![]() |
وفاة العادل واقتسام الملك بين بنيه
قد ذكرنا خبر العادل مع الإفرنج الذين جاؤوا من وراء البحر إلى سواحل الشام سنة أربع عشرة وما وقع بينه وبينهم بعكا وبيسان وأنه عاد إلى مرج الصفر قريباً من دمشق فأقام به فلما سار الإفرنج إلى دمياط انتقل هو إلى خانقين فأقام بها. ثم مرض وتوفي سابع جمادى الأخيرة سنة خمس عشرة وستمائة لثلاث وعشرين سنة من ملكه دمشق وخمس وسبعين من عمره. وكان ابنه المعظم عيسى بنابلس فجاء ودفنه بدمشق. وقام بملكها واستأثر بمخلفه من المال والسلاح وكان لا يعبر عنه. يقال كان المال العين في سترته سبعمائة ألف دينار. وكان ملكاً حليماً صبوراً مسدداً صاحب إفادة وخديعة منجمة في أحواله. وكان قد قسم البلاد في حياته بين بنيه فمصر للكامل ودمشق والقدس وطبرية والكرك وما إليها للمعظم عيسى وخلاط وما إليها وبلاد الجزيرة غير الرها ونصيبين وميافارقين للأشرف موسى والرها وميافارقين لشهاب فلما توفي استقل كل منهم بعمله. وبلغ الخبر بذلك إلى الملك الكامل بمكانه قبالة الإفرنج بدمياط فاضطرب عسكره وسعى المشطوب كما تقدم في ولاية أخيه الفائز ووصل الخبر بذلك إلى المعظم عيسى فأغذ السير من دمشق إليه بمصر. وأخرج المشطوب إلى الشام فلحق بأخيهما الأشرف وصار في جملته. واستقام للكامل ملكه بمصر ورجع المعظم من مصر فقصد القدس في ذي القعدة من السنة وخرب أسواره حذراً عليه من الإفرنج. وملك الإفرنج دمياط كما ذكرناه. وأقام الكامل قبالتهم والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. وفاة المنصور صاحب حماة وولاية ابنه الناصر قد تقدم لنا أن صلاح الدين كان قد أقطع تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه مدينة حماة وأعمالها ثم بعثه إلى الجزيرة سنة سبع وثمانين فملك حران والرها وسروج وميافارقين وما إليها من بلاد الجزيرة فأقطعه إياها صلاح الدين. ثم سار إلى أرمينية وقصد بكتمر صاحب خلاط وحاصرها. ثم انتقل إلى حصار ملازكرد. وهلك عليها تلك السنة وتولى ابنه ناصر الدين محمد ويلقب المنصور على أعماله. ثم انتزع صلاح الدين منه بلاد الجزيرة وأقطعها أخاه العادل وأبقى حماة وأعمالها بيد ناصر الدين محمد المذكور فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع عشرة وستمائة لثمان وعشرين سنة من ولايته عليها بعد مهلك عم أبيه صلاح الدين والعادل. وكان ابنه ولي عهده المظفر عند العادل بمصر وابنه الآخر قليج أرسلان عند خاله المعظم عيسى بمكانه من حصاره. فاستدعاه أهل دولته بحماة واشترط المعظم عليه مالاً يحمله وأطلقه إليهم فملك حماة وتلقب الناصر. وجاءه أخوه ولي العهد من مصر فدافعه أهل حماة فرجع إلى دمشق عند المعظم وكاتبهم واستمالهم فلم يجيبوه ورجع إلى مصر والله تعالى أعلم. مسير صاحب بلاد الروم إلى حلب وانهزامه ودخولها في طاعة الأشرف قد كنا قدمناه وفاة الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب ومنبج سنة ثلاث عشرة وولاية ابنه الأصغر محمد العزيز غياث الدين في كفالة طغرل الخادم مولى أبيه الظاهر وأن شهاب الدين هذا الكامل أحسن السيرة وأفاض العدل وعف عن أموال الرعية. ورد السعاية فيهم بعضهم على بعض. وكان بحلب رجلان من الأشرار يكثران السعاية عند الظاهر ويغريانه بالناس ولقي الناس منهما شدة فأبعدهما شهاب الدين فيمن أبعد من أهل الشر ورد عليهما السعاية فكسدت سوقهما وتناولهما الناس بالألسنة والوعيد فلحقا ببلاد الروم وأطمعا صاحبها كيكاوس في ملك حلب وما بعدها. ثم رأى أن ذلك لا يتم إلا أن يكون معه بعض بني أيوب لينقاد أهل البلاد إليه. وكان الأفضل بن صلاح الدين بسميساط وقد دخل في طاعة كيكاوس غضباً من أخيه الظاهر وعمه العادل بما انتزعا من أعماله فاستدعاه كيكاوس وطلبه في المسير على أن يكون مات يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل والخطبة والسكة لكيكاوس. ثم يقصدون بلاد الأشراف بالجزيرة حران والرها وما إليهما على هذا الحكم وتحالفوا على ذلك وجمعوا العساكر وساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة رغبان فتسلمها الأفضل. ثم قلعة باشر من صاحبها ابن بدر الدين أرزم الباروقي بعد أن كانوا حاصروها وضيقوا عليها وملكها كيكاوس لنفسه فاستوحش الأفضك وأهل البلد أن يفعل مثل ذلك في حلب وكان شهاب الدين كافل العزيز بن الظاهر مقيماً بقلعة حلب لا يفارقها خشية عليها فطير الخبر إلى الملك الأشرف صاحب الجزيرة وخلاط لتكون طاعتهم وخطبتهم له والسكة باسمه ويأخذ من أعمال حلب ما اختار فجمع العساكر وسار إليهم سنة خمس عشرة ومعه وأميرهم نافع من خدمه وغيرهم من العرب. ونزل بظاهر حلب وتوجه كيكاوس والأفضل من تل باشر إلى منبج. وسار الأشرف نحوهم وفي مقدمته العرب فلقوا مقدمة كيكاوس فهزموها. فلما عادوا إلى كيكاوس منهزمين أجفل إلى بلاده. وسار الأشرف فملك رغبان وتل باشر وأخذ من كان بها من عساكر كيكاوس وأطلقهم فلحقوا بكيكاوس فجمعهم في دار وأحرقها عليهم فهلكوا. وسلم الأشرف ما ملكه من قلاع حلب لشهاب الدين الخادم كافل العزيز بحلب واعتزم على اتباع كيكاوس إلى بلاده فأدركه دخول الموصل في طاعة الأشرف وملكه سنجار قد ذكرنا في دولة بني زنكي أن القاهر عز الدين مسعود صاحب الموصل توفي في ربيع سنة خمس عشرة وستمائة وولى ابنه نور الدين أرسلان شاه في كفالة مولى أبيه نور الدين لؤلؤ مولاه ومدبر دولته. وكان أخوه عماد الدين زنكي في قلعة الصغد والسوس من أعمال الموصل بوصية أبيهما إليه بذلك وإنه بعد وفاة أخيه عز الدين طلب الأمر لنفسه وملك العمادية. وظاهره مظفر الدين كوكبري صاحب إربل على شأنه فبعث نور الدين لؤلؤ إلى الأشرف موسى بن العادل والجزيرة كلها وخلاط وأعمالها في طاعته. فأرسل إليه بالطاعة وكان على حلب مدافعاً لكياكاوس صاحب بلاد الروم كما نذكره بعد فأجابه الأشرف بالقبول ووعده النصر على أعدائه. وكتب إلى مظفر الدين يقبح عليه ما وقع من نكث العهد في اليمن التي كانت بينهم جميعاً ويأمره بإعادة عماد الدين زنكي ما أخذه من بلاد الموصل وإلا فيسير بنفسه ويسترجعها ممن أخذها ويدعوه إلى ترك الفتنة والاشتغال معه بما هو فيه من جهاد الإفرنج. فصمم مظفر الدين عن ندبته ووافقه صاحب ماردين وصاحب كيفا وآمد يجهز إلى الأشرف عسكراً إلى نصيبين للؤلؤ صاحب الموصل. ثم جهز لؤلؤ العساكر إلى عماد الدين فهزموه ولحق بإربل عند المظفر ثم وثب عماد الدين زنكي إلى قلعة كواشي فملكها وبعث لؤلؤ إلى الأشرف وهو على حلب يستنجده فعبر الفرات إلى حران واستمال مظفر الدين ملوك الأطراف وحملهم على طاعة كيكاوس والخطبة به وكان عدو الأشرف ومنازعاً له في منبج كما نذكره. وبعث أيضاً إلى الأمراء الذين مع الأشرف واستمالهم فأجابه منهم أحمد بن علي المشطوب صاحب القلعة مع الكامل على دمياط وعز الدين محمد بن نور الدين الحميدي. وفارقوا الأشرف إلى دبيس تحت ماردين ليجتمعوا على منع الأشرف من العبور إلى الموصل. ثم استمال الأشرف صاحب كيفا وآمد وأعطاه مدينة جانين وجبل الجودي ووعده بداراً إذا ملكها. ولحق به صاحب كيفا وفارق أصحابه الملوك واقتدى به بعضهم في طاعة الأشرف والنزوع إليه فافترق ذلك الجمع وسار كل ملك إلى عمله. وسار ابن المشطوب إلى إربل ومر بنصيبين فقاتله عساكرها وهزموه وافترق جمعه ومضى منهزماً. واجتاز بسنجار وبها فروخ شاه عمر بن زنكي بن مودود فبعث إليه عسكراً فجاؤوا به أسيراً وكان في طاعة الأشرف فحبس له ابن المشطوب ثم رجاه فأطلقه وسار في جماعة من المفسدين إلى البقعاء من أعمال الموصل فاكتسحها وعاد إلى سنجار. ثم سار ثانياً للإغارة على أعمال الموصل فأرصد له لؤلؤ عسكراً بتل أعفر من أعمال سنجار. فلما مر بهم قاتلوه وصعد إلى تل أعفر منهزماً. وجاء لؤلؤ من الموصل فحاصره بها شهراً أو بعضه وملكها منتصف ربيع الآخر من سنة سبع عشرة. وحبس ابن المشطوب بالموصل. ثم بعث به إلى الأشرف فحبسه بحران إلى أن توفي في ربيع الآخر من سنة سبع عشرة. ولما افترق جمع الملوك سار الأشرف من حران محاصراً لماردين. ثم صالحه على أن يرد عليه رأس عين وكان الأشرف أقطعه له. وعلى أن يأخذ منه ثلاثين ألف دينار وعلى أن يعطي صاحب كيفا وآمد قلعة المورو من بلده. رجع الأشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل وكان عمر صاحب سنجار لما أخذ منه لؤلؤ تل أعفر تخاذل عنه أصحابه وساءت ظنونهم بنفسه لما ساء فعله في أخيه وفي غيره فاعتزم على الإلقاء باليد للأشراف وتسليم سنجار له والاعتياض عنها بالرقة وبعث رسله إليه بذلك فلحقوه في طريقه من دبيس إلى نصيبين فأجاب إلى ذلك وسلم إليه الرقة وسلم سنجار في مستهل جمادى الأولى سنة سبعة عشر. وفارقها عمر فروخ شاه وأخوته بأهليهم وأموالهم. وسار الأشرف من سنجار إلى الموصل فوصلها تاسع عشر جمادى الأولى من السنة. وجاءته رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح وردد ما أخذه عماد الدين من قلاع الموصل إلى لؤلؤ ما عدا العمادية. وطال الحديث في ذلك ورحل الأشرف يريد إربل. ثم شفع عنده صاحب كيفا وغيره من بطانته وأنهوا إليه العساكر فأجاب إلى هذا الصلح وفسح لهم في تسليم القلاع إلى مدة ضربوها. وسار عماد الدين مع الأشرف حتى يتم تسليم الباقي ورحل الأشرف عن الموصل ثاني رمضان وبعث لؤلؤ نوابه إلى القلاع فامتنع جندها من تسليمها إليهم وانقضى الأجل. واستمال عماد الدين زنكي شهاب الدين غازي أخا الأشرف فاستعطف له أخاه فأطلقه ورد عليه قلعة العقر وسوس وسلم لؤلؤ قلعة تل أعفر كما كانت من أعمال سنجار والله تعالى أعلم. ارتجاع دمياط من يد الإفرنج ولما ملك الإفرنج دمياط أقبلوا على تحصينها ورجع الكامل إلى مصر وعسكر بأطراف الديار المصرية مسلحة عليها منهم. وبنى المنصورة بعد المنزلة وأقام كذلك سنين. وبلغ الإفرنج وراء البحر فتحها واستيلاء إخوانهم عليها فلجوا بذلك. وتوالت إمدادهم في كل وقت إليها والكامل مقيم بمكانه. وتواترت الأخبار بظهور التتر ووصولهم إلى أذربيجان وأران وأصبح المسلمون بمصر والشام على تخوف من سائر جهاتهم. واستنجد الكامل بأخيه المعظم صاحب دمشق وأخيه الأشرف صاحب الجزيرة وأرمينية. وسار المعظم إلى الأشرف يستحثه للوصول فوجده في شغل بالفتنة التي ذكرناها فعاد عنه إلى أن انقضت تلك الفتنة. ثم تقدم الإفرنج من دمياط بعساكرهم إلى جهة مصر وأعاد الكامل خطابه إليهما سنة ثماني عشرة يستنجدهما. وسار المعظم إلى الأشرف يستحثه فجاء معه إلى دمشق وسار منها إلى مصر ومعه عساكر حلب والناصر صاحب حماة وشيركوه صاحب حمص والأمجد صاحب بعلبك فوجدوا على بحر أشمون وقد سار الإفرنج من دمياط بجموعهم ونزلوا قبالته بعدوة النيل وهم يرمون على معسكره بالمجانيق والناس قد أشفقوا من الإفرنج على الديار المصرية فسار الكامل وبقي أخوه الأشرف بمصر. وجاء المعظم بعد الأشرف وقصد دمياط يسابق الإفرنج ونزل الكامل والأشرف وظفرت شواني المسلمين بثلاث قطع من شواني الإفرنج فغنموها بما فيها. ثم ترددت الرسل بينهم في تسليم دمياط على أن يأخذوا القدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين غير الكرك فاشتطوا واشترطوا إعادة الكرك والشوبك وزيادة ثلاثمائة ألف دينار لرم أسوار القدس التي خربها المعظم والكامل فرجع المسلمون إلى قتالهم. وافتقد الإفرنج الأقوات لأنهم لم يحملوها من دمياط ظناً بأنهم غالبون على السواد وميرته بأيديهم فبدا لهم ما لم يحتسبوا. ثم فجر المسلمون النيل إلى العدوة التي كانوا عليها فركبها الماء ولم يبق لهم إلا مسلك ضيق. ونصب الكامل الجسور عند أشمون فعبرت العساكر عليها وملكوا ذلك المسلك وحالوا بين الإفرنج وبين دمياط. ووصل إليهم مركب مشحون بالمدد من الميرة والسلاح ومعه حراقات فخرجت عليها شواني المسلمين وهي في تلك الحال فغنموها بما فيها. واشتد الحال عليهم في معسكرهم وأحاطت بهم عساكر المسلمين وهم في تلك الحال يقاتلونهم ويتخطفونهم من كل جانب فأحرقوا خيامهم ومجانيقهم وأرادوا الإستماتة في العود فرأوا ما حال بينهم وبينها من الرجل فاستأمنوا إلى الكامل والأشرف على تسليم دمياط من غير عوض. وبينما هم في ذلك وصل المعظم صاحب دمشق من جهة دمياط كما مر فازدادوا وهناً وخذلاناً وسلموا دمياط منتصف سنة ثمان عشرة وأعطوا عشرين ملكاً منهم رهناً عليها. وأرسلوا الأقسة والرهبان منهم إلى دمياط فسلموها للمسلمين وكان يوماً مشهوداً. ووصلهم بعد تسليمها مدد من وراء البحر فلم يغن عنهم ودخلها المسلمون وقد حصنها الإفرنج فأصبحت من أمنع حصون الإسلام والله تعالى أعلم. |
وفاة الأوحد نجم الدين بن العادل صاحب خلاط وولاية أخيه الظاهر غازي عليها
قد تقدم لنا أن الأوحد نجم الدين بن عادل ملك ميافارقين وبعدها خلاط وأرمينية سنة ثلاث وستمائة. ثم توفي سنة سبع فأقطع العادل ما كان بيده من الأعمال لأخيه الأشرف. ثم أقطع العادل ابنه الظاهر غازي سنة ست عشرة سروج والرها وما إليها ولما توفي العادل واستقل ولده الأشرف بالبلاد الشرقية عقد لأخيه. غازي على خلاط وميافارقين مضافاً إلى ولايته من أبيه العادل وهو سروج والرها. وجعله ولي عهده لأنه كان عاقراً لا يولد له. وأقام على ذلك أن انتقض على الأشرف عندما حدثت الفتنة بين بني العادل فانتزع أكثر الأعمال منه كما نذكره إن شاء الله تعالى. فتنة المعظم مع أخوية الكامل والأشرف وما دعت إليه من الأحوال كان بنو العادل والكامل والأشرف والمعظم لما توفي أبوهم قد اشتغل كل واحد منهم بأعماله التي عهد له أبوه وكان الأشرف والمعظم يرجعان إلى الكامل وفي طاعته ثم تغلب عيسى على صاحب حماة الناصر بن المنصور بن المظفر وزحف سنة تسع عشرة إلى حماة فحاصرها وامتنعت عليه فسار إلى سلمية والمعرة من أعمالها فملكها وبعث إليه الكامل صاحب مصر بالنكير والإفراج عن البلد فامتثل وأضغن ذلك عليه وأقطع الكامل سلمية لنزيله المظفر بن المنصور أخي صاحب حماة وكشف المعظم قناعه في فتنة أخويه الكامل والأشرف. وأرسل إلى ملوك الشرق يدعوهم إلى المظاهرة عليهما. وكان جلال الدين منكبري بن علاء الدين خوارزم شاه قد رجع من الهند بعد ما غلبه التتر على خوارزم وخراسان وغزنة وعراق ثم رجع سنة إحدى وعشرين وستمائة فاستولى على فارس وغزنة وعراق العجم وأذربيجان ونزل توريز وجاور بني أيوب في أعمالهم فراسله المعظم صاحب دمشق وصالحه واستنجده على أخويه فأجابه. ودعا المعظم الظاهر أخا الأشرف وعامله على خلاط والمظفر كوكبري صاحب إربل إلى ذلك فأجابوه كلهم وانتقض الظاهر غازي على أخيه الأشرف في خلاط وأرمينية وأظهر عصيانه في ولايته التي بيده إليه الأشرف سنة إحدى وعشرين وغلبه على خلاط فملكها وولى عليها حسام الدين أبا علي الموصلي كان أصله من الموصل. واستخدم للأشرف وترقى في خدمته إلى أن ولاه خلاط وعفا الأشرف عن أخيه الظاهر غازي وأقره على ميافارقين. وسار المظفر صاحب إربل ولؤلؤ صاحبها في طاعة الأشرف فحاصرها وامتنعت عليه ورجع عنها. وسار المعظم بنفسه من دمشق إلى حمص وصاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه في طاعة الكامل فحاصرها وامتنعت عليه ورجع إلى دمشق. ثم سار الأشرف إلى المعظم طالباً للصلح فأمسكه عنده على أن ينحرف عن طاعة الكامل. وانطلق إلى بلده فاستمر على شأنه. ثم زحف جلال الدين صاحب أذربيجان سنة أربع وعشرين إلى خلاط فحا صرهما مرة بعد مرة وأفرج عنها فسار حسام الدين نائبها إلى بلاد جلال الدين. وملك حصونها واضطرب الحال بينهم وخشي الكامل مغبة الأمر مع المعظم بممالأته لجلال الدين والخوارزمية فاستنجد هو بالإفرنج وكاتب الإمبراطور ملكهم من وراء البحر يستحثه للقدوم على عكا في صريخه على أن ينزل له عن القدس. وبلغ ذلك إلى المعظم فخشي العواقب وأقصر عن فتنته وكتب إليه يستعطفه والله تعالى أعلم. وفاة المعظم صاحب دمشق وولاية ابنه الناصر ثم استيلاء الأشرف عليها واعتياض الناصر بالكرك ثم توفي المعظم بن العادل صاحب دمشق سنة أربع وعشرين وولي مكانه ابنه داود ولقب بالناصر. وقام بتدبير ملكه عز الدين أتابك خادم أبيه وجرى على سنن المعظم أولاً في طاعة الكامل والخطبة. ثم انتقض سنة خمس وعشرين عندما طالبه الكامل بالنزول له عن حصن الشوبك فامتنع وانتقض وسار الكامل إليه في العساكر فانتهى إلى غزة وانتزع القدس ونابلس من أيديهم وولى عليها من قبله. واستنجد الناصر عمه الأشرف فجاءه إلى دمشق وخرج منها إلى نابلس. ثم تقدم منها إلى الكامل لصلح أمر الناصر معه فدعاه الكامل إلى انتزاع دمشق من الناصر له وأقطعه إياها فلم يجب الناصر إلى ذلك. وعاد إلى دمشق فحاصره الأشرف. ثم صالح الكامل ملك الإفرنج ليفرغ لأمر دمشق عن الشواغل وأمكنهم من القدس على أن يخرب سورها فاستولوا عليها كذلك وزحف الكامل إلى دمشق سنة ست وعشرين فحاصرها مع الأشرف. وخاف الحصار بالناصر فنزل لهما عنها على أن يستقل بالكرك والشوبك والبلقاء فسلموا له في ذلك وسار إليها. واستولى الأشرف على دمشق ونزل الكامل عن أعماله وهي حران والرها وما إليهما وبمكانهما من حصار دمشق ووصل الخبر إلى الكامل بوفاة ابنه المسعود صاحب اليمن وقد مر خبره والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. استيلاء المظفر بن المنصور على حماة من يد أخيه الناصر ولما ملك الكامل دمشق شرع في إنجاد نزيله المظفر محمود بن المنصور صاحب حماة وبها أخوه الناصر وقد كاتبه بعض أهل البلد يستدعونه لملكها فجهزه بالعساكر وسار إليها فحاصرها. ودس لمن كاتبه من أهلها فأجابوه وواعدوه ليلاً فطرقها وتسورها وملكها. وكتب إليه الكامل أن يقطع الناصر قلعة ماردين فأقطعه إياها وانتزع الكامل منه سلمية وأقطعها لصاحب حمص شيركوه بن محمد بن شيركوه واستقل المظفر محمود بملك حماة وفوض أمور دولته إلى حسام الدين علي بن أبي علي الهدباني فقام بها. ثم استوحش منه فلحق بأبيه نجم الدين أيوب ولم تزل ماردين بيد الناصر أخي المظفر إلى سنه ثلاثين فهم الناصر بأن يملكها للإفرنج وشكا المظفر بذلك للكامل فأمره بانتزاعها منه. ثم اعتقله الكامل إلى أن هلك سنة خمس وثلاثين استيلاء الأشرف على بعلبك من يد الأمجد واقطاعها لأخيه إسماعيل بن العادل كان السلطان صلاح الدين قد أقطع الأمجد بهرام شاه بن فرخشاه أخي تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قلعة بعلبك وكانت بصرى لخضر. ثم صارت بعد وفاة العادل لابنه الأشرف وعليها أخوه إسماعيل بن العادل فجهزه سنة ست وعشرين إلى بعلبك وحاصر بها الأمجد حتى تسلمها منه على إقطاع أقطعه إياه. وسار إسماعيل إلى دمشق فنزلها إلى أن قتله مواليه والله سبحانه وتعالى أعلم. فتنة جلال الدين خوارزم شاه مع الأشرف واستيلاؤه على خلاط قد كنا قدمنا أن جلال الدين خوارزم شاه ملك أذربيجان وجاور أعمال بني أيوب. وكان الأشرف قد ولى على خلاط لما انتزعها من يد أخيه غازي سنة اثنتين وعشرين حسام الدين أبا علي الموصلي. ثم صالح المعظم جلال الدين خوارزم شاه ودعاه إلى الفتنة مع أخويه كما قدمناه فزحف جلال الدين خوارزم شاه إلى خلاط وحاصرها مرتين ورجع عنها فسار حسام الدين إلى بلده وملك بعض حصونه وداخل زوجته التي كانت زوجة إزبك بن البهلوان وكانت مقيمة بخوي وهجرها جلال الدين وقطع عنها ما كانت تعتاده من التحكيم في الدولة مع زوجها قبله فدست إلى حسام الدين نائب خلاط واستدعته هي وأهل خوي ليملكوه البلاد وكاتبه أهل بقجوان وملكوه بلدهم وعاد إلى خلاط ونقل معه زوجة جلال الدين وهي بنت السلطان طغرل فامتعض جلال الدين لذلك. ثم ارتاب الأشرف بحسام الدين نائب خلاط وأرسل أكبر أمرائه عز الدين أيبك فقبض على حسام الدين وكان عدواً له وقتله غيلة وهرب مولاه فلحق بجلال الدين ثم زحف جلال الدين في شوال سنة ست وعشرين إلى خلاط فحاصرها ونصب عليها المجانيق وقطع عنها الميرة مدة ثمانية أشهر. ثم ألح عليها بالقتال وملكها عنوة آخر جمادى الأولى من سنة سبع وعشرين وامتنع أيبك وحاميتها بالقلعة واستماتوا واستباح جلال الدين مدينة خلاط وعاث فيها بما لم يسمع بمثله. ثم تغلب على القلعة وأسر أيبك نائب خلاط فدفعه إلى مولى حسام الدين نائبها قبله فقتله بيده والله تعالى أعلم. مسير الكامل في انجاد الأشرف وهزيمة جلال الدين أمام الأشرف ولما استولى جلال الدين على خلاط سار الأشرف من دمشق إلى أخيه الكامل بمصر يستنجده فسار معه وولى على مصر ابنه العادل ولقيه في طريقه صاحب الكرك الناصر بن المعظم وصاحب حماة المظفر بن المنصور وسائر بني أيوب. وانتهى إلى سلمية وكلهم في طاعته. ثم سار إلى آمد فملكها من يد مسعود بن محمد ابن الصالح بن محمد بن أرسلان بن سقمان بن أرتق وكان صلاح الدين أقطعه إياها عندما ملكها من ابن نعشان فلما نزل إليه اعتقله وملك آمد. ثم انطلق بعد وفاة الكامل من الاعتقال ولحق بالتتر. ثم استولى الكامل على البلاد الشرقية التي نزل له عنها الأشرف عوضاً عن دمشق وهي حران والرها وما إليهما. ولما تسلمها ولى عليها ابنه الصالح نجم الدين أيوب وكان جلال الدين لما ملك خلاط حضر معه صاحب أرزن الروم فاغتم لذلك علاء الدين كيقباد ملك بلاد الروم لما بينه وبين صاحب أرزن من العداوة والقرابة وخشيهما على ملكه فبعث إلى الكامل والأشرف بحران يستنجدهما ويستحث الأشرف للوصول فجمع عساكر الجزيرة والشام. وسار إلى علاء الدين فاجتمع معه بسيواس وسار نحو خلاط. وسار جلال الدين للقائهما والتقوا بأعمال أرزنكان وتقدم عسكر حلب للقتال ومقدمهم عز الدين عمر بن علي الهكاري من أعظم الشجعان فلم يثبت لهم مصاف جلال الدين. وانهزم إلى خلاط فأخرج حاميته منها ولحق بأذربيجان. ووقف الأشرف على خلاط وهي خاوية. وكان صاحب أرزن الروم مع جلال الدين فجيء به أسيراً إلى ابن عمه علاء الدين صاحب بلاد الروم فسار به إلى أرزن وسلمها له وما يتبعها من القلاع. ثم ترددت الرسل بينهم وبين جلال الدين في الصلح فاصطلحوا كل على ما بيده وتحالفوا وعاد الأشرف إلى سنجار. وسار أخوه غازي صاحب ميافارقين فحاصر مدينة أرزن من ديار بكر وكان حاضراً مع الأشرف في هذه الحروب وأسره جلال الدين ثم أطلقه بعد أن أخذ عليه العهد في طاعته فسار إليه شهاب الدين غازي وحاصره وهلك منه أرزن صلحاً وأعطاه عنها مدينة جاني من ديار بكر وكان اسمه حسام الدين وكان من بيت عريق في الملك يعرفون ببني الأحدب أقطعها لهم السلطان ملك شاه والله تعالى أعلم. استيلاء العزيز صاحب حلب على شيزر ثم وفاته وولاية ابنه الناصر بعده كان سابق الدين عثمان بن الداية من أمراء الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي واعتقله ابنه الصالح إسماعيل فنكر عليه صلاح الدين ذلك وسار ببنيه إلى دمشق فملكها وأقطع سابق الدين شيزر فلم تزل له ولبنيه إلى أن استقرت لشهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين فسار إليه صاحب حلب محمد بن العزيز بن الغازي الظاهر بأمر الكامل سنة ثلاثين وستمائة وملكها من يده. ثم هلك سنة أربع وثلاثين وملك في حلب مكانه ابنه الناصر يوسف في كفالة جدته لأبيه صفية خاتون بنت العادل. واستولى على الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني وعز الدين المجلي وإقبال الخاتوني وكلهم في تصريفها والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. فتنة كيقباد صاحب بلاد الروم واستيلاؤه على خلاط كان كيقباد بن كيكاوس صاحب بلاد الروم قد استفحل ملكه بها ومد يده إلى ما يجاورها من البلاد فملك خلاط بعد أن دفع عنها مع الأشرف جلال الدين شاه كما قدمناه ونازعه الأشرف في ذلك واستنجد بأخيه الكامل فسار بالعساكر من مصر سنة إحدى وثلاثين. وسار معه الملوك من أهل بيته وانتهى إلى النهر الأزرق من تخوم الروم. وبعث في مقدمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيقباد وهزمه وحصره في خرت برت وتخاذل عن الحرب. ثم استأمن المظفر صاحب حماة إلى كيقباد فأمنه وملك خرت برت وكان لبني أرتق ورجع الكامل بالعساكر إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين وكيقباد في اتباعهم. ثم سار إلى حران والرها فملكها من يد نواب الكامل وولى عليها من قبله وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين والله أعلم. وفاة الأشرف بن العادل و استيلاء الكامل على ممالكه كان الأشرف سنة أربع وثلاثين قد استوحش من أخيه الكامل ونقض طاعته ومالأه على ذلك أهل حلب وكنخسرو صاحب بلاد الروم وجميع ملوك الشام من قرابتهما غير الناصر بن المعظم صاحب الكرك فإنه أقام على طاعة الكامل وسار إليه بمصر فتلقاه بالمبرة والتكرمة ثم هلك الأشرف خلال ذلك سنة خمس وثلاثين وعهد بملك دمشق لأخيه الصالح إسماعيل صاحب بصرى فسار إليها وملكها. وبقي الملوك في وفاقه على الكامل كما كانوا على عهد الأشرف إلا المظفر صاحب حماة فإنه عدل عنهم إلى الكامل وسار الكامل إلى دمشق فحاصرها وضيق عليها حتى تسلمها صلحاً من الصالح وعوضه عنها بعلبك واستولى على سائر أعمال الأشرف ودخل سائر بني أيوب في طاعته والله أعلم. |
وفاة الكامل وولاية ابنه العادل بمصر
و استيلاء ابنه الآخر نجم الدين أيوب على دمشق ثم توفي الكامل بن العادل صاحب دمشق ومصر والجزيرة سنة خمس وثلاثين بدمشق لستة أشهر من وفاة أخيه الأشرف فانفض الملوك راجعين كل إلى بلاده المظفر إلى حماة والناصر إلى الكرك وبويع بمصر ابنه العادل أبو بكر فنصب العساكر بدمشق الجواد يونس ابن عمه مودود بن العادل نائباً عنه وسار الناصر داود إلى دمشق ليملكها فبرز إليه الجواد يونس وهزمه. وتمكن في ملك دمشق وخلع طاعة العادل بن الكامل وراسل الصالح أيوب في أن يملكه دمشق وينزل له الصالح عن البلاد الشرقية التي ولاه أبوه عليها فسار الصالح لذلك سنة ست وثلاثين وملك دمشق. وسار يونس إلى البلاد الشرقية فاستولى عليها ولم تزل بيده إلى أن زحف إليه لؤلؤ صاحب الموصل وغلبه عليها واستقرت دمشق في يد الصالح. ولما أخذ لؤلؤ البلاد من يونس الجواد سار عن القفر إلى غزة فمنعه الصالح من الدخول إليها فدخل الإفرنج بعكا وباعوه من الصالح إسماعيل صاحب دمشق فاعتقله وقتله انتهى والله أعلم. ثم زحف التتر إلى أذربيجان واستولوا على جلال الدين وقتلوه سنة ثمان وعشرين وانفض أصحابه وذهبوا في كل ناحية وسار جمهورهم إلى بلاد الروم فنزلوا على علاء الدين كيقباد ملكها حتى إذا مات وملك ابنه كنخسرو ارتاب بهم وقبض على أمرائهم وانفض الباقون عنه وعاثوا في الجهات فاستأذن الصالح أيوب صاحب سنجار وما إليها أباه الكامل صاحب مصر في استخدامهم ليحسم عن البلاد ضررهم فاجتمعوا عنده وأفاض فيهم الأرزاق. ولما توفي الكامل سنة خمس وثلاثين انتقضوا عن الصلح وخرجوا فاكتسحوا النواحي. وسار لؤلؤ إلى سنجار فحاصر الصالح فبعث الصالح الخوارزمية فاستمالهم وأقطعهم حران والرها ولقي بهم لؤلؤاً فهزمه وغنم معسكره والله تعالى أعلم. مسير الصالح إلى مصر واعتقل الناصر له بالكرك لما ملك العادل بمصر بعد أبيه اضطرب عليه أهل الدولة وبلغهم استيلاء أخيه الصالح على دمشق فاستدعوه ليملكوه فبعث عن عمه الصالح إسماعيل من بعلبك ليسير معه فاعتذر عن الوصول. وسار الصالح أيوب وولى على دمشق ابنه المغيث فتح الدين عمر. ولما فصل عن دمشق خالفه إليها عمه الصالح إسماعيل فملكها ومعه شيركوه صاحب حمص وقبض على المغيث فتح الدين بن الصالح أيوب. وبلغ الخبر إليه وهو بنابلس فانفضت عنه العساكر ودخل نابلس. وجاءه الناصر داود من الكرك فقبض عليه واعتقله وبعث فيه أخوه العادل فامتنع من تسليمه إليه. ثم قصد داود القدس فملكها من يد الإفرنج وخرب القلعة والله تعالى ولي التوفيق. وفاة شيركوه صاحب مصر وولاية ابنه إبراهيم المنصور ثم توفي المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص سنة ست وثلاثين وكانت ولايته أول المائة السابعة وولي من بعده ابنه إبراهيم ويلقب بالمنصور والله أعلم. خلع العادل واعتقاله واستيلاء أخيه الصالح أيوب على مصر ولما رجع الناصر داود من فتح القدس أطلق الصالح نجم الدين أيوب من الاعتقال فاجتمعت إليه مواليه واتصل اضطراب أهل الدولة بمصر على أخيه العادل فكاتبوا الصالح واستدعوه ليملكوه فسار معه الناصر داود وانتهى إلى عزة وبرز العادل إلى بلبيس وكتب إلى عمه الصالح بدمشق يستنجده على أخيه أيوب فسار من دمشق وانتهى إلى الغور. ثم وثب بالعادل في معسكره مواليه ومقدمهم أيبك الأسمر وقبضوا عليه. وبعثوا إلى الملك الصالح فجاء ومعه الناصر داود صاحب الكرك فدخل القلعة سنة سبع وثلاثين واستقر في ملكه. وارتاب منه الناصر داود فلحق بالكرك. واستوحش من الأمراء الذين وثبوا بأخيه فاعتقلهم وفيهم أيبك الأسمر وذلك سنة ثمان وثلاثين وحبس أخاه العادل إلى أن هلك في محبسه سنة خمس وأربعين. ثم اختط قلعة بين سعي التيل إزاء المقياس واتخذها مسكناً وأنزل بها حامية من مواليه فكانوا يعرفون بالبحرية آخر أيامهم انتهى والله أعلم. فتنة الخوارزمية ثم كثر عيث الخوارزمية بالبلاد المشرقية وعبروا الفرات وقصدوا حلب فبرزت إليهم عساكرها مع المعظم تورانشاه بن صلاح الدين فهزموه وأسروه. وقتلوا الصالح بن الأفضل صاحب سميساط وكان في جملته. وملكوا منبج عنوة ورجعوا. ثم ساروا من حران وعبروا من ناحية الرقة وعاثوا في البلاد. وجمع أهل حلب العساكر وأمدهم الصالح إسماعيل عن دمشق بعسكر مع المنصور إبراهيم صاحب حمص وقصدوا الخوارزمية فانقلبوا إلى حران. ثم تواقعوا مع العساكر فانهزموا واستولى عسكر حلب على حران والرها وسروج والرقة ورأس عين وما إليها. وخلص المعظم تورانشاه فبعث به لؤلؤ صاحب الموصل إلى عسكر حلب. ثم سار عسكر حلب إلى آمد وحاصروا المعظم تورانشاه وغلبوه على آمد. وأقام بحصن كيفا إلى أن هلك أبوه بمصر واستدعي لملكها فسار لذلك وولى ابنه الموحد عبد الله بكيفا إلى أن غلب التتر على بلاد الشام. ثم سار الخوارزمية سنة أربعين مع المظفر غازي صاحب ميافارقين من قتال صاحب حلب ومعهم المنصور إبراهيبم صاحب حمص فانهزموا وغنمت العساكر سوادهم والله سبحانه وتعالى أعلم. أخبار حلب قد كان تقدم لنا ولاية الظاهر غازي على حلب بعد وفاة أبيه. ثم توفي سنة أربع وثلاثين ونصب أهل الدولة ابنه الناصر يوسف في كفالة جدته أم العزيز صفية خاتون بنت العادل ولؤلؤ الأرمني وإقبال الخاتوني وعز الدين بن مجلي قائمون بالدولة في تصريفها. وما زالت تجهز العساكر لدفاع الخوارزمية وتفتح البلاد إلى أن توفيت سنة أربعين واستقل الناصر بتدبير ملكه وصرف النظر في أموره لجمال الدين إقبال الخاتوني والله أعلم. فتنة الصالح أيوب مع عمه الصالح إسماعيل على دمشق واستيلاء أيوب آخراً عليها قد كان تقدم لنا أن الصالح إسماعيل بن العادل خالف الصالح أيوب على دمشق عند مسيره إلى مصر. فملك دمشق سنة ست وثلاثين وكان بعد ذلك اعتقال الصالح بالكرك ثم استيلاؤه على مصر سنة سبع وثلاثين وبقيت الفتنة متصلة بينهما. وطلب الصالح إسماعيل صاحب دمشق من الإفرنج المظاهرة على أيوب صاحب مصر على أن يعطيهم حصن الشقيف وصفد فأمضى ذلك ونكره مشيخة العلماء بعصره. وخرج من دمشق عز الدين بن عبد السلام الشافعي ولحق بمصر فولاه الصالح خطة القضاء بها. ثم خرج بعده جمال الدين بن الحاجب المالكي إلى الكرك ولحق بالإسكندرية فمات بها. ثم تداعى ملوك الشام لفتنة الصالح أيوب واتفق عليها إسماعيل الصالح صاحب دمشق والناصر يوسف صاحب حلب وجدته صفية خاتون وإبراهيم المنصور بن شيركوه صاحب حمص. وخالفهم المظفر صاحب حماة وجنح إلى ولاية نجم الدين أيوب وأقام حالهم في الفتنة على ذلك. ثم جنحوا إلى الصلح على أن يطلق صاحب دمشق فتح الدين عمر بن نجم الدين أيوب الذي اعتقله بدمشق فلم يجب إلى ذلك واستجدت الفتنة. وسار الناصر داود صاحب الكرك مع إسماعيل الصالح صاحب دمشق واستظهروا بالإفرنج وأعطاهم إسماعيل القدس على ذلك. واستنجد بالخوارزمية أيضاً فأجابوه واجتمعوا بغزة. وبعث نجم الدين العساكر مع مولاه بيبرس وكانت له ذمة باعتقاله معه فتلاقوا مع الخوارزمية وجاءت عساكر مصر مع المنصور إبراهيم بن شيركوه ولاقوا الإفرنج من عكا فكان الظفر لعساكر مصر والخوارزمية واتبعوهم إلى دمشق وحاصروا بها الصالح إسماعيل إلى أن جهده الحصار وسأل في الصلح على أن يعوض عن دمشق ببعلبك وبصرى والسواد فأجابه أيوب إلى ذلك. وخرج إسماعيل من دمشق إلى بعلبك سنة ثمان وأربعين. وبعث نجم الدين إلى حسام الدين علي بن أبي علي الهدباني وكان معتقلاً عند إسماعيل بدمشق فشرط نجم الدين إطلاقه في الصلح الأول فأطلقه وبعث إليه بالنيابة عنه بدمشق فقام بها. وانصرف إبراهيم المنصور إلى حمص وانتزع صاحب حماة سلمية فملكها. واشتط الخوارزمية على الهدباني في دمشق في الولايات والإقطاعات وامتعضوا لذلك فسار بهم الصالح إسماعيل إلى دمشق موصلاً الكرة ومعه الناصر صاحب الكرك فقام الهدباني في دفاعهم أحسن قيام. وبعث نجم الدين من مصر إلى يوسف الناصر يستنجده على دفع الخوارزمية عن دمشق فسار في عساكره ومعه إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص فهزموا الخوارزمية على دمشق سنة أربع وأربعين وقتل مقدمهم حسام الدين بركت خان وذهب بقيتهم مع مقدمهم الآخر كشلو خان فلحقوا بالتتر واندرجوا في جملتهم وذهب أثرهم من الشام واستجار إسماعيل الصالح وكان معهم بالناصر صاحب حلب فأجاره من نجم الدين أيوب. وسار حسام الدين الهدباني بعساكر دمشق إلى بعلبك وتسلمها بالأمان وبعث بأولاد إسماعيل ووزيره ناصر الدين يغمور إلى نجم الدين أيوب فاعتقلهم بمصر. وسارت عساكر الناصر يوسف صاحب حلب إلى الجزيرة فتواقعوا مع لؤلؤ صاحب الموصل فانهزم لؤلؤ وملك الناصر نصيبين ودارا أو قرقيسيا وعاد عسكره إلى حلب والله تعالى أعلم. ثم بعث الصالح عن حسام الدين الهدباني من دمشق وولى مكانه جمال الدين بن مطروح. ثم سار إلى دمشق سنة خمس وأربعين واستخلف الهدباني على مصر. ولما وصل إلى دمشق جهز فخر الدين بن الشيخ بالعساكر إلى عسقلان وطبرية فحاصرهما مدة وفتحهما من يد الإفرنج ووفد على الصالح بدمشق المنصور صاحب حماة وكان أبو المظفر توفي سنة ثلاث وأربعين وولى المنصور ابنه هذا واسمه محمد. ووفد أيضاً الأشرف موسى صاحب حمص وقد كان أبوه إبراهيم المنصور توفي سنة أربع وأربعين قبلها بدمشق وهو ذاهب إلى مصر وافداً على الصالح أيوب. وأقام بحمص ابنه مظفر الدين موسى ولقب الأشرف. وجاءت عساكر حلب سنة ست وأربعين مع لؤلؤ الأرمني وحصروا مصر شهرين وملكوها من يد موسى الأشرف وأعاضوه عنها تل باشر من قلاع حلب مضافة إلى الرحبة وتدمر وكانتا بيده مع حمص. وغضب لذلك الصالح فسار من مصر إلى دمشق وجهز العساكر إلى حصار حمص مع حسام الدين الهدباني وفخر الدين بن الشيخ فحاصروا مصر مدة. وجاء رسول الخليفة المستعصم إلى الصالح أيوب شافعاً فأفرج العساكر عنها وولى على دمشق جمال الدين يغمور وعزل ابن مطروح والله تعالى أعلم. استيلاء الإفرنج عل دمياط كانت افرنسة أمة عظيمة من الإفرنج والظاهر أنهم أصل الإفرنج. وان إفرنسة هي إفرنجة انقلبت السين بها جيماً عندما عربتها العرب وكان ملكها من أعظم ملوكهم لذلك العصر ويسمونه ري الإفرنس ومعنى ري في لغتهم ملك إفرنس. فاعتزم هذا الملك على سواحل الشام وسار لذلك كما سار من قبله من ملوكهم. وكان ملكه قد استفحل فركب البحر إلى قبرص في خمسين ألف مقاتل وشتى بها. ثم عبر سنة سبع وأربعين إلى دمياط وبها بنو كنانة أنزلهم الصالح بها حامية فلما رأوا ما لا قبل لهم به أجفلوا عنها فملكها ري افرنس وبلغ الخبر إلى الصالح بوهو بدمشق وعساكره نازلة بحمص فكر راجعاً إلى مصر وقدم فخر الدين ابن الشيخ أتابك عسكره ووصل بعده فنزل المنصورة وقد أصابه بالطريق وعك واشتد عليه والله تعالى أعلم. استيلاء الصالح على الكرك كان بين الصالح أيوب وبين الناصر داود ابن عمه المعظم من العداوة ما تقدم وقد ذكرنا اعتقال الناصر له بالكرك فلما ملك الصالح دمشق بعث العساكر مع أتابكة فخر الدين يوسف ابن الشيخ لحصار الكرك. وكان أخوه العادل اعتقله وأطلقه الصالح وألزمه بيته ثم جهزه لحصار الكرك فسار إليها سنة أربع وأربعين وحاصرها وملك سائر أعمالها وخربي نواحيها. وسار الناصر من الكرك إلى الناصر يوسف صاحب حلب مستجيراً به بعد أن بعث بخيرته إلى المستعصم وكتب له خطه بوصولها. وكان قد استخلف على الكرك عندما سار إلى حلب ابنه الأصغر عيسى ولقبه المعظم فغضب أخواه الأكبران الأمجد حسن والظاهر شادي فقبضا على أخيهما عيسى ووفدا على الصالح سنة ست وأربعين وهو بالمنصورة قبالة الإفرنج فملك الكرك والشوبك منهما وولى عليهما بدراً الصواي وأقطعهما بالديار المصرية والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة الصالح أيوب! صاحب مصر والشام وسيد ملوك الترك بمصر وولاية ابنه تورانشاه وهزيمة الإفرنج وأسر ملكهم ثم توفي الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل سنة سبع وأربعين بمكانه من المنصورة قبالة الإفرنج وخشي أهل الدولة من الإفرنج فكتموا موته وقامت أم ولده شجرة الدر بالأمر وجمعت الأمراء وسيروا بالخبر إلى حسام الدين الهدباني بمصر فجمع الأمراء وقوى جأشهم واستحلفهم. وأرسل الأتابك فخر الدين بن الشيخ الخبر إلى المعظم تورانشاه بن الصالح واستدعاه من مكان إمارته بحصن كيفا. ثم انتشر خبر الوفاة وبلغ الإفرنج فشرهوا إلى قتال المسلمين ودلفوا إلى المعسكر فانكشف المسلمون وقتل الأتابك فخر الدين. ثم أتاح الله الكرة للمسلمين وانهزم الإفرنج ووصل المعظم تورانشاه من مكانه بحصن كيفا لثلاثة أشهر أو تزيد فبايعه المسلمون واجتمعوا عليه واشتدوا في قتال الإفرنج وغلبت أساطيلهم أساطيل العدو. وسأل الإفرنج في الإفراج عن دمياط على أن يعاضوا بالقدس فلم يجبهم المسلمون إلى ذلك. وسارت سرايا المسلمين من حولهم فيما بين معسكرهم وبين دمياط فرحلوا راجعين إليها. وأتبعهم المسلمين فأدركهم الدهش وانهزموا وأسر ملكهم ري افرنس وهو المعروف بالفرنسيس. وقتل منهم أكثر من ثلاثين ألفاً. واعتقل الفرنسيس بالدار المعروفة بفخر الدين بن لقمان ووكل به الخادم صبيح المعظمي. ثم رحل المعظم بعساكر المسلمين راجعاً إلى مصر والله تعالى أعلم. |
مقتل المعظم تورانشاه وولاية شجرة الدر وفداء الفرنسيس بدمياط
ولما بويع المعظم تورانشاه وكانت له بطانة من المماليك جاء بهم من كيفا فتسلطوا على موالي أبيه وتقسموهم بين النكبة والإهمال. وكان للصالح جماعة من الموالي البحرية الذين كان ينزلهم بالدار التي بناها إزاء المقياس وكانوا بطانته وخالصته. وكان كبيرهم بيبرس وهو الذي كان الصالح بعثه بالعساكر لقتال الخوارزمية عندما زحفوا مع عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق. وقد مر ذكر ذلك فصارت صاغيته معهم ثم استمالهم الصالح فصاروا معه وزحفوا مع عساكره إلى عساكر دمشق والإفرنج فهزموهم وحاصروا دمشق وملكوها بدعوة الصالح كما مر. واستوحش بيبرس حتى بعث إليه الصالح بالأمان سنة أربع وأربعين ولحقه بمصر فحبسه على ما كان منه ثم أطلقه. وكان من خواص الصالح أيضاً قلاون الصالحي كان من موالي علاء الدين قرا سنقر مملوك العادل وتوفي سنة خمس وأربعين وورثه الصالح بحكم الولاء. ومنهم أقطاي الجامدار وأيبك التركماني وغيرهم فأنفوا من استعلاء بطانة المعظم تورانشاه عليهم وتحكمهم فيهم فاعصوصبوا واعتزموا على الفتك بالمعظم. ورحل من المنصورة بعد هزيمة الإفرنج راجعاً إلى مصر فلما قربت له الحراقة عند البرج ليركب البحر كبسوه بمجلسه وتناوله بيبرس بالسيف فهرب إلى البرج فأضرموه ناراً فهرب إلى البحر فرموه بالسهام فألقى نفسه في الماء وهلك بين السيف والماء لشهرين من وصوله وملكه. ثم اجتمع هؤلاء الأمراء المتولون قتل تورانشاه ونصبوا للملك أم خليل شجرة الدر زوجة الصالح وأم ولده خليل المتوفي في حياته وبه كانت تلقب. وخطب لها على المنابر وضربت السكة باسمها ووضعت علامتها على المراسم وكان نص علامتها أم خليل وقدم أتابك على العساكر عز الدين الجاشنكير أيبك التركماني فلما استقرت الدولة طلبهم الفرنسيس في الفداء على تسليم دمياط للمسلمين فاستولوا عليها سنة ثمان وأربعين. وركب الفرنسيس البحر إلى عكا وعظم الفتح وأنشد الشعراء في ذلك وتساجلوا. ولجمال الدين بن مطروح نائب دمشق أبيات في الواقعة يتداولها الناس لهذا العصر والله تعالى ولي التوفيق وهي قل للفرنسيس إذا جئته مقال صدق عن قؤول فصيح آجرك الله على ما جرى من قتل عباد يسوع المسيح أتيت مصر تبتغي ملكها تحسب أن الزمر بالطبل ريح فساقك الحين إلى أدهم ضاق بهم في ناظريك الفسيح وكل أصحابك أودعتهم بسوء تدبيرك بطن الضريح خمسون ألفاً لا يرى منهم إلا قتيل أو أسير جريح وفقك الله لأمثالها لعلنا من شركم نستريح إن كان باباكم بذار راضياً فرب غش قد أتى من نصيح أوصيكم خيراً به إنه لطف من الله إليكم أتيح لو كان ذا رشد على زعمكم ماكان يستحسن هذا القبيح والطواشي في لغة أهل المشرق هو الخصي ويسمونه الخادم أيضاً والله أعلم. استيلاء الناصر صاحب حلب على دمشق وبيعة الترك بمصر لموسى الأشرف بن أطسز بن المسعود صاحب اليمن وتراجعهما ثم صلحهما ولما قتل المعظم تورانشاه ونصب الأمراء بعده شجرة الدر زوجة الصالح امتعض لذلك أمراء بني أيوب بالشام وكان بدر الصوابي بالكرك والشوبك ولاه الصالح عليهما وحبس عنده فتح الدين عمر ابن أخيه العادل فأطلقه من محبسه وبايع له. وقام بتدبير دولته جمال الدين بن يغمور بدمشق واجتمع مع الأمراء القصرية بها على استدعاء الناصر صاحب حلب وتمليكه فسار وملك دمشق واعتقل جماعة من موالي الصالح. وبلغ الخبر إلى مصر فخلعوا شجرة الدر ونصبوا موسى الأشرف بن مسعود أخي الصالح بن الكامل وهو الذي ملك أخوه أطسز واسمه يوسف باليمن بعد أبيهما مسعود وبايعوا له وأجلسوه على التخت وجعلوا أيبك أتابكه. ثم انتقض الترك بغزة ونادوا بطاعة المغيث صاحب الكرك فنادى الترك بمصر بطاعة المستعصم وجددوا البيعة للأشرف وأتابكه. ثم سار الناصر يوسف بعسكره من دمشق إلى مصر فجهز الأمراء العساكر إلى الشام مع أقطاي الجامدار كبير البحرية ويلقب فارس الدين فأجفلت عساكر الشام بين يديه. ثم قبض الناصر يوسف صاحب دمشق على الناصر داود لشيء بلغه عنه وحبسه بحمص وبعث عن ملوك بني أيوب فجاءه موسى الأشرف صاحب حمص والرحبة وتدمر والصالح إسماعيل بن العادل من بعلبك والمعظم تورانشاه وأخوه نصر الدين ابنا صلاح الدين والأمجد حسام الدين والظاهر شادي ابنا الناصر وداود صاحب الكرك وتقي الدين عباس بن العادل واجتمعوا بدمشق. وبعث في مقدمته مولاه لؤلؤ الأرمني وخرج أيبك التركماني في العساكر من مصر للقائهم وأفرج عن ولدي الصالح إسماعيل المعتقلين منذ أخذهم الهدباني من بعلبك ليتهم الناس أباهم ويستريبوا به والتقى الجمعان في العباسية فانكشفت عساكر مصر وسارت عساكر الشام في اتباعهم وثبت أيبك وهرب إليه جماعة من عساكر الناصر. ثم صدق أيبك الحملة على الناصر فتفرقت عساكره وسار منهزماً وجيء لأيبك بلؤلؤ الأرمني أسيراً فقتله وأسر إسماعيل الصالح وموسى الأشرف وتورانشاه المعظم وأخوه. ولحق المنهزمون من عسكر مصر بالبلد وشغر المتبعون لهم من عساكر الشام بهزيمة الناصر وراءهم فرجعوا. ودخل أيبك إلى القاهرة وحبس بني أيوب بالقلعة. ثم قتل يغمور وزير الصالح إسماعيل المعتقل ببعلبك مع بنيه وقتل الصالح إسماعيل في محبسه. ثم جهز الناصر العساكر من دمشق إلى غزة فتواقعوا مع فارس الدين أقطاي مقدم عساكر مصر فهزموهم واستولوا عليها. وترددت الرسل بين الناصر وبين الأمراء بمصر واصطلحوا سنة خمسين وجعلوا التخم بينهم نهر الأردن. ثم أطلق أيبك حسام الدين الهدباني فسار إلى دمشق وسار في خدمة الناصر. وجاءت إلى الناصر شفاعة المستعصم في الناصر داود صاحب الكرك الذي حبسه بحمص فأفرج عنه ولحق ببغداد ومعه ابناه الأمجد والظاهر فمنعه الخليفة من دخولها فطلب وديعته فلم يسعف بها. وأقام في أحياء عرية ثم رجع إلى دمشق بشفاعة من المستعصم للناصر وسكن عنده والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. خلع الأشرفي بن أطسز واستبداد أيبك وأمراء الترك بمصر قد تقدم لنا آنفاً بيعة أمراء التركمان بمصر للأشرف موسى بن يوسف أتسز بن الكامل وإنهم خطبوا له وأجلسوه على التخت بعد أن نصبوا للملك أيبك وكان طموحاً إلى الإستبداد. وكان أقطاي الجامدار من أمراء البحرية يدافعه عن ذلك ويغض من عنانه منافسة وغيرة فأرصد له أيبك ثلاثة من المماليك اغتالوه في بعض سكك القصر وقتلوه سنة اثنتين وخمسين. وكانت جماعة البحرية ملتفة عليه فانفضوا ولحقوا بالناصر في دمشق واستبد أيبك بمصر وخلع الأشرف وقطع الخطبة له فكان آخر أمراء بني أيوب بمصر وخطب أيبك لنفسه. ثم تزوج شجرة الدر أم خليل الملكة قبله فلما وصل البحرية إلى الناصر بدمشق أطمعوه في ملك مصر واستحثوه فتجهز وسار وانتقض عليه. . . فتوهموا بالثورة به فارتاب بهم ولحقوا بالناصر. ثم ترددت الرسل بين الناصر وأيبك فاصطلحوا على أن يكون التخم بينهم العريش. وبعث الناصر إلى المستعصم مع وزيره كمال الدين بن العديم في طلب الخلعة. وكان أيبك قد بعث بالهدية والطاعة إلى المستعصم فمطل المستعصم الناصر بالخلعة حتى بعثها إليه سنة خمس وخمسين. ثم قتل المعز أيبك قتلته شجرة الدر غيلة في الحمام سنة خمس وخمسين غيرة من خطبته بنت لؤلؤ صاحب الموصل فنصبوا مكانه ابنه علياً ولقبوه المنصور وثاروا به من شجرة الدر كما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى. |
مسير المغيث بن العادل صاحب الكرك مع البحرية إلى مصر
وإنهزامهم كان البحرية منذ لحقوا بالناصر بعد مقتل أقطاي الجامدار مقيمين عنده ثم ارتاب بهم وطردهم آخر سنة خمس وخمسين فلحقوا بغزة وكاتبوا المغيث فتح الدين عمر بن العادل بالكرك وقد كنا ذكرنا إن بدراً الصوافي أخرجه من محبسه بالكرك بعد مقتل تورانشاه بمصر وولاه الملك وقام بتدبير دولته. وبعث إليه الآن بيبرس البندقداري مقدم البحرية من غزة يدعوه إلى الملك وبلغ الخبر إلى الناصر بدمشق فجهز العساكر إلى غزة فقاتلوهم وانهزموا إلى الكرك فتلقاهم المغيث وقسم فيهم الأموال واستحثوه لملك مصر فسار معهم وبرزت عساكر مصر لقتالهم مع قطز مولى أيبك المعز ومواليه فالتقى الفريقان بالعباسية فانهزم المغيث والبحرية إلى الكرك ورجعت العساكر إلى مصر. وفي خلال ذلك أخرج الناصر. داود بن المعظم من دمشق حاجاً ونادى في الموسم بتوسله إلى المستعصم في وديعته وانصرف مع الحاج إلى العراق فأكرمه المستعصم على براءته من وديعته فكتب وأشهد ولحق بالبرية. وبعث إلى الناصر يوسف يستعطفه فأذن له وسكن دمشق. ثم رجع مع رسول المستعصم الذي جاء معه إلى الناصر بالخلعة والتقليد فأقام بقرقيسيا حتى يستأذن له الرسول فلم يأذن له فأقام عنده بأحياء العرب في التيه فقربوا في تقلبهم من الكرك فقبض عليه المغيث صاحب الكرك وحبسه حتى إذا زحف التتر لبغداد بعث عنه المستعصم ليبعثه مع العساكر لمدافعتهم وقد استولى التتر على بغداد فرجع ومات ببعض قرى دمشق بالطاعون سنة ست وخمسين انتهى والله تعالى أعلم. زحف الناصر صاحب دمشق إلى الكرك وحصارها والقبض على البحرية ولما كان من المغيث والبحرية ما قدمناه ورجعوا منهزمين إلى الكرك بعث الناصر عساكره من دمشق إلى البحرية فالتقوا بغزة وانهزمت عساكر الناصر وظفرت البحرية بهم. واستفحل أمرهم بالكرك فسار الناصر بنفسه إليهم بالعساكر من دمشق سنة سبع وخمسين وسار معه صاحب حماة المنصور بن المظفر محمود فنزلوا على الكرك وحاصروها. وأرسل المغيث إلى الناصر في الصلح فشرط عليه أن يحبس البحرية فأجاب. ونمي الخبر إلى بيبرس أميرهم البندقداري فهرب في جماعة منهم ولحق بالناصر. وقبض المغيث على الباقين وبعث بهم إلى الناصر في القيود ورجع الكرك. ثم بعث إلى الأمراء بمصر وزيره كمال الدين بن العديم يدعوهم إلى الإتفاق إلى مدافعة التتر. وفي أيام مقدم ابن العديم مصر خلع الأمراء على ابن المعز أيبك وقبض عليه أتابك عسكره وموالي أبيه وجلس على التخت وخطب لنفسه وقبض على الأمراء الذين يرتاب منازعتهم كما نذكره في أخبارهم. وأعاد ابن العديم إلى مرسله صاحب دمشق بالإجابة والوعد بالمظاهرة والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. استيلاء التتر على الشام وانقراض ملك بني أيوب وهلاك من هلك منهم ثم زحف التتر وسلطانهم هلاكو إلى بغداد واستولى على كرسي الخلافة وقتلوا المستعصم وطمسوا معالم الملة. وكادت تكون من أشراط الساعة. وقد شرحناها في أخبار الخلفاء ونذكرها في أخبار التتر فبادر الناصر صاحب دمشق بمصانعته وبعث ابنه العزيز محمداً إلى السلطان هلاكو بالهدايا والألطاف فلم يغن ورده بالوعد. ثم بعث هلاكو عساكره إلى ميافارقين وبها الكامل محمد بن المظفر شهاب الدين غازي بن العادل الكبير فحاصروها سنتين ثم ملكوها عنوة سنة ثمان وخمسين وقتلوه. وبعث العساكر إلى إربل فحاصروها ستة أشهر وفتحوها. وسار ملوك بلاد الروم كيكاوس وقليج أرسلان ابنا كنخسرو إلى هلاكو أثر ما ملك بغداد فدخلوا في طاعته ورجعوا إلى بلادهم. وسار هلاكو إلى بلاد أذربيجان ووفد عليه هنالك لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع وخمسين ودخل في طاعته ورده إلى بلده وهلك أثر ذلك. وملك الموصل مكانه ابنه الصالح وسنجار ابنه علاء الدين. ثم أوفد الناصر ابنه على هلاكو بالهدايا والتحف على سبيل المصانعة واعتذر عن لقائه بالتخوف على سواحل الشام من الإفرنج فتلقى ولده بالقبول وعذره وأرجعه إلى بلده بالمهادنة والمواعدة الجميلة. ثم سار هلاكو إلى حران وبعث ابنه في العساكر إلى حلب وبها المعظم تورانشاه ابن صلاح الدين نائباً عن الناصر يوسف فخرج لقتالهم في العساكر. وأكمن له التتر واستجروهم ثم كروا عليهم فأثخنوا فيهم ورحلوا إلى أعزاز فملكوها صلحاً. وبلغ الخبر إلى الناصر وهو بدمشق معسكر من ثورة سنة ثمان وخمسين. وجاء الناصر بن المظفر صاحب حماة فأقام معه ينتظر أمرهم. ثم بلغه أن جماعة من مواليه اعتزموا على الثورة به فكر راجعاً إلى دمشق ولحق أولئك الموالي بغزة. ثم أطلع على خبثهم وأن قصدهم تمليك أخيه الظاهر فاستوحش منهم ولحق الظاهر بهم فنصبوه للأمر واعصوصبوا عليه. وكان معهم بيبرس البندقداري وشعر بتلاشي أحوالهم فكاتب المظفر صاحب مصر واستأمن إليه فأمنه. وسار إلى مصر فتلقي بالكرامة وأنزل بدار الوزارة وأقطعه السلطان قطر قليوب بأعماله. ثم هرب هلاكو إلى الفرات فملك وكان بها إسماعيل أخو الناصر معتقلاً فأطلقه وسرحه إلى عمله بالضبينة وبانياس وولاه عليهما. وقدم صاحب أرزن إلى تورانشاه نائب حلب يدعوه إلى الطاعة فامتنع فسار إليها وملكها عنوة وأمنها. واعتصم تورانشاه والحامية بالقلعة. وبعث أهل حماة بطاعتهم إلى هلاكو وأن يبعث عليهم نائباً من قبله ويسمى برطانتهم الشحنة. فأرسل إليهم قائداً يسمى خسروشاه وينسب في العرب إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه. وبلغ الناصر أخذ حلب فأجفل عن دمشق واستخلف عليها وسار إلى غزة واجتمع عليه مواليه وأخوه. وسار التتر إلى نابلس فملكوها وقتلوا من كان بها من العسكر. وسار الناصر من غزة إلى العريش وقدم رسله إلى قطز تسأله النصر من عدوهم واجتماع الأيدي على المدافعة. ثم تقدموا إلى واستراب الناصر بأهل مصر فسار هو وأخوه الظاهر ومعهما الصالح بن الأشرف موسى بن شيركوه إلى التيه فدخلوا إليه وفارقهم المنصور صاحب حماة والعساكر إلى مصر فتلقاهم السلطان قطز بالصالحية وآنسهم ورجع بهم إلى مصر. واستولى التتر على دمشق وسائر بلاد الشام إلى غزة وولوا على جميعها أمرائهم. ثم افتتحت قلعة حلب وكان بها جماعة من البحرية معتقلين منهم سنقر الأشقر فدفعهم هلاكو إلى السلطان جق من أكابر أمرائه. وولى على حلب عماد الدين القزويني ووفد عليه بحلب الأشرف موسى بن منصور بن إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص وكان الناصر قد أخذها منه كما قدمناه فأعادها عليه هلاكو ورد جميع ولايته بالشام إلى رأيه. وسار إلى قلعة حارم فملكها واستباحها وأمر بتخريب أسوار حلب وقلعتها وكذلك حماة وحمص وحاصروا قلعة دمشق طويلاً ثم تسموها بالأمان. ثم ملكوا بعلبك وهدموا قلعتها وسار معهم إلى الضبينة وبها السعيد بن العزيز بن العادل فملكوها منه على الأمان. وسار معهم ووفد على هلاكو فخر الدين بن زنكي من أهل دمشق فولاه القضاء بها. ثم اعتزم هلاكو على الرجوع إلى العراق فعبروا الفرات وولى على الشام أجمع أميراً اسمه كتبغا من أكابر أمرائه واحتمل عماد الدين القزويني من حلب وولى مكانه آخر. وأما الناصر فلما دخل في التيه هاله أمره وحسن له أصحابه قصد هلاكو فوصل إلى كتبغا نائب الشام يستأذنه. ثم وصل فقبض عليه وسار به إلى حتى سلمها إليه أهلها. وبعث به إلى هلاكو فمر بدمشق ثم بحماة وبها الأشرف صاحب حمص وخسروشاه نائبها فخرجا لتلقيه. ثم مر بحلب ووصل إلى هلاكو فأقبل عليه ووعده برده إلى ملكه. ثم ثار المسلمون بدمشق بالنصارى أهل الذمة وخربوا كنيسة مريم من كنائسهم وكانت من أعظم الكنائس في الجانب الذي فتحه خالد بن الوليد رحمه الله. وكانت لهم أخرى في الجانب الذي فتحه أبو عبيدة بالأمان. ولما ولي طالبهم في هذه الكنيسة ليدخلها في جامع البلد وأعلى لهم في السوم فامتنعوا فهدمها وزادها في الجامع لأنها كالت لصقه. فلما ولي عمر بن عبد العزيز استعاضوه فعوضهم بالكنيسة التي ملكها المسلمون بالعنوة مع خالد بن الوليد رحمه الله وقد تقدم ذكر هذه القصة. فلما ثار المسلمون الآن بالنصارى أهل الذمة خربوا كنيسة مريم هذه ولم يبقوا لها أثراً. ثم إن العساكر الإسلامية أجمعت بمصر وساروا إلى الشام لقتال التتر صحبة لسلطان قطز صاحب ومعه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل فسار إليه كتبغا نائب الشام ومعه الأشرف صاحب حمص والسعيد صاحب الضبينة ابن العزيز بن العادل والتقوا على عين جاولت بالغور فانهزم التتر وقتك أميرهم النائب كتبغا وأسر السعيد صاحب الضبينة فقتله قطز واستولى على الشام أجمع. وأقر المنصور صاحب حماة على بلده ورجع إلى مصر فهلك في طريقه قتله بيبرس البندقداري وجلس على التخت مكانه وتلقب بالظاهر حسبما يذكر ذلك كله في دولة الترك. ثم جاءت عساكر التتر إلى الشام وشغل هلاكو عنهم بالفتنة مع قومه وأسف على قتل كتبغا نائبه وهزيمة عساكره فأحضر الناصر ولامه على ما كان منه من تسهيله عليه أمر الشام وتجنى عليه بأنه غره بذلك فاعتذر له الناصر فلم يقبل فرماه بسهم فأنفذه. ثم أتبعه بأخيه الظاهر وبالصالح بن الأشرف موسى صاحب حمص! وشفعت زوجة هلاكو في العزيز بن الناصر وكان مع ذلك يحبه فاستبقاه. وانقرض ملك بني أيوب من الشام كما انقرض قبلها من مصر واجتمعت مصر والشام في مملكة الترك ولم يبق لبني أيوب بهما ملك إلا للمنصور بن المظفر صاحب حماة فإن قطز أقره عليها والظاهر بيبرس من بعده وبقي في إمارته هو وبنوه مدة من دولة الترك وطاعتهم حتى أذن الله بانقراضهم وولى عليها غيرهم من أمرائهم كما نذكر في أخبار دولتهم والله وارث الأرض ومن عليها والعاقبة للمتقين. |
دولة الترك
الخبر عن دولة الترك القائمين بالدولة العباسية بمصر والشام من بعد بني أيوب ولهذا العهد ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدم لنا ذكر الترك وأنسابهم أول الكتاب عند ذكر أمم العالم ثم أخبار الأمم السلجوقية وإنهم من ولد يافث بن نوح باتفاق من أهل الخليقة. فعند نسابة العرب أنهم من عامور بن سويل بن يافث وعند نسابة الروم أنهم من طيراش بن يافث. هكذا وقع في التورارة. والظاهر أن ما وقع لنسابة العرب غلط وان عامور هو مصحف كومر لأن كافه تنقلب عند التعريب غيناً معجمة فربما سصحفت عينا مهملة أو بقيت بحالها. وأما سويل فغلط بالزيادة وأما ما وقع للروم من نسبتهم إلى طيراش فهو منقول في الإسرائيليات وهو رأي مرجوح عندهم لمخالفته لما في التوراة. وأما شعوبهم وأجناسهم فكثيرة وقد عددنا منهم أول الكتاب التغرغر وهم التتر والخطا وكانوا بأرض طغماح وهي بلاد ملوكهم في الإسلام تركستان وكاشغر. وعددنا منهم أيضاً الخزلخية والغز كان منهم السلجوقية والهياطلة الذين منهم الخلج وبلادهم الصغد قريباً من سمرقند ويسمون بها أيضاً. وعددنا منهم أيضاً الغور والخزر والقفجاق ويقال الخفشاخ ويمك والعلان ويقال اللان وشركس وأركش. وقال صاحب كتاب زجار في الكلام على الجغرافيا أجناس من الترك كلهم وراء النهر إلى البحر المظلم وهي العسية والتغرغرية والخرخيرية والكيماكية والخزلخية والخزر والحاسان وتركش وأركش وخفشاخ والخلخ والغزية وبلغار وخجاكت ويمناك وبرطاس وسنجرت وخرجان وأنكر. وذكر في موضع آخر أنكر من شعوب الترك وأنهم في بلاد البنادقة من أرض الروم. وأما مواطنهم فإنهم ملكوا الجانب الشمالي من المعمور في النصف الشرقي منه قبالة الهند والعراق في ثلاثة أقاليم هي السادس والسابع والخامس كما ملك العرب الجانب الجنوبي من المعمور أيضاً في جزيرة العرب وما إليها من أطراف الشام والعراق وهم رجالة مثلهم وأهل حرب وافتراس ومعاش من التغلب والنهب إلا في الأقل. وقد ذكرنا أنهم عند الفتح لم يذعنوا إلا بعد طول حرب وممارسة أيام سائر دولة بني أمية وصدراً من صولة بني العباس. وامتلأت أيدي العرب يومئذ من سبيهم فاتخذوهم خولاً في المهن والصنائع ونساءهم فرشاً للولادة كما فعلوه في سبي الفرس والروم وسائر الأمم الذين قاتلوهم على الدين وكان شأنهم أن لا يستعينوا برقيقهم في شيء مما يعانونه من الغزو والفتوح ومحاربة الأمم ومن أسلم منهم تركوه لسبيله التي هو عليها من أمر معاشه على طاغية هواه. لأن عصبية العرب كانت مستفحلة يومئذ وشوكتهم قائمة مرهفة ويدهم ويد سلطانهم في الأمر جميعاً ومرماهم إلى العز والمجد واحد. وكانوا كأسنان المشط لتزاحم الأنساب وغضاضة الدين حتى إذا أرهف الملكم حده ونهج إلى الاستبداد طريقه واحتاج السلطان في القيام بأمره إلى الاستظهار على المنازعين فيه من قومه بالعصبية المدافعة دونه والشوكة المعترض شباها في أذياله حتى تجدع أنوفهم عن التطاول إلى رتبته وتغض أعنتهم عن السير في مضماره اتخذ بنو العباس من لدن المهدي والرشيد بطانة اصطنعوهم من موالي الترك والروم والبربر ملأوا منهم المواكب في الأعياد والمشاهد والحروب والصوائف والحراسة على السلطان وزينة في أيام السلم واكثافاً لعصابة الملك. حتى لقد اتخذ المعتصم مدينة سامرا لنزلهم تحرجاً من أضرار الرعية باصطدام مراكبهم وتراكم القتال بجوهم وضيق السكك على المارين بزحامهم. وكان اسم الترك غالباً على جميعهم فكانوا تبعاً لهم ومندرجين فيهم. وكانت حروب المسلمين لذلك العهد في القاضية وخصوصاً مع الترك متصلة والفتوح فيهم متعاقبة وأمواج السبي من كل وجه متداركة. وربما رام الخلفاء عند استكمال بغيتهم و استجماع عصابتهم اصطفاء عملية منهم للمخالصة وقواد العساكر ورؤساء المراكب فكانوا يأخذون في تدريجهم لذلك بمذاهب الترشيح فينتقون من أجود السبي الغلمان كالدنانير والجوار كاللآلئ ويسلمونهم إلى قهارمة القصور وقرمة الدواوين يأخذونهم بحدود الإسلام والشريعة وآداب الملك والسياسة ومراس الثقافة في المران على المناضلة بالسهام والمسالحة بالسيوف والمطاعنة بالرماح والبصر بأمور الحرب والفروسية ومعاناة الخيول والسلاح والوقوف على معاني السياسة. حتى إذا تنازعوا في التشريح وانسلخوا من جلده الخشونة إلى رقة الحاشية وملكة التهذيب اصطنعوا منهم للمخالصة ورقوهم في المراتب واختاروا منهم لقيادة العساكر في الحروب ورئاسة المواكب أيم الزينة ورتق الفتوق الحادثة وسد الثغور القاصية كل على شاكلة غنائه وسابق اصطناعه. فلم يزل هذا دأب الحفاء في اصطناعهم ودعامة سرير الملك بعمدهم وتمهيد الخلافة بمقامتهم حتى سموا في درج الملك وامتلأت جوانجهم من الغزو وطمحت أبصارهم إلى الاستبداد فتغلبوا على الدولة وحجروا الخلفاء وقعدوا بدست الملك ومدرج النهي والأمر وقادوا الدولة بزمامهم وأضافوا اسم السلطان إلى مراتبهم. وكان مبدأ ذلك واقعة للمتوكل وما حصل بعدها من تغلب الموالي واستبدادهم بالدولة والسلطان. ونهج السلف منهم في ذلك السبيل للخلف واقتدى الآخر بالأول فكانت لهم دول في الإسلام متعددة تعقب غالباً دولة أهل العصبية وشوكة النسب كمثل دولة بني سامان وراء النهر وبني سبكتكين بعدهم وبني طولون بمصر وبني طغج. وما كان بعد الدولة السلجوقية من دولتهم مثل بني خوارزم شاه بما وراء النهر وبني طغرلتكين بدمشق وبني أرتق بماردين وبني زنكي بالموصل والشام وغير ذلك من دولتهم التي قصصناها عليك قي تصانيف الكتاب. حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف ولبثت أثواب البلاء والعجز ورميت الدولة بكفرة التتر الذين أزالوا كرسي الخلافة وطمسوا رونق لبلاد وأدالوا بالكفر عن الإيمان بما أخذ أهلها عند الاستغراق في التنعم والتشاغل في اللذات والاسترسال في الترف من تكاسل الهمم والقعود عن المناصرة والانسلاخ من جلدة البأس وشعار الرجولية فكان من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بإحياء رمعه وتلافي شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية وقبائلها العزيزة المتوافرة أمراء حامية وأنصاراً متوافية يجلبون من دار الحرب إلى دار الإسلام في مقادة الرق الذي كمن اللطف في طيه وتعرفوا العز والخير في مغبته وتعرضوا للعناية الربانية بتلافيه. يدخلون في الدين بعزائم إيمانية وأخلاق بدوية لم يدنسها لؤم الطباع ولا خالطتها أقذار اللذات ولا دنستها عوائد الحضارة ولا كسر من سورتها غزارة الترف. ثم يخرج بهم التجار إلى مصر أرسالاً كالقطا نحو الموارد فيستعرضهم أهل الملك منهم ويتنافسون في أثمانهم يما يخرج عن القيمة لا لقصد الاستعباد إنما هو إكثاف للعصبية وتغليظ للشوكة ونزوع إلى العصبية الحامية يصطفون من كل منهم بما يؤنسونه من شيم قومهم وعشائرهم. ثم ينزلونهم في غرف الملك ويأخدونهم بالمخالصة ومعاهدة التربية ومدارسة القرآن وممارسة التعليم حتى يشتدوا في ذلك. ثم يعرضونهم على الرمي والثقافة وركض الخيل في الميادين والمطاعنة بالرماح والمماصعة بالسيوف حتى تشتد منهم السواعد وتستحكم الملكات ويستيقنوا منهم المدافعة عنهم والاستماتة دونهم. فإذا بلغوا إلى هذا الحد ضاعفوا أرزاقهم ووفروا من إقطاعهم وفرضوا عليهم استجادة السلاح وارتباط الخيول والاستكثار من أجناسهم لمثل هذا القصد. وربما عمروا بهم خطط الملك ودرجوهم في مراتب الدولة فيسترشح من يسترشح منهم لاقتعاد كرسي السلطان والقيام بأمور المسلمين عناية من الله تعالى سابقة ولطائف في خلقه سارية. فلا يزال نشؤ منهم يردف نشؤاً وجيل يعقب جيلاً والإسلام يبتهج بما يحصل به من الغناء والدولة ترف أغصانها من نضرة الشباب. وكان صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر والشام وأخوه العادل أبو بكر من بعده ثم بنوهم من بعدهم قد تناغوا في ذلك يما فوق الغاية. واختص الصالح نجم الدين أيوب آخر ملوكهم بالمبالغة في ذلك والإمعان فيه فكان عامة عسكره منهم. فلما انفض عشيره وخذله أنصاره وقعد عنه أولياؤه وجنوده لم يدع سبباً في استجلابهم إلا أتاه من استجادة المترددين إلى ناحيتهم ومراضاة التجار في أثمانهم بأضعاف ثمنهم وكان رقيقهم قد بلغ الغاية من الكثرة لما كان التتر قد دوخوا الجانب الغربي من ناحية الشمال وأوقعوا بسكانه من الترك وهم شعوب القفجاق والروس والعلان والمولات وما جاورهم من قبائل جركس. وكان ملك التتر بالشمال يومئذ دوشي خان بن جنكزخان قد أصابهم بالقتل والسبي فامتلأت أيدي أهل تلك النواحي برقيقهم وصاروا عند التجار من أنفس بضائعهم والله تعالى أعلم. في تاريخه حكاية غريبة عن سبب دخول التتر لبلادهم بعد أن عد شعوبهم فقال ومن قبائلهم - يعني القفجاق - قبيلة طغصبا وستا وبرج أغلا والبولى وقنعرا على وأوغلي ودورت وقلابا أعلى وجرثان وقد كابر كلي وكنن. هذه إحدى عشرة قبيلة وليس فيها ذكر الشعوب العشرة القديمة الذكر التي عددها النسابة كما قدمناه أول الترجمة. وهذه والله أعلم بطون متفرعة من القفجاق فقط وهي التي في ناحية الغرب من بلادهم الشمالية فإن سياق كلامه إنما هو في الترك المجلوبين من تلك الناحية لا من ناحية خوارزم ولا ما وراء النهر. قال بيبرس ولما استولى التتر على بلادهم سنة ست وعشرين والملك يومئذ بكرس جنكز خان. لوالده دوشي خان واتفق إن شخصاً من قبيلة دورت يسمى منقوش بن كتمر خرج متصيداً فلقيه آخر من قبيلة طغصبا اسمه آفاكبك - وبين القبيلتين عداوة مستحكمة - فقتله. وأبطأ خبره عن أهله فبعثوا طليعة لاستكشاف أمره اسمه جلنقر فرجع إليهم وأخبرهم وأنه قتل وسمى لهم قاتله فجمعوا للحرب وتزاحفت القبيلتان فانهزمت قبيلة طغصبا وخرج آفاكبك القاتل وتفرق جمعه فأرسل أخاه أقصر إلى ملكهم دوشي يستعلم ما على ذوي قبيلة دورت القفجاقية. وذكره ما فعل كتمر وقومه بأخيه وأغراه بهم وسهل له الشأن فيهم. وبعث دوشي خان جاسوسه لاستكشاف حالهم واختبار مراسلهم وشكيمتهم فعاد إليه بتسهيل المرام وقال إن رأيت كلاباً مكبين على فريستهم متى طردتهم عنها تمكنت منها فأطمعه ذلك في بلاد القفجاق واستحثه أقصر الذي جاء صريخاً وقال له ما معناه نحن ألف رأس تجر ذنباً واحداً وأنتم رأس واحد تجر ألف ذنب فزاده ذلك إغراء. ونهض بجموع التتر فأوقع بالقفجاق وأثخن فيهم قتلاً وسبياً وأسراً وفرقهم في البقاع وامتلأت أيدي التجار وجلبوهم إلى مصر فعوضه الله بالدخول في الإيمان والاستيلاء على الملك والسلطان. انتهى كلام بيبرس. ومساق القصة يدل على أن قبيلة دورت من القفجاق وأن قبيلة طغصبا من التتر. فيقتضي ذلك أن هذه البطون التي عددت ليست من بطر واحد وكذلك يدل مساقها على أن أكثر هؤلاء الترك الذين بديار مصر من القفجاق والله تعالى أعلم. |
الخبر عن استبداد الترك بمصر وانفرادهم بها عن بني أيوب
ودولة المعز أيبك أول ملوكهم قد تقدم لنا أن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل بن العادل قد استكثر من المماليك الترك ومن في معناهم من التركمان والأرمن والروم وجركس وغيرهم. إلا أن اسم الترك غالب على جميعهم لكثرتهم ومزيتهم وكانوا طوائف متميزين بسمات من ينسبون إليه من نسب أو سلطان فمنهم العزيزية نسبة إلى العزيز عثمان بن صلاح الدين ومنهم الصالحية نسبة إلى هذا الصالح أيوب ومنهم البحرية نسبة إلى القلعة التي بناها الصالح بين شعبتي النيل إزاء المقياس بما كانوا حاميتها. وكان هؤلاء البحر شوكة دولته وعصابة سلطانه وخواص داره وكان من كبرائهم عز الدين أيبك الجاشنكير التركماني ورديفه فارس الدين أقطاي الجامدار وركن الدين بيبرس البندقداري. ولما كان ما قدمناه ووفاة الصالح بالمنصورة في محاصرة الإفرنج بدمياط في سنة سبع وأربعين وكتمانهم موته ورجوعهم في تدبير أمورهم إلى شجرة الدر زوجة الصالح وأم ولد خليل وبعثهم إلى ابنه المعظم تورانشاه وانتظاره وأن الإفرنج سعروا بموت الصالح فدلفوا إلى معسكر المسلمين على حين غفلة فانكشف أوائل العسكر وقتل فخر الدين الأتابك. ثم أفرغ الله الصبر وثبت أقداعهم وأبلى أمراء الترك في ذلك اليوم بلاءً حسناً ووقفوا مع شجرة الدر زوج السلطان تحت الرايات ينوهون بمكانها فكانت لهم الكرة وهزم الله العدو. ثم وصل المعظم تورانشاه من كيفا فبايعوا له وأعطوه الصفقة وانتظم الحال واستطال المسلمون على الإفرنج براً وبحراً فكان ما قدمنا من هزيمتهم والفتك بهم وأسر ملكهم الفرنسيس. ثم رحل المعظم إثر هذا الفتح إلى مصر لشهرين من وصوله ونزل بفارس كور يريد مصر وكانت بطانته قد استطالوا على موالي أبيه تقاسموه بين النكبة والإهمال فاتفق كبراء حرية على قتله وهم أيبك وإقطاي وبيبرس فقتلوه كما مر ونصبوا للملك شجرة الدر أم الخليل وخطل لها على المنابر ونقش اسمها على السكة ووضعت علامتها على المراسم ونصها أم خليل. وقام أيبك التركماني بأتابكية العسكر. ثم فودي الفرنسيس بالنزول عن دمياط وملكها المسلمون ستة ثمان وأربعين. وسرحوه في البحر إلى بلاده بعد أن توثقوا منه باليمين أن لا يتعرض لبلاد المسلمين ما بقي. واستقلت الدولة بمصر للترك وانقرضت منها دولة بني أيوب وبلغ الخبر إلى بني أيوب بقتل المعظم وولاية المرأة وما اكتنف ذلك فامتعضوا له. وكان فتح الدين عمر بن العادل قد حبسه عمه الصالح أيوب بالكرك لنظر بدر الصوابي خادمه الذي ولاه على الكرك والشوبك لما ملكهما كما مر فأطلق بدر الدين من محبسه. وبايع له وقام بأمره ولقبه المغيث واتصل الخبر بمصر وعلموا أن الناس قد نقموا عليهم ولاية المرأة فاتفقوا على ولاية زعيمهم أيبك لتقدمه عند الصالح وأخيه العادل قبله فبايعوا له وخلعوا أم خليل ولقبوه بالمعز فقام بالأمر وانفرد بملك مصر. وولى مولاه سيف الدين قطز نائباً وعمر المراتب والوظائف بأمراء الترك والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. نهوض الناصر صاحب دمشق من بني أيوب إلى مصر وولاية الأشرف موسى مكان أيبك كان الملك الصالح أيوب قبل موته قد استخلف جمال الدين بن يغمور على دمشق مكان ابن مطروح وأمراء الدولة الأيوبية بها متوافرون فلما بلغهم استبداد الترك بصر وولاية أيبك وبيعة المغيث بالكرك أمعنوا النظر في تلافي أمورهم. وكبراء بني أيوب يومئذ بالشام الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب وحمص وما إليها فاستدعوه وبايعوا له بدمشق وأغروه بطلب مصر. واتصل الخبر للترك في مصر فاعتزموا على أن ينصبوا بعض بني أيوب فيكفوا به ألسنة النكير عنهم فبايعوا لموسى الذي كان أبوه يوسف صاحب اليمن وهو يوسف أطسز بن المسعود بن الكامل وهو يومئذ ابن ست سنين ولقبوه الأشرف. وتزحزح له أيبك عن كرسي السلطان إلى رتبة الأتابكية واستمر الناصر على غلوائه في النهوض إلى مصر. واستدعى ملوك الشام من بني أيوب فأقبل إليه موسى الأشرف الذي كان صاحب حمص وإسماعيل الصالح بن العادل صاحب بعلبك والمعظم تورانشاه بن صلاح الدين وأخوه نصر الدين وابنا داود الناصر صاحب الكرك وهما الأمجد حسن والظاهر شادي. وارتحل من دمشق. سنة ثمان وأربعين وفي مقدمته أتابكه لؤلؤ الأرمني وبلغ الخبر إلى مصر فاضطرب الأمر ونادوا بشعار الخلافة والدعاء للمستعصم وجددوا البيعة على ذلك للأشرف وجهزوا العساكر وخرجوا للقائهم. وسار في المقدمة أقطاي الجامدار وجمهور البحرية وتبعهم أيبك ساقة في العساكر. والتقى الجمعان بالعباسية فانكشف عسكر مصر أولا وتبعهم أهل الشام وثبت المعز في القلب ودارت عليه رحى الحرب. وهرب إليه جماعة من عسكر الناصر فيهم أمراء العزيزية مثل جمال الدين لا يدعون وشمس الدين أتسز اليرلي وشمس الدين أتسز الحسامي. غضبوا من رياسة لؤلؤ عليهم فهربوا وبقي لؤلؤ في المعركة صامداً. ثم حمل المعز على الناصر وأصحابه فانهزموا وانفض عسكره وجيء بلؤلؤ الأتابكي أسيراً فقتله صبراً وبأمراء بني أيوب فحبسهم ورجع أيبك من الوقعة فوجد عساكر للناصر مجتمعين بالعباسية يظنون الغلب لهم. فعدل إلى بلبيس ثم إلى القلعة. ورجعت عساكر الشام من أتباع المنهزمين لما شعروا بهزيمة صاحبهم فلحقوا بالناصر بدمشق ودخل أيبك إلى القاهرة وحبس بني أيوب بالقلعة. ثم قتل منهم إسماعيل الصالح ووزيره ابن يغمور الذي كان معتقلاً من قبل. ولما وصل الناصر. إلى دمشق أزاح علل عساكره وعجل الكرة إلى مصر ونزل غزة سنة خمسين وبرزت عساكر مصر للقائه فتواقفوا ملياً. ثم وصل نجم الدين البادراني رسول المستعصم فأصلح بين الطائفتين على أن يكون القدس والساحل إلى نابلس للمعز والتخم بين المملكتين نهر الأردن. وانعقد الأمر على ذلك ورجع كل إلى بلده وأخرج المعز عن أمراء بني أيوب الذين حبسهم يوم الواقعة والله سبحانه وتعالى أعلم. |
لما شغل الصالح بالإفرنج وما بعدهم
عظم فساد العرب بالصعيد واجتمعوا على الشريف خضر الدين أبي ثعلب بن نجم الدين عمر بن فخر الدين إسماعيل بن حصن الدين ثعلب الجعفري من ولد جعفر بن أبي طالب الذين أجازوا من الحجاز لما غلبهم بنو عمهم بنواحي المدينة في الحروب التي كانت بينهم. وأطاعه أعراب الصعيد كافة ولم يقدر على كفهم عن الراية. واتصل ذلك وهلك الصالح واستبد الترك بمصر وشغلوا عنهم بما كان من مطالبة بني أيوب لهم. فلما فرغ المعز أيبك من أمر الناصر وعقد الصلح معه بعث لحربهم فارس الدين أقطاي وعز الدين أيبك الأقرم أمير البحرية فساروا إليهم ولقوهم بنواحي أخميم فهزموهم وفر الشريف ناجياً بنفسه. ثم قبض عليه بعد ذلك وقتل ورجعت العساكر إلى القاهرة والله تعالى أعلم. مقتل أقطاي الجامادر وفرار البحرية إلى الناصر ورجوع أيبك إلى كرسيه كان أقطاي الجامدار من أمراء البحرية وعظمائهم ويلقب فارس الدين وكان رديفاً للمعز أيبك في سلطانه وأتابكه. وكان يغض من عنانه عن الطموح إلى الكرسي وكان يخفض من جناحه للبحرية يتألفهم بذلك فيميلون له عن أيبك فاعتز في الدولة واستفحل أمره وأخذ من المعز الإسكندرية إقطاعاً وتصرف في بيت المال. وبغث فخر الدين محمد بن بهاء الدين بن حياء إلى المظفر صاحب حماة في خطبة ابنته فتزوجها وأطلق يده في العطاء والإقطاع فغم الناس وكثر تابعه. وغص به المعز أيبك وأجمع قتله فاستدعاه بعض الأيام للقصر للشورى سنة اثنتين وخمسين. وقد أكمن له ثلاثة من مواليه في ممره بقاعة الأعمدة وهم قطز وبهادل وسنجر فوثبوا عليه عند مروره بهم وبادروه بالسيوف وقتلوه لحينه. واتصلت الهيعة بالبحرية فركبوا وطافوا بالقلعة فرمى إليهم برأسه فانفضوا. واستراب أمراؤهم فاجتمع ركن الدين بيبرس البندقداري وسيف الدين قلاون الصالحي وسيف الدين سنقر الأشقر وبدر الدين بنسر الشمسي وسيف الدين بلبان الرشيدي وسيف الدين تنكر وأخوه سيف الدين موافق ولحقوا بالشام فيمن انضم إليهم من البحرية واختفى من تخلف منهم واستصفيت أموالهم وذخائرهم. وارتجع ما أخذه أقطاي من بيت المال ورد ثغر الإسكندرية إلى أعمال السلطان وانفرد المعز أيبك بتدبير الدولة وخلع موسى الأشرف وقطع خطبته وخطب لنفسه. وتزوج شجرة الدر زوجة الصالح التي كانوا ملكوها من قبل. واستخلص علاء الدين أيدغدي العزيزي وجماعة العزيزية وأقطعه دمياط. ولما وصل البحرية وأمراؤهم إلى غزة كاتبوا الناصر يستأذنونه في القدوم وساروا إليه فاحتفل في مبرتهم وأعروه بملك مصر فأجابهم وجهز العساكر. وكتب المعز فيهم إلى الناصر وطلبوا منه القدس والبلاد الساحلية فأقطعها لهم. ثم سار الناصر إلى الغور وبرز إلى القاهرة في العزيزية ومن إليهم ونزل العباسية وتواقف الفريقان مدة. ثم اصطلحوا ورجع كل إلى بلده سنة أربع وخمسين وبعث أيبك رسوله إلى المستعصم بطاعته وطلب الألوية والتقليد. ولما رجع إلى مصر قبض على علاء الدين أيدغدي لاسترابته به وأعاد دمياط إلى أعمال السلطان واتصلت أحواله إلى أن هلك في الدولة والله تعالى أعلم. فرار الأفرم إلى الناصر بدمشق كان عز الدين أيبك الأفرم الصالحي والياً على قوص وأخميم وأعمالها فقوي أمره وهم بالاستبداد وأراد المعز عزله فامتنع عليه فبعث بعض الخوارزمية مداداً له. ودس إليهم الفتك به. فلما وصلوا إليه استخدمهم وخلطهم بنفسه فاغتالوه وقبضوا عليه وتراموا إليه للحين فبطشوا بهم وقتلوهم وخلعوه. ثم عزله بعد ذلك عز الدين الصيمري عن خدمته واستدعاه إلى مصر فأقام عنده ثم بعثه مع أقطاي إلى مكانه من الدولة وأوعز المعز أيبك إلى الأفرم بالمقام لتمهيد بلاد الصعيد وأن يكون الصيمري في خدمته وبلغه وهو هناك أن المعز عدا على أقطاي وقتله وأن أصحابه البحرية فروا إلى الشام فاستوحش وأظهر العصيان واستدعى الشريف أبا ثعلب وتظاهر معه على الفساد وجمعوا الأعراب من كل ناحية ثم بعث المعز سنة ثلاث وخمسين شمس الدين البرلي في العساكر فهزمهم. واعتقل الشريف فلم يزل في محبسه إلى أن قتله الظاهر. ونجا الأفرم في فل من مواليه إلى الواحات. ثم اعتزم على قصد الشام فرجع إلى الصعيد مع جماعة من أعراب جذام مروا به على السويس والطور ورجع عنه مواليه إلى مصر ولما انتهى إلى غزة تولع به الناصر فأذنه بالقدوم عليه بدمشق وركب يوم وصوله فتلقاه بالكسوة وأعطاه خمسة آلاف دينار. ولم يزل عنده بدمشق إلى أن هرب البحرية من الكوك إلى مصر كما يذكر فخشي أن يأخذه الناصر وكاتب الأتابك قطز بمصر وسار إليه فقبله أولاً. ثم قبض عليه بعد ذلك واعتقله بالإسكندرية. وكان الصيمري قد بقي بعد الأفرم في ولاية الصعيد واستفحل فيه فسولت له نفسه الاستبداد ولم يتم له فهرب إلى الناصر سنة أربع وخمسين انتهى والله تعالى أعلم. مقتل المعز أيبك وولاية ابنه علي المنصور كان المعز أيبك عندما استفحل أمره ومهد سلطانه ودفع الأعداء عن حوزته طمحت نفسه إلى مظاهرة المنصور صاحب حماة ولؤلؤ صاحب الموصل ليصل يده بهما وأرسل إليهما في الخطبة. وأثار ذلك غيرة من زوجته شجرة الدر وأغرت به جماعة من الخصيان منهم محسن الخزري وخصى العزيزي ويقال سنجر الخادمان فبيتوه في الحمام بقصره وقتلوه سنة خمس وخمسين لثلاث سنين من ولايته. وسمع مواليه الناعية من جوف الليل فجاؤوا مع سيف الدين قطز وسنجر الغتمي وبهادر فدخلوا القصر وقبضوا على الجوجري فقتلوه وفر سنجر العزيزي إلى الشام وهموا بقتل شجرة الدر. وقام الموالي الصالحية دونها فاعتقلوها ونصبوا للملك علي بن المعز أيبك ولقبوه المنصور وكان أتابكه علم الدين سنجر الحلي واشتمل موالي المعز على ابنه المنصور فكبسرا علم الدين سنجر واعتقلوه وولوا مكانه أقطاي المعزي الصالحي مولى العزيز على الدولة في نقضها وإبرمها سنة ست وخمسين. وأغرته أم المنصور بالصاحب شرف الدين الغازي لأن المعز كان يستودعه سراياه عنده فاستصفاه وقتله. وفي هذه السنة توفي زهير بن علي المهلي وكان يكتب عن الصالح ويلازمه في سجنه بالكرك ثم صحبه إلى مصر والله تعالى أعلم. نهوض البحرية بالمغيث صاحب الكرك وانهزامه قد ذكرنا فرار البحرية إلى الناصر ونهوضهم به إلى مصر وخروج أيبك إلى العباسة وما كان بينهما من الصلح. فلما انعقد الصلح ورجع الناصر إلى دمشق ورجعوا عنه إلى قلعة ولم يرضوا الصلح فاستراب بهم الناصر وصرفهم عنه فلحقوا بغزة ونابلس. وبعثوا إلى المغيث صاحب الكرك بطاعتهم فأرسل الناصر عساكره للإيقاع بهم فهزموهم فسار إليهم بنفسه فهزموه إلى البلقاء ولحقوا بالكرك وأطمعوا المغيث في مصر واستمدوه لها فأمدهم بعسكره وقصدوا مصر وكبراؤهم بيبرس البندقداري وقلاوون الصالحي وبليان الرشيدي. وبرز الأمير سيف الدين قطز بعساكر مصر إلى الصالحية فهزمهم وقتل بلغار الأشرف وأسر قلاوون الصالحي وبليان الرشيدي. وأطلق قلاوون الصالحي بعد أيام في كفالة أستاذ الدار فاختفى ثم لحق بأصحابه واستحثوا المغيث إلى مصر فنهض في عساكره سنة ست وخمسين ونزل الصالحية وقدم إليه عز الدين الرومي والكافوري والهواشر ممن كان يكاتبه من أمراء مصر. وبرز سيف الدين قطز في عساكر مصر والتقى الجمعان فانهزم المغيث ولحق في الفل بالكرك. وفرت البحرية إلى الغور فوجدوا هنالك أحياء من الأكراد فروا من جبال شهرزور أمام التتر فاجتمعوا بهم والتحموا بالصهر معهم وخشي الناصر غائلة اجتماعهم فجهز العساكر من دمشق إليهم والتقوا بالغور فانهزمت عسكره فتجهز ثانياً بنفسه وسار إليهم فخاموا عن لقائه وافترقوا فلحق الأكراد بمصر واعترضهم التركمان في طريقهم بالعريش فأوقعوا بهم وخلصوا إلى مصر. ولحق البحرية بالكرك مع عسكر المغيث ووعدهم بالنصر وأرسل إليه من دمشق في إسلامهم إليه. وتوعده أنفسهم واضطربوا ففر بيبرس وقلاوون إلى الصحراء وأقاموا بها. ثم لحقوا بمصر وأكرمهم الأتابك قطر وأقطعهم وأقاموا عنده. ولما فر بيبرس وقلاوون من المغيث قبض على بقية أمراء البحرية سنقر الأشقر وشكر وبرانق وبعث بهم إلى الناصر فحبسهم بقلعة حلب إلى أن استولى التتر عليها. خلع المنصور علي بن أيبك واستبداد قطز بالملك ثم كان ما ذكرناه ونذكره من زحف هلاكو إلى بغداد واستيلائه عليها وما بعدها إلى الفرات وفتحه ميافارقين وإربل ومسير لؤلؤ صاحب الموصل إليه ودخوله في طاعته. ووفادة ابن الناصر صاحب دمشق إليه رسولاً عن أبيه بالهدايا والتحف على سبيل المصانعة والعذر عن الوصول بنفسه خوفاً على سواحل الشام من الإفرنج فارتاب الأمراء بشأنهم واستصغروا سلطانهم المنصور علي بن المعز أيبك عن مدافعة هذا العدو لعدم ممارسته للحروب وقلة دربته بالوقاع. واتفقوا على البيعة لسيف الدين قطز المعزي وكان معروفاً بالصرامة والإقدام فبايعوا له وأجلسوه على الكرسي سنة ست وخمسين ولقبوه المظفر. وخلعوا المنصور لسنتين من ولايته وحبسوه وأخويه بدمياط. ثم غربهما الظاهر بعد ذلك إلى القسطنطينية. وكان المتولون لذلك الصالحية والعزيزية ومن يرجع إلى قطز من المعزية. وكان بهادر وسنجر الغتمي غائبين فلما قدما استراب بهما قطز وخشي من نكيرهما ومزاحمتهما فقبض عليهما وحبسهما. وأخذ في تمهيد الدولة فاستوسقت له. وكان قطز من أولاد الملوك الخوارزمية يقال إنه ابن أخت خوارزم شاه واسمه محمود بن مودود أسره التتر عند الحادثة عليهم وبيع واشتراه ابن الزعيم. حكاه النووي عن جماعة من المؤرخين والله تعالى ينصر من |
استيلاء التتر على الشام وانقراض أمر بني أيوب
ثم مسير قطز بالعساكر وارتجاعه الشام من أيدي التتر وهزيمتهم وحصول الشام في ملك الترك ثم عبر هلاكو الفرات سنة ثمان وخمسين وفر الناصر وأخوه الظاهر إلى التيه ولحق بمصر المنصور صاحب حماة وجماعة البحرية الذين كانوا بأحياء العرب في القفر. وملك هلاكو بلاد الشام واحدة واحدة وهدم أسوارها وولي عليها وأطلق المعتقلين من البحرية بحلب مثل سنقر الأشقر وشكر وبرانق واستخدمهم. ثم قفل إلى العراق لاختلاف بين أخوته واستخلف على الشام كتبغا من أكبر أمرائه في اثني عشر ألفاً من العساكر وتقدم إليه بمطالعة الأشرف إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص بعد أن ولاه على مدينة دمشق وسائر مدن الشام. واحتمل معه الناصر وابنه العزيز بعد أن استشاره في تجهيز العساكر بالشام لمدافعة أهل مصر عنها فهون عليه الأمر وقللهم في عينه فجهز كتبغا ومن معه. ولما فصل سار كتبغا إلى قلعة دمشق وهي ممتنعة بعد فحاصرها وافتتحها عنوة وقتل نائبها بدر الدين بربدك وخيم بمرج دمشق. وجاءه من ملوك الإفرنج بالساحل. ووفد عليه الظاهر أخو الناصر صاحب صرخد فرده إلى عمله وأوفد عليه المغيث صاحب الكرك ابنه العزيز بطاعته فقبله ورده إلى أبيه واجتمعت عساكر مصر واحتشد المظفر العرب والتركمان وبعث إليهم بالعطايا وأزاح العلل وبعث كتبغا إلى المظفر قطز بأن يقيم طاعة هلاكو بمصر فضرب أعناق الرسل ونهض إلى الشام مصمماً للقاء العدو ومعه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل. وزحف كتبغا وعساكر التتر ومعه الأشرف صاحب حمص والسعيد صاحب الضبينة ابن العزيز بن العادل. وبعث إليهما قطز يستميلهما فوعده الأشرف بالانهزام يوم اللقاء وأسماء العزيز الرد على رسوله وأوقع به والتقى الفريقان بالغور على عين جالوت وتحيز الأشرف عندما تناشبوا فانهزم التتر وقتل أميرهم كتبغا في المعركة. وجيء بالسعيد صاحب الضبينة أسيراً فوبخه ثم قتله وجيء بالعزيز بن المغيث وأسر يومئذ الذي ملك مصر بعد ذلك. ولقي العادل بيبرس المنهزمين في عسكر من الترك فأثخن فيهم وانتهى إلى حمص فلقي مدداً من التتر جاء لكتبغا فاستأصلهم ورجع إليه الأشرف صاحب حمص من عسكر التتر فأقره على بلده وبعث المنصور على بلده حماة وأقره عليها ورد إليه المعرة وانتزع منه سلمية فأقطعها لأمير العرب مهنا بن مانع بن جديلة. وسار إلى دمشق فهرب من كان بها من التتر وقتل من وجد بها من بقاياهم. ورتب العساكر في البلاد وولى على دمشق علم الدين سنجر الحلي الصالحي وهو الذي كان أتابك علي بن أيبك ونجم الدين أبا الهيجاء ابن خشترين وولى على حلب السعيد ويقال المظفر علاء الدين بن لؤلؤ صاحب الموصل. وكان وصل إلى الناصر بمصر هارباً أمام التتر وسار معه فلما دخل الناصر منها لحق هو بمصر وأحسن إليه قطز. ثم ولاه الناصر على حلب الآن ليتوصل إلى أخبار التتر من أخيه الصالح بالموصل. وولى على نابلس وغزة والسواح شمس الدين دانشير البرلي من أمراء العزيز محمد وهو أبو الناصر وكان هرب منه عند نهوضه إلى مصر في جماعة من العزيزية ولحق بأتابك. ثم ارتاب بهم وقبض على بعضهم ورجع البرلي في الباقين إلى الناصر فاعتقله بقلعة حلب حتى سار إلى التتر. فلما دخل إليها سار البرلي مع العساكر إلى مصر فأكرمه المظفر وولاه الآن على السواحل وغزة وأقام المظفر بدمشق عشرين ليلة وأقبل إلى مصر. ولما بلغ إلى هلاكو ما وقع بقومه في الشام و استيلاء الترك عليه إتهم صاحب دمشق بأنه خدعه في إشارته وقتله كما مر وانقرض ملك بني أيوب من الشام أجمع وصار لملوك مصر من الترك. والله يرث الأرض من عليها وهو خير الوارثين. مقتل المظفر وولاية الظاهر بيبرس كان البحرية من حين مقتل أميرهم أقطاي الجامدار يتحينون لأخذ ثأره وكان قطز هو الذي تولى قتله فكان مستريباً بهم. ولما سار إلى التتر ذهل كل منهم عن شأنه. وجاء البحرية من القفر هاربين من المغيث صاحب الكرك فوثقوا لأنفسهم من السلطان قطز أحوج ما كان إلى أمثالهم من المدافعة عن الإسلام وأهله فأمنهم واشتمل عليهم وشهدوا معه واقعة التتر على عين جالوت وأبلغوا فيها والمقدمون فيهم يومئذ بيبرس البندقداري وأنز الأصبهاني وبلبان الرشيدي وبكتون الجوكنداري وبندوغز التركي. فلما انهزم التتر من الشام واستولوا عليه وحسر ذلك المد وأفرج عن الخائفين الروع عاد هؤلاء البحرية إلى ديدنهم من الترصد لثأر أقطاي. فلما قفل قطز من دمشق سنة ثمان وخمسين أجمعوا أن يبرزوا به في طريقهم. فلما قارب مصر ذهب في بعض أيامه يتصيد وسارت الرواحل على الطريق فاتبعوه وتقدم إليه أنز شفيعاً في بعض أصحابه. فشفعه فأهوى يقبل يده فأمسكها. وعلاه بيبرس بالسيف فخر صريعاً لليدين والفم. ورشقه الآخرون بالسهام فقتلوه وتبادروا إلى المخيم. وقام دون فارس الدين أقطاي على ابن المعز أيبك وسأل من تولى قتله منكم فقالوا بيبرس فبايع له واتبعه أهل المعسكر ولقبوه الظاهر. وبعثوا أيدمر الحلي بالخبر إلى القلعة بمصر فأخذ له البيعة على من هناك. ووصل الظاهر منتصف ذي القعدة من السنة فجلس على كرسيه واستخلف الناس على طبقاتهم وكتب إلى الأقطار بذلك. ورتب الوظائف وولى الأمراء. وولى تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الوزارة مع القضاء واقتدى بآثار أستاذه الصالح نجم الدين. ومبدأ أمر هذا الظاهر بيبرس أنه كان من موالي علاء الدين أيدكين البندقداري مولى الصالح فسخط عليه واعتقله وانتزع ماله ومواليه وكان منهم بيبرس فصيره مع الجامدارية وما زال يترقى في المراتب إلى أن تقدم في الحروب ورياسة المراكب ثم كان خبره بعد الصالح ما قصصناه انتهى والله سبحاه وتعالى أعلم. انتقاض سنجر الحلي بدمشق ثم أقوش البرلي بحلب ولما بلغ علم الدين سنجر بدمشق مقتل قطز وولاية الظاهر بيبرس انتقض ودعا لنفسه وجلس على التخت بدمشق وتلقب المجاهد وخطب لنفسه وضرب السكة باسمه وتمسك المنصور صاحب حماة بدعوة الظاهر. وجاءت عساكر التتر إلى الشام فلما شارفوا البيرة جرد إليهم السعيد بن لؤلؤ من حلب عسكراً فهزمهم التتر وقتلوهم. واتهم الأمراء العزيزية والخاصرية ابن لؤلؤ في ذلك فاعتقلوه وقدموا عليهم حسام الدين الجو كنداري وأقره الظاهر. وزحف التتر إلى حلب فملكوها وهرب حسام الدين إلى حماة ثم زحف إليها التتر فلحق صاحبها المنصور وأخوه علي الأفضل إلى حمص وبها الأشرف بن شيركوه واجتمعت إليه العزيزية والناصرية وقصدوا التتر سنة تسع وخمسين فهزموهم بعد هزيمتهم ونازلوا حماة. وسار المنصور والأشرف صاحب حمص إلى سنجر الحلي بدمشق ولم يدخلا في طاعته لضعفه. وسار التتر من حماة إلى أفامية فحاصروها يوماً وعبروا الفرات إلى بلادهم. وبعث بيبرس الظاهر صاحب مصر أستاذه علاء الدين البندقداري في العساكر لقتال سنجر الحلي بدمشق وقاتلهم فهزموه ولجأ إلى القلعة. ثم خرج منها ليلاً إلى بعلبك واتبعوه فقبضوا عليه وبعثوه إلى الطاهر فاعتقله واستقر أيدكين بدمشق ورجع صاحب حمص وحماة إلى بلديهما. وبعث الظاهر إلى أيدكين بالقبض على بهاء الدين بقري وشمس الدين أقوش اليرلي وغيرهما من العزيزية فقبض على بقري وفر العزيزية والناصرية مع أقوش البرلي وطالبوا صاحب حمص وصاحب حماة في الانتقاض فلم يجيباهم إلى ذلك. فقال لفخر الدين اطلب لي الظاهر المقدم معك في خدمتك. وبينما هو يسير لذلك خالفه البرلي إلى حلب وثار بها وجمع العرب والتركمان ونصب للحرب فجاءت العساكر من مصر فقاتلوه وغلبوه عليها. ولحق بالبيرة فملكها واستقر بها حتى إذا جهز الظاهر عساكره سنة ستين إلى حلب مع سنقر الرومي سار معه صاحب حماة وصاحب حمص للإغارة على إنطاكية. ولقيهم البرلي وأعطاهم طاعته وأقره الظاهر على البيرة. ثم ارتاب به بعد ذلك واعتقله ثم علاء الدين أيدكن البندقداري مولى السلطان بدمشق وولى عليها بيبرس الوزير ورجع والله ينصر من يشاء من عباده انتهى. البيعة للخليفة بمصر ثم مقتله بالحديثة وغانة على يد التتر والبيعة للآخر الذي استقرت الخلافة في عقبه بمصر لما قتل الخليفة عبد الله المستعصم ببغداد بقي رسم الخلافة الإسلامية عطلاً بأقطار الأرض والظاهر متشوف إلى تجديده وعمارة دسته. ووصل إلى مصر سنة تسع وخمسين عم المستعصم وهو أبو العباس أحمد بن الظاهر كان بقصورهم ببغداد وخلص يوم البيعة وأقام بتردد في الأحياء إلى أن لحق مصر فسر الظاهر بقدومه وركب للقائه ودعا الناس على طبقاتهم إلى أبواب السلطان بالقلعة وأفرد بالمجلس أدباً معه. وحضر القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز فحكم باتصال نسبه بالشجرة الكريمة بشهادة العرب الواصلين به والخدم الناجعين من قصورهم. ثم بايع له الظاهر والناس على طبقاتهم وكتب إلى النواحي بأخذ البيعة والخطبة على المنابر ونقش اسمه في السكة ولقب المستنصر وأشهد هو حينئذ الملأ بتفويض الأمر للظاهر والخروج له عن العهد وكتب بذلك سجله. وأنشأه فخر الدين بن لقمان كاتب الترسيل. ثم ركب السلطان والناس كافة إلى خيمة بنيت خارج المدينة فقرئ التقليد على الناس وخلع على أهل المراتب والخواص ونادى السلطان بمظاهرته وإعادته إلى دار خلافته. ثم خطب هذا الخليفة يوم الجمعة وخشع في منبره فأبكى الناس وصلى وانصرفوا إلى منازلهم ووصل على أثره الصالح إسماعيل بن لؤلؤ صاحب الموصل وأخوه إسحاق صاحب الجزيرة وقد كان أبوهما لؤلؤ استخدم لهلاكو كما مر وأقره على الموصل وما إليها وتوفي سنة سبع وخمسين. وقد ولي ابنه إسماعيل على الموصل وابنه إسماعيل المجاهد على جزيرة ابن عمر وابنه السعيد على سنجار. وأقرهم هلاكو على أعمالهم ولحق السعيد بالناصر صاحب دمشق وسار معه إلى مصر وصار مع قطز وولاه حلب كما مر ثم اعتقل. ثم ارتاب هلاكو بالأخوين فأجفلا ولحقا بمصر وبالغ الظاهر في إكرامهم وسألوه في إطلاق أخيهم المعتقل فأطلقه وكتب لهم بالولاية على أعمالهم وأعطاهم الألوية وشرع في تجهيز الخليفة إلى كرسيه ببغداد فاستخدم له العساكر وأقام الفساطيط والخيام ورتب له الوظائف وأزاح علل الجميع. يقال أنفق في تلك النوبة نحواً من ألف ألف دينار. ثم سار من مصر في شوال من السنة إلى دمشق ليبعث من هناك الخليفة وابني لؤلؤ إلى ممالكهم. ووصل إلى دمشق ونزل بالقلعة وبعث بلبان الرشيدي وشمس الدين سنقر إلى الفرات. وصمم الخليفة لقصده وفارقهم. وسار الصالح إسماعيل وأخواه إلى الموصل وبلغ الخبر إلى هلاكو فجرد العساكر إلى الخليفة وكبسوه بغانة والحديثة فصابرهم قليلاً. ثم استشهد وبعث العساكر إلى الموصل فحاصروها تسعة أشهر حتى جهدهم الحصار واستسلموا فملكها التتر وقتلوا الصالح إسماعيل والظاهر خلال مقيم بدمشق. وقد وفد عليه بنو أيوب من نواحي الشام وأعطوه طاعتهم المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص فأكرم وصلهما وولاهما على أعمالهما وأذن لهما في اتخاذ الآلة وبسط حكمهما على بلاد الإسماعيلية. وإلى المنصور تل باشر الذي اعتاضه عن حمص لما أخذها منه الناصر صاحب حلب. ووفد على الظاهر أيضاً بدمشق الزاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص وصاحب بعلبك والمنصور والسعيد ابنا الصالح إسماعيل بن العادل والأمجد بن الناصر داود الأشرف بن مسعود والظاهر بن المعظم فأكرم وفادتهم وقابل بالإحسان والقبول طاعتهم وفرض لهم الأرزاق وقرر الجرايات. ثم قفل إلى مصر وأفرج عن العزيز بن المغيث الذي كان اعتقله قطز وأطلقه يوم الموقعة بالكرك. وولى على أحياء العرب بالشام عيسى بن مهنا بن مانع بن جريلة من رجالاتهم ووفر لهم الإقطاع على حفظ السابلة إلى حدود العراق ورجع إلى مصر فقدم عليه رجل من عقب المسترشد من خلفاء بني العباس ببغداد اسمه أحمد فأثبت نسبه ابن بنت. الأعز كالأول. وجمع الظاهر الناس على مراتبهم وبايع له وفوض إليه هو الأمور وخرج إليه عن التدبير. وكانت هذه البيعة سنة ستين ونسبه عند العباسيين في أدراج نسبهم الثابت أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر بن أحمد ابن الإمام المسترشد. وعند نسابة مصر أحمد بن حسن بن أبي بكر ابن الأمير أبي علي القتبي ابن الأمير حسن ابن الإمام الراشد ابن الإمام المسترشد. هكذا قال صاحب حماة في تاريخه وهو الذي استقرت الخلافة في عقبه بمصر لهذا العهد انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم. |
فرار التركمان من الشام إلى بلاد الروم
كان التركمان عند دخول التتر إلى بلاد الشام كلهم قد أجفلوا إلى الساحل واجتمعت أحياؤهم بالجوكان قريباً من صفد. وكان الظاهر لما نهض إلى الشام اعترضه رسل الإفرنج من يافا وبيروت وصفد يسألونه في الصلح على ما كان لعهد صلاح الدين فأجابهم وكتب به إلى الأنبردور ملكهم ببلاد إفرنسة وراء البحر فكانوا في ذمة من الظاهر وعهد. ووقعت بين الإفرنج بصفد وبين أحياء التركمان واقعة يقال أغار فيها أهل صفد عليهم فأوقع بهم التركمان وأسروا عدة من رؤسائهم وفادوهم بالمال. ثم خشوا عاقبة ذلك من الظاهر فارتحلوا إلى بلاد الروم وأقفر الشام منهم. والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. انتقاض الأشرفية والعزيزية واستيلاء البرلي على البيرة كان هؤلاء العزيزية والأشرفية من أعظم جموع هؤلاء الموالي وكان مقدم الأشرفية بهاء الدين بقري ومقدم العزيزية شمس الدين أقوش وكان المظفر قطز قد أقطعه نابلس وغزة وسواحل الشام. ولما ولي الظاهر انتقض عليه سنجر الحلي بدمشق وجهز أستاذه علاء الدين البندقداري في العساكر لقتاله. وكان الأشرفية والعزيزية بحلب وقد انتقضوا على نائبها السعيد بن لؤلؤ كما مر فتقدم البندقداري باستدعائهم معه إلى دمشق. ثم أضاف الظاهر بيسان للبرلي زيادة على ما بيده فسار وملك دمشق. ثم أوعز الظاهر إلى البندقداري بالقبض على العزيزية والأشرفية. فلم يتمكن إلا من بقري مقدم الأشرفية وفارقه الباقون وانتقضوا. واستولى شرف الدين البرلي على البيرة وأقام بها وشن الغارات على التتر شرقي الفرات فنال منهم. ثم جهز الظاهر عساكره إليه مع جمال الدين بامو الحموي فهزمهم وأطلقهم وأقام الظاهر على استمالته بالترغيب والترهيب حتى جنح إلى الطاعة واستأذن في القدوم وسار بكباس الفخري للقائه فلقيه بدمشق سنة إحدى وستين ثم وصل فأوسعه السلطان يداً وعطاء والواصلين معه على مراتبهم واختصه بمراكبته ومشورته وسأله النزول عن البيرة فنزل عنها فقبلها الظاهر وأعاضه عنها. والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء الظاهر على الكرك من يد المغيث وعلى حمص بعد وفاة صاحبها لما قفل السلطان من الشام سنة ستين كما قدمناه جرد عسكراً إلى الشوبك مع بدر الدين أيدمري فملكها وولى عليها بدر الدين بلبان الخصي ورجع إلى مصر. وكان عند المغيث بالكرك جماعه من الأكراد الذين أجفلوا من شهرزور أمام التتر إلى الشام وكان قد اتخذهم جنداً لعسكرته فسرحهم للإغارة على الشوبك ونواحيه فاعتزم السلطان على الحركة إلى الكرك مخافة المغيث. وبعث بالطاعة واستأمن من الأكراد فقبلهم الظاهر وأمن الأكراد فوصلوا إليه. ثم سار سنة إحدى وستين إلى الكرك واستخلف على مصر سنجر الحلي واستخلف على غزة فلقي هنالك أم المغيث تستعطفه وتستأمن منه لحضور ابنها فأجابها وسار إلى بيسان فسار المغيث للقائه. فلما وصل قبض عليه وبعثه من حينه إلى القاهرة مع أقسنقر الفارقاني وقتل بعد ذلك بمصر. وولى على الكرك عز الدين أيدمر وأرسل نور الدين بيسري الشمسي ليؤمن أهل الكرك ويرتب الأمور بها. وأقام بالطور في انتظاره فأبلغ بيسري القصد من ذلك. ورجع إليه فارتحل إلى القدس وأمر بعمارة مسجده ورجع إلى مصر. وبلغه وفاة صاحب حمص موسى الأشرف بن إبراهيم المنصور شيركوه المجاهد بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه وكانت وراثة له من آبائه أقطعه نور الدين العادل لجده أسد الدين ولم تزل بأيديهم وأخذها الناصر يوسف صاحب حلب سنة ست وأربعين وعوضه عنها تل باشر وأعادها عليه هلاكو وأقرة الظاهر. ثم توفي سنة إحدى وستين وصارت للظاهر وانقرض منها ملك بني أيوب والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم رجعت عساكر التتر إلى البيرة مع ردمانة من أمراء المغل سنة ثلاث وستين فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق فجهز السلطان العساكر مع لوغان من أمراء الترك فساروا في ربيع من السنة وسار السلطان في أثرهم وانتهى إلى غزة. ولما وصلت العساكر إلى البيرة وأشرفوا عليها والعدو يحاصرها أجفلها عساكر التتر وساروا منهزمين وخلفوا سوادهم وأثقالهم فنهبتها العساكر. وارتحل السلطان من غزة وقصد قيسارية وهي للإفرنج فنزل عليها عاشر جمادى من السنة فنصب المجانيق ودعا أهلها للحرب واقتحمها عليهم فهربوا إلى القلعة فحاصرها خمساً وملكها عنوة وفر الإفرنج منها. ثم رحل في خض من العساكر إلى عملها فشن عليها الغارة وسرح عسكراً إلى حيفا فملكها عنوة. وخربوها وقلعتها في يوم أو بعض يوم. ثم ارتحل إلى أرسوف فنازلها مستهل جمادى الأخيرة فحاصرها وفتحها عنوة وأسر الإفرنج الذين بها وبعث بهم إلى الكرك. وقسم أسوارها على الأمراء فرموها وعمد إلى ما ملك في هذه الغزاة من القرى والضياع والأرضين فقسمها على الأمراء الذين كانوا معه وكانوا اثنين وخمسين وكتب لهم بذلك وقفل إلى مصر. وبلغه الخبر بوفاة هلاكو ملك التتر في ربيع من السنة وولاية ابنه أبغا مكانه وما وقع بينه وبين بركه صاحب الشمال من الفتنة. ولأول دخوله لمصر قبض على شمس الدين سنقر الرومي وحبسه وكانت الفتنة قبل غزاته بين عيسى بن مهنا ولحق زامل بعد ذلك غزو طرابلس وفتح صفد كانت طرابلس للإفرنج وبها سمند بن البرنس الأشتر وله معها إنطاكية. وبلغ السلطان أنه قد تجهز للقتال فلقيه النائب بها علم الدين سنجر الباشقر وانهزم المسلمون واستشهد كثير منهم فتجهز السلطان للغزو وسار من مصر في شعبان سنة أربع وستين وترك ابنه السعيد علياً بالقلعة في كفالة عز الدين أيدمر الحلي. وقد كان عهد لابنه السعيد بالملك سنة اثنتين وستين. ولما انتهى إلى غزة بعث العساكر صحبة سيف الدين قلاوون ايدغدي العزيزي فنازل القليعات وحلباً وعرقاً من حصون طرابلس فاستأمنوا إليه. وزحفت العساكر وسار السلطان إلى صفد فحاصرها عشراً ثم اقتحمها عليهم في عشرين من رمضان السنة وجمع الإفرنج الذين بها فاستلحمهم أجمعين وأنزل بها الحامية وفرض أرزاقهم في ديوان العطاء ورجع إلى دمشق والله تعالى أعلم. |
الساعة الآن 08:04 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |