجتمع جماعة من مواليه واغتالوه ليلاً وقتلوه على فراشه ولحقوا بجعبر وأخبروا أهلها فنادوا من السور بقتله‏.‏ فدخل أصحابه إليه وألفوه يجود بنفسه‏.‏ وكان لخمس من ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين عن ستين سنة من عمره ودفن بالرقة وكان يوم قتل أبوه ابن سبع سنين‏.‏ ولما قتل دفن بالرقة وكان حسن السياسة كثير العدل مهيباً عند جنده‏.‏ عمر البلاد وأمنها وأنصف المظلوم من الظالم‏.‏ وكان شجاعاً شديد الغيرة كثير الجهاد‏.‏ ولما قتل رحل العسكر عن قلعة فنك وصاحبها غفار‏.‏ قال ابن الأثير سمعتهم يزعمون أن لهم فيها نحو ثلاثمائة سنة وفيهم رفادة وعصبية ويجيرون كل من يلجأ إليهم والله أعلم‏.‏

استيلاء ابنه غازي على الموصل وابنه الآخر محمود على حلب
ولما قتل الأتابك زنكي نزع ابنه نور الدين محمود خاتمه من يده وسار به إلى حلب فاستولى عليها‏.‏ وخرج الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمود واجتمعت عليه العساكر وطمع في الاستقلال بملك الموصل‏.‏ وحضر ابنه جمال الدين محمد بن علي بن متولي الديوان وصلاح الدين بن محمد الباغيسياني الحاجب وقد اتفقا فيما بينهما على حفظ الدولة لأصحابهما وحسناً لألب أرسلان ما هو فيه من الاشتغال بلذاته وأدخلاه الرقة فانغمس بها‏.‏ وهما يأخذان العهود على الأمراء لسيف الدين غازي ويبعثانهم إلى الموصل‏.‏ وكان سيف الدين غازي في مدينة شهرزور وهي أقطاعه وبعث إليه زين الدين علي كوجك نائب القلعة بالموصل يستدعيه ليحضر عنده‏.‏ وسار ألب أرسلان إلى سنجار والحاجب وصاحبه معه ودسوا إلى نائبها بأن يعتذر للملك ألب أرسلان بتأخره حتى يملك الموصل فساروا إلى الموصل ومروا بمدينة سنجار وقد وقف العسكر فأشاروا على ألب أرسلان بعبور دجلة إلى الشرق وبعثوا إلى سيف الدين غازي بخبره وقلة عسكره فأرسل إليه عسكراً فقبضوه وجاؤوا به فحبسه بقلعة الموصل‏.‏ واستولى سيف بن غازي على الموصل والجزيرة وأخوه نور الدين محمود على حلب ولحق به صلاح الدين الباغيسياني فقام بدولته والله سبحانه وتعالى يومئذ بنصره من يشاء من عباده‏.‏ عصيان الرها ولما قتل الأتابك زنكي ملك الرها جوسكين كان جوسكين مقيماً في ولايته بتل باشر وما جاورها فراسل أهل الرها وعامتهم من الأرمن وحملهم على العصيان على المسلمين وتسليم البلد له فأجابوه وواعدوه ليوم عينوه فسار في عساكره وهلك البلد وامتنعت القلعة‏.‏ وبلغ الخبر إلى نور الدين محمود وهو بحلب فأغذ السير إليها وأجفل جوسكين إلى بلده‏.‏ ونهب نور الدين المدينة وسبى أهلها وارتحلوا عنها وبعث سيف الدين غازي العساكر إليها فبلغهم في طريقهم ما فعله نور الدين فعادوا وذلك سنة إحدى وأربعين‏.‏ ثم قصد صاحب دمشق بعد قتل الأتابك حصن بعلبك وبه نجم الدين أيوب بن شادي نائب الأتابك فأبطأ عليه انجاد بنيه فصاحب دمشق وسلم له بعلبك على إقطاع ومال أعطاه إياه وعشر قرى من بلاد دمشق وانتقل معه إلى دمشق فسكنها وأقام بها ثم سار نور الدين محمود سنة اثنتين وأربعين من حلب إلى الإفرنج ففتح مدينة أرتاج عنوة وحاصر حصوناً أخرى‏.‏ وكان الإفرنج بعد قتل الأتابك يظنون أنهم يستردون ما أخذه منهم فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون ولما قتل الأتابك زنكي طمع صاحب ماردين وصاحب كيفا أن يستردوا ما أخذ من بلادهم فلما تمكن سيف الدين غازي سار إلى أعمال ديار بكر فملك داراً وغيرها وتقدم إلى ماردين وحاصرها وعاث في نواحيها حتى ترحم صاحبها حسام الدين تمرتاش على الأتابك مع عداوته‏.‏ ثم أرسل إلى سيف الدين غازي وصالحه وزوجه بنته فعاد إلى الموصل وزفت إليه وهو مريض فهلك قبل زفافها وتزوجها أخوه قطب الدين من بعده والله أعلم‏.‏

مصاهرة سيف الدين غازي لصاحب دمشق وهزيمة نور الدين محمود للإفرنج
كان تقدم لنا في دولة بني طغركين موالي دقاق بن تتش أن ملك اللمان من الإفرنج سار سنة ثلاث وأربعين وحاصر دمشق بجموع الإفرنج وبها مجير الدين أرتق بن بوري بن محمد بن طغركين في كفالة معين الدين أنزمولي‏.‏ فبعث معين الدين إلى سيف الدين غازي بن أتابك زنكي بالموصل يدعوه إلى نصرة المسلمين فجمع عساكره وسار إلى الشام واستدعى أخاه نور الدين من حلب ونزلوا على حمص فأخذوا بحجز الإفرنج عن الحصار وقوي المسلمون بدمشق عليهم‏.‏ وبعث معين الدين إلى طائفتي الإفرنج من سكان الشام واللمان الواردين فلم يزل يضرب بينهم‏.‏ وجعل لإفرنج الشام حصن بانياس طعمة على أن يرحلوا بملك اللمانيين فقتلوا له في الذروة والغارب حتى رحل عن دمشق ورجع إلى بلاده وراء قسطنطينية بالشمال‏.‏ وحسن أمر سيف الدين غازي وأخيه في الدفاع عن المسلمين وكان مع ملك اللمان حين خرج إلى الشام ابن ادفونش ملك الجلالقة بالأندلس وكان جده هو الذي ملك طرابلس الشام من المسلمين حين خروج الإفرنج إلى الشام فلما جاء الآن مع ملك لممان ملك حصن العريمة وأخذ في منازلة طرابلس ليملكها من القمص فأرسل القمص إلى نور الدين محمود ومعين الدين أنزوهما مجتمعان ببعلبك بعد رحيل ملك اللمانيين عن دمشق وأغراهما بابن ادفونش ملك الجلالقة واستخلاص حصن العريمة من يده فسارا لذلك سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة‏.‏ وبعث إلى سيف الدين وهو بحمص فأمدهما بعسكر من الأمير عز الدين أبي بكر الدبيسي صاحب جزيرة ابن عمر وحاصروا حصن العريمة أياماً ثم نقضوا سوره وملكوه على الإفرنج وأسروا من كان به من الإفرنج ومعهم ابن ادفونش وعاد إلى سيف الدين عسكره‏.‏ ثم بلغ نور الدين أن الإفرنج تجمعوا في بيقو من أرض الشام للإغارة على أعمال حلب فسار إليهم وقتلهم وهزمهم وأثخن فيهم قتلاً وأسراً وبعث من غنائمهم وأسراهم إلى أخيه سيف الدين غازي وإلى المقتفي الخليفة انتهى‏.‏ والله بحانه وتعالى أعلم‏.‏

وفاة سيف الدين غازي وملك أخيه قطب الدين مودود
ثم توفي سيف الدين غازي بن الأتابك زنكي صاحب الموصل منتصف أربع وأربعين وخمسمائة لثلاث سنين وشهرين من ولايته وخلف ولداً صغيراً ربي عند عمه نور الدين محمود‏.‏ وهلك صغيراً فانقرض عقبه‏.‏ وكان كريماً شجاعاً متسع المائدة يطعم بكرة وعشية مائة رأس من الغنم في كل نوبة وهو أول من حمل الصنجق على رأسه وأمر بتعليق السيوف بالمناطق وترك التوشح بها وحمل الدبوس في حلقة السرج‏.‏ وبنى المدارس للفقهاء والربط للفقراء‏.‏ ولما أنشده حيص بيص الشاعر يمدحه إلام يراك المجد في زي شاعر وقد نحلت شوقاً إليك المنابر فوصله بألف مثقال سوى الخلع وغيرها‏.‏ ولما توفي سيف الدين غازي انتقض الوزير جمال الدين وأمير الجيوش زين الدين علي وجاؤوا بقطب الدين مودود بادروا إلى تمليكه واستخلفوه وحلفوا له‏.‏ وركب إلى دار السلطنة وزين الدين في ركابه فبايعوا له وأطاعه جميع من في أعمال أخيه بالموصل والجزيرة‏.‏ وتزوج الخاتون بنت حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين التي هلك أخوه قبل زفافها فكان ولده كلهم منها والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

استيلاء السلطان محمود على سنجار
ولما ملك قطب الدين مودود الموصل وكان أخوه نور الدين محمود بالشام وكان أكبر منه وله حلب وحماة كاتبه جماعة من الأمراء بعد أخيه غازي‏.‏ وفيمن كاتبه نائب سنجار المقدم عبد الملك فبادر إليه في سبعين فارساً من أمرائه وسبق أصحابه في يوم مطير إلى مساكن‏.‏ ودخل البلد ولم يعرفوا منه إلا أنه أمير من جند التركمان‏.‏ ثم دخل على الشحنة بيته فقبل يده وأطاعه ولحق به أصحابه وساروا جميعاً إلى سنجار وأغذ السير فقطع عنه أصحابه ووصل إلى سنجار في فارسين ونزل بظاهر البلد‏.‏ وبعث إلى المقدم فوصله وكان قد سار إلى الموصل‏.‏ وترك ابنه شمس الدين محمداً بالقلعة فبعث في أثر أبيه وعاد من طريقه وسلم سنجار إلى نور الدين محمود فملكها‏.‏ واستدعى فخر الدين قرى أرسلان صاحب كيفا لمودة بينهما فوصل في عساكره وبلغ الخبر إلى قطب الدين صاحب الموصل ووزيره جمال الدين وأمير جيشه زين الدين فساروا إلى سنجار للقاء نور الدين محمود وانتهوا إلى تل أعفر ثم خاموا عن لقائه‏.‏ وأشار الوزير جمال الدين بمصالحته وسار إليه بنفسه فعقد معه الصلح وأعاد سنجر على أخيه قطب الدين‏.‏ وسلم له أخوه مدينة حمص والرحبة والشام فانفرد بملك الشام وانفرد أخوه قطب الدين بالجزيرة واتفقا‏.‏ وعاد نور الدين إلى حلب وحمل ما كان لأبيهم الأتابك زنكي من الذخيرة لسنجار وكان لا يعبر عنها والله تعالى أعلم‏.‏ غزو نور الدين إلى إنطاكية وقتل صاحبها وفتح أفاميا ثم غزا نور الدين سنة أربع وأربعين إلى إنطاكية فعاث فيها وخرب كثيراً من حصونها وبينما هو يحاصر بعض الحصون اجتمع الإفرنج وزحفوا إليه فلقيهم وحاربهم وأبلى في ذلك الموقف فهزم الإفرنج وقتل البرنس صاحب إنطاكية وكان من عتاة الإفرنج‏.‏ وملك بعده ابنه سمند طفلاً وتزوجت أمه برنس آخر يكفل ولدها ويدبر ملكها فغزاه نور الدين ولقوه فهزمهم وأسر ذلك البرنس الثاني‏.‏ وتمكن الطفل سمند من ملكه بإنطاكية‏.‏ ثم سار نور الدين سنة خمس وأربعين إلى حصن أفاميا بين شيزر وحماة وهو من أحسن القلاع فحاصره وملكه وشحنه حامية وسلاحاً وأقواتاً‏.‏ ولم يفرغ من أمره إلا والإفرنج الذين بالشام جمعوا وزحفوا إليه‏.‏ وبلغهم الخبر فخاموا عن اللقاء وصالحوه في المهادنة فعقد لهم انتهى‏.‏ ثم جمح نور الدين بعد ذلك وسار غازياً إلى بلاد زعيم الإفرنج وهي تل باشر وعنتاب وعذار وغيرها من حصون شمالي حلب فجمع جوسكين لمدافعته عنها ولقيه فاقتتلوا ومحص الله المسلمين واستشهد كثير منهم وأسر آخرون وفيهم صاحب صلاح نور الدين فبعثه جوسكين إلى الملك مسعود بن قليج أرسلان يعيره به لمكان صهره نور الدين على ابنته فعظم ذلك عليه وأعمل الحيلة في جوسكين‏.‏ وبذل المال لإحياء التركمان البادين بضواحيه أن يحتالوا في القبض عليه ففعلوا وظفر به بعضهم فشاركهم في إطلاقه على مال وبعث من يأتي به‏.‏ وشعر بذلك والي حلب أبو بكر بن الرامة فبعث عسكراً ليسوا من ذلك الحي جاؤوا بجوسكين أسيراً إلى حلب وسار نور الدين إلى القلاع فملكها وهي تل باشر وعنتاب وعذار وتل خالد وقورص وداوندار ومرج الرصاص وحصن النادة وكفرشود وكفرلات ودلوكا ومرعش ونهر الجود وشحنها بالأقوات‏.‏ وزحف إليه الإفرنج ليدافعوه فلقيهم على حصن جلدك‏.‏ وانهزم الإفرنج و أثخن المسلمون فيهم بالقتل والأسر ورجع نور الدين إلى دلوكا ففتحها وتأخر فتح تل باشر منها إلى أن ملك نور الدين دمشق واستأمنوا إليه وبعث إليهم حسان المنبجي فتسلمها منهم وحصنها وذلك في سنة تسع وأربعين وخمسمائة والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:29 PM

استيلاء نور الدين على دمشق
كان الإفرنج سنة ثمان وأربعين قد ملكوا عسقلان من يد العلوية خلفاء مصر واعترضت دمشق بين نور الدين وبينهما فلم يجد سبيلاً إلى المدافعة عنها واستطال الإفرنج على دمشق بعد ملكهم عسقلان ووضعوا عليها الجزية واشترطوا عليهم تخيير الأسرى الذين بأيديهم في الرجوع إلى وطنهم وكان بها يومئذ مجير الدين أنز بن محمد بن بوري بن طغركين الأتابك واهن القوى مستضعف القوة‏.‏ فخشي نور الدين عليها من الإفرنج وربما ضايق مجير الدين بعض الملوك من جيرانه فيفزع إلى الإفرنج فيغلبون عليه‏.‏ وأمعن النظر في ذلك وبدأ أمره بمواصلة مجير الدين وملاطفته حتى استحكمت المودة بينهما حتى صار يداخله في أهل دولته ويرميهم عنده أنهم كاتبوه فيوقع الآخر بهم حتى هدم أركان دولته ولم يبق من أمرائه إلا الخادم عطاء بن حفاظ وكان هو القائم بدولته فغص به نور الدين وحال بينه وبين دمشق فأغرى به صاحبه مجير الدين حتى نكبه وقتله‏.‏ وخلت دمشق من الحامية فسار حينئذ نور الدين مجاهراً بعداوة مجير الدولة ومتجنياً عليه‏.‏ واستنجد بالإفرنج على أن يعطيهم الأموال ويسلم لهم بعلبك فجمعوا واحتشدوا‏.‏ وفي خلال ذلك عمد نور الدين إلى دمشق سنة سبع وأربعين وكاتب جماعة من أحداثها ووعدهم من أنفسهم فلما وصل ثاروا بمجير الدين ولجأ إلى القلعة‏.‏ وملك نور الدين المدينة وحاصره بالقلعة وبذل له إقطاعاً منها مدينة حمص‏.‏ فسار إليها مجير الدين وملك نور الدين القلعة‏.‏ ثم عوضه عن حمص ببالس فلم يرضها ولحق ببغداد وابتنى بها داراً وأقام بها إلى أن توفي والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

استيلاء نور الدين على تل باشر وحصاره قلعة حارم
ولما فرغ نور الدين من أمر دمشق بعث إليه الإفرنج الذين في تل باشر في شمالي حلب واستأمنوا إليه ومكنوه من حصنهم فتسلمه حسان المنبجي من كبراء أمراء نور الدين سنة تسع وأربعين‏.‏ ثم سار سنة إحدى وخمسين إلى قلعة بهرام بالقرب من إنطاكية وهي لسمند أمير إنطاكية من الإفرنج فحاصرها واجتمع الإفرنج لمدافعته ثم خاموا عن لقائه وصالحوه على نصف أعمال حارم فقبل صلحهم ورحل عنها والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه‏.‏

استيلاء نور الدين على شيزر
شيزر هذه حصن قريب من حماة على نصف مرحلة منها على جبل منيع عال لا يسلك إليه إلا من طريق واحدة وكانت لبني منقذ الكنانيين يتوارثون ذلك من أيام صالح بن مرداس صاحب حلب من أعوام عشرين وأربعمائة إلى أن انتهى ملكه إلى المرهف نصر بن علي بن نصير بن منقذ بعد أبيه أبي الحسن علي‏.‏ فلما حضره الموت سنة تسعين وأربعمائة عهد لأخيه أبي سلمة بن مرشد وكان عالماً بالقراءات والأدب وولى مرشداً أخاه الأصغر سلطان بن علي وكان بينهما من الاتفاق والملاءمة ما لم يكن بين اثنين‏.‏ ونشأ لمرشد بنون كثيرون وفي السؤدد منهم عز الدولة أبو الحسن علي ومؤيد الدولة أسامة وولده علي وتعدد ولده ونافسوا بني عمهم وفشت بينهم السعايات فتماسكوا لمكان مرشد والتئامه بأخيه‏.‏ فلما مات مرشد سنة إحدى وثلاتين وخمسمائة تنكر أخوه سلطان لولده وأخرجهم من شيزر فتفرقوا وقصد بعضهم نور الدين فامتعض لهم وكان مشتغلاً عنهم بالإفرنج‏.‏ ثم توفي سلطان وقام بأمر شيزر أولاده وراسلوا الإفرنج فحنق نور الدين عليهم لذلك‏.‏ ثم وقعت الزلازل بالشام وخرب أكثر مدنه مثل حماة وحمص وكفر طاب والمعرة وأفامية وحصن الأكراد وعرقة ولاذقية وطرابلس وإنطاكية‏.‏ هذه سقطت جميعها وتهدمت سنة اثنتين وخمسين وما سقط بعضه وتهدمت أسواره فأكثر بلاد الشام‏.‏ وخشي فور الدين عليها من الإفرنج فوقف بعساكره في أطراف البلاد حتى رم ما تثلم من أسوارها‏.‏ وكان بنو منقذ أمراء شيزر قد اجتمعوا عند صاحبها منهم في دعوة فأصاحبتهم الزلزلة مجتمعين فسقطت عليهم القلعة ولم ينج منهم أحد‏.‏ وكان بالقرب منها بعض أمراء نور الدين فبادر وصعد إليها وملكها منه نور الدين ورم ما تثلم من أسوارها وجدد بناءها فعادت كما وقال ابن خلكان وفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة استولى بنو منقذ على شيزر من يد الروم والذي تولى فتحها منهم علي بن منقذ بن نصر بن سعد وكتب إلى بغداد بشرح الحال ما نصه كتابي في حصن شيزر حماه الله وقد رزقني الله من الاستيلاء على هذا المعقل العظيم ما لم يتأت لمخلوق في هذا الزمان‏.‏ وإذا عرف الأمر على حقيقته علم أني هزبر هذه الأمة وسليمان الجن والمردة وأنا أفرق بين المرء وزوجه واستنزل القمر من محله‏.‏ أنا أبو النجم وشعري شعري نظرت إلى هذا الحصن فرأيت أمراً يذهل الألباب يسع ثلاثة آلاف رجل بالأهل والمال وتمسكه خمس نسوة فعمدت إلى تل بينه وبين حصن الروم يعرف بالحواص ويسمى هذا التل بالحصن فعمرته حصناً وجمعت فيه أهلي وعشيرتي ونفرت نفرة على حصن الحواص فأخذته بالسيف من الروم ومع ذلك فلما أخذت من به من الروم أحسنت إليهم وأكرمتهم ومزجتهم بأهلي وعشيرتي وخلطت خنازيرهم بغنمي ونواقيسهم بصوت الأذان‏.‏ ورأى أهل شيزر فعلي ذلك فأنسوا بي ووصل إلي منهم قريب من نصفهم فبالغت في إكرامهم‏.‏ ووصل إليهم مسلم بن قريش العقيلي فقتل من أهل شيزر نحو عشرين رجلاً‏.‏ فلما انصرف مسلم عنهم سلموا إلي الحصن‏.‏ انتهى كتاب علي بن منقذ‏.‏ وبين هذا الذي ذكره ابن خلكان والذي ذكره ابن الأثير نحو خمسين سنة‏.‏ وما ذكره ابن الأثير أولي لأن الإفرنج لم يملكوا من الشام شيء في أوائل المائة الخامسة والله

استيلاء نور الدين على بعلبك
كانت بعلبك في يد الضحاك البقاعي نسبة إلى بقاعة والآن عليها صاحب دمشق‏.‏ فلما ملك نور الدين دمشق امتنع ضحاك ببعلبك وشغل نور الدين عنه بالإفرنج‏.‏ فلما كانت سنة اثنتين وخمسين استنزله نور الدين عنها وملكها والله أعلم‏.‏

استيلاء أخي نور الدين على حران ثم ارتجاعها
كان نور الدين سنة أربع وخمسين وخمسمائة بحلب ومعه أخوه الأصغر أمير أميران فمرض نور الدين بالقلعة واشتد مرضه فجمع أخوه وحاصر قلعة حلب‏.‏ وكان شيركوه ابن شادي أكبر أمرائه بحمص فلما بلغه الأزحاف سار إلى دمشق ليملكها وعليها أخوه نجم الدين أيوب فنكر عليه وأمره بالمسير إلى حلب حتى يتبين حياة نور الدين من موته‏.‏ فأغذ السير إلى حلب وصعد القلعة وأظهر نور الدين للناس من سطح مشرف فافترقوا عن أخيه أمير أميران‏.‏ فسار إلى حران فملكها‏.‏ فلما أفاق نور الدين سلمها إلى زين الدين علي كجك نائب أخيه قطب الدين بالموصل وسار إلى الرقة فحاصرها والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:30 PM

خبر سليمان شاه وحبسه بالموصل
ثم مسيره منها إلى السلطنة بهمذان كان الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه عند عمه السلطان سنجر بخراسان وقد عهد له بملكه وخطب باسمه على منابر خراسان‏.‏ فلما حصل سنجر في أسر العدو سنة ثمان وأربعين وخمسمائة كما مر في أخبار دولتهم واجتمعت العساكر على سليمان شاه هذا وقدموه فلم يطق مقاومة العدو فمضى إلى خوارزم شاه وزوجه ابنة أخيه‏.‏ ثم بلغه عنه ما ارتاب له فأخرجه من خوارزم وقصد أصفهان فمنعه الشحنة من الدخول فقصد قاشان فبعث إليه محمد شاه ابن أخيه محمود عسكراً دافعوه عنها فسار إلى خراسان فمنعه ملك شاه منها فقصد النجف ونزل وأرسل للخليفة المستنصر وبعث أهله وولده رهناً بالطاعة واستأذن في دخول بغداد فأكرمهم الخليفة وأذن له وخرج ابن الوزير ابن هبيرة لتلقيه في الموكب وفيه قاضي القضاة‏.‏ والتقيا ودخل بغداد وخلع عليه آخر سنة خمسيبن‏.‏ وبعد أيام أحضر بالقصر واستخلف بحضرة قاضي القضاة والأعيان وخطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه‏.‏ وأمر بثلاثة آلاف فارس وسار نحو بلاد الجبل في ربيع سنة إحدى وخمسين‏.‏ ونزل الخليفة حلوان واستنفر له ابن أخيه ملك شاه صاحب همذان فقدم إليه في ألفي فارس وجعله سليمان شاه ولي عهده وأمدهما الخليفة بالمال والسلاح ولحق بهما ايلدكز صاحب الري فكثرت جموعهم‏.‏ وبعث السلطان محمد إلى قطب الدين مودود صاحب الموصل وزين الدين علي كجك نائبه في المظاهرة والإنجاد وسار إلى لقاء سليمان شاه فانهزم وتمزق عسكره‏.‏ وفارقه ايلدكز فذهب إلى بغداد على طريق شهرزور‏.‏ وبلغ خبر الهزيمة إلى زين الدين علي كجك فخرج في جماعة من عسكر الموصل وقعد له بشهرزور ومعه الأمير إيراق حتى مر بهم سليمان شاه فقبض عليه زين الدين وحمله إلى الموصل فحبسه بها مكرماً وطير إلى السلطان محمود بالخبر‏.‏ فلما هلك السلطان محمود بن محمد سنة خمس وخمسين أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى قطب الدين أتابك يطلبون تولية الملك سليمان شاه ويكون جمال الدين وزير قطب الدين وزيراً له وتعاهدوا على ذلك‏.‏ وجهزه قطب الدين جهاز الملك وسار معه زين الدين علي كجك في عسكر الموصل إلى همذان‏.‏ فلما قاربوا بلاد الجبل تتابعت العساكر والأمداد للقائهم ارسالاً واجتمعوا على سليمان شاه وجروا معه على مذاهب الدولة فخشيهم زين الدين على نفسه وفارقهم إلى الموصل‏.‏ وسار سليمان شاه إلى همذان فكان من أمرهم ما تقدم في أخبار الدولة السلجوقية‏.‏ حصار قلعة حارم وانهزام نور الدين أمام الإفرنج ثم هزيمتهم وفتحها ثم جمع نور الدين محمود عساكر حلب وحاصر الإفرنج بقلعة حارم وجمعوا لمدافعته ثم خاموا عن لقائه ولم يناجزوه وطال عليه أمرها فعاد عنها‏.‏ ثم جمع عساكره وسار سنة ثمان وخمسين معتزماً على غزو طرابلس وانتهى إلى البقيعة تحت حصن الأكراد فكبسهم الإفرنج هنالك وأثخنوا فيهم‏.‏ ونجا نور الدين في الفل إلى بحيرة قطينة قريباً من حمص ولحق به المنهزمون‏.‏ وبعث إلى دمشق وحلب في الأموال والخيام والظهر وأزاح علل العسكر‏.‏ وعلم الإفرنج بمكان نور الدين من حمص فنكبوا عن قصدها‏.‏ وسألوه الصلح فامتنع فأنزلوا حاميتهم بحصن الأكراد ورجعوا‏.‏ وفي هذه الغزاة عزل نور الدين رجلاً يعرف بابن نصري تنصح له بكثرة خرجه بصلاته وصدقاته على الفقراء والفقهاء والصوفية والقراء إلى مصارف الجهاد فغضب وقال والله لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنهم يقاتلون عني بسهام الدعاء في الليل‏.‏ وكيف أصرفها عنهم وهي من حقوقهم في بيت المال ذلك شيء لا يحل لي‏.‏ ثم أخذ في الاستعداد للأخذ بثأره من الإفرنج وسار بعضهم إلى ملك مصر فأراد أن يخالفهم إلى بلادهم فبعث إلى أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وإلى فخر الدين قرا أرسلان صاحب كيفا وإلى نجم الدين ولي صاحب ماردين بالنجدة فسار من بينهم أخوه قطب الدين‏.‏ وفي مقدمته زين الدين علي كجك صاحب جيشه ثم تبعه صاحب كيفا‏.‏ وبعث نجم الدين عسكره فلما توافت الأمداد سار نور الدين نحو حارم سنة تسع وخمسين فحاصرها ونصب عليها المجانيق واجتمع من بقي بالساحل من ملوك الإفرنج ومقدمهم البرنس سمند صاحب إنطاكية والقمص صاحب طرابلس وابن جوسكين واستنفر لهم أمم النصرانية وقصدوه فأفرج عن حارم إلى ارتاج‏.‏ ثم خاموا عن لقائه وعادوا إلى حصن حارم وسار في اتباعهم وناوشهم الحرب فحملوا على عساكر حلب وصاحب كيفا في ميمنة المسلمين فهزموها ومروا في اتباعهم‏.‏ وحمل زين الدين في عساكر الموصل على الصف فلقيه الرجل فأثخن فيهم واستلحمهم وعاد الإفرنج من اتباع الميمنة فسقط في أيديهم‏.‏ ودارت رحا الحرب على الإفرنج فانهزموا ورجع المسلمون من القتل إلى الأسر فأسروا منهم أمماً فيهم سمند صاحب إنطاكية والقص صاحب طرابلس‏.‏ وبعث السرايا في تلك الأعمال بقصد إنطاكية لخلوها من الحامية فأبى وقال أخشى أن يسلمها أصحابها لملك الروم فإن سمند ابن أخته ومجاورته أحق إلي من مجاورة ملك الروم‏.‏ ثم عاج على قلعة حارم فحاصرها وافتتحها ورجع مظفراً والله يؤيد بنصره من يشاء من عباده‏.‏

فتح نور الدين قلعة بانياس
ولما افتتح نور الدين قلعة حارم أذن لعسكر الموصل وحصن كيفا بالانطلاق إلى بلادهم وعزم على منازلة بانياس وكانت بيد الإفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة‏.‏ ثم ورى عنها بقصد طبرية فصرف الإفرنج همتهم إلى حمايتها وخالف هو إلى بانياس لقفة حاميتها فحاصرها وضيق عليها في ذي الحجة من سنة تسع وخمسين‏.‏ وكان معه أخوه نصير الدين أمير أميران فاصيب بسهم في إحدى عينيه وأخذ الإفرنج في الجمع لمدافعته فلم يستكملوا أمرهم حتى فتحها وشحن قلعتها بالمقاتلة والسلاح‏.‏ وخافه الإفرنج فشاطروه في أعمال طبرية وضرب عليهم الجزية في الباقي ووصل الخبر بفتح حارم وبانياس إلى ملوكهم الذين ساروا إلى مصر فسبقهم بالفتح وعاد إلى دمشق‏.‏ ثم سار سنة إحدى وستين متجرداً إلى حصن المنيطرة فنازلهم على غرة وملكه عنوة ولم يجتمع الإفرنج إلا وقد ملكه فافترقوا ويئسوا من ارتجاعه والله تعالى أعلم‏.‏

وفادة شاور وزير العاضد بمصر علي نور الدين العادل صريخاً
وإنجاده بالعسكر مع أسد الدين شيركوه كانت دولة العلويين بمصر قد أخذت في التلاشي وصارت إلى استبداد وزرائها على خلفائها وكان من آخر المسلمين بها شاور السعدي استعمله الصالح بن زربك على قوص وندم‏.‏ فلما هلك الصالح بن رزيك وكان مستبداً على الدولة قام ابنه رزيك مقامه فعزل شاور عن قوص فلم يرض بعزله‏.‏ وجمع وزحف إلى القاهرة فملكها وقتل رزيك واستبد على العاضد ولقبه أمير الجيوش‏.‏ وكانت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ثم نازعه الضرغام وكان صاحب الباب ومقدم البرقية فثار عليه لسبعة أشهر من وزارته وأخرجه من القاهرة فلحق بالشام وقصد نور الدين محمود بن زنكي مستنجداً به على أن يكون له ثلث الجباية بمصر‏.‏ ويقيم عسكر نور الدين بها مدداً له فاختار من أمرائه لذلك أسد الدين شيركوه بن شادي الكردي وكان بحمص وجهزه بالعساكر فسار لذلك في جمادى سنة تسع وخمسين واتبعه نور الدين إلى أطراف بلاد الإفرنج فشغلهم عن التعرض للعساكر‏.‏ وسار أسد الدين مع شاور وسار معه صلاح الدين ابن أخيه نجم الدين أيوب وانتهوا إلى بلبيس فلقيهم ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فانهزم ورجع إلى القاهرة‏.‏ واتبعه أسد الدين فقتله عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله تعالى عنها‏.‏ وقتل أخوه وعاد شاور إلى وزارته‏.‏ وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة ينتظر الوفاء بالعهد من شاور بما عاهد عليه نور الدين فنكث شاور العهد وبعث إليه بالرجوع إلى بلده فلج في طلب ضريبته ورحل إلى بلبيس والبلاد الشرقية فاستولى عليها‏.‏ واستمد شاور عليه بالإفرنج فبادروا إلى ذلك لما كان في نفوسهم من تخوف غائلته وطمعوا في ملك مصر‏.‏ وسار نور الدين من دمشق ليأخذ بحجزتهم عن المسير فلم يثنهم ذلك وتركوا ببلادهم حامية فلما قاربوا مصر فارقها أسد الدين واجتمع الإفرنج وعساكر مصر فحاصروه ثلاثة أشهر يغاديهم القتال ويراوحهم‏.‏ وجاءهم الخبر بهزيمة الإفرنج على حارم وما هيأ الله لنور الدين في ذلك فراسلوا أسد الدين شيركوه في الصلح وطووا عنه الخبر فصالحهم وخرج ولحق بالشام‏.‏ ووضع له الإفرنج المراصد بالطريق فعدل عنها‏.‏ ثم أعاده نور الدين إلى مصر سنة اثنتين وستين فسار بالعساكر في ربيع ونزل اطفيح وعبر النيل‏.‏ وجاء إلى القاهرة من جانبها الغربي ونزل الجيزة في عدوة النيل وحاصرها خمسين يوماً‏.‏ واستمد شاور بالإفرنج وعبر إلى أسد الدين فتأخر إلى الصعيد ولقيهم منتصف السنة فهزمهم‏.‏ وسار إلى ثغر الإسكندرية فملكها وولى عليها صلاح الدين ابن أخيه ورجع فدوخ بلاد الصعيد‏.‏ وسارت عساكر مصر والإفرنج إلى الإسكندرية وحاصروا بها صلاح الدين فسار إليه أسد الدين فتلقوه بطلب الصلح فتم ذلك بينهم وعاد إلى الشام وترك لهم الإسكندرية‏.‏ وكاتب شجاع بن شاور نور الدين بالطاعة عنه وعن طائفة من الأمراء‏.‏ ثم استطال الإفرنج على أهل مصر وفرضوا عليهم الجزية وأنزلوا بالقاهرة الشحنة وتسلموا أبوابها واستدعوا ملكهم بالشام إلى الاستيلاء عليها فبادر نور الدين وأعاد أسد الدين في العساكر إليها في ربيع سنة أربع وستين فملكها وقتل شاور وطرد الإفرنج عنها‏.‏ وقدمه العاضد لوزارته والاستبداد عليه كما كان من قبله‏.‏ ثم هلك أسد الدين وقام صلاح الدين ابن أخيه مكانه وهو مع ذلك في طاعة نور الدين محمود‏.‏ وهلك العاضد فكتب نور الدين إلى صلاح الدين يأمره بإقامة الدعوة العباسية بمصر والخطبة للمستضيئ‏.‏ ويقال إنه كتب له بذلك في حياة العاضد وبين يدي وفاته‏.‏ وهلك لخمسين يوماً أو نحوها فخطب للمستضيئ العباسي وانقرضت الدولة العلوية بمصر وذلك سنة سبع وستين كما نأتي على شرحه وتفصيله في دولة بني أيوب إن شاء الله تعالى ووقعت خلال ذلك فتنة بين نور الدين محمود وبين صاحب الروم قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان سنة ستين وخمسمائة وكتب الصالح بن رزيك إلى قليج أرسلان ينهاه عن الفتنة والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:31 PM

فتح نور الدين صافيتا وعريمة ومنبج وجعبر
ثم جمع نور الدين عساكره سنة اثنتين وستين واستدعى أخاه قطب الدين من الموصل فقدم عليه بحمص ودخلوا جميعاً بلاد الإفرنج ومروا بحصن الأكراد واكتسحوا نواحيه‏.‏ ثم حاصروا عرقة وخربوا جكة وفتحوا العريمة وصافيتا وبعثوا سراياهم فعاثت في البلاد ورجعوا إلى حمص فأقاموا بها إلى رمضان وانتقلوا إلى بانياس وقصدوا حصن حموص فهرب عنه الإفرنج فهدم نور الدين سوره وأحرقه‏.‏ واعتزم على بيروت فرجع عنه أخوه قطب الدين إلى الموصل وأعطاه نور ثم انتقض بمدينة منبج غازي بن حسان‏.‏ وبعث إليها العساكر فملكها عنوة وأقطعها أخاه قطب الدين ينال بن حسان وبقيت بيده إلى أن أخذها منه صلاح الدين بن أيوب‏.‏ ثم قبض بنو كلاب على شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي صاحب قلعة جعبر وكانت تسمى دوس ثم سميت باسم جعبر بانيها‏.‏ وكان السلطان ملك شاه أعطاها لجده عندما ملك حلب كما مر في أخباره‏.‏ ولم تزل بيده ويد عقبه إلى أن هلك هذا فخرج يتصيد سنة ثلاث وستين وقد أرصد له بنو كلاب فأسروه وحملوه إلى نور الدين محمود صاحب دمشق فاعتقله مكرماً‏.‏ وحاوله في النزول عن جعبر بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى فأبى وبعث بالعساكر مع الأمير فخر الدين محمود بن أبي علي الزعفراني وحاصرها مدة فامتنعت فبعث عسكراً آخراً‏.‏ وقدم على الجميع الأمير فخر الدين أبا بكر ابن الداية رضيعه وأكبر أمرائه فحاصرها فامتنعت ورجع إلى ملاطفة صاحبها فأجاب وعوضه نور الدين عنها سروج وأعمالها وساحة حلب وقراغة وعشرين ألف دينار‏.‏ وملك قلعة جعبر سنة أربع وستين وانقرض أمر بني مالك منها والبقاء لله وحده‏.‏

رحلة زين الدين نائب الموصل إلى إربل واستبداد قطب الدين بملكه
قد كان تقدم لنا أن نصير الدين جقري كان نائب الأتابك زنكي بالموصل وقتل ألب أرسلان ابن السلطان محمود آخر سنة تسع وثلاثين وخمسمائة طمعاً في الملك لغيبة الأتابك فرجع من غيبته في حصار البيرة وقدم مكانه زين الدين علي بن كمستكين بقلعة الموصل فلم يزل بها بقية أيام الأتابك وأيام ابنه غازي وابنه الآخر قطب الدين سنة ثمان وخمسين على وزيرهم جمال الدين محمد بن علي بن منصور الأصفهاني فاعتقله وهلك لسنة من الاعتقال‏.‏ وحمل إلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم فدفن بها في رباط هناك أعده لذلك‏.‏ وكانت وفاته أيام سيف الدين غازي بن قطب الدين فولى مكانه جلال الدين أبا الحسن ابنه‏.‏ وكان زين الدين علي بن كمستكين ويعرف بكجك قد استبد في دولة قطب الدين واستقل بحكم الدولة‏.‏ وصارت بيده أكثر البلاد إقطاعاً مثل إربل وشهرزور والقلاع التي في تلك البلاد الهكارية‏.‏ منها العمادية وغيرها والحميدية وتكريت وسنجار‏.‏ وقد كان نقل أهله وولده وذخائره إلى إربل وأقام بمحل نيابته من قلعة الموصل فأصاحبه الكبر وطرقه العمى والصمم فعزم على مفارقة الموصل إلى كسر بيته بإربل فسلم جميع البلاد التي بيده إلى قطب الدين ما عدا إربل‏.‏ وسار إليها سنة أربع وستين وأقام قطب الدين مكانه فخر الدين عبد المسيح خصياً من موالي جده الأتابك زنكي وحكمه في دولته فنزل بالقلعة وعمرها وكان الخراب قد لحقها بإهمال زين الدين أمر البناء والله تعالى أعلم‏.‏ ثم بعث صلاح الدين سنة خمس وستين إلى نور الدين محمود يطلب إنفاذ أبيه نجم الدين أيوب إليه فبعثه في عسكر واجتمع إليه خلق من التجار ومن أصحاب صلاح الدين وخشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج فسارت العساكر إلى الكرك وهو حصن اختطه من الإفرنج البرنس أرقاط واختط له قلعة فحاصره نور الدين وجمع له الإفرنج فرحل إلى مقدمتهم قبل أن يتلاحقوا فخاموا عن لقائه ونكصوا على أعقابهم‏.‏ وسار في بلادهم فاكتسحها وخرب ما مر به من القلاع وانتهى إلى بلاد المسلمين حتى نزل حوشب‏.‏ وبعث نجم الدين من هنالك إلى مصر فوصلها منتصف خمس وستين وركب العاضد للقائه‏.‏ ولما كان نور الدين بعشير أسار للقاء شهاب الدين محمد بن إلياس بن أبي الغازي بن أرتق صاحب قلعة أكبره‏.‏ فلما انتهى إلى نواحي بعلبك لقي سرية من الإفرنج فقاتلهم وهزمهم واستلحمهم وجاء بأسرى ورؤوس القتلى إلى نور الدين وعرف الرؤوس مقدم الاستبان صاحب حصن الأكراد وكان شجى في قلوب المسلمين‏.‏ وبلغه وهو بهذا المنزل خبر الزلازل التي عمت البلاد بالشام والموصل والجزيرة والعراق وخربت أكثر البلاد بعمله فسار إليها وشغل في إصلاحها من واحدة إلى أخرى حتى أكملها بمبلغ جهده‏.‏ واشتغل الإفرنج بعمارة بلادهم أيضاً خوفاً من غائلته والله تعالى أعلم‏.‏ ثم توفي قطب الدين مودود بن الاتابك زنكي صاحب الموصل في ذي الحجة سنة خمس وستين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ملكه وعهد لابنه الأكبر عماد الدين بالملك‏.‏ وكان القائم بدولته فخر الدين عبد المسيح وكان شديد الطواعية لنور الدين محمود ويعلم ميله عن عماد الدين زنكي بن مودود فعدل عنه إلى أخيه سيف الدين غازي ابن مودود بموافقة أمه خاتون بنت حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي‏.‏ ولحق عماد الدين بعمه نور الدين منتصراً به‏.‏ وقام فخر الدين عبد المسيح بتدبير الدولة بالموصل واستبد بها والله تعالى أعلم‏.‏

استيلاء نور الدين على الموصل وإقراره ابن أخيه سيف الدين عليها
ولما ولي سيف الدين غازي بالموصل بعد أبيه قطب الدين واستبد عليه فخر الدين عبد المسيح كما تقدم وبلغ الخبر إلى نور الدين باستبداده أنف من ذلك وسار في خف من العسكر وعبر الفرات عند جعبر أول سنة ست وستين‏.‏ وقصد الرقة فملكها ثم الخابور فملك جميعه ثم نصيبين وكلها من أعمال الموصل‏.‏ وجاءه هناك نور الدين محمد بن قرا أرسلان ابن داود بن سقمان صاحب كيفا مدداً‏.‏ ثم سار إلى سنجار فحاصرها وملكها وسلمها لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين‏.‏ ثم جاءته كتب الأمراء بالموصل فاستحثوه فأغذ السير إلى مدينة كلك‏.‏ ثم عبر الدجلة ونزل شرقي الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل‏.‏ وكان سيف الدين غازي قد بعث أخاه عز الدين مسعود إلى الأتابك شمس الدين صاحب همذان وبلاد الجبل وأذربيجان وأصفهان والري يستنجده على عمه نور الدين فأرسل ايلدكز إلى نور الدين ينهاه عن الموصل فأساء جوابه وتوعده وأقام يحاصر الموصل‏.‏ ثم اجتمع امراؤها على طاعة نور الدين‏.‏ ولما استحث فخر الدين عبد المسيح استأمن إلى نور الدين على أن يبقي سيف الدين ابن أخيه على ملكها فأجابه على أن يخرج هو عنه ويكون معه بالشام‏.‏ وتم ذلك بينهما وملك نور الدين منتصف جمادى الأولى من سنة ست وستين‏.‏ ودخل المدينة واستناب بالقلعة خصياً اسمه كمستكين ولقبه سعد الدين‏.‏ فأقر سيف الدين ابن أخيه على ملكه وخلع عليه خلعة وردت عليه من الخليفة المستضيئ وهو يحاصرها وأمر ببناء جامع بالموصل فبني وشهر باسمه‏.‏ وأمر سيف الدين أن يشاور كمستكين في جميع أموره وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين وعاد إلى الشام والله تعالى أعلم‏.‏

الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين
ثم سار صلاح الدين في صفر سنة تسع وستين من مصر إلى بلاد الإفرنج غازياً ونازل حصن الشوبك من أعمال واستأمن إليه أهله على أن يمهلهم عشرة أيام جابهم وسمع نور الدين بذلك فسار من دمشق غازياً أيضاً بلاد الإفرنج من جانب آخر وتنصح لصلاح الدين أصحابه بأنك إن ظاهرته على الإفرنج اضمحل أمرهم فاستطال عليك نور الدين ولا تقدر على الامتناع منه فترك الشوبك وكر راجعاً إلى مصر‏.‏ وكتب لنور الدين يعتذر له بأنه بلغه عن بعض سفلة العلويين بمصر أنهم معتزمون على الوثوب فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك واعتزم على عزله عن مصر‏.‏ فاستشار صلاح الدين أباه وخاله شهاب الدين الحارمي وقرابتهم فأشار عليه تقي الدين عمر ابن أخيه بالامتناع والعصيان فنكر عليه نجم الدين أبوه وقال له ليس منا من يقوم بعصيان نور الدين لو حضر أو بعث وأشار عليه بأن يكاتبه بالطاعة وأنه إن عزم على أخذ البلاد منك فسلمها ويصل بنفسه‏.‏ وافترق المجلس فخلا به أبوه وقال ما لك توجد بهذا الكلام السبيل للأمراء في طالتهم عليك‏.‏ ولو فعلتم ما فعلتم كنت أول الممتنعين عليه ولكن ملاطفته أولى وكتب صلاح الدين إلى نور الدين بما أشار به أبوه عن الملاطفة فتركهم نور الدين وأعرض عن قصدهم‏.‏ ثم توفي واشتغل صلاح الدين بملك البلاد‏.‏ ثم جمع نور الدين العساكر وسار لغزو الإفرنج بسبب ما أخذوه لأهل البلاد من مراكب التجار ونكثوا فيها العهد مغالطين بأنها تكسرت فلم يقبل مغالطتهم‏.‏ وسار إليهم وبث السرايا في بلادهم إنطاكية وطرابلس وحاصر هو حصن غرقة وخرب ربضه وأرسل عسكراً إلى حصن صافيتا وعريمة ففتحهما عنوة وخربهما‏.‏ ثم سار من عرقة إلى طرابلس واكتسح ما مر عليه حتى رجع الإفرنج إلى الانصاف من أنفسهم وردوا ما أخذوا من المكرمين الأعزين وسألوا تجديد الهدنة فأجابهم بعد أن خربت بلادهم وقتلت رجالهم وغنمت أموالهم‏.‏ ثم اتخذ نور الدين في هذه السنة الحمام‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ بالشام تطيراً إلى أوعارها من لاتساع بلاده ووصول الأخبار بسرعة فبادر إلى القيام بواجبه وأجرى الجرايات على المرتبين لحفظها لتصل الكتب في أجنحتها‏.‏ ثم أغار الإفرنج على حوران من أعمال دمشق وكان نور الدين ينزل الكسوة فرحل إليهم ورحلوا أمامه إلى السواد وتبعهم المسلمون ونالوا منهم‏.‏ ونزل نور الدين على عشير وبعث منها سرية إلى أعمال طبرية فاكتسحها وسار الإفرنج لمدافعتهم فرجعوا عنها واتبعهم الإفرنج فعبروا النهر وطمعوا في استنقاذ غنائمهم فقاتلهم المسلمون دونها أشد قتال إلى أن استنقذت وتحاجزوا ورجع الإفرنج خائبين والله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين بمنه وكرمه‏.‏

واقعة ابن ليون ملك الأرمن بالروم
كان قليج بن ليون صاحب دروب حلب أطاع نورالدين محمود بن زنكي وأره على الحمالة وأقطعه ببلاد الشام وكان يسير في خدمته ويشهد حروبه مع الإفرنج أهل ملته‏.‏ وكان الأرمني أيضاً يستظهر به على أعدائه وكانت أدنة والمصيصة وطرسوس مجاورة لابن ليون وهي بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية فتغلب عليها ابن ليون وملكها‏.‏ وبعث صاحب القسطنطينية منتصف سنة ثمان وستين وخمسمائة جيشاً كثيفاً‏.‏ مع عظيم من بطارقته فلقيه ابن ليون بعد أن استنجد نور الدين فأنجده بالعساكر وقاتلهم فهزمهم وبعث بغنائمهم وأسراهم إلى نور الدين وقويت شوكة ابن ليون ويئس الروم من تلك البلاد والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 7 - 8 - 2010 05:32 PM

مسير نور الدين إلى بلاد الروم
كان ذو النون بن محمد بن الدانشمند صاحب ملطية وسيواس وأخصرى وقيسارية ملكها بعد عمه باغي أرسلان وأخيه إبراهيم بن محمد فلم يزل قليج أرسلان بن محمد بن قليج أرسلان يتخيف بلاده إلى أن استولى عليها‏.‏ ولحق ذو النون بنور الدين صريخاً‏.‏ وأرسل إلى قليج أرسلان بالشفاعة في رد بلاده فلم يشفعه فسار إليه وملك من بلاده بكسور ومهنسا ومرعش ومرزبان وما بينهما في ذي القعدة سنة ثمان وستين‏.‏ ثم بعث عسكراً إلى سيواس فملكوها‏.‏ ثم أرسل قليج أرسلان إلى نور الدين يستعطفه وقد كان يجيز أمامه إلى قاصية بلاده فأجابه نور الدين إلى الصلح على أن ينجده بعسكر الإفرنج ويبقي سيواس بيد ذي النون وعسكر نور الدين الذي معه فيها‏.‏ ورجع نور الدين إلى بلاده وبقيت سيواس بيد ذي النون حتى مات نور الدين وعاد قليج أرسلان‏.‏ ثم وصل رسول نور الدين من بغداد كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري ومعه منشور من الخليفة المستضيئ لنور الدين بالموصل والجزيرة وإربل وخلاط والشام وبلاد الروم وديار مصر والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

مسير صلاح الدين إلى الكرك ورجوعه
ولما كانت الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين كما قدمنا واعتزم نور الدين على عزله عن مصر واستعطفه صلاح الدين كان فيما تقرر بينهما أنهما يجتمعان على الكرك إيهما سبق انتظر صاحبه فسار صلاح الدين من مصر في شوال سنة ثمان وستين وسبق إلى الكرك وحاصره‏.‏ وخرج نور الدين بعد أن بلغه مسير صلاح من مصر وأزاح علل العساكر وانتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك فخافه صلاح الدين على نفسه خشي أن يعذله عند لقائه‏.‏ وكان استخلف أباه نجم الدين أيوب على مصر فبلغه أنه طرقه مرض شديد فوجد فيه عذراً لنور الدين وكر راجعاً إلى مصر‏.‏ وبعث الفقيه عيسى‏.‏ ذلك العذر وأن حفظة مصر أهم عليه‏.‏ فلما وصل مصر وجد أباه قد توفي من سقطة قطها عن مركوبه هزه المرح فرماه وحمل إلى بيته وقيذاً ومات لأيام قريبة آخر ذي الحجة من السنة‏.‏ ورجع نور الدين إلى دمشق وكان قد بعث رسوله كمال الدين الشهرزوري القاضي ببلاده وصاحب الوقوف والديوان لطلب التقليد للبلاد التي بيده مثل مصر والشام والجزيرة والموصل والتي دخلت في طاعته كديار بكر وخلاط وبلاد الروم وأن يعاد له ما كان لأبيه زنكي من الإقطاع بالعراق وهي صريفين ودرب هرون وأن يسوغ قطعة أرض على شاطئ دجلة بظاهر الموصل يبني فيها مدرسة للشافعية فأسعف بذلك كله‏.‏

وفاة نور الدين محمود وولاية ابنه إسماعيل الصالح
ثم توفي نور الدين محمود بن الأتابك زنكي حادي عشر شوال سنة تسع وستين وخمسمائة لسبع عشرة سنة من ولايته وكان قد شرع في التجهز لأخذ مصر من صلاح الدين بن أيوب واستنفر سيف الدين ابن أخيه في العساكر مورياً بغزو الإفرنج‏.‏ وكان قد اتسع ملكه وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن لما ملكها سيف الدولة بن أيوب‏.‏ وكان معتنياً بمصالح المسلمين مواظباً على الصلاة والجهاد وكان عارفاً بمذهب أبي خنيفة ومتحرياً للعدل ومتجافياً عن أخذ المكوس في جميع أعماله وهو الذي حصن قلاع الشام وبنى الأسوار على مدنها مثل دمشق وحمص وحماة وشيزر وبعلبك وحلب وبنى مدارس كثيرة للحنفية والشافعية وبنى الجامع النوري بالموصل والمارستانات والخانات في الطريق والجواسق للصوفية في البلاد‏.‏ واستكثر من الأوقاف عليها‏.‏ يقال بلغ ريع أوقافه في كل شهر تسعة آلاف دينار صوري‏.‏ وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم ويتمثل لهم قائماً ويؤنسهم في المجالسة ولا يرد لهم قولاً وكان متواضعاً مهيباً وقوراً‏.‏ ولما توفي اجتمع الأمراء والمقدمون وأهل الدولة بدمشق وبايعوا ابنه الملك الصالح إسماعيل وهو ابن إحدى عشرة سنة‏.‏ وحلفوا له وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر وخطب له هنالك وضرب السكة باسمه وقام بكفالته وتدبير دولته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم وأشار عليه القاضي كمال الدين الشهرزوري بأن يرجعوا في جميع أمورهم إلى صلاح الدين لئلا ينبذ طاعتهم فأعرضوا عن ذلك والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة
قد كنا قدمنا أن نور الدين استولى على بلاد الجزيرة وأقر سيف الدين ابن أخيه قطب الدين على الموصل واحتمل معه فخر الدين عبد المسيح الذي ولى سيف الدين واستبد عليه بأمره‏.‏ وولى على قلعة الموصل سعد الدين كمستكين‏.‏ ولما استنفرهم نور الدين بين يدي موته سار إليه سيف الدين غازي وكمستكين الخادم في العساكر وبلغهم في طريقهم خبر وفاته‏.‏ وكان كمستكين في المقدمة فهرب إلى حلب واستولى سيف الزين على مخلفة وسواده وعاد إلى نصيبين فملكها وبعث العساكر إلى الخابور فاستولى عليها وعلى أقطاعها‏.‏ ثم سار إلى حران وبها قايماز الحراني مولى نور الدين فحاصرها أياماً ثم استنزله على أن يقطعه حران‏.‏ فلما نزل قبض عليه وملكها‏.‏ ثم سار إلى الرها وبها خادم لنور الدين فتسلمها وعوضه عنها قلعة الزعفراني من جزيرة ابن عمر وانتزعها منه بعد ذلك‏.‏ ثم سار إلى الرقة وسروج فملكها واستوعب بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر لامتناعها وسوى رأس عين كانت لقطب الدين صاحب ماردين وهو ابن خاله‏.‏ وكان شمس الدين علي بن الداية بحلب وهو من أكبر أمراء نور الدين ومعه العساكر ولم يقدر على مدافعة سيف الدين فخر الدين عبد المسيح‏.‏ وكان نور الدين تركه قبل موته بسيواس مع ذي النون بن الدانشمند‏.‏ فلما مات نور الدين رجع إلى صاحبه سيف الدين غازي وهو الذي كان ملكه فوجده بالجزيرة وقد ملكها فأشار عليه بالعبور إلى الشام‏.‏ وعارضه آخر من أكبر الأمراء في ذلك فرجع سيف الدين إلى قوله وعاد إلى الموصل وأرشد صلاح الدين إلى الملك الصالح وأهل دولته يعاتبهم حيث لم يستدعوه لمدافعة سيف الدين عن الجزيرة ويتهدد ابن المقدم وأهل الدولة على انفرادهم بأمر الملك الصالح دونه وعلى قعودهم عن مدافعة سيف الدين غازي‏.‏ ثم أرسل شمس الدين بن الداية إلى الملك الصالح يستدعيه من دمشق إلى حلب ليدافع شمس الدين ابن عمه قطب الدين عن الجزيرة فمنعه أمراؤه عن ذلك مخافة أن يستولي عليه ابن الداية والله حصار الإفرنج بانياس ولما مات نور الدين محمود اجتمع الإفرنج وحاصروا قلعة بانياس من أعمال دمشق‏.‏ وجمع شمس الدين بن المقدم العساكر وسار عن دمشق وراسل الإفرنج وتهددهم بسيف الدين صاحب الموصل وصلاح الدين صاحب مصر فصالحوه على مال يبعثه إليهم‏.‏ واشترى من الإفرنج وأطلعهم وتقررت الهدنة‏.‏ وبلغ ذلك صلاح الدين فنكره واستعظمه وكتب إلى الصالح وأهل دولته بقبح مرتكبهم ويعدهم بغزوة الإفرنج وقصده إنما هو طريقه إلى الشام ليتملك البلاد وإنما صالح ابن المقدم الإفرنج خوفاً منه ومن سيف الدين والله تعالى أعلم‏.‏

استيلاء صلاح الدين على دمشق
ولما كان ما ذكرناه من استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة خاف شمس الدين ابن الداية منه على حلب‏.‏ وكان سعد الدين كمستكين قد هرب من سيف الدين غازي إليه فأرسله إلى دمشق ليستدعي الملك الصالح للمدافعة‏.‏ فلما قارب دمشق أنفذ ابن المقدم إليه عسكراً‏.‏ فنهبوه وعاد إلى حلب‏.‏ ثم رأى ابن المقدم وأهل الدولة بدمشق أن مسير الصالح إلى حلب أصلح فبعثوا إلى كمستكين وبعثوا معه الملك‏.‏ الصالح‏.‏ فلما وصل إلى حلب قبض كمستكين على ابن الداية وأخوته وعلى رئيس حلب ابن الخشاب وعلى مقدم الأحداث بها‏.‏ وخشي ابن المقدم وأمراؤه بدمشق غائلته فكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل أن يملكوه فأحجم عن المسير إليهم وظنها مكيدة‏.‏ وبعث بخبرهم إلى كمستكين وصالحه على مال أخذه من البلاد فكثر ارتياب القوم في دمشق فكاتبوا ا صلاح الدين بن أيوب فسار إليهم ونكب عن الإفرنج في طريقه وقصد بصرى وأطاعه صاحبها‏.‏ ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج إليه أهل الدولة بمقدمهم شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم وهو الذي كان أبوه سلم سنجار لنور الدين سنة أربع وأربعين كما مر ودخل صلاح الدين دمشق آخر ربيع سنة سبعين ونزل دار أبيه المعروفة بدار العفيفي‏.‏ وكان في القلعة ريحان خديم نور الدين فبعث إليه صلاح الدين القاضي كمال الدين الشهرزوري بأنه على طاعة الصالح والخطبة له في بلاده وأنه إنما جاء ليرتجع البلاد التي أخذت له فسلم إليه ريحان القلعة واستولى على ما فيها من الأموال وهو في ذلك كله يظهر طاعة الملك الصالح ويخطب له وينقش السكة باسمه انتهى والله أعلم‏.‏


الساعة الآن 08:19 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى