![]() |
خلع الصالح أمير حاج وجلوس برقوق على التخت واستبداده بالسلطان
كان أهل الدولة من البيبقاوية - وممن ولي منهم هذا الأمير برقوق - قد طمعوا في الاستبداد وظفروا بلذة الملك والسلطان ورتعوا في ظل الدولة والأمان. ثم سمت أحوالهم إلى أن يستقل أميرهم بالدولة ويستبد بها دون الأصاغر المنتصبين بالمملكة. وربما أشار بذلك بعض أهل الفتيا يوم بيعة أمير حاج وقال لا بد أن يشرك معه في تفويض الخليفة الأمير القائم بالدولة لتشد الناس إلى عقدة محكمة فأمضى الأمر على ذلك وقام الأمير بالدولة فأنس الرعية بحسن سياسته وجميل سيرته. واتفق أن جماعة من الأمراء المختصين بهذا الصبي المنصوب غصوا بمكان هذا الأمير وتفاوضوا في الغدر به. وكان متولي ذلك منهم أبقا العثماني دوادار السلطان. ونمي الخبر إليه بذلك فتقبض عليهم وبعث أبقا إلى دمشق على إمارته وغرب الآخرين إلى قوص فاعتقلوا هنالك حتى أنفذ الله فيهم حكمه وأشفق الأمراء من تدبر مثل هؤلاء عليهم وتفاوضوا في محو الأصاغر من الدست وقيامه بأمرهم مستقلاً فجمعهم لذلك في تاسع عشر رمضان سنة أربع وثمانين. وحضر الخاصة والعامة من الجند والقضاة والعلماء وأرباب الشورى والفتيا وأطبقوا على بيعته وعزل السلطان أمير حاج فبعث إليه أميرين من الأمراء فأدخلوه إلى بيته وتناولوا السيف من يده فأحضروها. ثم ركب هذا السلطان من مجلسه بباب الإسطبل وقد لبس شعار السلطنة وخلعة الخلافة فدخل إلى القصور السلطانية وجلس بالقصر الأبلق على التخت وأتاه الناس ببيعتهم إرسالاً. وانعقد أمره يومئذ ولقب الملك الظاهر وقرعت الطبول وانتشرت البشائر وخلع على أمراء الدولة مثل أشمس الأتابك والطنبقا الجوباني أمير مجلس وجركس الخليلي أمير الماخورية وسودون الشيخوني نائباً والطنبقا المعلم أمير سلاح ويونس النوروي دوادار وقردم الحسيني رأس نوبة. وعلى كتابه أوحد الدين بن ياسين كاتب سره أدال به من بدر الدين بن فضل الله كاتب سر السلطان من قبل وعلى جميع أرباب الوظائف من وزير وكاتب وقاض ومحتسب وعلى مشاهير العلم والفتيا والصوفية. وانتظمت الدولة أحسن انتظام وسر الناس بدخولهم في إيالة السلطان يقدر للأمور قدرها ويحكم أواخيها. وأستأذنه الطنبقا الجوباني أمير مجلس في الحج تلك السنة وأذن له فانطلق لقضاء فرضه وعاد انتهى والله تعالى أعلم. مقتل قرط وخلع الخليفة ونصب ابن عمه الواثق للخلافة كان قرط بن عمر من التركمان المستخدمين في الدولة وكان له إقدام وصرامة رقابهما إلى محل من مرادفة الأمراء في وجوههم ومذاهبهم. ودفع إلى ولاية الصعيد ومحاربة أولاد الكنز من العرب الجائلين في نواحي أسوان فكان له في ذلك غناء وأحسن في تشريدهم عن تلك الناحية. ثم بعث إلى البحيرة والياً عند انتقاض بدر بن سلام وفراره ومرجع العساكر من تمهيدها فقام بولايتها وتتبع آثار أولئك المنافقين وحسم عللهم. وحضر في فورة أنيال فجلا في ذلك اليوم لشهامته وإقدامه. وكان هو المتولي تسور الحائط وإحراق الباب الظهراني الذي ولجوا عليه وأمسكوه فكان يمت بهذه الوسائل أجمع والسلطان يرعى له إلا أنه كان ظلوماً غشوماً فكثرت شكايات الرعايا والمتظلمين به فتقبض عليه لأول بيعته وأودعه السجن. ثم عفا عنه وأطلقه وبقي مباكراً باب السلطان مع الخواص والأولياء وطوى على الغث وتربص بالدولة. ونمي عنه أنه فاوض الخليفة المتوكل بن المعتضد في الانتقاض والأجلاب على الدولة بالعرب المخالفين بنواحي برقة من أهل البحيرة وأصحاب بدر بن سلام وأن يفوض الخليفة الأمر إلى سوى هذا السلطان القائم بالدولة وبأنه داخل في ذلك بعض ضعفاء العقول من أمراء الترك ممن لا يؤبه له فأحضرهم من غداته وعرض عليهم الحديث فوجموا وتناكروا وأقر بعضهم واعتقل الخليفة بالقلعة. وأخرج قرط هذا لوقته فطيف به على الجمل مسمراً بلاغاً في عقابه. ثم سيق إلى مصرعه خارج البلد وقد بالسيف نصفين. وضم الباقون إلى السجون وولى السلطان الخلافة عمر بن إبراهيم الواثق من أقاربه وهو الذي كان الملك الناصر ولى أباه إبراهيم بعد الخليفة أبي الربيع وعزل عن ابنه أحمد كما مر وكان هذا كله في ربيع سنة خمس وثمانين وولي مكانه أخوه زكريا ولقب المعتصم واستقرت الأحوال إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. كان هذا الناصري من مماليك بيبقا وأرباب الوظائف في أيامه وكان له مع السلطان الظاهر ذمة وداد وخلة من لدن المربى والعشرة فقد كانوا أتراباً بها وكانت لهم دالة عليه لعلو سنه. وقد ذكرنا كيف استبدوا بعد أيبك ونصبوا الناصري أتابكاً ولم يحسن القيام عليها. وجاء طشتمر بعد ذلك فكان معه حتى في النكبة والمحبس. ثم أشخص إلى الشام وولي على طرابلس. ثم كانت ثورة أنيال ونكبته في جمادى سنة إحدى وثمانين فاستقدمهم من طرابلس وولي أمير سلاح مكان أنيال واستخلثه الأمير بركة وخلطه بنفسه. وكانت نكبته فحبس معه ثم أشخص إلى الشام. وكان أنيال قد أطلق من اعتقاله وولي على حلب سنة اثنتين وثمانين مكان منكلي بقري الأحمدي فأقام بها سنة أو نحوها. ثم نمي عنه خبر الانتقاض فقبض عليه وحبس بالكرك. وولى مكانه على حلب بيبقا الناصري في شوال سنة ثلاث وثمانين وقعد الظاهر على التخت لسنة بعدها واستبد بملك مصر. وكان الناصري لما عنده من الدالة يتوقف في انفاذ أوامره لما يراه من المصالح بزعمه والسلطان ينكر ذلك ويحقده عليه. وكان له مع الطنبقا الجوباني أمير مجلس أحد أركان الدولة حلف لم يغن عنه وأمر السلطان بالقبض على سولي بن بلقادر حين وفد عليه بحلب فأبى من ذلك صوناً لوفائه بزعمه ودس بذلك إلى سولي فهرب ونجا من النكبة. ووفد على السلطان سنة خمس وثمانين وجدد حلفه مع الجوباني ومع أشمس الأتابك ورجع إلى حلب. ثم خرج بالعساكر إلى التركمان آخر سنة خمس وثمانين دون إذن السلطان فانهزم وفسدت العساكر ونجا بعد ثالثة جريحاً وأحقد عليه السلطان هذه كلها. ثم استقدمه سنة سبع وثمانين فلما انتهى إلى سرياقوس تلقاه بها أستاذ دار فتقبض عليه وطير به إلى الإسكندرية فحبس بها عامين وولى مكانه بحلب الحاجب سودون المظفر وكان عيبة نصح للسلطان وعيناً على الناصري فيما يأتيه ويذره لأنه من وظائف الحاجب للسلطان في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو بطانة السلطان بما يحدث في عمله ويعترض شجى في صدر من يروم الانتقاض من ولاته. وكان هذا الحاجب سودون هو الذي ينمي أخباره إلى السلطان ويطلعه على مكامن مكره فلما حبس الناصري بالإسكندرية ولاه مكانه بحلب وارتاب الجوباني من نكبة الناصري لما كان بينهما من الوصلة والحلف فوجم واضطرب وتبين السلطان منه النكر فنكبه كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى وأقصاه والله أعلم. اقصاء الجوباني إلى الكرك ثم ولايته على الشام بعد واقعة بندمر أصل هذا الأمير الجوباني من قبائل الترك واسمه الطنبقا وكان من موالي بيبقا الخاصكي المستولي على السلطان الأشرف وقد مر ذكره ربي في قصره وجو عزه ولقن الخلال والأداب في كنفه. وكانت بينه وبين السلطان خلة ومصافاة أكسبتها تلك الكفالة بما كانا رضيعي ثديها وكوكبي أفقها وتربي مرقاها. وقد كان متصلاً فيما قبله بينهما من لدن المربى في بلادهم واشتمل بعضهم على بعض واستحكم الإتحاد حتى بالعشرة أيام التمحيض والإغتراب كما مر. فلقد كان معتقلاً معه بالكرك أيام المحنة خمساً من السنين أدال الله لهذا السلطان حزنها بالمسرة والنحوسة بالسعادة والسجن بالملك. وقسمت للجوباني بها شائبة من رحمة الله وعنايته في خدمة السلطان بدار الغربة والمحنة وألقته به في المنزل الخشن لتعظم له الوسائل وتكرم الأذمة والعهود إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن ثم كان انطلاقهما إلى الشام ومقامهما جميعاً واستدعاؤهما إلى دار الملك ورقيهما في درج العز والتغريب كذلك وكان للسلطان أصحاب سراة يمتون إليه بمثل هذا الوسائل وينتظمون في سلكها وكان متميز الرتبة عنهم سابقاً في مرقى درجات العز أمامهم مجلياً في الحلبة التي فيها طلقهم إلى أن ظفر بالملك واستولى على الدولة. وهو يستتبعهم في مقاماته ويوطئهم عقبه ويذلل لهم الصعاب فيقتحمونها ويحوز لهم الرتب فيستهمون عليها. ثم اقتعد منبر الملك والسلطان واستولى على كرسيه وقسم مراتب الدولة ووظائفها بين هؤلاء الأصحاب. وآثر الجوباني منهم بالصفاء والمرباع فجعله أمير مجلسه ومعناه صاحب الشورى في الدولة وهو ثاني الأتابك وتلو رتبته فكانت له القدم العالية من أمرائه وخلصائه والحظ الوافر من رضاه وإيثاره. وأصبح أحد الأركان التي بها عمد دولته بأساطينها وأرسى ملكه بقواعدها. إلى أن دبت عقارب الحسد إلى مهاده وحومت شباة السعاية على قرطاسه وارتاب السلطان بمكانه وأعجل الحزم على إمهاله فتقبض عليه يوم الاثنين لسبع بقين من سنة سبع وثمانين وأودعه بعض حجر القصر عامة يومه. ثم أقصاه إلى الكرك وعواطف الرحمة تنازعه وسجايا الكرم والوفاء تقض من سخطه. ثم سمح وهو بالخير أسمح وجنح وهو إلى الأدنى من الله أمنح فسرح إليه من الغد بمرسوم النيابة على تلك الأعمال فكانت غريبة لم يسمع بمثلها من حلم هذا السلطان وأناقه وحسن نيته وبصيرته وكرم عهده وجميل وفائه. وانطلقت الألسن بالدعاء له وامتلأت القلوب بالمحبة. وعلم الأولياء والخاصة والشيع والكافة أنهم في كفالة أمن ولطف وملكة إحسان وعدل. ثم مكث حولاً يتعقب أحواله ويتتبع سيره وأخباره طاوياً شأنه في ذلك عن سائر الأولياء إلى أن وقف على الصحيح من أمره وعلم خلوص مصادقته وجميل خلوصه. فأخفق سعي الداعين وخابت ظنون الكاشحين وأداله العتبى من العتاب والرضا من النكرى واعتقد أن يمحو عنه هواجس الاسترابة والاستيحاش ويرده إلى أرفع الإمارة. وبينما هو يطوي على ذلك ضميرة ويناجي سره إذ حدثت واقعة بندمر بالشام فكانت ميقاتاً لبدر السعادة وعلماً على فوزه بذلك الحظ كما نذكر إن شاء الله تعالى. وخبر هذه الواقعة أن بندمر الخوارزمي كان نائباً بدمشق وقد مر ذكره غير مرة وأصله من الخوارزمية أتباع خوارزم شاه صاحب العراق عند استيلاء التتر وافترقوا عند مهلكه على يد جنكز خان في ممالك الشام واستخدموا لبني أيوب والترك أول استبدادهم بمصر. وكان هذا الرجل من أعقاب أصلهم وكان له نجابة جذبت بضبعه ونصب عند الأمراء من سوقه فاستخدم بها إلى ترشح للولاية في الأعمال وتداول إمارة دمشق مع منجك اليوسفي وعشقتمر الناصري وكان له انتقاض بدمشق عند تغلب الخاصكي وحاصره واستنزله بأمانه. ثم أعيد إلى ولايته. ثم تصرمت تلك الدول وتغلب هذا السلطان على الأمر ورافه فيه فولوه على دمشق وكانت صاغيته مع بركة. فلما حدث انتقض بركة كتب إليه إلى بقرى بدمشق أولياؤه هنالك بالاستيلاء على القلعة. وكتب برقوق إلى نائب القلعة حذرهم فركب جنتمر أخ طاز وابن جرجي ومحمد بيك وقاتلوه ثلاثاً. ثم أمسكوه وقيدوه معه بقري بن برقش وجبريل مرتبه وسيقوا إلى الإسكندرية فحبسوا. فلما قتل بركة طلق بندمر ومن كان حبس من أصحاب بركة مثل بيبقا الناصري ودمرداش الأحمدي. ثم استخلصه السلطان برقوق ورده إلى عمله الأول بعد جلوسه على التخت والشام له. كان جماعاً للأموال شديد الظلامة فيها متحيلاً على استخلاصها من أيدي أهلها بما يطرق لهم من أسبابها العقاب. مصانعاً للحاشية بماله من حاميته إلى أن سئم الناس إيالته وترحمت القلوب منه. وكان بدمشق جماعة من الموسوسين المسامرين لطلب العلم بزعمهم متهمون في عقيدتهم بين مجسم ورافضي وحلولي جمعت بينهم أنساب الضلال والحرمان وقعدوا عن نيل الرتب بما هم فيه. تلبسوا بإظهار الزهد والنكير على الخلق حتى على الدولة في توسعة بطلان الأحكام والجباية عن الشرع والسياسة التي تداولها الخلفاء وأرخص فيها العلماء وأرباب الفتيا وحملة الشريعة بما تمس إليه الحاجة من الوازع السلطاني والمعونة على الدفاع. وقديماً نصبت الشرطة الصغرى والكبرى ووظيفة المظالم ببغداد دار السلام ومقر الخلافة وإيوان الدين والعلم وتكلم الناس فيها بما هو معروف وفرضت أرزاق العساكر في أثمان البياعات عند حاجة الدولة الأموية فليس ذلك من المنكر الذي يعتد بتغييره فلبس هؤلاء الحمقى على الناس بأمثال هذه الكلمات وداخلوا من في قلبه مرض من الدولة. وأوهموا أن قد توثقوا من الحل والعقد في الإنتقاض فرية انتحلوها وجمعاً أنهوه نهايته. وعدوا على كافل القلعة بدمشق وحاميتها يسألونهم الدخول معهم في ذلك لصحابة كانت بين بعضهم وبينه فاعتقلهم وطالع السلطان بأمرهم. وتحدث الناس أنهم داخلوا في ذلك بندمر النائب بمداخلة بعضهم كابنه محمد شاه. ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فارتاب به وعاجله بالقبض والتوثق منه ومن حاشيته. ثم أخرج مستوفي الأموال بالحضرة لاستخلاص ما احتازه من أموال الرعايا واستأثر به على الدولة وأحضر هؤلاء الحمقى ومن بسوء سيرتهم مقتدون إلى الأبواب العالية فقذفوا في السجون وكانوا أحق بغير ذلك من أنواع العذاب والنكال. وبعث السلطان لعشقتمر الناصري وكان مقيماً بالقدس أن يخرج نائباً على دمشق فتوجه إليها وأقام رسم الإمارة بها أياماً ظهر فيها عجزه وبين عن تلك الرتبة قعوده بما أصابه من وهن الكبر وطوارئ الزمانة والضعف حتى زعموا أنه كان يحمل على الفراش في بيته إلى منعقد حكمه فعندها بعث السلطان عن هذا الأمير الجوباني وقد خلص من الفتن أبريزه وأينع بنفحات الرضا والقبول عوده وأفرح بمطالعة الأنس والقرب روعه. فجاء من الكرك على البريد وقد أعدت له أنواع الكرامة وهيء له المنزل والركاب والفرش والثياب والآنية والخوان والخرثى والصوان واحتفل السلطان لقدومه وتلقيه بما لم يكن في أمله. وقضى الناس العجب من حلم هذا السلطان وكرم عهده وجميل وفائه وتحدث به الركبان. ثم ولاه نيابة دمشق وبعثه لكرسيه مطلق اليد ماضي الحكم عزيز الولاية وعسكر بالزيدانية ظاهر القاهرة ثالث ربيع الأول من سنة سبع وثمانين وارتحل من الغد وسعادة السلطان تقدمه ورضاه ينقله إلى أن قارب دمشق والناس يتلقونه إرسالاً. ثم دخل المدينة غرة ربيع الثاني وقد احتفل الناس لقدومه وغصت السكك بالمتنزهين وتطاول إلى دولته أرباب الحدود. وتحدث الناس بجمال هذا المشهد الحفيل وتناقلوا خبره. واستقل بولاية دمشق وعناية السلطان تلاحظه ومذاهب الطاعة والخلوص تهديه بحسن ذكره. وأفاض الناس الثناء في حسن اختياره وجمال مذهبه وأقام السلطان بفي وظيفته أحمد ابن الأمير بيبقا فكان أمير مجلس والله غالب على أمره. |
هدية صاحب إفريقية
كان السلطان لهذا العهد بإفريقية من الموحدين ومن أعقاب الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي المستبد بإفريقية على بني عبد المؤمن ملوك مراكش أعوام خمس وعشرين وستمائة. وهو أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يحيى ابن إبراهيم أبي زكريا سلسلة ملوك كلهم. ولم تزل ملوك المغرب على القدم ولهذا العهد يعرفون لملوك الترك بمصر حقهم ويوجبون لهم الفضل والمزية بما خصهم الله من ضخامة الملك وشرف الولاية بالمساجد المعظمة وخدمة الحرمين. وكانت المهاداة بينهم تتصل بعض الأحيان ثم تنقطع بما يعرض في الدولتين من الأحوال. وكان لي اختصاص بذلك السلطان ومكان من محبسه ولما رحلت إلى هذا القطر سنة أربع وثمانين واتصلت بهذا السلطان بمصر الملك الظاهر سألني عنه لأول لقيه فذكرته له أوصافه الحميدة وما عنده من الحب والثناء ومعرفة حقه على المسلمين أجمع وعلى الملوك خصوصاً في تسهيل سبيل الحج وحماية البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود أحسن الله جزاءه ومثوبته. ثم بلغني أن السلطان بإفريقية صد أهلي وولدي عن اللحاق بي اغتباطاً بمكاني وطلباً لفيئتي إلى بابه ورجوعي فتطارحت على هذا السلطان في وسيلة شفاعة تسهل منه الأذن فاسعفني بذلك وخاطبت ذلك السلطان كان الله له أغبطه بمودة هذا السلطان والعمل على مواصلته ومهاداته كما كان بين سلفهم في الدولتين فقبل مني وبادر إلى إتحافه بمقربات إذ ليس عندنا في المغرب تحفة تطرف بها ملوك الشرق إلا الجياد العرب. وأما ما سوى ذلك من أنواع الطرف والتحف بالمغرب فكثير لديهم أمثاله ويقبح أن يطرف عظماء الملوك بالتافه المطروح لديهم. واختار لتلك سفينته التي أعدها لذلك وأنزل بها أهلي وولدي بوسيلة هذا السلطان أيده الله لسهولة سبيل البحر وقرب مسافته. فلما قاربوا مرسى الإسكندرية عاقتهم عواصف الرياح عن احتلال السفينة وغرق معظم ما فيها من الحيوان والبضائع وهلك أهلي وولدي فيمن هلك. ونفقت تلك الجياد وكانت رائعة الحسن صافية النسب وسلم من ذلك المهلك رسول جاء من ذلك السلطان لمد العهد. وتقرر المودة فتلقي بالقبول والكرامة وأوسع النزل والقرى. ثم اعتزم على العودة إلى مرسله فانتقى السلطان ثياباً من الوشي المرقوم من عمل العراق والإسكندرية يفوت القيمة واستكثر منها واتحف بها السلطان ملك إفريقية على يد هذا الرسول على عادة عظماء الملوك في اتحافهم وهداياهم. وخاطبت ذلك السلطان معه بحسن الثناء على قصده وجميل موقع هديته من السلطان واستحكام مودته له. وأجابني بالعذر من الموقع وأنه مستأنف من الاتحاف للسلطان واستحكام مودته بما يسره الحال. فلما قدم الحاج من المغرب سنة ثمان وثمانين وصل فيهم من كبار الغرب بدولته وأبناء الأعاظم المستبدين على سلفه عبيد بن القائد أبي عبد الله محمد بن الحكيم بهدية من المقربات رائقة الحلي رائعة الأوصاف منتخبة الأجناس والأنساب غريبة الألوان والأشكال. فأعترضها السلطان وقابلها بالقبول وحسن الموقع. وحضر الرسول بكتابه فقرئ وأكرم حامله وأنعم عليه بالزاد لسفر الحج. وأوصى أمراء المحمل فقضى فرضه على أكمل الأحوال وكانت أهم أمنياته. ثم أنقلب ظافراً بقصده وأعاده السلطان إلى مرسله بهدية نحو من الأولى من أجناس تلك الثياب ومستجادها مما يجاوز الكثرة ويفوت واستحكمت عقدة المودة بين هذين السلطانين. وشكرت الله على ما كان فيها من أثر مسعاي ولو قل. وكان وصل في جملة الحاج من المغرب كبير العرب من هلال وهو يعقوب بن علي بن أحمد أمير رياح الموطنين بضواحي قسنطينة وبجاية والزاب في وفد من بنيه وأقربائه. ووصل في جملتهم أيضاً عون بن يحيى طالب بن مهلهل من الكعوب أحد شعوب سليم الموطنين بضواحي تونس والقيروان والجريد وبنو أبيه فقضوا فرضهم أجمعون وانقلبوا إلى مواطنهم أواسط شهر ربيع الآخر من سنة تسع وثمانين واطردت أحوال هذه الدولة على أحسن ما يكون والله متولي أمرها بمنه وكرمه انتهى. حوادث مكة وأمرائها قد تقدم لنا أن ملك مكة سار في هذه الأعصار لبني قتادة من بني مطاعن الهواشم بني حسن وذلك منذ دولة الترك. وكان ملكهم بها بدوياً وهم يعطون الطاعة لملك مصر ويقيمون مع ذلك الدولة العباسية للخليفة الذي ينصبه الترك بمصر إلى أن استقر أمرها آخر الوقت لأحمد بن عجلان من رميثة بن أبي نمي أعوام سنة ستين وسبعمائة بعد أبيه عجلان فأظهر في سلطان عدلاً وتعففاً عن أموال الناس وقبض أيدي أهل العيث والظلم وحاشيتهم وعبيدهم وخصوصاً عن المجاورين. وأعانه على ذلك ما كان له من الشوكة بقوة أخواله ويعرفون بني عمر من اتباع هؤلاء السادة ومواليهم فاستقام أمره وشاع بالعدل ذكره وحسنت سيرته. وامتلأت مكة بالمجاورين والتجار حتى غصت بيوتها بهم. وكان عنان ابن عمه مقامس بن رميثة ومحمد ابن عمه مقامس بن رميثة ينفسون عليه ما آتاه الله من الخير ويجدون في أنفسهم إذ ليس يقسم لهم برظاهم في أموال جبايته فتنكروا له. وهموا بالإنتقاض فتقبض عليهم وكان لهم حلف مع أخيه محمد بن عجلان فراوده على تركهم أو حبسهم فحبسوا ولبثوا في محبسهم ذلك حولاً أو فوقه. ثم نقبوا السجن ليلاً وفروا فأدركوا من ليلتهم وأعيدوا إلى محبسهم وأفلت منهم عنان بن مقامس ونجا إلى مصر سنة ثمان وثمانين صريخاً بالسلطان. وعن قليل وصل الخبر بوفاة أحمد بن عجلان على فراشه وأن أخاه كبيش بن عجلان نصب ابنه محمداً مكانه وقام بأمره وأنه عمد إلى هؤلاء المعتقلين فسمهم صوناً للأمر عنهم لمكان ترشيحهم فنكر السلطان ذلك وسخطه من فعلاتهم وافتياتهم. ونسب إلى كبيش وإنه يفسد بالفساد بين هؤلاء الأقارب. ولما خرج الحاج سنة ثمان وثمانين أوصى أمير حاج بعزل بالصبي المنصوب والاستبدال عنه بابن عنان بن مقامس والقبض على كبيش. ولما وصل الحاج إلى مكة وخرج الصبي لتلقي المحمل الخلافي وقد أرصد الرجال حفافيه للبطش بكبيش وأميره المنصوب فقعد كبيش عن الحضور وجاء الصبي وترجل عن فرسه لتقبيل الخف من راحلة المحمل على العادة فوثب به أولئك المرصدون طعناً بالخناجر يظنونه كبيشاً. ثم غابوا فلم يوقف لهم على خبر وتركوه طريحاً بالبطحاء. ودخل الأمير إلى الحرم فطاف وسعى وخلع على عنان بن مقامس الإمارة على عادة من سلف من قومه. ونجا كبيش إلى جدة من سواحل مكة. ثم لحق بأحياء العرب المنتبذين ببقاع الحجاز صريخاً فقعدوا عن نصرته وفاء بطاعة السلطان وافترق أمره وخذله عشيره وانقلب الأمير بالحاج إلى مصر فعنفه السلطان على قتله الصبي فاعتذر بافتيات أولئك الرجال عليه فعذره. وجاء كبيش بعد منصرف الحاج وقد انضم إليه أوباش من العرب فقعد بالمرصد يخيف السابلة والركاب والمسافرين. ثم زحف إلى مكة وحاصرها أول سنة تسع وثمانين وخرج عنان بن مقامس بعض الأيام وبارزه فقتله واضطرب الأمر بمكة وامتدت أيدي عنان والأشرار معه إلى أموال المجاورين فتسلطوا عليها ونهبوا زرع الأمراء هنالك وزرع السلطان للصدقة. وولى السلطان علي بن عجلان واعتقله حسماً لمادة طوارق الفساد عن مكة واستقر الحال على ذلك إلى أن كانت فتنة الناصر كما نذكر إن شاء الله تعالى انتهى. كان منطاش هذا وتمرتاي الدمرداشي الذي مر ذكره أخوين لتمراز الناصري من موالي الملك الناصر محمد بن قلاوون وربيا في كفالة أمهما. وكان اسم تمرتاي محمداً وهو الأكبر واسم منطاش أحمد وهو الأصغر. واتصل تمرتاي بالسلطان الأشرف وترقى في دولته في الوظائف إلى أن ولي بحلب سنة ثمانين وكانت واقعته مع التركمان. وذلك إنه وفد عليه أمراؤهم فقبض عليهم لما كان من عيثهم في النواحي واجتمعوا فسار إليهم وأمده السلطان بعساكر الشام وحماة وانهزموا أمامهم إلى الدربند ثم كروا على العساكر فهزموها في المضايق وتوفي تمرتاي سنة اثنتين وثمانين وكان السلطان الظاهر برقوق يرعى لهما هذا الولاء فولى منطاش على ملطية. ولما قعد على الكرسي واستبد بالسلطان بدت من منطاش علامات الخلاف فهم به. ثم راجع ووفد وتنصل للسلطان وكان سودون باق من أمراء الألوف خالصة للسلطان ومن أهل عصبيته. وكان من قبل ذلك في جملة الأمير تمرماي فرعا لمنطاش حق أخيه وشفع له عند السلطان وكفل حسن الطاعة منه وأنه يخرج على التركمان المخالفين ويحسم علل فسادهم. وانطلق إلى قاعدة عمله بملطية. ثم لم تزل آثار العصيان بادية عليه وربما داخل أمراء التركمان في ذلك ونمي الخبر إلى السلطان فطوى له وشعر هو بذلك فراسل صاحب سيواس قاعدة بلاد الروم وبها قاض مستبد على صبيي من أعقاب بني أرشى ملوكها من عهد هلاكو قد ولما وصلت رسل منطاش وكتبه إلى هذا القاضي بادر بإجابته وبعث رسلاً وفداً من أصحابه في إتمام الحديث معه فخرج منطاش إلى لقائهم واستخلف على ملطية دواداره وكان مغفلاً فخشي مغبة ما يرومه صاحبه من الانتقاض فلاذ بالطاعة وتبرأ من منطاش وأقام دعوة السلطان في البلد. وبلغ الخبر إلى منطاش فاضطرب. ثم استمر وسار مع وفد القاضي إلى سيواس فلما قدم عليه وقد انقطع الحبل في يده أعرض عنه وصار إلى مغالطة السلطان عما أتاه من مداخلة منطاش وقبض عليه وحبسه. وسرح السلطان سنة تسع وثلاثين عساكره مع يونس الدوادار وقردم رأس نوبة والطنبقا الرماح أمير سلاح وسودون باق من أمراء الألوف. وأوعز الناصري فأتى وطلب أن يخرج معهم بعساكره وإلى أنيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق وساروا جميعاً. وكان يومئذ ملك التتر بما وراء النهر وخراسان تمر من نسب جفطاي قد زحف إلى العراقين وأذربيجان وملك توريز عنوة واستباحها وهو يحاول ملك بغداد. فسارت هذه العساكر توري بغزوه ودفاعه حتى إذا بلغوا حلب أتى إليهم الخبر بأن تمر رجع بعساكره لخارج خرج عليه بقاصية ما وراء النهر فرجعت عساكر السلطان إلى جهة سيواس واقتحموا تخومها على حين غفلة من أهلها. فبادر القاضي إلى إطلاق منطاش لوقته. وقد كان أيام حبسه يوسوس إليه بالرجوع عن موالاة السلطان وممالأته. ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب حتى جنح إلى قوله فبعث لإحياء التتر الذين كانوا ببلاد الروم فيئة بن أريثا بن أول فسار إليهم واستجاشهم على عسكر السلطان وحذرهم استئصال شأفتهم باستئصال ملك ابن أريثا وبلده. ووصلت العساكر خلال ذلك إلى سيواس فحاصروها أياماً وضيقوا عليها وكادت أن تلقي باليد. ووصل منطاش إثر ذلك بإحياء التتر فقاتلهم العساكر ودافعوهم ونالوا منهم. وجلى الناصري في هذه الوقائع وأدرك العساكر الملل والضجر من طول المقام وبطء الظفر وانقطاع الميرة بتوغلهم في البلاد وبعد الشقة فتداعوا للرجوع ودعوا الأمراء إليه فجنح لذلك بعضهم فانكفئوا على تعبيتهم. وسار بعض التتر في اتباعهم فكروا عليهم واستلحموهم وخلصوا إلى بلاد الشام على أحسن حالات الظهور ونية العود ليحسموا علل العدو ويمحوا أثر الفتنة والله تعالى أعلم. |
نكبة الجوباني واعتقاله بالإسكندرية
كان الأمراء الذين حاصروا سيواس قد لحقهم الضجر والسآمة من طول المقام وفزع قردم والطنبقا المعلم منهم إلى الناصري مقدم العساكر بالشكوى من السلطان فيما دعاهم إليه من هذا المرتكب وتفاوضوا في ذلك ملياً وتداعوا إلى الإفراج عن البلد بعد أن بعثوا إلى القاضي بها واتخذوا عنده يداً بذلك. وأوصوه بمنطاش والإبقاء عليه ليكون لهم وقوفاً للفتنة. وعلم يونس الدوادار أنهم في الطاعة فلم يسعه خلافهم ففوض لهم. ولما انتهى إلى حلب غدا عليه دمرداش من أمرائها فنصح له بأن الجوباني نائب بدمشق مداخل للناصر في تمريضه في الطاعة وأنهما مصران على الخلاف. وقفل يونس إلى مصر فقص على السلطان نصيحته واستدعى دمرداش فشافه السلطان بذلك واطلع منه على جلي الخبر في شأنهما. وكان للجوباني مماليك أوغاد قد أبطرتهم النعمة واستهواهم الجاه وشرهوا إلى التوثب وهو يزجرهم فصاروا إلى إغرائه بالحاجب يومئذ طرنطاي فقعد في بيته عن المجلس السلطاني وطير بالخبر إلى مصر فاستراب الجوباني وسابقه بالحضور عند السلطان لينضح عنه ما علق به من الأوهام وأذن له في ذلك فنهض من دمشق على البريد في ربيع سنة تسعين. ولما انتهى إلى سرياقوس أزعج إليه أستاذ داره بهادر المنجكي فقبض عليه وطير به السفن إلى الإسكندرية. وأصبح السلطان من الغد فقبض على قردم والطنبقا المعلم وألحقهما به فحبسوا هنالك جميعاً. وانحسم ما كان يتوقع من انتقاضهم. وولى السلطان مكان الجوباني بدمشق طرنطاي الحاجب ومكان قردم بمصر ابن عمه مجماس ومكان المعلم دمرداش واستمر الحال على ذلك. فتنة الناصري واستيلاؤه على الشام ومصر واعتقال السلطان بالكرك لما بلغ الناصري بحلب اعتقال هؤلاء الأمراء استراب واضطرب وشرع في أسباب الإنتقاض ودعا إليه من يشيع الشر وسماسرة الفتن من الأمراء وغيرهم فأطاعوه وافتتح أمره بالنكير للأمير سودون المظفري والإنحراف عنه لما كان منه في نكبته وإغراء السلطان به ثم ولايته مكانه. ومن وظائف الحاجب في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو يطالع السلطان بما يحدث في عمله ويعترض شجى في صدر من يريد الإنتقاض من ولاته. فأظلم الجو بين هؤلاء الرهط وبين المظفري وتفاقم الأمر وطير بالخبر إلى السلطان فأخرج للوقت دواداره الأصغر تلكتمر ليصلح بينهما ويسكن الثائرة. وحينما سمعوا بمقدمه ارتابوا وارتبكوا في أمرهم وقدم تلكتمر فتلقاه الناصري وألقى إليه كتاب السلطان بالندب إلى الصلح مع الحاجب والإغضاء له فأجاب بعد أن التمس من حقائب تلكتمر مخاطبة السلطان وملاطفته للأمراء حتى وقف عليه. ثم غلب عليه أولئك الرهط من أصحابه بالفتك بالحاجب فأطاعهم وباكرهم تلكتمر بدار السعادة ليتم الصلح بينهم وتذهب الهواجس والنفرة فدعاه الناصر إلى بعض خلواته. وبينما هو يحادثه وإذا بالقوم قد وثبوا على الحاجب وفتكوا به. وتولى كبر ذلك أنبقا الجوهري واتصلت الهيعة فوجم تلكتمر ونهض إلى محل نزوله. واجتمع الأمراء إلى الناصري واعصوصبوا عليه. ودعاهم إلى الخلعان فأجابوا وذلك في محرم سنة إحدى وتسعين. واتصل الخبر بطرابلس وبها جماعة من الأمراء يرومون الإنتقاض منهم بدلار الناصري عميد الفتن فتولى كبرها وجمع الذين تمالأوا عليها وعمدوا إلى الإيوان السلطاني المسمى بدار السعادة وقبضوا على النائب وحبسوه ولحق بدلار الناصري في عساكر طرابلس وأمرائها. وفعل مثل ذلك أهل حلب وحمص وسائر ممالك الشام. وسرح السلطان العساكر لقتالهم. فسار أيتمش الأتابك ويونس الدوادار والخليلي جركس أمير الماخورية وأحمد بن بيبقا أمير مجلس وأيدكاز صاحب الحجاب فيمن إليهم من العساكر. وانتخب من أبطال مماليكهم وشجعانهم خمسمائة مقاتل واستضافهم إلى الخليلي وعقد لهم لواءه المسمى بالشاليش وأزاح عللهم وعلل سائر العساكر. وساروا على التعبية منتصف ربيع السنة. وكان الناصري لما فعل فعلته بعث عن منطاش وكان مقيماً بين أحياء التتر منذ رجوع العساكر عن سيواس فدعاه ليمسك معه حبل الفتنة والخلاف فجاء وملأه مبرة وإحساناً واستنفر طوائف التركمان والعرب ونهض في جموعه يريد دمشق وطرنطاي نائبها يواصل تعريف السلطان بالأخبار ويستحث العساكر من مصر على نائبها الأمير الصفوي وبينه وبين الناصر علاقة وصحبة فاسترابوا به وتقبضوا عليه ونهبوا بيته وبعثوا به حبيساً إلى الكرك وولوا مكانه محمد باكيش بن جند التركماني كان مستخدماً عند بندمر هو وأبوه وولى لهذا العهد على ثم تقدموا إلى دمشق واختاروا من القضاة وفداً أوفدوه على الناصري وأصحابه للإصلاح فلم يجيبوا وأمسكو الوفد عندهم وساروا للقاء. ولما تراءى الجمعان بالمرج نزع أحمد بن بيبقا وأيدكاز الحاجب ومن معهما إلى القوم فساروا معهم واتبعهم مماليك الأمراء وصدق القوم الحملة على من بقي فانفضوا ولجأ أيتمش إلى قلعة دمشق فدخلها وكان معه مكتوب السلطان بذلك متى احتاج إليه. وذهب يونس حيران وقد أفرده مماليكه فلقيه عنقا أمير الأمراء وكان عقد له بعض النزعات أيام سلطانه فتقبض عليه وأحيط بجركس الخليلي ومماليك السلطان حوله وقد أبلوا في ذلك الموقف واستلحم عامتهم فخلص بعض العدو إليه وطعنه فأكبه ثم احتز رأسه. وذهب ذلك الجمع شعاعاً وافترقت العساكر في كل وجه وجيء بهم أسرى من كل ناحية. ودخل الناصري وأصحابه دمشق لوقتهم واستولوا عليها وعاثت عساكرهم من العرب والتركمان في نواحيها. وبعث إليهم عنقا يستأذنهم في أمر يونس فأمر بقتله فقتله وبعث إليهم برأسه. وأوعزوا إلى نائب القلعة بحبس أيتمس عنده وفرقوا المحبوسين من أهل الواقعة على السجون بقلعة دمشق وصفد وحلب وغيرها. وأظهر ابن باكيس دعوته بغزة وأخذ بطاعتهم ومر به أنيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق ناجياً من الوقعة إلى مصر فقبض عليه وحبسه بالكرك. واستعد السلطان للمدافعة وولى دمرداش أتابكاً مكان أيتمش وقرماش الجندار دوادار مكان يونس وعمر سائر المراتب عمن فقد منها وأطلق الخليفة المعتقل المتوكل بن المعتضد وأعاده إلى خلافته وعزل مكانه. وأقام الناصري وأصحابه بدمشق أياماً ثم أجمعوا المسير إلى مصر ونهضوا إليها بجموعهم وعميت أنباؤهم حتى أطلت مقدمتهم على بلبيس. ثم تقدموا إلى بركة الحاج وخيموا بها لسبع من جمادى الأخيرة من السنة. وبرز السلطان في مماليكه ووقف أمام القلعة بقية يومه والناس يتسايلون إلى الناصري من العساكر ومن العامة حتى غصت بهم بسائط البركة واستأمن أكثر الأمراء مع السلطان إلى الناصري فأمنهم وأطلع السلطان على شأنهم وسارت طائفة من العسكر وناوشوهم القتال وعادوا منهزمين إلى السلطان. وارتاب السلطان بأمره وعاين انحلال عقدته فدس إلى الناصري بالصلح وبعث إليه بالملاطفة وأن يستمر على ملكه ويقوم بدولته خدمه وأعوانه. وأشار بأن يتوارى بشخصه أن يصيبه أحد من غير البيبقاوية بسوء. فلما غشيه الليل. أذن لمن بقي معه من مماليكه في الإنطلاق ودخل إلى بيته. ثم خرج متنكراً وسرى في غيابات المدينة. وباكرهم الناصري وأصحابه القلعة فاستولوا عليها ودعوا أمير حاج ابن الأشرف فأدوه إلى التخت كما كان ونصبوه للملك ولقبوه المنصور وبادروا باستدعاء الجوباني والأمراء المعتقلين بالإسكندرية فأغذوا السير ووصلوا ثاني يومهم. وركب الناصري وأصحابه للقائهم وأنزل الجوباني عنده بالإسطبل وأشركه في أمره وأصبحوا ينادون بطلب لسلطان الظاهر بقية يومهم ذلك ومن الغد حتى دل عليه بعض مماليك الجوباني وحين رآه قبل الأرض وبالغ في الأدب معه وحلف له على الأمان وجاء به إلى القلعة فأنزله بقاعة الغصبة واشتوروا في أمره. وكان حرص منطاش وزلار على قتله أكثر من سواهما. وأبى الناصري والجوباني إلا الوفاء بما اعتقد معهم واستقر الجوباني أتابك والناصري رأس النوبة الكبرى ودمرداش الأحمدي أمير سلاح وأحمد بن بيبقا أمير مجلس والأبقا العثماني دوادار وأنبقا الجوهري أستاذ دار. وعمرت الوظائف والمراتب. ثم بعثوا زلار نائباً على دمشق وأخرجوه إليها وبعثوا كتبغا البيبقاوي على حلب وكان السلطان قد عزله عن طرابلس واعتقله بدمشق فلما جاء في جملة الناصري بعثه على حلب مكانه. وقبضوا على جماعة من الأمراء فيهم النائب سودون باق وسودون الطرنطاي فحبسوا بعضهم بالإسكندرية وبعثوا آخرين إلى الشام فحبسوا هنالك وتتبعوا مماليك السلطان فحبسوا أكثرهم وأشخصوا بقيتهم إلى الشام يستخدمون عند الأمراء. وقبضوا على أستاذ دار محمود قهرمان الدولة وقارون القصري فصادروه على ألف ألف درهم. ثم أودعوه السجن. وهم مع ذلك يتشاورون في مستقر السلطان بين الكرك وقوص والإسكندرية حتى أجمعوا على الكرك ووروا بالإسكندرية حذراً إليه من منطاش. فلما أزف مسيره قعد له منطاش عند البحر رصداً وبات عامة ليله وركب الجوباني مع السلطان من القلعة وأركب معه صاحب الكرك موسى بن عيسى في لمة من قومه يوصلونه إلى الكرك. وسار معه برهة من الليل مشيعاً. ثم رجع وشعر منطاش من أمره وطوى على الغش وأخذ ثياب الثورة كما يذكر ونجا السلطان إلى الكرك في فل من غلمانه ومواليه ووكل الناصري به حسن الكشكي من خواصه وولاه على الكرك وأوصاه بخدمته ومنعه ممن يرومه بسوء فتقدمه إلى الكرك وأنزله القلعة وهيأ له النزول بما يحتاج إليه وأقام هنالك حتى وقع من لطائف الله في أمره ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى. وجاء الخبر أن جماعة من مماليك الظاهر كانوا مختفين منذ الوقعة فاعتزموا على الثورة بدمشق وأنهم ظفروا بهم وحبسوا جميعاً ومنهم أيبقا الصغير والله تعالى أعلم. ثورة منطاش واستيلاؤه على الأمر ونكبة الجوباني وحبس الناصري والأمراء البيبقاوية بالإسكندرية كان منطاش منذ دخل مع الناصري إلى مصر متربصاً بالدولة طاوياً جوانحه على الغدر لأنهم لم يوفروا حظه من الاقطاع ولم يجعلوا له اسماً في الوظائف حين اقتسموها ولا راعى له الناصري حق خدمته ومقارعته الأعداء. وكان ينقم عليه مع ذلك إيثاره الجوباني واختصاصه فاستوحش وأجمع الثورة وكان مماليك الجوباني لما حبس أميرهم وانتقض الناصري بحلب لحقوا به وجاؤوا به في جملته واشتملوا على منطاش فكان له بهم في ذلك السفر أنس وله إليهم صفو فداخل جماعة منهم في الثورة وحملهم على صاحبهم وتطفل على الجوباني في المخالصة بغشيان مجلسه وملابسة ندمائه وحضور مائدته. وكان البيبقاوية جميعاً ينقسمون على الناصري ويرون أنه مقصر في الرواتب والاقطاع وطووا من ذلك على النكث ودعاهم منطاش إلى التوثب فكانوا إليه أسرع وزينوه له وقعدوا عنه عند الحاجة. ونمي الخبر إلى الناصري والجوباني فعزموا على إشخاص منطاش إلى الشام فتمارض وتخلف في بيته أياماً يطاولهم ليحكم التدبير عليهم. ثم عدا عليه الجوباني يوم الاثنين وقد أكمن في بيته رجالاً للثورة فقبضوا على الجوباني وقتلوه لحينه. وركب منطاش إلى الرميلة فنهب مراكب الأمراء بباب الإسطبل ووقف عند مأذنة المدرسة الناصرية وقد شحنها ناشبة ومقاتلة مع أمير من أصحابه ووقف في حمايتهم. واجتمع إليه من داخله في الثورة من الأشرفية وغيرهم واجتمع إليه من كان بقي من مماليك الظاهر واتصلت الهيعة فركب الأمراء البيبقاوية من بيوتهم. ولما أفضوا إلى الرميلة وقفوا ينظرون مآل الحال وبرز الناصري من الإسطبل فيمن حضر وأمر الأمراء بالحملة عليهم فوقفوا فأحجم هو عن الحملة وتخاذل أصحابه وأصحاب منطاش. ومال إلى الناصري بمماليك الجوباني لنكبة صاحبهم فهددهم منطاش بقتله فافترقوا وتحاجز الفريقان آخر النهار وباكروا شأنهم من الغد. وحمل الناصري فانهزم. وأقاموا على ذلك ثلاثاً وجموع منطاش في تزايد. ثم انفض الناس عن الناصري عشية الأربعاء لسبعين يوماً من دخول القلعة. واقتحمها عليه منطاش ونهب بيوته وخزائنه وذهب الناصري حيران وأصحابه يرجعون عنه. وباكر البيبقاوية مجلس منطاش من الغد فقبض عليهم وسيق من تخلف منهم عن الناصري أفذاذاً وبعث بهم جميعاً إلى الإسكندرية. وبعث جماعة ممن حبسهم الناصري إلى قوص ودمياط. ثم جدد البيعة لأمير حاج المنصور. ثم نادى في مماليك السلطان بالعرض وقبض على جماعة منهم وفر الباقون. وبعث بالمحبوسين منهم إلى قوص وصادر جماعة من أهل الأموال وأفرج عن محمود أستاذ دار وخلع عليه ليوليه في وظيفته. ثم بدا له في أمره وعاود مصادرته وامتحانه واستصفى منه أموالاً عظيمة. يقال ستين قنطارا من الذهب. ولما استقل بتدبير الدولة عمر الوظائف والمراتب وولى فيها بنظره وبعث عن الأشقتمري من الشام وكان أخوه تمرتاي قد آخى بينهما فولاه النيابة الكبرى وعن استدمر بن يعقوب شاه فجعله أمير سلاح وعن أنبقا الصفوي فولاه صاحب الحجاب. واختص الثلاثة بالمشورة وأقامهم أركاناً للدولة. وكان إبراهيم بن باطلقتمر أمير جندار قد داخله في الثورة فرعى له ذلك وقدمه في أمراء الألوف. ثم بلغه أنه تفاوض مع الأمراء في الثورة به واستبداد السلطان فقبض عليه ثم أشخصه إلى حلب على إمارته هناك وكان قد اختص أرغون السمندار وألقى عليه محبته وعنايته فغشيه الناس وباكروا بابه وعظم في الدولة صيته. ثم نمي عنه أنه من المداخلين لإبراهيم أمير جندار فسطا به وامتحنه أن له على هؤلاء المداخلين لإبراهيم فلاذ بالإنكار وأقام في محبسه وأفرج عن سودون النائب فجاء إلى مصر فألزمه بيته واستمر الحال على ذلك انتهى. ثورة بذلار بدمشق ولما بلغ الخبر إلى بذلار بدمشق باستقلال منطاش بالدولة أنف من ذلك وارتاب وداخلته الغيرة أجمع الإنتقاض وكاتب نواب الممالك بالشام في حلب وغيرها يدعوهم إلى الوفاق فأعرضوا عنه وتمسكوا بطاعتهم. وكان الأمير الكبير بدمشق جنتمر أخو طاز يداخل الأمراء هناك في التوثب به وتوثق منهم للدولة وبلغ الخبر إلى بذلار فركب في مماليكه وشيعته يروم القبض عليه فلم يتمكن من ذلك واجتمعوا وظاهرهم عافة دمشق عليه فقاتلوه ساعة من نهار. ثم أيقن بالغلب والهلكة فألقى بيده وقبضوا عليه وطيروا بالخبر إلى منطاش وهو صاحب الدولة فأمر باعتقاله وهلك مريضاً في محبسه وولى منطاش جنتمر نيابة دمشق واستقرت الأحوال على ذلك. والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. |
خروج السلطان من الكرك وظفره بعساكر الشام وحصاره دمشق
ولما بلغ الخبر إلى السلطان الظاهر بالكرك بأن منطاش استقل بالدولة وحبس البيبقاوية جميعاً وأدال منهم بأصحابه أهمته نفسه وخشي غائلته ولم يكن عند منطاش لأول استقلاله أهم من شأنه وشأن السلطان فكتب إلى حسن الكشكي نائب الكرك بقتله وقد كان الناصري أوصاه في وصيته حين وكله به أن لا يمكنه ممن يرومه بسوء فتجافى عن ذلك واستدعى البريدي وفاوض أصحابه وقاضي البلد وكاتب السر فأشاروا بالتحرز من دمه جهد الطاقة. فكتب إلى منطاش معتذراً بالخطر الذي في ارتكابه دون إذن السلطان والخليفة فأعاد عليه الكتاب مع كتاب السلطان والخليفة بالإذن فيه واستحثه في الإجهاز عليه فأنزل البريدي وعلله بالوعد وطاوله يرجو المخلص من ذلك وكانوا يطوون الأمر عن السلطان شفقة وإجلالاً فشعر بذلك وأخلص اللجأ إلى الله والتوسل بإبراهيم الخليل لأنه كان يراقب مدفنه من شباك في بيته. وانطلق غلمانه في المدينة حتى ظفروا برجال داخلوهم في حسن الدفاع عن السلطان وأفاضوا فيهم فأجابوا وصدقوا ما عاهدوا عليه. واتعدوا لقتال البريدي وكان منزله بإزاء السلطان فتوافوا ببابه ليلة العاشر من رمضان وهجموا عليه فقتلوه ودخلوا برأسه إلى السلطان وشفار سيوفهم دامية. وكان النائب حسن الكشكي يفطر على سماط السلطان تأنيساً لهم فلما رآهم دهش وهموا بقتله فأجاره السلطان وملك السلطان أمره بالقلعة وبايعه النائب وصعد إليه أهل المدينة من الغد فبايعوه. ووفد عليه عرب الضاحية من بني عقبة وغيرههم فأعطوه طاعتهم وفشا الخبر في النواحي فتساقط إليه مماليكه من كل جهة وبلغت أخباره إلى منطاش فأوعز إلى ابن باكيش نائب غزة أن يسير في العساكر إلى الكرك وتردد السلطان بين لقائه والنهوض إلى الشام. ثم أجمع المسير إلى دمشق فبرز من الكرك منتصف شوال فعسكر بالقبة وجمع جموعه من العرب وسار في ألف أو يزيدون من العرب والترك وطوى المراحل إلى الشام. وسرح جنتمر نائب دمشق العساكر لدفاعه فيهم أمراء الشام وأولاد بندمر فالتقوا بشقحب وكانت بينهم واقعة عظيمة أجلت عن هزيمة أهل دمشق وقتل الكثير منهم وظفر السلطان بهم واتبعهم إلى دمشق ونجا الكثير منهم إلى مصر. ثم أحس السلطان بأن ابن باكيش وعساكره في اتباعه فكر إليهم وأسرى ليلته وصبحهم على غفلة في عشر ذي القعدة فانهزموا ونهب السلطان وقومه جميع ما معهم وامتلأت أيديهم واستفحل أمره ورجع إلى دمشق ونزل بالميدان. وثار العوام وأهل القبيبات ونواحيها بالسلطان وقصدوه بالميدان فركب ناجياً وترك أثقاله فنهبها العوام وسلبوا من لقوه من مماليكه ولحق بقبة بلبغا فأقام بها وأغلقوا الأبواب دونه فأقام يحاصرهم إلى محرم سنة اثنتين وتسعين. وكان كمشيقا الحموي نائب حلب قد أظهر دعوته في عمله وكاتبه بذلك عندما نهض من الكرك إلى الشام كما نذكره. ولما بلغه حصاره لدمشق تجهز للقائه واحتمل معه ما يزيح علل السلطان من كل صنف وأقام له أبهة. ووصل أنيال اليوسفي وقجماش ابن عم السلطان وجماعة من الأمراء كانوا محبوسين بصفد وكان مع نائبها جماعة من مماليك السلطان يستخدمون فغدروا به وأطلقوا من كان من الأمراء في سجن صفد كما نذكر ولحقوا بالسلطان. وتقدمهم أنيال وهو محاصر لدمشق فأقاموا معه والله تعالى أعلم. ثورة المعتقلين بقوص ومسير العساكر إليهم وإعتقالهم ولما بلغ الخبر إلى الأمراء المحبوسين بقوص خلاص السلطان من الإعتقال واستيلاؤه على الكرك واجتماع الناس إليه فثاروا بقوص أوائل شوال من السنة وقبضوا على الوالي بها وأخذوا من مودع القاضي ما كان فيه من المال. وبلغ خبرهم إلى مصر فسرح إليهم العساكر. ثم بلغه أنهم ساروا إلى أسوان وشايعوا الوالي بها حسن ابن قرط فلحن لهم بالوعد وعرض بالوفاق فطمعوا واعتزموا أن يسيروا من وادي القصب من الجهة الشرقية إلى السويس ويسيروا من هناك إلى الكرك. ولما وصل خبر بن قرط أخرج منطاش سندمر بن يعقوب شاه ثامن وعشرين من السنة وانكفأ جموعه وسار على العدوة الشرقية في جموعه لاعتراضهم فوصل إلى قوص. وبادر ابن قرط فخالفه إلى منطاش بطاعته فأكرمه ورده على عمله فوافى ابن يعقوب شاه بقوص وقد استولى على النواحي واستنزل الأمراء المخالفين. ثم قبض عليهم وقتل جميع من كان معهم من مماليك السلطان الظاهر ومماليك ولاة الصعيد. وجاء بالأمراء إلى مصر فدخل بهم منتصف ذي الحجة من السنة فأفرج عن أربعة منهم سوماي اللاي وحبس الباقين. والله تعالى أعلم. ثورة كمشيقا بحلب وقيامه بدعوة السلطان قد كنا قدمنا أن الناصري ولى كمشيقا رأس نوبة نيابة حلب ولما استقل منطاش بالدولة ارتاب ودعاه بذلار لما ثار بدمشق إلى الوفاق فامتنع. ثم بلغه الخبر بخلاص السلطان من الاعتقال بالكرك فأظهر الإنتقاض وقام بدعوة السلطان وخالفه إبراهيم بن أمير جندار. واعصوصب عليه أهل باقوسا من أرباض حلب فقاتلهم كمضيقا جميعاً وهزمهم. وقتل القاضي ابن أبي الرضا وكان معه في ذلك الخلاف واستقل بأمر حلب وذلك في شوال من السنة. ثم بلغه أن السلطان هزم عساكر دمشق وابن باكيش وإنه مقيم بقبة بلبغا محاصراً لدمشق بعد أن نهبوا أثقاله وأخرجوه عن الميدان فتجهز من حلب إليه في العساكر والحشود وجهز له جميع ما يحتاج إليه من المال والأقمشة والسلاح والخيل والإبل وخيام الملك بفرشها وماعونها وآلات الحصار وتلقاه السلطان وبالغ في تكرمته وفوض إليه الأتابكية والمشورة وقام معه محاصراً لدمشق. واشتد الحصار على أهل دمشق بعد وصوله واستكثار السلطان من المقاتلة وآلات الحصار وخرب كثيراً من جوانبها بحجارة المجانيق وتصدعت حيطانها وأضرم كثيراً من البيوت على أربابها فاحترقت واستولى الخراب والحريق على القبيبات أجمع وتفاحش فيها واشتد أهل القتال والدفاع من فوق الأسوار. وتولى كبر ذلك منهم قاضي الشافعية أحمد بن القرشي بما أشار عليهم وفاه أهل العلم والدين بالنكير فيه. وكان منطاش لما بلغه حصار دمشق بعث طنبقا الحلي دوادار الأشرف بمدد من المال يمد به العساكر هنالك وأقام معهم. ثم بعث جنتمر إلى أمير آل فضل يعبر بن جبار بستنجد به فجاء لقتالهم وسار كمشيقا نائب حلب فلقيه وفض جموعه وأسر خادمه وجاء به أسيراً فمن عليه السلطان وأطلقه وكساه وحمله ورده إلى ثورة أنيال بصفد بدعوة السلطان كان أنيال لما انهزم يوم واقعة دمشق فر إلى مصر ومر بغزة فاعتقله ابن باكيش وحبس بالكرك فلما استولى الناصري أشخصه إلى صفد فحبس بها مع جماعة من الأمراء وولى على صفد قلطبك النظامي فاستخدم جماعة من مماليك برقوق واتخذ منهم بلبغا السالمي دوادار فلما بلغه خلاص السلطان من الإعتقال ومسيره إلى الشام داخل بلبغا مماليك أستاذه قطلوبقا في الخلاف واللحاق بالسلطان. وهرب منهم جماعة فركب قطلوبقا في اتباعهم وأبقى بلبقا السالمي دوادار وحاجب صفد فأطلقوا أنيال وسائر المحبوسين من السلطان فملك أنيال القلعة ورجع قطلوبقا من اتباع الهاربين فوجدهم قد استولوا وامتنعوا. وارتاب من مماليكه فسار عن صفد ونهب بيته ومخلفه ولحق بالشام فلقي الأمراء المنهزمين أمام السلطان بشقحب قاصدين مصر فسار معهم ولحق أنيال بالسلطان من صفد بعد أن ضبطها واستخلف عليها وأقام مع السلطان والله تعالى أعلم. مسير منطاش وسلطانه أمير حاجي إلى الشام وانهزامهم ودخول منطاش إلى دمشق وظفر السلطان الظاهر بأمير حاجي والخليفة والقضاة وعوده لملكه ولما تواترت الأخبار بهزيمة عساكر الشام وحصار السلطان الظاهر دمشق وظهور دعوته في حلب وصفد وسائر بلاد الشام. ثم وصلت العساكر المنهزمون وأولاد بندمر ونائب صفد واستحثوه وتواترت كتب جنتمر نائب دمشق وصريخه أجمع منطاش أمره حينئذ على المسير إلى الشام فتجهز ونادى في العساكر وأخرج السلطان والخليفة والقضاة والعلماء سابع عشر ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وخيموا بالزيدانية من ناحية القاهرة حتى أزاح العلل. واستخلف على القاهرة دواداره صراي تمر وأطلق يده في الحل والعقد والتولية والعزل. واستخلف على القلعة بكا الأشرفي وعمد إلى خزانة من خزائن الذخيرة بالقلعة فسد بابها ونقبها من أعلاها حتى صارت كهيئة الجب ونقل إليها من كان في سحنه من أهل دولة السلطان. ونقل سودون النائب إلى القلعة فأنزله بها وأمر بالقبض على من بقي من مماليك السلطان حيث كانوا فتسربوا في غيابات المدينة ولاذوا بالإختفاء. وأوعز بسد كثير من أبواب الدروب بالقاهرة فسدت. ورحل في الثاني والعشرين من الشهر بالسلطان وعساكره على التعبية وطووا المراحل ونمي إليه أثناء طريقه أن بعض مماليك السلطان المستخدمين عند الأمراء مجموعون على التوثب ومداخلون لغيرهم فأجمع السطوة بهم ففروا ولحقوا بالسلطان. ولما بلغ خبر مسيرهم السلطان وهو محاصر دمشق ارتحل في عساكره إلى لقائهم ونزل قريباً من شقحب وأصبحوا على التعبية وكمشيقا بعساكر حلب في ميمنة السلطان ومنطاش قد عبى جيشه. وجعل السلطان أمير حاجي والخليفة والقضاة والرماة من ورائهم ووقف معهم تمارتمر رأس نوبة وسندمر بن يعقوب شاه أمير سلاح. ووقف هو في طائفة من مماليكه وأصحابه في حومة المعترك. فلما تراءى الجمعان حمل هو وأصحابه على ميمنة السلطان ففضوها وانهزم كمشيقا إلى حلب ومروا في اتباعه ثم عطفوا على مخيم السلطان فنهبوه وأسروا قجماش ابن عمه كان هناك جريحاً. ثم حطن السلطان على الذي فيه أمير حاجي والخليفة والقضاة فدخلوا في حكمه ووكل بهم واختلط الفريقان وصاروا في عمى من أمرهم والسلطان في لمة من فرسانه يخترق جوانب المعترك ويحطم الفرسان ويشردهم في كل ناحية وشراد مماليكه وأمرائه يتساقطون إليه حتى كثف جمعه. ثم حمل على بقية العسكر وهم ملتئمون على الصفدي فهزمهم ولحقوا بدمشق وضرب خيامه بشقحب. ولما وصل منطاش إلى دمشق أوهم النائب جنتمر أن الغلب له وأن السلطان أمير حاجي على الأثر ونادى العساكر بالخروج في السلاح لتلقيه وخرج من الغد مورياً بذلك فركب إليهم السلطان في العساكر فهزمهم وأثخن فيهم واستلحم كثيراً من عامة دمشق. ورجع السلطان إلى خيامه. وبعث أمير حاجي بالتبري من الملك والعجز عنه والخروج إليه من عهدته فأحضر الخليفة والقضاة فشهدوا عليه بالخلع وعلى الخليفة بالتفويض إلى السلطان والبيعة له والعود إلى كرسيه. وأقام السلطان بشقحب تسعاً واشتد كلب البرد وافتقدت الأقوات لقلة الميرة فأجمع العود إلى مصر ورحل يقصدها. وبلغ الخبر إلى منطاش فركب لاتباعه فلما أطل عليه أحجم ورجع واستمر السلطان لقصده وقدم حاجب غزة للقبض على ابن باكيش فقبض عليه. ولما وافى السلطان غزة ولى عليها مكانه وحمله معتقلاً وسار وهو مستطلع لأحوال مصر حتى كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. ثورة بكا والمتقلين بالقلعة واستيلاؤهم عليها بدعوة السلطان الظاهر وعوده إلى كرسيه بمصر وانتظام أمره كان منطاش لما فصل إلى الشام بسلطانه وعساكره كما مر واستخلف على القاهرة دواداره سراي تمر وأنزله بالإسطبل وعلى القلعة بكا الأشرفي ووكله بالمعتقلين هنالك فأخذوا أنفسهم بالحزم والشدة. ويعد أيام نمي إليهم أن جماعة من مماليك السلطان مجتمعون للثورة وقد داخلوا مماليكهم فبيتوهم وقبضوا عليهم بعد جولة دافع فيها المماليك عن أنفسهم. ثم تقبضوا على من داخلهم من مماليكهم وكانوا جماعة كثيرة وحدثت لهم بذلك رتبة واشتداد في الحزم فنادوا بالوعيد لمن وجد عنده أحد من مماليك السلطان ونقلوا ابن أخت السلطان من بيت أمه إلى القلعة وحبسوه وأوعزوا بقتل الأمراء المعتقلين بالفيوم فقتلوا وعميت عليهم أنباء منطاش ثم تلاوموا في ذلك ورجعوا إلى التضييق عليهم ومنع المترددين بأقواتهم فضاقت أحوالهم وضجروا وأهمتهم أنفسهم. وفي خلال ذلك عثر بعضهم على منفذ إلى سرب تحت الأرض يفضي إلى حائط الإسطبل ففرحوا بذلك وتنسموا ريح الفرج ولما أظلتهم ليلة الأربعاء غرة صفر سنة اثنتين وتسعين مروا في ذلك السرب فوجدوا فيه آلة النقب فنقبوا الحائط وأفضوا إلى أعلى الإسطبل وتقدم بهم خاصكي من أكابر الخاصكية وهجموا على الحراس فثاروا إليهم فقتلوا بعضهم بالقيود من أرجلهم وهرب الباقون ونادوا شعبان بكا نائب القلعة يوهمون أنه انتقض. ثم كسروا باب الإسطبل الأعلى والأسفل وأفضوا إلى منزل سراي تمر فأيقظه لغطهم وهلع من شأن بكا فأرمى نفسه من السور ناجياً ومر بالحاجب قطلو بقا ولحق بمدرسة حسن. وقد كان منطاش أنزل بها ناشبة من التركمان لحماية الإسطبل وأجرى لهم الأرزاق وجعلهم لنظر تنكز رأس نوبة. ثم هجم أصحاب بكا على بيت سراي تمر فنهبوا ماله وقماشه وسلاحه وركبوا خيله واستولوا على الإسطبل وقرعوا الطبول ليلتهم. وقاتلهم بكا من الغد. وسرب الرجال إلى الطبلخانات فملكها ثم أزعجوه عنها. وزحف سراي تمر وقطلو بقا الحاجب إلى الإسطبل لقتالهم وبرزوا إليهم فقاتلوهم واعتصموا بالمدرسة. واستولى بكا على أمره وبعث إلى باب السر من المدرسة ليحرقه فاستأمن إليه التركمان الذين به فأنزلهم على الأمان وسرب أصحابه في البلد لنهب بيوت منطاش وأصحابه فعاثوا فيها وتسلل إليه مماليك السلطان المختفون بالقاهرة فبلغوا ألفاً أو يزيد ون. ثم استأمن بكا من الغد فأمنه سودون النائب وجاء به إلى الناصري أمير سلحخ ودمرداش وكان عنده فحبسهما بكا. ثم وقف سودون على مدرسة حسن والأرض تموج بعوالم النظارة فاستنزل منها سراي تمر وقطلو بغا الحاجب فنزلا على أمانه. وهم العوالم بهما فحال دونهما وجاء بهما بكا فحبسهما. وركب سودون يوم الجمعة في القاهرة ونادى بالأمان والخطبة للسلطان فخطب له من يومه وأمر بكا بفتح السجون وإخراج من كان فيها في حبس منطاش وحكام تلك الدولة. وهرب الوالي حسن بن الكوراني خوفاً على نفسه لما كان شيعة لمنطاش على مماليك السلطان. ثم عثر عليه بكا وحبسه مع سائر شيعة منطاش وأطلق جميع الأمراء الذين حبسهم بمصر ودمياط والفيوم. ثم بعث الشريف عنان بن مقامس أمير بني حسن بمكة وكان محبوساً وخرج معهم فبعثه مع أخيه أيبقا على الهجن لاستكشاف خبر السلطان. ووصل يوم الأحد بعدها كتاب السلطان مع ابن صاحب الدرك سيف ين محمد بن عيسى العائدي بإعداد الميرة والعلوفة في منازل السلطان على العادة. وقص خبر الواقعة وأن السلطان توجه إلى مصر وانتهى إلى الرملة. ثم وصل أيبقا أخو بكا يوم الأربعاء ثامن صفر بمثل ذلك وتتابع الواصلون من عسكر السلطان ثم نزل بالصالحية وخرج السلطان لتلقيه بالعكرشة. ثم أصبح يوم الثلاثاء رابع صفر في ساحة القلعة وقلده الخليفة وعاد إلى سريره. ثم بعث عن الأمراء الذي كان حبسهم منطاش بالإسكندرية وفيهم الناصري والجوباني وابن بيبقا وقراد مرداش وأبغا الجوهري وسودون باق وسودون الطرنطاي وقردمر المعلم في آخرين متعددين واستعتبوا للسلطان فأعتبهم وأعادهم إلى مراتبهم وولى أنيال اليوسفي أتابكا والناصري أمير سلاح والجوباني رأس نوبة وسودون نائباً وبكا دوادار وقرقماش أستاذ دار وكمشيقا الخاصكي أمير مجلس وتطلميش أمير الماخورية وعلاء الدين كاتب سر الكرك كاتب سره بمصر وعمر سائر المراتب والوظائف. وتوفي قرقماش فولى محمود أستاذ داره الأول ورعى له سوابق خدمته ومحنة العدو له في محبته وانتطم أمر دولته واستوثق ملكه. وصرف نظره إلى الشام وتلافيه من مملكة العدو وفساده والله تعالى أعلم. |
ولاية الجوباني علي دمشق واستيلاؤه عليها
من يد منطاش ثم هزيمته ومقتله وولاية الناصري مكانه لما استقر السلطان على كرسيه بالقاهرة وانتظمت أمور دولته صرف نظره إلى الشام وشرع في تجهيز العساكر لإزعاج العدو منه وعين المجوباني لنيابة دمشق ورياسة لعساكر والناصري لحلب لأن السلطان كان عاهد كمشيقا على أتابكية مصر وعين قرا دمرداش لطرابلس ومأموناً القلحطاوي لحماة فولى في جميع ممالك الشام ووطائفه وأمرهم بالتجهيز. ونودي في العساكر بذلك وخرجوا ثامن جمادى الأولى من سنة اثنتين وتسعين. وكان منطاش قد اجتهد جهده في طي خبر السلطان بمصر عن أمرائه وسائر عساكره وما زال يفشو حتى شاع وظهر بين الناس فانصرف هواهم إلى السلطان. وبعث في أثناء ذلك الأمير يماز تمر نائباً على حلب فاجتمع أهل كانفوسا وحاصر كمشيقا بالقلعة نحواً من خمسة أشهر وشد حصارها وأحرق باب القلعة والجسر ونقب سورها من ثلاث مواضع. واتصل القتال بين الفريقين في أحد الأنقاب لشهرين على ضوء الشموع. ثم بعث العساكر إلى طرابلس مع ابن أيماز التركماني فحاصرها وملكوها من يد سندمر حاجب حجابها وكان مستولياً عليها بدعوة الظاهر. ولما ملكها ولى عليها قشتمر الأشرفي. ثم بعث العساكر إلى بعلبك مع محمد بن سندمر في نفر من قرابته وجنده فقتلهم منطاش بدمشق أجمعين. ثم أوعز إلى قشتمر الأشرفي نائب طرابلس بالمسير إلى حصار صفد فسار إليها وبرز إليه جندها فقاتلوه وهزموه فجهز إليها العساكر مع أبقا الصفدي كبير دولته فسار إليها في سبعمائة من العساكر. وقد كان لما تيقن عنده استيلاء السلطان على كرسيه بمصر جنح إلى الطاعة والإعتصام بالجماعة وكاتب السلطان بمغارمه ووعده فلما وصل إلى صفد بعث إلى نائبها بطاعته وفارق أصحاب منطاش ومن له هوى فيه وصفوا إليه وبات ليلته بظاهر صفد. وارتحل من الغد إلى مصر فوصلها منتصف جمادى الأخيرة وأمراء الشام معسكرون مع الجوباني بظاهر القلعة فأقبل السلطان عليه وجعله من أمراء الألوف. ولما رجع أصحابه من صفد إلى دمشق اضطرب منطاش وتبين له نكر الناس وارتاب بأصحابه وقبض جماعة من الأمراء وعلى جنتمر نائب دمشق وأبن جرجي من أمراء الألوف وابن قفجق الحاجب وقتله والقاضي محمد بن القرشي في جملة من الأعيان واستوحش الناس ونفروا عنه واستأمنوا إلى السلطان مثل محمد بن سندمر وغيره. وهرب كاتب السر بدر الدين بن فضل الله وناظر الجيش. وقد كانوا يوم الواقعة على شقحب لحقوا بدمشق يظنون أن السلطان يملكها يومه ذلك فبقوا في ملكة منطاش وأجمعوا الفرار مرة بعد أخرى فلم يتهيأ لهم. وشرع منطاش في الفتك بالمنتمين إلى السلطان من المماليك المحبوسين بالقلعة وغيرهم وذبح جماعة من الجراكسة وهم بقتل أشمس فدفعه الله عنه. وارتحل الأمراء من مصر في العساكر السلطانية إلى الشام مع الجوباني يطوون المراحل والأمراء من دمشق يلقونهم في كل منزلة هاربين إليهم حتى كان آخر من لقيهم ابن نصير أمير العرب بطاعة أبيه ودخلوا حدود الشام. ثم ارتبك منطاش في أمره واستقر الخوف والهلع والإسترابة بمن معه فخرج منتصف جمادى الأخيرة هارباً من دمشق في خواصه وأصحابه ومعه سبعون حملاً من المال والأقمشة. واحتمل معه محمد بن أينال وانتقض عليه جماعة من المماليك فرجعوا به إلى أبيه وكان يعبر بن جبار أمير آل فضل مقيماً في أحيائه ومعه أحياء آل مرو وأميرهم عنقا فلحق بهم هنالك منطاش مستجيراً فأجاروه ونزل معهم. ولما فصل منطاش عن دمشق خرج أشمس من محبسه وملك القلعة ومعه مماليك السلطان معصوصبون عليه وأرسل إلى الجوباني بالخبر فأغذ السير إلى دمشق وجلس بموضع نيابته وقبض على من بقي من أصحاب منطاش وخدمه مع من كان حبس هو معهم ووصل الطنبقا الحلبي ودمرداش اليوسفي من طرابلس. وكان منطاش استقدمهم وهرب قبل وصولهم وبلغ الخبر إلى أيماز تمر وهو يحاصر حلب وأهل كانفوسا معصوصبون عليه فأجفل ولحق بمنطاش وركب كمشيقا من القلعة إليهم بعد أن أصلح الجسر وأركب معه الحجاب وقاتل أهل كانفوسا ومن معهم من أشياع منطاش ثلاثة أيام. ثم هزموهم وقتل كمشيقا منهم أكثر من ثمانمائة وخرب وبعث الجوباني العساكر إلى طرابلس وملكوها من يد قشتمر الأشرفي نائب منطاش من غير قتال وكذلك حماة وحمص. ثم بعث الجوباني نائب دمشق وكافل الممالك الشامية إلى يعبر بن جبار أمير العرب بإسلام منطاش وإخراجه من أحيائه فامتنع واعتذر فبرز من دمشق بالعساكر ومعه الناصري وسائر الأمراء. ونهض إلى مصر فلما انتهوا إلى حمص أقاموا بها وبعثوا إلى يعبر يعتذرون إليه فلج واستكبر وحال دونه. وبعث إليه أشمس خلال ذلك من دمشق بأن جماعة شيعة بندمر وجنتمر يرومون الثورة فركب الناصري إلى دمشق وكبسهم وأثخن فيهم ورجع إلى المعسكر وارتحلوا إلى سلمية. واستمر يعبر في غلوائه وترددت الرسل بينهما فلم تغن. ثم كانت بين الفريقين حرب شديدة وحملت العساكر على منطاش والعرب فهزموهم إلى الخيام واتبع في مرداش منطاش حتى جاوز به الحي وارتحلت العرب وحملوا بطانتهم على العسكر فلم يثبتوا لحملتهم. وكان معهم آل علي بجموعهم فنهبوهم من ورائهم وانهزموا. وأفرد الجوباني مماليكه فأسره العرب وسيق إلى يعبر فقتله ولحق الناصري بدمشق وأسر جماعة من الأمراء وقتل منهم أيبقا الجوهري ومأمون المعلم في عدد آخرين ونهب العرب مخيمهم وأثقالهم. ودخل الناصري إلى دمشق فبات ليلته وباكر من الغد آل علي في أحيائهم فكبسهم واستلحم منهم جماعة فثار منهم بما فعلوه في الواقعة. ثم بعث إلى السلطان بنيابة دمشق منتصف شعبان من السنة فقام بأمرها وأحكم التصريف في حمايتها والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. إعادة محمود إلى استاذية الدار واستقلاله في الدولة هذا الرجل من ناشئة الترك وولدانهم ومن أعقاب كراي المنصوري منهم شب في ظل الدولة ومرعى نعمها ونهض بنفسه إلى الاضطلاع والكفاية وباشر كثيراً من أعمال الأمراء والوزراء حتى أوفى على ثنية النجابة وعرضته الشهرة على اختيار السلطان فعجم عوده ونقد جوهره. ثم ألحق به أغراض الخدمة ببابه فأصاب شاكلة الرمية ومضى قدماً في مذاهب السلطان مرهف الحد قوي الشكيمة فصدق ظنه وشكر اختياره. ثم دفعه إلى معاينة الحبس وشد الدواوين من وظائف الدولة فجلا فيهما. وهلك خلال ذلك أستاذ الدار بهادر المنجكي سنة تسعين فأقامه السلطان مكانه قهرماناً لداره ودولته ونظارته على دواوين الجباية من قراب اختياره ونقده جماعة للأموال نمواصاً على استخراج الحقوق السلطانية قاروناً للكنوز اكسيراً للنقود مغناطيساً للقنية يسابق أقلام الكتاب ويستوفي تفاصيل الحساب بمدارك إلهامه وتصور صحيح وحدس ثاقب لا يرجع إلى حذاقة الكتاب ولا إلى أيسر الأعمال بل يتناول الصعاب فيذللها ويحوم على الأغراض البعيدة فيقربها. وربما يحاضر بذكائه في العلوم فينفذ في مسائلها ويفحم جهابذتها موهبة من الله اختصه بها ونعمة أسبغ عليه لبوسها. فقام بما دفع إليه السلطان من ذلك وأدر خروج الجباية فضاقت أفنية الحواصل والخزائن بما تحصل وتسرب إليها وكفى السلطان مهمة في دولته ومماليكه ورجاله بما يسوغ لهم من نعمة ويوسع من أرزاقه وعطائه حتى أزاح عللهم بتوالي إنفاقه وقرت عين السلطان باصطناعه وغص به الدواوين والحاشية ففوقوا إليه سهام السعاية وسلطوا عليه ألسنة المتظلمين فخلص من ذلك خلوص الإبريز ولم تعلق به ظنة ولا حامت عليه ريبة. ثم طرق الدولة ما طرقها من النكبة والاعتقال وأودعته المحنة غيابات السجون وحفت به أنواع المكاره واصطلمت نعمته واستصفيت أمواله في المصادرة والامتحان حتى زعموا أن الناصري المتغلب يومئذ استأثر منه بخمسة قناطير من دنانير الذهب ومنطاش بعده بخمسة وخمسين. ثم خلص ابريزه من ذلك السبك وأهل قمره بعد المحاق واستقل السلطان من نكبته وطلع بأفق مصره وتمهد أريكة ملكه ودفعه لما كان بسبيله فأحسن الكرة في الكفاية لمهمه وتوسيع عطاياه وأرزاقه وتمكين أحوال دولته. وتسربت الجباية من غير حساب ولا تقرير إلى خزائنه وأحسن النظر في الصرف والخرج بحزمه وكفايته حتى عادت الأمور إلى أحسن معهودها بيمن تعبيته وسديد رأيه وصلابة عوده وقوة صرامته مع بذل معروفه وجاهه لمن تحت يده وبشاشته وكفايته لغاشيته. وحسن الكرامة لمنتابه ومقابلة من يأتي إليه بكرم مقاصده فأصبح طرازاً للدولة وتاجاً للخواص. وقذفه المنافسون بخطا السعايات فزلت في جهات حلم السلطان وجميل اعتباطه وتثبته حتى أعيتهم المذاهب وانسدت عليهم الطرق ورسخت قدمه في الدولة واحتل من السلطان بكرم العهد والذمة ووثق بغنائه واضطلاعه فرمى إليه مقاليد الأمور وأوطأ عقبه أعيان الخاصة والجمهور وأفرده في الدولة بالنظر في الأمور حسباناً وتقديراً وجمعاً وتقريراً وكنزاً موفراً وصرفاً لا يعرف تبذيراً وبطراً وفي الإنهاء بالعزل والإهانة مشهوراً مع ما يمتاز به من الأمر والشأن وسمو مرتبته على مر الأزمان. وهو على ذلك لهذا العهد عند سفر السلطان إلى الشام لمدافعة سلطان المغل كما مر ذكره والله متولي الأمور لا رب غيره. |
مسير منطاش ويعبر إلى نواحي حلب وحصارها
ثم مفارقة يعبر وحصاره عنتاب ثم رجوعه ولما انهزمت العساكر بسلمية كما قلنا ارتحل يعبر في أحيائه ومعه منطاش وأصحابه إلى نواحي حلب وسار يعبر إلى بلد سرمين من أقطاعه ليقسمها في قومه على عادتهم وكان كمشيقا نائب حلب قد أقطعها الجند من التركمان في خدمته. فلما وافاها يعبر هربوا إلى حلب فلقوا في طريقهم أحمد بن المهدار في العساكر وقد نهض إلى يعبر فرجعوا عنه ولقيهم علي بن يعبر فقاتلوه وهزموه وقتلوا بعض أصحابه صبراً ورجع يعبر إلى أحيائه وارتحلوا إلى حلب فحاصروها وضيقوا عليها أيام رمضان. ثم راجع يعبر نفسه وراسل كمشيقا نائب حلب في الطاعة واعتذر عما وقع منه وطوق الذنب بالجوباني وأصحابه أهل الواقعة وسأل الأمان مع حاجبه عبد الرحمن فأرسله كمشيقا إلى السلطان وأخبره بما اشترط يعبر فأجابه السلطان إلى سؤاله. وشعر بذلك منطاش بمكانه من حصار حلب فارتاب وخادع يعبر إلى الغارة على التركمان بقربهم فأذن للعرب في المسير معه وسار معه منهم سبعمائة. فلما جاوز الدربند أرجلهم عن الخيل وأخذها ولحق بالتركمان ونزل بمرعش بلد أميرهم سولي ورجع العرب مشاة إلى يعبر فارتحل إلى سبيله راجعاً وسار منطاش إلى عنتاب من قلاع حلب ونائبها محمد بن شهري فملكها واعتصم نائبها بالقلعة أياماً. ثم نبت منطاش وأثخن في أصحابه وقتل جماعة من أمرائه وكانت العساكر قد جاءت من حلب وحماة وصفد لقتاله فهرب إلى مرعش وسار منها إلى بلاد الروم واضمحل أمره. وفارقه جماعة من أصحابه إلى العساكر وراجعوا طاعة السلطان آخر ذي القعدة من سنة اثنتين وسبعين. وبعث سولي بن دلقادر أمير التركمان في عشر ذي الحجة يستأمن إلى السلطان فأمنه وولاه على البلستين كما كان. والله سبحانه وتعالى أعلم. قدوم كمشيقا من حلب قد كان تقدم لنا أن كمشيقا الحموي رأس نوبة بيبقا كان نائباً بطرابلس وأن السلطان عزله وحبسه بدمشق فلما استولى الناصري على دمشق أطلقه من الاعتقال وجاء في جملته إلى مصر. فلما ولي على ممالك الشام وأعمالها ولاه على حلب مكانه منتصف إحدى وسبعين. ولما استقل السلطان من النكبة وقصد دمشق كما مر أرسل كمشيقا إليه بطاعته ومشايعته على أمره وأظهر دعوته في حلب وما إليها من أعماله. ثم سار السلطان إلى دمشق وحاصرها وأمده كمشيقا جميع ما يحتاج إليه. ثم جاءه بنفسه في عساكر حلب صريخاً وحمل إليه جميع حاجاته وأزاح علله وأقام له رسوم ملكقه وشكر السلطان أفعاله في ذلك وعاهده على أتابكية مصر. ثم كانت الواقعة على شقحب فانهزم كمشيقا إلى حلب فامتنع بهما وحاصره يمازتمر أتابك منطاش أشهراً كما مر. ثم هرب منطاش من دمشق إلى العرزب فأفرج يمازتمرعن حلب. ثم كانت واقعة الجوباني ومقتله وزحف منطاش ويعبر إلى حلب فحاصروها مدة. ثم وقع الخلاف بينهما وهرب منطاش إلى بلاد التركمان ورجع يعبر إلى بلدة سلمية واستأمن إلى السلطان ورجع إلى طاعته منتصف شوال. ولما أفرجوا عن حلب نزل كمشيقا من القلعة ورم خرابها وخرب بانقوسا واستلحم أهلها وأخذ في إصلاح أسوار حلب ورم ما سلم منها وكانت خراباً ولما استوسق أمر السلطان وانتظمت دولته بعث إليه يستدعيه في شهر ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وولى مكانه في حلب قرا دمرداش نقله إليها من طرابلس وولى مكانه أنيال الصغير فسار كمشيقا من حلب ووصل مصر تاسع صفر سنة ثلاث وتسعين فاهتز له السلطان وأركب الأمراء للقائه مع النائب. ثم دخل إلى السلطان فحياه وبالغ في تكرمته وتلقاه بالرحب ورفع مجلسه فوق الأتابك أنيال وأنزله بيت منجك وقد هيأ فيه الفرش والماعون والخرثى ما فيه للمنزل. ثم بعث إليه بالأقمشة وقرب إليه الجياد بالمراكب الثقيلة وتقدم للأمراء أن يتحفوه بهداياهم فتناغوا في ذلك وجاؤوا من وراء الغاية وحضر في ركابه من أمراء الشام الطنبقا الأشرفي وحسن الكشكي فأكرمهما السلطان واستقر كمشيقا بمصر في أعلى مراتب الدولة إلى أن توفي أنيال الأتابك في جمادى أربع وتسعين فولاه السلطان مكانه كما عاهده عليه بشقحب وجعل إليه نظر المارستان على عادة الأتابكية واستمر على ذلك لهذا العهد. والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه. استقدام ايتمش كان ايتمش النجاشي أتابك الدولة قد نكبه السلطان وسار في العساكر إلى الشام منتصف ربيع إحدى وتسعين لقتال الناصري وأصحابه لما انتقض عليه وكانت الواقعة بينهم بالمرج من نواحي دمشق وانهزمت العساكر ونجا ايتمش إلى قلعة دمشق ومعه كتب السلطان في دخولها متى اضطر إليه فامتنع بها وملكها الناصري من الغد بطاعة نائبها ابن الحمصي فوكل بايتمش وأقام حبيساً موسعاً عليه ثم سار الناصري إلى مصر وملكها وعاد السلطان إلى كرسيه في صفر سنة اثنتين وتسعين كما فصل ذلك من قبل. وايتمش في أثناء ذلك كله محبوس بالقلعة. ثم زحف الجوباني في جمادى الأخيرة وخلص ايتمش من اعتقاله وفتق مماليك السلطان السجن الذي كانوا فيه بقلعة دمشق وخرجوا واعصوصبوا على ايتمش قبل مجيء الجوباني. وبعث إليه بالخبر وبعث الجوباني إلى السلطان بمثل ذلك فتقدم إليه السلطان بالمقام بالقلعة حتى يفرغ عن أمر عدوه. ثم كان بعد ذلك واقعة الجوباني مع منطاش والعرب ومقتله وولاية الناصري على دمشق مكانه. ثم افترق العرب وفارقهم منطاش إلى التركمان وانتظمت ممالك الشام في ملكة السلطان واستوسق ملكه واستفحلت دولته فاستدعى الأمير ايتمش من قلعة دمشق وسار لاستدعائه قنوباي من مماليك السلطان ثامن ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين ووصل إلى مصر رابع جمادى الأولى من السنة. ووصل في ركابه حاجب الحجاب بدمشق ومعه الأمراء الذين حبسوا بالشام منهم جنتمر نائب دمشق وابنه وابن أخته واستاذ داره طنبقا ودمرداش اليوسفي نائب طرابلس والطنبقا الحلي والقاضي أحمد بن القريشي وفتح الدين بن الرشيد وكاتب السر في ست وثلاثين نفراً من الأمراء وغيرهم. ولما وصل ايتمش قابله السلطان بالتكرمة والرحب وعرض الحاجب المساجين الذي معه ووبخ السلطان بعضهم. ثم حبسوا بالقلعة حتى نفذ فيهم قضاء الله وقتلوا مع غيرهم ممن أوجبت السياسة قتلهم. والله تعالى مالك الأمور لا رب سواه انتهى. هدية إفريقية كان السلطان قد حصل بينه وبين سلطان إفريقية أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي حفص الموحدي مودة والتئام وكانت كثيراً ما تجددها الهدايا من الجانبين ونذكرها إن شاء الله تعالى. ولما بلغ الخبر إلى تونس بما كان من نكبة السلطان وما كان من أمره امتعض له هذا السلطان بتونس وتفجع لشأنه وأقام يستطلع خبره ويستكشف من الجار التي تحضر إلى مصر من أهل تونس أنباءه حتى وقف على الجلي من أمره وما كيف الله من أسباب السعادة في خلاصه وعوده إلى كرسيه فملأ السرور جوانحه. وأوفد عليه بالتهنئة رسوله بهدية من المقربات على سبيل الوداد مع خالصة من كبراء الموحدين محمد بن علي بن أبي هلال فوصل في العشر الأواخر من رمضان سنة اثنتين وتسعين فتلقاه السلطان بالكرامة وركب محمود أستاذ داره ليتلقاه عند نزوله من البحر بساحل بولاق وأنزل ببيت طشتمر بالزميلة قبالة الإسطبل وأجريت عليه النفقة بما لم يجر لأمثاله. ورغب من السلطان في الحج فحج وأصحب هدية إلى مرسله من ثياب الوشي والديباج والسلاح بما لم يعهد مثلها وانصرف آخر ربيع سنة ثلاث وتسعين والله تعالى أعلم بغيبه. |
حصار منطاش دمشق
ومسير السلطان من مصر إليه وفراره ومقتل الناصري لم يزل منطاش شريداً عند التركمان منذ فارق العرب ولما كان منتصف سنة ثلاث وتسعين اعتزم على قصد دمشق ويقال إن ذلك كان بإغراء الناصري يخادعه بذلك ليقبض عليه فسار منطاش من مرعش على نواحي حلب وتقدم خبره إلى حماة فهرب نائبها إلى طرابلس. ودخل منطاش حماة ونادى فيها بالأمان ثم سار منها إلى حمص كذلك ثم إلى بعلبك وهرب نائبها إلى دمشق فخرج الناصري نائب دمشق في العساكر لمدافعته وسار على طريق الزبداني فخالفه منطاش إلى دمشق. وقدم إليها أحمد شكار ابن أبي بندمر فثار شيعة الخوارزمية والبندمرية وفتحوا له أبواب البلد ومر بإسطبلات فقاد منها نحواً من ثمانمائة فرس. وجاء منطاش من الغد على أثره فنزل بالقصر الأبلق وأنزل الأمراء الذين معه في البيوت حوالي القصر وفي جامع شكن وجامع بيبقا وشرع في مصادرة الناس والفريضة عليهم وأقام يومه في ذلك وإذا بالناصري قد وصل في عساكره فاقتتلوا عشية ذلك اليوم مرات ومن الغد كذلك. وأقام كل واحد منهما في حومته والقتال متصل بينهما سائر رجب وشعبان. ولما بلغ الخبر إلى السلطان إرتاب بالناصري واتهمه بالمداهنة في أمر منطاش. وتجهز لقصد الشام ونادى في العساكر بذلك عاشر شعبان وقتل أهل الخلاف من الأمراء المحبوسين وأشخص البطالين من الأمراء إلى الإسكندرية ودمياط وخرج يوم عشرين شعبان فخيم بالريدانية حتى أزاح علل العساكر وقضوا حاجاتهم. واستخلف على القاهرة الأتابك كمشيقا الحموي وأنزله الإسطبل وجعل له التصرف في التولية والعزل. وترك بالقاهرة من الأمراء جماعة لنظر الأتابك وتحت أمره وأنزل النائب سودون بالقلعة وترك بها ستمائة من مماليكه الأصاغر وأخرج معه بالقضاة الأربعة والمفتين. وارتحل غرة رمضان من السنة بقصد الشام. وجاء الخبر رابع الشهر بأن منطاش لما بلغه مسيرة السلطان من مصر هرب من دمشق منتصف شعبان مع عنقا بن أمير آل مراء الصريخ بمنطاش فكانت بينهما وقعة انهزم فيها الناصري وقتل جماعة من أمراء الشام نحو خمسة عشر فيهم إبراهيم بن منجك وغيره. ثم خرج الناصري من الغد في اتباع منطاش وقد ذكر له أن الفلاحين نزحوا من نواحي دمشق واحتاطوا به فركب إليه منطاش ليقاتله ففارقه أتابكه يماز تمر إلى الناصري في أكثر العساكر وولى هارباً. ورجع الناصري إلى دمشق وأكرم يمازتمر وأجمل له الوعد وجاءه الخبر بأن السلطان قد دخل حدود الشام فسار ليلقاه فلقيه بقانون. وبالغ السلطان في تكرمته وترجل حين نزوله وعانقه وأركبه بقربه ورده إلى دمشق. ثم سار في أثره إلى أن وصل دمشق وخرج الناصري ثانية ودخل إلى القلعة ثاني عشر رمضان من السنة والأمراء مشاة بين يديه والناصري راكب معه يحمل الخبز على رأسه. وبعث يعبر في كتاب نائب حماة بالعذر عما وقع منه وأنه اتهم الناصري في أمر منطاش فقصد حسم الفتنة في ذلك. واستأمن السلطان وضمن له إحضار منطاش من حيث كان فأمنه وكتب إليه بإجابة سؤاله. ولما قضى عيد الفطر برز من دمشق سابع شوال إلى حلب في طلب منطاش ولقيه أثناء طريقه رسول سولي بن دلقار أمير التركمان بهديته واستئمانه وعذره عن تعرضه لسيس وأنه يسلمها لنائب حلب فقبل السلطان منه وأمنه ووعده بالجميل. ثم وفد عليه أمراء آل مهنا وآل عيسى في الطاعة ومظاهرة السلطان على منطاش ويعبر وأنهما نازلان بالرحبة من تخوم الشام فأكرم السلطان وفادتهم وتقبل صاعتهم وسار إلى حلب ونزل بالقلعة منها ثاني شوال. ثم وصل الخبر إلى السلطان بأن منطاش فارق يعبر أو مر ببلاد ماردين فواقعته عساكر هناك وقبضوا على جماعة من أصحابه وخلص هو من الواقعة إلى سالم الرودكاري من أمراء التركمان فقبض عليه وأرسل إلى السلطان يطالعه بشأنه ويطلب بعض أمراء السلطان قرا دمرداش نائب حلب في عساكره إلى سالم الرودكاري لإحضار منطاش واتبعه بالناصري. وأرسل الأتابك إلى ماردين لإحضار من حصل من أصحاب منطاش وانتهى أنيال إلى رأس العين وأتى أصحاب سلطان ماردين وتسلم منهم أصحاب منطاش. وكتب سلطانهم بأنه معتمل في مقاصد السلطان ومرتصد لعدوه. وانتهى قرا دمرداش إلى سالم الرودكاري وأقام عنده أربعة أيام في طلب منطاش وهو يماطله فأغار قرا دمرداش عليه ونهب أحياءه وفتك في قومه وهرب هو ومنطاش إلى سنجار. وجاء الناصري على أثر ذلك ونكر على دمرداش ما أتاه وارتفعت بينهما حتى هم الناصري به ورفع الآلة بضربه ولم يحصل أحد منهم بطائل ورجعوا بالعساكر إلى السلطان. وكتب إليه سالم الرودكاري بالعذر عن أمر منطاش وأن الناصري كتب إليه وأمره بالمحافظة على منطاش وأن فيه زبوناً للترك فجلس السلطان بالقلعة جلوساً ضخماً سادس ذي الحجة من السنة واستدعى الناصري فوبخه. ثم قبض عليه وعلى ابن أخيه كشلي ورأس نوبة شيخ حسن وعلى أحمد بن الهمدار الذي أمكنه من قلعة حلب وأمر بقتله وقشتمر الأشرفي الذي وصل من ماردين معهم. وولى على نيابة دمشق مكانه بكا الدوادار وأعطى إقطاعه لقرا دمرداش وأمره بال مسير إلى مصر. وولى مكانه بحلب حلبان رأس نوبة وولى أبا يزيد دواداراً مكان بكا ورعى له وسائله في الخدمة وتردده في السفارة بينه وبين الناصري أيام ملك الناصري. وأجلب على مصر وأشار عليه الناصري بالانتفاء كما ذكرناه فاختفى عند أصحاب أبي يزيد هذا بسعايته في ذلك. ثم ارتحل من حلب ووصل إلى دمشق منتصف ذي الحجة وقتل بها جماعة من الأمراء أهل الفساد يبلغون خمسة وعشرين وولى على العرب محمد بن مهنا وأعطى إقطاع يعبر لجماعة من التركمان وقفل إلى مصر. ولقيه الأتابك كمشيقا والنائب سودون والحاجب سكيس. ثم دخل إلى القلعة على التعبية منتصف المحرم سنة أربع وتسعين في يوم مشهود ووصل الخبر لعاشر دخوله بوفاة بكا نائب دمشق فولى مكانه سودون الطرنطاي. ثم قبض في منتصف صفر على قرا دمرداش الأحمدي وهلك في محبسه وقبض على طنبقا المعلم وقردم الحبشي. وجاء الخبر أواخر صفر من السنة بأن جماعة من المماليك مقدمهم أيبقا دوادار وبذلار. ولما هلك بكا واضطرب أصحابه وهرب بعضهم عمد هؤلاء المماليك إلى قلعة دمشق وهجموا عليها وملكوها ونقبوا السجن وأخرجوا المعتقلين به من أصحاب الناصري ومنطاش وهم نحو المائة. وركبت العساكر إليها وحاصروها ثلاثاً ثم هجموا على الباب فأحرقوه ودخلوا إلى القلعة فقبضوا عليهم أجمعين وقتلوهم وفر أيبقا دوادار وبذلا في خمسة نفر وانحسمت عللهم. ثم وصل الخبر آخر شعبان من السنة بوفاة سودون الطرنطاي فولى السلطان مكانه كمشيقا الأشرفي أمير مجلس وولى مكان كمشيقا أمير شيخ الخاجكي انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم. مقتل منطاش كان منطاش فر مع سالم الرودكاري إلى سنجار وأقام معه أياماً ثم فارقه ولحق بيعبر فأقام في أحيائه وأصهر إليه بعض أهل الحي بابنته فتزوجها وأقام معهم. ثم سار أول رمضان سنة أربع وتسعين وعبر الفرات إلى نواحي حلب وأوقعت به العساكر هناك وهزموهم وأسروا جماعة من أصحابه. ثم طال على يعبر أمر الخلاف وضجر قومه من افتقاد الميرة من التلول فأرسل حاجبه يسأل الأمان وأنه يمكن من منطاش على أن يقطع أربع بلاد منها المعرة فكتب له الدوادار أبو يزيد على لسانه بالإجابة إلى ذلك. ثم وفد محمد بن سنة خمس وتسعين فأخبر أنه كان مقيماً بسلمية في أحيائه ومعه التركمان المقيمون بشيزر فركبوا إليهم وهزموهم وضرب بعض الفرسان منطاش فأكبه وجرحه ولم يعرف في المعركة لسوء صورته بما أصابه من الشظف والحفاء فأردفه ابن يعبر ونجا به وقتل منهم جماعة منهم ابن بردعان وابن أنيال وجيء برأسيهما إلى دمشق. وأوعز السلطان إلى أمراء الشام أن يخرجوا بالعساكر وينفوه إلى أطراف البلاد لحمايتها حتى يرفع الناس زروعهم. ثم زحف يعبر ومنطاش في العساكر أول جمادى الأخيرة من السنة إلى سلمية فلقيهم نائب حلب ونائب حماة فهزموهما ونهبوا حماة وخالفهم نائب حلب إلى أحياء يعبر فأغار عليها ونهب سوادها وأموالها واستاق نعمها ومواشيها وأضرم النار فيما بقي. وأكمن لهم ينتظر رجوعهم. وبلغهم الخبر بحماة فأسرعوا الكر إلى أحيائهم فخرج عليهم الكمناء وأثخنوا فيهم وهلك بين الفريقين خلق من العرب والأمراء والمماليك. ثم وفد على السلطان أواخر شعبان عامر بن طاهر بن جبار طائعاً للسلطان ومنابذاً لعمه وذكوان بن يعبر على طاعة السلطان وأنهم يمكنون من منطاش متى طلب منهم فأقبل عليه السلطان وأثقل كاهله بالإحسان والمواعيد ودس معه إلى بني يعبر بإمضاء ذلك ولهم ما يختارونه. فلما رجع عامر ابن عمهم طاهر بمواعيد السلطان تفاوضوا مع آل مهنا جميعاً ورغبوهم فيما عند السلطان ووصفوا ما هم فيه من الضنك وسوء العيش بالخلاف والإنحراف عن الطاعة. وعرضوا على يعبر بأن يجيبهم إلى إحدى الحسنيين من إمساك منطاش أو تخلية سبيلهم إلى طاعة السلطان ويفارقهم هو إلى حيث شاء من البلاد فجزع لذلك ولم يسعه خلافهم وأذن لهم في القبض على منطاش وتسليمه إلى نواب السلطان فقبضوا عليه وبعثوا إلى نائب حلب فيمن يتسلمه. واستحلفوه على مقاصدهم من السلطان لهم ولأبيهم يعبر فحلف لهم وبعث إليهم بعض أمرائه فأمكنوه منه وبعثوا معه الفرسان والرجالة حتى أوصلوه ودخل إلى حلب في يوم مشهود وحبس بالقلعة. وبعث السلطان أميراً من القاهرة فاقتحمه وقتله وحمل رأسه وطاف به في ممالك الشام. وجاء به إلى القاهرة حادي عشر رمضان سنة خمس وتسعين فعلقت على باب القلعة ثم طيف بها مصر والقاهرة وعلقت على باب زويلة ثم دفعت إلى أهله فدفنوها آخر رمضان من السنة. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. |
حوادث مكة
قد كان تقدم لنا أن عنان بن مقابس ولاه السلطان على مكة بعد مقتل محمد بن أحمد بن عجلان في موسم سنة ثمان وثمانين وأن كنيش بن عجلان أقام على خلافه وحاصره بمكة فقتل في حومة الحرب سنة تسع بعدها. وساء أثر عنان وعجز من مغالبة الأشراف من بني عمه وسواهم. وامتدت أيديهم إلى أموال المجاورين وصادروهم عليها ونهبوا الزرع الواصل في الشواني من مصر إلى جدة للسلطان والأمراء والتجار ونهبوا تجار اليمن وساءت أحوال مكة بهم وبتابعهم وطلب الناس من السلطان إعادة بني عجلان لإمارة مكة. ووفد على السلطان بمصر سنة تسع وثمانين صبي من بني عجلان اسمه علي فولاه على إمارة مكة وبعثه مع أمير الحاج وأوصاه بالإصلاح بين الشرفاء. ولما وصل الأمير إلى مكة وكان بها يومئذ قرقماش خشي الأشراف منه واضطرب عنان وركب للقائه. ثم توجس الخيفة وكر راجعاً واتبع الأشراف واجتمعوا على منابذة علي بن عجلان وشيعته من القواد والعبيد. ووفد عنان بن مقامس على السلطان سنة تسعين فقبض عليه وحبسه ولم يزل محبوساً إلى أن خرج مع بكا عند ثورته بالقلعة في صفر سنة اثنتين وتسعين. وبعثه مع أخيه أيبقا يستكشف خبر السلطان كما مر. وانتظم أمر السلطان بسعاية بكا في العود إلى إمارته رعياً لما كان بينهما من العشرة في البحر وأسعفه السلطان بذلك وولاه شركاً لعلي بن عجلان في الإمارة فأقاما كذلك سنتين وأمرهما مضطرب والأشراف معصوصبون على عنان وهو عاجز عن الضرب على أيديهم وعلي بن عجلان مع القواد كذلك وأهل مكة على وجل من أمرهم في ضنك من اختلاف الأيدي عليهم. ثم استقدمهم السلطان سنة أربع وتسعين فقدموا أول شعبان من السنة فأكرمهما ورفع مجلسهما ورفع مجلس علي على سائرهم. ولما انقضى الفطر ولى علي بن عجلان مستقلاً واستبلغ في الإحسان إليه بأصناف الأقمشة والخيول والممالك والحبوب وأذن له في الجراية والعلوفة فوق الكفاية. ثم ظهر عليه بعد شهر وقد أعد الرواحل ليلحق بمكة هارباً فقبض عليه وحبسه بالقلعة وسار علي بن عجلان إلى مكة وقبض على الأشراف لتستقيم إمارته. ثم خودع عنهم فأطلقهم فنفروا عنه ولم يعاودوا طاعته فاضطرب أمره وفسد رأيه وهو مقيم على ذلك لهذا العهد. والله غالب على أمره إنه على كل شيء قدير. وصول أحياء من التتر وسلطانهم إلى صاحب بغداد واستيلاؤه عليها ومسير السلطان بالعساكر إليه كان هؤلاء التتر من شعوب الترك وقد ملكوا جوانب الشرق من تخوم الصين إلى ما وراء النهر ثم خوارزم وخراسان وجانبيها إلى سجستان وكرمان جنوباً وبلاد القفجاق وبلغار شمالاً ثم عراق العجم وبلاد فارس وأذربيجان وعراق العرب والجزيرة وبلاد الروم إلى أن بلغوا حدود الفرات واستولوا على الشام مرة بعد أخرى كما تقدم في أخبارهم ويأتي إن شاء الله تعالى. وكان أول من خرج منهم ملكهم جنكز خان أعوام عشر وستمائة واستقلوا بهذه الممالك كلها. ثم انقسمت دولته بين بنيهم فيها فكان لبني دوشي خان منهم بلاد القفجاق وجانب الشمال بأسره ولبني هلاكو بن طولي خان خراسان والعراق وفارس وأذربيجان والجزيرة والروم ولبني جفطاي خوارزم وما إليها. واستمرت هذه الدول الثلاث إلى هذا العهد في مائة وثمانين سنة اننقرض فيها ملك بني هلاكو في سنة أربعين من هذه المائة بوفاة أبي سعيد آخرهم ولم يعقب وافترق ملكه بين جماعة من أهل دولته في خراسان وأصفهان وفارس وعراق العرب وأذربيجان وتوريز وبلاد الروم فكانت خراسان للشيخ ولي وأصفهان وفارس وسجستان للمظفر الأزدي وبنيه وخوارزم وأعمالها إلى تركستان لبني جفطاي وبلاد الروم لبني أرشا مولى من موالي مرداش بن جوبان وبغداد وأذربيجان والجزيرة للشيخ حسن بن حسين بن إيبغا بن ايكان - وايكان سبط أرغو بن أبغا بن هلاكو - ولبنيه وهو من كبار المغل في نسبه. ولم يزل ملكهم المفترق في هذه الدول متناقلاً بين أعقابهم إلى أن تلاشى واضمحل. واستقر ملك بغداد وأذربيجان والجزيرة لهذا العهد لأحمد بن أويس ابن الشيخ حسن سبط أرغو كما في أخبار يأتي شرحها في دول التتر بعد. ولما كان في هذه العصور ظهر بتركستان وبخارى فيما وراء النهر أمير اسمه تمر في جموع من المغل والتتر ينسب هو وقومه إلى جفطاي لا أدري هو جفطاي ابن جنكز خان أو جفطاي آخر شعوب المغل والأول أقرب لما قدمته من ولاية جفطاي بن جنكز خان على بلاد ما وراء النهر لعهد أبيه. وإن اعترض معترض بكثرة هذا الشعب الذي مع تمر وقصر المدة. إلى هذه المدة من لدن جفطاي تقارب مائتي سنة لأن جفطاي كان لعهد أبيه جنكز خان يقارب الأربعين فهذه المدة أزيد من خمسة من العصور لأن العصر أربعون سنة. وأقل ما يتناسل من الرجل في العصر عشرة من الولد فإذا ضوعفت العشرة بالضرب خمس مراتب كانت مائة ألف. وإن فرضنا أن المتناسلين تسعة لكل عصر بلغوا في الخمسة عصور إلى نحو من سبعين ألفاً وإن جعلناها ثمانية بلغوا فوق الاثنين وثلاثين وإن جعلناهم سبعة بلغوا ستة عشر ألفاً. والسبعة أقل ما يمكن عن الرجل الواحد لا سيما مع البداوة المقتضية لكثرة النسل. والستة عشر ألفاً عصابة كافية في استتباع غيرها من العصائب حتى تنتهي إلى غاية العساكر. ولما ظهر هذا فيما وراء النهر عبر إلى خراسان فملكها مرت يد الشيخ ولي صاحبها أعوام أربعة وثمانين بعد مراجفات وحروب. وهرب الشيخ ولي إلى توريز فعمد إليه تمر في جموعه سنة سبع وثمانين وملك توريز وأذربيجان وخربها وقتل الشيخ ولي في حروبه ومر بأصبهان فأعطوه طاعة معروفة. وأطل بعد توريز على نواحي بغداد فأرجفوا منه وواقعت عساكره بأذربيجان جموع الترك أهل الجزيرة والموصل. وكانت الحروب بينهم سجالاً. ثم تأخر إلى ناحية أصفهان وجاءه الخبر بخارج خرج عليه من قومه يعرف بقمر الدين تطمش ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكز خان وهو صاحب كرسي صراي أمده بأمواله وعساكره فكر راجعاً إلى بلده وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وتسعين. ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمر الدين الخارج عليه ومحا أثر فساده واستولى على كرسي صراي فكر تمر راجعاً وملكها. ثم خطا إلى أصفهان وعراق العجم وفارس وكرمان فملك جميعها من يد بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكهم وبددت جموعهم. وراسله صاحب بغداد أحمد بن أويس وصانعه بالهدايا والتحف فلم يغن عنه وما زال يخادعه بالملاطفة والمراسلة إلى أن فتر عزم أحمد وافترقت عساكره فصمد إليه يغذ السير حتى انتهى إلى دجلة وسبق النذير إلى أحمد فأسرى من ليله ومر بجسر الحلة فقطعه. وصبح مشهد علي ووافى تمر وعساكره دجلة يوم الحادي والعشرين من شوال سنة خمس وتسعين وأجازوا دجلة سبحاً ودخلوا واستولوا عليها. وبعث العساكر في أتباع أحمد فلحقوا بأعقابه وخاضوا إليه النهر عند الجسر المقطوع وأدركوه بالمشهد فكر عليهم في جموعه وقتل الأمير الذي كان في اتباعه ورجعوا عنه بعد أن كانوا استولوا على جميع أثقاله ورواحله بما فيها من الأموال والذخيرة فرجعوا بها ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره فأخرج إليه بعض خواصه بالنفقات والأزواد ليستقدمه فقدم به إلى حلب آخر ذي القعدة فأراح بها. وطرقه مرض أبطأ به عن مصر. وجاءت الأخبار بأن تمر عاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة. وأقفرت جوانب بغداد من العيث. ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخاً به على طلب ملكه والانتقام من عدوه فأجاب السلطان صريخه ونادى في عساكره بالتجهز إلى الشام وقد كان تمر بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت فأولى المخالفين وعثاء الحرابة ورصد السابلة وأناخ عليها بجموعه أربعين يوماً فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم ثم خربها وأسرها. ثم انتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها ووقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها وأشفوا نعمتها وافترق أهلها. وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالريدانية أياماً أزاح فيها علل عسكره وأفاض العطاء في مماليكه. واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند. واستخلف على القاهرة النائب مودود وارتحل إلى الشام على التعبية ومعه أحمد بن أويس صاحب بغداد بعد أن كفاه مهمة وسرب النفقات في تابعه وجنده. ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وقد كان أوعز إلى حلبان نائب حلب بالخروج إلى الفرات واستيعاب العرب والتركمان للإقامة هنالك رصداً للعدو. فلما وصل إلى دمشق وفد عليه حلبان وطالعه بمهماته وما عنده من أخبار القوم ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه. وبعث السلطان على أثره العساكر مدداً له مع كمشيقا الأتابك وتلكمش أمير سلاح وأحمد بن بيبقا وكان العدو قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهراً ثم ملكها وعاثت عساكره فيها وامتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ومر بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها. والسلطان لهذا العهد - وهو شعبان سنة ست وتسعين - مقيم بدمشق مستجمع للوثبة به متى استقبل جهته والله ولي الأمور. وهذا آخر ما انتهت إليه دولة الترك بانتهاء الأيام وما يعلم أحد ما في غد والله مقدر الأمور وخالقها. دولة بني رسول الخبر عن دولة بني رسول مولى بني أيوب الملوك باليمن بعدهم ومبدأ أمرهم وتصاريف أحوالهم قد كان تقدم لنا كيف استولى بنو أيوب على اليمن واختلف عليها الولاة منهم إلى أن ملكها من بني المظفر شاهنشاه بن أيوب حافده سليمان بن ابن المظفر وانتقض أيام العادل سنة اثنتي عشرة وستمائة فأمر العادل ابنه الكامل خليفته على مصر أن يبعث ابنه يوسف المسعود إلى اليمن وهو أخو الصالح ويلقب بالتركي أطس ويقال أقسنس وقد تقدم ذكر هذا اللقب فملكها المسعود من يد سليمان وبعث به معتقلاً إلى مصر. وهلك في جهاد الإفرنج بدمياط سنة سبع وأربعين. وهلك العادل أخو المسعود سنة خمس عشرة وستمائة وولى بعده ابنه الكامل وجدد العهد إلى يوسف المسعود على اليمن. وحج المسعود سنة تسع عشرة وكان من خبره تأخير أعلام الخليفة عن إعلامه ما مر في أخبار دولتهم. ثم جاء سنة عشرين إلى مكة وأميرهم حسن بن قتادة من بني مطاعن إحدى بطون حسن فجمع لقتاله وهزمه المسعود وملك مكة وولى عليها. ورجع إلى اليمن فأقام به ثم طرقه المرض سنة ست وعشرين فارتحل إلى مكة واستخلف على اليمن علي بن رسول التركماني أستاذ داره. ثم هلك المسعود بمكة لأربع عشرة سنة من ملكه وبلغ خبر وفاته إلى أبيه وهو محاصر دمشق. ورجع ابن قتادة إلى مكة. ونصب علي بن رسول على اليمن موسى بن المسعود ولقبه الأشرف وأقام مملكاً على اليمن إلى أن خلع. وخلف المسعود ولد آخر اسمه يوسف ومات وخلفه ابنه واسمه موسى وهو الذي نصبه الترك بعد أيبك ثم خلعوه. ثم خلع ابن رسول موسى الأشرف بن المسعود واستبد بملك اليمن وأخذ بدعوة الكامل بمصر وبعث أخويه رهناً على الطاعة. ثم هلك سنة تسع وعشرين وولى ابنه المنصور عمر بن علي بن رسول. ولما هلك علي بن منصور ولى بعدمه الكامل ابنه عمر. ثم توفي الكامل سنة خمس وثلاثين وشغل بنو أيوب بالفتنة بينهم فاستغلظ سلطان عمر باليمن وتلقب المنصور ومنع الأتاوة التي كان يبعث بها إلى مصر فأطلق صاحب مصر العادل بن الكامل عمومته الذين كان أبوه رهنهم على الطاعة لينازعوه في الأمر فغلبهم وحبسهم. وكان أمر الزيدية بصفد قد خرج من بني الرسي وصار لبني سليمان بن داود كما مر في أخبارهم. ثم بويع من بني الرسي أحمد بن الحسين من بني الهادي يحيى بن الحسن بن القاسم الرسي بايع له الزيدية بحصن ملا وكانوا من يوم أخرجهم السليمانيون من صفد قد أووا إلى جبل مكانه. فلما بويع أحمد بن الحسين هذا لقبوه الموطئ وكان بحصن بملا وكان الحديث شائعاً بين الزيدية بأن الأمر يرجع إلى بني الرسي. وكان أحمد فقيهاً أديباً عالماً بمذهب الزيدية مجتهداً في العبادة. وبويع سنة خمس وأربعين وستمائة. وأهم عمر بن رسول شأنه فشمر لحربه وحاصره بحصن ملا مدة ثم أفرج عنه وجهز العساكر لحصاره من الحصون المجاورة له. ولم يزل قائماً بأمره إلى أن وثب عليه سنة ثمان وأربعين جماعة من مماليكه بممالأة بني أخيه حسن فقتلوه لثمان عشرة سنة من ولاية المظفر يوسف بن عمر. ولما هلك المنصور علي بن رسول كما قلناه قام بالأمر مكانه ابنه المظفر شمس الدين يوسف وكان عادلاً محسناً وفرض الأتاوة عليه لملوك مصر من الترك لما استقلوا بالملك وما زال يصانعهم بها ويعطيهم إياها. وكان لأول ملكه امتنع عليه حصن الدملوة فشغل بحصاره وتمكن أحمد الموطئ الثائر بحصن ملا من الزيدية من أعقاب بني الرسي فملك عشرين حصناً من حصون الزيدية. وزحف إلى صفد فملكها من يد السليمانيين ونزل له أحمد المتوكل إمام الزيدية منهم فبايعه وأمنه. ولما كانوا في خطابة لم يزل في كل عصر منهم إمام كما ذكرناه في أخبارهم قبل. ولم يزل المظفر والياً على اليمن إلى أن هلك بغتة سنة أربع وتسعين لست وأربعين سنة من ملكة الأشرف عمر بن المظفر يوسف. ولما هلك المظفر يوسف كما قلناه وولي بعده ابنه الأشرف ممهد الدين عمر وكان أخوه داود والياً على الشحر فدعاه لنفسه ونازعه الأمر فبعث الأشرف عساكره وقاتلوه وهزموه وقبضوا عليه وحبسه. واستمر الأشرف في ملكه إلى أن سمته جاريته فمات سنة ست وتسعين لعشرين شهراً من ولايته أخوه داود بن المظفر المؤيد يوسف. ولما هلك الأشرف بن عمر بن المظفر يوسف أخرجوا أخاه مؤيد الدين داود من معتقله وولوه عليهم وما زال يواصل ملوك الترك بهداياه وصلاته وتحفه والضريبة التي قررها سلفه وانتهت هديته سنة إحدى عشرة وسبعمائة إلى مائتي وقر بعير بالثياب والتحف وطرف اليمن ومائتين من الجمال والخيل. ثم بعث سنة خمس عشرة بمثل ذلك وفسد ما بينه وبين ملوك الترك بمصر. وبعث بهديته سنة ثمان عشرة فردوها عليه ثم هلك سنة إحدى وعشرين وسبعمائة لخمس وعشرين سنة من ملكه. وكان فاضلاً شافعي المذهب وجمع الكتب من سائر الأمصار فاشتملت خزانته على مائة ألف مجلد وكان يتفقد العلماء بصلاته ويبعث لابن دقيق العيد فقيه الشافعية بمصر جوائزه. ولما توفي المؤيد داود سنة إحدى وعشرين كما قلناه قام بملكه ابنه المجاهد سيف الدين علي ابن اثنتي عشرة سنة والله وارث الأرض ومن عليها. ثورة جلال الدين بن عمر الأشرف وحبسه ولما ملك المجاهد علي شغل بلذاته وأساء السيرة في أهل المناصب الدينية العزل والاستبدال بغير حق فنكره أهل الدولة وانتقض عليه جلال الدين ابن عمه عمر الأشرف وزحف إليه وكانت بينهما حروب ووقائع كان النصر فيها للمجاهد وغلب على جلال الدين وحبسه والله تعالى أعلم. ثورة جلال الدين ثانياً وحبس المجاهد وبيعة المنصور أيوب بن المظفر يوسف وبعد أن قبض المجاهد على جلال الدين ابن عمه الأشرف وحبسه لم يزل مشتغلاً بلهوه عاكفاً على لذاته وضجر منه أهل الدولة وداخلهم جلال الدين في خلعه فوافقوه فرحل إلى سنة اثنتين وعشرين فخرج جلال الدين من محبسه وهجم عليه في بعض البساتين وفتك بحرمه وقبض عليه وبايع لعمه المنصور أيوب بن المظفر يوسف واعتقل المجاهد عنده في نفر وأطلق جلال الدين ابن عمه. والله تعالى أعلم بغيبه. |
خلع المنصور أيوب
ومقتل ه وعود المجاهد إلى ملكه ومنازعة الظاهر بن المنصور أيوب له ولما حبس المجاهد بقلعة تعز واستقل المنصور بالملك اجتمع شيعة المجاهد وهجموا على المنصور في بيته بتعز وحبسوه وأخرجوا المجاهد وأعادوه إلى ملكه ورجع أهل اليمن لطاعته. وكان أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب بالدملوة فعصى عليه وامتنع بها. وكتب إليه المجاهد يهدده بقتل أبيه فلج واتسع الخرق بينهما وعظمت الفتنة وافترق عليهما العرب وكثر عيثهم وكثر الفساد. وبعث المنصور من محبسه إلى ابنه عبد الله أن يسلم الدملوة خوفاً على نفسه من القتل فأبى عبد الله من ذلك وأساء الرد على أبيه. ولما يئس المجاهد منه قتل أباه المنصور أيوب بن المظفر في محبسه واجتمع أهل الدملوة وكبيرهم الشريف ابن حمزة وبايعوا أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب وبعث عسكراً مع الشهاب الصفوي إلى زبيد فحاصروها وفتحوها. وجهز المجاهد عسكره إليها مع قائده علي بن الدوادار ولما قاربوا زبيد أصابهم سيل وبيتهم أهل زبيد فنالوا منهم وأسروا أمراءهم. واتهم المجاهد قائده علي بن الدوادار بمداخلة عدوه فكتب إليه أن يسير إلى عدن لتحصيل مواليها وكتب إلى والي عدن بالقبض عليه ووقع الكتاب بيد الظاهر فبعث به إلى الدوادار فرجع إلى عدن وحاصرها وفتحها. وخطب بها للظاهر سنة ثلاث وعشرين وملك عدن بعدها. ثم استمال صاحب صنعاء وخوص فقاموا بدعوة الظاهر وبعث المجاهد إلى مذحج والأكراد يستنجدهم فلم ينجدوه وهو بحصن المعدية وكتب الظاهر إلى أشراف مكة وقاضيها نجم الدين الطبري بأن الأمر قد استقر له باليمن والله تعالى ولي التوفيق لا رب سواه. وصول العساكر من مصر مدداً للمجاهد واستيلاؤه على أمره وصلحه مع الظاهر ولما غلب الظاهر بن المنصور أيوب على قلاع اليمن وانتزعها من المجاهد وحاصره بقلعة المعدية بعث المجاهد سنة أربع وعشرين بصريخه إلى السلطان بمصر من الترك الناصر محمد بن قلاوون سنة خمس وعشرين فبعث إليه العساكر مع بيبرس الحاجب وأنيال من أمراء دولته ووصلوا إليه سنة خمس وعشرين فسار إليهم المجاهد من حصن المعدية بنواحي عدن إلى تعز فاستأمن إليه أهلها فأمنهم وراسلوا الظاهر في الصلح فأجاب على أن تكون له الدملوة وتحالفوا على ذلك. وطلب أمراء الترك الشهاب الصفوي الذي أنشأ الفتنة بين المجاهد والظاهر فامتنع من إجابتهم فركب بيبرس وهجم عليه في خيمته وقتله بسوق الخيل بتعز وأثخنوا في العصاة على المجاهد في كل ناحية حق أطاعوا وتمهد له الملك ورجعت العساكر إلى مصر سنة ست وعشرين والله سبحانه وتعالى أعلم. نزول الظاهر للمجاهد عن الدملوة ومقتله ولما استقام الأمر للمجاهد باليمن واستخلفه الظاهر على الدملوة أخذ المجاهد في تأنيسه وإحكام الوصلة به حتى اطمأن وهو يفتل له في الذروة والغارب حتى نزل له عن الدملوة وولى عليها من قبله وصار الظاهر في جملته. ثم قبض عليه وحبسه بقلعة تعز. ثم قتله في محبسه سنة أربع وثلاثين والله تعالى أعلم. حج المجاهد علي بن المؤيد داود وواقعته مع أمراء مصر واعتقاله بالكرك ثم اطلاقه ورجوعه إلى ملكه ثم حج المجاهد سنة إحدى وخمسين أيام حسن الناصري الأولى وير السنة التي حج فيها طاز كافل المملكة أميراً وحج بيبقاروس الكافل الآخر مقيداً لأن السلطان أمر طاز بالقبض عليه في طريقه فلما قبض عليه رغب منه أن يخلي سبيله لأداء فرضه فأجابه وحج مقيداً. وجاء المجاهد ملك اليمن للحج وشاع عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر أمراء مصر وعساكرها لأهل اليمن. ووقعت في بعض الأيام هيعة في ركب اليمن فتحاربوا وانهزم وذهب سواده وركب أهل اليمن كافة وأطلق بيبقاروس للقتال فجلا في تلك الوقعة وأعيد إلى اعتقاله. وحمل المجاهد إلى مصر معتقلاً فحبس ثم أطلق سنة اثنتين وخمسين في دولة الصالح. وبعثوا معه قشتمر المنصوري إلى بلاده. فلما انتهى إلى الينبع ظهر عليه قشتمر بأنه يروم الهرب فرده وحبسه بالكرك. ثم أطلق بعد ذلك وأعيد إلى ملكه وأقام على مهاداة صاحب مصر ومصانعته إلى أن توفي سنة ست وستين لاثنتين وأربعين سنة من ملكه. ولاية الأفضل عباس بن المجاهد علي ولما توفي المجاهد سنة ست وستين ولي بعده ابنه عباس واستقام له ملك اليمن إلى أن هلك سنة ثمان وسبعين لاثنتي عشرة سنة من ملكه والله تعالى أعلم. ولاية المنصور محمد بن الأفضل عباس ولما توفي الأفضل عباس بن المجاهد سنة ثمان وسبعين ولي بعده ابنه المنصور محمد واستولى على أمره واجتمع جماعة من مماليكه سنة اثنتين وثمانين للثورة به وقتله واطلع على شأنهم فهربوا إلى الدملوة وأخذهم العرب في طريقهم وجاؤوا بهم وعفا عنهم واستمر في ملكه إلى أن هلك ولاية أخيه الأشرف بن الأفضل عباس ولما توفي المنصور محمد بن الأفضل سنة ولي أخوه الأشرف إسماعيل واستقام أمره وهو صاحب اليمن لهذا العهد لسنة ست وتسعين والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. http://www.al-eman.com/Islamlib/images/up.gif الخبر عن دولة التتر من شعوب الترك وكيف تغلبوا علن الممالك الإسلامية وانتزوا على كرسي الخلافة ببغداد وما كان لهم من الدول المفترقة وكيف أسلموا بعد ذلك ومبدأ أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدم لنا ذكر التتر وأنهم من شعوب الترك وأن الترك كلهم ولد كومر بن يافث على الصحيح وهو الذي وقع في التوراة. وتقدم لنا ذكر أجناس الترك وشعوبهم وعددنا منهم الغز الذين منهم السلجوقية والهياطلة الذين منهم القلج وبلاد الصغد قريباً من سمرقند ويسمون بها أيضاً. وعددنا منهم الخطا والطغرغر وهم التتر وكانت مساكن هاتين الأمتين بأرض طمغاج ويقال إنها بلاد تركستان وكاشغر وما إليها من وراء النهر وهي بلاد ملوكهم في الإسلام وعددنا منهم الخزلجية والغور والخزر والخفشاخ وهم القفجاق ويمك والعلان. ويقال الآن وجركس وأركش. وعد صاحب روجار في كتابه على الجغرافيا العسسة والتغزغزية والخرخيرية والكيماكية والخزلجية والخزر والخلخ وبلغار ويمناك وبرطاس وسنجرت وخرجان وأنكر وذكر مساكن أنكر في بلاد البنادقه من أرض الروم. وجمهور هذه الأمم من الترك فيما وراء النهر شرقاً إلى البحر المحيط بين الجنوب والشمال من الإقليم إلى السابع والصين في وسط بلادهم. وكان الصين أولاً لبني صيني إخوانهم من بني يافث. ثم صار لهم واستولوا على معظمه إلا قليلاً من أطرافه على ساحل البحر وهم رحالة كما مر في ذكرهم أول الكتاب وفي دولة السلجوقية وأكثرهم في المفازة التي بين الصين وبلاد تركستان. وكان لهم قبل الإسلام دولة ولهم مع الفرس حروب مذكورة وملكهم لذلك العهد في بني فراسيان. وكان بينهم وبين العرب لأول الفتح حروب طويلة قاتلوهم على الإسلام فلم يجيبوا فأثخنوا فيهم وغليوهم على أطراف بلادهم وأسلم ملوكهم على بلادهم وذلك من بعد القرن الأول. وكانت لهم في الإسلام دولة ببلاد تركستان وكاشغر ولا أدري من أي شعوبهم كان هؤلاء الملوك. وقد قيل فيهم أنهم من ولد فراسيان ولا يعرف شعب فراسيان فيهم وكان هؤلاء الملوك يلقبون بالخاقان بالخاء والقاف سمة لكل من يملك منهم مثل كسرى للفرس وقيصر للروم. وأسلم ملوكهم بعد صدر من الملة على بلادهم وملكهم فأقاموا بها وكان بينهم وبين بني سامان الملوك القائمين فيما وراء النهر بدولة بني العباس حرب وسلم اتصلت حالهم عليها إلى أن تلاشت دولتهم ودولة بني سامان جميعاً. وقام محمود بن سبكتكين من موالي بني سامان بدولتهم وملكهم فيما وراء النهر وخراسان. وقد ظهر لذلك العهد بنو سلجوق وغلبوا ملوك الترك على أمرهم وأصبحوا في عداد ولاتهم شأن الدول البادية الجديدة مع الدول القديمة الحاضرة ثم قارعوا بني سبكتكين وغلبوهم على ملكهم فيما بعد المائة الرابعة واستولوا على ممالك الإسلام بأسرها وملكوا ما بين الهند ونهاية المعمور في الشمال وما بين الصين وخليج القسطنطينية في الغرب وعلى اليمن والحجاز والشام وفتحوا كثيراً من بلاد الروم واستفحلت دولتهم بما لم تنته إليه دولة بعد العرب والخلفاء في الملة. ثم تلاشت دولتهم وأنقرضت بعد مائتين من السنين شأن الدول وسنة الله في العباد. وكانوا بعد خروج السلجوقية إلى خراسان قد خلفتهم في بلاد بضواحي تركستان وكاشغر من أمم الترك أمة الخطا ومن ورائهم أمة التتر ما إلى تركستان وحدود الصين. ولم يقدر ملوك الخانية بتركستان على دفاعهم لعجزهم عن ذلك فكان أرسلان خان بن محمد بن سليمان ينزلهم مسالح على الدروب ما بينه وبين الصين ويقطعهم على ذلك ويوقع بهم على الفساد والعيث. ثم زحف من الصين ملك الترك الأعظم كوخان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ولحقت به أمم الخطا ولقيهم الخان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بن بقراخان صاحب تركستان وما وراء النهر من الخانية وهو ابن أخت السلطان سنجر بن ملك شاه صاحب خراسان من ملوك السلجوقية فهزموه. وبعث بالصريخ إلى خاله سنجر فاستنفر ملوك خراسان وعساكر المسلمين وعبر جيحون للقائهم. وسارت إليه أمم التتر والخطا وتواقعوا في صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة وانهزم سنجر وأسرت زوجته ثم أطلقها كوخان ملك الترك واستولى على ما وراء النهر. ثم مات كوخان سنة سبع وثلاثين وملكت بعده بنته ثم ماتت فملكت بعدها أمها زوجة كوخان وابنه محمد. ثم انقرض ملكهم واستولى الخطا على ما وراء النهر. ثم غلب على خوارزم علاء الدين محمد بن تكش كما قدمناه ويلقب هو وأبوه بخوارزم شاه. وكان ملوك الخانية ببلادهم فيما وراء النهر فاستصرخوا به على الخطا لما كثر من عيثهم وفسادهم فأجاب صريخهم وعبر النهر سنة ست وستمائة وملكهم يومئذ كبير السن بصير في الحرب فلقيهم فهزموه وأسر خوارزم شاه ملكهم طانيكوه وحبسه بخوارزم وملك سائر بلاد الخطا إلى أوركندا وأنزل بها نوابه وزوج أخته من الخان صاحب سمرقند وأنزل معه شحنة كما كانت للخطا وعاد إلى بلاده. وثار ملك الخانية بالشحنة بعد رجوعه بسنة وقتلهم وهم بقتل زوجته أخت خوارزم شاه وحاصره بسمرقند واقتحمها عليه عنوة وقتله في جماعة من أقاربه ومحا أثر الخانية وملكهم مما وراء النهر وأنزل في سائر البلد نوابه. وكانت أمة التتر من وراء الخطا هؤلاء قد نزلوا في حدود الصين ما بينها وبين تركستان وكان ملكهم كشلي خان ووقع بينهم وبين الخطا من العداوة والحروب ما يقع بين الأمم المتجاورة. فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بالخطا أرادوا الانتقام منهم وزحف كشلي خان في أمم التتر إلى الخطا لينتهز الفرصة فيهم فبعث الخطا إلى خوارزم شاه يتلطفون له ويسألونه النصر من عدوهم قبل أن يستحكم أمره وتضيق عنه قدرتهم وقدرته. وبعث إليه كشلي ملك التتر بمثل ذلك فتجهز يوهم كل واحد من الفريقين أنه له وأقام منتبذاً عنهما وقد تواقعوا وانهزم الخطا فمال مع التتر عليهم واستلحموهم في كل وجه. ولم ينج منهم إلا قليل تحصنوا بين جبال في نواحي تركستان وقليل آخرون لحقوا بخوارزم شاه فكانوا معه. وبعث خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتر يعتد عليه بهزيمة الخطا وأنها إنما كانت بمظاهرته فأظهر له الاعتراف وشكره. ثم نازعه في بلادهم وأملاكهم وبعث خوارزم شاه بحربهم. ثم علم أنه لا طاقة له بهم فمكث يراوغهم عن اللقاء وكشلي خان بعذله في ذلك وهو يغالطه واستولى كشلي خان خلال ذلك على كاشغر وبلاد تركستان وساغون. ثم عمد خوارزم شاه إلى الشاس وفرغانة واسبيجاب وقاشان وما حولها من المدن التي لم يكن في بلاد الله أنزه منها ولا أحسن عمارة فجلا أهلها إلى بلاد المسلمين وخرب جميعها خوفاً أن يملكها التتر بعد ذلك. وخرج على كشلي خان طائفة أخرى يعرفون بالمغل وملكهم جنكز خان فشغل كشلي خان بحربهم عن خوارزم شاه وعبر النهر إلى خراسان ونزل خوارزم إلى أن كان من أمره ما نذكره والله سبحانه وتعالى أعلم. |
استيلاء التتر على ممالك خوارزم شاه فيما وراء النهر وخراسان
ومهلك خوارزم شاه وتوليه محمد بن تكش ولما رحل السلطان إلى خراسان استولى على الممالك ما بينه وبين بغداد من خراسان ومازندان وباميان وغزنه إلى بلاد الهند وغلب الغورية على ما بأيديهم. ثم ملك الري وأصفهان وسائر بلاد الجبل وسار إلى العراق وبعث إلى الخليفة في الخطبة كما كانت لملوك بني سلجوق فامتنع الخليفة من ذلك كما مر ذلك كله في أخبار دولتهم. ثم عاد من العراق سنة ست عشرة وستمائة واستقر بنيسابور فوفدت عليه رسل جنكز خان بهدية من نقرة المعدنين ونوافج المسك وحجر اليشم والثياب الخطائية المنسوجة من وبر الإبل البيض وبخبر أنه ملك الصين وما بينها من بلاد الترك ويطلب الموادعة والإذن للتجار بالتردد لمتاجرهم من الجانبين وكان في خطابه إطراء السلطان خوارزم شاه بأنه مثل أعز أولاده فاستنكف السلطان من ذلك وامتعض له وأجمع عداوته واستدعى محموداً الخوارزمي من رسل جنكز خان واصطنعه ليكون عيناً له على صاحبه واستخبره عما قاله في كتابه من أنه ملك الصين. واستولى على مدينة طوغاج فصدق له ذلك وسأله عن مقدار العساكر فقللها وغشه في ذلك. ثم نكر عليه الخطاب بالولد. ثم صرف الرسل بما طلبوه من الموادعة والإذن للتجار ووصل على أثر ذلك بعض التجار من بلادهم إلى أطرار وبها أنيال خان ابن خال السلطان خوارزم شاه فعثره على أموالهم ورفع إلى السلطان أنهم عيون على البلاد وليسوا بتجار فأمره بالاحتياط عليهم ففعل وأخذ أموالهم وقتلهم خفية. وفشا الخبر إلى جنكز خان فبعث بالنكير على السلطان في ذلك وقال له إن كان فعله أنيال خان فابعثه إلي وتهدده على ذلك في كتابه فانزعج السلطان لها وقتل الرسل. وبلغ الخبر إلى جنكز خان فسار في العساكر إلى بلاده وجبى السلطان من سمرقند خراج سنتين حصن به أسوار سمرقند وجبى ثالثة استخدم بها الفرسان لحمايتها. ثم سار للقاء جنكز خان فكانت بينهما واقعة عظيمة هلك فيها كثير من الفريقين فكبسهم وهو غائب عنهم ورجع خوارزم شاه إلى جيحون وأقام عليه وفرق عساكره في أعمال ما وراء النهر بخارى وسمرقند وترمذ. وأنزل آبنايخ من أكبر أمرائه وأصحاب دولته في بخارى وجعلهم لنظره. ثم جاء جنكز خان إليه فعبر النهر مجفلاً وقصد جنكز خان أطرار فحاصرها وملكها غلاباً وأسر أميرها أنيال خان الذي قتل التجار فأذاب الفضة في أذنيه وعينيه. ثم حاصر بخارى وملكها على الأمان وقاتلوا معه القلعة حتى خربها. ثم غدر بهم فقتلهم وسباهم وفعل مثل ذلك في سمرقند سنة تسع عشرة. ثم كتب كتباً إلى أمراء خوارزم شاه قرابة أمه كأنها أجوبة عن كتبهم إليه باستدعائه والبراءة من خوارزم وذمه بعقوق أمه فبسط آمالهم في كتبه ووعد تركمان خان أم السلطان. وكانت في خوارزم فوعدها بزيارة خراسان وأن تبعث من يستخلفه على ذلك. وبعث بالكتب من يعترض بها للسلطان. فلما قرأها ارتاب بأمه وبقرابتها فاستوحشوا ووقع التقاطع والنفرة. ولما استولى جنكز خان على ما وراء النهر ونجا نائب بخارى في الفل أجفل السلطان وعبر جيحون ورجع عنه طوائف الخطا الذين كانوا معه وتخاذل الناس وسرح جنكز خان العساكر في أثره نحواً من عشرين ألفاً كانوا يسمونهم التتر المغربة لتوغلهم في البلاد غربي خراسان إلى بلاد القفجاق ووصل السلطان إلى نيسابور فلم يلبث بها وارتحل إلى مازندران والتتر في أثره. ثم انتهى إلى همذان فكبسوه هنالك وفرقوا جموعه ونجا إلى جبال طبرستان فأقام بقرية بساحل البحر في فل من قومه. ثم كبسه التتر أخرى فركب البحر إلى جزيرة في بحيرة طبرستان وخاضوا في أثره فغلبهم الماء ورجعوا وأقام خوارزم شاه بالجزيرة ومرض بها ومات سنة سبع عشرة وستمائة وعهد لابنه جلال الدين سكري. ولما بلغ خبر إجفاله إلى أمه تركمان خاتون بخوارزم خرجت سارية واعتصمت بقلعة أيلاز من مازندران ورجع التتر عن اتباع خوارزم شاه فافتتحوا قلاع مازندران وملكوها وملكوا قلعة أيلاز صلحاً وأسروا أم السلطان وبناته وتزوجهن التتر وتزوج دوشي خان بن جنكز خان واحدة وبقيت تركمان خاتون أسيرة عندهم في ذل وخمول. والله سبحانه وتعالى أعلم. مسير التتر المغربة بعد خوارزم شاه إلى العراق وأذربيجان واستيلاؤهم عليها إلى بلاد قفجاق والروس وبلاد الخزر ولما رجع التتر المغربة من اتباع خوارزم شاه سنة سبع عشرة عادوا إلى همذان وانتسفوا ما مروا عليه وصانعهم أهل همذان بما طلبوه. ثم ساروا إلى سنجار كذلك ثم إلى قومس فامتنعوا منهم وحاصروها وملكوها غلاباً وقتلوا أكثر من أربعين ألفاً. ثم ساروا إلى أذربيجان وصانعهم صاحب تبريز وانصرفوا إلى موقان ومروا ببلاد الكرج فاكتسحوها وجمعوا لهم فهزموهم وأثخنوا فيهم وذلك آخر سنة سبع عشرة. ثم عادوا إلى مراغة فملكوها عنوة في صفر سنة ثمان عشرة واستباحوا ورحلوا عنها إلى إربيل وبها مظفر الدين كوكبري. واستمد صاحب الموصل فأمده بالعساكر. ثم استدعاهم الخليفة الناصر إلى دقوقا للمدافعة عن العراق مع عساكره وولى عليهم مظفر الدين صاحب أربل فخام عن لقائهم وخاموا عن لقائه. وساروا إلى همذان وبها شحنتهم فامتنعوا من مصانعتهم وقاتلوهم فملكوها عنوة واستباحوها واستلحموا أهلها ورجعوا إلى أذربيجان فملكوا أردبيل وإستباحوها وخربوها وساروا إلى تبريز وقد فارقها أزبك بن البهلوان إلى نقجوان فصانعوهم بالأمان وساروا إلى بيلقان وملكوها عنوة وأفحشوا في القتل والمثلة واكتسحوا جميع الضاحية. ثم ساروا إلى كنجة قاعدة أران فصانعهم أهلها فساروا إلى بلاد الكرج فهزموهم وحاصروهم بقاعدتهم تفليس وردهم كثرة الأوعار عن التوغل فيها. ثم قصدوا دربند شروان وحاصروا مدينة سماجي ودخلوه عنوة وملكوه واستباحوه وأعجزهم الدربند عن المسير فراسلوا شروان في الصلح فبعث إليهم رجالاً من أصحابه فقتلوا بعضهم وقتلوا الباقين أذلاء. وأفضوا من الدربند إلى أرض أسحمة وبها من القفجاق واللاز والغز وطوائف من الترك مسلمون وكفار أمم لا تحصى. ولم يطيقوا مغالبتهم لكثرتهم فرجعوا إلى التضريب بينهم حتى استولوا على بلادهم. ثم اكتسحوها وأوسعوهم قتلاً وسبياً وفر أكثرهم إلى بلاد الروس وراءهم واعتصم الباقون بالجبال والغياض. وانتهى التتر إلى مدينتهم الكبرى سرداق على بحر نيطش المتصل بخليج القسطنطينية وهي مادتهم وفيها تجارتهم فملكها التتر وافترق أهلها في الجبال. وركب أهلها البحر إلى بلاد الروم في إيالة بني قليج أرسلان. ثم سار التتر سنة عشرين وستمائة من بلاد قفجاق إلى بلاد الروس المجاورة لها وهي بلاد فسيحة وأهلها يدينون بالنصرانية فساروا إلى مدافعتهم في تخوم بلاده ومعهم جموع من القفجاق أياماً. ثم انهزموا وأثخن فيهم التتر قتلاً وسبياً ونهباً وركبوا السفن هاربين إلى بلاد الإسلام وتركوا بلادهم فاكتسحها التتر. ثم عادوا عنها وقصدوا بلغار آخر السنة. واجتمع أهلها وساروا للقائهم بعد أن أكمنوا لهم ثم استطردوا أمامهم وخرج عليهم الكمناء من خلفهم فلم ينج منهم إلا القليل. وارتحلوا عائدين إلى جنكز خان بأرض الطالقان ورجع القفجاق إلى بلادهم واستقروا فيها. والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه. مسير جنكز خان إلى خراسان وتغلبه على أعمالها وعلى خوارزم شاه كان جنكز خان بعد أن أجفل خوارزم شاه من جيحون و مسير التتر المغربة في طلبه ملك سمرقند فبعث عسكراً إلى ترمذ وعسكراً إلى خوارزم وعسكراً إلى خراسان. وكان عسكر خوارزم أعظمها لأنها كرسي الملك ومأوى العساكر وبعث مع العساكر ابنه جفطاي وأركطاي فحاصروها خمسة أشهر وامتنعت فأمدهم جنكز خان بالعساكر متلاحقة وملكوها ناحية ناحية إلى أن استوعبوا. ثم نقبوا السد الذي يمنع ماء جيجون عنها فسال إليها جيجون فغرقها وتقسم أهلها بين السند والعراق هكذا قال ابن الأثير. وقال النسابي كاتب جلال الدين إن دوشي خان عرض عليهم الأمان وخرجوا إليه فقتلهم أجمعين وذلك في محرم سنة سبع عشرة وعاد دوشي خان والعساكر إلى جنكز خان فوجدوه بالطالقان. وأما عسكر ترمذ فساروا إليها وملكوها وتقدموا إلى كلابة من قلاع جيجون فملكوها وخربوها وعسكر فرغانة كذلك. وأما عسكر خوارزم فعبروا إلى بلخ وملكوها على الأمان سنة سبع عشرة وأنزلوا بها شحنة. ثم ساروا إلى الزوزان وأيدحور ومازندران فملكوها وولوا عليها. ثم ساروا إلى الطالقان وحاصروا قلعة صاركوه وكانت منيعة وجاءهم جنكز خان بنفسه بعد امتناعها ستة أشهر فحاصروها أربعة أشهر أخرى. ثم أمر بنقل الخشب والتراب ليجتمع به تل يتعالى به البلد. فلما استيقنوا الهلكة فتحوا الباب وصدقوا الحملة فنجا الخيالة وتفرقوا في البلاد والشعاب وقتل الرجالة ودخل التتر فاستباحوها. وبعث جنكز خان عسكراً ويقال قتل فيها أكثر من سبعين ألفاً. ثم بعث جنكز خان في العساكر إلى مدينة مرو وقد كان الناجون من هذه الوقائع انزووا إليها فاجتمعوا بظاهرها أكثر من مائتي ألف لا يشكون في الظفر فلما زحف إليهم التتر ولوا منهزمين وأثخنوا فيهم. ثم حاصروا البلد خمسة أشهر واستنزلوا أميرها على الأمان. ثم قتلوهم جميعاً وحضر جنكز خان قتلهم. يقال قتل فيها سبعمائة ألف. ثم ساروا إلى نيسابور فاقتحموها عنوة وقتلوا وعاثوا ثم إلى طرابلس كذلك. ثم ساروا إلى هراة فملكوها على الأمان وأنزلوا عندهم الشحنة وعادوا إلى جنكز خان بالطالقان وهو يرسل العساكر والسرايا في نواحي خراسان حتى أتوا عليها تخريباً وذلك كله سنة سبع عشرة والله تعالى أعلم. |
الساعة الآن 10:23 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |