![]() |
انتقاض النواب بالشام ومسرهم إلى التتر
وولاية تنكز على الشام كان قفجق نائب حلب قد توفي بعد أن ولاه السلطان فنقل مكانه إلى حلب الكرجي من حماة سنة عشر فتظلم الناس منه فقبض عليه ونقل إليها قرا سنقر المنصوري في نيابة دمشق وولى مكانه بدمش سيف الدين كراي المنصوري سنة إحدى عشرة. ثم سخطه واعتقله وولى مكانه بدمشق جمال الدين اقوش الأشرفي نقله إليها من الكرك. وتوفي وبها محمد نائب طرابلس فنقل إليها أقوش الأفرم من صرخد. ثم قبض على بكتمر الجو كندار نائب مصر وحبسه بالكرك وجعل مكانه في الثانية بيبرس الدوادار. غم ارقاب قرا سنقر نائب حلب فهرب إلى البرية واجتمع مع مهنا بن عيسى ويقال أنه استأذن السلطان في الحج فأذن له فلما توسط البرية استوعرها فرجع فمنعه الأمراء الذين بحلب من دخولها إلا بإذن السلطان فرجع إلى الفرات وبعث مهنا بن عيسى شافعاً له عند السلطان فقبله ورده إلى نياية حلب. ثم بلغ السلطان أن خوبندا ملك التتر زاحف إلى الشام فجهز العساكر من مصر وتقدم إلى عساكر الشام بأن يجتمعوا معهم بحمص فارتاب قرا سنقر وخرج من حلب وعبر الفرات ثم راجع نفسه واستأمن السلطان على أن يقيم بالفرات فأقطعه السلطان الشوبك يقيم بها فلم يفعل وبقي بمكان من الفرات مع مهنا بن عيسى. ثم ارتاب جماعة من الأمراء فلحقوا به وفيهم أقوش الأفرم نائب طرابلس وأمضوا عزمهم على اللحاق بخربندا فوصلوا إلى ماردين فتلقاهم صاحيها بالكرامة. وحمل إليهم تسعين ألف درهم ورتب لهم الأتاوات. ثم ساروا إلى خلاط إلى أن جاءهم إذن خربندا فساروا إليه واستحثوه للشام. وبلغ الخبر إلى السلطان فاتهم الأمراء الذين في خدمته بالشام بمداخلة قرا سنقر وأصحابه فاستدعاهم وعساكرهم وبعث على حلب سيف الدين مكان قرا سنقر وعلى طرابلس بكتمر الساقي مكان أقوش. وبعث على العرب فضل بن عيسى مكان أخيه مهنا. ووصل الأمراء إلى مصر فقبض عليهم جميعاً وعلى أقوش الأشوقي نائب دمشق وولى مكانه تنكز الناصري سنة اثنتي عشرة وجعل له الولاية على سائر الممالك الإسلامية. وقبض على نائبه بمصر بيبرس الدوادار وحبسه بالكرك وولى مكانه أرغون الدوادار وعسكر يظاهر القلعة. وارتحل بعد عيد الفطر من السنة فلقيه الخبر أثناء طريقه بأن خربندا وصل إلى الرحبة ونازلها وانصرف عنها راجعاً فانكفأ السلطان إلى دمشق وفرق العساكر بالشام. ثم سار إلى الكرك واعتزم على قضاء فرضه تلك السنة وخرج حاجاً من الكرك. ورجع سنة ثلاث عشرة إلى الشام وبعث إلى مهنا بن عيسى يستميله وعاد الرسول بامتناعه. ثم لحق سنة ست عشرة بخربندا وأقطعه بالعراق وأقام هنالك. قلم يرجع إلا بعد مهلك خربندا والله سبحانه وتعالى أعلم. قد كان تقدم لنا أن حماة كانت من أقطاع تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب أقطعه إياها عمه صلاح الدين بن أيوب سنة أربع وسبعين وخمسمائة فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة فأقطعها ابنه ناصر الدين محمداً ولقبه المنصور. وتوفي سنة سبع عشرة وستمائة بعد عمه صلاح الدين والعادل فوليها ابنه قليج أرسلان ويلقب الناصر سنة ست وعشرين وكان أخوه المظفر ولي عهد أبيه عند الكامل بن العادل فجهزة بالعساكر من دمشق وملكها من يد أخيه وأقام بها إلى أن هلك سنة ثلاث وأربعين وولى ابنه محمد ويلقب المنصور ولم يزل في ولايتها إلى أن سار يوسف بن العزيز ملك الشام من بني أيوب هارباً إلى مصر أيام التتر فسار معه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل. ثم خشي من الترك بمصر فرجع إلى هلاكو واستمر المنصور إلى مصر فأقام بها. وملك هلاكو الشام وقتل الناصر وسائر بني أيوب كما مر. ثم سار قطز إلى الشام عندما رجع هلاكو عنه عندما شغل عنه بفتنة قومه فارتجعه من ملكة التتر وولى على قواعده وأمصاره ورد المنصور إلى حماة فلم يزل والياً عليها. وحضر واقعة قلاوون على التتر بحمص سنة ثلاثين وكان يتردد إلى مصر سائر أيامه ويخرج مع البعوث إلى بلاد الأرمن وغيرها. ويعسكر مع ملوك مصر متى طلبوه لذلك. ثم توفي سنة ثلاث وثمانين وأقر قلاوون ابنه المظفر على ما كان أبوه وجرى هو معهم على سننه إلى أن توفي سنة ثمان وتسعين عندما بويع الناصر محمد بن قلاوون بعد لاشين وانقطع عقب المنصور فولى السلطان عليها قرا سنقر من أمراء الترك نقله إليها من الضبينة وأمره باستقرار بني أيوب وسائر الناس على إقطاعهم. ثم كان استيلاء قازان على الشام ورجوعه سنة تسع وتسعين ومسير بيبرس وسلار وانتزاع الشام من التتر. وكان كتبغا العادل الذي ملك مصر وخلعه لاشين نائباً بصرخد فجلا في هذه الوقائع وتنصح لبيبرس وسلار وحضر معهم بدمشق فولوه على حماة. وغزا بالعساكر بلاد الأرمن وحضر هزيمة التتر مع الناصر سنة اثنتين وسبعمائة فرجع إلى حماة فمات بها. وولى السلطان بعده سيف الدين قفجق استدعاه إليها من إقطاعه بالشوبك. وكان الأفضل علاء الدين أخو المنصور صاحب حماة توفي أيام أخيه المنصور وخلف ولداً اسمه إسماعيل ولقبه عماد الدين ونشأ في دولتهم عاكفاً على العلم والأدب حتى توفر منهما حظه ولى كتاب في التاريخ مشهور. ولما رجع السلطان الناصر من الكرك إلى كرسيه وسطا ببيبرس وسلار راجع نظره في الإحسان إلى أهل هذا البيت واختار منهم عماد الدين إسماعيل هذا وولاه على حماة مكان قومه سنة ست عشرة وسبعمائة. وكان عند رجوعه إلى ملكه قد ولى نيابة حلب سيف الدين قفجق وجعل مكانه بحماة أيدمر الكرجي. وتوفي قفجق فنقل أيدمر من حماة إلى حلب مكانه وولى إسماعيل على حماة كما قلنا ولقبه المؤيد ولم يزل عليها إلى أن توفي سنة اثنتين وثلاثين. وولى الناصر ابنه الأفضل محمد برغبة أبيه إلى السلطان في ذلك. ثم مات الملك الناصر في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وقام بعده بالأمر مولاه قوص ونصب ابنه أبا بكر محمداً فكان أول شيء أحدثه عزل الأفضل من حماة. وبعث عليها مكانه صقر دمول النائب وسار الأفضل إلى دمشق فمات بها سمنة اثنتين وأربعين وانقرضت إيالة بني أيوب من حماة والبقاء لله وحده لا رب غيره ولا معبود سواه. غزو العرب بالصعيد وفتح ملطية وآمد ثم خرج السلطان سنة ثلاث عشرة فعسكر بالأهرام مورياً بالنزهة وقد بلغه ما نزل بالصعيد من عيث العرب وفسادهم في نواحيه وأضرارهم بالسابلة فسرح العساكر في كل ناحية منه وأخذ الهلاك منهم مأخذه إلى أن تغلب عليهم واستباحهم من كل ناحية وشرد بهم من خلفهم. ثم سرح العساكر سنة أربع عشرة بعدها إلى ملطية وهي للأرمن وملكها عنوة. وسار لذلك تنكز نائب دمشق بعساكر الشام وستة من أمراء مصر ونازلوها في محرم سنة خمس عشرة وبها جموع من نصارى الأرمن والعربان وقليل من المسلمين تحت الجزية فقاتلوهم حتى ألقوا باليد واقتحموها عنوة واستباحوها وجاؤوا بملكها مع الأسرى فأبقاه السلطان وأنعم عليه. ثم نمي عنه أنه يكاتب ملوك العراق فحبسه. ثم بعث السلطان العساكر من حلب سنة خمس عشرة إلى عرقية من أعمال آمد ففتحوها وجاءت العساكر سنة سبع عشرة ثانية إلى آمد ففتحوها واستباحوها وغنموا منها أموالاً جمة. والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. الولايات وفي سنة خمس عشرة سخط السلطان سيف الدين بكتمر نائب طرابلس الذي وليها بعد أقوش الأفرم وأمده به وسيق معتقلاً إلى مصر وولي مكانه سيف الدين كستاي. ثم هلك فولى مكانه شهاب الدين قرطاي نقله إليها من نيابة حمص وولى نيابة حمص سيف الدين أقطاي ثم قبض سنة ثمان عشرة على طغاي الحسامي من الجاشنكيرية وصرف نائباً إلى صفد مكان بكتمر الحاجب ثم سخطه فأحضره معتقلاً وحبسه بالإسكندرية. وبعث على صفد سيف الدين أقطاي نقله إليها من حمص وبعث على حمص بدر الدين بكتوت القرماني والله تعالى أعلم. العمائر ابتدأ السلطان سنه إحدى عشرة وسبعمائة ببناء الجامع الجديد بمصر وأكمله ووقف عليه الأوقاف المغلة. ثم أمر سنة أربع عشرة ببناء القصر الأبلق من قصور الملك فجاء من أفخر المصانع الملوكية. وفي سنة ثمان عشرة أمر بتوسعة جامع القلعة فهدم ما حوله من المساكن وزيد فيه إلى الحد الذي هو عليه بهذا العهد. ثم أمر في سنة ثلاث وعشرين بعمارة القصور لمنازله بسرياقوس وبنى بازائها الخانقاه الكبيرة المنسوبة إليه. وفي سنة ثلاث وثلاثين أمر بعمارة الإيوان الضخن بالقلعة وجعله مجلس ملكه وبيت كرسيه ودعاه دار العدل. والله تعالى أعلم. حجات السلطان وحج الملك الناصر محمد بن قلاوون في أيام دولته ثلاث حجات أولاً سنة ثلاث عشرة عند ما انقرض قرا سنقر نائب حلب وأقوش الأفرم نائب طرابلس ومهنا بن عيسى أمير العرب. وجاء خربندا إلى الشام ورجع من الرحبة فسار السلطان من مصر إلى الشام وبلغه رجوع خربندا فسار من هناك حاجاً وقضى فرضه سنة ثلاث عشرة ورجع إلى الشام. ثم حج الثانية سنة تسع عشرة ركب إليها من مصر في أواخر ذي القعدة ومعه المؤيد صاحب حماة والأمير محمد ابن أخت علاء الدين ملك الهند صاحب دلى ولما قضى حجه انطلق الأمير محمد ابن أخت علاء الدين من هناك إلى اليمن ورجع إلى مصر فأفرج عن رميثة أمير مكة عن بني حسن وعن المعتقلين بمحبسه ووصله ووصلهم. عادة أبيه في مراكبة السلطان وقفل من حجه سنة ثلاث وثلاثين فأمر بعمل باب الكعبة مصفحاً بالفضة أنفق فيه خمسة وثلاثين ألف درهم. وفي منصرفة من هذه الحجة مات بكتمر الساقي من أعظم أمرائه وخواصه ويقال أنه سمه مما وهو من مماليك بيبرس الجاشنكير. وانتقل إلى الناصر فجعله أمير السقاة وعظمت منزلته عنده ولطفت خلته حتى كانا لا يفترقان إما في بيت السلطان وإما في بيته. وكان حسن السياسة في الغاية وخلف بعد وفاته من الأموال والجواهر والذخائر ما يفوت الحصر والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه. أخبار النوبة وإسلامهم قد تقدم لنا غزو الترك إلى النوبة أيام الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون لما كان عليهم من الجزية التي فرضها عمرو بن العاص عليهم وقررها الملوك بعد ذلك. وربما كانوا يماطلون بها أو يمتنعون من أدائها فتغزوهم عسكر المسلمين من مصر حتى بستقيموا. وكان ملكهم بدنقلة أيام سارت العساكر من عند قلاوون إليها سنة ثمانين وستمائة واسمه سمامون. ثم كان ملكهم لهذا العهد اسمه آي لا أدري أكان معاقباً لسمامون أو توسط بينهما متوسط. وتوفي آي سنة ست عشرة وسبعمائة وملك بعده في دنقلة أخوه كربيس. ثم نزع من بيت ملوكهم رجل إلى مصر اسمه نشلي وأسلم فحسن إسلامه وأجرى له رزقاً وأقام عنده. فلما كانت سنة عشرة امتنع كربيس من أداء الجزية فجهز السلطان إليه العساكر وبعث معها عبد الله نشلي المهاجر إلى الإسلام من بيت ملكهم فخام كربيس عن لقائهم وفر إلى بلد الأبواب. ورجعت العساكر إلى مصر واستقر نشلي في ملك النوبة على حاله من الإسلام. وبعث السلطان إلى ملك الأبواب في كربيس فبعث به إليه وأقام بباب السلطان. ثم إن أهل النوبة اجتمعوا على نشلي وقتلوه بممالأة جماعة من العرب سنة تسع وبعثوا عن كربيس ببلد الأبواب فألفوه بمصر. وبلغ الخبر إلى السلطان فبعثه إلى النوبة فملكها وانقطعت الجزية بإسلامهم. ثم انتشرت أحياء العرب من جهينة في بلادهم واستوطنوها وملأوها عيثاً وفساداً. وذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم فعجزوا. ثم ساروا إلى مصانعتهم بالصهر فافترق ملكهم وثار لبعض أبناء جهينة من أمهاتهم على عادة الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت فتمزق ملكهم واستولى أعراب جهينة على بلادهم وليس في طريقه شيء من السياسة الملوكية للآفة التي تمنع من انقياد بعضهم إلى بعض فصاروا شيعاً لهذا العهد. ولم يبق لبلادهم رسم للملك وإنما هم الآن رجالة بادية يتبعون مواقع القطر شأن بوادي الإعراب. ولم يبق في بلادهم رسم للملك لما أحلته صبغة البداوة العربية من صبغتهم بالخلطة والإلتحام والله غالب على أمره والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. إلى فتح إياس ثم فتح سيس وانقراض أمرهم قد كنا قدمنا أخبار الأرمن إلى قتل ملكهم هيثوم على يد أيدغدي شحنة التتر ببلاد الروم سنة سبع واستقرار الملك بسيس لأخيه أوسير بن ليون. وكان بينه وبين قزمان ملك التركمان مصاف سنة تسع عشرة فهزمه قزمان ولم يزل أوسير بن ليون ملكاً عليهم إلى سنة اثنتين وسبعين فهلك ونصبوا للملك بعده ابنه ليون صغيراً ابن اثنتي عشرة سنة. وكان الناصر قد طلب أوسير أن ينزل له عن القلاع التي تلي الشام فاتسع وجهز إليه عساكر الشام فاكتسحوا بلاده وخربوها وهلك أوسير على أثر ذلك. ثم أمر الناصر كتبغا نائب حلب بغزو سيس فدخل إليها بالعساكر سنة ست وثلاثين واكتسح جهاتها وحصر قلعة النقير وافتتحها. وأسر من الأرمن عدة يقال بلغوا ثلاثمائة وبلغ خبرهم إلى النصارى باياس فثاروا بمن عندهم من المسلمين وأحرقوهم غضباً للأرمن لمشاركتهم في دين النصرانية. ولم يثبت أن بعث إلى السلطان دمرداش بن جوبان شحنة المغل ببلاد الروم يعرفه بدخوله في الإسلام ويستنفر عساكره لجهاد نصارى الأرمن فأسعفه بذلك وجهز إليه عساكر الشام من دمشق وحلب وحماة سنة سبع وثلاثين ونازلوا مدينة أياس ففتحوها وخربوها ونجا فلهم إلى الجبال فاتبعتهم عساكر حلب وعادوا إلى بلادهم. ثم سار سنة إحدى وستين بندمر الخوارزمي نائب حلب لغزو سيس ففتح أذنة وطرطوس والمصيصة ثم قلعتي كلال والجريدة وسنباط كلا وتمرور. وولى نائبين في أذنة وطرطوس وعاد إلى حلب وولى بعده على حلب عشقيم النصارى فسار سنة ست وسبعين وحصر سيس وقلعتها شهرين إلى أن نفدت أقواتهم. وجهدهم الحصار فاستأمنوا ونزلوا على حكمه فخرج ملكهم النكفور وأمراؤه وعساكره إلى عشقيم فبعث بهم إلى مصر واستولى المسلمون على سيس وسائر قلاعها وانقرضت منها دولة الأرمن والبقاء لله وحدة انتهى. |
الصلح مع ملوك التتر
وصهر الناصر مع ملوك الشمال منهم كان للتتر دولتان مستفحلتان إحداهما دولة بني هلاكو آخذ بغداد والمستولي على كرسي الإسلام بالعراق وأصارها هو وبنوه كرسياً لهم. ولهم مع ذلك عراق العجم وفارس وخراسان وما وراء النهر ودولة بني دوشي خان بن جنكز خان بالشمال متصلة إلى خوارزم بالمشرق إلى القرم وحدود القسطنطينية بالجنوب وإلى أرض بلغار بالمغرب. وكان بين الدولتين فتن وحروب كما تحدث بين الدول المجاورة وكانت دولة الترك بمصر والشام مجاورة لدولة بني هلاكو وكانوا يطمعون في ملك الشام ويرددون الغزو إليه مرة بعد أخرى ويستميلون أولياءهم وأشياعهم من العرب والتركمان فيستظهرون بهم عليهم كما رأيت ذلك في أخبارهم. وكانت بين ملوكهم من الجانبين وقائع متعددة وحروبهم فيها سجال وربما غلبوا من الفتنة بين دولة دوشي وبين بني هلاكو. ولبعدهم عن فتنة بني دوشي خان لتوسط الممالك بين مملكتهم ومملكة مصر والشام فتقع لهم الصاغية إليهم وتتجدد بينهم المراسلة والمهاداة في كل وقت ويستحث ملك الترك ملك صراي من بني دوشي خان لفتنة بني هلاكو والأجلاب عليهم في خراسان وما إليها من حدود مملكتهم ليشغلوهم عن الشام ويأخذوا بحجزتهم عن النهوض إليه. وما زال دأبهم من أول دولة الترك. وكانت رغبة بني دوشي خان في ذلك أعظم يفتخرون به على بني هلاكو. ولما ولي صراي أنبك من بني دوشي خان ثلاث عشرة وكان نائباً ببلاد الروم قطلغمير وفدت عليه الرسل من مصر على العادة فعرض لهم قطلغمير بالصهر مع السلطان الناصر ببعض نساء ذلك البيت على شرطية الرغبة من السلطان في ظاهر الأمر والتمهل منهم في إمضاء ذلك. وزعموا أن هذه عادة الملوك منهم ففعل السلطان ذلك وردد الرسل والهدايا أعواماً ستة إلى أن استحكم ذلك بينهم وبعثوا إليه بمخطوبته طلبناش بنت طغاجي بن هند وابن بكر بن دوشي سنة عشرين مع كبير المغل وكان مقلداً يحمل على الأعناق ومعهم جماعة من أمرائهم وبرهان الدين إمام أزبك ومروا بالقسطنطينية فبالغ لشكري في كرامتهم. يقال أنه أنفق عليهم ثم ساروا بها إلى مصر محمولة على عجلة وراء ستور من الذهب والحرير يجرها كديش يقوده اثنان من مواليها في مظهر عظيم من الوقار والتجلة. ولما قاربوا مصر ركب للقائهم النائباًن أرغون وبكتمر الساقي في العساكر وكريم الدين وكيل السلطان وأدخلت الخاتون إلى القصر واستدعى ثالث وصولها القضاء والفقهاء وسائر الناس على طبقاتهم إلى الجامع بالقلعة وحضر الرسل الوافدون عندهم بعد أن خلع عليهم. وانعقد النكاح بين وكيل السلطان ووكيل أزبك وانفض ذلك المجمع وكان يوماً مشهوداً. ووصلت رسل أبي سعيد صاحب بغداد والعراق سنة اثنين وعشرين وفيهم قاضي توريز يسألون الصلح وانتظام الكلمة واجتماع اليد على إقامة معالم الإسلام من الحج وإصلاح السابلة وجهاد العدو فأجاب السلطان إلى ذلك وبعث سيف الدين أيتمش المحمدي لأحكام العقد معهم وامتضاء إيمانهم فوجهه لذلك بهدية سنية وعاد سنة ثلاث وعشرين ومعه رسل أبي سعيد ومعه جوبان لمثل ذلك فتم ذلك وانعقد بينهم. وقد كانت قبل ذلك تجددت الفتنة بين أبو سعيد وصاحب صراي نفرة من أزبك صاحب صراي من تغلب جوبان على أبي سعيد وفتكه في المغل. وكانت بين جوبان وبين سبول صاحب خوارزم وما وراء النهر فتنة ظهر فيها أزبك وأمده. بالعساكر فاستولى أزبك على أكثر بلاد خراسان وطلب من الناصر بعد الإلتحام بالصهر المظاهرة على أبي سعيد وجوبان فأجابه إلى ذلك. ثم بعث إليه أبو سعيد في الصلح كما قلناه فآثر وعقد له. وبلغ الخبر إلى أزبك ورسل الناصر عنده فأغلظ في القول وبعث بالعتاب. واعتذر له الناصر بأنهم إنما دعوه لإقامة شعائر الإسلام ولا يسع التخلف عن ذلك فقبل. ثم وقعت بينه وبين أبي سعيد مراوضة في الصلح بعد أن استرد جوبان ما ملكه أزبك من خراسان فتوادع كل هؤلاء الملوك واصطلحوا ووضعوا أوزار الحرب حيناً من الدهر إلى أن تقلبت الأحوال وتبدلت الأمور والله مقلب الليل والنهار. مقتل أولاد بني نمي أمراء مكة من بني حسن قد تقدم لنا استيلاء قتادة على مكة والحجاز من يد الهواشم واستقرارها لبنيه إلى أن استولى منهم أبو نمي وهو محمد بن أبي سعيد علي بن قتادة. ثم توفي سنة اثنتين وسبعمائة وولي مكانه ابناه رميثة وخميصة واعتقلا أخويهما عطيفة وأبا الغيث ولما حج الأميران كافلا المملكة بيبرس وسلار هربا إليهما من مكان اعتقالهما وشكيا ما نالهما من رميثة وخميصة فأشكاهما الأميران واعتقلا رميثة وخميصة وأوصلاهما إلى مصر ووليا عطيفة وأبا الغيث وبعثا بهما إلى السلطان صحبة الأمير أيدمر الكوكبي الذي جاء بالعساكر معهما. ثم رضي السلطان عنهما وولاهما مكان رميثة وخميصة وبعث معهما العساكر ثانياً سنة ثلاث عشرة وفر رميثة وخميصة عن البلاد ورجع العسكر. وأقام أبو الغيث وعطيفة فرجع إليهما رميثة وخميصة وتلاقوا فانهزم أبو الغيث وعطيفة فسارا إلى المدينة في جوار منصور بن جماد فأمدهما ببني عقبة وبني مهدي ورجع إلى حرب رميثة وخميصة فاقتتلوا ثانياً ببطن مرو فانهزم أبو الغيث وقتل. واستمر رميثة وخميصة ولحق أخوهما عطيفة وسار معهما. ثم تشاجروا سنة خمس عشرة ولحق رميثة بالسلطان مستعدياً على أخويه فبعث معه العساكر ففر خميصة بعد أن استصفى أهل مكة وهرب إلى السبعة مدن ولحقته العساكر فاستلحق أهل تلك المدن ولقيهم فانهزموا ونجا خميصة بنفسه. ثم رجعت العساكر فرجع وبعث رميته يستنجد السلطان فبعث إليه العساكر ففر خميصة. ثم رجع واتفق مع أخويه رميثة وعطيفة ثم لحق عطيفة بالسلطان سنة ثمان عشرة وبعث معه العساكر فقبضوا على رميثة وأوصلوه معتقلاً فسجن بالقلعة. واستقر عطيفة بمكة وبقي خميصة مشرداً. ثم لحق بملك التتر ملك العراق خربندا واستنجده على ملك الحجاز فأنجده بالعساكر وشاع بين الناس أنه داخل الروافض الذين عند خربندا في إخراج الشيخين من قبريهما وعظم ذلك على الناس. ولقيه محمد بن عيسى أخو مهنا حسبة وامتعاضاً للدين. وكان عند خربندا فأتبعه واعترضه وهزمه. ويقال إنه أخذ منه المعاول والفؤوس التي أعدوها لذلك. وكان سبباً لرضا السلطان عنه. وجاء خميصة إلى مكة سنة ثماني عشرة وبعث الناصر العساكر إليه فهرب وتركها. ثم أطلق رميثة سنة تسع عشرة فهرب إلى الحجاز ومعه وزيره علي بن هنجس فرد من طريقه واعتقل وأفرج عنه السلطان بعد مرجعه من الحج سنة عشرين. ثم أن خميصة استأمن السلطان سنة عشرين وكان معه جماعة من المماليك هربوا إليه فخاموا أن يحضروا معه إلى السلطان فاغتالوه وحضروا. وكان السلطان قد أطلق رميثة من الاعتقال فأمكنه منهم فثأر من المباشر قتل أخيه وعفا عن الباقين. ثم صرف السلطان رميثة إلى مكة وولاه مع أخيه عطيفة واستمرت حالهما. ووفد عطيفة سنة إحدى وعشرين على الأبواب ومعه قتادة صاحب الينبع يطلب الصريخ على ابن عمه عقيل قاتل ولده فأجابه السلطان وجهز العساكر لصريخه وقوبل كل منهما بالأكراد وانصرفوا. وفي سنة إحدى وثلاثين وقعت الفتنة بمكة وقتل العبيد جماعة من الأمراء والترك فبعث السلطان أيدغمش ومعه العساكر فهرب الشرفاء والعبيد وحضر رميثة وبذل الطاعة وحلف متبرئاً مما وقع فقبل منه السلطان وعفا له عنها واستمرت حاله على ذلك إلى أن هلك سنة. . . وتداولت الإمارة بين إبنيه عجلان وبقية. ثم استبد عجلان كما نذكوه في أخبارهم حج ملك التكرور كان ملك السودان بصحراء المغرب في الإقليم الأول والثاني منقسماً بين أمم من السودان. أولهم مما يلي البحر المحيط أمة صوصو وكانوا مستولين على غانة ودخلوا في الإسلام أيام الفتح وذكر صاحب كتاب رجار في الجغرافيا أن بني صالح من بني عبد الله بن حسن بن الحسن كانت لهم بها دولة وملك عظيم ولم يقع لنا في تحقيق هذا أكثر من هذا. وصالح من بني حسن مجهول وأهل غانة منكرون أن يكون عليهم ملك لأحد غير صوصو. ثم يلي أمة صوصو أمة مالي من شرقهم وكرس ملكهم بمدينة بني ثم من بعدهم شرقاً عنهم أمة كوكو. ثم التكرور بعدهم وفيما بينهم وبين النوبة أمة كانم وغيرها. وتحولت الأحوال باستمرار العصور فاستولى أهل مالي على ما وراءهم وبين أيديهم من بلاد صوصو وكوكو وآخر ما استولوا عليه بلاد التكرور. واستفحل ملكهم إلى الغاية وأصبحت مدينتهم بني حاضرة بلاد السودان بالمغرب ودخلوا في دين الإسلام منذ حين من السنين. وحج جماعة من ملوكهم. وأول من حج منهم برمندار وسمعت في ضبطه من بعض فضلائهم برمندانه وسبيله في الحج هي التي اقتفاها ملوكهم من بعده. ثم حج منهم منساولي بن ماري جاطة أيام الظاهر بيبرس. وحج بعده منهم مولاهم صاكوره وكان تغلب على ملكهم وهو الذي افتتح مدينة كوكو. ثم حج أيام الناصر وحج من بعده منهم منسا موسى حسبما ذلك مذكور في أخبارهم عند دول البربر عند ذكر صنهاجة ودولة لمتونة من شعوبهم. ولما خرج منسا موسى من بلاد المغرب للحج ملك على طريق الصحراء وخرج عند الأهرام بمصر وأهدى إلى الناصر هدية حفيلة يقال إن فيها خمسين ألف دينار وأنزله بقصر عند القرافة الكبرى وأقطعه إياها ولقيه السلطان بمجلسه وحدثه ووصله وزوده وقرب إليه الخيل والهجن وبعث معه الأمراء يقومون بخدمته إلى أن قضى فرضه سنة أربع وعشرين ورجع فأصابته في طريقه بالحجاز نكبة تخلصه منها أجله. وذلك أنه ضل في الطريق عن المحمل والركب وانفرد بقومه عن العرب وهي كلها مجاهل لهم فلم يهتدوا إلى عمران ولا وقفوا على مورد وساروا على السمت إلى أن نفذوا عند السويس وهم يأكلون لحم الحيتان إذا وجدوها والأعراب تتخطفهم من أطرافهم إلى أن خلصوا. ثم جدد السلطان له الكرامة ووسع له في الحباء وكان أعد لنفقته من بلاده فيما يقال مائة حمل من التبر في كل حمل ثلاثة قناطير فنفدت كلها وأعجزته النفقة فاقترض من أعيان التجار وكان في صحبته منهم بنو الكويك فأقرضوه خمسين ألف دينار وابتاع منهم القصر الذي أقطعه السلطان وأمضى له ذلك. وبعث سراج الدين الكويك معه وزيره يرد له منه ما أقرضه من المال فهلك هنالك. وأتبعه سراج الدين آخراً بابنه فمات هنالك. وجاء ابنه فخر الدين أبو جعفر بالبعض وهلك منسا موسى قبل وفاته فلم يظفروا منه بشيء انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم. |
انجاد المجاهد ملك اليمن
قد تقدم لنا استبداد علي بن رسول فملك بعد مهلك سيده يوسف أتسز بن الكامل بن العادل بن أيوب ويلقب المسعود وكان علي بن رسول أستاذ داره ومستولياً على دولته. فلما هلك سنة ست وعشرين وستمائة نصب ابن رسول ابنه موسى الأشرف لملكه وكفه قريباً. واستولى ابن رسول وأورث ملكه باليمن لبنيه لهذا العهد وانتقل الأمر للمجاهر منهم علي بن داود والمؤيد بن يوسف المظفر بن عمر بن المنصور بن علي بن رسول سنة إحدى وعشرين. وانتقض عليه جلال الدين ابن عمه الأشرف فظهر عليه المجاهد واعتقله. ثم انتقض عليه عمه المنصور سنة ثلاث وعشرين وحبسه وأطلق من محبسه واعتقل عمه المنصور. وكان عبد الله الظاهر بن المنصور قائماً بأمر أبيه ومنازلة المجاهد سنة أربع وعشرين فبعث بالصريخ إلى الناصر سليمان الترك بمصر وكان هو وقومه يعطونهم الطاعة ويبعثون إليهم الأتاوة من الأموال والهدايا وطرف اليمن وماعونه فجهزهم الناصر صحبة بيبرس الحاجب وطبنال من أعظم أمرائه فساروا إلى اليمن ولقيهم المجاهد بعدن فأصلحوا بين الفريقين على أن تكون. . . ويستقر المجاهد في سلطانه باليمن ومالوا على كل من كان سبباً في الفتنة فقتلوهم ودوخوا اليمن وحملوا أهله على طاعة المجاهد ورجعوا إلى محلهم من الأبواب السلطانية والله تعالى ولي التوفيق. ولاية أحمد ابن الملك الناصر على الكرك ولما استفحل ملك السلطان الناصر واستمر وكثر ولده طمحت نفسه إلى ترشيح ولده لتقر عينه بملكهم فبعث كبيرهم أحمد إلى قلعة الكرك سنة ست وعشرين ورتب الأمراء المقيمين بوظائف السلطان فسار إلى الكرك وأقام بها أربع سنين ممتعاً بالملك والدولة وأبوه قرير العين بإمارته في حياته. ثم استقدمه سنة ثلاثين وأقام فيه سنة الختان واحتفل في الصنيع له وختن معه من أبناء الأمراء والخواص جماعة انتقاهم ووقع اختياره عليهم. ثم صرفه إلى مكان إمارته بالكرك فأقام بها إلى أن توفي الملك الناصر وكان ما نذكره والله تعالى أعلم. وفاة دمرداش بن جوبان شحنة بلاد الروم ومقتله كان جوبان نائب مملكة التتر مستولياً على سلطانه أبي سعيد بن خربندا لصغره وكانت حاله مع أبيه خربندا قريباً من الاستيلاء فولى على مملكة بلاد الروم دمرداش. ثم وقعت الفتنة بينهم وبين ملك الشمال أزبك من بني دوشي خان على خراسان وسار جوبان من بغداد سنة تسع وعشرين لمدافعته كما يأتي في أخبارهم. وترك عند السلطان أبي سعيد ببغداد ابنه خواجا دمشق فسعى به أعداؤه وأنهوا عنه قبائح من الأفعال لم يحتملها له فسطا به وقتله. وبلغ الخبر إلى أبيه جوبان فانتقض وعاجله أبو سعيد بالمسير إلى خراسان فتفرقت عنه أصحابه وفر فأدرك بهراة وقتل. وأذه السلطان أبو سعيد لأهله أن ينقلوه إلى التربة التي اختطها بالمدينة النبوية لدفنه فاحتملوه ولم يتوفقوا على إذن صاحب مصر فمنعهم صاحب المدينة ودفنوه بالبقيع. ولما بلغ الخبر بمقتله إلى ابنه دمرداش في إمارته ببلاد الروم خشي على نفيه فهرب إلى مصر وترك مولاه أرتق مقيماً لأمر البلد وأنزله بسيواس. ولما وصل إلى دمشق وركب النائب لتلقيه وسار معه إلى مصر فأقبل عليه السلطان وأحله محل الكرامة وكان معه سبعة من الأمراء ومن العسكر نحو ألف فارس فأكرمهم السلطان وأجرى عليهم الأرزاق وأقاموا عنده. وجاءت على أثره رسل السلطان أبي سعيد وطلبه بذمة الصلح الذي عقده مع الملك الناصر وأوضحوا العلم السلطان من فساد طويته وطوية أبيه جوبان وسعيهم في الأرض بالفساد ما أوجب إعطاءه باليد وشرط السلطان عليهم إمضاء حكم الله تعالى في قرا سنقر نائب حلب الذي كان فر سنة اثنتي عشرة مع أقوش الأفرم إلى خربندا وأغروه بملك الشام ولم يتم ذلك. وأقاموا عند خربندا وولى أقوش الأفرم على همذان فمات بها سنة ست عشرة فولى صاحبه قرا سنقر مكانه بهمذان. فلما شرط عليهم السلطان قتله كما قتل دمرداش أمضوا فيه حكم الله تعالى وقتلوه جزاء بما كان عليه من الفساد في الأرض والله متولي جزاءهم. ثم وصل على أثر ذلك ابن السلطان أبي سعيد ومعه جماعة من قومه في تأكيد الصلح والإصهار من السلطان فقوبلوا بالكرامة التي تليق بهم واتصلت المراسلة والمهاداة بين هذين السلطانين إلى أن توفيا والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وفاة مهنا بن عيسى أمير العرب بالشام وأخبار قومه هذا الحي من العرب يعرفون بآل فضل رحالة ما بين الشام والجزيرة وتربة نجد من أرض الحجاز يتقلبون بينها في الرحلتين وينتسبون في طيء ومعهم أحياء من زبيد وكلب وهذيل ومذحج أحلاف لهم. ويناهضهم في الغلب والعدد آل مراد يزعمون أن فضلاً ومراد أبناء ربيعة ويزعمون أيضاً أن فضلاً ينقسم ولده بين آل مهنا وآل علي وأن آل فضل كلهم بأرض حوران فغلبهم عليها آل مراد وأخرجوهم منها فنزلوا حمص ونواحيها. وأقامت زبيد من أحلافهم بحوران فهم بها حتى الآن لا يفارقونها. قالوا ثم اتصل آل فضل بالدولة السلطانية وولوهم على أحياء العرب وأقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام والعراق فاستظهروا برياستهم على آل مراد وغلبوهم على المشاتي فصار عامة رحلتهم في حدود الشام قريباً من التلول والقرى لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل. وكانت معهم أحياء من أفاريق العرب مندرجون في لفيفهم وحلفهم من مذحج وعامر وزبيد كما كان آل فضل إلا أن أكثر من كان مع آل مراد من أولئك الأحياء وأوفرهم عدة بنو حارثة بن سنبس إحدى شعوب طيء. هكذا ذكر لي الثقة عندي من رجالاتهم. وبنو حارثة هؤلاء متغلبون لهذا العهد في تلول الشام لا يجاوزونها إلى العمران ورياسة آل فضل لهذا العهد لبني مهنا وينسبونه هكذا مهنا بن مانع بن جديلة بن فضل بن بدر بن ربيعة بن علي بن مفرج بن بدر بن سالم بن جصة بن بدر بن سميع ويقفون عند سميع. ويقول رعاعهم أن سميعاً هذا هو الذي ولدته العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي وحاشى لله من هذه المقالة في الرشيد وأخته وفي انتساب كبراء العرب من طيء إلى موالي العجم من بني برمك وانسابهم ثم إن الوجدان يحيل رياسة هؤلاء على هذا الحي إن لم يكونوا من نسبتهم وقد تقدم مثل ذلك في مقدمة الكتاب وكان مبدأ رياستهم من أول دولة بني أيوب. قال العماد الأصفهاني في كتاب البرق السامي نزل العادل بمرج دمشق ومعه عيسى بن محمد بن ربيعة شيخ الأعراب في جموع كثيرة أنتهى. وكانت الرياسة قبلهم لعهد الفاطميين لبني جراح من طيء وكان كبيرهم مفرج بن دغفل بن جراح وكان من إقطاعه الرملة وهو الذي قبض على افتكين مولى في بويه لما انهزم مع مولاه بختيار بالعراق وجاء به إلى المعز فأكرمه ورقاه في دولته. ولم يزل شأن مفرج هكذا وتوفي سنة أربع وأربعمائة وكان من ولده حسان ومحمود وعلي وجران وولي حسان بعده وعظم صيته. وكان بينه وبين خلفاء الفاطميين نفرة واستجاشة وهو الذي هدم الرملة وهزم قائدهم هاروق التركي وقتله وسبى. نساءه وهو الذي مدحه التهامي. وقد ذكر المسبحي وغيره من مؤرخي دولة العبيديين في قرابة حسان بن مفرج فضل بن ربيعة بن حازم بن جراح وأخاه بدر بن ربيعة. ولعل فضلاً هذا جد آل فضل. وقال ابن الأثير وفضل بن ربيعة بن حازم كان آباؤه أصحاب البلقاء والبيت المقدس وكان فضل تارة مع الإفرنج وتارة مع خلفاء مصر. ونكره لذلك طغركين أتابك دمشق وكافل بني تتش وطرده من الشام فنزل على صدقة بن مزيد وحالفه ووصله حين قدم من دمشق بتسعة آلاف دينار. فلما خالف صدقة بن مزيد على السلطان محمد بن ملك شاه سنة خمسمائة وما بعدها ووقعت بينهما الفتنة اجتمع فضل هذا وقرواش بن شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وبعض أمراء التركمان كانوا أولياء صدقة فساروا في الطلائع بين يدي الحرب وهربوا إلى السلطان فأكرمهم وخلع عليهم وأنزل فضل بن ربيعة بدار صدقة ابن مزيد ببغداد حتى إذا سار السلطان لقتال صدقة استأذنه فضل في الخروج إلى البرية ليأخذ بحجزة صدقة فأذن له وعبر إلى الأنبار. ولم يرجع للسلطان بعدها انتهى كلام ابن الأثير. ويظهر من كلامه وكلام المسبحي أن فضلاً هذا وبدراً من آل جراح من غير شك ويظهر من سياقة هؤلاء نسبهم أن فضلاً هذا هو جدهم لأنهم ينسبونه فضل بن علي بن مفرج وهو عند الآخرين فضل بن علي بن جراح فلعل هؤلاء نسبوا ربيعة إلى مفرج الذي هو كبير بني الجراح لطول العهد وقلة المحافظة على مثل هذا من البادية الغفل. وأما نسبة هذا الحي في طيء فبعضهم يقول إن الرياسة في طيء كانت لأياس بن قبيصة من بني سنبس بن عمرو بن الغوث بن طيء وأياس هو الذي ملكه كسرى على الحيرة بعد آل المنذر عندما قتل النعمان بن المنذر وهو الذي صالح خالد بن الوليد على الحيرة ولم تزل الرياسة على طيء في بني قبيصة هؤلاء صدراً من دولة الإسلام. فلعل آل فضل هؤلاء وآل الجراح من أعقابهم وإن كان انقرض أعقابهم فهم من أقرب الحي إليه لأن الرياسة في الأحياء والشعوب إنما تتصل في أهل العصبية والنسب كما مر أول الكتاب. وقال ابن حزم عند ما ذكر أنساب طيء أنهم لما خرجوا من اليمن نزلوا أجأ وسلمى وأوطنوهما وما بينهما. ونزل بنو أسد ما بينهما وبين العراق وفضل كثير منهم وهم بنو خارجة بن سعد بن عبادة من طيء ويقال لهم جديلة نسبة إلى أمهم بنت تيم الله وحبيش والأسعد إخوتهم رحلوا عن الجبلين في حرب الفساد فلحقوا بحلب وحاضر طيء وأوطنوا تلك البلاد إلا بني رمان بن جندب بن خارجة بن سعد فإنهم أقاموا بالجبلين. فكان يقال لأهل الجبلين الجبليون ولأهل حلب وحاضر طيء من بني خارجة السهليون انتهى. فلعل هذه أحياء الذين بالشام من بني الجراح وآل فضل من بني خارجة هؤلاء الذين ذكرل ابن حزم أنهم انتقلوا إلى حلب وحاضر طيء لأن هذا الموطن أقرب إلى مواطنهم لهذا العهد من مواطن بني الجراح بفلسطين من جبل أجأ وسلمى اللذين هما موطن الآخرين. والله أعلم في ذلك يصح من أنسابهم. ولنرجع الآن إلى سرد الخبر عن رياسة آل فضل أهل هذا البيت منذ دولة بني أيوب فنقول كان الأمير منهم لعهد بني أيوب عيسى بن محمد بن ربيعة أيام العادل كما قلناه ونقلناه عن العماد الأصبهاني الكاتب. ثم كان بعده حسام الدين مانع بن خدينة بن غصينة بن فضل وتوفي سنة ثلاثين وستمائة وولي عليهم بعده ابنه مهنا. ولما ارتجع قطز ثالث ملوك الترك بمصر وملك الشام من يد التتر وهزم عسكرهم بعين جالوت أقطع سلمية لمهنا بن مانع وانتزعها من عمل المنصور بن شاهنشاه صاحب حماة ولم أقف على تاريخ وفاة مهنا. ثم ولي الظاهر على أحياء العرب بالشام عندما استفحل أمر الترك وسار إلى دمشق لتشييع الخليفة الحاكم عم المستعصم لبغداد فولى على العرب عيسى بن مهنا بن مانع ووفر له الإقطاعات على حفظ السابلة وحبس ابن عمه زامل بن علي بن ربيعة من آل علي لإعناته وإعراضه. ولم يزل أميراً على أحياء العرب وصلحوا في أيامه لأنه خالف أباه في الشدة عليهم. وهرب إليه سنقر الأشقر سنة تسع وتسعين وكاتبوا أبغا واستحثوه لملك الشام. وتوفي عيسى بن مهنا سنة أربع وثمانين فولى المنصور قلاوون بعده ابنه مهنا. ثم سار الأشرف بن قلاوون إلى الشام ونزل حمص ووفد عليه مهنا بن عيسى في جماعة من قومه فقبض عليه وعلى ابنه موسى وأخوية محمد وفضل ابني عيسى بن مهنا وبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها حتى أفرج عنهم العادل كتبغا عندما جلس على التخت سنة أربع وتسعين ورجع إلى إمارته. ثم كان له في أيام الناصر نفرة واستجاشة وميل إلى ملوك التتر بالعراق ولم يحضر شيئاً من وقائع غازان. ولما انتقض سنقر وأقوش الأفرم وأصحابهما سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لحقوا به وساروا من عنده إلى خربندا. واستوحش هو من السلطان وأقام في أحيائه منقبضاً عن الوفادة. ووفد أخوه فضل سنة اثنتي عشرة فرعى له حق وفادته وولاه على العرب مكان أخيه مهنا وبقي مهنا مشرداً. ثم لحق سنة ست عشرة بخربندا ملك التتر فأكرمه وأقطعه بالعراق. وهلك خربندا في تلك السنة فرجع إلى أحيائه وأوفد ابنيه أحمد وموسى وأخاه محمد بن عيسى مستعتبين للناصر ومتطارحين عليه فأكرم وفادتهم وأنزلهم بالقصر الأبلق وشملهم بالإحسان. وأعتب مهنا ورده على إمارته وإقطاعه وذلك سنة سبع عشرة. وحج هذه السنة ابنه عيسى وأخوه محمد وجماعة من آل فضل اثنا عشر ألف راحلة. ثم رجع مهنا إلى ديدنه فلي ممالأة التتر والأجلاب على الشام واتصل ذلك منه فنقم السلطان عليه وسخطه قومه أجمع. وكتب إلى نواب الشام سنة عشرين بعد مرجعه من الحج فطرد آل فضل عن البلاد وأدال منهم آل علي عديلة نسبهم. وولى منهم على أحياء العرب محمد بن أبي بكر وصرف إقطاع مهنا وولده إلى محمد وولده فأقام مهنا على ذلك مدة. ثم وفد سنة إحدى وثلاثين مع الأفضل بن المؤيد صاحب حماة متوسلاً به ومتطارحاً على السلطان فأقبل عليه ورد عليه إقطاعه وإمارته. وذكر لي بعض أكابر الأمراء بمصر ممن أدرك وفادته أو حدث عنها أنه تجافى في هذه الوفادة عن قبول شيء من السلطان حتى أنه ساق من النياق المحلوبة واستقاها وإنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سألهم شيئاً من حاجته. ثم رجع إلى أحيائة وتوفي سنة أربع وثلاثين فولى ابنه مظفر الدين موسى. وتوفي سنة اثنين وأربعين عقب مهلك الناصر وولي مكانه أخوه سليمان. ثم هلك سليمان سنة ثلاث وأربعين فولي مكانه شرف الدين عيسى ابن عمه فضل بن عيسى. ثم توفي سنة أربع وأربعين بالقدس ودفن عند قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه وولي مكانه أخوه سيف بن فضلي. ثم عزله السلطان بمصر الكامل بن الناصر سنة ست وأربعين وولي مكانه مهنا بن عيسى. ثم جمع سيف بن مهنا ولقيه فياض بن مهنا فانهزم سيف. ثم ولى السلطان حسين بن الناصر في دولته الأولى وهو في كفالة بيقاروس أحمد بن مهنا فسكنت الفتنة بينهم. ثم توفي سنة تسع وأربعين فولي مكانه أخوه فياض. وهلك سنة اثنتين وستين فولي مكانه أخوه خيار بن مهنا ولاه حسين بن الناصر في دولته الثانية. ثم انتقض سنة خمس وستين وأقام سنين بالقفر ضاحياً إلى أن شفع فيه نائب حماة فأعيد إلى إمارته ثم انتقض سنة سبعين فولى السلطان الأشرف مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى وجاء إلى نواحي حلب واجتمع إليه بنو كلاب وغيرهم وعاثوا في البلاد وعلى حلب يومئذ قشتمر المنصوري فبرز إليهم وانتهى إلى مخيمهم واستاق نعمهم وتخطى إلى الخيام فاستماتوا دونها وهزموا عساكره وقتل قشتمر وابنه في المعركة وتولى ذلك زامل بيده وذهب إلى القفر منتقضاً فولى مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى. ثم بعث معيقيل صاحبه سنة إحدى وسبعين يستأمن لخيار فأمنه. ثم وفد خيار بن مهنا سنة خمس وسبعين فرضي عنه السلطان فأعاده إلى إمارته. ثم توفي سنة سبع وسبعين فولي أخوه قارة إلى أن توفي سنة إحدى وثمانين فولي مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى وزامل بن موسى بن مهنا شريكين في إمارتهما. ثم عزلا لسنة من ولايتهما وولي بصير بن جبار بن مهنا واسمه محمد وهو لهذا العهد أمير على آل فضل وجميع أحياء طيء والله تعالى أعلم. |
وفاة أبي سعيد ملك العراق وانقراض أمر بني هلاكو
ثم توفي أبو سعيد ملك العراق من التتر ابن خربندا بن بغو بن أبغا بن هلاكو بن طولي خان بن جنكز خان سنة ست وثلاثين وسبعمائة لعشرين سنة من ملكه ولم يعقب فانقرض بموته ملك بني هلاكو. وصار الأمر بالعراق لسواهم وافترق ملك التتر في سائر ممالكهم كما نذكر في أخبارهم. ولما استبد ببغداد الشيخ حسن من أسباطهم كثر عليه المنازعون فبعث رسله إلى الناصر قبل وفاته يستنجده على أن يسلم له بغداد ويعطي الرهن في العساكر حتى يقضي بها في أعدائه فأجابه الناصر إلى ذلك ثم توفي قريباً فلم يتم والأمر لله وحده. وصول هدية ملك المغرب الأقصى مع رسله وكريمته صحبة الحاج كان ملك بني قرين بالمغرب الأقصى قد استحفل لهذه العصور وصار للسلطان أبي الحسن علي بن السلطان أبي سعيد عثمان بن السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق جد ملوكهم وأسف إلى ملك جيرانهم من الدول فزحف إلى المغرب الأوسط وهو في ملكة بني عبد الواد أعداء قومه من زناتة وملكهم أبو تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو موسى بن أبي سعيد عثمان بن السلطان يغمراسن بن زيان جد ملوكهم أيضاً وكرسيه تلمسان سبعة وعشرين شهراً. ونصب عليها المجانيق وأدار بالأسوار سياجاً لمنع وصول الميرة والأقوات إليها. وتقرى أعمالها بلداً بلداً فملك جميعها. ثم افتتحها عنوة آخر رمضان سنة سبع وثلاثين ففض جموعها وقتل سلطانها عند باب قصره كما نذكره في أخبارهم. ثم كتب للملك الناصر صاحب مصر يخبره بفتحها وزوال العائق عن وفادة الحاج وإنه ناظر في ذلك بما يسهل سبيلهم ويزيل عللهم. وكانت كريمة من كرائم أبيه السلطان أبي سعيد ومن أهل فراشه قد اقتضت منه الوعد بالحج عندما ملك تلمسان. فلما فتحها وأذهب عدوه منها جهز تلك المرأة للحج بما يناسب قرابتها منه وجهز معها للملك الناصر صاحب مصر هدية فخمة مشتملة على خمسمائة من الجياد المغربيات بعدتها وعدة فرسانها من السروج واللجم والسيوف وطرف المغرب وماعونه من شتى أصنافه ومن ثياب الحرير والصوف والكتان وصنائع الجلد حتى ليزعموا أنه كان فيها من أواني الخزف وأصناف الدر والياقوت وما يشبههما في سبيل التودد. وعرض أحوال المغرب على سلطان المشرق. ولعظم قدر هذه الوافدة عند الناصر أوفد معها من عظماء قومه ووزرائه وأهل مجلسه فوفدوا على الناصر سنة ثمان وثلاثين وأحلهم بأشرف محل من التكرمة وبعث من اصطبلاته ثلاثين خطلاً من البغال يحملون الهدية من بحر النيل سوى ما تبعها من البخاتي والجمال. وجلس لهم في يوم مشهود ودخلوا عليه وعرضوا الهدية فعم بها أهل دولته إحساناً في ذلك المجلس. واستأثر منها على ما زعموا بالدر والياقوت فقط. ثم فرقهم في منازله وأنزلهم دار كرامته وقد هيئت بالفرش والمعون ووفر لهم الجرايات واستكثر لهم من الأزودة. وبعث أمراء في خدمتهم إلى الحجاز حتى قضوا فرضهم في تلك السنة وانقلبوا إلى سلطانهم فجهز الناصر معهم هدية إلى ملك المغرب تشتمل على ثياب الحرير المصنوعة بالإسكندرية وعين منها الحمل المتعارف في كل سنة لخزانة السلطان وقيمته لذلك العهد خمسون ألف دينار. وعلى خيمة من خيم السلطان المصنوعة بالشام فيها أمثال البيوت والقباب والكفات مرساة أطرافها في الأرض بأوتاد الحديد والخشب كأنها قباب مائلة وعلى خيمة مؤزر باطنها من ثياب الحرير العراقية وظاهرها من ثياب القطن الصرافية مستجادة الصنعة بين الحدل والأوتاد أحسن ما يراه من البيوت وعلى صوان من الحرير مربع الشكل يقام بالحدل الحافظ ظله من الشمس. وعلى عشرة من الجياد المقربات الملوكية بسروج ولجم ملوكية مصنوعة من الذهب والفضة مرصعة باللآلي والفصوص. وبعث مع تلك الجياد خدماً يقومون بنبائها المتعارف فيها. ووصلت الهدية إلى سلطان المغرب فوقعت منه أحسن المواقع وأعاد الكتب والرسل بالشكر واستحكمت المودة بين هذين السلطانين واتصلت المهاداة إلى أن مضيا لسبيلهما والله تعالى ولي التوفيق. وفاة الخليفة أبي الربيع وولاية ابنه قد ذكرنا أيام الظاهر وأنه أقام خليفة بمصر من ولد الراشد وصل يومئذ من بغداد واسمه أحمد بن محمد وذكرنا نسبه هنالك إلى الراشد وأنه بويع له بالخلافة سنة ستين وستمائة ولقبه الحاكم فلم يزل في خلافته إلى أن توفي سنة إحدى وسبعمائة وقد عهد لابنه سليمان فبايع له أهل دولة الناصر الكافلون لها. ولقبوه المستكفي فبقي خليفة سائر أيام الناصر. ثم تنكر له السلطان سنة ست وثلاثين لشيء نمي له عن بنيه فأسكنه بالقلعة ومنعه من لقاء الناس فبقي حولاً كذلك. ثم ترك سبيله ونزل إلى بيته. ثم كثرت السعاية في بنيه فغربه سنة ثمان وثلاثين إلى قوص هو وبنيه وسائر أقاربه. وأقام هنالك إلى أن هلك سنة أربعين قبل مهلك الناصر وقد عهد بالخلافة لابنه أحمد ولقبه الحاكم فلم يمض الناصر عهده في ذلك لأن أكثر السعاية المشار إليها كانت فيه فنصب للخلافة بعد المستكفي ابن عمه إبراهيم بن محمد ولقبه الواثق وهلك لأشهر قريبة فاتفق الأمراء بعده على إمضاء عهد المستكفي في ابنه أحمد فبايعوه سنة إحدى وأربعين. وأقام في الخلافة إلى سنة ثلاث وخمسين فتوفي وولي أخوه أبو بكر ولقب المعتضد. ثم هلك سنة ثلاث وستين لعشرة أشهر من خلافته ونصب بعده ابنه محمد ولقبه المتوكل ونورد من أخباره في أماكنها ما يحضرنا ذكره والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه. نكبة تنكز ومقتله كان تنكز مولى من موالي لاشين اصطفاه الناصر وقربه وشهد معه وقائع التتر وسار معه إلى الكرك وأقام في خدمته مدة خلعه. ولما رجع إلى كرسيه ومهد أمور ملكه ورتب الولاية لمن يرضاه من أمرائه بعث تنكز إلى الشام وجعله نائباً بدمشق ومشارفاً لسائر بلاد الروم ففتح ملطية ودوخ بلاد الأرمن. وكان يتردد بالوفادة على السلطان يشاوره وربما استدعاه للمفاوضة في المهمات واستفحل في دفاع التتر وكيادهم. ولما توفي أبو سعيد وانقرض ملك بني هلاكو وافترق أمر بغداد وتورين وكانا معاً يجاورانه ويستنجدانه وسخطه بعضهم فراسل السلطان بغشه وادهانه في طاعته وممالأة أعدائه. وشرع السلطان في استكشاف حاله وكان قد عقد له على بنته فبعث دواداره بإجار يستقدمه للأعراس بها وكان عدواً له للمنافسة والغيرة فأشار على تنكز بالمقام وتخليه عن السلطان وغشه في النصيحة. وحذر السلطان منه فبعث الملك الناصر إلى طشتمر نائب صفد أن يتوجه إلى دمشق ويقبض عليه فقبض عليه سنة أربعين لثمان وعشرين سنة لولايته بدمشق. وبعث الملك الناصر مولاه لشمك إلى دمشق في العساكر فأحاط على موجوده وكان شيئاً لا يعبر عنه من أصناف الممتلكات وجاء به مقيداً فاعتقل بالإسكندرية ثم قتل في محبسه والله تعالى أعلم. وفاة الملك الناصر وابنه انوك قبله وولاية ابنه أبي بكر ثم كجك ثم توفي الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون أمجد ما كان ملكاً وأعظم استبداداً توفي على فراشه في ذي الحجة آخر إحدى وأربعين وسبعمائة بعد أن توفي قبله بقليل ابنه أنوك فاحتسبه. وكانت وفاته لثمان وأربعين سنة من ولايته الأولى في كفالة طنبغا وثلاث وثلاثين من حين استبداده بأمره بعد بيبرس. وصفا الملك له وولى النيابة في هذه ثلاثة من أمرائه بيبرس الدوادار المؤرخ ثم بكتمر الجوكندار ثم أرغون الدوادار ولم يود أحداً النيابة بعده. وبقيت الوظيفة عطلاً آخر أيامه. وأما دواداريته فأيدمر ثم سلار ثم الحلي ثم يوسف بن الأسعد ثم بغا ثم طاجار وكتب عنه شرف الدين بن فضل الله ثم علاء الدين بن الأمير ثم محي الدين بن فضل الله ثم ابنه شهاب الدين ثم ابنه الآخر علاء الدين. وولى القضاء في دولته تقي الدين بن دقيق العيد ثم بدر الدين بن جماعة. وإنما ذكرت هذه الوظائف وإن كان ذلك ليس من شرط الكتاب لعظم دولة الناصر وطول أمدها واستفحال دولة الترك عندها وقدمت الكتاب على القضاة وإن كانوا أحق بالتقديم لأن الكتاب أمس بالدولة فإنهم من أعوان الملك. ولما اشتد المرض بالسلطان وكان قوصون أحظى عظيم من أمرائه فبادر القصر في مماليكه متسلحين وكان بشتك يضاهيه فارتاب وسلح أصحابه وبدا بينهما التنافس ودس بشتك الشكوى إلى السلطان فاستدعاهما وأصلح بينهما. وأراد أن يعهد بالملك إلى قوصون فامتنع فعهد لابنه أبي بكر ومات فمال من عماله بشتك إلى ولاية أحمد صاحب الكرك وأبى قوصون إلا الوفاء بعهد السلطان. ثم رجع إليه بشتك بعد مراوضة فبويع أبو بكر ولقب المنصور وقام بأمر الدولة قرصون وردفه قطلو بغا الفخري فولوا على نيابة السلطان طقرمرد وبعثوا على حلب طشتمر وعلى حمص أخضر عوضاً عن طغراي وأقروا كتبغا الصالحي على دمشق. ثم استوحش بشتك من استبداد قوصون وقطلو بغا دونه فطلب نيابة دمشق وكان يعجب بها من يوم دخلها للحوطة على تنكز فاستعفوه. فلماجاء للوداع قبض عليه قطلوبغا الفخري وبعث به إلى الإسكندرية ثم أقبل السلطان أبو بكر على لذاته ونزع عن الملك وصار يمشي في سكك المدينة في الليل متنكراً مخالطاً للسوقة فنكر ذلك الأمراء وخلعه قوصون وقطلو بغا لسبعة وخمسين يوماً من بيعته وبعثوا به إلى قوص فحبس بها وولوا أخاه كجك ولقبوه الأشرف وعزلوا طقرمرد عن النيابة. وقام بها قوصون وبعثوا طقرمرد نائباً على حماة وأدالوا به من الأفضل بن المؤيد فكان آخر من وليها من بني المظفر وقبضوا على طاجا الدويدار وبعثوا به إلى الإسكندرية فغرق في البحر وبعثوا بقتل بشتك في محبسه بالإسكندرية والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. مقتل قوصون ودولة أحمد بن الملك الناصر لما بلغ الخبر إلى الأمراء بالشام باستبداد قوصون على الدولة غصوا من مكانه واعتزموا على البيعة لأحمد بن الملك الناصر وكان يومئذ بالكرك مقيماً منذ ولاه أبوه إمارتها كما قدمناه فكاتبه طشتمر نائب حمص وأخضر نائب حلب. واستدعاه إلى الملك وبلغ الخبر إلى مصر فخرج قطلو بغا في العساكر لحصار الكرك وبعثوا إلى طنبغا الصالحي نائب دمشق فسار في العساكر إلى حلب للقبض على طشتمر نائب حمص وأخضر. وكان قطلو بغا الفخري قد استوحش من صاحبه قوصون وغص باستبداده عليه. فلما فصل بالجند من مصر بعث ببيعته إلى أحمد بن الملك الناصر بالكرك وسار إلى الشام فأقام دعوته في دمشق ودعا إليها طقرمرد نائب حماة فأجابه وقدم عليه وانتهى الخبر إلى طنبغا نائب دمشق وهو يحاصر حلب فأفرج عنها ودعاه قطلو بغا إلى بيعة أحمد فانتقض عليه أصحابه وسار إلى مصر واستولى قطلو بغا الفخري على الشام أجمع بدعوة أحمد. وبعث إلى الأمراء بمصر فأجابوا إليها. واجتمع أيدغمش وأقسنقر السلاري وغازي ومن تبعهم من الأمراء على البيعة لأحمد واستراب بهم قوصون كافل المملكة. وهم بالقبض عليهم وشاور طنبغا اليحياوي من عنده من أصحابه في ذلك فغشوه وخذلوه وركب القوم ليلاً. وكان أيدغمش عنده بالإسطبل وهو أمير الماصورية وهم قوصون بالركوب فخذله وثنى عزمه. ثم ركب معهم واتصلت الهيعة ونادى في الغوغاء بنهب بيوت قوصون فنهبوها وخربوها وخربوا الحمامات التي بناها بالقرافة تحت القلعة. ونهب شيخها شمس الدين الأصفهاني فسلبوه ثيابه وانطلقت أيدي الغوغاء في البلد ولحقت الناس منهم مضرات في بيوتهم. واقتحموا بيت حسام الدين الغوري قاضي الحنفية فنهبوه وسبوا عياله. وقادهم إليه بعض من كان يحنق عليه من الخصوم فجرت عليه معرة من ذلك. ثم اقتحم أيدغمش وأصحابه القلعة وتقبضوا على قوصون وبعثوا به إلى الإسكندرية فمات في محبسه وكان قوصون قد أخرج جماعة من الأمراء للقاء طنبغا الصاحي فسار قرا سنقر السلاري في أثرهم وتقبض عليهم وعلى الصالحي وبعث بهم جميعاً إلى الإسكندرية فيما بعد سنة خمس وأربعين. وبعث لأحمد بن الملك الناصر وطير إليه بالخبر وتقبض على جماعة من الأمراء واعتقلهم. ثم قدم السلطان أحمد من الكرك في رمضان سنة اثنين وأربعين ومعه طشتمر نائب حمص وأخضر نائب حلب وقطلو بغا الفخري فولى طشتمر نائباً بمصر وقطلو بغا الفخري بعثه إلى دمشق نائباً. ثم قبض على أخضر لشهر أو نحوه. وقبض على أيدغمش وأقسنقر السلاري. ثم ولى أيدغمش على حلب وبلغ الخبر إلى قطلو بغا الفخري قبل وصوله إلى دمشق فعدل إلى حلب واتبعته العساكر فلم يدركوه. وتقبض على أيدغمش بحلب وبعث به إلى مصر فاعتقل مع طشتمر وارتاب الأمراء بأنفسهم. واستوحش السلطان منهم انتهى والله أعلم. |
مسير السلطان أحمد إلى الكرك
واتفاق الأمراء على خلعه والبيعة لأخيه الصالح ولما استوحش الأمراء من السلطان وارتاب بهم ارتحل إلى الكرك لثلاثة أشهر من بيعته واحتمل معه طشتمر وأيدغمش معتقلين واستصحب الخليفة الحاكم واستوحش نائب صفد بيبرس الأحمدي. وسار إلى دمشق وهي يومئذ فوضى فتلقاه العسكر وأنزلوه وبعث السلطان في القبض عليه فأبى من أعطاه يده. وقال إنما الطاعة لسلطان مصر وأما صاحب الكرك فلا. وطالت غيبة السلطان أحمد بالكرك واضطرب الشام فبعث إليه الأمراء بمصر في الرجوع إلى دار ملكه فامتنع وقال هذه مملكتي أنزل من بلادها حيث شئت. وعمد إلى طشتمر وأيدغمش الفخري فقتلهما فاجتمع الأمراء بمصر وكبيرهم بيبرس العلاني وأرغون الكاملي وخلعوه وبايعوا لأخيه إسماعيل في محرم سنة ثلاث وأربعين ولقبوه الصالح. فولى أقسنقر السلاري ونقل أيدغمش الناصري من نيابة حلب إلى نيابة دمشق. وولى مكانه بحلب طقرمرد. ثم عزل أيدغمش من دمشق ونقل إليها طقرمرد وولى بحلب طنبغا المارداني ثم هلك المارداني فولي مكانه طنبغا اليحياوي واستقامت أموره والله تعالى ولي التوفيق. ثورة رمضان بن الناصر ومقتله وحصار الكرك ومقتل السلطان أحمد ثم أن بعض المماليك داخل رمضان بن الملك الناصر في الثورة بأخيه وواعده قبة النصر فركب إليهم وأخلفوه فوقف في مماليكه ساعة يهتفون بدعوته. ثم استمر هارباً إلى الكرك واتبعه العسكر مجدين السير في الطريق وجاؤوا به فقتل بمصر. وارتاب السلطان بالكثير من الأمراء وتقبض على نائبه أقسنقر السلاري وبعث به إلى الإسكندرية فقتل هنالك وولى مكانه انجاح الملك. ثم سرح العساكر سنة أربع وأربعين لحصار الكرك مترادفة ونزع بعض العساكر عن السلطان أحمد من الكبهرك فلحقوا بمصر وكان آخر من سار من الأمراء لحصار الكرك قماري ومساري سنة خمس وأربعين فأخذوا بمخنقة. ثم اقتحموا عليه وملكوه وقتلوه فكان لبث بالملك في مصر ثلاثة أشهر وأياماً وانتقل إلى الكرك في محرم سنة ثلاث وأربعين إلى أن حوصر ومثل به. وتوفي في أيامه طنبغا المارداني نائب حلب فولي مكانه طنبغا اليحياوي وسيف الدين طراي الجاشنكي نائب طرابلس فولي مكانه أقسنقر الناصري والله تعالى أعلم. وفاة الصالح بن الناصر وولاية أخيه الكامل ثم توفي الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر حتف أنفه سنة ست وأربعين لثلاث سنين وثلاثة أشهر من ولايته وبويع بعده أخوه زين الدين شعبان ولقب الكامل وقام بأمره أرغون العلاوي وولي نيابة مصر. وعرض انجاح الملك إلى صفد ثم ره من طريقه معتقلاً إلى دمشق وبعث إلى القماري الكبير فبعثه إلى حبس الإسكندرية واستدعى طقرمرد نائب دمشق وكجك الأشرف المخلوع بن الناصر الذي ولاه قوصون وهلك انجاح الملك الجوكندار في حبسه بدمشق انتهى والله أعلم. مقتل الكامل وبيعة أخيه المظفر حاجي كان السلطان الكامل قد أرهف حده في الاستبداد على أهل دولته فراراً مما يتوهم فيهم من الحجر عليه فتراسل الأمراء بمصر والشام وأجمعوا الادالة منهم. وانتقض طنبغا اليحياوي ومن معه بدمشق سنة سبع وأربعين وبرز في العساكر يريد مصر. وبعث الكامل منجو اليوسفي يستطلع أخبارهم فحبسه اليحياوي. واتصل الخبر بالكامل فجرد العساكر إلى الشام واعتقل حاجي وأمير حسين بالقلعة واجتمع الأمراء بمصر للثورة وركبوا إلى قبة النصر مع أيدمر الحجازي وأقسنقر الناصري وأرغون شاه فركب إلى الكامل في مواليه ومعه أرغون العلاوي نائبه فكانت بينهما جولة هلك فيها أرغون العلاوي. ورجع الكامل إلى القلعة منهزماً ودخل! ن باب السر مختفياً وقصد محبس أخويه ليقتلهما فحال الخدام دونهما وغلقوا الأبواب وجمع الذخيرة ليحملها فعاجلوه عنها ودخلوا القلعة وقصدوا حاجي بن الناصر فأخرجوه من معتقله وجاؤوا به فبايعوه ولقبوه المظفر. وافتقدوا الكامل وتهددوا جواريه بالقتل فدلوا عليه واعتقل مكان حاجي بالدهشة وقتل في اليوم الثاني وأطلق حسين وقام بأمر المظفر حاجي أرغون شاه الحجازي وولوا طقتمر الأحمدي نائباً بحلب والصلاحي نائباً بحمص وحبس جميع موالي الكامل وأخرج صندوق من بيت الكامل قيل إن فيه السحر فأحرق بمحضر الأمراء ونزع المظفر حاجي إلى الاستبداد كما نزع أخوه فقبض على الحجازي والناصري وقتلهما لأربعين يوماً من ولايته وعلى أرغون شاه وبعثه نائباً إلى صفد. وجعل مكان طقتمر الأحمدي في حلب تدمر البدري وولى على نيابته الحاج أرطاي وأرهف حده في الاستبداد. وإرتاب الأمراء بمصر والشام وانتقض اليحياوي بدمشق سنة ثمان وأربعين وداخله نواب الشام في الخلاف. ووصل الخبر إلى مصر فاجتمع الأمراء وتواعدوا للوثوب. ونمي الخبر إلى المظفر فأركب مواليه من جوف الليل وطافوا بالقلعة وتداعى الأمراء إلى الركوب واستدعاهم من الغد إلى القصر وقبض على كل من اتهمه منهم بالخلاف وهرب بعضهم فأدرك بساحة البلد واعتقلوا جميعاً وقتلوا من تلك الليلة. وبعث بعضهم إلى الشام فقتلوا بالطريق وولى من الغد مكانهم خمسة عشرة أميراً ووصل الخبر إلى دمشق فلاذ اليحياوي بالمغالطة يخادع بها وقبض على جماعة من الأمراء. وكان السلطان المظفر قد بعث الأمير ألجيقا من خاصته إلى الشام عندما بلغه انتقاض طنبغا اليحياوي يستطلع أخباره فحمل الناس على طاعة المظفر وأغراهم باليحياوي حتى قتلوه وبعثوا برأسه إلى مصر وسكنت الفتنة واستوسق الملك للمظفر والله سبحانه وتعالى أعلم. مقتل المظفر حاجي بن الناصر وبيعة أخيه حسن الناصر ودولته الأولى قد كنا قدمنا أن السلطان بعث جبقا إلى الشام حتى مهده ومحا أثر الخلاف منه ورجع إلى السلطان سنة ثمان وأربعين وقد استوسق أمره فوجد الأمراء مستوحشين من السلطان ومنكرين عليه اللعب بالحمام فتنصح له بذلك يريد إقلاعه عنه فسخط ذلك منه وأمر بالحمام فذبحت كلها. وقبال لجبقا أنا أذبح خياركم كما ذبحت هذه فاستوحش جبقا وغدا على الأمراء والنائب بيقاروس وثاروا بالسلطان وخرجوا إلى قبة النصر وركب المظفر في مواليه والأمراء الذين معه قد داخلوا الآخرين في الثورة ورأيهم واحد في خلعه فبعث إليهم الأمير شيخو يتلطف لهم فأبوا إلا خلعه فجاءهم بالخبر. ثم رجع إليهم وزحف معهم ولحق بهم الأمراء الذين مع المظفر عندما تورط في اللقاء وحمل عليه بيقاروس فأسلمه أصحابه وأمسكه باليد فذبحه في تربة أمه خارج القلعة. ودفن هناك ودخلوا القلعة في رمضان من السنة وأقاموا عامة يومهم يتشاورون فيمن يولونه حتى هم أكثر الموالي بالثورة والركوب إلى قبة النصر فحينئذ بايعوا حسن بن الملك الناصر ولقبوه الناصر بلقب أبيه فوكل بأخيه حسين ومواليه لنفسه ونقل المال الذي بالحوش فوضعه بالخزانه. وقام بالدولة ستة من الأمراء وهم شيخوا وطاز والجبقا وأحمد شادي والشرنخاناه وأرغون الإسماعيلي والمستبد عليهم جميعاً بيقاروس ويعرف بالقاسمي فقتل الحجازي وأقسنقر القائمين بدولة المظفر بمحبسها بالقلعة. وولى بيقاروس نائباً بمصر فكان أرقطاي وأرغون شاه نائباً بحلب مكان تدمر البدري. ثم نقله إلى دمشق منذ مقتل اليحياوي وولى مكانه بحلب أياس الناصر. ثم تقبض بيقاروس على رفيقه أحمد شادي الشرنخاناه وغربه إلى صفد وأبعد الجبقا من رفقته وبعثه نائباً على طرابلس. وبعث أرغون الإسماعيلي منهم نائباً على حلب. وفي هذه السنة وقعت الفتنة بينه وبين مهنا بن عيسى ولقيه فهزمه ووفد أحمد أخوه على السلطان فولاه إمارة العرب وهدأت الفتنة بينهم ثم هلك سنة تسع وأربعين بعدها وولى أخوه فياض كما مر في أخبارهم والله تعالى أعلم. |
مقتل أرغون شاه نائب دمشق
كان خبر هذه الواقعة الغريبة أن الجبقا بعتوه نائباً على طرابلس وسار صحبة أياس الحاجب نائباً على حلب سنة خمسين وانتهوا إلى دمشق. ونما إلى الجبقا عن أرغون شاه أنه تعرض لبعض حرمه بصنيع جمع فيه نسوان أهل الدولة بدمشق فكتب إليه ليلاً وطرقه في بيته. فلما خرج إليه قبض عليه وذبحه في ربيع وصنع مرسوماً سلطانياً دافع به الناس والأمراء واستصفى أمواله ولحق بطرابلس. وجاء الأمر من مصر باتباعه وانكار المرسوم الذي أظهروه فزحفت العساكر من دمشق وقبضوا على الجبقا وأياس الحاجب بطرابلس وجاؤوا بهما إلى مصر فقتلا. وولي الشمس الناصري نيابة دمشق مع أرغون شاه وصلب أرغون الكافلي وذلك في جمادى سنة خمسين. وأصل أرغون شاه من بلاد الصين جلب إلى السلطان أبي سعيد ملك التتر ببغداد فأعطاه للأمير خواجا نائب جوبان وأهداه خواجا للملك الناصر فحظي عنده وقدمه رأس نوبة وزوجه بنت عبد الواحد. ثم ولاه الكامل أستاذ دار ثم عظمت مرتبته أيام المظفر وجعل نائباً في صفد ثم في حلب. ولما حبس طنبغا اليحياوي على دمشق بسعاية الجبقا كما مر ولى أرغون شاه بدمشق والله سبحانه وتعالى أعلم. نكبة بيقاروس ثم أن السلطان حسن شرع في الاستبداد وقبض على منجك اليوسفي أستاذ داره وعلى السلحدار واعتقلهما من غير مشورة بيقاروس وأصحابه. وكان لمنجك اختصاص ببيقاروس وأخوه معه فارتاب واستأذن السلطان في الحج هو وطاز فأذن لهما ودس إلى طاز بالقبض على بيقاروس وسارا لشأنهما فلما نزلا بالينبع قبض طاز على بيقاروس فخرج ورغب إليه أن يتركه يحج مقيداً فتركه. فلما قضى نسكه ورجعوا حبسه طاز بالكرك بأمر السلطان وأفرج عنه بعد ذلك وولي نيابة حلب وانتقض بها كما نذكر بعد إن شاء الله تعالى. وبلغ خبر اعتقاله إلى أحمد شادي الشرنخاناه بصفد فانتقض وجهز السلطان إليه العساكر فقبض عليه وجيء به إلى مصر فاعتقل بالإسكندرية وقام بالدولة مغلطاي من أمرائها والله تعالى أعلم. واقعة الظاهر ملك اليمن بمكة واعتقاله ثم اطلاقه كان ملك اليمن وهو المجاهد علي بن داود المؤيد قد جاء إلى مكة حاجاً سنة إحدى وخمسين وهي السنة التي حج فيها طاز وشاع في الناس عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر وفد المصريين لوفد اليمنيين ووقعت في بعض الأيام هيعة في ركب الحاج فتحاربوا وانهزم المجاهد وكان بيقاروس مقيداً فأطلقه وأركبه ليستعين به فجلا في تلك الهيعة وأعيد إلى اعتقاله ونهب حاج اليمن. وقيد المجاهد إلى مصر فاعتقل بها حتى أطلق في دولة الصالح سنة اثنتين وخمسين وتوجه معه قشتمر المنصوري ليعيده إلى بلاده. فلما انتهى إلى الينبع أشيع عنه أنه هم بالهرب فقبض عليه قشتمر المنصوري وحبسه بالكرك. ثم أطلق بعد ذلك وأعيد إلى ملكه والله أعلم. خلع حسن الناصر وولاية أخيه الصالح لما قبض السلطان حسن على بيقاروس وحبسه وتنكر لأهل دولته ورفع عليهم مغلطاي واختصه واستوحشوا لذلك وتفاوضوا وداخل طاز وهو كبيرهم جماعة من الأمراء في الثورة. وأجابه إلى ذلك بيقو الشمسي في آخرين واجتمعوا لخلعه. وركبوا في جمادى سنة اثنتين وخمسين فلم يمانعهم أحد وملكوا أمرهم ودخلوا القلعة وقبض طاز على حسن الناصر واعتقله وأخرج أخاه حسيناً من اعتقاله فبايعه ولقبه الصالح وقام بحمل الدولة. وأخرج بيقو الشمسي إلى دمشق وبيقر إلى حلب أسيرين وانفرد بالأمر. ثم نافسه أهل الدولة واجتمعوا على الثورة وتولى كبر ذلك مغلطاي ومنكلي وبيبقا القمري وركبوا فيمن اجتمع إليهم إلى قبة النصر للحرب فركب طاز وسلطانه الصالح في جموعه وحمل عليهم ففض جمعهم وأثخن فيهم. وقبض على مغلطاي ومنكلي فحبسهما بالإسكندرية وأفرج عن منجك وعن شيخو وجعله أتابكه على العساكر وأشركه في سلطانه وولى سيف الدين ملاي نيابته واختص سرغتمش ورقاه في الدولة وقبض على الشمسي المحمدي نائب دمشق ونقل إليها لمكانة أرغون الكاملي من حلب وأفرج عن بيقاروس بالكرك وبعثه مكانه إلى حلب ثم تغير منجك واختفى بالقاهرة والله تعالى أعلم. انتقاض بيقاروس واستيلاؤه على الشام ومسير السلطان إليه ومقتله قد تقدم لنا ذكر بيقاروس وقيامه بدولة حسن الأولى ونكبته في طريقه إلى الحج بالكرك ولما أطلقه طاز وولاه على حلب أدركته المنافسة والغيرة من طاز واستبداده بالدولة فحدثته نفسه بالخلاف وداخل نواب الشام. ووافقه في ذلك بالكمش نائب طرابلس وأحمد شادي الشرنخاناه نائب صفد وخالفه أرغون الكاملي نائب دمشق وتمسك بالطاعة وتعاقد هؤلاء على الخلاف مع شيخو وسرغتمش في رجب سنة ثلاث وخمسين. ثم دعا بيقاروس العرب والتركمان إلى الموافقة فأجابه خبار بن مهنا من العرب وقراجا بن العادل من التركمان في جموعهما. وبرز من حلب يقصد دمشق فأجفل عنها أرغون النائب إلى غزة واستخلف عليها الجبقا العادلي ووصل بيقاروس فملكها وامتنعت القلعة فحاصرها وكثر العيث من عساكره في القرى. وسار السلطان الصالح وأمراء الدولة من مصر العساكر في شعبان من السنة وأخرج معه الخليفة المعتضد أبا الفتح أبا بكر بن المستكفي وعثر بين يدي خروجه على منجك ببعض البيوت لسنة من اختفائه فبعث به سرغتمش إلى الإسكندرية وبلغ بيقاروس خروج السلطان من مصر فأجفل عن دمشق وثار العوام بالتركمان فأثخنوا فيهم. ووصل السلطان إلى دمشق ونزل بالقلعة وجهز العساكر في اتباع بيقاروس فجاؤوا بجماعة من الأمراء الذين كانوا معه فقتل السلطان بعضهم ثالث الفطر وحبس الباقين. وولى على دمشق الأمير علياً المارداني ونقل منها أرغون الكاملي إلى حلب وسرح العساكر في طلب بيقاروس من مغلطاي الدوادار. وعاد إلى مصر فدخلها في ذي القعدة من السنة وسار مغلطاي في طلب بيقاروس وأصحابه فأوقع بهم وتقبض على بيقاروس وأحمد وقطلمش وقتلهم وبعث برؤوسهم إلى مصر أوائل سنة أربع وخمسين. وأوعز السلطان إلى أرغون الكاملي نائب حلب بأن يخرج في العساكر لطلب قراجا بن العادل مقدم التركمان فسار إلى بلده البلسين فوجدها مقفرة وقد أجفل عنها فهدمها أرغون واتبعه إلى بلاد الروم. فلما أحس بهم أجفل ولحق بابن أرشا قائد المغل في سيواس ونهب العساكر أحياءه واستاقوا مواشيه. ثم قبض عليه ابن أرشا قائد المغل وبعث به إلى مصر فقتل بها وسكنت الفتنة وأطلق المعتقلون بالإسكندرية وتأخر منهم مغلطاي ومنجك أياماً. ثم أطلقا وغربا إلى الشام والله تعالى أعلم. وفي أثناء هذه الفتن كثر فساد العرب بالصعيد وعيثهم وانتهبوا الزروع والأموال وتولى كبر ذلك الأحدب وكثرت جموعه فخرج السلطان في العسكر سنة أربع وخمسين ومعه طاز. وسار شيخو في العساكر بغنائمهم. وخلص السلطان من الظهر والسلاح ما لا يعبر عنه. وأسر جماعة منهم فقتلوا وهرب الأحدب حتى استأمن بعد رجوع السلطان فأمنه على أن يمتنعوا من ركوب الخيل وحمل السلاح ويقبلوا على الفلاحة والله تعالى أعلم. |
خلع الصالح وولاية حسن الناصر الثانية
كان شيخو أتابك العساكر قد ارتاب بصاحبه طاز فداخل الأمراء بالثورة بالدولة وتربص بها إلى أن خرج طاز سنة خمس وخمسين إلى البحيرة متصيداً وركب إلى القلعة فخلع الصالح ابن بنت تنكز وقبض عليه وألزمه بيته لثلاث سنين كوامل من دولته. وبايع لحسن الناصر أخيه وأعاده إلى كرسيه وقبض على طاز فاستدعاه من البحيرة فبعثه إلى حلب نائباً. وعزل أرغون الكاملي فلحق بدمشق حتى تقبض عليه سنة ست وخمسين وسيق إلى الإسكندرية فحبس بها وبلغ الخبر بوفاة الشمسي الأحمدي نائب طرابلس وولى مكانه منجك. واستبد شيخو بالدولة وتصرف بالأمر والنهي. وولى على مكة عجلان بن رميثة وأفرده بإمارتها وكانت له الولاية والعزل والحل والعقد سائر أيامه واعتمده الملوك من النواحي شرقاً وغرباً بالمخاطبات. وكان رديفه في حمل الدولة سرغتمش من موالي السلطان والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده بمنه. مهلك شيخو ثم سرغتمش بعده واستبداد السلطان بأمره لم يزل شيخو مستبداً بالدولة وكافلاً للسطان حتى وثب عليه يوماً بعض الموالي بمجلس السلطان في دار العدل في شعبان سنة ثمان وخمسين واعتمده في دخوله من باب الإيوان وضربه بالسيف ثلاثاً أصاب بها وجهه ورأسه وذراعيه فخر لليدين ودخل السلطان بيته وانفض المجلس. واتصلت الهيعة بالعسكر خارج القلعة فاضطربوا واقتحم موالي شيخو القلعة إلى الإيوان يقدمهم خليل بن قوصون وكان ربيبه لأن شيخو تزوج بأمه فاحتمل شيخو إلى منزله. وأمر الناصر بقتل المملوك الذي ضربه فقتل ليومه وعاده الناصر من الغد وتوجل من الوثبة أن تكون بأمره. وأقام شيخو عليلاً إلى أن هلك في ذي القعدة من السنة وهو أول من سمي الأمير الكبير بمصر. واستقل سرغتمش رديفه بحمل الدولة. وبعث عن طاز فأمسكه بحلب وحبسه بالإسكندرية وولى مكانه الأمير علياً المارداني نقله إليها من دمشق وولى مكانه بدمشق منجك اليوسفي. ثم تقبض السلطان على سرغتمش في رمضان سنة تسع وخمسين وعلى جماعة من الأمراء معه مثل مغلطاي الدوادار وطشتمر القامسي الحاجب وطنبغا الماجاري وخليل بن قوصون ومحا السلحدار وغيرهم وركب مواليه وقاتلوا مماليك السلطان في ساحة القلعة صدر نهار ثم انهزموا وقتلوا واعتقل سرغتمش وجماعته المنكوبون بالإسكندرية وقتل بمحبسه لسبعين يوماً من اعتقاله. وتخطت النكبة إلى شيعته وأصحابه من الأمراء والقضاة والعمال. وكان الذي تولى نكبة هؤلاء كلهم بأمر السلطان منكلي بيبقا الشمسي. ثم استبد السلطان يملكه واستولى على أمره وقدم مملوكه بيبقا القمري وجعله أمير ألف. وأقام في الحجابة الجاي اليوسفي. ثم بعثه إلى دمشق نائباً واستقدم منجك نائب دمشق. فلما وصل إلى غزة استتر واختفى فولى الناصر مكانه بدمشق الأمير علياً المارداني نقله من حلب وولى على حلب سيف الدين بكتمر المؤمني. ثم أدال من علي المارديني في دمشق باستدمر ومن المؤمني في حلب بمندمر الحوراني وأمره السلطان سنة إحدى وستين بغزو سيس وفتح أذنة وطرسوس والمصيصة في حصون أخرى وولى عليها ورجع فولاه السلطان نيابة دمشق مكان استدمر وولى على حلب أحمد بن القتمري. ثم عثر بدمشق سنة إحدى وستين على منجك بعد أن نال العقاب بسببه جماعة من الناس. فلما حضر عفا عنه السلطان وأمده وخيره في النزول حيث شاء من بلاد الشام. وأقام السلطان. بقية دولته مستبداً على رجال دولته وكان يأنس بالعلماء والقضاة ويجمعهم في بيته متبدلاً ويفاوضهم في مسائل العلم ويصلهم ويحسن إليهم ويخالطهم أكثر ممن سواهم إلى أن انقرضت دولته والبقاء لله وحده. ثورة بيبقا ومقتل السلطان حسن وولاية منصور ابن المعظم حاجي في كفالة بيبقا كان بيبقا هذا من موالي السلطان حسن وأعلاهم منزلة عنده وكان يعرف بالخاصكي نسبة إلى خواص السلطان. وكان الناصر قد رقاه في مراتب الدولة وولاه الإمارة ثم رفعه إلى الاتابكية وكان لجنوحه إلى الاستبداد كثيراً ما يبوح بشكاية مثل ذلك. فأحضره بعض الليالي بين حرمه وصرفه في جملة من الخدمة لبعض مواليه وقادها فأسرها بيبقا في نفسه واستوحش. وخرج السلطان سنة اثنتين وستين إلى كوم برى وضرب بها خيامه وأذن للخاصكي في مخيمه قريباً منه. ثم نمي عنه خبر الإنتقاض فأجمع القبض عليه واستدعاه فامتنع من الوصول وربما أشعره داعيه بالإسترابة فركب إليه الناصر بنفسه فيمن حضره من مماليكه وخواص أمرائه تاسع جمادى من السنة. وبرز إليه بيبقا وقد أنذر به واعتد له فصدقه القتال في ساحة مخيمه. وانهزم أصحاب السلطان عنه ومضى إلى القلعة وبيبقا في اتباعه فامتنع الحراس بالقلعة من إخافة طارقة جوف الليل فتسرب في المدينة واختفى في بيت الأمير ابن الأزكشي بالحسينية وركب الأمراء من القاهرة مثل ناصر الدين الحسيني وقشتمر المنصوري وغيرهما لمدافعة بيبقا فلقيهم ببولاق وهزمهم واجتمع ثانية وثالثة وهزمهم. وتنكر الناصر مع أيدمر الدوادار يحاولان النجاة إلى الشام واطلع عليهما بعض المماليك فوشى بهما إلى بيبقا فبعث من أحضره فكان آخر العهد به. ويقال إنه امتحنه قبل القتل فدله على أموال السلطان وذخائره وذلك لست سنين ونصف من تملكه. ثم نصب بيبقا للملك محمد بن المظفر حاجي ولقبه المنصور وقام بكفالته وتدبير دولته وجعل طنبغا الطويل رديفه. وولى قشتمر المنصوري نائباً وغشتمر أمير مجلس وموسى الازكشي أستاذ دار. وأفرج عن القاسمي وبعثه نائباً بالكرك وأفرج عن طاز وقد كان عمي فبعثه إلى القدس بسؤاله ثم إلى دمشق. ومات بها في السنة بعدها وأقر عجلان في ولاية مكة وولى على عرب الشام جبار بن مهنا وأمسك جماعة من الأمراء فحبسهم والله تعالى أعلم. انتقاض استدمر بدمشق ولما اتصل بالشام ما فعله بيبقا وأنه استبد بالدولة. وكان استدمر نائباً بدمشق كما قدمناه امتعض لذلك وأجمع الانتقاض وداخله في ذلك مندمر وألبري ومنجك اليوسفي واستولى على قلعة دمشق. وسار في العساكر ومعه السلطان المنصور ووصل إلى دمشق واعتصم القوم بالقلعة. وترددت بينهما القضاة بالشام حتى نزلوا على الأمان بعد أن حلف بيبقا. فلما نزلوا إليه بعث بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها وولى الأمير المارداني نائباً بدمشق وقطلو بغا الأحمدي نائباً بحلب مكان أحمد بن القتمري بصفد وعاد السلطان المنصور وبيبقا إلى مصر والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة الخليفة المعتضد بن المستكفي وولاية ابنه المتوكل قد تقدم لنا أن الخليفة المستكفي لما توفي قبل وفاة الملك الناصر عهد لابنه أحمد ولقبه الحاكم وأن الناصر عدل عنه إلى إبراهيم بن محمد عم المستكفي ولقبه الواثق. فلما توفي الناصر آخر سنة إحدى وأربعين وأغار الأمراء القائمون بالدولة والأمير أحمد الحاكم بن المستكفي ولي عهده فلم يزل في خلافته إلى أن هلك سنة ثلاث وخمسين لأول دولة الصالح سبط تنكز. وولى بعده أخوه أبو بكر بن المستكفي ولقب المعتضد. ثم توفي سنة ثلاث وستين لعشرة أعوام من خلافته وعهد إلى ابنه أحمد فولي مكانه ولقب المستكفي والله تعالى أعلم. خلع المنصور وولاية الأشرف ثم بدا البيبقا الخاصكي في أمر المنصور محمد بن حاجي فخلعه استرابة به في شعبان سنة أربع وستين لسبعة وعشرين شهراً من ولايته ونصب مكانه شعبان بن الناصر حسن بن الملك الناصر وكان أبوه قد توفي في ربيع الآخر من تلك السنة. وكان آخر بني الملك الناصر فمات فولي ابنه شعبان ابن عشر سنين ولقبه الأشرف وتولى كفالته. وفي سنة خمس وستين عزل المارداني من دمشق وولى مكانه منكلي بغا نقله من حلب وولى مكانه قطلو بغا الأحمدي. وتوفي قطلو بغا فولى مكانه غشقتمر المارداني. ثم عزل غشقتمر سنة ست وستين فولى مكانه سيف الدين فرجي وأوعز إليه سنة سبع وستين أن يسير في العساكر لطلب خليل بن قراجا بن العادل أمير التركمان فيحضره معتقلاً فسار إليه وامتنع في خرت برت فحاصره أربعة أشهر واستأمن خليل بعدها وجاء إلى مصر فأمنه السلطان وخلع عليه وولاه ورجع إلى بلده وقومه والله تعالى أعلم. واقعة الإسكندرية كان أهل جزيرة قبرص من أمم النصرانية وهم من بقايا الروم وإنما ينتسبون لهذا العهد إلى الإفرنج لظهور الإفرنج على سائر أمم النصرانية. وإلا فقد نسبهم هروشيوش إلى كيتم وهم الروم عندهم ونسب أهل رودس إلى دوداتم وجعلهم أخوة كيتم ونسبهما معاً إلى رومان. وكانت على أهل قبرص جزية معلومة يؤدونها لصاحب مصر وما زالت مقررة عليهم من لدن فتحها على يد معاوية أمير الشام أيام عمر. وكانوا إذا منعوا الجزية يسلط صاحب الشام عليهم أساطيل المسلمين فيفسدون مراسيها ويعيثون في سواحلها حتى يستقيموا لأداء الجزية. وتقدم لنا آنفاً في دولة الترك أن الظاهر بيبرس بعث إليها سنة تسع وستين وستمائة أسطولاً من الشواني وطرقت مرساها ليلاً فتكسرت لكثرة الحجارة المحيطة بها في كل ناحية. ثم غلب لهذه العصور أهل جنوة من الإفرنج على جزيرة رودس حازتها من يد لشكري صاحب القسطنطينية سنة ثمان وسبعمائة وأخذوا بمخنفها. وأقام أهل قبرص معهم بين فتنة وصلح وسلم وحرب آخر أيامهم. وجزيرة قبرص هذه على مسافة يوم وليلة في البحر قبالة طرابلس منصوبة على سواحل الشام ومصر. واطلعوا بعض الأيام على غرة في الإسكندرية وأخبروا حاجبهم وعزم على انتهاز الفرصة فيها فنهض في أساطيله واستنفر من سائر الإفرنج ووافى مرساها سابع عشر من المحرم سنة سبع وستين في أسطول عظيم يقال بلغ سبعين مركباً مشحونة بالعدة وبالعدد ومعه الفرسان المقاتلة بخيولهم. فلما أرسى بها قدمهم إلى السواحل وعبى صفوفه وزحف وقد غص الساحل بالنظارة برزوا من البلد على سبيل النزهة لا يلقون بالاً لما هو فيه ولا ينظرون مغبة أمره لبعد عهدهم بالحرب وحاميتهم يومئذ قليلة وأسوارهم من الرماة المناضلين دون الحصون خالية. ونائبها القائم بمصالحها في الحرب والسلم وهو يومئذ خليل بن عوام غائب في قضاء فرضه فما هو إلا أن رجعت تلك الصفوف على التعبية ونضحوا العوام بالنبل فأجفلوا متسابقين إلى المدينة وأغلقوا أبوابها وصعدوا إلى الأسوار ينظرون ووصل القوم إلى الباب فأحرقوه واقتحموا المدينة واضطرب أهلها وماج بعضهم في بعض. ثم أجفلوا إلى جهة البر بما أمكنهم من عيالهم وولدهم وما اقتدروا عليه من أموالهم وسالت بهم الطرق والأباطح ذاهبين في غير وجه حيرة ودهشة. وشعر بهم الأعراب أهل الضاحية فتخطفوا الكثير منهم وتوسط الإفرنج المدينة ونهبوا ما مروا عليه من الدور وأسواق البر ودكاكين الصيارفة ومودعات التجار وملأوا سفنهم من المتاع والبضائع والذخيرة والصامت واحتملوا ما استولوا عليه من السبي والأسرى وأكثر ما فيهم الصبيان والنساء. ثم تسايل إليهم الصريخ من العرب وغيرهم فانكفأ الإفرنج إلى أساطيلهم وانكمشوا فيها بقية يومهم وأقلعوا من الغد. وطار الخبر إلى كافل الدولة بمصر الأمير بيبقا فقام في ركائبه وخرج لوقته بسلطانه وعساكره ومعه ابن عوام نائب الإسكندرية منصرفة من الحج وفي مقدمته خليل بن قوصون وقطلو بغا الفخري من أمرائه وعزائمهم مرهفة ونياتهم في الجهاد صادقة حتى بلغهم الخبر في طريقهم بإقلاع العدو فلم يثنه ذلك واستمر إلى الإسكندرية وشاهد ما وقع بها من معرة الخراب وآثار الفساد فأمر بهدم ذلك وإصلاحه ورجع أدراجه إلى دار الملك وقد امتلأت جوانحه غيطاً وحنقاً على أهل قبرص فأمر بإنشاء مائة أسطول من الأساطيل التي يسمونها القربان معتزماً على غزو قبرص فيها بجميع من معه من عساكر المسلمين بالديار المصرية واحتفل في الاستعداد لذلك واستكثر من السلاح وآلات الحصار وكمل غرضه من ذلك كله في رمضان من السنة لثمانية أشهر من الشروع فيه فلم يقدر على تمام غرضه من الجهاد لما وقع من العوائق كما نقصه والله تعالى ولي التوفيق. ثورة الطويل ونكبته كان طنبغا الطويل من موالي السلطان حسن وكانت وظيفته في الدولة أمير سلاح وهو مع ذلك رديف بيبقا في أمره وكان يؤمل الاستبداد ثم حدثت له المنافسة والغيرة من بيبقا كما حدثت لسائر أهل الدولة عندما استكمل أمره واستفحل سلطانه وداخلوا الطويل في الثورة وكان دوادار السلطان أرغون الأشقري وأستاذ دار المحمدي. وبينا هم في ذلك خرج الطويل للسرحة بالعباسية في جمادى سنة سبع وستين وفشا الأمر بين أهل الدولة فنمي إلى بيبقا واعتزم على إخراج الطويل إلى الشام وأصدر له المرسوم السلطاني بنيابة دمشق وبعث به إليه وبالخلعة على العادة مع أرغون الأشقري الدوادار وروس المحمدي أستاذ دار من المداخلين له ومعه أرغون الأرفي وطنبغا العلائي من أصحاب بيبقا فردهم الطويل وأساء إليهم. وواعد بيبقا قبة النصر ثم شفع للسلطان في الطويل في شهر شعبان من السنة وبعثه إلى القدس ثم أطلق الأشقري والمحمدي وبعث بهما إلى الشام وولى مكان الطويل طيدمر الباسلي ومكان الأشقري في الدويدارية طنبغا الأبي بكري. ثم عزله بيبقا العلائي وولى مكانه روس العادل المحمدي. وكان جماعة من الأمراء أهل وظائف في الدولة قد خرجوا مع الطويل وحبسوا فولى في وظائفهم أمراء آخرين ممن لم تكن له وظيفة واستدعى منكلي بيبقا الشمسي نائب دمشق إلى مصر يطلبه فقدم نائباً بحلب مكان سيف الدين برجي وآذن له في الاستكثار من العساكر وجعلت رتبته فوق نائب دمشق وولى مكانه بدمشق اقطمر عبد العزيز انتهى والله تعالى أعلم. المماليك ثورة المماليك ببيبقا ومقتله واستبداد استدمر كان طنبغا قد طال استبداده على السلطان وثقلت وطأته على الأمراء وأهل الدولة وخصوصاً على مماليكه وكان قد استكثر من المماليك وأرهف حده لهم في التأديب وتجاوز الضرب فيهم بالعصا إلى جدع الأنوف واصطلام الآذان فكتموا الأمر في نفوسهم وضمائرهم لذلك وطووا على الغش وكان كبير خواصه استدمر واقتفان الأحمدي ووقع في بعض الأيام بمثل هذه العقوبة في أخي استدمر فاستوحش له وارتاب وداخل سائر الأمراء في الثورة يرون فيها نجاتهم منهم. وخلصوا النجوى مع السلطان فيه واقتضوا منه الإذن. وسرح السلطان بيبقا إلى البحيرة في عام ثمان وسبعين وانعقد هؤلاء المماليك المتفاوضون في الثورة بمنزل الطرانة وبيتوا له فيها ونمي إليه خبرهم ورأى العلامات التي قد أعطيها من أمرهم فركب مركباً في بعض خواصه وخاض النيل إلى القاهرة وتقدم إلى نواتية البحر أن يرسوا سفنهم عند العدوة الشرقية ويمنعوا العبور كل من يرومه العدوة الغربية. وخالفه استدمر واقتفان إلى السلطان في ليلتهم وبايعوه على مقاطعة بيبقا ونكبته ولما وصل بيبقا إلى القاهرة جمع من كان بها من الأمراء والحجاب من مماليكه وغيرهم وكان بها أيبك البدري أمير ماخورية فاجتمعوا عليه. وكان يقتمر النظامي وأرغون ططن بالعباسية سارحين فاجتمعوا إليه فخلع الأشرف ونصب أخاه أتوك ولقبه المنصور وأحضر الخليفة فولاه واستعد للحرب وضرب مخيمه بالجزيرة الوسطى على عدوة البحر. ولحق به من كانت له معه صاغية من الأمراء الذين مع السلطان بصحابة أو أمر أو ولاية مثل بيبقا العلائي الدوادار ويونس الرمام وكمشيقا الحموي وخليل بن قوصون ويعقوب شاه وقرابقا البدري وابتغا الجوهري. ووصل السلطان الأشرف من الطرانة صبيحة ذلك اليوم على التعبية قاصداً دار ملكه وانتهى إلى عدوة البحر فوجدها مقفرة من السفن فخيم هنالك وأقام ثلاثاً وبيبقا وأصحابه قبالتهم بالجزيرة الوسطى ينضحونهم بالنبل ويرسلون عليهم الحجارة من المجانيق وصواعق الأنقاط وعوالم النظارة في السفن إلى أن تتوسط فيركبونها ويحركونها بالمجاذيف إلى ناحية السلطان حتى كملت منها عدة وأكثرها من القربان التي أنشأها بيبقا وأجاز فيها السلطان وأصحابه إلى جزيرة الفيل. وسار على التعبية وقد ملأت عساكره وتابعه بسيط الأرض وتركم القتام بالجو وغشيت سحابة موكب بيبقا وأصحابه فتقدموا للدفاع وصدقتهم عساكر السلطان القتال فانفضوا عن بيبقا وتركوه أوحش من وتد في قلاع فولى منهزماً ومر بالميدان فصلى ركعتين عند بابه واستمر إلى بيته والعوام ترجمه في بطريقه. وسار السلطان في تعبيته إلى القلعة ودخل قصره وبعث عن بيبقا فجيء به واعتقل بحبس القلعة سائر يومه. فلما غشي الليل ارتاب المماليك بحياته وجاؤوا إلى السلطان يطلبونه وقد اضمروا الفتك به وأحضره السلطان. وبينما هو مقبل على التضرع للسلطان ضربه بعضهم فأبان رأسه وارتاب من كان منهم خارج القصر في قتله فطلبوا معاينته ولم يزالوا يناولون رأسه من واحد إلى واحد حتى رماه آخرهم في مشعل كان بازائه. ثم دفن وفرغ من أمره وقام بأمر الدولة استدمر الناصري ورديفه بيبقا الأحمدي ومعهما بحماس الطازي وقرابقا السرغتمشي وتغري بردي المتولون كبر هذه الفعلة. وتقبضوا على الأمراء الذين عدلوا عنهم إلى بيبقا فحبسوهم بالإسكندرية. وقد مر ذكرهم وعزل خليل بن قوصون وألزم بيته وولوا أمراء مكان المحبوسين وأهل وظائف من كانت له. واستقر أمر الدوة على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. |
واقعة الأجلاب ثم نكبتهم ومهلك استدمر وذهاب دولته
ثم تنافس هؤلاء القائمون بالدولة وحبسوا قرابقا السرغتمشي صاحبهم وامتعض له تغري بردي وداخل بعض الأمراء في الثورة ووافقه أيبك البدري وجماعة معه وركب منتصف رجب سنة ثمان وستين للحرب فركب له استدمر وأصحابه فتقبضوا عليهم وحبسوهم بالإسكندرية وعظم ظغيان هؤلاء الأجلاب وكثر عيثهم في البلد وتجاوزهم حدود الشريعة والملك. وفاوض السلطان أمراءه في شأنهم فأشاروا بمعاجلتهم وحسم دائهم فنبذ السلطان إليهم العهد وجلس على كرسيه بالأساطيل وتقدم إلى الأمراء بالركوب فركب الجائي اليوسفي وطغتمر النظامي وسائر أمراء السلطان ومن استخدموه من مماليك بيبقا وتحيز إليهم أيبقا الجلب وبحماس الظازي عن صاحبهما استدمر. وركب لقتالهم استدمر وأصحابه وسائر الأجلاب وحاصروا القلعة إلى أن خرج عند الطلحساه السلطانية فاختل مركز الأمراء وفارقهم وثبت الجائي اليوسفي وأرغون التتر في سبعين من مماليكهم فوقفوا قليلاً ثم انهزموا إلى قبة النصر وقتل دروط ابن أخي الحاج الملك وقبض على أيبقا الجلب جريحاً وعلى طغتمر النظامي وعلى بحماس الطازي والجائي اليوسفي وأرغون التتر وكثير من أمراء الألوف ومن دونهم. واستولى استدمر وأصحابه الأجلاب على السلطان كما كانوا وولى مكان المحبوسين من الأمراء وأهل الوظائف وعاد خليل بن قوصون على إمرته. وعزل قشتمر عن طرابلس وحبس بالإسكندرية واستبدل بكثير من أمراء الشام واستمر الحال على ذلك بقية السنة والأجلاب على حالهم في الإستهتار بالسلطان والرعية. فلما كان محرم سنة تسع وستين عادوا إلى الأجلاب على الدولة فركب أمراء السلطان إلى استدمر يشكونهم ويعاتبونهم في شأنهم فقبض على جماعة منهم كسر بهم الفتنة وذلك يوم الأربعاء سادس صفر فلما كان يوم السبت وعاودوا الركوب ونادوا بخلع السلطان فركب السلطان في مماليكه ونحو المائتين. والتف عليهم العوام وقد حنقوا على الأجلاب بشراشرهم فيهم. وركب استدمر في الأجلاب على التعبية وهم ألف وخمسمائة وجاؤوا من وراء القلعة على عادتهم حتى شارفوا القوم فأحجموا ووقفوا وأدلفتهم الحجارة من أيدي العوائم بالمقاليع وحملت عليهم العساكر فانهزموا وقبض على أبقا السرغتمشي وجماعة معه فحبسوا بالخزانة. ثم جيء باستدمر أسيراً وشفع فيه الأمراء فشفعهم السلطان وأطلقه باقياً على أتابكيته ونزل إلى بيته بقبض الكيس. وكان خليل بن قوصون تولى أتابكاً في تلك الفترة فأمره السلطان أن يباكر به لحبسه من الغد فركب خليل إلى بيته وحمله على الأنتقاض على أن يكون الكرسي لخليل بعلاقة نسبته إلى الملك الناصر من أمه. فاجتمع منهم جماعة من الأجلاب وركبوا بالرميلة فركب إليهم السلطان والأمراء في العساكر فانهزموا وقتل كثير منهم. وبعثوا بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها وقتل كثير ممن أسر في تلك الواقعة منهم وطيف بهم على الجمال في أقطار المدينة. ثم تتبع بقية الأجلاب بالقتل والحبس بالثغور القاصية وكان ممن حبس منهم بالكرك برقوق العثماني الذي ولي الملك بعد ذلك بمصر وبركه الجولاني وطنبغا الجوباني وجركس الخليلي ونعنع وأقاموا كلهم متلفين بين السجن والنفي إلى أن اجتمع شملهم بعد ذلك كما نذكره. واستبد السلطان بأمره بعض الشيء وأفرج عن الجائي اليوسفي وطغتمر النظامي وجماعة من المسجونين من أمرائه وولى الجائي أمير سلاح وولى بيبقا المنصوري وبكتمر المحمدي من أمراء الأجلاب في الأتابكية شريكين. ثم نمي عنهما أنهما يرومان الثورة وإطلاق المسجونين من الأجلاب والاستبداد على السلطان فقبض عليهما. وبعث عن منكلي بغا الشمسي من حلب وأقامه في الأتابكية. واستدعى أمير علي المارداني من دمشق وولاه النيابة وولى في جميع الوظائف وكان منهم مولاه أرغون الأشرفي. وما زال يرقيه في الوظائف إلى أن جعله أتابك دولته وكان خالصته كما سنذكر. وولى على حلب مكان منكلي بغا طنبغا الطويل وعلى دمشق مكان المارداني بندمر الخوارزمي. ثم اعتقله وصادره على مائة ألف دينار ونفاه إلى طرطوس وولى مكانه منجك اليوسفي نقله إليها من طرابلس وأعاد إليها غشقتمر المارداني كما كان قبله. ثم توفي طنبغا الطويل بحلب آخر سنة تسع وستين بعد أن كان يروم الانتقاض فولى مكانه استبغا الأبو بكري. ثم عزله سنة سبعين وولى مكانه قشتمر المنصوري والله تعالى ولي التوفيق بمنه وفضله. مقتل قشتمر المنصوري بحلب في واقعة العرب كان جماز بن مهنا أمير العرب من آل فضل قد انتقض وولى السلطان مكانه ابن عمه نزال بن موسى بن عيسى واستمر جماز على خلافه ووطئ بلاد حلب أيام المصيف واجتمع إليه بنو كلاب وامتدت أيديهم على السابلة فخرج إليهم نائب حلب قشتمر المنصوري في عساكره فأغار على أحيائه واستاق نعمهم ومواشيهم وشره إلى اصطلامهم فتذامروا دون أحيائهم وكانت بينه وبينهم جولة أجلت عن قشتمر المنصوري وابنه محمد قتيلين ويقال قتلهما يعبر بن جماز ورجعت عساكر الترك منهزمين إلى حلب وذهب جماز إلى القفر ناجياً به وولى السلطان على العرب معيقيل بن فضل. ثم استأمن له جماز بن مهنا وعاود الطاعة فأعاده السلطان إلى إمارته والله تعالى أعلم. استبداد الجائي اليوسفي ثم انتقاضه ومقتله لما أذهب السلطان الأشرف أثر الأجلاب من دولته وقام بعض الشيء بأمره فاستدعى منكلي بغا من حلب وجعله أتابكاً وأمير علي المارداني من دمشق وجعله نائباً. وولى الجائي اليوسفي أمير سلاح وولى أصبغا عبد الله دوادار بعد أن كان الأجلاب ولوا في الدوادارية منهم واحداً بعد واحد. ثم سخطه وولى مكانه أقطمر الصباحي وعمر سائر الخطط السلطانية بمن وقع عليه اختياره ورقى مولاه أرغون شاه في المراتب من واحدة إلى أخرى إلى أن أربى به على الأتابكية كما يأتي. وولى بهادر الجمالي أستاذ دار ثم أمير الماخورية تردد بينهما. ثم استقر آخراً في الماخورية وولى محمد بن اسقلاص أستاذ دار وولى بيبقا الناصري بالحجابة بعد وظائف أخرى نقله منها. وزوج أمه الجائي اليوسفي فعلت رتبته بذلك في الدولة واستغلظ أمره وأغلظ له الدوادار يوماً في القول فنفي وولى مكانه منكوتمر عبد الغني. ثم عزل سنة اثنتين وسبعين لسنة من ولايته وولى السلطان مكانه طشتمر العلائي الذي كان دوادار البيبقا واستقرت الدولة على هذا النمط والجائي اليوسفي مستبد فيها ووصل وفود منجك من الشام سنة أربع وسبعين بما لا يعبر عنه. اشتمل على الخيل والبخاتي المجللة والجمال والهجن والقماش والحلاوات والحلي والطرف والمواعين حتى كان فيها من الكلاب الصائدة والسباع والإبل ما لم ير مثله في أصنافه. ثم وصل وفود قشتمر المارداني من حلب على نسبة ذلك والله تعالى أعلم. انتقاض الجائي اليوسفي ومهلكه واستبداد الأشرف بملكه من بعده لم تزل الدولة مستقرة على ما وصفناه إلى أن هلك الأمير منكلي بغا بالأتابك منتصف سنة أربع وسبعين واستضاف الجائي اليوسفي الأتابكية إلى ما كان بيده ورتبته أشد من ذلك كله وهو القائم المستبد بها. ثم توفيت أم السلطان وهي في عصمته فاستحق منها ميراثاً دعاه لؤم الأخلاق فيه إلى المماحكة في المخلف وتجافى السلطان له عن ذلك إلا أنه كان ضيق الصدر شرس الأخلاق فكان يغلظ القول بما يخشن الصدور فأظلم الجو بينه وبين السلطان وتمكنت فيه السعاية. وذكرت بهذه انتقاضه الأول وذلك أنه كان سخط في بعض النزعات على بعض العوام من البلد فأمر بالركوب إلى العامة وقتلهم فقتل منهم كثير ونمي الخبر إلى السلطان على ألسنة أهل البصائر من دولته وعدلوه عنده فاستشاط السلطان وزجره وأغلظ له فغضب وركب إلى قبة النصر منتقضاً. وذهب السلطان في مداراة أمره إلى الملاطفة واللين. وكان الأتابك منكلي بغا يرم ذاك حياً فأوعز السلطان إليه فرجع وخلع عليه وأعاده إلى أحسن ما كان. فلما بدرت هذه الثانية حذر السلطان بطانته من شأنه وخرج هو منتقضاً وركب في مماليكه بساحة القلعة. وجلس السلطان وترددت الرسل بينهما بالملاطفة فأصر واستكبر ثم أذن السلطان لمماليكه في قتاله وكان أكثرهم من الأجلاب مماليك بيبقا وقد جمعهم السلطان واستخدمهم في جملة ابنه أمير علي ولي عهده فقاتلوه في محرم سنة خمس وتسعين وكان موقفه في ذلك المعترك إلى حائط الميدان المتصل بالأساطيل فنفذت له المقاتلة من داخل الأساطيل ونضحوه بالسهام فتنحى عن الحائط حتى إذا حل مركزه ركبوا خيولهم وخرجوا من باب الأساطيل. وصدقوا عليه الحملة فانهزم إلى بركة الحبش ورجع من وراء الجبل إلى قبة النصر فأقام بها ثلاثاً والسلطان يراوضه وهو يشتط وشيعه يتسللون عنه. ثم بعث إليه بالسلطان لمة من العسكر ففر أمامهم إلى قليوب واتبعوه فخاض البحر وكان آخر العهد به. ثم أخرج شلوه ودفن وأسف السلطان لمهلكه ونقل أولاده إلى قصره ورتب لهم ولحاشيته الأرزاق في ديوانه. وقبض على من اتهمه بمداخلته وأرباب وظائفه فصودروا كلهم وعزلوا وغربوا إلى الشام. واستبد السلطان بأمره واستدعى القري الدوادار وكان نائباً بطرابلس فولاه أتابكاً مكان الجائي ورفع رتبته. وولى أرغون شاه وجعله أمير مجلس وولى سرغتمش من مواليه أمير سلاح واختص بالسلطان طشتمر الدوادار وناصر الدين محمد بن اسقلاص أستاذ دار فكانت أمور الدولة منقسمة بينهما وتصاريفها تجري بسياستهما إلى أن كان ما نذكره والله تعالى ولي التوفيق. |
استقدام منجك للنيابة
كان أمير علي المارداني قد توفي سنة اثنتين وسبعين وبقيت وظيفته خلواً المكان الجائي اليوسفي وأحكامه. ولما هلك سنة خمس وسبعين ولى السلطان أقطمر عبد الغني نائباً. ثم بدا له أن يولي في النيابة منجك اليوسفي لما رآه فيه من الأهليه لذلك والقيام به ولتقلبه في الإمارة منذ عهد الناصر حسن وأنه كان من مواليه أخاً لبيبقا روس وطاز وسرغتمش فهو بقية المناجب. فلما وقع نظره عليه بعث في استقدامه بيبقا الناصري من أمراء دولته وولى مكانه بندمر الخوارزمي وأعاد عشقتمر إلى حلب مكانه. ووصل منجك إلى مصر آخر سنة خمس وسبعين ومعه مماليكه وحاشيته وصهر إلى روس المحمدي فاحتفل السلطان في تكرمته وأمر أهل الدولة بالركوب لتلقيه فتلقاه الأمراء والعساكر وأرباب الوظائف من القضاء والدواوين وأذن له في الدخول من باب السر راكباً وخاصة السلطان مشاة بين يديه حتى نزل عند مقاعد الطواشية بباب القصر حيث يجلس مقدم المماليك. ثم استدعي إلى السلطان فدخل وأقبل عليه السلطان وشافهه بالنيابة المطلقة وفوض إليه الولاية والعزل في سائر المراتب السلطانية من الوزراء والخواص والقضاة والأوقاف وغيرها وخلع عليه وخرج. ثم قرر تقليده بذلك في الإيوان ثاني يوم وصوله فكان يوماً مشهوداً. وولى الأشرف في ذلك اليوم بيبقا الناصري الذي قدم به حاجباً. ثم سافر عشقتمر نائب حلب آخر سنة ست وسبعين بعدها بالعساكر إلى بلاد الأرمن ففتح سائر أعمالها واستولى على ملكها النكفور بالأمان فوصل بأهله وولده إلى الأبواب السلطانية ورتب لهم الأرزاق وولى السلطان على سيس وانقرض منها ملك الأرمن. وتوفي منجك آخر هذه السنة فولى السلطان اقتمر الصاجي المعروف بالحلي. ثم عزله ورفع جلسه وولى مكانه اقتمر الألقني. ثم توفي جبار بن مهنا أمير العرب بالشام فولى السلطان ابنه يعبرا مكانه. ثم توفي أمير مكة من بني حسن فولى الأشرف مكانه واستقرت الأمور على ذلك والله أعلم. الخبر عن مماليك بيبقا وترشيحهم في الدولة كان السلطان الأشرف بعد أن سطا بمماليك بيبقا تلك السطوة وقسمهم بين القتل والنفي وأسكنهم السجون وأذهب أثرهم من الدولة بالجملة أرجع جملة منهم بعد ذلك. وعاتبه منكلي أبغا في شأنهم وأن في اتلافهم قص جناح الدولة وإنهم ناشئة من الجند يحتاج الملك لمثلهم فندم على من قتل منهم وأطلق من بقي من المحبوسين بعد خمس من السنين وسرحهم إلى الشام يستخدمون عند الأمراء. وكان فيمن أطلق الجماعة الذين بحبس الكرك وهم برقون العثماني وبركة الجوباني وطنبقا الجوباني وجركس الخليلي ونعنغ فأطلقوا إلى الشام. ودعا منجك صاحب الشام كبراءهم إلى تعليم المماليك ثقافة الرمح وكانوا بصراء بها فأقاموا عنده مدة أخبرني بذلك الطنبقا الجيرباني أيام اتصالي به قال وأقمنا عند منجك إلى أن استدعاه السلطان الأشرف وكتب إليه الجائي اليوسفي بمثل ذلك فاضطرب في أيهما يجيبه فيها. ثم أراد أن يخرج من العهدة فرد الأمر إلينا فأبينا إلا امتثال أمره فتحير. ثم اهتدى إلى أن يبعث إلى الجائي اليوسفي ودس إلى قرطاي كافل الأمير علي ابن السلطان وكان صديقه بطلبنا من الجائي بخدمة ولي العهد وصانع الجهتين بذلك قال وصرنا إلى ولي العهد فعرضنا على السلطان أبيه واختصنا عنده بتعليم الثقافة لمماليكه إلى أن دعانا السلطان يوم واقعة الجائي وهو جالس بالإسطبل فندبنا لحربه وذكرنا حقوقه وأزاح عللنا بالجياد والأسلحة فجلبنا في قتله إلى أن انهزم وما زال السلطان بعدها يرعى لنا ذلك ويقدمنا. انتهى خبر الجوباني. وكان طشتمر الدوادار قد لطف محله عند الأشرف وخلا له وجهه وكان هواه في اجتماع مماليك بيبقا في الدولة يستكثر بهم فيما يؤمله من الاستبداد على السلطان. فكان يشير في كل وقت على الأشرف باستقدامهم من كل ناحية واجتماعهم عصابة للدولة يخادع بذلك عن قصده وكان محمد بن اسقلاص أستاذ دار يساميه في الدولة ويزاحمه في مخالصة بالأشرف ولطف المحل عنده ينهى السلطان عن ذلك ويحذره مغبة اجتماعهم فغص طشتمر بذلك. وكان عند السلطان مماليك دونه من مماليكه الخاصكية شباباً قد اصطفاهم وهذبهم وخالصهم بالمحبة والصهر ورشحهم للمراتب وولى بعضهم. وكان الأكابر من أهل الدولة يفضون إليهم بحاجاتهم ويتوسلون بمساعيهم فصرف طشتمر إليهم وجه السعاية وغشي مجالسهم وأغراهم بابن اسقلاص وإنه يصد السلطان أكثر الأوقات عن أغراضهم منه ولبعد أبواب الانعام والصلات منه. وصدق ذلك عندهم كثرة حاجاتهم في وظيفته وتقرر الكثير منها عليهم عنده فوغرت صدورهم منه وأغروا به السلطان بأطباق إغراء طشتمر طاهراً حتى تمت عليهم نكبته وجمعت الكلمة وقبض عليه منتصف جمادى سنة سبع وثمانين ونفاه إلى القدس فخلا لطشتمر وجه السلطان وانفرد بالتدبير واجتمع المماليك البيبقاوية من كل ناحية حتى كثروا أهل الدولة وعمروا مراتبها ووظائفها واحتازوها من جوانبها إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. حج السلطان الأشرف وانتقاض المماليك عليه بالعقبة لما استقر السلطان في دولته على أكمل حالات الاستبداد والظهور وأذعن الناس لطاعته في كل ناحية وأكمل الله له الامتاع بملكه ودنياه سمت نفسه إلى قضاء فرضه فأجمع الحج سنة ثمان وسبعين وتجهز لذلك واستكثر من الرواحل المستجادة والأزودة المثقلة من سائر الأصناف. واستعد للسفر واحتفل في الأبهة بما لم يعهد مثله واستخلف ابنه ولي العهد في ملكه وأوصى النائب اكتمر عبد النبي بمباكرة بابه والانتهاء إلى مراسمه. وأخرج بني الملك الناصر المحجوبين بالقلعة مع سرد الشيخوني إلى الكرك يقيمون به إلى منصرفة. وتجهز الخليفة العباسي محمد المتوكل بن المعتضد والقضاة للحج معه وجهز جماعة إلى الأمراء أهل دولته وأزاح عللهم وملأ بمعروفه حقائبهم. وخرج ثاني عشر شوال في المراكب والقطارات يروق الناظرين كثرة ومخافة وزينة والخليفة والقضاة والأمراء حفافيه. وبرز النظارة حتى العواتق من خدورهن وتجللت بمركبهم البسيطة وماجت الأرض بهم موجاً وخيم بالبركة منزل الحاج وأقام بها أياماً حتى فرغ الناس من حاجاتهم. وارتحل فما زال يتنقل في المنازل إلى الكعبة. ثم أقام فيها على عادة الحاج وكان في نفوس المماليك وخصوصاً البيبقاوية وهم الأكثر شجى يتشوقون به إلى الاستبداد من الدولة فتنكروا واشتطوا في اقتضاء أرزاقهم والمباشرون يعللونهم وانتهى أمرهم إلى الفساد. ثم طلبوا العلوفة المستقبلة إلى دار الأزلم فاعتذر المباشرون بأن الأقوات حملت إلى الأمام فلم يقبلوا وكشفوا القناع في الأنقاض وباتوا ليلتهم على تعبية. واستدعى الأشرف طشتمر الدوادار وكان كبيرهم ففاوضه في الأمر ليفل من عزمهم فأجمل العذر عنهم وخرج إليهم. فخرجوا ثم ركبوا من الغد واصطفوا وأركبوا طشتمر معهم ومنعوه من معاودة السلطان. وتولى كبر ذلك منهم مبارك الطازي وسراي تمر المحمدي وبطلقمر العلائي وركب السلطان في خاصته يظن أنهم يرعوون أو يجنح إليه بعضهم فأبوا إلا الأحفاف على قتاله. ونضحوا موكبه بالنبل لما عاينوه فرجع إلى خيامه منهزماً. ثم ركب البحر في لفيف من خواصه ومعه أرغون شاه الأتابك وبيبقا الناصري ومحمد بن عيسى صاحب الدرك من لفائف الأعراب أهل الضاحية وفي ركابه جماعة الشباب الذين أنشأهم في مخالصته ورشحهم للوظائف في دولته كما مر. وخام الفل إلى القاهرة وقد كان السلطان عندما سافر عن القاهرة ترك بها جماعة من الأمراء والمماليك مقيمين في وظائفهم كان منهم قرطاي الطازي كافل أمير علي ولي العهد واقتمر الخليلي وقشتمر واستدمر السرغتمشي وأيبك البدري. وكان شيطان من المتمردة قد أوحى إلى قرطاي بأنه يكون صاحب الدولة بمصر فكان يتشوف لذلك ويترصد له. وربما وقع بينه وبين وزير الدولة منازعة في جراية مماليك مكفوله ولي العهد وعلوفاتهم وأغلظ له فيها الوزير فوجم وأخذ في أسباب الانتقاض. وداخل في ذلك بعض أصحابه وواعدهم ثالث ذي القعدة وتقدم إلى داية ولي العهد ليلة ذلك اليوم بأن يصلح من شأنه ويفرغ عليه ملابس السلطان ويهيئه لجلوس التخت. وركب هو صبيحة ذلك اليوم ووقف بالرميلة عند مصلى العيد. وتناول قطعة من ثوب فنصبها لواء وكان صبيان المدينة قد شرعوا في اتخاذ الدبادب والطبيلات للعيد فأمر بتناول بعضها منهم. وهرعت بين يديه وتسايل الناس إليه من كل أوب ونزل من كان بطباق القصر وغرفه وبالقاهرة من المماليك واجتمعوا إليه حتى كظ ذلك الفضاء. وجاؤوا تعادي بهم الخيل فاستغلظ لفيفهم ثم اقتحم القلعة في جمعه من باب الاصطبل إلى بيت مكفوله ولي العهد أمير علي عند باب الستارة يطلبونه وقضوا على زمام الذود وكانوا عدة حتى أحضروا ولي العهد وجاؤوا به على الأكتاف إلى الإيوان فأجلسوه على التخت وأحضروا أيدمر نائب القلعة فبايع له. ثم أنزلوه إلى باب الإسطبل وأجلسوه هناك على الكرسي. واستدعى الأمراء القائمين بالقاهرة فبايعوه وحبس بعضهم بالقلعة. وبعث أكتمر الحلي إلى الصعيد يستكشف أحواله واختص منهم أيبك فجعله رديفاً في دولته. وباتوا كذلك وأصبحوا يسائلون الركبان ويستكشفون خبر السلطان. وكان السلطان لما انهزم من العقبة سار ليلتين وجاء إلى البركة آخر الثانية وجاءه الخبر بواقعة القاهرة وما فعله قرطاي وتشاوروا فأشار محمد بن عيسى بقصد الشام وأشار آخرون بالوصول إلى القاهرة. وسار السلطان إليها واستمروا إلى قبة النصر وتهافتوا عن رواحلهم باطلاح وقد أنهكهم التعب وأضناهم السير فما هو إلا أن وقعوا لمناكبهم وجنوبهم وغشيهم النعاس. وجاء الناصري إلى السلطان الأشرف من بينهم فتنصح له بأن يتسلل من أصحابه ويتسرب في بعض البيوت بالقاهرة حتى يتبين له وجه مذهبه وانطلق بين يديه فقصد بعض النساء ممن كان ينتاب قصده واختفى فظن النجاة في ذلك وفارقه الناصري يطلب نفقاً في الأرض وقد كانوا بعثوا من قبة النصر بعض المماليك عنهم روائد يستوضحون الحنبر فأصبحوا بالرميلة أمام القلعة وتعرف الناس أنه من الحاج فرفعوه إلى صاحب الدولة وعرض عليه العذاب حتى أخبره عن السلطان وأنه وأصحابه بقبة النصر مصرعين من غشي النوم فطار إليهم شراد العسكر مع استدمر السرغتمشي والجمهور في ساقتهم حتى وقفوا عليهم في مضاجعهم. وافتقدوا السلطان من بينهم وقتلوهم جميعاً وجاؤوا برؤوسهم ووجموا لافتقاد السلطان ونادوا بطلبه وعرضوا العذاب والقتل على محمد بن عيسى صاحب الدرك فتبرأ وحبس رهينة من ثقاته. ثم جاءت امرأة إلى أيبك فدلته عليه في بيت جارتها فاستخرجوه من ذلك البيت ودفعوه إلى أيبك فامتحنه حتى دلهم على الذخيرة والأموال. ثم قتلوه خنقاً وجددوا البيعة لابنه الأمير علي ولقبوه المنصور. واستقل بدولته كافله من قبل الأميرة قرطاي ورديفه أيبك البدري واستقر الأمر على ذلك. مجيء طشتمر من العقبة وانهزامه ثم مسيره إلى الشام وتجديد البيعة للمنصور بإذن الخليفة وتقديمه لما انهزم السلطان من العقبة ومضى إلى القاهرة اجتمع أهل الثورة على قشتمر وألقوا إليه القياد ودعوا الخليفة إلى البيعة له فتفادى من ذلك. ومضى الحاج من مكة مع أمير المحمل بهادر الجمالي على العادة. ورجع القضاة والفقهاء إلى القدس وتوجه طشتمر والأمراء إلى مصر لتلافي السلطان أو تلفه فلقيهم خبر مهلكة بعجرود وما كان من بيعة ابنه واستقلال قرطاي بالملك فثاب لهم رأي آخر في حرب أهل الدولة وساروا على التعبية وبعثوا في مقدمتهم قطلقتمر ولقي طلائع مصر فهزمهم وسار في اتباعهم إلى ساحة القلعة فلم يشعر إلا وقد تورط في جمهور العسكر فتقبضوا عليه. وكان قرطاي قد بعث عن اقتمر الصاحبي الحنبلي من الصعيد ويرجع في العساكر لحرب قشتمر وأصحابه فبرز إليهم والتقوا في ساحة القلعة. وانهزم قشتمر إلى الكيمان بناحية مصر ثم استأمن فأمنوه واعتقلوه. ثم جمع الناس ليوم مشهود وحضر الخليفة والأمراء والقضاة والعلماء وعقد الخليفة للمنصور بن الأشرف وفوض إليه. وقام قرطاي بالدولة وقسم الوظائف فولى قشتمر اللفاف واستأمر السرغتمشي أمير سلاح وقطلوبغا البدري أمير مجلس وقرطاي الطازي رأس نوبة وأياس السرغتمشي دوادار وأيبك البدري أمير الماخورية وسردون جركس أستاذ دار واقتمر الحنبلي نائباً وجعل له الإقطاع للأجناد والأمراء والنواب. وأفرج عن طشتمر العلائي الدوادار وأقطعه الإسكندرية وأحضر بني الملك الناصر من الكرك مع حافظهم سردون الشيخوني وولاه حاجباً وكذلك قلوط السرغتمشي وأصاب الناس في آخر السنة طاعون إلى أول سنة تسع وسبعين فهلك طشتمر اللفاق الأتابك وولي مكانه قرطاي الطازي في وظيفته. واستدعي بيبقا الناصري من الشام فاختصه الأمير الكبير قرطاي بالمخالصة والمشاورة. نكبة قرطاي واستقلال أيبك بالدولة ثم مهلكه كان أيبك الغزي هذا قد ردف قرطاي في حمل الدولة من أول ثورتهم وقيامهم على السلطان فخالصه وخلطه بنفسه في الإصهار إليه. وكان أيبك يروم الإستبداد بشأن أصحابه وكان يعرف من قرطاي عكوفه على لذاته وانقسامه مع ندمائه فعمل قرطاي في صفر سنة تسع وسبعين ضيافة في بيته وجمع ندماءه مثل سودون جركس ومبارك الطازي وغيرهم. وأهدى له أيبك نبيذاً أذيب فيه بعض المرقدات فباتوا يتعاطونه حتى غلبهم السكر على أنفسهم ولم يفيقوا. فركب أيبك من ليلته وأركب السلطان المنصور معه واختار الأمر لنفسه واجتمع إليه الناس وأفاق قرطاي بعد ثلاث وقد انحلت عنه العقدة واجتمع الناس على أيبك فبعث إليه قرطاي يستأمن فأمنه ثم قبض عليه فسيره إلى صفد واستقل أيبك بالملك والدولة. ثم بلغه منتصف صفر من السنة انتقاض طشتمر بالشام وانتقاض الأمراء هنالك في سائر الممالك على الخلاف معه فنادى في الناس بالمسير إلى الشام فتجهزوا وسرح المقدمة آخر صفر مع ابنه أحمد وأخيه قطلوفجا وفيها من مماليكه ومماليك السلطان وجماعة من الأمراء كان منهم الأميران برقوق وبركة المستبدان بعد ذلك. ثم خرج أيبك ثاني ربيع في الساقة بالسلطان والأمراء والعساكر وانتهوا إلى بلبيس. وثار الأمراء الذين كانوا مع أخيه في المقدمة ورجع إليه منهزماً فأجفل راجعاً إلى القلعة بالسلطان والعساكر. وخرج عليه ساعة وصوله يوم الاثنين جماعة من الأمراء وهم قطلتمر العلائي الطويل والطنبقا السلطاني والنعناع وواعدوه قبة النصر فسرح إليهم العساكر مع أخيه قطلوفجا فأوقعوا به وقبضوا عليه. وبلغ الخبر إلى أيبك فسرح من حضره من الأمراء للقائهم وهم أيدمر الشمسي واقطمر عبد الغني وبهادر الجمالي ومبارك الطازي في آخرين. ولما تواروا عنه ركب هو هارباً إلى كيمان مصر واتبعه أيدمر القنائي فلم يقف له على خبر. ودخل الأمراء من قبه النصر إلى الإسطبل وأمضوا الأمراء إلى قطلتمر العلائي وهم يحاذونه وأشير عليه بخلع المنصور والبيعة لمن يقوم على هذا الأمر من أبناء السلطان فأبى. ثم وصل صبيحة الثلاثاء الأمراء الذين ثاروا فجاء أخو أيبك في مقدمة العسكر وفيهم بيبقا الناظري وفى مرداش اليوسفي وبلاط من أمراء الألوف وبرقوق وبركة وغيرهما من الطلخامات فنازعوهم الأمر وغلبوهم عليه وبعثوا بهم إلى الإسكندرية معتقلين. وفوض الأمراء إلى بيبقا الناظري فقام بأمرهم وهو شعاع وآراؤهم مختلفة. ثم حضر يوم الأحد التاسع مع ربيع أيبك صاحب الدولة وظهر من الاختفاء وجاء إلى بلاط منهم وأحضره عند بيبقا الناظري فبعث به إلى الإسكندرية فحبسه بها وكان بيبقا الناظري يختص برقوق وبركة بالمفاوضة استرابة بالآخرين فاتفق رأيهم على أن يستدعى طشتمر من الشام وينصبوه للإمارة فبعثوا إليه بذلك وانتظروه. استبداد الأميرين أبي سعيد برقوق وبركة بالدولة من بعد أيبك ووصول طشتمر من الشام وقيامه بالدولة ثم نكبته لما تغلب هؤلاء الأمراء على الدولة ونصبوا بيبقا الناظري ولم يمضوا له الطاعة بقي أمرهم مضطرباً وآراؤهم مختلفة. وكان برقوق وبركة أبصر القوم بالسياسة وطرق التدبير وكان الناظري يخالصهما كما مر فتفاوضوا في القبض على هؤلاء المتصدين للمنازعة وكبح شكائمهم وهم دمرداش اليوسفي وترباي الحسيني وافتقلاص السلجوقي واستدمر بن العثماني في آخرين من نظرائهم. وركبوا منتصف صفر وقبضوا عليهم أجمعين وبعثوا بهم إلى الإسكندرية فحبسوهم بها واصطفوا بلاطاً منهم وولوه الإمارة وخلطوه بأنفسهم وأبقوا بيبقا الناظري على أتابكيته كما كان وأنزلوه من القلعة فسكن بيت شيخو قبالته وولى برقوق أمير الماخورية ونزل باب الإسطبل وولى بركة الجوباني أمير مجلس واستقرت الدولة على ذلك. وكان طشتمر نائب الشام قد انتقض واستبد بأمره وجمع عساكر الشام وأمراءه واستنفر العرب والتركمان وخيم بظاهر دمشق يريد السير إلى مصر. وبرز أيبك من مصر بالسلطان والعسكر يريد الشام لمحاربته فكان ما قدمناه من نكبته وخروج الأمراء عليه ومصيرهم إلى جماعة البيبقاوية الظافرين بأيبك ومقدمهم بيبقا الناظري. ثم تفاوض بيبقا الناظري مع برقوق وبركة في استدعاء طشتمر فرافقاه ونظراه رأياً وفيه طلب الصلح من الذين معه وحسم الداء منه بكونهم في مصر فكتبوا إليه بالوصول إلى مصر للأتابكية وتدبير الدولة وأنه شيخ البيبقاوية وكبيرهم فسكنت نفسه لذلك ووضع أوزار الفتنة وسار إلى مصر فلما وصلها اختلفوا في أمره وأركبوا السلطان إلى الزيدانية لتلقيه ودفعوا الأمراء إليه. وأشاروا له إلى الأتابكية ووضعوا زمام الدولة في يده فصار إليه التولية والعزل والخل والعقد. وولى بيبقا الناظري أمير سلاح مكان سباطا وبعثوا بلاطاً إلى الكرك لاستقلال طشتمر بمكانه. وولى بندمر الخوارزمي نائباً بدمشق على سائر وظائف الدولة وممالك الشام كما اقتضاه نظره. ووافق عليه أستاذ دار برقوق وبركة وولى أيبك اليوسفي فرتب برقوق رأس نوبة مكان الناظري. واستمر الحال على ذلك وبرقوق وبركة أثناء هذه الأمور يستكثران من المماليك استغلاظاً لشوكتهما واكتنافاً لعصبيتهما إن يمتد الأمير إلى مراتبهما فيبذلان الجاه لتابعهما ويوفران الإقطاع لمن يستخدم لهما ويخصان بالإمرة من يجنح من أهل الدولة إليهما وإلى أبوابهما. وانصرفت الوجوه عن سواهما. وارتاب طشتمر بنفسه في ذلك وأغراه أصحابه بالتوثب بهذين الأميرين فلما كان ذو الحجة ستة تسع وسبعين استعجل أصحابه على غير روية وبعثوا إليه فأحجم وقعد عن الركوب. واجتمع برقوق وبركة بالإسطبل فركن إليه وقاتل مماليك طشتمر بالرميلة ساعة من نهار وانهزموا وافترقوا واستأمن طشتمر فأمنوه واستدعوه إلى القلعة فقبضوا عليه وعلى جماعة من أصحابه منهم أطلمش الأرغوني ومدلان الناظري وأمير حاج بن مغلطاي ودواداره أرغون. وبعث بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها. وبعث معهم بيبقا الناصري كذلك. ثم أفرج عنه لأيام وبعثه نائباً عن طرابلس. ثم أفرج عن طشتمر بعد ذلك إلى دمياط ثم إلى القدس إلى أن مات سنة سبع وثمانين. واستقامت الدولة للأميرين بعد اعتقالهما وخلت لهما من المنازعين. وولى الأمير برقوق أتابكاً وولى الماخورية الجابر الشمسي وولى قريبه أنيال أمير سلاح مكان بيبقا الناصري وولى اقمتر العثماني دواداراً مكان أطلمش الأرغوني. وولى الطنبغا الجوباني رأس نوبة ثانياً ودمرداش أمير مجلس. وتوفي بيبقا النظامي نائب حلب فولى مكانه عشقتمر المارداني. ثم استأذن عشقتمر فأذن له وحبس بالإسكندرية وولى بحلب تمرتاش الحسيني الدمرداشي. ثم أفرج عنه وأقام بالقدس قليلاً. ثم استدعاه بركة وأكرم نزله وبعثه نائباً إلى حلب. ثورة أنيال ونكبته كان أنيال هذا أمير سلاح وكان له مقام في الدولة وهو قريب الأمير برقوق وكان شديد الإنحراف على الأمير بركة ويحمل قريبه على منافرته ولا يجيبه إلى ذلك فاعتزم على الثورة وتحين لها سفر الأمير بركة إلى البحيرة يتصيد فركب الأمير برقوق في بعض تلك الأيام متصيداً بساحة البلد فرأى أن قد خلا له الجو فركب وعمد إلى باب الإسطبل فملكه ومعه جماعة من مماليكه ومماليك الأمير برقوق. وتقبضوا على أمير الماخورية جركس الخليلي. واستدعوا السلطان المنصور ليظهروه للناس فمنعه المقدمون من باب الستارة. وجاء الأمير برقوق من صيده ومعه الأتابك الشمسي فوصلوا إلى منزله خارج القلعة وأفرغوا السلاح على سائر مماليكهم وركبوا إلى ساحة الإسطبل. ثم قصدوا إلى الباب فأحرقوه وتسلق الأمير قرطاي المنصوري من جهة باب السر وفتحه لهم فدخلوا منه ودافعوا أنيال وانتقض عليه المماليك الذين كانوا معه من مماليك الأمير برقوق. ورموه بالسهام فانهزم ونزل إلى بيته جريحاً. وأحضر إلى الأمير برقوق فاعتذر له بأنه لم يقصد بفعلته إلا التغلب على بركة فبعث به إلى الإسكندرية معتقلاً وأعاد بيبقا الناصري أمير سلاح كما كان واستدعي لها من نيابة طرابلس. ووصل الخبر إلى بركة فأسرع الكر من البحيرة وانتظم الحال ونظروا في الوظائف التي خلت في هذه الفتنة فعمروها بمن يقوم بها. واختصوا بها من حسن غناؤه في هذه الواقعة مثل قردم وقرط وذلك سنة إحدى وثمانين. وأقام أنيال معتقلاً بالإسكندرية. ثم أفرج عنه في صفر سنة اثنتين وثمانين وولاه على طرابلس. ثم توفي منكلي بقا الأحمدي نائب حلب فولى أنيال مكانه. ثم تقبض عليه آخر السنة وحبس بالكرك وولى مكانه بيبقا الأحمدي فولى مكانه بندمر الخوارزمي. ثم توفي سنة إحدى وثمانين جبار بن المهنا أمير العرب بالشام فولي مكانه معيقل بن فضل ابن عيسى وزامل بن موسى بن ثورة بركة ونكبته واستقلال الأمير برقوق بالدولة كان هذا الأمير بركة يعادل الأمير برقوق في حمل الدولة كما ذكرناه وكان أصحابه يقوضون إليه الاستبداد في الأموال. وكان الأمير برقوق كثير التثبت في الأمور والميل إلى المصالح فيعارضهم في الغالب ويضرب على أيديهم في الكثير من الأحوال فغضوا بمكانه وأغروا بركة بالتوثب والاستقلال بالأمر وسعوا عنده بأشمس من كبار أصحاب الأمير برقوق وأنه يحمل برقوق على مقاطعة بركة ويفسد ذات بينهما وأنه يطلب الأمر لنفسه. وقد اعتزم على الوثوب عليهما فجاء بركة بذلك إلى الأمير برقوق وأراد القبض على أشمس فمنعه الأمير برقوق ودفع عنه وعظم انحراف بركة على أشمس ثم عن الأمير برقوق. وسعى في الإصلاح بينهما الأكابر حتى كمال الدين شيخ التكية والخلدي شيخ الصوفية من أهل خراسان. وجاؤوا بأشمس إلى بركة مستعتباً فأعتبه وخلع عليه. ثم عاود انحرافه ثانية فمسح أعطافه وسكن وهو مجمع الثورة والفتك. ثم عاود حاله تلك ثالثة. واتفق أن صنع في بيت الأمير برقوق لسرور وليمة في بعض أيام الجمعة في شهر ربيع سنة اثنتين وثمانين وحضر عنده أصحاب بركة كلهم وأهل شوكته وقد جاءه النصيح بأن بركة قد أجمع الثورة غداة يومه فقبض الأمير برقوق على من كان عنده من أصحاب بركة ليقص جناحه منهم. وأركب حاشيته للقبض عليه وأصعد بدلان الناصري على مأذنة مدرسة حسن فنضحه بالنبل في اسطبله وركب بركة إلى قبة النصر وخيم بها ونودي في العامة بنهب بيوته فنهبوها للوقت وخربوها. وتحيز إليه بيبقا الناصري فخرج معه وجلس الأمير برقوق بباب القلعة من ناحية الإسطبل وسرح الفرسان للقتال. واقتتلوا عامة يومهم فزحف بركة على تعبيتين إحداهما لبيبقا الناصري. وخرج الأق الشعباني للقائه وأشمس للقاء بيبقا الناصري فانهزم أصحاب بركة ورجع إلى قبة النصر وقد أثخنوا بالجراح وتسلل أكثرهم إلى بيته وأقام الليل ثم دخل إلى جامع البلدة وبات به. ونمي إلى الأمير برقوق خبره فأركب إليه الطنبقا الجوباني وجاء به إلى القلعة. وبعث به الأمير برقوق إلى الإسكندرية فحبس بها إلى أن قتله النائب صلاح الدين بن عزام وقتل به في خبر يأتي شرحه إن شاء الله تعالى. وتقبض على بيبقا الناصري وسائر شيعته من الأمراء وأودعهم السجون إلى أن استحالت الأحوال وولى وظائفهم من أوقف عليه نظره من أمراء الدولة. وأفرج عن أنيال الثائر قبله وبعثه نائباً على طرابلس واستقل بحمل الدولة وانتظمت به أحوالها. واستراب سندمر نائب دمشق لصحابته مع بركة فتقبض عليه وعلى أصحابه بدمشق وولي نيابة دمشق عشتمر ونيابة حلب أنيال. وولى أشمس الأتابكية مكان بركة والأق الشعباني أمير سلاح والطنبقا الجوباني أمير مجلس وأبقا العثماني دوادار وجركس الخليلي أمير الماخورية والله تعالى ولي التوفيق. انتقاض أهل البحيرة وواقعة العساكر كان هؤلاء الظواعن الذين عمروا الدولة من بقايا هوارة ومزاته وزناته يعمرونها عن تحت أيديهم من هذه القبائل وغيرهم يقومون بخراج بالسلطان كل سنة في إبانه وكانت الرياسة عليهم حتى في أداء الخراج لبدر بن سلام وآبائه من قبله وهو من زناتة إحدى شعوب لواتة. وكان للبادية المنتبذين مثل أبي ذئب شيخ أحياء مهرانة وعسرة ومثل بني التركية أمراء العرب بعقبة الإسكندرية اتصال بهم لاحتياجهم إلى الميرة من البحيرة. ثم استخدوا لأمراء الترك في مقاصدهم وأموالهم واعتزوا بجاههم وأسفوا على نظائرهم من هوارة وغيرهم. ثم حدثت الزيادة في وظائف الجباية كما هي طبيعية الدولة فاستثقلوها وحدثتهم أنفسهم بالامتناع منها لما عندهم من الاعتزاز فأرهقوا في الطلب وحبس سلام بالقاهرة وأجفل ابنه بدر إلى الصعيد بالقبلية واعترضته هناك عساكر السلطان فقاتلهم وقتل الكاشف في حربه. وسارت إليه العساكر سنة ثمانين مع الأق الشعباني وأحمد بن بيبقا وأنيال قبل ثورته فهربوا وعاثت العساكر في مخلفهم ورجعوا. وعاد بدر إلى البحيرة وشغلت الدولة عنهم بما كان من ثورة أنيال وبركة بعده واتصل فساد بدر وامتناعه فخرجت إليه العساكر مع الأتابك أشمس والأمير سلام والجوباني أمير مجلس وغيرهم من الأمراء الغربية. ونزلت العساكر البحيرة واعتزم بدر على قتالهم فجاءهم النذير بذلك فانتبذوا عن الخيام وتركوها خاوية. ووقفوا على مراكزهم حتى توسط القوم المخيم وشغلوا بنهبه فكرت عليهم العساكر فكادوا يستلحمونهم ولم يفلت منهم إلا الأقل. وبعث بدر بالطاعة واعتذر بالخوف وقام بالخراج فرجعت العساكر وولى بكتمر الشريف على البحيرة. ثم استبدل منه بقرط بن عمر. ثم عاد بدر إلى حاله فخرجت العساكر فهرب أمامها وعاث القرط فيهم وقتل الكثير من رجالهم وحبس آخرين ورجع عن بدر أصحابه مع ابن عمه ومات ابن شادي وطلب الباقي الأمان فأمنوا وحبس رجال منهم وضمن الباقون القيام بالخراج. واستأمن بدر فلم يقبل فلحق بناحية الصعيد واتبعته العساكر فهرب واستبيح مخلفه وأحياؤه ولحق ببرقة ونزل على أبي ذئب فأجاره وأستقام أمر البحيرة. وتمكن قرط من جبايتها وقتل رحاب وأولاد شادي. وكان قرطاي يستوعب رجالتهم بالقتل. وأقام بدر عند أبي ذئب يتردد ما بين أحيائه وبين الواحات حتى لقيه بعض أهل الثأر عنده فثأروا منه سنة تسع وثمانين وذهب مثلاً في الآخرين والله تعالى أعلم. كان الأمير بركة استعمل أيام إمارته خليل بن عزام أستاذ داره ثم اتهمه في ماله وسخطه ونكبه وصادره على مال امتحنه عليه. ثم أطلقه فكان يطوي له على النكث. ثم صار بركة إلى ما صار إليه من الاعتقال بالإسكندرية وتولى ابن عزام نيابتها فحاول على حاجة نفسه في قتل بركة. ووصل إلى القاهرة متبرئاً من أمره متخوفاً من مغبته ورجع. وقد طوى من ذلك على الدغل. ثم حمله الحقد الكامن في نفسه على اغتياله في جنح الليل فأدخل عليه جماعة متسلحين فقتلوه وزعم أنه أذن له في ذلك. وبلغ الخبر إلى كافل الدولة الأمير برقوق وصرح مماليكه بالشكوى إليه فأنكر ذلك وأغلظ على ابن عزام. وبعث دواداره الأمير يونس يكشف عن سببه وإحضار ابن عزام فجاء به مقيداً وأوقفه على شنيع مرتكبه في بركة فحلف الأمير ليقادن منه به. وأحضر إلى القلعة في منتصف رجب من سنة اثنتين وثمانين فضرب بباب القلعة أسواطاً. ثم حمل على جمل مشتهراً وأنزل إلى سوق الخيل فتلقاه مماليك بركة فتناولوه بالسيوف إلى أن تواقعت أشلاؤه بكل ناحية وكان فيه عظة لمن يتعظ أعادنا الله من درك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء انتهى. |
وفاة السلطان المنصور علي بن الأشرف
كان هذا السلطان علي بن الأشرف قد نصبه الأمير قرطاي في ثورته على أبيه الأشرف وهو ابن اثنتي عشرة سنة فلم يزل منصوراً والأمر ينتقل من دولة إلى دولة كما ذكرناه إلى أن هلك لخمس سنين من ولايته في صفر سنة ثلاث وثمانين فحضر الأمير برقوق واستدعى الأمراء واتفقوا على نصب أخيه أمير حاج ولقبوه الصالح وأركبوه إلى الإيوان فأجلسوه على التخت. وقلده الخليفة على العادة وجعل الأمير برقوق كافله في الولاية والنظر للمسلمين لصغره حينئذ عن القيام بهذه العهدة. وأفتى العلماء يومئذ بذلك وجعلوه من مضمون البيعة وقرئ كتاب التقليد على الأمراء والقضاة والخاصة والعامة في يوم مشهود وانفض الجمع وانعقد أمر السلطان وبيعته وضرب فيها للأمير برقوق بسهم والله تعالى مالك الأمور. وصول أنس الغساني والد الأمير برقوق وانتظامه في الأمراء أصل هذا الأمير برقوق من قبيلة جركس الموطنين ببلاد الشمال في الجبال المحيطة بوطء القفجاق والروس واللان من شرقيها المطلة على بسائطهم. ويقال إنهم من غسان الداخلين إلى بلاد الروم مع أميرهم جبلة بن الأيهم عندما أجفل هرقل إلى الشام وسار إلى القسطنطينية. وخبر مسيره من أرض الشام وقصته مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه متناقلة معروفة بين المؤرخين. وأما هذا الرأي فليس على ظاهره وقبيلة جركس من الترك معروفة بين النسابين ونزولهم بتلك المواطن قبل دخول غسان. وتحقيق هذا الرأي أن غسان لما دخلوا مع جبلة إلى هرفل أقاموا عنده ويئسوا من الرجوع لبلادهم. وهلك هرقل واضطرب ملك الروم وانتشرت الفتنة هنالك في ممالكهم. واحتاجت غسان إلى الحلف للمدافعة في الفتن وحالفوا قبائل جركس ونزلوا في بسيط جبلهم من جانبه الشرقي مما يلي القسطنطينية وخالطوهم بالنسب والصهر واندرجوا فيهم حتى تلاشت أحياؤهم. وصاروا إلى تلك الأماكن وأووا من البسائط إلى الجبال مع جركس فلا يبعد مع هذا أن تكون أنسابهم تداخلت معهم ممن انتسب إلى غسان من جركس وهو مصدق في نسبه ويستأنس له بما ذكرناه فهو نسبة قوية في صحته والله تعالى أعلم. وجلب هذا الأمير برقوق على عهد الأمير بيبقا عثمان قراجا من التجار المعروفين يومئذ بتلك الجهات فملكه بيبقا وربي في أطباق بيته وأوى من قصده وشد في الرماية والثقافة. وتعلم آداب الملك وانسلخ من جلده الخشونة وترشح للرياسة والإمارة والسعادة تشير إليه والعناية الربانية تحوم عليه. ثم كان ما ذكرناه من شأن مماليك بيبقا ومهلك كبيرهم يومئذ استدمر وكيف تقسموا بين الجلاء والسجن. وكان الأمير برقوق أعزه الله تعالى ممن أدركه التمحيص فلبث في سجن الكرك خمس سنين بين أصحاب له منهم فكانت تهويناً لما لقي من بوائقه ثم خلص من ذلك المحبس مع أصحابه وخلا سبيله فانطلقوا إلى الشام واستخلصهم الأمير منجك نائب الشام يومئذ. وكان بصيراً مجرباً فألقى محبته وعنايته على هذا الأمير لما رأى عليه من علامات القبول والسعادة. ولم يزل هناك في خالصته إلى أن هجس في نفس السلطان الأشرف استدعاه المرشحين من مماليكه. وهذا الأمير يقدمهم وأفاض فيهم الإحسان وأستضافهم لولده الأمير علي. ولم يكن إلا أيام وقد انتقض الجائي القائم بالدولة وركب على السلطان فأحضرهم السلطان الأشرف وأطلق أيديهم في خيوله المقربة وأسلحته المستجادة فاصطفوا منها ما اختاروه وركبوا في مدافعة الجائي وصدقوه القتال حتى دافعوه على الرميلة. ثم اتبعوه حتى ألقى نفسه في البحر فكان آخر العهد به. واحتلوا بمكان من أثره السلطان واختصاصه فسوغ لهم الإقطاعات وأطلق لهم الجرايات. ولهذا الأمير بين يديه من بينهم مزيد مكانة ورفيع محل إلى أن خرج السلطان الأشرف إلى الحج وكان ما قدمناه من انتقاض قرطاي واستبداده ثم استبداد أيبك من بعده وقد عظم محل هذا الأمير من الدولة ونما عزه وسمت رتبته. ثم فسد أمر أيبك وتغلب على الأمر جماعة من الأمراء مفترقي الأهواء. وخشي العقلاء انتقاض الأمر وسوء المغبة فبادر هذا الأمير وتناول الحبل بيده وجعل طرفه في يد بركة رديفه فأمسك معه برهة من الأيام. ثم إضطرب وانتقض وصار إلى ما صار إليه من الهلاك وكان من جميل الصنع الرباني له أن كيف الله غريبة في اجتماع شمل أبيه به فقدم وفد التجار بأبيه من قاصية بلادهم بعد أن أعملوا الحيلة في استخلاصه وتلطفوا في استخراجه وكان اسمه أنس فاحتفل ابنه الأمير برقوق من مبرته وأركب العساكر وسائر الناس على طبقاتهم لتلقيه وأعد الخيام بسرياقوس لنزوله فحضروا هنالك جميعاً في ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين. وجلس الأمير أنس الوافد صدر المجلس وهم جميعاً حفافيه من القضاة والأمراء ونصب السماط فطعم الناس وانتشروا. ثم ركبوا إلى البلد وقد زينت الأسواق وأوقدت الشموع وماجت السكك بالنظارة من عالم لا يحصيهم إلا خالقهم. وكان يوماً مشهوداً. وأنزله بالإسطبل تحت المدينة الناصرية ونظمه السلطان في أقربائه وبني عمه وبني إخوانه واجتمع شملهم به وفرض لهم الأرزاق وقررهم في الوظائف. ثم مات هذا الأب الوافد وهو الأمير أنس رحمه الله في أواسط وثمانين بعد أن أوصى بحجة إسلامه وشرفت مراتب الإمارة بمقامه. ودفنه السلطان بتربة الدوادار يونس. ثم نقله إلى المدفن بجوار المدرسة التي أنشأها بين القصرين سنة ثمان وثمانين والله يؤتي الملك من يشاء. |
الساعة الآن 10:17 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |