![]() |
مسير صلاح الدين إلى بلاد الإسماعيلية
ولما رحل صلاح الدين عن حلب وقد وقع من الإسماعيلية على حصن إعزاز ما وقع قصد بلادهم في محرم سنة اثنتين وتسعين ونهبها وخربها وحاصر قلعة مصياف ونصب عليها المجانيق. وبعث سنان مقدم الإسماعيلية بالشام إلى شهاب الدين الحارمي خال صلاح الدين بحماة يسأله الشفاعة فيهم ويتوعده بالقتل فشفع فيهم وأرحل العساكر عنهم. وقدم عليه أخوه توران شاه من اليمن بعد فتحه وإظهار دعوتهم فيه وولى على مدنه وأمصاره فاستخلفه صلاح الدين على دمشق وسار إلى مصر لطول عهده بها أبو الحسن بن سنان بن سقمان بن محمد. ولما وصل إليها أمر بإدارة سور على مصر القاهرة والقلعة التي بالجبل دورة تسعة وعشرون ألف ذراع بالهاشمي. واتصل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين وكان متولي النظر غزوات بين المسلمين والإفرنج كان شمس الدين محمد بن المقدم صاحب بعلبك وأغار جمع من الإفرنج على البقاع من أعمال حلب فسار إليهم وأكمن لهم في الغياض حتى نال منهم وفتك فيهم. وبعث إلى صلاح الدين بمائتي أسير منهم وقارن ذلك وصول شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن فبلغه أن جمعاً من الإفرنج أغاروا على أعمال دمشق فسار إليهم ولقيهم بالمروج فلم يثبت وهزموه وأسر سيف الدين أبو بكر بن السلام من أعيان الجند بدمشق وتجاسر الإفرنج على تلك الولاية. ثم اعتزم صلاح الدين على غزو بلاد الإفرنج فبعثوا في الهدنة وأجابهم إليها وعقد لهم والله تعالى ولي التوفيق. هزيمة صلاح الدين بالرملة أمام الإفرنج ثم سار صلاح الدين من مصر في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين إلى ساحل الشام لغزو بلاد الإفرنج وانتهى إلى عسقلان فاكتسح أعمالها ولم يروا للإفرنج خبراً فانساحوا في البلاد وانقلبوا إلى الرملة فما راعهم إلا الإفرنج مقبلين في جموعهم وأبطالهم وقد افترق أصحاب صلاح الدين في السرايا فثبت في موقفه واشتد القتال. وأبلى يومئذ محمد ابن أخيه في المدافعة عنه وقتل من أصحابه جماعة. وكان لتقي الدين بن شاه ابن اسمه أحمد متكامل الخلال لم يطر شاربه. فأبلى يومئذ واستشهد وتمت الهزيمة على المسلمين. وكان بعض الإفرنج تخلصوا إلى صلاح الدين فقتل بين يديه وعاد منهزماً وأسر الفقيه عيسى الهكاري بعد أن أبلى يومئذ بلاء شديداً. وسار صلاح الدين حتى غشيه الليل. ثم دخل البرية في فل قليل إلى مصر ولحقهم الجهد والعطش ودخل إلى القاهرة منتصف جمادى الأخيرة. قال ابن الأثير ورأيت كتابه إلى أخيه توران شاه بدمشق يذكر الواقعة ذكرتك والخطي يخطر بيننا وقد فتكت فينا المثقفة السمر ومن فصوله لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة وما نجانا الله سبحانه منه إلا لأمر يريده وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر انتهى. وأما السرايا التي دخلت بلاد الإفرنج فتقسمهم القتل والأسر وأما الفقيه عيسى الهكاري فلما ولي منهزماً ومعه أخوه الظهير ضل عن الطريق ومعهما جماعة من أصحابهما فأسروا. وفداه صلاح الدين بعد ذلك بستين ألف دينار والله تعالى أعلم. حصار الإفرنج مدينة حماة ثم وصل في جمادى الأولى إلى ساحل الشام زعيم من طواغيت الإفرنج وقارن وصوله هزيمة صلاح الدين. وعاد إلى دمشق يومئذ توران شاه بن أيوب في قلة من العسكر وهو مع ذلك منهمك في ملذاته فسار ذلك الزعيم بعد أن جمع فرنج الشام وبذل لهم العطاء فحاصر مدينة حماة وبها شهاب الدين ومحمود الحارمي خال صلاح الدين مريضاً. وشد حصارها وقتالها حتى أشرف في أخذها. وهجموا يوماً على البلد وملكوا ناحية منه فدافعهم المسلمون وأخرجوهم ومنعوا حماة منهم فأفرجوا عنها بعد أربعة أيام وساروا إلى حارم فحاصروها. ولما رحلوا عن حماة مات شهاب الدين الحارمي ولم يزل الإفرنج على حارم يحاصرونها وأطمعهم فيها ما كان من نكبة الصالح صاحب حلب لكمستكين الخادم كافل دولته. ثم صانعهم بالمال فرحلوا عنها. ثم عاد الإفرنج إلى مدينة حماة في ربيع سنة أربع وسبعين فعاثوا في نواحيها واكتسحوا أعمالها وخرج العسكر حامية البلد إليهم فهزموهم واستردوا ما أخذوا من السواد وبعثوا بالرؤوس والأسرى إلى صلاح الدين وهو بظاهر حمص منقلباً من الشام فأمر بقتل الأسرى والله تعالى ولي التوفيق. إنتقاض ابن المقدم ببعلبك وفتحها كان صلاح الدين لما ملك بعلبك استخلف فيها شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم جزاء بما فعله في تسليم دمشق وكان شمس الدولة محمد أخو صلاح الدين ناشئاً في ظل أخيه وكفالته فكان يميل إليه وطلب منه أقطاع بعلبك فأمر ابن المقدم بتمكينه منها فأبى. وذكره عهده في أمر دمشق فسار ابن المقدم إلى بعلبك وامتنع فيها ونازلته العساكر فامتنع وطاولوه حتى بعث إلى صلاح الدين يطلب العوض فعوضه عنها. وسار أخوه شمس الدين إليها فملكها والله تعالى ولي التوفيق. وقائع من الإفرنج وفي سنة أربع وسبعين سار ملك الإفرنج في عسكر عظيم فأغار على أعمال دمشق واكتسحها وأثخن فيها قتلاً وسبياً. وأرسل صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه في العساكر لمدافعته فسار يطلبهم ولقيهم على غير استعداد فقاتل أشد القتال. ونصر الله المسلمين وقتل جماعة من زعماء الإفرنج منهم هنفري وكان يضرب به المثل. ثم أغار البرنس صاحب إنطاكية واللاذقية على صرح المسلمين بشيزر وكان صلاح الدين على بانياس لتخريب حصن الإفرنج بمخاضة الأضرار فبعث تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه وناصر الدين محمد إلى حمص لحماية البلد من العدو كما نذكره إن شاء الله تعالى. تخريب حصن الإفرنج كان الإفرنج قد اتخذوا حصناً منيعاً بقرب بانياس عند بيت يعقوب عليه السلام ويسمى مكانه مخاضة الأضرار فسار صلاح الدين من دمشق إلى بانياس سنة خمس وسبعين وأقام بها وبث فيها الغارات على بلادهم. ثم سار إلى الحصن فحاصره ليختبره وعاد عنه إلى اجتماع العساكر وبث السرايا في بلاد الإفرنج للغارة. وجاء ملك الإفرنج للغارة على سريته ومعه جماعة من عساكره فبعثوا إلى صلاح الدين بالخبر فوافاهم وهم يقتتلون فهزم الإفرنج وأثخن فيهم. ونجا ملكهم في فل وأسر صاحب الرملة ونابلس منهم وكان رديف ملكهم. وأسر أخوه صاحب جبيل وطبرية ومقدم الفداوية ومقدم الاسبتارية وغيرهم من طواغيتهم. وفادى صاحب الرملة نفسه وهو أرتيرزان بمائة وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير من المسلمين. وأبلى في هذا اليوم عز الدين فرخشان ابن أخي صلاح الدين بلاء حسناً. ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس وبث السرايا في بلاد الإفرنج وسار لحصار الحصن فقاتله قتالاً شديداً. وتسلم المسلمون سوره حتى ملكوا برجاً منه. وكان مدد الإفرنج بطبرية والمسلمون يرتقبون وصولهم فأصبحوا من الغد ونقبوا السور وأضرموا فيه النار فسقط. وملك المسلمون الحصن عنوة آخر ربيع سنة خمس وسبعين وأسروا كل من فيه. وأمر صلاح الدين بهدم الحصن فألحق بالأرض وبلغ الخبر إلى الإفرنج وهم مجتمعون بطبرية لإمداده فافترقوا وانهزم الإفرنج والله سبحانه وتعالى أعلم. الفتنة بين صلاح الدين وقليج أرسلان صاحب الروم كان حصن زغبان من شمالي حلب قد ملكه نور الدين العادل بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم وهو بيد شمس الدين ابن المقدم. فلما انقطع حصن زغبان عن إيالة صلاح الدين وراء حلب طمع قليج أرسلان في استرجاعه فبعث إليه عسكراً يحاصرونه. وبعث صلاح الدين تقي الدين ابن أخيه في عسكر لمدافعتهم فلقيهم وهزمهم وعاد إلى عمه صلاح الدين. ولم يحضر معه تخريب حصن الأضرار. وكان نور الدين محمود بن قليج أرسلان بن داود صاحب حصن كيفا وآمد وغيرهما من ديار بكر قد فسد ما بينه وبين قليج أرسلان صاحب بلاد الروم بسبب أضراره ببنته وزواجه عليها. واعتزم قليج أرسلان على حربه وأخذ بلاده فاستنجد نور الدين بصلاح الدين وبعث إلى قليج أرسلان يشفع في شأنه فطلب استرجاع حصونه التي أعطاها لنور الدين عند المصاهرة. ولج في ذلك صلاح الدين على قليج وسار إلى زغبان ومر بحلب فتركها ذات الشمال وسلك على تل باشر. ولما انتهى إلى زغبان جاءه نور الدين محمود وأقام عنده. وأرسل إليه قليج أرسلان يصف فعل نور الدين وإضراره ببنته. فلما أذى الرسول رسالته امتعض صلاح الدين وتوعدهم بالمسير إلى بلده فتركه الرسول حتى سكن. وعدا عليه فطلب الخلوة وتلطف له في فسخ ما هو فيه من ترك الغزو ونفقة الأموال في هذا الغرض الحقير وأن بنت قليج أرسلان يجب على مثلك من الملوك الإمتعاض لها ولا تترك المضارة من دونها فعلم صلاح الدين الحق فيما قاله. وقال للرسول أن نور الدين استند إلى فعلك فأصلح الأمر بينهما وأنا معين على ما تحبونه جميعاً ففعل الرسول ذلك وأصلح بينهما. وعاد صلاح الدين إلى الشام ونور الدين محمود إلى ديار بكر وطلق ضرة بنت قليج أرسلان بالأجل الذي أجله للرسول والله تعالى أعلم. مسير صلاح الدين إلى بلاد ابن اليون كان قليج بن اليون من ملوك الأرض صاحب الدروب المجاورة لحلب وكان نور الدين محمود قد استخدمه وأقطع له في الشام. وكان يعسكره معه وكان جريئاً صاحب القسطنطينية. وملك وادقة والمصيصة وطرطوس من يد الروم وكانت بينهما من أجل ذلك حروب. ولما توفي نور الدين وانتقضت دولته أقام ابن اليون في بلاده وكان التركمان يحتاجون إلى رعي مواشيهم بأرضه على حصانتها وصعوبة مضايقها. وكان يأذن لهم فيدخلونها. وغدر بهم في بعض السنين واستباحهم واستاق مواشيهم. وبلغ الخبر إلى صلاح الدين منصرفه من زغبان فقصد بلده ونزل النهر الأسود. وبث الغارات ني بلادهم واكتسحها وكان لابن إليون حصن وفيه. ذخيرته فخشي عليه فقصد تخريبه. وسابقه إليه صلاح الدين فغنم ما فيه وبعث إليه ابن اليون برد ما أخذ من التركمان وإطلاق أسراهم على الصلح والرجوع عنه. فأجابه إلى ذلك وعاد عنه في منتصف سنة خمس وسبعين والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. كان البرنس أرناط صاحب الكرك من مردة الإفرنج وشياطينهم وهو الذي اختط مدينة الكرك. وقلعتها ولم تكن هنالك. واعتزم على غزو المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام. وسمع عز الدين فرخشاه بذلك وهو بدمشق فجمع وسار إلى الكرك سنة سبع وسبعين كل واكتسح نواحيه وأقام ليشغله عن ذلك الغرض حتى انقطع أمله وعاد إلى الكرك. فعاد فرخشاه إلى دمشق والله تعالى أعلم بغيبه. مسير سيف الإسلام طغركين بن أيوب إلى اليمن والياً عليها قد كان تقدم لنا فتح شمس الدولة توران شاه لليمن واستيلاؤه عليه سنة ثمان وستين. وأنه ولي على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزر وعلى عدن عز الدولة عثمان الزنجبيلي واختط مدينة تعز في بلاد اليمن واتخذها. كرسياً لملكه. ثم عاد إلى أخيه سنة اثنتين وسبعين وأدركه منصرفاً من حصار حلب فولاه على دمشق وسار إلى مصر. ثم ولاه أخوه صلاح الدين بعد ذلك مدينة الإسكندرية وأقطعه إياها مضافة إلى أعمال اليمن. وكانت الأموال تحمل إليه من زبيد وعدن وسائر ولايات اليمن. ومع ذلك فكان عليه دين قريب من مائتي ألف دينار مصرية وتوفي سنة ست وسبعين فقضاها عنه صلاح الدين. ولما بلغه خبر وفاته سار إلى مصر واستخلف على دمشق عز الدين فرخشاه ابن شاهنشاه. وكان سيف الدين مبارك بن كامل بن منقذ الكناني نائبه بزبيد قد تغلب في ولايته وتحكم في الأموال فنزع إلى وطنه واستأذن شمس الدولة قبل موته فأذن له في المجيء. واستأذن أخاه عطاف بن زبيد وأقام مع شمس الدولة حتى إذا مات بقي في خدمة صلاح الدين. وكان محشداً فسعى فيه عنده أنه احتجز أموال اليمن ولم يعرض له فتحيل أعداؤه عليه. وكان ينزل بالعدوية قرب مصر فصنع في بعض الأيام صنيعاً دعي أعيان الدولة واختلف مواليه وخدامه إلى مصر في شراء حاجتهم فتحيلوا لصلاح الدين أنه هارب إلى اليمن. فتمت حيلتهم فقبض عليه. ثم ضاق عليه الحال وصابره على ثمانين ألف دينار مصرية سوى ما أعلى لأهل الدولة فأطلقه وأعاده إلى منزلته فلما بلغ شمس الدين إلى اليمن اختلف نوابه بها حطان بن منقذ وعثمان بن الزنجبيلي. وخشي صلاح الدين أن تخرج اليمن عن طاعته فجهز جماعة من أمرائه إلى اليمن مع صارم الدين قطلغ أبيه والي مصر من أمرائه. فساروا لذلك سنة سبع وسبعين واستولى قطلغ أبيه على زبيد من حطان بن منقذ. ثم مات قريباً فعاد حطان إلى زبيد وأطاعه الناس وقوي على عثمان الزنجبيلي فكتب عثمان إلى صلاح الدين أن يبعث فجهز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغركين فسار إلى اليمن وخرج حطان بن منقذ من زبيد وتحصن في بعض القلاع ونزل سيف الإسلام زبيد وبعث إلى حطان بالأمان فنزله إليه وأولاه الإحسان. ثم طلق اللحاق بالشام فمنعه. ثم ألح عليه فأذن له حتى إذا خرج واحتمل رواحله وجاء ليودعه قبض عليه واستولى على ما معه. ثم حبسه في بعض القلاع فكان آخر العهد به. ويقال كان فيما أخذه سبعون حملاً من الذهب. ولما سمع عثمان الزنجبيلي خبر حطان خشي على نفسه وحمل أمواله في البحر ولحق بالشام. وبقيت مراكبه مراكب لسيف الإسلام فاستولى عليها. ولم يخلض إلا بما كان معه في طريقه وصفا اليمن لسيف الإسلام والله تعالى أعلم. دخول قلعة البيرة في إيالة صلاح الدين وغزوة الإفرنج وفتح بعض حصونهم مثل الشقيف والغرر و بيروت كانت قلعة البيرة من قلاع العراق لشهاب الدين بن أرتق وهو ابن عم قطب الدين الغازي بن أرتق صاحب ماردين وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام. ثم مات وملك البيرة بعده ابنه. ومات نور الدين فصار إلى طاعة عز الدين مسعود الموصل ثم وقع بين صاحب ماردين وصاحب الموصل من المخالصة والاتفاق ما وقع وطلب من عز الدين أن يأذن له في أخذ البيرة فأذن له فسار قطب الدين في عسكره إلى قلعة سميساط وأقام بها وبعث العسكر إلى البيرة وحاصرها. وبعث صاحبها يستنجد صلاح الدين ويكون له كما كان أبوه لنور الدين فشفع صلاح الدين إلى قطب الدين صاحب ماردين ولم يشفعه وشغل عنه بأمر الإفرنج. ورحلت عساكر قطب الدين عنها فرجع صاحبها إلى صلاح الدين وأعطاه طاعته وعاد في إيالته. ثم خرج صلاح الدين من مصر في محرم سنة ثمان وسبعين قاصداً الشام ومر بإيله وجمع الإفرنج لاعتراضه فبعث أثقاله مع أخيه تاج الملوك إلى دمشق ومال عن بلادهم فاكتسح نواحي الكرك والشوبك وعاد إلى دمشق منتصف صفر. وكان الإفرنج لما اجتمعوا على الكرك دخلوا بلادهم من نواحي الشام فخالفهم عز الدين فرخشاه نائب دمشق إليها واكتسح نواحيها وخرب قراها وأثخن فيهم قتلاً وسبياً وفتح الشقيف من حصونهم عنوة وكان له نكاية في المسلمين فبعث إلى صلاح الدين بفتحه فسر بذلك. ثم أراح صلاح بدمشق أياماً وسار في ربيع الأول من السنة وقصد طبرية وخيم بالأردن. واجتمعت الإفرنج على طبرية فسير صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه إلى بيسان فملكها عنوة واستباحها. وأغار على الغور فأثخن فيها قتلاً وسبياً. وسار الإفرنج من طبرية إلى جبل كوكب وتقدم صلاح الدين إليهم بعساكره فتحصوا بالجبل فأمر ابني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه ابني شاهنشاه فقاتلوا الإفرنج قتالاً شديداً. ثم تحاجزوا وعاد صلاح الدين إلى دمشق. ثم سار إلى بيروت فاكتسح نواحيها وكان قد استدعى الأسطول من مصر لحصارها فوافاه بها وحاصرها أياماً. ثم بلغه أن البحر قد قذف بدمياط مركباً للإفرنج فيه جماعة منهم جاؤوا لزيارة القدس فألقتهم الريح بدمياط وأسر منهم ألف وستمائة أسير ثم ارتحل عن بيروت إلى الجزيرة كما نذكره إن شاء الله تعالى. |
مسير صلاح الدين إلى الجزيرة واستيلاؤه
على حران والرها والرقة والخابور ونصيبين وسنجار وحصار الموصل كان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك الذي كان أبوه نائب القلعة بالموصل مستولياً في دولة مودود وبنيه وانتقل آخراً إلى إربل ومات بها. وأقطعه عز الدين صاحب الموصل ابنه مظفر الدين وكان هواه مع صلاح الدين يؤمله ملكه بلاد الجزيرة فراسله وهو محاصر لبيروت وأطمعه في البلاد واستحثه للوصول فسار صلاح الدين عن بيروت مورياً بحلب وقصد الفرات ولقيه مظفر الدين وساروا إلى البيرة وقد دخل طاعة عز الدين وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما مسير صلاح الدين إلى الشام ظنوا أنه يريد حلب فساروا لمدافعته. فلما عبر الفرات عادوا إلى الموصل وبعثوا حامية إلى الرها. وكاتب صلاح الدين ملوك الأطراف بديار بكر وغيرها والمقاربة. ووعد نور الدين محموداً صاحب كيفا أنه يملكه آمد. ووصل إليه فساروا إلى مدينة الرها فحاصروها وبها يومئذ الأمير فخر الدين بن مسعود الزعفراني. واشتد عليه القتال فاستأمن إلى صلاح الدين وملكه المدينة وحاصر معه القلعة حتى سلمها النائب الذي بها مال شرطه فأضافها صلاح الدين إلى مظفر الدين مع حران وساروا إلى الرقة وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي ففارقها إلى الموصل وملكها صلاح الدين. ثم سار إلى قرقيسيا ومأسكين وعربان وهي بلاد الخابور فاستولى على جميعها. وسار إلى نصيبين فملك المدينة لوقتها وحاصر القلعة أياماً ثم ملكها وأقطعها للأمير أبي الهيجاء السمين. ثم رحل عنها ونور الدين صاحب كيفا معه معتزماً على قصد الموصل. وجاءه الخبر بأن الإفرنج أغاروا على نواحي دمشق واكتسحوا قراها وأرادوا تخريب داريا قتوعدهم نائب دمشق بتخريب بيعهم وكنائسهم فتركوه فلم يثن ذلك من عزمه وقصد الموصل وقد جمع صاحبها العساكر واستعد للحصار وخلى نائبه في الإستعداد. وبعث إلى سنجار وإربل وجزيرة ابن عمر فشحنها بالإمداد من الرجال والسلاح والأموال وأنزل صاحب الدار عساكره بقربها وتقدم هو ومظفر الدين وابن شيركوه فهالهم استعداد البلد وأيقنوا بامتناعه وعذل صاحبيه هذين فإنهما كانا أشارا بالبداءة بالموصل. ثم أصبح صلاح الدين من الغد في عسكره ونزل عليه أول رجب على باب كندة وأنزل صاحب الحصن باب الجسر وأخاه تاج الملوك بالباب العمادي وقاتلهم فلم يظفر. وخرج بعض الرجال فنالوا منه. ونصب منجنيقاً فنصبوا عليه من البلد تسعة. ثم خرجوا إليه من البلد فأخذوه بعد قتال كثير. وخشي صلاح الدين من البيات فتأخر لأنه رآهم في بعض الليالي يخرجون من باب الجسر بالمشاعل ويرجعون. وكان صدر الدين شيخ الشيوخ ومشير الخادم وقد وصلا من عند الخليفة الناصر في الصلح. وترددت الرسل بينهم فطلب عز الدين من صلاح الدين رد ما أخذه من بلادهم فأجاب. على أن يمكنوه من حلب فامتنع فرجع إلى ترك مظاهرة صاحبها فامتنع أيضاً. ثم وصلت أيضاً رسل صاحب أذربيجان ورسل شاهرين صاحب خلاط في الصلح فلم يتم وسار أهل سنجار يعترضون من يقصده من عساكره وأصحابه فأفرج عن الموصل وسار إليها وبها شرف الدين أمير أميران هند وأخوه عز الدين صاحب الموصل في عسكر. وبعث إليه مجاهد الدين النائب بعسكر آخر مدداً وحاصرها صلاح الدين وضيق عليها واستمال بعض أمراء الأكراد الذين بها من الزواوية فواعده من ناحيته. وطرقه صلاح الدين فملكه البرج الذي في ناحيته فاستأمن أمير أميران وخرج عسكره معه إلى الموصل. وملك صلاح الدين سنجار وولي عليها سعد الدين بن معين الدين الذي كان أبوه عند كامل بن طغركين بدمشق. وصارت سنجار من سائر البلاد التي ملكها من الجزيرة. وسار صلاح الدين إلى نصيبين فشكا إليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله عنهم واستصحبه معه وسار إلى حران في ذي القعدة من سنة ثمان وسبعين. وفرق عساكره ليستريحوا وأقام في خواصه وكبار أصحابه والله أعلم. مسير شاهرين صاحب خلاط لنجدة صاحب الموصل كان عز الدين قد أرسل إلى شاهرين يستنجده على صلاح الدين فبعث إليه عدة رسل شافعاً في أمره فلم يشفعه وغالطه فبعث إليه مولاه آخراً سيف الدين بكتمر وهو على سنجار يسأله في الإفراج عنها فلم يجبه إلى ذلك. وسوفه رجاء أن يفوتها فأبلغه بكتمر الوعيد عن مولاه وفارقه مغاضباً ولم يقبل صلته وأغراه بصلاح الدين فسار شاهرين من مخيمه بظاهر خلاط إلى ماردين وصاحبها يومئذ ابن أخته وابن خال عز الدين وصهره على بنته وهو قطب الدين نجم الدين. وسار إليهم أتابك عز الدين صاحب الموصل. وكان صلاح الدين في حران منصرفه من سنجار. وفرق عساكره فلما سمع باجتماعهم استدعى تقي الدين ابن أخيه شاهنشاه من حماة ورحل إلى رأس عين فافترق القوم وعاد كل إلى بلده. وقصد صلاح الدين ماردين فأقام واقعة الإفرنج في بحر السويس كان البرنس أرناط صاحب الكرك قد أنشأ أسطولاً مفصلاً وحمل أجزاءه إلى صاحب أيلة وركبه على ما تقتضيه صناعة النشابة وقذفه في السويس وشحنه بالمقاتلة وأقلعوا في البحر. ففرقة أقاموا على حصن أيلة يحاصرونه وفرقة ساروا نحو عيذاب وأغاروا على سواحل الحجاز وأخذوا ما وجدوا بها من مراكب التجار. وطرق الناس منهم بلية لم يعرفونها لأنه لم يعهد ببحر السويس إفرنجي محارب ولا تاجر وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب نائباً عن أخيه صلاح الدين فعمر أسطولاً وشحنه بالمقاتلة وسار به حسام الدين لؤلؤ الحاجب قائد الأساطيل بديار مصر فبدأ بأسطول الإفرنج الذي يحاصر أيلة فمزقهم كل ممزق. وبعد الظفر بهم أقلع في طلب الآخرين وانتهى إلى عيذاب فلم يجدهم فرجع إلى رابغ وأدركهم بساحل الحوراء وكانوا عازمين على طروق الحرمين واليمن والإغارة على الحاج. فلما أظل عليهم لؤلؤ بالأسطول أيقنوا بالتغلب وتراموا على الحوراء وأسلموا إليها واعتصموا بشعابها. ونزل لؤلؤ من مراكبه وجمع خيل الأعراب هنالك وقاتلهم فظفر بهم وقتل أكثرهم وأسر الباقين فأرسل بعضهم إلى منى فقتلوا بها أيام النحر وعاد بالباقين إلى مصر والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء. ثم توفي عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه أخو صلاح الدين النائب عنه بدمشق وكان خليفته في أهله ووثوقه به أكثر من جميع أصحابه. وخرج من دمشق غازياً الإفرنج وطرقه المرض. وعاد فتوفي في جمادى سنة ثمان وسبعين. وبلغ خبره صلاح الدين وقد عبر الفرات إلى الجزيرة والموصل فأعاد شمس الدين محمد بن المقدم إلى دمشق وجعله نائباً فيها واستمر لشأنه والله تعالى يورث الملك لمن يشاء من عباده. استيلاء صلاح الدين على آمد وتسليمها لصاحب كيفا قد تقدم لنا مسير صلاح الدين إلى ماردين وإقامته عليها أياماً من نواحيها ثم ارتحل عنها إلى آمد كما كان العهد بينه وبين نور الدين صاحب كيفا فنازلها منتصف ذي الحجة وبها بهاء الدين بن بيسان فحاصرها وكانت غاية في المنعة وأساء ابن بيسان التدبير وقبض يده عن العطاء وكان أهلها قد ضجروا منه لسوء سيرته وتضييقه عليهم في مكاسبهم. وكتب إليهم صلاح الدين بالترغيب والترهيب فتخاذلوا عن ابن بيسان وتركوا القتال معه ونقب السور من خارج بيت ابن بيسان وأخرج نساءه مع القاضي الفاضل يستميل إليه صلاح الدين ويؤجله ثلاثة أيام للرحلة فأجابه صلاح الدين وملك البلد في عاشوراء سنة تسع وسبعين. وبنى خيمة بظاهر البلد ينقل إليها ذخيرته فلم يلتفت الناس إليه وتعذر عليه أمره فبعث إلى صلاح الدين يسأله الإعانة فأمر له بالدواب والرجال فنقل في الأيام الثلاثة كثيراً من موجوده. ومنع بعد انقضاء الأجل عن نقل ما بقي. ولما ملكها صلاح الدين سلمها لنور الدين صاحب كيفا وأخبر صلاح الدين بما فيها من الذخائر لينقلها لنفسه فأبى. وقال ما كنت لأعطي الأصل وأبخل بالفرع ودخل نور الدين البلد ودعا صلاح الدين وأمراءه إلى صنيع صنعه لهم وقدم لهم من التحف والهدايا ما يليق بهم وعاد صلاح الدين والله تعالى أعلم. استيلاء صلاح الدين على تل خالد وعنتاب ولما فرغ صلاح الدين من آمد سار إلى أعمال حلب فحاصر تل خالد ونصب عليه المجانيق حتى تسلمه بالأمان في محرم سنة تسع وسبعين. ثم سار إلى عنتاب فحاصرها وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين العادل وصاحبه. وهو الذي ولاه عليها فطلب من صلاح الدين أن يقرها بيده ويكون في طاعته فأجابه إلى ذلك وحلف له. وسار في خدمته وغنم المسلمون خلال ذلك مغانم فمنها في البحر سار أسطول مصر فلقي في البحر مركباً فيه نحو ستمائة من الإفرنج بالسلاح والأموال قاصدون الإفرنج بالشام فظفروا بهم وغنموا ما معهم وعادوا إلى مصر سالمين. ومنها في البر أغار بالدارون جماعة من الإفرنج ولحقهم المسلمون بأيلة واتبعوهم إلى العسيلة وعطش المسلمون فأنزل الله تعالى عليهم المطر حتى رووا. وقاتلوا الإفرنج فظفروا بهم هنالك واستلحموهم واستقاموا معهم وعادوا سالمين إلى مصر والله أعلم. استيلاء صلاح الدين على حلب وقلعة حارم كان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين العادل صاحب حلب لم يبق له من الشام غيرها وهو يدافع صلاح الدين عنها فتوفي منتصف سنة سبع وسبعين وعهد لابن عمه عز الدين صاحب الموصل وسار عز الدين صاحب الموصل مع نائبه مجاهد الدين قايماز إليها فملكها. طلبها منه أخوه عماد الدين صاحب سنجار على أن يأخذ عنها سنجار إلى ذلك وأخذ عز الدين سنجار وعاد إلى الموصل. وسار عماد الدين إلى حلب فملكها وعظم ذلك على صلاح الدين وخشي أن يسير منها إلى دمشق. وكان بمصر سار إلى الشام وسار منها إلى الجزيرة وملك ما ملك منها وحاصر الموصل ثم حاصر آمد وملكها. ثم سار إلى أعمال حلب كما ذكرناه فملك تل خالد وعنتاب. ثم سار حلب وحاصرها في محرم سنة تسع وسبعين ونزل الميدان الأخضر أياماً. ثم انتقل إلى جبل جوشق وأظهر البقاء عليها وهو يغاديها القتال ويراوحها وطلب عماد الدين جنده في العطاء وضايقوه في تسليم حلب لصلاح الدين. وأرسل إليه في ذلك الأمر طومان الباروقي وكان يميل إلى صلاح الدين فشارطه على سنجار ونصيبين والرقة والخابور وينزل له عن حلب. وتحالفوا على ذلك وخرج عنها عماد الدين ثامن عشر صفر من السنة إلى هذه البلاد. ودخل صلاح الدين حلب بعد أن شرط على عماد الدين أن يعسكر معه متى عاد. ولما خرج عماد الدين إلى صلاح الدين صنع له دعوة احتفل فيها وانصرف وكان فيمن هلك في حصار حلب تاج الملوك نور الدين أخو صلاح الدين الأصغر أصابته جراحة فمات منها بعد الصلح وقبل أن يدخل صلاح الدين البلد. ولما ملك صلاح الدين حلب سار إلى قلعة خارم وبها الأمير طرخك من موالي نور الدين العادل وكان عليها ابنه الملك الصالح فحاصره صلاح الدين ووعده وترددت الرسل بينهم وهو يمنع وقد أرسل إلى الإفرنج يدعوهم للانجاد وسمع بذلك الجند الذين معه فوثبوا به وحبسوه. واستأمنوا إلى صلاح الدين فملك الحصن وولى عليه بعض خواصه. وقطع تل خالد الباروقي صاحب تل باشر. وأما قلعة إعزاز فإن عماد الدين إسماعيل كان خربها فأقطعها صلاح الدين سليمان بن جسار وأقام بحلب إلى أن قضى جميع أشغالها وأقطع أعمالها وسار إلى دمشق والله تعالى أعلم. |
غزوة بيسان
ولما فرغ صلاح الدين من أمر حلب ولى عليها ابنه الظاهر غازي ومعه الأمير سيف الدين تاوكج كافلاً له لصغره وهو أكبر الأمراء الأسدية. وسار إلى دمشق فتجهز للغزو وجمع عساكر الشام والجزيرة وديار بكر وقصد بلاد الإفرنج فعبر الأردن منتصف سبع وسبعين وأجفل أهل تلك الأعمال أمامه فقصد بيسان وخربها وأحرقها وأغار على نواحيها واجتمع الإفرنج له. فلما رأوه خاموا عن لقائه واستندوا إلى جبل وخندقوا عليهم وأقام يحاصرهم خمسة أيام ويستدرجهم للنزول فلم يفعلوا فرجع المسلمون عنهم وأغاروا على تلك النواحي وامتلأت أيديهم بالغنائم وعادوا إلى بلادهم والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. غزو الكرك وولاية العادل على حلب ولما عاد صلاح الدين من غزوة بيسان تجهز لغزو الكرك وسار في العساكر واستدعى أخاه العادل أبا بكر بن أيوب من مصر وهو نائبها ليلحق به على الكرك وكان قد سأله في ولاية حلب وقلعتها فأجابه إلى ذلك وأمره أن يجيء بأهله وماله فوافاه على الكرك وحاصروه أياماً وملكوا أرباضه ونصبوا عليها المجانيق ولم يكن بالغ في الاستعداد لحصاره لظنه أن الإفرنج يدافعون عنه فأفرج عنه منتصف شعبان وبعث تقي الدين ابن أخيه شاه على نيابة مصر مكان أخيه العادل واستصحب العادل معه إلى دمشق فولاه مدينة حلب ومدينة منبج وما إليها وبعثه بذلك في شهر رمضان من السنة. واستدعى ولده الظاهر غازي من حلب إلى دمشق. ثم سار في ربيع الآخر من سنة ثمانين لحصار الكرك بعد أن جمع العساكر واستدعى نور الدين صاحب كيفا وعساكر مصر واستعد لحصاره ونصب المجانيق على ربضه فملكه المسلمون وبقي الحصن وراء خندق بينه وبين الربض عمقه ستون ذراعاً. وراموا طمه فنضحوهم بالسهام ورموهم بالحجارة فأمر برفع السقف ليمشي المقاتلة تحتها إلى الخندق. وأرسل أهل الحصن إلى ملكهم يستمدونه ويخبرونه بما نزل بهم فاجتمع الإفرنج وأوعبوا وساروا إليهم فرحل صلاح الدين للقائهم حتى انتهى إلى حزونة الأرض فأقام ينتظر خروجهم إلى البسيط فخاموا عن ذلك فتأخر عنهم فراسخ ومروا إلى الكرك. وعلم صلاح الدين أن الكرك قد امتنع بهؤلاء فتركه وسار إلى نابلس فخربها وحرقها وسار إلى سنطية وبها مشهد زكرياء عليه السلام فاستنقذ من وجد بها من أسارى المسلمين ورحل إلى جينين فنهبها وخربها. وسار إلى دمشق بعد أن بث السرايا في كل ناحية ونهب كل ما مر به وامتلأت الأيدي من الغنائم وعاد إلى دمشق مظفراً والله تعالى أعلم. حصار صلاح الدين الموصل ثم سار صلاح الدين من دمشق إلى الجزيرة في ذي القعدة من سنة ثمان وعبر الفرات. وكان مظفر الدين كوكبري علي كجك يستحثه للمسير إلى الموصل في كل وقت وربما وعده بخمسين ألف دينار إذا وصل. فلما وصل إلى حران لم يف له فقبض عليه ثم خشي معيرة أهل الجزيرة فأطلقه وأعاد عليهم حران والرها. وسار في ربيع الأول ولقيه نور الدين صاحب كيفا ومعز الدين سنجار شاه صاحب جزيرة ابن عمر وقد انحرف عن عمه عز الدين صاحب الموصل بعد نكبة مجاهد الدين نائبه. وساروا كلهم مع صلاح الدين إلى الموصل وانتهوا إلى مدينة بلد فلقيه هنالك أم عز الدين وابنة عمه نور الدين وجماعة من أهل بيته يسألونه الصلح ظناً بأنه لا يردهن وسيما بنت نور الدين. واستشار صلاح الدين أصحابه فأشار الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب بردهن وساروا إلى الموصل وقاتلوها واستمات أهلها وامتعضوا لرد النساء فامتنعت عليهم وعاد على أصحابه باللوم في إشارتهم. وجاء زين الدين يوسف صاحب إربل وأخوه مظفر الدين كوكبري فأنزلهما بالجانب الشرقي. وبعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجزيرة ليحاصرها فاجتمع عليه الأكراد الهكارية إلى أن عاد صلاح الدين عن الموصل وبلغ عز الدين أن نائبه بالقلعة زلقندار يكاتب صلاح الدين فمنعه منها وانحرف عنه إلى الاقتداء برأي مجاهد الدين وتصدر عنه. ثم بلغه خبر وفاة شاهرين صاحب خلاط فطمع صلاح الدين في ملكها وأنه يستعين بها على أموره. ثم جاءته كتب أهلها يستدعونه فسار عن الموصل إليها وكان أهل خلاط إنما كاتبوه مكرا لأن شمس الدين البهلوان بن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان قصده تملكهم بعد أن كان زوج ابنته من شاهرين على كبره وجعل ذلك ذريعة إلى ملك خلاط. فلما سار إليهم كاتبوا صلاح الدين ودافعوا كلا منهما بالآخر فسار صلاح الدين وفي مقدمته ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين صاحب إربك وغيرهما. وتقدموا إلى خلاط وتقدم صاحب أذربيجان فنزل قريباً من خلاط. وترددت رسل أهل خلاط بينه وبين البهلوان ثم خطبوا للبهلوان والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. استيلاء صلاح الدين على ميافارقين ولما خطب أهل خلاط للبهلوان وصلاح الدين على ميافارقين وكانت لقطب الدين صاحب ماردين فتوفي وملك ابنه طفلاً صغيراً بعده ورد أمرها إلى شاهرين صاحب خلاط. وأنزل بها عسكره فطمع فيها صلاح الدين بعد وفاة شاهرين وحاصرها من أول جمادى سنة إحدى وثمانين وعلى أجنادها الأمير أسد الدين برنيقش فأحسن الدفاع وكان بالبلد زوجة قطب الدين المتوفى ومعها بناتها منه وهي أخت نور الدين صاحب كيفا فراسلها صلاح الدين بأن برنيقش قد مال إليها في تسليم البلد ونحن ندعي حق أخيك نور الدين فأزوج بناتك من أبنائي وتكون البلد لنا. ووضع على برنيقش من أخبره بأن الخاتون مالت إلى صلاح الدين وأن أهل خلاط كاتبوه. وكان خبر أهل خلاط صحيحاً فسقط في يده وبعث في التسليم على شروط اشترطها من إقطاع ومال. وسلم البلد فملكها صلاح الدين وعقد النكاح لبعض ولده على بعض بنات خاتون. وأنزلها وبناتها بقلعة هقناج وعاد إلى الموصل ومر بنصيبين وانتهى إلى كفر أرمان وأعتزم على أن يشتو به ويقطع جميع ضياع الموصل ويجبي أعمالها ويكتسح غلاتها. وجنح مجاهد الدين إلى مصالحته وترددت الرسل في ذلك على أن يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية الغرابلي وما وراء الزاب من الأعمال. ثم طرقه المرض فعاد إلى حران وأدركه الرسل بالإجابة إلى ما طلب فانعقد هنالك وتحالفوا وتسلم البلاد وطال مرضه بحران وكان عنده أخوه العادل وبيده حلب وبها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين. واشتد به المرض فقسم البلاد بين أولاده وأوصى أخاه العادل على الجميع. وعاد إلى دمشق في محرم سنة اثنتين ثمانين وكان عنده بحران ناصر الدين محمد بن عمه شيركوه ومن اقطاعه حمص والرحبة فعاد قبله إلى حمص ومر بحلب وصانع جماعة من أمرائها على أن يقوموا بدعوته إن حدث بصلاح الدين أمر. وبلغ إلى حمص فبعث إلى أهل دمشق بمثل ذلك وأفاق صلاح الدين من مرضه ومات ناصر الدين ليلة الأضحى ويقال دس عليه من سمه وورث أعماله ابنه شيركوه وهو ابن اثنتي عشرة سنة والله تعالى أعلم. قسمة صلاح الدين الأعمال بين ولده وأخيه كان ابنه العزيز عثمان بحلب في كفالة أخيه العادل وابنه الأكبر الأفضل علي بمصر في كفالة تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه بعثه إليها عندما استدعى العادل منها كما مر. فلما مرض بحران أسف على كونه لم يول أحداً من ولده استقلالاً وسعى إليه بذلك بعض بطانته. فبعث ابنه عثمان العزيز إلى مصر في كفالة أخيه العادل كما كان بحلب. ثم أقطع العادل حران والرها وميافارقين من بلاد الجزيرة وترك عثمان ابنه بمصر. ثم بعث عن ابنه الأفضل وتقي الدين ابن أخيه فامتنع تقي الدين من الحضور واعتزم على المسير إلى المغرب واللحاق بمولاه قراقوش في ولايته التي حصلت له بطرابلس والجريد من إفريقية فراسله صلاح الدين ولاطفه. ولما وصل أقطعه حماة ومنبج والمعرة وكفر طاب وجبل جوز وسائر أعمالها. وقيل إن تقي الدين لما أرجف بمرض صلاح الدين وموته تحرك في طلب الأمر لنفسه وبلغ ذلك صلاح الدين فأرسل الفقيه عيسى الهكاري وكان مطاعاً فيهم وأمره بإخراج تقي الدين من مصر والمقام بها فسار ودخلها على حين غفلة. وأمر تقي الدين بالخروج فأقام خارج البلد وتجهز للمغرب فراسله اتفاق القمص صاحب طرابلس مع صلاح الدين ومنابذة البرنس صاحب الكرك له وحصاره والإغارة على عكا كان القمص صاحب طرابلس وهو ريمند بن ريمند بن صنجيل تزوج بالقومصة صاحبة طبرية وانتقل إليها فأقام عندها ومات ملك الإفرنج بالشام وكان مجذوماً كما مر وأوصى بالملك لابن أخيه صغيراً فكفله هذا القمص وقام بتدبير ملكه لعظمه فيهم وطمع أن تكون كفالته ذريعة إلى الملك. ثم مات الصغير فانتقل الملك إلى أبيه ويئس القمص عندها مما كان يحدث به نفسه. ثم إن الملكة تزوجت ابن غتم من الإفرنج القادمين من المغرب وتوجته وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والاسبتارية والداوية والبارونية وأشهدتهم خروجها له عن الملك. ثم طولب القمص بالجباية أيام كفالته الصبي فأنف وغضب وجاهر بالشقاق لهم. وراسل صلاح الدين وسار إلى ولايته وخفف له على مصره من أهل ملته. وأطلق له صلاح الدين جماعة من زعماء النصارى كانوا أسارى عنده فازداد غبطة بمظاهرته. وكان ذلك ذريعة لفتح بلادهم وارتجاع القدس منهم. وبث صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية في سائر بلاد الإفرنج فاكتسحوها وعادوا غانمين وذلك كله سنة اثنتين وثمانين. وكان البرنس أرناط صاحب الكرك من أعظم الإفرنج مكراً وأشدهم ضرراً. وكان صلاح الدين قد سلط الغارة والحصار على بلده حتى سأل في الصلح فصالحه فصلحت السابلة بين الأمتين. ثم مرت في هذه السنة قافلة كثيرة التجار والجند فغدر بهم وأسر وأخذ ما معهم وبعث إليه صلاح الدين فأصر على غدرته فنذر أنه يقتله إن ظفر به واستنفر الناس للجهاد من سائر الأعمال من الموصل والجزيرة وإربل ومصر والشام. وخرج من دمشق في محرم سنة ثلاث وثمانين وانتهى إلى رأس الماء. وبلغه أن البرنس أرناط صاحب الكرك يريد أن يتعرض للحاج من الشام وكان معهم ابن أخيه محمد بن لاجين وغيره فترك من العساكر مع ابنه الأفضل علي وسار إلى بصرى. وسمع البرنس بمسيره فأحجم عن الخروج ووصل الحاج سالمين. وسار صلاح الدين إلى الكرك وبث السرايا في أعمالها وأعمال الشوبك فاكتسحوهما. والبرنس محصور بالكرك وقد عجز الإفرنج عن إمداده لمكان العساكر مع الأفضل بن صلاح الدين. ثم بعث صلاح الدين إلى ابنه الأفضل فأمره بإرسال بعث إلى عكا ليكتسحوا نواحيها فبعث مظفر الدين كوكبري صاحب حران والرها وقايماز النجمي وداروم الياروقي وساروا في آخر صفر فصبحوا صفورية وبها جمع من الفداوية والاسبتارية فبرزوا إليهم. وكانت بينهم حروب شديدة تولى الله النصر فيها للمسلمين وانهزم الإفرنج وقتل مقدمهم وامتلأت أيدي المسلمين من الغنائم وانقلبوا ظافرين. ومروا بطبرية وبها القمص فلم يهجهم لما تقدم بينه وبين صلاح الدين من الولاية جمظم هذا الفتح وسار البشير به في البلاد والله تعالى أعلم. |
هزيمة الإفرنج وفتح طبرية ثم عكا
ولما انهزم الفداوية والاسبتارية بصفورية ومر المسلمون بالغنائم على القمص ريمند بطبرية ووصلت البشائر بذلك إلى صلاح الدين عاد إلى معسكره الذي مع ابنه ومر بالكرك واعتزم على غزو بلاد الإفرنج فاعترض عساكره وبلغه أن القمص ريمند قد راجع أهل ملته ونقض عهده معه. وأن البطرك والقسيس والرهبان أنكروا عليه مظاهرته مسلمين ومرور عساكرهم به بأسرى النصارى وغنائمهم. ولم يعترضهم مع إيقاعهم بالفداوة والإستبارية أعيان الملة وتهددوه بإلحاق كلمة الكفر به فتنصل وراجع رأيه واعتذر فقبلوا عذره وخلص لكفره وطواغيته فجددوا الحلف والاجتماع. وساروا من عكا إلى صفورية وبلغ الخبر إلى صلاح الدين. وشاور أصحابه فمنهم من أشار بترك اللقاء وشن الغارات عليهم حتى يضعفوا. ومنهم من أشار باللقاء لنزول عكا واستيفاء ما فعلوه في المسلمين بالجزيرة فاستصوبه صلاح الدين واستعجل لقاءهم. ثم رحل من الأقحوانه أواخر رمضان فسار حتى خلف طبرية وتقدم إلى معسكر الإفرنج فلم يفرقوا خيامهم. فلما كان الليل أقام طائفة من العسكر إلى طبرية فملكها من ليلته عنوة ونهبها وأحرقها. وامتنع أهلها بالقلعة ومعهم الملكة وأولادها فبلغ الخبر إلى الإفرنج فضج القمص وعمد إلى الصلح. وأطال القول في تعظيم الخطب وكثرة المسلمين فنكر عليه البرنس صاحب الكرك واتهمه ببقائه على ولاية صلاح الدين. واعتزموا على اللقاء ووصلوا من مكانهم لقصد المعسكر وعاد صلاح الدين إلى معسكره وبعدت المياه من حوالي الإفرنج وعطشوا ولم يتمكنوا من الرجوع فركبهم صلاح الدين دون قصدهم. واشتدت الحرب وصلاح الدين يجول بين الصفوف يتفقد أحوال المسلمين. ثم حمل القمص على ناحية تقي الدين عمر بن شاه حملة استمات فيها هو وأصحابه فأفرج له الصف وخلص من تلك الناحية إلى منجاته وأختين مصاف الإفرنج وتابعوا الحملات. وكان بالأرض هشيم أصابه شرر فاضطرم ناراً فجهدهم لفحها ومات جلهم من العطش فوهنوا وأحاط بهم المسلمون من كل ناحية فارتفعوا إلى تل بناحية حطين لينصبوا خيامهم به فلم يتمكنوا إلا من خيمة الملك فقط والسيف يجول فيهم مجاله حتى في أكثرهم ولم يبق إلا نحو المائة والخمسين من خلاصة زعمائهم مع ملكهم. والمسلمون يكرون عليهم مرة بعد أخرى حتى ألقوا ما بأيديهم وأسروا الملك وأخاه البرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جبيل وابن هنفري ومقدم الفداوية وجماعة من الفداوية والاستبارية. ولم يصاحبوا منذ ملكوا هذه البلاد أعوام التسعين والأربعمائة بمثل هذه الوقعة. ثم جلس صلاح الدين في خيمته وأحضر هؤلاء الأسرى فقرع الملك ووبخه بعد أن أجلسه إلى جانبه وفاء بمنصب الملك وقام إلى البرنس فتولى قتله بيده حرصاً على الوفاء بنذره بعد أن عرفه بغدرته وبجسارته على ما كان يرومه في الحرمين وحبس الباقين. وأما القمص صاحب طرابلس فنجا كما ذكرناه إلى بلده ثم مات لأيام قلائل أسفاً. ولما فرغ صلاح الدين من هزيمتهم نهض إلى طبرية فنازلها واستأمنت إليه الملكة بها فأمنها في ولدها وأصحابها ومالها وخرجت إليه فوفى لها وبعث الملك وأعيان الأسرى إلى دمشق فحبسوا بها. وجمع أسرى الفداوية والاسبتارية بعد أن بذل لمن يجده منهم من المقاتلة خمسين ديناراً مصرية لكل واحد وقتلهم أجمعين. قال ابن الأثير ولقد اجتزت بمكان الواقعة بعد سنة فرأيت عظامهم ماثلة على البعد أجحفتها السيول ومزقتها السباع. ولما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها إلى عكا فنازلها واعتصم الإفرنج الذين بها بالأسوار وشادوا بالاستئمان فأمنهم وخيرهم فاختاروا الرحيل فحملوا ما أقلته رحالهم ودخلها صلاح الدين غرة جمادى سنة ثلاث وثمانين. وصلوا في جامعها القديم الجمعة يوم دخلوهم فكانت أول جمعة أقيمت بساحل الشام بعد استيلاء الإفرنج عليه. وأقطع صلاح الدين بلد عكا لابنه الأفضل وجميع ما كان فيه للفداوية من أقطاع وضياع. ووهب للفقيه عيسى الهكاري كثيراً مما عجز الإفرنج عن حمله وقسم الباقي على أصحابه. ثم قسم الأفضل ما بقي في أصحابه بعد مسير صلاح الدين. ثم أقام صلاح الدين أياماً حتى أصلح أحوالها ورحل عنها والله تعالى أعلم. فتح يافا وصيدا وجبيل وبيروت وحصون عكا لما هزم صلاح الدين الإفرنج كتب إلى أخيه العادل بمصر يسيره ويأمره بالمسير إلى جهات الإفرنج من جهات مصر فنازل حصن مجدل وفتحه وغنم ما فيه ثم سار إلى مدينة يافا ففتحها عنوة واستباحها وكان صلاح الدين أيام مقامه بعكا بعث بعوثه إلى قيساريه وحيفا وأسطورية وبعلبك وشقيف وغيرها في نواحي عكا فملكوها واستباحوها وامتلأت أيديهم من غنائمها وبعث حسام الدين عمر بن الأصعن في عسكر إلى نابلس فملك سسطية مدينة الأسباط وبها قبر زكريا عليه السلام. ثم سار إلى مدينة نابلس فملكها واعتصم الإفرنج الذين بها بالقلعة فأقرهم على أموالهم. وبعث تقي الدين عمر ابن شاهنشاه إلى تبنين ليقطع الميرة عنها وعن صور فوصل إليها بصرخد فملكها بعد قتال. وجاء الخبر بفرار صاحب صيدا فسار وملكها آخر جمادى الأولى من السنة. ثم سار من يومه إلى بيروت وقاتلها من أحد جوانبها فتوهموا أن المسلمين دخلوا عليهم من الجانب الآخر فاهتاجوا لذلك فلم يستقروا ولا قدروا على تسكين الهيعة كثرة ما معهم من أخلاط السواد فاستأمنوا إليه. وملكها آخر يوم من جمادى لثمانية أيام من حصارها. وكان صاحب جبيل أسيراً بدمشق فضمن لنائبها تسليم جبيل لصلاح الدين على أن يطلقه فاستدعاه وهو محاصر لبيروت وسلم الحصن وأطلقه وكان من أعيان الإفرنج وأولي الرأي منهم والله تعالى أعلم. وصول المركيش إلى صور وامتناعه بها كان القمص صاحب طرابلس لما نجا من هزيمة لحق بمدينة صور وأقام بها يريد حمايتها ومنعها من المسلمين فلما ملك صلاح الدين نسيس وصيدا وبيروت ضعف عزمه عن ذلك ولحق ببلده طرابلس. وبقيت صيدا وصور بدون حامية. وجاء المركيش من تجار الإفرنج من المغرب في كثرة وقوة فأرسى بعكا ولم يشعر بفتحها. وخرج إليه الرائد فأخبره بمكان الأفضل بن صلاح الدين فيها وأن صور وعسقلان باقية للإفرنج فلم يطق الإقلاع إليهما لركود الريح فشغلهم بطلب الأمان ليدخل المرسى. ثم طابت ريحه وجرت به إلى صور وأمر الأفضل بخروج الشواني في طلبه فلم يدركوه حتى دخل مرسى صور فوجد بها أخلاطاً كثيرة من فل الحصون المفتتحة فجاؤوا إليه وضمن لهم حفظ المدينة وبذل أمواله في الأنفاق عليها على أن تكون هي وأعمالها له دون غيره وأستحلفهم على ذلك. ثم قام بتدبير أحوالها وشرع في تحصينها فحفر الخنادق ورم الأسوار واستبد بها والله سبحانه وتعالى أعلم. فتح عسقلان وما جاورها ولما ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وتلك الحصون صرف عمته إلى عسقلان والقدس لعظم شأن القدس ولأن عسقلان مقطع بين الشام ومصر فسار عن بيروت إلى عسقلان ولحق به أخوه العادل في عساكر مصر. ونازلها أوائل جمادى الأخيرة. استدعى ملك الإفرنج ومقدم الراية وكانا أسيرين بدمشق فأحضرهما أمرهما بالإذن للإفرنج بعسقلان في تسليمها فلم يجيبوا إلى ذلك أساؤوا الرد عليهما فاشتد في قتالهم ونصب المجانيق عليهم وملكهم يردد الرسائل إليهم في التسليم عساه ينطلق وبأخذ بالثأر من المسلمين فلم يجيبوه. ثم جهدهم الحصار وبعد عليهم الصريخ فاستأمنوا إلى صلاح الدين على شروط اشترطوها كان أهمها عندهم أن يمنعهم من المهرانية بما قتلوا أميرهم في الحصار فأجابهم إلى جميع ما اشترطوه. وملك المدينة منتصف السنة لأربعة عشر يوماً من حصارها وخرجوا بأهليهم وأموالهم وأولادهم إلى القدس ثم بعث السرايا في تلك الأعمال ففتحوا الرملة والداروم وغزة ومدن الخليل وبيت لحم والنطرون وكل ما كمان للفداوية. وكان أيام حصار عسقلان قد بعث عن أسطول مصر فجاء به حسام الدين لؤلؤ الحاجب وأقام يغير على مرسى عسقلان والقدس ويغنم جميع ما يقصده من النواحي والله سبحانه وتعالى يؤيد من يشاء بنصره. فتح القدس ولما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها سار إلى بيت المقدس وبها البطرك الأعظم وبليان بن نيزران صاحب الرملة وربيسة قريبة الملك ومن نجا من زعمائهم من حطين وأهل البلد المفتتحة عليهم وقد اجتمعوا كلهم بالقدس واستماتوا للدين. وبعد الصريخ وأكثروا الاستعداد ونصبوا المجانيق من داخله وتقدم إليه أمير من المسلمين فخرج إليه الإفرنج فأوقعوا به وقتلوه في جماعة ممن معه وفجع المسلمون بقتله. وساروا فنزلوا على القدس منتصف رجب وهالهم كثرة حاميته وطاف بهم صلاح الدين خمسة أيام فتحيز متبوأ عليه للقتال حتى اختار جهة الشمال نحو باب العمود وكنيسة صهيون فتحول إليه. ونصب المجانيق عليها واشتد القتال وكان كل يوم يقتل بين الفريقين خلق. وكان ممن استشهد عز الدين عيسى بن مالك من أكابر أمراء بني بدران وأبوه صاحب قلعة جعبر فأسف المسلمون لقتله وحملوا عليهم حتى أزالوهم عن مواقفهم وأحجروهم بالبلد وملكوا عليهم الخندق ونقبوا السور فوهن الإفرنج واستأمنوا لصلاح الدين فأبى إلا العنوة كما ملكه الإفرنج أول الأمر سنة إحدى وسبعين وأربعمائة فأستأمن له بالباب ابن نيزران صاحب الرملة وخرج إليه وشافهه بالاستئمان. واستعطفه فأصر على الامتناع فتهدده بالاستماتة وقتل النساء والأبناء وحرق الأمتعة وتخريب المشاعر المعظمة واستلحام أسرى المسلمين وكانوا خمسة آلاف أسير واستهلاك جميع الحيوانات الداجنة من الظهر وغيره. فحينئذ استشار صلاح الدين أصحابه فجنحوا إلى تأمينهم فشارطهم على عشرة دنانير للرجل وخمسة للمرأة ودينارين للولد صبي أو صبية وعلى أجل أربعين يوماً دينار. وملك صلاح الدين المدينة يوم الجمعة لتسع وعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره وكان يوماً مشهوداً. ورتب على القدس الأمناء لقبض هذا المال ولم يبن الأمر فيه على المشاحة فذهب أكثرهم دون شيء وعجز آخر الأمر ستة عشر ألف نسمة فأخذوا أسارى وكان فيه على التحقيق ستون ألف مقاتل غير النساء والولدان فإن الإفرنج أرزوا إليه من كل جانب لما افتتحت عليهم حصونهم وقلاعهم. ومن الدليل على مقاربة هذا العدد أن بليان صاحب الرملة أعطى ثلاثين ألف دينار على ثمانية عشر ألفاً وعجز منهم ستة عشر ألفاً وأخرج جميع الأمراء خلقاً لا تحصى في زي المسلمين بعد أن يشارطوهم على بعض القطيعة. واستوهب آخرون جموعاً منهم يأخذون قطيعتهم فوهبهم إياهم. وأطلق بعض نساء الملوك من الروم كانوا مترهبات فأطلقهم بعبيدهم وحشمهم وأموالهم. وكذا ملكة القدس التي أسر صلاح الدين زوجها ملك الإفرنج بسببها وكان محبوساً بقلعة نابلس فأطلقها بجميع ما معها ولم يحصل من القطيعة على خراج. وخرج البطرك الأعظم بما معه من ماله وأموال البيع ولم يتعرض له. وجاءته امرأة البرنس صاحب البهرك الذي قتله يوم حطين تشفع في ولدها وكان أسيراً فبعثها إلى الكرك لتأذن الإفرنج في النزول عنه للمسلمين وكان على رأسه قبة خضراء لها صليب عظيم مذهب. وتسلق جماعة من المسلمين إليه واقتلعوه وارتجت الأرض بالتكبير والعويل. ولما خلا القدس من العدو أمر صلاح الدين برد مشاعره. إلى أوضاعها القديمة وكانوا قد غيروها فأعيدت إلى حالها الأول. وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار فطهرا. ثم صلى المسلمون الجمعة الأخرى في قبة الصخرة وخطب محيي الدين بن زنكي قاضي دمشق بأمر صلاح الدين وأتى في خطبته بعجائب من البلاغة في وصف الحال وعظمة الإسلام اقشعرت لها الجلود وتناقلها الرواة وتحدثت بها السمار أحوالاً. ثم أقام صلاح الدين بالمسجد الصلوات الخمس إماماً وخطيباً وأمر بعمل المنبر له فتحدثوا عنده بأن نور الدين محمود اتخذ له منبراً منذ عشرين سنة وجمع الصناع بحلب فأحسنوا صنعته في عدد سنين فأمر بحمله ونصبه بالمسجد الأقصى. ثم أمره بعمارة المسجد واقتلاع الرخام الذي فوف الصخرة لأن القسيسين كانوا يبيعون الحجر من الصخرة ينحتونها نحتاً ويبعونها بالذهب وزناً بوزن. فتنافس الإفرنج فيها التماس البركة منها ويدعونها في الكنائس فخشي ملوكهم أن تفنى الصخرة فعالوا عليها بفرش الرخام فأمر صلاح الدين بقلعه. ثم استكثر في المسجد من المصاحف ورتب فيه القراء ووفر لهم الجرايات. وتقدم ببناء الربط والمدارس فكانت من مكارمه رحمه الله تعالى. وارتحل الإفرنج بعد أن باعوا جميع ما يملكونه من العقار بأرخص ثمن واشتراه أهل العسكر ونصارى القدس الأقدمون بعد أن ضربت عليهم الجزية كما كانوا والله تعالى أعلم. حصار صور ثم صفد وكوكب والكرك لما فتح صلاح الدين القدس أقام بظاهره إلى آخر شعبان من السنة حتى فرغ من جميع أشغاله ثم رحل إلى مدينة صور وقد اجتمع فيها من الإفرنج عوالم وقد نزل بها المركيش وضبطها. ولما انتهى صلاح الدين إلى عكا أقام بها أياماً فبالغ المركيش في الاستعداد وتعميق الخنادق وإصلاح الأسوار وكان البحر يحيط بها من ثلاث جهاتها فوصل جانب اليمين بالشمال وصارت كالجزيرة. وسار إليها فنزل عليها لتسع بقين من رمضان على تل يشرف منه على مكان القتال وجعل القتال على أقيال عسكره نوباً بين ابنه الأفضل وابنه الظاهر وأخيه العادل وابن أخيه تقي الدين ونصب عليها المجانيق والعرادات. وكان الإفرنج يركبون في الشواني و الحراقات ويأتون المسلمين من ورائهم فيرمون عليهم من البحر ويقاتلونهم ويمنعونهم من الدنو إلى السور فبعث صلاح الدين عن أسطول مصر من مرسى عكا فجاء ودافع الإفرنج وتمكن المسلمون من قتال الأسوار وحاصروها براً وبحراً. ثم كبس أسطول الإفرنج خمسة من أساطيل المسلمين ففتكوا بهم ورد صلاح الدين الباقي إلى بيروت لقلتها فاتبعها أساطيل الإفرنج فلما أرهقوهم في الطلب القوا بأنفسهم إلى الساحل وتركوها فحكمها صلاح الدين ونقضها وجد في حصار صور فلم يفد وامتنعت عليه لما كان فيها من كثرة الإفرنج الذين أمنهم بعكا وعسقلان والقدس فنزلوا إليها بأموالهم وأمدوا صاحبها واستدعوها الإفرنج وراء البحر فوعدوهم بالنصر وأقاموا في انتظارهم. ولما رأى صلاح الدين امتناعها شاور أصحابه في الرحيل فترددوا وتخاذلوا في القتال فرحل آخر شوال إلى عكا وأذن للعساكر في المشي إلى أوطانهم إلى فصل الربيع. وعادت عساكر الشرق والشام ومصر وأقام بقلعة عكا في خواصه ورد أحكام البلد إلى خرديك من أمراء نور الدين. وكان صلاح الدين عندما اشتغل بحصار عسقلان بعث عسكراً لحصار صور فشددوا حصارها وقطعوا عنها الميرة وبعثوا إلى صلاح الدين وهو يحاصر صور فاستأمنوا له ونزلوا عنها فملكها. وكان أيضاً صلاح الدين لما سار إلى عسقلان جهز عسكراً لحصار قلعة كوكب يحرسون السابلة في طريقها من الإفرنج الذين فيها وهي مطلة على الأردن وهي للإستبارية. وجهز عسكراً لحصار صفد وهي للفداوية مطلة على طبرية. ولجأ إلى هذين الحصنين من سلم من وقعة حطين وامتنعوا بهما. فلما جهز العساكر إليهما صلحت الطريق وارتفع منها الفساد. فلما كان آخر ليلة من شوال غفل الموكلون بالحصار على قلعة كوكب وكانت ليلة شاتية باردة فكبسهم الإفرنج ونهبوا ما عندهم من طعام وسلاح وعادوا إلى قلعتهم. وبلغ ذلك صلاح الدين وهو يعتزم على الرحيل عن صور فشحذ من عزيمته. ثم جهز عسكراً إلى صور مع الأمير قايماز النجي وارتحل إلى عكا فلما انصرم فصل الشتاء سار من عكا في محرم سنة أربع وثمانين إلى قلعة كوكب فحاصرها وامتنعت عليه ولم يكن بقي في البلاد الساحلية من عكا إلى الجنوب غيرها وغير صفد والكرك. فلما امتنعت عليه جهز العساكر لحصارها مع قايماز النجمي ورحل عنها في ربيع الأول إلى دمشق ووافته رسل أرسلان وفرح الناس بقدومه والله تعالى ولي التوفيق. غزو صلاح الدين إلى سواحل الشام وما فتحه من حصونها وصلحه آخراً مع صاحب إنطاكية لما رجع صلاح الدين من فتح القدس وحاصر صور وصفد وكوكب عاد إلى دمشق ثم تجهز للغزو إلى سواحل الشام وأعمال إنطاكية وسار عن دمشق في ربيع سنة أربع وثمانين فنزل على حمص واستدعى عساكر الجزيرة وملوك الأطراف فاجتمعوا إليه. وسار إلى حصن الأكراد فضرب عسكره هنالك ودخل متجرداً إلى القلاع بنواحي إنطاكية فنقض طرفها وأغار على ولايتها إلى طرابلس حتى شفى نفسه من ارتيادها. وعاد إلى معسكره فجرت الأرض بالغنائم فأقام عند حصن الأكراد ووفد عليه هنالك منصور بن نبيل صاحب جبلة. وكان من يوم استيلاء الإفرنج على جبله عند صاحب إنطاكية حاكماً على جميع المسلمين فيها ومتولياً أمور سمند فلما هبت ريح الإسلام بصلاح الدين وظهوره نزل إليه ليكشف الغماء ودله على عورة جبلة واللاذقية واستحثه لهما فسار أول جمادى ونزل بطرطوس وقد اعتصم الإفرنج منها ببرجين حصينين وأخلوا المدينة فخربوها واستباحوها. وكان أحد الحصنين للفداوية وفيه مقدمتهم الذي أسره صلاح الدين يوم المصاف وأطلقه عند فتح القدس. واستأمن إليه أهل البرج الآخر ونزلوا له عنه فخربه صلاح الدين وألقى حجارته في البحر وامتنع عليه برج الفداوية فسار إلى المرقب وهو للاسبتارية ولا يرم لعلوه وارتفاعه وامتناعه والطريق في الجبل إلى جبلة عليه فهو عن يمين الطريق والبحر عن يساره في مسلك ضيق إنما يمر به الواحد تلو الواحد. |
فتح جبلة
وكان وصل أسطول من صاحب صقلية مدداً للإفرنج في تلك السواحل في ستين قطعة فأرسوا بطرابلس فلما سمعوا بصلاح الدين أقلعوا إلى المغرب ووقفوا قبالتها ينضجون بسهامهم المارة بتلك الطريق فضرب صلاح الدين على ذلك الطريق سوراً من جهة البحر من المتمارس ووقف وراءه الرماة حتى سلك العسكر المضيق إلى جبلة. ووصلها آخر جمادى وسبق إليها القاضي وملكها صلاح الدين لحينه ورفع أعلام الإسلام على سورها ونفى حاميتها إلى القلعة فاستنزلهم القاضي على الأمان. واستمر منهم جماعة في رهن القاضي والمسلمين عند صاحب إنطاكية حتى أطلقهم. وجاء رؤساء أهل البلد إلى طاعة صلاح الدين وهو بجبل ما بين جبلة وحماة. وكان الطريق عليه بينهم صعباً ففتحه صلاح الدين من ذلك الوقت واستناب بجبلة سابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر وسار عنها للاذقية والله تعالى أعلم بغيبه فتح اللاذقية ولما فرغ صلاح الدين من أمر جبلة سار إلى اللاذقيه فوصلها آخر جمادى الأولى وامتنع حاميتها بحصن لها في أعلى الجبل وملك المسلمون المدينة وحصروا الإفرنج في القلعتين وحفروا تحت الأسوار. وأيقن الإفرنج بالهكلة ودخل إليهم قاضي جبلة ثالث نزولها فاستأمنوا معه. وأمنهم صلاح الدين ورفعوا أعلام الإسلام في الحصنين وخرب المسلمون المدينة. وكانت مبانيها في غاية الوثاقة والضخامة وأقطعها لتقي الدين ابن أخيه فأعادها إلى أحسن ما كانت من العمارة والتحصين وكان عظيم الهمة في ذلك. وكان أسطول صقلية في مرسى اللاذقية وسخطوا ما فعله أهلها ومنعوهم من الخروج منها. وجاء مقدمهم إلى صلاح الدين فرغب منه إقامتهم على الجزية. وعرض في كلامه بالتهديد بإمداد الإفرنج من وراء البحر فأجابه صلاح الدين بإستهانة أمر الإفرنج وهدده فانصرف إلى أصحابه ورحل صلاح الدين إلى صهيون والله تعالى أعلم. فتح صهيون ولما فرغ صلاح الدين من أمر فتح اللاذقية سار إلى قلعة صهيون وهي على جبل صعبة المرتقى بعيدة المهوى يحيط بجبلها واد عميق ضيق ويتصل بالجبل من جهة الشمال وعليها خمسة أسوار وخندق عميق فنزل صلاح الدين على الجبل لضيقها وقدم ولده الظاهر صاحب حلب فنزل مضيق الوادي. ونصب المنجنيقات هنالك فرمى بها على الحصن ونضحهم بالسهام من سائر أصناف القسي وصابروا قليلا. ثم زحف المسلمون ثاني جمادى الأخرى وسلكوا بين الصخور حتى ملكوا أحد أسوارها وقاتلوهم منه فملكوا عليهم سورين آخرين وغنموا جميع ما كان في البلد من الدواب والبقر والذخائر. ولجأ الحامية إلى القلعة وقاتلهم المسلمون عليها فنادوا بالأمان فشرط عليهم مثل قطيعة القدس وملك المسلمون الحصن. وولى عليه ناصر الدين بن كورس صاحب قلعة بوفلس فحصنه وافترق المسلمون في تلك النواحي فوجدوا الإفرنج قد فروا من حصونها فملكوها جميعاً. وهيؤوا إليها طريقاً على عقبة صعبة لعفاء طريقها السهلة بالإفرنج والإسماعيلية والله تعالى أعلم. فتح بكاس والشغر ثم سار صلاح الدين عن صهيون ثالث جمادى إلى قلعة بكاس وقد فارقها الإفرنج وتحصنوا بقلعة شغر فملك بكاس وحاصر قلعة الشغر والطريق منها مسلوك إلى اللاذقية وجبلة وصهيون فقاتلهم. ونصب المنجنيقات عليها فقصرت حجارتها عن الوصول. وكانوا تمنعوا وبعثوا خلال ذلك إلى صاحب إنطاكية وكان الحصن من إيالته فاستمدوه وإلا أعطوا الحصن بما قذف الله في قلوبهم من الرعب. فلما قعد عن نصرهم استأمنوا إلى صلاح الدين وسألوه إنظار ثلاث للفتح فأنظرهم وأخذ رهنهم. ثم سلموه بعد الثلاث في منتصف جمادى من السنة والله تعالى أعلم. فتح سرمين كان صلاح الدين عند اشتغاله بفتح هذه الحصون بعث ابنه الظاهر غازياً صاحب حلب إلى سرمين وحاصرها واستنزل الإفرنج الذين بها على قطيعة أعطوها وهدم الحصن وكان فتحه آخر جمادى الأخيرة فانطلق جماعة من الأسارى كانوا بهذا الحصن وكانت هذه الفتوحات كلها في مقدار شهر وجميعها من أعمال إنطاكية والله تعالى أعلم. فتح برزية ولما فرغ صلاح الدين من قلعة الشغر إلى قلعة برزية قبالة أفامية وتقاسمها في أعمالها. وبينهما بحيرة من ماء العاصي والعيون التي تجري وكانوا أشد شيء في الأذى للمسلمين فنازلها في الرابع والعشرين من جمادى الأخيرة وهي متعذرة المصعد من الشمال والجنوب وصعبته من الشرق وبجهة الغرب مسلك إليها فنزل هنالك صلاح الدين ونصب المجانيق فلم تصل حجارتها لبعد القلعة وعلوها فرجع إلى المزاحفة وقسم عساكره على أمرائها وجعل القتال بينهم نوباً فقاتلهم أولاً عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار وأصعدهم إلى قلعتهم حتى صعب المرتقى على المسلمين وبلغوا مواقع سهامهم وحجارتهم من الحصن. وكانوا يدحرجون الحجارة على المقاتلة فلا يقوم لها شيء. فلما تعب أهل هذه النوبة عادوا وصعد خاصة صلاح الدين فقاتلوا قتالاً شديداً وصلاح الدين وتقي الدين ابن أخيه يحرضانهم حتى أعيوا وهموا بالرجوع فصاح فيهم صلاح الدين وفي أهل النوبة الثانية فتلاحقوا بهم وجاء أهل نوبة عماد على أثرهم وحمي الوطيس ورد الإفرنج على أعقابهم إلى حصنهم فدخلوه ودخل المسلمون معه. وكان بقية المسلمين في الخيام شرقي الحصن وقد أهمله الإفرنج فعمد أهل الخيام من تلك الناحية واجتمعوا مع المسلمين في أعقاب الإفرنج عند الحصن فملكوه عنوة وجاء الإفرنج إلى قبة الحصن ومعهم جماعة من أسارى المسلمين في القيود. فلما سمعوا تكبير إخوانهم خارج القبة كبروا فدهش الإفرنج وظنوا أن المسلمين خالطوهم فألقوا باليد وأسرهم المسلمون واستباحوهم وأحرقوا البلد وأسروا صاحبها وأهله وافترقوا في أسراهم فجمعهم صلاح الدين حتى إذا قارب إنطاكية بعثهم إليها لأن زوجة صاحب إنطاكية كانت تراسل صلاح الدين بالأخبار وتهاديه فرعى لها ذلك والله تعالى ولي التوفيق. فتح دربساك ولما فرغ صلاح الدين من حصن برزية دخل من الغد إلى الجسر الجديد على نهر قرب إنطاكية فأقام عليه فلحق به فخلف العسكر ثم سار إلى قلعة دربساك ونزل عليها في رجب من السنة وهي معاقل الفداوية التي يلجأون إلى الاعتصام بها ونصب عليها المجانيق حتى هدم من سورها. ثم هجمها بالمزاحفة وكشف المقاتلة عن سورها ونقبوا منها برجاً من أسفله فسقط. ثم باركوا الزحف من الغد وصابرهم الإفرنج ينتظرون المدد من صاحبهم سمند صاحب إنطاكية. فلما تبينوا عجزه استأمنوا صلاح الدين فأمنهم في أنفسهم فقط وخرجوا إلى إنطاكية. وملك الحصن في عشرين من رجب من السنة والله تعالى أعلم. فتح بغراس ثم سار عماد الدين عن دربساك إلى قلعة بغراس على تعددها وقربها من إنطاكية فيحتاج مع قتالها إلى ردء من العسكر بينه وبين إنطاكية فحاصرها ونصب عليها المجانيق فقصرت عنها لعلوها وشق عليهم حمل الماء إلى أعلى الجبل وبينما هم في ذلك إذا جاء رسولهم يستأمن لهم فأمنهم في أنفسهم فقط كما أمن أهل دربساك. وتسلم القلعة بما فيها وخربها. فجددها ابن اليون صاحب الأرمن وحصنها وصارت في ايالته والله أعلم. صلح إنطاكية ولما فتح حصن بغراس خاف سمند صاحب إنطاكية وأرسل إلى صلاح الدين في الصلح على أن يطلق أسرى المسلمين الذين عنده. وتحامل عليه أصحابه في ذلك ليريح الناس ويستعدوا فأجابه صلاح الدين إلى ذلك لثمانية أشهر من يوم عقد الهدنة. وبعث إليه من استحلفه وأطلق الأسرى. وكان سمند في هذا الوقت عظيم الإفرنج متسع المملكة وطرابلس وأعمالها قد صارت إليه بعد القمص واستخلف فيها ابنه الأكبر. وعاد صلاح الدين إلى حلب فدخلها ثالث شعبان من السنة وانطلق ملوك الأطراف بالجزيرة وغيرها إلى بلادهم. ثم رحل إلى دمشق وكان معه أبو فليتة قاسم بن مهنا أمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم قد عسكر معه وشهد فتوحه. وكان يتيمن بصحبته ويتبرك برؤيته ويجتهد في تأنيسه وتكرمته ويرجع إلى مشورته. ودخل دمشق أول رمضان من السنة وأشير عليه بتفريق العساكر فأبى وقال هذه الحصون كوكب وصفد والكرك في وسط بلاد الإسلام فلا بد من البدار إلى فتحها والله سبحانه وتعالى أعلم. فتح الكرك كان صلاح الدين قد جهز العساكر على الكرك مع أخيه العادل حتى سار إلى دربساك وبغراس وأبعد في تلك الناحية فشد العادل حصارها حتى جهدوا وفنيت أقواتهم فراسلوه في الأمان فأجابهم. وسلموا القلعة فملكها وملك الحصون التي حواليها وأعظمها الشوبك وأمنت تلك الناحية واتصلت إيالة المسلمين من مصر إلى القدس والله تعالى أعلم. فتح صفد لما عاد صلاح الدين إلى دمشق أقام بها نصف رمضان ثم تجهز لحصار صفد عليها ونصب المجانيق وكانت أقواتهم قد تسلط عليها الحصار الأول فخافوا من نفاذها فاستأمنوا فأمنهم وملكها ولحقوا بمدينة صور والله تعالى أعلم. فتح كوكب لما كان صلاح الدين على صفد خافه الإفرنج على حصن كوكب فبعثوا إليه نجدة وكان قايماز النجمي يحاصره فشعر بتلك النجدة وركب إليهم وهم مختفون ببعض الشعاب فكبسهم ولم يفلت منهم أحد. وكان فيهم مقدمان من الاسبتارية فحملها إلى صلاح الدين على صفد فأحضرهما للقتل على عادته في الفداوية والاسبتارية فاستعطفه واحد منهما فعفا عنهما وحبسهما. ولما فتح صفد سار إلى كوكب وحاصره وأرسل إليهم بالأمان فأصروا على الامتناع عليه فنصب عليهم المجانيق وتابع المزاحفة. ثم عاقه المطر عن القتال وطال مقامه. فلما انقضى المطر عاود المزاحفة وضايقهم بالسور ونقب منه برجاً فسقط فارتاعوا واستأمنوا. وملك الحصن منتصف ذي القعدة من السنة ولحق الإفرنج بصور واجتمع الزعماء وتابعوا الرسل إلى إخوانهم وراء البحر في حوزة يستصرخونهم فتابعوا إليهم المدد واتصل المسلمون في الساحل من ايلة إلى بيروت لا يفصل بينهم إلا مدينة صور. ولما فرغ صلاح الدين من صفد وكوكب سار إلى القدس فقضى فيه نسك الأضحى. ثم سار إلى عكا قام بها إلى انسلاخ الشتاء والله تعالى أعلم. فتح الشقيف ثم سار صلاح الدين في ربيع سنة خمس وثمانين إلى محاصرة الشقيف وكان لأرناط صاحب صيدا وهو من أعظم الناس مكراً ودهاء. فلما نزل صلاح الدين بمرج العيون جاء إليه وأظهر له المحبة والميل وطلب المهلة إلى جمادى الأخيرة ليتخلص أهله وولده من المركيش بصور ويسلم له حصن الشقيف فأقام صلاح الدين هنالك لوعده. وانقضت مدة الهدنة بينه وبين سمند صاحب إنطاكية فبعث تقي الدين ابن أخيه مسلحة في العساكر إلى البلاد التي قرب إنطاكية. ثم بلغه اجتماع الإفرنج بصور عند المركيش وأن الأمداد وافتهم من أهل ملتهم وراء البحر. وأن ملك الإفرنج بالشام الذي أطلقه صلاح الدين بعد فتح القدس قد اتفق مع المركيش ووصل يده له. واجتمعوا في أمم لا تحصى وخشي أن يتقدم إليهم ويترك الشقيف وراءه فتنقطع عنه الميرة فلما انقضى الأجل تقدم إلى الشقيف واستدعى أرناط فجاء واعتذر بأن المركيش لم يمكنه من أهله وولده وطلب الامهال مرة أخرى فتبين صلاح الدين مكره فحبسه وأمره أن يبعث إلى أهل الشقيف بالتسليم فلم يجب فبعث به إلى دمشق فحبس بها. وتقدم إلى الشقيف فحاصره بعد أن أقام مسلحة قبالة الإفرنج الذين بظاهر صور فجاءه الخبر بأنهم فارقوا صور لحصار صيدا فلقيتهم المسلحة وقاتلوهم فغلبوهم وأسروا سبعة من فرسانهم وقتلوا آخرين. وقتل مولى لصلاح الدين من أشجع الناس وردوهم على أعقابهم إلى معسكرهم بظاهر صور. وجاء صلاح الدين بعد انقضاء الوقعة فأقام في المسلحة رجاء أن يصادف أحداً من الإفرنج فينتقم منهم. وركب في بعض الأيام ليشارف معسكر الإفرنج فظن عسكره أنه يريد القتال فنجعوا وأوغلوا إلى العدو. وبعث صلاح الدين الأمراء في أثرهم يردونهم فلم يرجعوا ورآهم الإفرنج فظنوا أن وراءهم كميناً فأرسلوا من يكشف خبرهم فوجدوهم منقطعين فحملوا عليهم وأناموهم جميعاً وذلك تاسع جمادى الأولى من السنة. ثم أنحدر إليهم صلاح الدين في عساكره من الجبل فهزمهم إلى الجسر وغرق منهم في البحر نحو من مائة دارع سوى من قتل. وعزم السلطان على حصارهم واجتمع إليه الناس ثم عاد الإفرنج إلى صور وعاد السلطان إلى بليس ليشارف عكا ويرجع إلى ولما وصل إلى المعسكر جاء الخبر بأن الإفرنج يتعدون عن صدور مذاهبهم لحاجاتهم فكتب إلى المعسكر بعكا ووعدهم ثامن جمادى الأخيرة يواقفونه من ناحيتهم للإغارة عليهم. وأكمن لهم في الأودية والشعاب من سائر النواحي واختار جماعة من فرسان عسكره وتقدم إليهم بأن يتعرضوا للإفرنج ثم يستطردوا لهم إلى مواضع الكمناء ففعلوا وناشبوا الإفرنج وانفوا من الاستطراد. وطال على الكمناء الانتظار فخرجوا خشية على أصحابهم فوافوهم في شدة الحرب فانهزم المسلمون ووقع التمحيص. وكان أربعة في الكمين من أمراء طي فعدلوا عن طريق أصحابهم وسلكوا الوادي وتبعهم بعض العسكر من موالي صلاح الدين. ورآهم الإفرنج في الوادي فعلموا أنهم أضلوا الطريق فاتبعوهم وقتلوهم والله تعالى أعلم. محاصرة الإفرنج أهل صور لعكا والحروب عليها كانت صور كما قدمنا ضبطها المركيش من الإفرنج الواصل من وراء البحر وقام بها وكان كلما فتح صلاح الدين مدينة أو حصناً على الأمان لحق أهلها بصور فاجتمع بها عدد عظيم من الإفرنج وأموال جمة. ولما فتح القدس لبس كثير من رهبانهم وقسيسيهم وزعمائهم السواد حزناً على البيت المقدس. وارتحل بطرك من القدس وهم معه يستصرخون أهل الملة النصرانية من وراء البحر للأخذ بثأر القدس فخرجوا للجهاد من كل بلد حتى النساء اللواتي يجدن القوة على الحرب. ومن لم يستطع الخروج استأجر مكانه وبذلوا الأموال لهم. وجاء الإفرنج من كل مكان ونزلوا بصور ومدد الرجال والأقوات والأسلحة متداركة لهم في كل وقت. واتفقوا على الرحيل إلى عكا ومحاصرتها فخرجوا ثامن رجب من سنة خمس وثمانين وسلكوا على طريق الساحل وأساطيلهم تحاذيهم في البحر. ومسلحة المسلمين تتخطفهم من جوانبهم حتى وصلوا إلى عكا منتصف رجب. وكان رأي صلاح الدين أن يحاذيهم في مسيرهم لينال منهم فخالفه أصحابه واعتذروا بضيق الطريق ووعره فسلك طريقاً آخر ووافاهم على عكا وقد نزلوا عليها وأحاطوا بها من البحر إلى البحر فليس للمسلمين إليها طريق. ونزل صلاح الدين قبالتهم وبعث إلى الأطراف يستنفر الناس فجاءت عساكر الموصل وديار بكر وسنجار وسائر بلاد الجزيرة. وجاء تقي الدين ابن أخيه من حماة ومظفر الدين كوبري عن حران والرها وكانت أمداد المسلمين تصل في البر وامداد الإفرنج في البحر وهم محصورون في صور. وكانت بينهم أيام مذكورة ووقائع مشهورة وأقام السلطان بقية رجب لم يقاتلهم فلما استهل شعبان قاتلهم يوماً بكماله وبات للناس على تعبية. ثم صبحهم بالقتال ونزل بالصبر وحمل عليهم تقي الدين ابن أخيه منتصف النهار من الميمنة حملة أزالتهم عن مواقفهم وملك مكانهم واتصل بالبلد فدخلها المسلمون وشحنها صلاح الدين بالمدد من كل شيء. وبعث إليهم الأمير حسام الدين أبا الهيجاء السمين من أكابر أمرائه من الأكراد الخطية من اربل. ثم نهض المسلمون من الغد فوجدوا الإفرنج قد أداروا عليهم خندقاً يمتنعون به ومنعوهم القتال يومهم وأقاموا كذلك. ومع السلطان أحياء من العرب فكمنوا في معاطف النهر من ناحية الإفرنج على الساحل للخطف منهم وكبسوهم منتصف شعبان وقتلوهم وجاؤوا برؤوسهم إلى صلاح الدين فأحسن إليهم والله تعالى أعلم. |
الوقعة على عكا
كان صلاح الدين قد بعث عن عسكر مصر وبلغ الخبر الإفرنج فأرادوا معاجلته قبل وصولهم. وكانت عساكره متفرقة في المسالح على الجهات فمسلحة تقابل إنطاكية وملكها سمند في البلاد التي من أعمال حلب ومسلحة بحمص تحفظها من أهل طرابلس ومسلحة تقابل صور ومسلحة بدمياط والإسكندرية. واعتزم الإفرنج على مهاجمتهم بالقتال ولم يشعروا بهم وصبحوهم لعشرين من شعبان وركب صلاح الدين وعبى عساكره وقصدوا الميمنة وعليها تقي الدين ابن أخيه فتزحزح بعض الشيء وأمده صلاح الدين بالرجال من عنده. فحطوا على صلاح الدين في القلب فتضعضع واستشهد جماعه منهم الأمير علي بن مردان والظهير أخو الفقيه عيسى والي القدس والحاجب خليل الهكاري وغيرهم. وقصدوا خيمة صلاح الدين فقتلوا من وزرائه ونهبوا واستشهد جمال الدين بن رواحة من العلماء ووضعوا السيف في المسلمين وانهزم الذين كانوا حوالي الخيمة ولم تسقط وانقطع الذين ولوها من الإفرنج عن أصحابهم وراءهم وحملت ميسرة المسلمين عليهم فأحجموا إلى وراء الخنادق وعادوا إلى خيمة صلاح الدين فقتلوا كل من وجدوا عندها من الإفرنج. وصلاح الدين قد عاد من اتباع أصحابه يردهم للقتال. وقد اجتمعوا عليهم فلم يفلت منهم أحد وأسروا مقدم الفداوية فأمر بقتله وكان أطلقه مرة أخرى. وبلغت عدة القتلى عشرة آلاف فألقوا في النهر وأما المنهزمون من المسلمين فمنهم من رجع من طبرية ومنهم من جاوز الأردن ورجع ومنهم من بلغ دمشق. واتصل قتال المسلمين للإفرنج وكادوا يلجون عليهم معسكرهم. ثم جاءهم الصريخ بنهب أموالهم وكان المنهزمون قد حملوا أثقالهم فامتدت إليها أيدي الأوباش ونهبوها فكان ذلك مما شغل المسلمين عن استئصال الإفرنج وأقاموا في ذلك يوماً وليلة يستردون النهب من أيدي المسلمين ونفس بذلك عن الإفرنج بعض الشيء والله تعالى أعلم. رحيل صلاح الدين عن الإفرنج بعكا ولما انقضت هذه الوقعة وامتلأت الأرض من جيف الإفرنج تغير الهواء وأنتن وحدث بصلاح الدين قولنج كان يعاوده فأشار عليه أصحابه بالانتقال عسى الإفرنج ينتقلون. وإن أقاموا عدنا إليهم وحمله الأطباء على ذلك فرحل رابع رمضان من السنة وتقدم إلى عكا بحياطتها وأعلمهم سبب رحيله. فلما ارتحل اشتد الإفرنج في حصار عكا وأحاطوا بها دائرة مع أسطولهم في البحر وحفروا خندقاً على معسكرهم وأداروا عليهم سوراً من ترابه حصناً من صلاح الدين أن أن يعود إليهم ومسلحة المسلمين قبالتهم يناوشوهم القتال فلا يقاتلونهم. وبلغ ذلك صلاح الدين وأشار أصحابه بإرسال العساكر ليمنع من التحصين فامتنع من ذلك. لمرضه. فتم للإفرنج ما أرادوه وأهل عكا يخرجون إليهم كل يوم ويقاتلونهم والله تعالى أعلم. معاودة صلاح الدين حصار الإفرنج على عكا ثم وصل العادل أبو بكر بن أيوب منتصف شوال في عساكر مصر ومعه الجم الغفير من المقاتلة والأصناف الكثيرة من آلات الحصار. ووصل على إثره أسطول مصر مع الأمير لؤلؤ وكبس مركباً فغنم ما فيه ودخل به إلى عكا وبرئ صلاح الدين من مرضه وأقام بمكانه بالجزيرة إلى انسلاخ الشتاء. وسمع الإفرنج أن صلاح الدين سار إليهم واستقلوا مسلحة المسلمين عندهم فزحفوا إليهم في صفر سنة ست وثمانين واستمات المسلمون وقتل بين الفريقين خلق. وبلغ الخبر بذلك صلاح الدين وجاءته العساكر من دمشق وحمص وحمله فتقدم من الجزيرة إلى تل كيسان وتابع القتال على الإفرنج يشغلهم عن المسلمين فكانوا يقاتلون الفريقين. وكان الإفرنج مدة مقامهم على عكا قد صنعوا ثلاثة أبراج من الخشب ارتفاع كل برج ستون ذراعاً وفيه خمس طبقات وغشوها بالجلود وطلوها بالأدوية التي لا تعلق النار بها. وشحنوها بالمقاتلة وأدنوها إلى البلد من ثلاث جهات في العشرين من ربيع الأول سنة ست وثلاثين. وأشرفوا بها على السور فكشف من عليه من المقاتلة وشرع الإفرنج في طم الخندق. وبعث أهل عكا سابحاً في البحر يصف لهم حالهم فركب في عسكره واشتد في قتال الإفرنج فخف على أهل البلد ما كانوا فيه وأقاموا كذلك ثلاثة أيام يقاتلون الجهتين وعجزوا عن دفع الأبراج ورموها بالنفط فلم يؤثر فيها. وكان عندهم رجل من أهل دمشق يعاني أحوال النفط فأخذ عقاقير وصنعها وحضر عند قراقوش حاكم البلد وأعطاه دواء وقال إرم بهذا في المنجنيق المقابل لإحدى الأبراج فيحترق فجرد عليه ثم وافق ورمى به في قدر. ثم رمى بعده بقدر أخرى مملوءة ناراً فاضطرمت النار واحترق البرج بمن فيه ثم فعل بالثاني والثالث كذلك. وفرح أهل البلد وتخلصوا من تلك الورطة فأمر صلاح الدين بالإحسان إلى ذلك الرجل فلم يقبل وقال إنما فعلته لله ولا أريد الجزاء إلا منه. ثم بعث صلاح الدين إلى ملوك الأطراف ليستنفرهم فجاء عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار ثم علاء الدين بن طالب صاحب الموصل ثم عز الدين مسعود بن مودود وبعثه أبوه بالعساكر ثم زين الدين صاحب إربل وكان كل واحد منهم إذا وصل يتقدم بعسكره فيقاتلون الإفرنج ثم يضربون أبنيتهم. وجاء الخبر بوصول الأسطول من مصر فجهز الإفرنج أسطولاً لقتاله وشغلهم صلاح الدين بالقتال ليتمكن الأسطول من دخول عكا فلم يشغلوا عنه وقاتلوا الفريقين براً وبحراً ودخل الأسطول إلى مرسى عكا سالماً والله تعالى أعلم بغيبه. وصول ملك الألمان إلى الشام ومهلكه هؤلاء الألمان شعب من شعوب الإفرنج كثير العدد موصوف بالبأس والشدة وهم موطنون بجزيرة انكلطرة في الجهة الشمالية الغربية من البحر المحيط وهم حديثو عهد بالنصرانية. ولما سار القسس والرهبان بخبر بيت المقدس واستنفار النصرانية لها قام ملكهم لها وقعد وجمع عساكره وسار للجهاد بزعمه وفسح النصارى له الطريق. وقصد القسطنطينية فعجز ملك الروم عن منعه بعد أن كان يعد بذلك نفسه وكتب بها إلى صلاح الدين لكنه منع عنهم الميرة فضاقت عليهم الأقوات. وعبروا خليج القسطنطينية ومروا بمملكة قليج أرسلان وتبعهم التركمان يحفون بهم ويتخطفون منهم وكان الفصل شتاء والبلاد باردة فهلك أكثرهم من البرد والجوع. ومروا بقونية وبها قطب الدين ملك شاه بن قليج أرسلان قد غلب عليه أولاده وافترقوا في النواحي فخرج ليصدهم فلم يطق ذلك ورجع فساروا في أثره إلى قونية وبعثوا إليه بهدية على أن يأذن لهم في الميرة فأذن لهم. واسترهنوا عشرين من أمرائه وتكاثر عليهم اللصوص فقيدوا أولئك الأمراء وحبسوهم وساروا إلى بلاد الأرمن وصاحبها كاقولي بن خطفاي بن اليون فأمدهم بالأزواد والعلوفات وأظهر طاعتهم وسار إلى إنطاكية. ودخل ملكهم ليغتسل في نهر هنالك فغرق وملك بعده ابنه. ولما بلغوا إنطاكية اختلفوا فبعضهم مال إلى تمليك أخيه وبعضهم مال إلى العود فعادوا كلهم. وسار ابن الملك فيمن ثبت معه يزيدون على أربعين ألفاً وأصاحبهم الموتان وحسن إليهم صاحب إنطاكية المسير إلى الإفرنج على عكا فساروا على جبلة واللاذقية ومروا بحلب وتخطف أهلها منهم خلقاً وبلغوا طرابلس وقد أفناهم الموتان ولم يبق منهم إلا نحو ألف رجل فركبوا البحر إلى عكا. ثم رأوا ما هم فيه من الوهن والخلاف فركبوا البحر إلى بلدهم وغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد. وكان الملك قليج أرسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم ويعده بمنعهم من العبور عليه فلما عبروا اعتذر بالعجز عنهم وافتراق أولاده واستبدادهم عليه. وأما صلاح الدين فإنه استشار أصحابه عند وصول خبرهم فأشار بعضهم إلى لقائهم في طريقهم ومحاربتهم وأشار آخرون بالمقام لئلا يأخذ الإفرنج عكا. ومال صلاح الدين إلى هذا الرأي وبعث العساكر من جبلة واللاذقية وشيزر إلى حلب ليحفظوها من عاديتهم والله تعالى ولي التوفيق. واقعة المسلمين مع الإفرنج على عكا ثم زحف الإفرنج على عكا في عشر من جمادى الأخيرة من سنة ست وثمانين وخرجوا من خنادقهم إلى عساكر صلاح الدين وقصد العادل أبو بكر بن أيوب في عساكر مصر فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كشفهم الإفرنج عن الخيام وملكوها. ثم كر عليهم المصريون فكشفوهم عن خيامهم وخالفهم بعض عساكر مصر إلى الخنادق فقطعوا عنهم بعض مدد أصحابهم فأخذتهم السيوف وقتل منهم ما يزيد على عشرين ألفاً. وكانت عساكر الموصل قريباً من عسكر مصر ومقدمهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل فعدمت ميرتهم وأمر صلاح الدين بمناجزتهم على هذا الحال. وبلغه الخبر بموت ملك الألمان وما أصاب قومه من الشتات فسر المسلمون بذلك وظنوا وهن الإفرنج به. ثم بعد يومين لحقت بالإفرنج أمداد في البحر مع كند من الكنود يقال له الكندهري بن أخي الاقرسيس لأبيه وابن أخي ملك انكلطرة لأمه ففرق في الإفرنج أموالاً وجند لهم أجناداً ووعدهم بوصول الأمداد على أثره فاعتزموا على الخروج لقتال المسلمين. فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الحزونة لثلاث بقين من جمادى الأخيرة لضيق المجال ونتن المكان من جيف القتلى. ثم نصب الكندهري على عكا مجانيق وذبابات فأخذها أهل عكا وقتلوا عندها جموعاً من الإفرنج فلم يتمكن من متابعة ذلك ولا من إقامة الستائر عليها لأن أهل البلاد كانوا يصيبونها فعمل تلاً عالياً من التراب ونصب المجانيق من ورائه وضاقت الأحوال وقلت الميرة. وأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية ببعث الأقوات في المراكب إلى عكا وبعث إلى بيروت بمثل ذلك فبعثوا مركباً ونصبوا فيها الصلبان يوهمون أنه للإفرنج حتى دخلوا إلى المرسى. وجاءت بعد الميرة من الإسكندرية. ثم جاءت ملكة من الإفرنج من وراء البحر في نحو ألف مقاتل للجهاد بزعمها فأخذت ببحر الإسكندرية هي وجميع ما معها. ثم كتب البابا كبير الملة النصرانية من كنيسة برومة يأمرهم بالصبر والجهاد ويخبرهم بوصول الامداد وأنه راسل ملوك الإفرنج يحثهم على إمدادهم فازدادوا بذلك قوة واعتزموا على مناجزة المسلمين وجمروا عسكراً لحصار عكا وارتحلوا حادي عشر شوال من السنة فنقل صلاح الدين أثقال العسكر إلى على ثلاثة فراسخ من عكا ولقي الإفرنج على التعبية. وكان أولاده الأفضل علي والظافر غازي والظاهر خضر في القلب وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة بعساكر مصر ومن انضم إليهم وعماد الدين صاحب سنجار وتقي الدين صاحب حماة ومعز الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر في الميسرة وصلاح الدين في خيمة صغيرة على تل مشرف نصب له من أجل موضعه. فلما وصل الإفرنج وعاينوا كثرة المسلمين ندموا على مفارقة خنادقهم وباتوا ليلتهم وعادوا من الشد إلى معسكرهم فأتبعوهم أهل المقدمة وتخطفوهم من كل ناحية وأحجروهم وراء خنادقهم. ثم ناوشوهم القتال في الثالث والعشرين من شوال بعد أن أكمنوا لهم عسكراً فخرج لهم الإفرنج في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى إن وصلوا كمينهم فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد. واشتد الغلاء على الإفرنج وبلغت الغرارة مائة دينار صوري مع ما كان يحمل إليهم من البلدان من بيروت على يد صاحبها أسامة ومن صيدا على يد نائبها سيف الدين علي بن أحمد المشطوب ومن عسقلان وغيرها. ثم اشتد عليهم الحال عند هيجان البحر وانقطاع المراكب في فصل الشتاء. ثم هجم الشتاء وأرسى الإفرنج مراكبهم بصور خوفاً عليها على عادتهم في صور الشتاء. ووجد الطريق إلى عكا في البحر فأرسل أهلها إلى صلاح الدين ما نزل بهم وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين فشكى من ضجره بطول المقام والحرب فأمر صلاح الدين بإنفاذ نائب وعسكر إليها بدلاً منهم وأمر أخاه بماشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبل حيفا وجمع المراكب والشواني وبعث العساكر إليها شيئاً فشيئاً كلما دخلت طائفة خرج بدلها فدخل عشرون أميراً بدلاً من ستين كانوا. وأهملوا أهل الرج تعينت دواوين صاحب الدين وكانوا نصارى على الجند في إثباتهم وإطلاق نفقاتهم فبلغ الحامية بعكا وضعفت وعادت مراكب الإفرنج بعد انحسار الشتاء فانقطعت الأخبار عن عكا وعنها. وكان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وعز الدين أرسلان مقدم الأسدية وابن جاولي وغيرهم. وكان دخولهم عكا أول سنة سبع وثمانين والله سبحانه وتعالى أعلم. |
وفاة زين الدين صاحب إربل
وولاية أخيه كوكبري كان زين الدين يوسف بن زين الدين قد دخل في طاعة صلاح الدين وكانت له إربل كما مر لأيام أبيه وحران والرها لأخيه مظفر الدين كوكبري وكان يعسكر مع صلاح الدين في غزواته وحضر عنده على عكا فأصابه المرض. وتوفي في ثامن عشر رمضان سنة أربع وثمانين فقبض أخوه مظفر الدين كوكبري على بلد أمير من أمرائه. وبعث إلى صلاح الدين يطلب إربل وينزل عن حران والرها فأجابه وأقطعه إياهما وأضاف إليهما شهرزور وأعمالها ودار بند العرابلي وهي قفجاق. وكاتب أهل إربل مجاهد الدين صاحب الموصل خوفاً من صلاح الدين مع أن مجاهد الدين كان عز الدين قد حبسه كما مر ثم أطلقه وولاه نائبه وجعل بعض غلمانه عيناً فكان يناقضه في كثير من الأحوال فقصد مجاهد الدين أن يفعل معه مثل ذلك في إربل فامتنع منها وولاها مظفر الدين واستفحل أمره فيها. ولما نزل مظفر الدين عن حران والرها ولاها صلاح الدين لابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه مضافة إلى ميافارقين بديار بكر وحماة وأعمالها بالشام. وتقدم له أن يقطع أعمالها للجند فيتقوى بهم على الإفرنج فسار تقي الدين إليها وقرر أمورها. ثم انتهى إلى ميافارقين وتجدد له طمع فيما يجاورها من البلاد فقصد مدينة حال من ديار بكر. وسار إليه سيف الدين بكتمر صاحب خلاط في عساكره وقاتله فهزمه تقي الدين ووطئ بلاده. وكان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رستق وزير سلطان شاكرين وحبسه في قلعة هنالك. فلما انهزم كتب إلى والي القلعة بقتله فوافاه الكتاب وتقي الدين محاصر له. فلما ملك القلعة أطلق ابن رستق وسار إلى خلاط وحاصرها فامتنعت عليه فعاد عنها إلى ملازكرد فضيق عليها حتى استأمنوا له وضرب لهم أجلاً في تسليم البلد. ثم مرض ومات قبل ذلك الأجل بيومين وحمله ابنه إلى ميافارقين فدفنه بها واستفحلت دولة بكتمر في خلاط والله تعالى أعلم. وصول إمداد الإفرنج من الغرب إلى عكا ثم تتابعت إمداد الإفرنج من وراء البحر لإخوانهم المحاصرين لعكا وأول من وصل منهم الملك ملك إفرنسة وهوذ ونصب فيهم وملكه ليس بالقوي. هكذا قال ابن الأثير وعنى أنه كان مستفحلاً في ذلك العصر لأنه في الحقيقة ملك الإفرنج. وهو في ذلك العصر أشد من كانوا قوة واستفحالاً فوصل ثاني عشر ربيع الأول سنة أربع وثمانين في ستة مراكب عظيمة مشحونة بالمقاتلة والسلاح فقوي الإفرنج على عكا بمكانه وولي حرب المسلمين فيها وكان صلاح الدين على معمر عمر قريباً من معسكر الإفرنج فكان يصابحهم كل يوم عن مزاحفة البلد. وتقدم إلى أسامة في بيروت بتجهيز ما عنده من المراكب والشواني إلى مرسى عكا ليشغل الإفرنج أيضاً فبعثها ولقيت خمسة مراكب في البحر. وكان ملك الانكلطرة أقدمها وأقام على جزيرة قبرص طامعاً في ملكها فغنم أسطول المسلمين الخمسة مراكب بما فيها ونفذت كلمة صلاح الدين إلى سائر النواب بأعماله بمثل ذلك فجهزوا الشواني وملأوا بها مرسى عكا. وواصل الإفرنج قتال البلد ونصبوا عليها المنجنيقات رابع جمادى وتحول صلاح الدين لمعسكره قريباً منهم ليشغلهم عن البلد فخف قتالهم عن أهل البلد. ثم فرغ ملك انكلطرة من جزيرة قبرص وملكها وعزل صاحبها. وبلغ إلى عكا في خمس وعشرين مركباً مشحونة بالرجال. ووصل منتصف رجب ولقي في طريقه مركباً جهز من بيروت إلى عكا وفيه سبعمائة مقاتل فقاتله. فلما يئس المسلمون الذين به من الخلاص نزل مقدمهم وهو يعقوب الحلي غلام ابن شفنين فحرق المركب خوفاً من أن يظفر الإفرنج برجاله وذخائره فغرق ثم عمل الإفرنج ذبابات وكباشاً وزحفوا بها فأحرق المسلمون بعضها وأخذوا بعضها فرجع الإفرنج إلى نصب التلال من التراب يقاتلون من ورائها فامتنعت من نفوذ الحيلة وضاق حال أهل عكا. استيلاء الإفرنج على عكا ولما جهد المسلمين بعكا الحصار خرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المشطوب من أكبر أمرائها إلى ملك إفرنسة يستأمنه لأهل عكا فلم يجبه وضعفت نفوس أهل البلد لذلك ووهنوا. ثم هرب من الأمراء عز الدين أرسل الأسدي وابن عز الدين وسنقر الأرجاني في جماعة منهم. ولحقوا بالعسكر فازداد أهل عكا وهناً. وبعث الإفرنج إلى صلاح الدين في تسليمها فأجاب على أن يؤمنوا أهل البلد ويطلق لهم من أسراهم بعدد أهل البلد ويعطيهم الصليب الذي أخذه من القدس فلم يرضوا بما فعل فبعث إلى المسلمين بعكا أن يخرجوا بجمعهم ويتركوا البلد ويسيروا مع البحر ويحملوا العدو حملة مستميتين ويجيء المسلمون من وراء العدو فعساهم يخلصون بذلك فلما أصبحوا زحف الإفرنج إلى البلد ورفع المسلمون أعلامهم وأرسل المشطوب من البلد إلى الإفرنج فصالحهم على الأمان على أن يعطيهم مائتي ألف دينار ويطلق لهم خمسمائة أسير ويعيد لهم الصليب. ويعطي للمركيش صاحب صور أربعة عشر ألف دينار فأجابوا إلى ذلك وضربوا المدة للمال والأسرى شهرين. وسلموا لهم البلد فلما ملكوها غدروا بهم وحبسوهم رهناً بزعمهم في المال والأسرى والصليب. ولم يكن لصلاح الدين ذخيرة من المال لكثرة إنفاقه في المصالح فشرع في جمع المال حتى اجتمع مائة ألف دينار وبعث نائباً يستحلفهم على أن يضمن الفداوية من الخلف والضمان خوفاً من غدر أصحابه. وقال ملوكهم إذا سلمتم المال والأسرى تعطونا رهناً في بقية المال ونطلق أصحابكم. وطلب صلاح الدين أن يضمن الفداوية الرهن ويحلفوا فامتنعوا أيضاً وقالوا ترسلون المائة ألف دينار والأسرى والصليب فنطلق من نراه ونبقي الباقي إلى مجيء بقية المال فتبين المسلمون غدرهم وأنهم يطلقون من لا يعبأ به ويمسكون الأمراء والأعيان حتى يفادوهم فلم يجبهم صلاح الدين إلى شيء. ولما كان آخر رجب ركب الإفرنج إلى ظاهر البلد في إحتفال وركب المسلمون فشدوا عليهم وكشفوهم عن مواقفهم فإذا المسلمون الذين كانوا عندهم قتلى بين الصفين قد استلحموا ضعفاءهم وتمسكوا بالأعيان للمفاداة فسقط في يد صلاح الدين وتمسك بالمال الذي جمعه لغيرها من المصالح والله تعالى أعلم. تخريب صلاح الدين عسقلان ولما استولى الإفرنج على عكا استوحش المركيش صاحب صور من ملك انكلطرة وأحس منه بالغدر فلحق ببلده صور. ثم سار الإفرنج مستهل شعبان قصد عسقلان وساروا مع ساحل البحر لا يفارقونه. ونادى صلاح الدين باتباعهم مع ابنه الأفضل وسيف الدين أبي زكوش وعز الدين خرديك فاتبعوهم يقاتلونهم ويتخطفونهم من كل ناحية. ففتكوا فيه بالقتل والأسر وبعث الأفضل إلى أبيه يستمده فلم يجد العساكر مستعدة. وسار ملك انكلطرة في ساقة الإفرنج فحملهم وانتهوا إلى يافا فأقاموا بها والمسلمون قبالتهم مقيمون. ولحق بهم من عكا من احتاجوا إليه. ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون يتبعونهم ويقتلون من ظفروا به منهم. وزاحموهم عند قيسارية فنالوا منهم وباتوا بها مثاورين. واختطف المسلمون منهم بالليل فقتلوا وأسروا. وساروا من الغد إلى أرسوف وسبقهم المسلمون إليها لضيق الطريق فحملوا عليهم عندها حتى اضطروهم إلى البحر. فحينئذ استمات الإفرنج وحملوا على المسلمين فهزموهم واثخنوا في تابعهم وألحقوهم بالقلب وفيه صلاح الدين. وتستر المسلمون المنهزمون بخمر الشعراء فرجع الإفرنج عنهم وانفرج ما كانوا فيه من الضيق مذكور وساروا إلى يافا فوجدوها خالية وملكوها وكان صلاح الدين قد سار من مكان هزيمة إلى الرملة وجمع مخلفه وأثقاله واعتزم على مسابقة الإفرنج إلى عسقلان فمنعه أصحابه وقالوا نخشى أن يزاحمنا الإفرنج عليها ويغلبونا على حصارها كما غلبونا على حصار عكا. ويملكوها آخراً ويقووا بما فيها من الذخائر والأسلحة فندبهم إلى مسير إليها وحمايتها من الإفرنج فلحوا في الإمتناع من ذلك فسار وترك العساكر مع أخيه العادل قبالة الإفرنج ووصل إلى عسقلان وخربها تاسع عشر شعبان وألقيت حجارتها في البحر وبقي أثرها وهلك فيها من الأموال والذخائر ما لا يحصى. فلما بلغ ذلك أقاموا بيافا. وبعث المركيش إلى ملك إنكلطرة يعذله حيث لم يناجز صلاح الدين على عسقلان ثاني رمضان إلى الرملة فخرب حصنها. ثم سار إلى القدس من شدة البرد والمطر لينظر في مصالح القدس وترتبهم في الاستعداد للحصار. وأذن للعساكر في العود إلى بلادهم للإراحة. وعاد إلى مخيمه ثامن رمضان. وأقام الإفرنج بيافا وشرعوا في عمارتها فرحل صلاح الدين إلى نطرون وخيم به منتصف رمضان. وتردد الرسل بين ملك انكلطرة وبين العادل على أن يزوجه ملك إنكلطرة أخته ويكون القدس وبلاد المسلمين. بالساحل للعادل وعكا وبلاد الإفرنج بالساحل لها إلى مملكتها وراء البحر بشرط رضا الفداوية. وأجاب صلاح الدين إلى ذلك ومنع الأقسة والرهبان أخت ملك إنكلطرة من ذلك ونكروا عليها فلم يتم وإنما كان ملك إنكلطرة يخادع بذلك. ثم اعتزم الإفرنج على القدس ورحلوا من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة وسار صلاح الدين إلى القدس وقد ترك عليه عساكر مصر مع أبي الهيجاء فقويت به نفوس المسلمين. وسار الإفرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة والمسلمون يحاذونهم. وكانت بينهم وقعات أسروا في واحدة منها نيفاً وخمسين من مقاتلة الإفرنج واهتم صلاح الدين بعمارة أسوار القدس ورم ما ثلم وضبط المكان الذي ملك القدس منه وسد فروجه. وأمر بحفر خندق خارج الفصيل. وقسم ولاية هذه الأعمال بين ولده وأصحابه وقلت الحجارة للبنيان. وكان صلاح يركب إلى الأماكن البعيدة وينقلها على مركوبه فيقتدي به العسكر. ثم إن الإفرنج ضاقت أحوالهم بالنطرون وقطع المسلمون عنهم الميرة من ساحلهم فلم يكن كما عهدوه بالرملة وسأل ملك إنكلطرة عن صورة القدس ليعلم كيفية ترتيب حصارها فصورت له. ورأى الوادي محيطاً بها إلا قليلاً من جهة الشمال مع عمقه ووعرة مسالكه فقال هذه لا يمكن حصارها لأنا إذا اجتمعنا عليها من جانب بقيت الجوانب الأخرى وإن افترقنا على جانب الوادي والجانب الآخر كبس المسلمون إحدى الطائفتين. ولم تصل الأخرى لإنجادهم خوفاً من المسلمين على معسكرهم وإن تركوه من أصحابه حامية المعسكر فالمدى بعيد لا يصلون للإنجاد إلا بعد الوفاة هذا إلى ما يلحقنا من تعذر القوت بانقطاع الميرة فعلموا صدقه وارتحلوا عائدين إلى الرملة. ثم ارتحلوا في محرم سنة ثمان وثمانين إلى عسقلان وشرعوا في عمارتها وسار ملك إنكلطرة إلى مسلحة المسلمين فواقعوهم وجرت بينهم حروب شديدة وصلاح الدين يبعث سراياه من القدس إلى الإفرنج للإغارة وقطع الميرة فيغنمون ويعودون والله تعالى أعلم. مقتل المركيش وملك الكندهري مكانه ثم ارتحل صلاح الدين إلى سنان مقدم الإسماعيلية بالشام في قتل ملك انكلطرة والمركيش وجعل له على ذلك عشرة آلاف دينار فلم يمكنهم قتل ملك انكلطرة لما رأوه من المصلحة لئلا يتفرغ لهم صلاح الدين. وبعث رجلين لقتل المركيش في زي الرهبان فاتصلا بصاحب صيدا وابن بازران صاحب وأقاما عندهما بصور ستة أشهر مقبلين على رهبانيتهما حتى أنس بهما المركيش. ثم دعاه الأسقف بصور دعوى فوثبا عليه فجرحاه ولجأ أحدهما إلى كنيسة واختفى فيها وحمل إليها المركيش لشدة جراحه فأجهز عليه ذلك الباطني وقتله. ونسب ذلك إلى ملك انكلطرة رجاء أن ينفرد بملك الإفرنج بالشام. ولما قتل المركيش ملك المدينة زعيم من الإفرنج الواردين من وراء البحر يعرف بالكندهري ابن أخت ملك أفرنسة وابن أخي ملك انكلطرة من أبيه وتزوج بالملكة في ليلته وبنى بها. وملك عكا وسائر البلاد بعد عود ملك انكلطرة وعاش إلى سنة أربع وتسعين وسقط من سطح. ولما رحل ملك انكلطرة إلى بلده أرسل هذا الكندهري إلى صلاح الدين واستماله للصلح والتمس منه الخلعة فبعث إليه بها ولبسها بعكا والله تعالى أعلم. مسير الإفرنج إلى القدس ولما قدم صلاح الدين إلى القدس وكان قد بلغه مهلك تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه وأن ابنه ناصر الدين استولى على أعماله بالجزيرة وهي حران والرها وسميساط وميافارقين وأرجان وبعث إلى صلاح الدين يسأل إبقاءها في يده مضافة إلى ما كان لأبيه من الأعمال بالشام فاستقصره صلاح الدين لصغره. وطلب منه ابنه الأفضل أن يعطيها له وينزل عن دمشق فأجابه إلى ذلك وأمره أن يسير إليها. وكاتب ملوك البلاد الشرقية بالموصل وسنجار والجزيرة وإربل وسار لإنجاده بالعساكر. وعلم ناصر الدين أنه لا قبل له بذلك فبعث للملك العادل يستشفع له عند صلاح الدين على أن يبقى بيده له ما كان لأبيه بالشام فقط وينزل عن بلاد الجزيرة فأقطعها صلاح الدين أخاه الملك العادل وبعثه يتسلمها ويرد ابنه الأفضل فلحق بالأفضل بحلب وأعاده وعبر الفرات وتسلم البلاد من ناصر الدين بن تقي الدين وأنزل بها عماله. واستصحبه وساير العساكر الجزرية إلى صلاح الدين بالقدس. ولما بلغ الإفرنج أن صلاح الدين بعث ابنه الأفضل وأخاه العادل وفرق العساكر ولم يبق معه بالقدس إلا بعض الخاصة طمعوا فيه وأغاروا على عسكر مصر وهو قاصد إلي ومقدمهم سليمان أخو العادل لأمه فأخذه بنواحي الخليل وقتلوا وغنموا ونجا فلهم إلى جبل الخليل. وساروا إلى الداروم فخربوه. ثم ساروا إلى القدس وانتهوا إلى فوجة على فرسخين من القدس تاسع جمادى الأولى من سنة ثمان وثمانين. واستعد صلاح الدين للحصار وفرق أبراج السور على أمرائه وسلط السرايا والبعوث عليهم فرأوا ما لا قبل لهم به فتأخروا عن منازلتهم بيافا. وأصبحت بقولهم وميرتهم غنائم للمسلمين. وبلغهم أن العساكر الشرقية والتي مع العادل والأفضل عادت إلى دمشق فعادوا إلى عكا وعزموا على محاصرة بيروت فأمر صلاح الدين ابنه الأفضل أن يسير في العساكر الشرقية إليها فسار وانتهى إلى مرج العيون فلم يبرح الإفرنج من عكا. واجتمع عند صلاح الدين خلال ذلك العساكر من حلب وغيرها فسار إلى يافا فحاصرها وملكها عنوة في العاشر من رجب من السنة. ثم حاصر القلعة بقية يومه وأشرفوا على فتحها. وكانوا ينتظرون المدد من عكا فشغلوا المسلمين بطلب الأمان إلى الغد فأجابوهم إليه. وجاءهم ملك انكلطرة ليلاً وتبعه مدد عكا. وبرز من الغد فلم يتقدم إليه أحد من المسلمين. ثم نزل بين السماطين وجلس للأكل وأمر صلاح الدين بالحملة عليهم فتقدم أخ المشطوب وكان يلقب بالجناح وقال لصلاح الدين نحن نتقدم للقتال ومماليكك للغنيمة فغضب صلاح الدين وعاد عن الإفرنج إلى خيامه حتى جاء ابنه الأفضل وأخوه العادل فرحل إلى الرملة ينتظر ما آل أمره مع الإفرنج وأقاموا بيافا والله تعالى أعلم. |
الصلح بين صلاح الدين والإفرنج ومسير ملك انكلطرة إلى بلاده
كان ملك انكلطرة إلى هذه المدة قد طال مغيبه عن بلاده ويئس من بلاد الساحل لأن المسلمين استولوا عليه فأرسل إلى صلاح الدين يسأله في الصلح. وظن صلاح الدين أن ذلك مكر فلم يجبه. وطلب الحرب فألح ملك انكلطرة في السؤال وظهر صدق ذلك منه فترك ما كان فيه من عمارة عسقلان وغزة والداروم والرملة. وبعث إلى الملك العادل بأن يتوسط في ذلك فأشار على صلاح الدين بالإجابة هو وسائر الأمراء لما حدث عند العساكر من الضجر ونفاد النفقات وهلاك الدواب والأسلحة وما بلغهم أن ملك انكلطرة عائد إلى بلاده. وإن لم تقع الإجابة آخر فصل الشتاء امتنع ركوب البحر فيقيم إلى قابل. فلما وعى ذلك صلاح الدين وعلم صحته أجاب إلى الصلح وعقد الهدنة مع رسل الإفرنج في عشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين لمدة أربعة وأربعين شهراً فتحالفوا على ذلك وأذن صلاح الدين للإفرنج في زيارة القدس. وارتحل ملك انكلطرة في البحر عائداً إلى بلده وأقام الكندهري صاحب صور بعد المركيش ملكاً على الإفرنج بسواحل الشام وتزوج الملكة التي كانت تملكهم قبله وقبل صلاح الدين كما مر. وسار صلاح الدين إلى القدس فأصلح أسواره وأدخل كنيسة صهيون في البلد وكانت خارج السور. واختط المدارس والربط والمارستان ووقف عليها الأوقاف واعتزم على الاحرام منه للحج فاعترضته القواطع دون ذلك فسار إلى دمشق خامس شوال واستخلف عليها الأمير جرديك من موالي نور الدين. ومر بكفور المسلمين نابلس وطبرية وصفد وبيروت. ولما انتهى إلى بيروت أتاه بها سمند صاحب إنطاكية وطرابلس وأعمالها فالتزم طاعة صلاح الدين وعاد ودخل صلاح الدين دمشق في الخامس والعشرين من شوال وسر الناس بقدومه ووهن العدو والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة صلاح الدين وحال ولده وأخيه من بعده ولما وصل صلاح الدين إلى دمشق وقد خف من شواغل الإفرنج بوهنهم وما عقد من الهدنة فأراح قليلاً. ثم اعتزم على إحداث الغزو فاستشار ابنه الأفضل وأخاه العادل في مذهبه فأشار العادل بخلاط لأنه كان وعده أن يقطعه إياها إذا ملكها. وأشار الأفضل ببلاد الروم إيالة بني قليج أرسلان لسهولة أمرها واعتراض الإفرنج فيها إذا قصدوا الشام لأنها طريقهم. فقال لأخيه تذهب أنت لخلاط في بعض ولدي وبعض العساكر وأذهب أنا إلى بلاد الروم. فإذا فرغت منها لحقت بكم فسرنا إلى أذربيجان ثم إلى بلاد العجم. وأمره بالمسير إلى الكرك وهي من أقطاعه ليتجهز منها ويعود لشأنه. فسار إلى الكرك ومرض صلاح الدين بعده ومات في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة وعشرين سنة من ملكه مصر رحمه الله تعالى. وكان معه بدمشق ابنه الأفضل نور الدين والعساكر عنده فملك دمشق والساحل وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وشوش وجميع الأعمال إلى الداروم. وكان بمصر ابنه العزيز عثمان فاستولى عليها. وكان بحلب ابنه الظاهر غازي فاستولى عليها وعلى أعمالها مثل حارم وتل باشر وإعزاز وبرزية ودربساك وغيرها. وأطاعه صاحب حماة ناصر الدين محمد بن تقي الدين بن شيركوه. وله مع حماة سلمية والمعرة ومنبج. وابن محمد بن شيركوه وله مع الرحبة حمص وتدمر. وببعلبك بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه ولقبه الأمجد. وببصرى الظافر بن صلاح الدين ولقبه الأمجد مع أخيه الأفضل. وفي شيزر سابق الدين عثمان بن الداية وبالكرك والشوبك الملك العادل. وبلغ الخبر إلى العادل فأقام بالكرك. واستدعاه الأفضل من دمشق فلم يجبه فخوفه ابن أخيه العزيز صاحب مصر من عز الدين صاحب الموصل. وقد كان سار من الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة فوعده بالنصر منه. وأوهمه الرسول أن يسر إلى الأفضل بدمشق أنه متوجه إلى العزيز بمصر ليحالفه عليه. فحينئذ ارتاب العادل وسار إلى الأفضل بدمشق وأرسل إلى صاحب حمص وصاحب حماة يحضهم على إنفاذ العساكر معه وعبر بها الفرات. وأقام بنواحي الرها. وكان عز الدين مسعود ابن مودود صاحب الموصل لما بلغه وفاة صلاح الدين اعتزم على المسير إلى بلاد العادل بالجزيرة وحران والرها وسائرها ليرتجعها من يده ومجاهد الدين قايماز أتابك دولته يثنيه عن ذلك ويعذله فيه فتبين حال العادل مع ابن أخيه. وبينما هو في ذلك إذ جاءت الأخبار بأن العادل بحران. ثم وافاهم كتابه بأن الأفضل ملك بعد أبيه صلاح الدين وأطاعه الناس فكاتب عز الدين جيرانه من الملوك مثل صاحب سنجار وصاحب ماردين يستنجدهم. وجاء إليه أخوه على نصيبين وسار معه إلى الرها فأصابه المرض في طريقه ورجع إلى الموصل فمات أول رجب من السنة واستقرت إيالة العادل في ملكه من الجزيرة فلم يهجه منها أحد والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. مسير العزيز من مصر إلى حصار الأفضل بدمشق وما استقر بينهم في الولايات كان العزيز عثمان بن صلاح الدين قد استقر بمصر كما ذكرناه وكان موالي أبيه منحرفين عن الأفضل ورؤساؤهم بومئذ جهاركس وقراجا وقد استقر بهم عدو الأفضل والأكراد وموالي شيركوه شيعة له فكان العدو يعدون العزيز بهؤلاء الشيع ويخوفونه من أخيه الأفضل ويغرونه بانتزاع دمشق من يده فسار لذلك سنة تسعين وخمسمائة ونزل على دمشق واستنزل الأفضل وهو بأعماله بالجزيرة وسار لعمه العادل بنفسه وسار معه الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب وناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه صاحب حماة وشيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص وعساكر الموصل من قبل عز الدين مسعود بن مودود. وساروا كلهم إلى الأفضل بدمشق لإنجاده فامتنع على العزيز مرامه وتراسلوا في الصلح على أن يكون القدس وأعمال فلسطين للعزيز وجبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب وتبقى دمشق وطبرية والغور للأفضل وأن يستقر العادل بمصر مدبراً دولة العزيز على إقطاعه الأول وانعقد الصلح على ذلك ورجع العزيز إلى مصر وعاد كل إلى بلده والله تعالى أعلم. حصار العزيز ثانياً دمشق وهزيمته ولما عاد العزيز إلى مصر عاد موالي صلاح الدين إلى إغرائه بأخيه الأفضل فتجهز لحصاره بدمشق سنة إحدى وتسعين وسار الأفضل من دمشق إلى عمه العادل بقلعة جعبر ثم إلى أخيه الظاهر غازي بحلب مستنجداً لهما. وعاد إلى دمشق فوجد العادل قد سبقه إليها واتفقا على أن تكون مصر للأفضل ودمشق للعادل. ووصل العزيز إلى قرب دمشق. وكان الأكراد وموالي شيركوه منحرفين عنه كما قدمناه وشيعة للأفضل ومقدمهم سيف الدين أبو ركوش من الموالي وأبو الهيجاء السمين من الأكراد فدلسا للأفضل بالخروج إلى العزيز وواعداه الهزيمة عنه فخرجا وبعث الأفضل العادل إلى القدس فتسلمه من نائب العزيز وساروا في اتباعه إلى مصر والعساكر ملتفة على الأفضل فارتاب العادل وخشي أن لا يفي له الأفضل بما اتفقا عليه ولا يمكنه من دمشق فراسل العزيز بالثبات وأن ينزل حامية ووعد من نفسه المظاهرة على أخيه وتكفل له منعه من مقاتلته بلبيس فترك العزيز بها فخر الدين جهاركس في عسكر من موالي أبيه. وأراد الأفضل مناجزتهم فمنعه العادل فأراد الرحيل إلى مصر فمنعه أيضاً. وقال له إن أخذت مصرعنوة انخرقت الهيبة وطمع فيها الأعداء والمطاولة أولى. ودس إلى العزيز بإرسال القاضي الفاضل. وكان مطاعاً فيهم لمنزلته عند صلاح الدين فجاء إليهما وعقد الصلح بينهم على أن يكون للأفضل القدس وفلسطين وطبرية والأردن مضافة إلى دمشق ويكون للعادل كما كان القديم. ويقيم بمصر عند العزيز يدبر أمره وتحالفوا على ذلك وعاد الأفضل إلى دمشق وأقام العادل عند العزيز بمصر انتهى والله أعلم. استيلاء العادل علم دمشق ثم إن العزيز استمال العادل وأطمعه في دمشق أن يأخذها من أخيه ويسلمها إليه وكان الظاهر صاحب حلب يعدل الأفضل في موالاة عمه العادل ويحرضه على إبعاده فيلج في ذلك. ثم إن العادل والعزيز سارا من مصر وحاصرا دمشق. واستمالا من أمراء الأفضل أبا غالب الحمصي على وثوق الأفضل به وإحسانه إليه ففتح لهما الباب الشرقي عشي السابع والعشرين من رجب سنة اثنتين وتسعين فدخل العادل منه إلى دمشق ووقف العزيز بالميدان الأخضر وخرج إليه أخوه الأفضل. ثم دخل الأفضل دار شيركوه وأظهروا مصالحة الأفضل خشية من جموعه. وأعادوه إلى القلعة وأقاموا بظاهر البلد. والأفضل يغاديهم كل يوم ويراوحهم حتى استفحل أمرهم فأمروه بالخروج من دمشق وتسليم أعمالهم وأعطوه قلعة صرخد. وملك العزيز القلعة. ونقل للعادل أن العزيز يريد أن يتردد إلى دمشق فجاء إليه وحمله على تسليم القلعة فسلمها وخرج الأفضل إلى رستاق له خارج البلد فأقام به وسار منه إلى صرخد. وعاد العزيز إلى مصر وأقام العادل بدمشق والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم. فتح العادل يافا من الإفرنج واستيلاء الإفرنج على بيروت وحصارهم تبنين ولما توفي صلاح الدين وملك أولاده بعده جدد العزيز الهدنة مع الكندهري ملك الإفرنج كما عقد أبوه معه. وكان الأمير أسامة يقطع بيروت فكان يبعث الشواني للإغارة على الإفرنج. وشكوا ذلك إلى العادل بدمشق والعزيز بمصر فلم يشكياهم فأرسلوا إلى ملوكهم وراء البحر يستنجدونهم فأعدوهم بالعساكر وأكثرهم من الألمان. ونزلوا بعكا واستنجد العادل بالعزيز فبعث إليه بالعساكر وجاءته عساكر الجزيرة والموصل واجتمعوا بعين جالوت وأقاموا رمضان وبعض شوال من سنة اثنتين وتسعين. ثم ساروا إلى يافا فملكوا المدينة أولاً وخربوها. وامتنع الحامية بالقلعة فحاصرها وفتحوها عنوة واستباحوها. وجاء الإفرنج من عكا لصريخ إخوانهم وانتهوا إلى قيسارية فبلغهم خبر وفادتهم وخبر وفادة الكندهري ملكهم بعكا فرجعوا ثم اعتزموا على قصد بيروت فسار العادل لتخريبها حذراً عليها من الإفرنج فتكفل له أسامة عاملها بحمايتها. وعاد ووصل إليها الإفرنج يوم عرفة من السنة وهرب منها أسامة وملكوها. وفرق العادل العساكر فخربوا ما كان بقي من صيدا بعد تخريب صلاح الدين وعاثوا في نواحي صور فعاد الإفرنج إلى صور ونزل المسلمون على قلعة هونين. ثم نازل الإفرنج حصن تبنين في صفر سنة أربع وتسعين وبعث العادل عسكراً لحمايته فلم يغنوا عنه. ونقب الإفرنج أسواره فبعث العادل بالصريخ إلى صاحب مصر فأغذ السير بعاكره وانتهى إلى عسقلان من هذه السنة. وكان المسلمون في تبنين قد بعثوا إلى الإفرنج من يستأمن لهم ويسلمون لهم فأنذرهم بعض الإفرنج بأنهم يغدرون بهم فعادوا إلى حصنهم وأصروا على الامتناع حتى وصل العزيز إلى عسقلان فاضطرب الإفرنج لوصوله ولم يكن لهم ملك وإنما كان معهم الجنصكير القسيس من أصحاب ملك الألمان والمرأة زوجة الكندهري فاستدعوا ملك قبرص واسمه هنري وهو أخ الملك الذي أسر بحطين فجاءهم وزوجوه بملكتهم. فلما جاء العزيز وسار من عسقلان إلى جبل الخليل وأطل على الإفرنج وناوشهم القتال رجع الإفرنج إلى صور ثم إلى عكا. ونزلت عساكر المسلمين بالبحور فاضطرب أمراء العزيز واجتمع جماعة منهم وهم ميمون القصري وقرا سنقر والحجاب وابن المشطوب على الغدر بالعزيز ومدبر دولته فخر الدين جهاركس فأغذ السير إلى مصر. وتراسل العادل والإفرنج في الصلح. وانعقد بينهم في شعبان من السنة ورجع العادل إلى دمشق وسار منها إلى ماردين كما يأتي خبره والله تعالى أعلم. |
وفاة طغتكين بن أيوب باليمن
وملك ابنه إسماعيل ثم سليمان بن تقي الدين شاهنشاه. قد كان تقدم لنا أن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب سار إلى المدينة سنة ثمان وسبعين بعد وفاة أخيه شمس الدولة توران شاه واختلاف نوابه باليمن. واستولى عليها ونزل زبيد وأقام بها إلى أن توفي في شوال سنة ثلاث وتسعين وكان سيء السيرة كثير الظلم للرعية جماعاً للأموال. ولما استفحل بها أراد الاستيلاء على مكة فبعث الخليفة الناصر إلى أخيه صلاح الدين يمنعه من ذلك فمنعه. ولما توفي ملك مكانه ابنه إسماعيل وبلغ المعز وكان أهوج فانتسب في بني أمية وادعى الخلافة وتلقب بالهادي ولبس الخضرة وبعث إليه عمه العادل بالملامة والتوبيخ فلم يقبل وأساء السيرة في رعيته وأهل دولته فوثبوا به وقتلوه. وتولى ذلك سيف الدين سنقر مولى أبيه ونصب أخاه الناصر سنة ثمان وتسعين فأقام بأمره. ثم هلك سنقر لأربع سنين من دولته وقام مكانه غازي بن جبريل من أمرائهم وتزوج أم الناصر. ثم قتل الناصر مسموماً وثار العرب منه بغازي المذكور. وبقي أهل اليمن فوضى واستولى على طغان وبلاد حضرموت محمد بن محمد الحميري واستبدت أم الناصر وملكت زبيد وبعثت في طلب أحد من بني أيوب تملكه على اليمن. وكان للمظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه وقيل لابنه سعد الدين شاهنشاه ابن اسمه سليمان ترهب ولبس المسموح ولقيه بالموسم بعض غلمانها وجاءته فتزوجته وملكته اليمن والله سبحانه وتعالى أعلم. مسير العادل إلى الجزيرة وحصاره ماردين كان نور الدين أرسلان شاه مسعود صاحب الموصل قد وقع بينه وبين قطب الدين محمد ابن عمه عماد الدين زنكي صاحب نصيبين والخابور والرقة وبين أبيه عماد بن قبله فتنة بسبب الحدود في تخوم أعمالهم. فسار نور الدين إليه في عساكره وملك منه نصيبين. ولحق قطب الدين بحران والرها إيالة العادل بن أيوب. وبعث إليه بالصريخ وهو بدمشق وبذل له الأموال في أنجاده فسار العادل إلى حران وارتحل نور الدين من نصيبين إلى الموصل. وسار قطب الدين إليها فملكها وسار العادل إلى ماردين في رمضان من السنة فحاصرها. وكان صاحبها حسام الدين بولو أرسلان بن أبي الغازي بن ألبا بن تمرتاش أبي الغازي بن أرتق وهو صبي وكافله مولى النظام برتقش مولى أبيه والحكم له. ودام حصاره عليها وملك الربض وقطع الميرة عنها. ثم رحل عنها في العام القابل كما تقدم في أخبار دولة زنكي والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. وفاة العزيز صاحب مصر وولاية أخيه الأفضل ثم توفي العزيز عثمان بن صلاح الدين آخر محرم سنة خمس وتسعين وكان فخر الدين أياس جهاركس مولى أبيه مستبداً عليه فأرسل العادل بمكانه من حصار ماردين يستدعيه للملك. وكان جهاركس هذا مقدم موالي صلاح الدين وكانوا منحرفين عن الأفضل. وكان موالي صلاح الدين شيركوه والأكراد شيعة له. وجمعهم جهاركس لينظر في الولاية وأشار بتولية ابن العزيز فقال له سيف الدين أيازكوش مقدم موالي شيركوه لا يصلح لذلك لصغره إلا أن يكفله أحد من ولد صلاح الدين. لأن رياسة العساكر صنعة. واتفقوا على الأفضل. ثم مضوا إلى القاضي الفاضل فأشار بذلك أيضاً وأرسل أيازكوس يستدعيه من صرخد فسار آخر صفر من السنة. ولقيه الخبر في طريقه بطاعة القدس له وخرج أمراء مصر فلقوه ببلبيس وأضافه أخوه المؤيد مسعود وفخر الدين جهاركس مدبر دولة العزيز فقدم أخاه وارتاب جهاركس واستأذنه في المسير ليصلح بين طائفتين من العرب اقتتلا فأذنه فسار فخر الدين إلى القدس وتملكه. ولحقه جماعة من موالي صلاح الدين منهم قراجا الدكرمس وقرا سنقر. وجاءهم ميمون القصري فقويت شوكتهم به واتفقوا على عصيان الأفضل. وأرسلوا إلى الملك العادل يستدعونه فلم يعجل لإجابتهم لطمعه في أخذ ماردين وارتاب الأفضل بموالي صلاح الدين وهم شقيرة وانبك مطيش وألبكي. ولحق جماعة منهم بأصحابهم بالقدس وأرسل الأفضل إليهم في العود على ما يختارونه فامتنعوا وأقام هو بالقاهرة وقرر دولته وقدم فيها سيف الدين أيازكوش والملك لابن أخيه العزيز عثمان وهو كافل له لصغره. وانتظمت أمورهم على ذلك انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم. حصار الأفضل دمشق وعودته عنها ولما انتظمت الأمور للأفضل بعث إليه الظاهر غازي صاحب حلب وابن عمه شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص يغريانه بملك دمشق لغيبة العادل عنها في حصار ماردين ويعدانه المظاهرة فسار من منتصف السنة ووصل إلى دمشق منتصف شعبان. وسبقه العادل إليها وترك العساكر مع ابنه الكامل على ماردين ولما نزل الأفضل على دمشق وكان معه الأمير مجد الدين أخو عيسى الهكاري فداخل قوماً من الأجناد في دمشق في أن يفتحوا له باب السلامة. ودخل منه هو والأفضل سراً وانتهوا إلى باب البريد ففطن عسكر العادل لقلتهم وانقطاع مددهم فتراجعوا وأخرجوهم. ونزل الأفضل بميدان الحصار. وضعف أمره واعصوصب الأكراد من عساكره فارتاب بهم الآخرون وانحازوا عنهم في المعسكر. ووصل شيركوه صاحب حمص ثم الظاهر صاحب حلب آخر شعبان وأول رمضان لمظاهرة الأفضل. وأرسل العادل إلى موالي صلاح الدين بالقدس فساروا إليه وقوي بهم ويئس الأفضل وأصحابه وخرج عساكر دمشق ليبيتوهم فوجدوهم حذرين فرجعوا. وجاء الخبر إلى العادل بوصول ابنه محمد الكامل إلى حران فاستدعاه ووصل منتصف صفر سنة ست وتسعين فعند ذلك رحلت العساكر من دمشق وعاد كل منهم إلى بلاده انتهى والله أعلم. أفراح الكامل عن ماردين قد كان تقدم لنا مسير العادل إلى ماردين وسار معه صاحب الموصل وغيره من ملوك الجزيرة وديار بكر وفي نفوسهم غصص من تغلب العادل على ماردين وغلبهم. فلما عاد العادل إلى دمشق لمدافعة الأفضل وترك ابنه الكامل على حصار ماردين واجتمع ملوك الجزيرة وديار بكر على مدافعته عنها. وسار نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل وابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار وابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار وابن عمه قطب الدين سنجار شاه بن غازي صاحب جزيرة ابن عمر واجتمعوا كلهم ببدليس حتى قضوا عيد الفطر وارتحلوا سادس شوال وقاربوا جبل ماردين. وكان أهل ماردين قد اشتد عليهم الحصار وبعث النظام برتقش صاحبها إلى الكامل بتسليم القلعة على شروط اشترطها إلى أجل ضربه. وأذن لهم الكامل في إدخال الأقوات في تلك المدة. ثم جاءه الخبر بوصول صاحب الموصل ومن معه فنزل القائم للقائهم وترك عسكراً بالربض. وبعث قطب الدين صاحب سنجار إلى الكامل ووعده بالإنهزام. فلم يغن ولما التقى الفريقان حمل صاحب الموصل عليهم مستميتاً فانهزم الكامل وصعد إلى الربض فوجد أهل ماردين قد غلبوا عسكره الذين هنالك ونهبوا مخلفهم. فارتحل الكامل منتصف شوال مجفلاً ولحق بميافارقين. وانتهب أهل ماردين مخلفه. ونزل صاحبها فلقي صاحب الموصل. وعاد إلى قلعته. وارتحل صاحب الموصل إلى رأس عين لقصد حلوان والرها وبلاد الجزيرة من بلاد العادل فلقيه هنالك رسول الظاهر صاحب حلب يطلبه في السكة والخطبة فارتاب لذلك وكان عازماً على نصرتهم فقعد عنهم وعاد إلى الموصل. وأرسل إلى الأفضل والظاهر يعتذر بمرض طرقه وهما يومئذ على دمشق ووصل الكامل من ميافارقين إلى حران فاستدعاه أبوه من دمشق وسار إليه في العساكر فأفرج عنه الأفضل والظاهر والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء العادل على مصر ولما رحل الأفضل والظاهر إلى بلادهم تجهز العادل إلى مصر وأغراه عوالمي صلاح الدين بذلك واستحلفوه على أن يكون ابن العزيز ملكاً وهو كافله. وبلغت الأخبار بذلك إلى الأفضل وهو في بلبيس فسار منها ولقيهم فانهزم لسبع خلون من ربيع الآخر سنة ست وتسعين. ودخل القاهرة ليلاً وحضر الصلاة على القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني توفي تلك الليلة. وسار العادل لحصار القاهرة وتخاذل أصحاب الأفضل منه فأرسل إلى عمه في الصلح وتسليم الديار المصرية له على أن يعوضه دمشق أو بلاد الجزيرة وهي حران والرها وسروج فلم يجبه وعوضه ميافارقين وجبال نور وتحالفوا على ذلك. وخرج الأفضل من القاهرة ثامن عشر ربيع واجتمع بالعادل وسار إلى بلده صرخد. ودخل العادل القاهرة من يومه ولما وصل الأفضل صرخد بعث من يتسلم البلاد التي عوضه العادل وكان بها ابنه نجم الدين أيوب فامتنع من تسليم ميافارقين وسلم ما عداها. وردد الأفضل رسله في ذلك إلى العادل فزعم أن ابنه عصاه فعلم الأفضل أنه أمره واستفحل العادل في مصر وقطع خطبة المنصور بن العزيز وخطب لنفسه واعترض الجند ومحصهم بالمحو والإثبات فاستوحشوا لذلك. وبعث العادل فخر الدين جهاركس مقدم موالي صلاح الدين في عسكر إلى بانياس ليحاصرها ويملكها لنفسه ففصل من مصر للشام في جماعة الموالي الصلاحية. وكان بها الأمير بشارة من أمراء الترك ارتاب العادل بطاعته فبعث العساكر إليه مع جهاركس والله تعالى أعلم. مسير الظاهر والأفضل إلى حصار دمشق ولما قطع العادل خطبة المنصور بن العزيز بمصر استوحش الأمراء لذلك ولما كان منه في اعتراض الجند فراسلوا الظاهر بحلب والأفضل بصرخد أن يحاصرا دمشق فيسير إليهما الملك العادل فيتأخرون عنه بمصر ويقومون بدعوتهما. ونمي الخبر إلى العادل وكتب به إليه الأمير عز الدين أسامة جاء من الحج ومر بصرخد فلقيه الأفضل ودعاه إلى أمرهم وأطلعه على ما عنده فكتب به إلى العادل وأرسل العادل إلى ابنه المعظم عيسى بدمشق يأمره بحصار الأفضل بصرخد. وكتاب إلى جهاركس بمكانه من حصار بانياس وإلى ميمون القصري صاحب بانياس بالمسير معه إلى صرخد ففر منها الأفضل إلى أخيه الظاهر بحلب فوجده يتجهز لأنه بعث أميراً من أمرائه إلى العادل فرده من طريقه. فسار إلى منبج فملكها ثم قلعة نجم كذلك وذلك سلخ وسار المعظم بقصد صرخد وانتهى إلى بصرى وبعث عن جهاركس والذين معه على بانياس فغالطوه ولم يجيبوه فعاد إلى دمشق. وبعث إليهم الأمير أسامة يستحثهم فأغلظوا له في القول وتناوله البكاء منهم وثاروا به جميعاً فتذمم لميمون القصري منهم فأمنه وعاد إلى دمشق. ثم ساروا إلى الظاهر حضر به صلاح الدين وأنزله من صرخد واستحثوا الظاهر والأفضل للوصول فتباطأ الظاهر عنهم وسار من منبج إلى حماة فحاصرها حتى صالحه صاحبها ناصر الدين محمد على ثلاثين ألف دينار صورية. فارتحل عنها تاسع رمضان إلى حمص ومعه أخوه الأفضل ومنها إلى بعلبك وإلى دمشق. ووافاه هنالك الموالي الصلاحية مع الظاهر خضر بن مولاهم. وكان الوفاق بينهم إذا فتحوا دمشق أن تكون بيد الأفضل فإذا ملكوا مصر سار إليها وبقيت للظاهر. وأقطع الأفضل صرخد لمولى أبيه زين الدين قراجا وأخرجا أهله منها إلى حمص عند شيركوه بن محمد بن شيركوه. وكان العادل قد سار من مصر إلى الشام فانتهى إلى نابلس وبعث عسكراً إلى مشق ووصلوا قبل وصول هذه العساكر فلما وصلوها قاتلوها يوماً وثانية منتصف ذي القعدة وأشرفوا على أخذها فبعث الظاهر إلى الأفضل بأن دمشق تكون له فاعتذر بأن أهله في غير مستقر ولعلهم يأوون إلى دمشق في خلال ما يملك مصر فلج الظاهر في ذلك. وكان الموالي الصلاحية مشتملين على الأفضل وشيعة له فخيرهم بين المقام والانصراف ولحق فخر الدين جهاركس وقراجا بدمشق فامتنعت عليهم وعادوا إلى تجديد الصلح مع العادل على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفر طاب وبعض قرى المعرة والأفضل له سميساط وسروج ورأس عين وحملين فتم ذلك بينهم ورحلوا عن دمشق في محرم سنة ثمان وتسعين. وسار الظاهر إلى حلب والأفضل إلى حمص فأقام بها عند أهله ووصل العادل إلى دمشق في تاسوعاء وجاءه الأفضل فلقيه بظاهر دمشق وعاد إلى بلاده فتسلمها. وكان الظاهر والأفضل لما فصلا من منبج إلى دمشق بعثا إلى نور الدين صاحب الموصل أن يقصد بلاد العادل بالجزيرة وكانت بينه وبينهما وبين صاحب ماردين يمين واتفاق على العادل منذ ملك مصر مخافة أن يطرق أعمالهم فسار نور الدين عن الموصل في شعبان ومعه ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار وعسكر ماردين ونزلوا رأس عين. وكان بحران الفائز بن العادل في عسكر يحفظ أعمالهم بالجزيرة فبعث إلى نور الدين في الصلح ووصل الخبر بصلح العادل مع الشاه والأفضل فأجابهم نور الدين إلى الصلح واستحلفوا وبعث أرسلان من عنده إلى العادل فاستحلفوه أيضاً وصحت الحال والله تعالى ولي التوفيق. حصار ماردين ثم الصلح بين العادل والأشرف ثم بعث الملك العادل ابنه الأشرف موسى في العساكر لحصار ماردين فسار إليها ومعه عساكر الموصل وسنجار ونزلوا بالحريم تحت ماردين. وسار عسكر من قلعة البازغية من أعمال ماردين لقطع الميرة عن عسكر الأشرف فلقيهم جماعة من عسكر الأشرف وهزموهم. وأفسد التركمان السابلة في تلك النواحي وامتنع على الأشرف قصده فتوسط الظاهر غازي في الإصلاح بينهم على أن يحمل صاحب ماردين للعادل مائة وخمسين ألف دينار والدينار أحد عشر قيراطاً من الأميري ويخطب له ببلاده ويضرب السكة باسمه وتعسكر طائفة من جنده متى دعاهم لذلك فأجاب العادل وتم الصلح بينهما ورحل الأشرف عن ماردين والله أعلم. أخذ البلاد من يد الأفضل قد كان تقدم أن الظاهر والأفضل لما صالحا العادل سنة سبع وتسعين أخذ الأفضل سميساط وسروج ورأس عين وحملين وكانت بيده معها قلعة نجم التي ملكها الظاهر بين يدي الحصار قبل الصلح ثم استرد العادل البلاد من يد الأفضل سنة تسع وتسعين وأبقى له سميساط وقلعة نجم فطلب الظاهر قلعة نجم على أن يشفع له عند العادل في رد ما أخذ منه فلم يجب فتهدده. ولم تزل الرسل تتردد بينهما حتى سلمها إليه في شعبان من السنة وبعث الأفضل أمه إلى العادل في رد سروج ورأس عين عليهم فلم يشفعها فبعث الأفضل إلى ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم بطاعته وأن يخطب له فبعث إليه بالخلعة وخطب له الأفضل في سميساط سنة ستمائة. وسار من جملة نوابه في أعماله. وفي سنة تسع وتسعين هذه خاف على مصر محمود بن العزيز صاحب مصر بعث العساكر إلى الرها لأنه لما قطع خطبته من مصر سنة ست وتسعين خاف على مصر شيعة أبيه فأخرجه سنة ثمان وتسعين إلى دمشق. ثم نقله في هذه السنة إلى الرها ومعه أخواته وأمه وأهله فأقاموا بها والله أعلم. واقعة الأشرف مع صاحب الموصل كانت الفتنة متصلة بين نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل وبين ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار واستمال العادل بن أيوب قطب الدين فخطب له بأعماله. وسار إليه نور الدين غيرة من ذلك فحاصر نصيبين في شعبان من سنة ستمائة. وبعث قطب الدين يستمد الأشرف موسى بن العادل وهو بحران فسار إلى رأس عين لإمداده ومدافعة نور الدين عنه بعد أن اتفق على ذلك مع مظفر الدين صاحب إربل وصاحب جزيرة ابن عمر وصاحب كيفا وآمد. ففارق نور الدين نصيبين وسار إليها الأشرف وجاءه أخوه نجم الدين صاحب ميافارقين وصاحب كيفا وصاحب الجزيرة وساروا جميعاً إلى بلد البقعا ونور الدين صاحب الموصل قد انصرف من تل أعفر وقد ملكها إلى كفر رمان معتزماً على مطاولتهم إلى أن يفترقوا. ثم أغراه بعض مواليه كان بعثه عيناً عليهم فقللهم في عينه وحرضه على معاجلتهم باللقاء فسار إلى نوشرا ونزل قريباً منهم. ثم ركب لقتالهم واقتتلوا فانهزم نور الدين ولحق بالموصل ونزل الأشرف وأصحابه كفر رمان وعاثوا في البلاد واكتسحوها. وترددت الرسل بينهم في الصلح على أن يعيد نور الدين على قطب الدين قلعة تل أعفر التي أخذها له فتم ذلك سنة إحدى وستمائة وعاد إلى بلده والله تعالى أعلم. وصول الإفرفج إلى الشام والصلح معهم ولما ملك الإفرنج القسطنطينية من يد الروم سنة إحدى وستمائة تكالبوا على البلاد ووصل جمع منهم إلى الشام وأرسلوا بعكا عازمين على ارتجاع القدس من المسلمين. ثم ساروا في نواحي الأردن فاكتسحوها وكان العادل بدمشق استنفر العساكر من الشام ومصر وسار فنزل بالطور قريباً من عكا وساروا إلى كفر كنا فاستباحوه. ثم انقضت وتراسلوا في المهادنة على أن ينزل لهم العادل عن كثير من مناصف الرملة وغيرها ويعطيهم وغيرها. وتم ذلك بينهم وسار العادل إلى مصر فقصد الإفرنج حماة وقاتلهم صاحبها ناصر الدين محمد فهزموه وأقاموا أياماً عليها ثم رجعوا والله تعالى أعلم. |
غارة ابن ليون على أعمال حلب
قد تقدم لنا ذكر ابن ليون ملك الأرمن وصاحب الدروب فأغار سنة اثنتين وستمائة على أعمال حلب واكتسحها واتصل ذلك منه فجمع الظاهر غازي صاحب حلب ونزل على خمسة فراسخ من حلب وفي مقدمته ميمون القصري من موالي أبيه منسوباً إلى قصر الخلفاء بمصر ومنه كان أبوه. وكان الطريق إلى بلاد الأرمن متعذراً من حلب لتوعر الجبال وصعوبة المضايق وكان ابن ليون قد نزل في طرف بلاده لما يلي حلب ومن ثغورها قلعة دربساك فخشي الظاهر عليها منه وبعث إليها مدداً وأمر ميمون القصري أن يشيعه بطائفة من عسكره ففعل وبقي في خف من الجند. ووصل خبره إلى ابن ليون فكبس القصري ونال منه ومن المسلمين وانهزموا أمامه فظفر بمخلفهم ورجع فلقي في طريقه المدد الذي بعث إلى دربساك فهزمهم وظفر بما كان معهم وعاد الأرمن إلى بلادهم فاعتصموا بحصونهم والله تعالى أعلم. استيلاء نجم الدين بن العادل على خلاط كان العادل قد استولى على ميافارقين وأنزل بها ابنه الأوحد نجم الدين. ثم استولى نجم الدين على حصون من أعمال خلاط وزحف إليها سنة ثلاث وستمائة وقد استولى عليها بليان مولى شاهرين فقاتلة وهزمه وعاد إلى ميافارقين فهزمهم. ثم دخلت سنة أربع وستمائة. وملك مدينة سوس وغيرها وأمده أبوه العادل بالعساكر فقصد خلاط وسار إليه بليان فهزمه نجم الدين وحاصره بخلاط. وبعث بليان إلى مغيث الدين طغرل بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم يستنجده فجاء في عساكره واجتمع مع بليان وانهزم نجم الدين ونزلا على مدينة تلبوس فحاصراها. ثم غدر طغرل شاه ببليان وقتله وسار إلى خلاط ليملكها فطرده أهلها فسار إلى ملازكرد فامتنعت عليه فعاد إلى بلاده. وأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين فملكوه خلاط وأعمالها وخافه الملوك المجاورون له وملك الكرك وتابعوا الغارات على بلاده فلم يخرج إليهم خشية على خلاط. واعتزل جماعة من عسكر خلاط فاستولوا على حصن وإن من أعظم الحصون وأمنعها فعصوا على نجم الدين واجتمع إليهم جمع كثير وملكوا مدينة أرجيش واستمد نجم الدين على خلاط وأعمالها وعاد أخوه الأشرف إلى أعماله بحران والرها. ثم سار الأوحد نجم الدين إلى ملازكرد ليرتب أحوالها فوثب أهل خلاط على عسكره فأخرجوهم وحصروا أصحابه بالقلعة ونادوا بشعار بني شاهرين. وعاد نجم الدين إليهم وقد وافاه عسكر من الجزيرة فقوي بهم وحاصر خلاط واختلف أهلها فملكها واستلحم أهلها وحبس كثيراً من أعيانها كانوا فارين وذل أهل خلاط لبني أيوب بعد هذه الوقعة إلى آخر الدولة والله تعالى أعلم. غارات الإفرنج بالشام كان الإفرنج بالشام قد أكثروا الغارات سنة أربع وستمائة بحشد ثان ثم ملكوا القسطنطينية واستفحل ملكهم فيها فأغار أهل طرابلس وحصن الأكراد منهم على حمص وأعمالها. وعجز صاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه عن دفاعهم واستنجد عليهم فأنجده الظاهر صاحب حلب بعسكر أقاموا عنده للمدافعة عنه. وأغار أهل قبرص في ر على أسطول مصر فظفروا منه بعدة قطع وأسروا من وجدوا فيها وتعث العادل إلى صاحب عكا يحتج عليه بالصلح فاعتذر بأن أهل قبرص في طاعة الإفرنج الذين بالقسطنطينية وأنه لا حكم له عليهم فخرج العادل في العساكر إلى عكا حتى صالحه صاحبها على إطلاق أسرى من المسلمين. ثم سار إلى حمص ونازل القلعتين عند بحيرة قدس ففتحه وأطلق صاحبه وغنم ما فيه وخربه وتقدم إلى طرابلس فاكتسح نواحيها اثني عشر يوماً وعاد إلى بحيرة قدس. وراسله الإفرنج في الصلح فلم يجبهم وأظله الشتاء فأذن لعساكر الجزيرة في العود إلى بلادهم وترك عند صاحب حمص عسكراً أنجده بهم وعاد إلى دمشق فشتى بها والله أعلم. غارات الكرج على خلاط وأعمالها وملكهم أرجيش ولما ملك الأوحد نجم الدين خلاط كما مر ردد الكرج الغارات على أعمالها وعاثوا فيها ثم ساروا سنة خمس وستمائة إلى مدينة أرجيش فحاصروها وملكوها عنوة واستباحوها وخربوها. وخام نجم الدين عن لقائهم ومدافعتهم إلى أن انتقض عليه أهل خلاط لما فارقها ووقع بينه وبينهم ما مر. ثم سار الكرج سنة تسع إلى خلاط وحاصروها وحاربهم الأوحد وهزمهم وأسر ملكهم ثم فاداه بمائة ألف دينار وخمسة آلاف أسير وعلى الهدنة مع المسلمين وأن يزوج بنته من الأوحد فانعقد ذلك والله تعالى أعلم بغيبه. استيلاء العادل على الخابور ونصيبين من عمل سنجار وحصارها قد تقدم لنا أن قطب الدين زنكي بن محمود بن مودود صاحب سنجار والخابور ونصيبين وما إليها كانت بينه وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة وفتنة متصلة وزوج نور الدين صاحب الموصل بنته من ابن العادل بن أيوب سنة خمس وستمائة. واتصل بهما لذلك فزين له وزراؤه وأهل دولته أن يستنجد بالعادل على جزيرة ابن عمر وأعمالها التي لابن عمه سنجار شاه ابن غازي ابن مودود فتكون الجزيرة بكمالها مضافة إلى الموصل. وملك العادل سنجار وما إليها وهي ولاية قطب الدين فتكون له فأجاب العادل إلى ذلك ورآه ذريعة إلى ملك الموصل. وأطمع نور الدين في إيالة قطب الدين إذا ملكها تكون لابنه الذي هو صهره على ابنته وتكون عنده بالموصل. وسار العادل بعساكره سنة ست وستمائة وقصد الخابور فملكه فتبين لنور الدين صاحب الموصل حينئذ أنه لا مانع منه وندم على ما فرط في رأيه من وفادته ورجع إلى الاستعداد للحصار. وخوفه الوزراء والحاشية أن ينتقض على العادل فيبدأ به. وسار العادل من الخابور إلى نصيبين فملكها وقام بمدافعته عن قطب الدين وحماية البلد من الأمير أحمد بن برتقش مولى أبيه. وشرع نور الدين صاحب سنجار ابنه مظفر الدين يستشفع به إلى العادل لمكانه منه وأثره في موالاته فشفع ولم يشفعه العادل فراسل نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق على العادل فأجابه. وسار بعساكره من الموصل واجتمع مع نور الدين بظاهرها واستنجد بصاحب حلب الظاهر وصاحب بلاد الروم كنخسرو وتداعوا على الحركة إلى بلاد العادل إن امتنع من الصلح والإبقاء على صاحب سنجار وبعثوا إلى الخليفة الناصر أن يأمر العادل فبعث إليه أستاذ داره أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك والأمير أقباش من خواص مواليه فأجاب إلى ذلك. ثم غالطهم وذهب إلى المطاولة ثم صالحهم على سنجار فقط وله ما أخذ وتحالفوا على ذلك وعاد كل إلى بلده. ثم قبض المعظم عيسى سنة عشر وستمائة على الأمير أسامة بأمر أبيه العادل وأخذ منه حصن كوكب وعجلون وكانا من أعماله فخربهما وحصن أردن بالكوكب وبنى مكانه وفاة الظاهر صاحب حلب وولاية ابنه العزيز لما توفي الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين بن أيوب صاحب حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام في جمادى الأخيرة سنة ثلاث عشرة وكان مرهف الحد ضابطاً جماعة للأموال شديد الانتقام محسناً للقضاة وعهد بالملك لابنه الصغير محمد بن الظاهر وهو ابن ثلاث سنين وعدل عن الكبير لأن أمه بنت عمه العادل ولقبه العزيز غياث الدين وجعل أتابكه وكافله وخادمه طغرلبك ولقبه شهاب الدين. وكان خيراً صاحب إحسان ومعروف فأحسن كفالة الولد وعدل في سيرته وضبط الإيالة بجميل نظره والله أعلم. ولاية مسعود بن الكامل على اليمن ولما ملك سليمان بن المظفر على اليمن سنة تسع وتسعين وخمسمائة أساء إلى زوجته أم الناصر التي ملكته وضارها وأعرض عنها واستبد بملكه وملأ الدنيا ظلماً. وأقام على ذلك ثلاث عشرة سنة. ثم انتقض على العادل وأساء معاملته وكتب إلى بعض الأحيان إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتب العادل إلى ابنه الكامل أن يبعث العساكر إلى اليمن مع وال من قبله فبعث ابنه المسعود يوسف واسمه بالتركي أقسنس في العساكر سنة اثنتي عشرة وستمائة فملك اليمن وقبض على سليمان شاه وبعث به معتقلاً إلى وطالت أيام مسعود باليمن وحج سنة تسع عشرة وقدم أعلام أبيه على أعلام أبيه على أعلام الخليفة الناصر فكتب الناصر يشكوه إلى أبيه فكتب إليه أبوه الكامل برئت من العادل يا أخس إن لم أقطع يمينك فقد نبذت وراء ظهرك دنياك ودينك ولا حول ولا قوة إلا بالله فاستعتب إلى أبيه وأعتبه. ثم غلب سنة ست وعشرين على مكة من يد الحسن بن قتادة سيد بني إدريس بن مطاعن من بني حسن وولى عليها وعاد إلى اليمن فهلك بقية السنة وغلب على أمر اليمن بعده علي بن رسول أستاذ داره ونصب للملك ابنه الأشرف موسى وكفله ثم هلك موسى واستبد ابن رسول باليمن وأورثه بنيه فكانت لهم دولة اتصلت لهذا العهد كما نذكره في أخبارها إن شاء الله تعالى. وصول الإفرنج من وراء البحر إلى سواحل الشام ومسيرهم إلى دمياط وحصارها واستيلاؤهم عليها كان صاحب رومة أعظم ملوك الإفرنج بالعدوة الشمالية من البحر الرومي وكانوا كلهم يدينون بطاعته وبلغة اختلاف أحوال الإفرنج بساحل الشام وظهور المسلمين عليهم فانتدب إلى إمدادهم وجهز إليهم العساكر فامتثلوا أمره من إيالته. وتقدم إلى ملوك الإفرنج أن يسيروا بأنفسهم أو يرسلوا العساكر فامتثلوا أمره وتوافت الأمداد إلى عكا من سواحل الشام سنة أربع عشرة. وسار العادل من مصر إلى الرملة وبرز الإفرنج من عكا ليصدوه فسار إلى نابلس يسابقهم إلى أطراف البلاد ويدافعهم عنها فسبقوه. ونزل هو على بيسان من الأردن وزحف الإفرنج لحربه في شعبان من السنة وكان في خف من العساكر فخام عن لقائهم. ورجع إلى دمشق ونزل مرج الصفر. واستدعى العساكر ليجمعها وانتهب الفرنج مخلفه في بيسان واكتسحوا ما بينها وبين بانياس. ونزلوا بانياس ثلاثاً ثم عادوا إلى مرج عكا بعد أن خربوا تلك الأعمال وامتلأت أيديهم من نهبها وسباياها. ثم ساروا إلى صور ونهبوا صيدا والشقيف على فرسخين من بانياس وعادوا إلى عكا بعد عيد الفطر. ثم حاصروا حصن الطور على جبل قريب من عكا كان العادل اختطها فحاصروها سبعة عشر يوماً وقتل عليها بعض ملوكهم فرجعوا عنها. وبعث العادل ابنه المعظم عيسى إلى حصن الطور فخربها لئلا يملكها الإفرنج. ثم سار الإفرنج من عكا في البحر إلى دمياط وأرسوا بسواحلها في صفر والنيل بينهم وبينها. وكان على النيل برج حصين تمر منه إلى سور دمياط سلاسل من حديد محكمه تمنع السفن من البحر الملح أن تصعد في النيل إلى مصر. فلما نزل الإفرنج بذلك الساحل خندقوا عليهم وبنوا سواراً بينهم وبين الخندق وشرعوا في حصار دمياط واستكثروا من آلات الحصار. وبعث العادل إلى ابنه الكامل بمصر أن يخرج في العساكر ويقف قبالتهم ففعل وخرج من مصر في عساكر المسلمين فنزل قريباً من دمياط بالعادلية. وألح الإفرنج على قتال ذلك البرج أربعة أشهر حتى ملكوه ووجدوا السبيل إلى دخول النيل ليتمكنوا من النزول على دمياط فبني الكامل عوض السلاسل جسراً عظيماً يمانع الداخلين إلى النيل فقاتلوا عليه قتالاً شديداً حتى قطعوه. فأمر الكامل بمراكب مملوءة بالحجارة وخرقوها وراء الجسر تمنع المراكب من الدخول إلى النيل فعدل الإفرنج إلى خليج الأزرق. وكان النيل يجري فيه قديماً فحفروه فوق الجسر وأجروا فيه الماء إلى البحر وأصعدوا مراكبهم إلى قبالة معسكر المسلمين ليتمكنوا من قتالهم لأن دمياط كانت حاجزة بينهم فاقتتلوا معهم وهم في مراكبهم فلم يظفروا. والميرة والإمداد متصلة إلى دمياط والنيل حاجز بينهم وبين الإفرنج فلا يحصل لهم من الحصار ضيق. ثم بلغ الخبر بموت العادل فاختلف العسكر وسعى مقدم الأمراء عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب الهكاري في خلع الكامل وولاية أخيه الأصغر الفائز. ونمي الخبر إلى الكامل فأسرى من ليلته إلى أشمون طناح وتفقده المسلمون من الغد فأجفلوا ولحقوا بالكامل وخلفوا سوادهم بما فيه فاستولى عليه الإفرنج وعبروا النيل إلى البر المتصل بدمياط وجالوا بينها وبين أرض مصر. وفسدت السابلة بالأعراب وانقطعت الميرة عن دمياط واشتد الإفرنج في قتالها وهي في قلة من الحامية لإجفال المسلمين عنها بغتة. ولما جهدهم الحصار وتعذر عليهم القوت استأمنوا إلى الإفرنج فملكوها آخر شعبان سنة ست عشرة وبنوا سراياهم فيما جاورها فأقفروا ورجعوا إلى عمارة دمياط وتحصينها وأقام الكامل قريباً منهم لحماية البلاد. وبنى المنصورة بقرب مصر عند مفترق البحر من جهة دمياط والله تعالى أعلم. |
الساعة الآن 08:16 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |