![]() |
باب من أخبار الدولة العباسية رُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه افتقد عبد الله بن عباس وقت صلاة الظّهر فقال لأصحابه: ما بال أبي العبّاس لم يحضُر قالوا: ولد له مولود. فلما صلى عليّ الظهر قال: انقلبوا بنا إليه. فأتاه فهنّأه فقال له: شكرتَ الواهب وبُورك لك في الموهوب فما سمّيتَه قال: لا يجوز لي أن أُسميه حتى تُسميه أنت. فأمر به فأًخرج إليه فأخذه فحنّكه ودَعا له وردَّه وقال: خُذه إليك أبا الأملاك وقد سميّتُه علياً وكَنّيته أبا الحسن. قال: فلما قدم معاويةُ قال لابن عباس: لك اسمُه وقد كنّيته أبا محمد. فجرت عليه. وكان علي سيِّداً شريفاً عابداً زاهداً وكان يصلّي في كُل يوم ألف ركعة وضرُب مرَّتين كلتاهما ضَربه الوليد فإحداهما في تزوجيه لُبابة بنت عبد الله بن جعفر وكانت عند عبد الملك بن مروان فعضَّ تُفاحة ورَمى بها إليها وكان أبخر فدعت بسكّين. فقال: ما تصنعين به قالت: أميط عنها الأذى فطلَّقها فتزوَّجها عليّ بن عبد الله بن عبّاس فضَربه الوليد وقال: إنما تتزوج أمهاتِ أولاد الخُلفاء لتضع منهم. لأنّ مروان بن الحَكم إنما تزوَّج أُم خالد بن يزيد ليَضع منه. فقال عليّ بنُ عبد الله بن عباس: إنما أرادتْ الخُروج من هذه البلدة وأنا ابنُ عمها فتزوجتُها لأكون لها مَحرماً. وأما ضربهُ إياه في المرة الثانية فإن محمد بن يزيد قال: حدَّثني مَن رآه مَضروباً يُطاف به على بَعير ووجهُه مما يلي ذنَب البعير وصائح يصيح عليه: هذا عليّ بن عبد الله الكذّاب. قال: فأتيتُه فقلتُ: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكَذِب قال: بلغهم أني أقول إن هذا الأمرَ سيكون في ولدي والله ليكوننَّ فيهم حتى تملكَهم عبيدُهم الصغار العُيون العِراض الوجوه الذين كأنّ وجوههم المجانّ المُطرقة. وفي حديث آخر: إن عليّ بن عبد الله دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابناه: أبو العباس وأبو جعفر فشكا إليه ديناً لزمه فقال له: كم دَينُك قال: ثلاثون ألفاً فأمر له بقضائه فشكره عليه وقال: وصلتَ رحماً وأنا أريد أن تستوصي بابنيَّ هذين خيراً. قال: نعم. فلما تولّى قال هشام لأصحابه: إن هذا الشيخَ قد أهْتَر وأَسنّ وخُولط فصار يقول: إن هذا الأمر سينقل إلى ولده. فسمعه عليّ بن عبد الله بن العباس فقال: والله ليكوننِّ ذلك وليملكنّ ابناي هذان ما تملكه. قال محمد بن يَزيد: وحدِّثني جعفرُ بنُ عيسى بن جعفر الهاشميّ قال: حضَر عليُّ بن عبد الله مجلسَ عبد الملك بن مروان وكان مُكرماً له وقد أهديت له من خُراسان جارية وفَصّ خاتمَ وسيف. فقال: يا أبا محمد إنّ حاضر الهدية شريكٌ فيها فاختر من الثلاثة واحداً. فاختار الجارية وكانت تسمَّى سُعدى. وهي من سَبي الصغْد من رهط عُجيف بن عَنْبسة فأولدها سليمان بنَ عليّ وصالح بن عليّ. وذكر جعفرُ بن عيسى أنه لما أولدها سليمان أجتنبت فراشه فمرض سليمانُ من جُدريّ خَرج عليه. فانصرف عليّ من مُصلاَّه فإذا بها على فراشه فقال: مرحباً بك يا أم سليمان. فوقع عليها فأولدها صالحاً. فاجتنبت فراشَه فسألها عن ذلك. فقالت: خِفتُ أن يموت سليمان في مَرضه فينقطع النسبُ بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فالآن إذ ولد تُ صالحاً فالبحرّي إن ذهب أحدهما بقي الآخر وليس مِثلي وطيئة الرجال. وزعم جعفرٌ أنه كانت في سليمان رُتّة وفي صالح مثلُها وأنها موجودة في آل سليمان وصالح. وكان عليّ يقول: أكره أنْ أوصي إلى محمد ولدي وكان سيدَ ولده وكبيرَهم فأشينه بالوصيّة فأَوصى إلى سليمان. فلما دُفن عليّ جاء محمد إلى سُعدى ليلاً ولْكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما اصبح غداً عليه سليمان بالوصية فقال: فقال: أخرجي لي وصيّة أبي. قالت: إن أباك أجلُّ من أن تُخرَج وصيّته ليلاً ولكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما أصبح غداً عليه سليمان بالوصية فقال: يا أبي ويا أخي هذه وصيّة أبيك. فقال: جزاك الله من ابنٍ وأخ خيراً ما كنت لأثَرِّب على أبي بعد موته كما لم أثَرِّب عليه في حياته. العُتبي عن أبيه عن جدّه قال: لما اشتكى معاويةُ شكاتَه التي هلك فيها أرسل إلى ناس من جلّة بني أمية ولم يحضرها سفياني غيري وغير عثمان بن محمد فقال: يا معشر بني أمية إني لما خِفْتُ أن يسبقكم الموتُ إليَّ سبقته بالموعظة إليكم لا لأرد قَدَراً ولكن لأبلغِ عُذْراً. إن الذي اخلِّف لكم من دنياي أمرٌ ستُشاركون فيه وتُغْلبون عليه والذي أخَلف لكم من رأى أمر مقصور لكم نَفْعه إن فعلتموه مَخوف عليكم ضرَره إن ضَيّعتموه. إن قريشاً شاركتكم في أنسابكم وانفردتُم دونها بأفعالكم فقدَّمكم ما تقدمتُم له إذ أخَّر غيرَكم ما تأخروا عنه ولقد جُهل بي فَحَلمْت ونُقر لي ففهمت حتى كأني أنظر إلى أبنائكم بعدكم كنظري إلى آبائهم قبلهم. إنّ دولتكم ستطول وكل طويل مملول وكل مملول مخذول. فإذا كان ذلك كذلك كان سببُه اختلافَكم فيما بينكم واجتماعَ المختلفين عليكم فيُدْبر الأمرُ بضد ما اقبل به. فلستُ أذكر جسيماً يُركب منكم ولا قبيحاً يُنتهك فيكم إلا والذي أمسك عن ذكره أكثُرُ وأعظم ولا مُعوّل عليه عند ذلك أفضلُ من الصبر واحتساب الأجر. سيمادكم القومُ دولتَهم امتداد العِنانين في عُنق الجواد حتى إذا بلغ الله بالإمر مَداه وجاء الوقتُ المبلول بريق النبيّ صلى الله عليه وسلم مع الحِلْقة المطبوعة على مَلالة الشيء المَحبوب كانت الدولةُ كالإناء المُكْفأ. فعندها أوصيكم بتقوى الله الذي لم يتَّقه غيركم فيكم فجعل العاقبةَ لكم والعاقبةُ للمتقين. قال عمرو بن عُتبة: فدخلتُ عليه يوماً آخر فقال: يا عمرو أوعيتَ كلامي قلت: وعيتُ. قال: أعِد عليّ كلامي فقد كلمتُكم وما أراني أمسي من يومكم ذلك. قال شبيبُ بن شَيبة الأهتميّ: حججت عامَ هلك هشامُ وولي الوليدُ بن يزيد وذلك سنة خمس وعشرين ومائة فبينما أنا مُريح ناحية من المسجد إذ طلع من بعض أبواب المسجد فَتى أسمرُ رقيقُ السمرة موفر اللمة. خفيف اللحية رَحب الجبهة أقنى بينّ القَنَى أعينُ كأنّ عينيه لسانان يَنطقان يخلط أبهة الأملاك بزيِّ النُّساك تَقبله القلوب وتَتبعه العيون يُعرف الشَرف في تواضعه والعِتْق في صُورته واللُّب في مِشيته. فما ملكتُ نفسي أن نهضتُ في أثره سائلاً عن خبره وسَبقنيِ فتحرَّم بالطواف فلما سبَّع قصد المقام فركع وأنا أرعاه ببصري. ثم نَهض مُنصرِفاً فكأن عيناً أصابته فكبا كَبوة دَميت لها إصْبعه فقعد لها القرفصاء فدنوتُ منه متوجّعاً لما ناله مُتّصلاً به أمسح رجله من عَفر التراب فلا يَمتنع عليَ ثم شققتُ حاشية ثوبي فعصبت بها إصبعه وما يُنكر ذلك ولا يَدْفعه ثم نهض متوكئاً عليّ. وانقدتُ له أماشيه حتى إذا أتى داراً بأعلى مكّة ابتدره رجلان تكاد صدورهما تَنفرج من هَيبته ففتحا له الباب. فدخل واجتذبني فدخلتُ بدخوله ثم خلّى يدي وأقبل على القِبْلة فصلى ركعتين أوجز فيهما في تَمام ثم استوى في صدر مجلسه فحمِدَ الله وأثنى عليه وصلَّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم أتم صلاة وأطيبها ثم قال: لم يَخْف عليّ مكانك منذ اليوم ولا فعلُك بي فمن تكون يرحمك اللهّ قلت: شَبيب بن شيبة التميميّ. قال: الأهتميّ قلتُ: نعم. قال: فرحّب وقَرّب ووصف قومي بابين بيان وأفصح لسان. فقلت له: أنا أجلك أصلحك اللّه عن المسألة وأحب المعرفة. فتبسم وقال: لطف أهل العراق أنا عبدُ الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس. فقلت: بأبي أنت وأمي ما أشبَهك بنَسبك وأدلَك على مَنْصبك ولقد سبق إلى قلبي من محبّتك ما لا أبلغه بوَصفي لك. قال: فأحمد الله يا أخا بني تميم فإنّا قوم يُسعد الله بحُبنا من احبّه ويُشقي ببُغضنا من أبغضه ولن يصل الإيمانُ إلى قلب أحدكم حتى يُحبَّ الله ويُحب رسوله ومهما ضَعُفنا عن جزائه قوِي الله على أدائه. فقلت له: أنت تُوصف بالقلم وأنا من حَمَلته وأيامُ الموسم ضَيقة وشُغل أهل مكة كثير وفي نفسي أشياء احب أن أسأل عنها أفتأذن لي فيها جُعلت فداك قال: نحن من أكثر الناس مُستوحشون وأرجو أن تكون للسرِّ موضعاً وللأمانة واعياً فإِن كنتَ كما رجوتُ فافعل. قال: فقدّمت من وثائق القول والإيمان ما سكَن إليه فتلا قولَ اللّه: " قُلْ أيّ شيءٍ أكْبرُ شهادةً قُل الله شهيد بَيْني وبَيْنكم " ثم قال: سَل عما بدا لك. قلت: ما ترى فيمن على الموسم وكان عليه يوسف بن محمد بن يوسف الثَّقفي خال الوليد. فتنفّس الصُّعداء وقال: عن الصلاة خَلْفه تسألني أم كرهتَ أن يتأمَّر على آل الله مَن ليس منهم قلت: عن كلا الأمرين. قال: إن هذا عند الله لعظيم فأما الصلاة ففرضُ للّه تَعبّدَ به خلقَه فأدَ ما فرَض الله تعالى عليك في كل وقت مع كُل أحد وعلى كل حال فإن الذي نَدبك لحجّ بيته وحُضور جماعته وأعياده لم يُخبرك في كتابه بأنه لا يَقبل منك نُسكاً إلا مع أكمل المؤمنين إيماناً رحمةً منه لك ولو فعل ذلك بك ضاق الأمْر عليك فاسْمَح يُسمح لك. قال: ثم كرّرت في السؤال عليه فما احتجتُ أن أسأل عن أمر دين أحداً بعده. ثم قلت: يَزعم أهلُ العلم أنها ستكون لكم دولة. فقال: لا شكِ فيها تَطلع طُلوعَ الشمس وتَظهر ظهورَها فنسأل الله خيرَها ونعوذ بالله من شرها فخِذ بحظّ لسانك ويدك منها إن أدركتَها. قلت: أو يتخلّف عنها أحد من العرب وأنتم سادتها قال: نعم قَوم يأبون إلا الوفاء لمن أصطنعهم ونأبى إلا طلباً بحقنا فنُنصر ويُخذلون كما نُصر بأولنا أولُهم ويُخذل بمُخالفتنا من خالف منهم. قال: فاسترجعتُ. فقال: سَهِّل عليك الأمر " سُنة الله التي قد خَلَت من قبل ولن تَجد لسُنةِ الله تبديلاً ". وليس ما يكون منهم بحاجز لنا عن صِلة أرحامهم وحفظ أعقابهم وتجديد الصّنيعة عندهم. قلت: كيف تسلم لهم قلوبُكم وقد قاتلوكم مع عدوّكم قال نحن قوم حُبّب إلينا الوفاء وإن كان علينا وبُغِّض إلينا الغَدر وإن كان لنا وإنما يَشد علينا منهم الأقل فأما أنصار دَولتنا ونُقباء شِيعتنا وأمراء جُيوشينا فهم مواليهم ومَوالي القوم من أنفسهم. فإذا وَضعت الحرب أوزارها صَفحنا بالمُحسن عن المسيء ووَهبنا للرجل قومه ومَن اتصل بأسبابه فتذهب النَّائرة وتَخبو الفِتْنة وتطمئنّ القلوب. قلت: ويقال: إنه يُبتلى بكم مَن أخلص لكم المَحبة. قال: قد رُوي أن البلاء أسرعُ إلى مُحبِّينا من الماء إلى قراره. قلت: لم أُرد هذا. قال فمَهْ قلت: تَعُقّون الولي وتحظون العدو قال مَن يسعد بنا من الأولياء أكثر ومن يَسلم منا من الأعداء أقلّ وأَيسر وإنما نحن بَشر وأكثرنا أذن ولا يعلم الغيبَ إلا الله وربما استترت عنّا الأمور فنقع بما لا نُريد وإن لنا لإحساناً يَأسو الله به ما نَكْلم ويَرُمّ به ما نَثْلم ونستغفر الله مما لا نَعلم وما أنكرتُ من أن يكون الأمرُ على ما بلغك ومع الوَليّ التعزُّز والإدلال والثِّقة والاسترسال ومع العدوّ التحرّز والإحتيال والتذلّل والإغتيال وربما أمَلَّ المُدِلّ وأخلَّ المُسترسل وتجانب المُتقرّب ومع المقة تكون الثقة على أنّ العاقبةَ لنا على عدوّنا وهي لوليّنا وإنك لسؤول يا أخا بني تميم. قلت: إني أخاف أن لا أراك بعد اليوم. قال: إني لأرجو أن أراك وتراني كما تحب عن قَريب إن شاء الله تعالى. قلت: عَجّل الله ذلك. قال: آمين. قلتُ: ووهب لي السلامة منكم فإني من مُحبِّيكم. قال آمين وتبسم. وقال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث. قلت: وما هي قال: قدْح في الدين أو هَتْك للمُلك أو تُهمة في حُرمة. ثم قال: احفظ عنّي ما أقول لك: أصدُق وإن ضرك الصدق وأنصَح وإن باعدك النُّصح ولا تجالس عدوّنا وإن أَحظيناه فإنه مَحذول ولا تَخذل ولينا وإن أبعدناه فإِنه مَنصور وأصحبنا بترك المُماكرة وتواضع إذا رفعوك وصِلْ إذا قطعوك ولا تَستخْفِ فيمقتوك ولا تَنْقبض فيتحشَّموك ولا تبدأ حتى يبدءوك ولا تخطب الأعمال ولا تتعرَّض للأموال. وأنا رائح من عَشيتي هذه فهل من حاجة فنهضتُ لوداعه فودَّعته ثم قلت: أترقتُ لظهور الأمر وقتاً قال: الله المقدِّر المُوقِّت فإذا قامت النَّوحتان بالشام فهما آخر العلامات. قلت: وما هما قال: موت هشام العامَ وموتُ محمد بن عليّ مستهلَّ ذي القعدة وعليه أخْلِفتْ وما بلغْتكم حتى أنضيت. قلتُ: فهل أَوْصى قال نعم إلى ابنه إبراهيم. قال: فلما خرجت فإذا مولى له يَتْبعني حتى عَرف منزلي ثم أتاني بكُسوة من كُسوته فقال: يأمرك أبو جَعفر أن تصلَيَ في هذه قال: وافترقنا. قال: فوالله ما رأيتُه إلا وحرسيَّان قابضان عليّ يُدنياني منه في جَماعة من قومي لأُبايعه. فلما نَظر إليَّ أَثبتنَي فقال: خلِّيا عمن صحَت مودتُه وتقدَمت حُرمته وأخدتْ قبل اليوم بيعتُه. قال: فأكبر الناسُ ذلك من قوله ووجدتهُ على أوّل عهده لي ثم قال لي: أين كنتَ عنّي في أيام أخي أبي العبّاس. فذهبتُ أعتذر. قال: أَمسِك فإنّ لكل شيء وقتاً لا يعدوه ولن يَفوتك إن شاء الله حظُّ مودّتك وحق مُسابقتك فاختر بين رِزْقٍ يَسعك أو عمل يرفعك. قلت: أنا حافظ لوصيَّتك. قال: وأنا لها أحفظ إنما نهيتُك أن تخطُب الأعمال ولم أَنهك عن قَبولها. قلت: الرزقُ مع قرب أمير المؤمنين أحبُّ إليَّ. قال: ذلك لك وهو أجمّ لقلبك وأَودع لك وأعفَى إن شاء الله ثم قال: هل زدتَ في عِيالك بعدي شيئاً وكان قد سألني عنهم فذكرتُهم له فعجبتُ من حفظه قلت: الفرسَ والخادم. قال: قد أَلحقنا عيالَك بعيالنا وخادمك بخادمنا وفرسك بخَيلنا ولو وسعني لحملتُ إليك بيت المال وقد ضممتُك إلى المهديّ وأنا أُوصيه بك فإنه أَفرغ لك مني. قال لأحوص بن محمد الشاعر الأنصاريّ من بني عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الذي حَمت لَحمه الدَّبْر يُشبِّب بامرأة يقال لها أم جعفر فقال فيها: أدورُ ولولا أن أرى أم جَعفر بأبياتكم ما دُرت حيث إِدُور وكان لأم جعفر أخٌ يقال له أيمن فأستعدَى عليه ابنَ حَزم الأنصاري وهو والي المدينة للوليد بن عبد الملك وهو أبو بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزم فبعث ابنُ حزم إلى الأحوص فأتاه. وكان ابنُ حزم يُبغضه فقال: ما تقول فيما يقول هذا قال: وما يقول قال: يزعم أنك تُشبّب بأخته ولد فضحتَه وشَهرت أخته بالشعر. فأنكَر ذلك. فقال لهما: قد اشتبه علي أمرُكما ولكنني أدفع إلى كُل واحد منكما سَوطاً ثم اجتِلدا وكان الأحوص قصيراً نحيفاً وكان أيمن طويلاً ضخماً جَلْداً. فغلب أيمنُ الأحوصَ فضَربه حتى صَرعه وأثخنه. فقال أيمن: لقد مَنع المعروفَ من أم جعفر أشمُ طويلُ السّاعدين غَيورُ قال: فلما رأى الأحوص تحامُلَ ابْنِ حزم عليه امتدح الوليدَ ثم شَخص إليه إلى الشام فدخل عليه فأنشده: لا ترثين لَحزْميٍّ رأيتَ به ضُرًّا ولو ألقي الحَزميُّ في النار الناخسين لمَروان بذي خُشُب المُدْخلين على عُثمان في الدار قال له صدقتَ والله لقد كُنّا غَفلنا عن حزم وآل حزم ثم دعا كاتبَه فقال: اكتُب عهد عثمان بن حيّان المُري على المدينة وأعزِل ابن حزم واكتُب بقبض أموال حَزم وآل حَزم وإسقاطهم أجمعين من الديوان ولا يأخذون لأمويّ عطاءً أبداً ففعل ذلك. فلم يزالوا في الحِرمان للعطاء مع ذَهاب الأموال والضِّياع حتى انقضت دولةً بنى أمية وجاءت دولة بني العبّاس. فلما قام أبو جعفر المنصور بأمر الدولة قدم عليه أهل المدينة فجلس لهم فأمر حاجبَه أن يتقدّم إلى كل رلّ منهم أن يَنتسب له إذا قام بين يديه فلم يزالوا على ذلك يفعلون حتى دخل عليه رجلٌ قَصير قَبيح الوجه فلما مَثل بين يديه قال له: يا أمير المؤمنين أنا ابنُ حزم الأنصاريّ الذي يقول فينا الأحوص: لا تَرثينّ لحزميٍ رأيتَ به ضرًا ولو ألقي الحَزميُّ في النار الناخسين لمروان بذي خُشب والمدخلين على عثمان في الدار ثم قال: يا أمير المؤمنين حُرمنا العطاء منذ سِنين وقُبضت أموا لُنا وضياعُنا. فقال له المنصور: أعِد عليَّ البيتين. فأعادهما عليه. فقال: أما والله لئن كان ذلك ضَرَّكم في ذلك الحين ليَنفعنَّكم اليوم ثم قال: عليَ بسليمان الكاتب. فأتاه أبو أيوب الخُوزيّ. فقال: اكتُب إلى عامل المدينة أن يَرُدّ جميع ما اقتطعه بنو أميَّة من ضِياع بني حَزم وأموالهم ويَحسب لهم ما فاتَهم من عطائهم وما استُغلَّ من غَلاّتهم من يومئذٍ إلِى اليوم فيُخلف لهم جميعَ ذلك من ضِياع بني مَروان ويَفْرض لكُل واحد منهم في شرَف العطاء - وكان شرفُ العطاء يومئذ مائتي ألف دينار في السنة - ثم قال: عليَّ الساعة بعشرة آلاف دَرهم تُدفع إلى هذا الفتى لنَفقته. فخرج الفتى من عنده بما لم يَخرج به أحد ممن دخل عليه. ذكر خلفاء بني العباس وصفاتهم ووزرائهم أبو العباس السفاح ولد أبو العبَّاس عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن العبَّاس بن عبد المطلب مُستهل رجب سنةَ أربع ومائة. وبُويع له بالكوفة يومَ الجمعة لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من ربيعٍ الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وتُوُفِّي بالأنبار لثلاثَ عشرَةَ ليلةً خلت من ذي الحجَّة سنةَ ستّ وثلاثين ومائة. فكانت خلافتُه أربعَ سنين وثمانيةَ أشهر. وأمه رَيطة بنتُ عبيد الله بن عبد الله ابن عبد المَدان. وكان أبيضَ طويلاً أقنَى الأنف حسنَ الوجه حسنَ اللّحية جعدَها. نقشُ خاتمه " الله ثقة عبد الله وبه يؤمن ". وصلى عليه عمُه عيسى بن عليّ. ورُزق من الولد اثنين: محمد من أم ولد ومات صغيراً وابنة سمَّاها رَيطة من أم ولد تزوَّجها المهديُّ وأولدها عليّاً وعُبيد اللّه. ووَزَر له أبو سَلمة حَفْص بن سليمان الخلال وهو أول من لُقِّب بالوزارة. فقتلهِ أبو العبّاس وأستوزر بعده خالَد بن بَرْمك إلى آخر أيَّامه وكان حاجَبه أبو غسان صالحُ بن الهيثم وقاضيَه يحيى بنُ سعيد الأنصاريّ. وبُويع أبو جعفر المنصور. واسمه عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله ابن العبّاس في اليوم الذي تُوفِّي فيه أخوه لثلاثَ عشرةَ خلت من ذي الحجَّة سنةَ ستّ وثلاثين ومائة. وكان مولدُه بالشراة لسبعٍ خَلونَ من ذي الحجة سنةَ خمس وتسعين. وتُوفِّي بمكة قبل التَرْوية بيوم لسبعٍ خَلَونَ من ذي الحجة سنة ثمانٍ وخمسين ومائة وهو مُحْرم. ودُفن بالحَجون. وصلَّى عليه إبراهيمُ بن يحيى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بنِ العبِّاس. وكانت مُدَّة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا ثمانيةَ أيام. وكانت سِنّه ثلاثاً وستين سنة. وأمُّه أَمَة اسمها سَلامة. وجِنْسها بربرية. وكان أسمرَ طُوالاً نحيفَ الجسم خفيفَ العارضين يَخْضِب بالسواد. ونقش خاتمه " الله ثقة عبد الله وبه يؤِمن ". وتزوَج بنت منصور الحِمْيرية وولدت له: محمداً وهو المهديُّ وجعفراً. وكانت شرطت عليه ألا يتزوج ولا يتسرَّى إلا عن أمرها. وكان قد ابتاع جاريته أمَّ عليّ وجعلها قيِّماً في داره على أمِّ موسى وأولاده. فحظيت عند أمِّ موسى وسألته التسرِّي بها لمَا رأت من فضلها. فواقعها فأولدها عليّاً وتوفي قبل استكمال سَنة ثم فاطمة بنت محمد من ولد طَلحة بن عُبيد اللّه فولدت له سُليمان وعيسى ويعقوب. ورُزق من أمهات الأولاد: صالحاً والعالية وجعفراً والقاسمَ والعبَّاس وعبد العزيز. ووُزر له ابنُ عطية الباهليّ ثم أبو أيوب الموريانيّ ثم الربيع مولاه. وكان حاجبه عيسى بنُ روضة مولاه ثم أبو الخَصيب مولاه. وكان قاضيَه عبدُ الله بن محمد بن صفوان ثم شريك بن عبد اللّه والحسن بن عمار والحجَّاج بن أرطاة. المهدي ثم بُويع ابنُه أبو عبد الله محمد المهديُ بن عبد الله المَنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبَّاس صبيحة اليوم الذي تُوفي فيه أبوه لستٍّ خلَوِن من ذي الحجة سنةَ ثمان وخمسين ومائة. وكان مولدُه بالحميمة يومَ الخميس لثلاث عشرةَ ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة ستٍّ وعشرين ومائة. وتُوفي بما سَبَذان في المُحرم سنة تسع وستين ومائة. وصلّى عليه ابنُه الرشيدُ - فكانت خلافته عشرَ سنين وخمسةً وأربعين يوماً. وكانت سنه إحدى وأربعين سنة وثمانيةَ أشهر ويومين. وكان أسمرَ طويلاً معتدلَ الخلف جعدَ الشعر بعينه اليمنى نُكتة بياض نقش خاتمه " الله ثقة محمد وبه يؤمن " وتزوَج رَيطة بنت السفاح وأولدها علياً وعُبيد اللهّ. وأول جارية ابتاعها مَحْياة فرُزق منها ولداً مات قبل استكمال سنة. وكان يبتاع الجواري باسمها وتُقَربهن إليه. وأول من حَظِي منهن عنده رحيم ولدت له العباسة ثم الخَيزران فولدت له موسى وهارون والبانوقة ثم حللة وحَسنة وكانتا مغنيتين مُحسنتين. وتزوج سنة تسع وخمسين ومائة أمَ عبد الله بنت صالح بن علي أخت الفضل وعبد اللهّ وأعتق الخيزران في السنة وتزوَّجها. ووَزر له أبو عبد الله مُعاوية بن عبد الله الأشعري ثم يعقوب بن داود السلمي ثم الفيض بن أبي صالح. واستحجب سلامان الأبْرش. واستخلف علي القضاء محمد بن عبد الله بن عُلاثة وعافيةَ بن يزيد كانا يَقْضيان معاً في مسجد الرُصافة. الهادي ثم بويع ابنُه أبو محمد موسى الهادي بن المهديّ مستهل صفر سنة تسع وستين ومائة. وتُوفي ليلة الجمعة لأربعَ عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيعِ الأول سنة سبعين ومائة بعِيساباد. وصلّى عليه أخوه الرشيد. وكانت خلافتُه سنة وشهرين إلا أياماً. وكانت سنُّه ستاً وعشرينِ سنة. وكان أبيضَ طويلاً جسيماً بشَفته العليا تقلُص. نقش خاتمه " الله ربي ". وتزوَّج أمةَ العزيز فأولدها عيسى ثم رحيم فأولدها جعفراً ثم سعوف فأولدها العباس واشترى جاريته حسنة بألف درهم وكانت شاعرةً فرُزق منها عدَة بنات منهن أم عيسى تزوَّجها المأمون. وكان له من أمهات الأولاد عبد الله وإسحاق وموسى وكان أعمى. ووَزر له الربيع بن يونس ثم عمر بن بَزيع. واستحجب الفضلَ بن الربيع. وولى القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيمَ في الجانب الغربيّ وسعيدَ بن عبد الرحمن الجُمحيّ بالجانب الشرقي. هارون الرشيد ثم بُويع أخوه أبو محمد هارون الرشيد في اليوم الذي توفي فيه أخوه يومَ الجمعة لأربَع عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وفي هذه الليلة وُلد عبد الله المأمون. ولم يكن في سائر الزمان ليلة وُلد فيها خليفة وتُوفي فيها خليفة وقام فيها خليفة غيرها. وكان مولد الرشيد في المُحرم سنة ثمان وأربعين ومائة. وتُوفِّي في جُمادى الأولى سنةَ ثلاث وتسعين ومائة ودُفن بطوس. وصلَّى عليه ابنُه صالح. فكانت خلافتُه ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً وستةَ عشر يوماً. وكانت سنُه ستًا وأربعين سنة وخمسة أشهر. ولما أفضتْ إليه الخلافةُ سلّم عليه عمُه سليمان المَنصور والعبَّاس بن محمد عُم أبيه وعبدُ الصمد ابن علي عمّ جده فعبدُ الصمد عم العباس والعبّاس عمُّ سليمان وسِليمان عم هارون. وكان الرشيد أبيضَ جسيماً طويلاً جميَلاً. قد وَخطه الشيب. نقش خاتمه " لا إله إلا الله " وخاتم آخر " كن من الله على حذر " وتزوَج زُبيدة واسمُها أمَة العزيز وتُكنى أمَّ الواحد وزُبيدة لقب لها. وهي ابنة جعفر بن المَنصوِر أولدها محمداً الأمين ثم مراجل فأولدها عبد الله المأمون وماردة أولدها محمداً المعتصم ونادر ولدت له صالحاً وشجا ولدت له خديجة ولبابة وسريرة ولدت محمداً وبَربرية ولدت له أبا عيسى ثم القاسم وهو المؤتمن وسكينة وحث فولدت له إسحاق وأبا العبَّاس. وَوزر له جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي وقَتله ثم الفضل بن الربيع. واستحجب بِشرَ بن ميمون مولاه ثم محمد بن خالد بن بَرمك. واستخلف على قَضاء الجانب الغربي نُوحَ بن دَرَّاج وحفصَ بن غِياث. الأمين ثم بويع أبو عبد الله محمد الأمين في جُمادي الآخرة سنة ثلاثٍ وتسعين ومائة. وقُتل يومَ الأحد لخمس بقين من المُحرم سنة ثمانٍ وتسعين ومائة. وكان مَولده بالرُّصافة سنةَ إحدى وسَبعين ومائة في شوَّال. فكانت خلافته أربعَ سنين وستةَ أشهر وأياماً. صفا له الأمر في جُملتها سنتين وشهراً. وكانت الفتنة بينه وبين أخيه سَنتين. وكان طويلاً جسيماً جميلاً حسنَ الوجه بعيدَ ما بين المَنْكبين أشقرَ سبطاً صغير العَينين به أثر جُدري. نقش خاتمه " محمد واثق بالله ". ورُزق من الولد موسى من أم ولد تُدعى نَظم ولَقبه الناطق بالحق وضرَب اسمَه على الدراهم. وذكر الصُّولي قال: حدّثني مَن قرأ على دِرهم: كُل عز ومفخر فلمُوسى المُظفِّرِ مَلك خُطَّ ذِكْرُه في الكَتاب المُسَطّرِ نفسي فداؤك لا يذهب بك التلف ففي بَقائك ممَّن قد مَضى خَلف عُوِّضت مُوسى فماتت كُال مَرزية ما بعد مُوسى على مَفقودةٍ أسف وبايع لابنه مولى في حياته ولأخيه عبد اللّه وأمه أمّ ولد ونَقَش اسمَه أيضاً على الدراهم. وكان لجعفر بن موسى الهادي جاريةِّ اسمُها بَذْل فطلبها الأمين منه فأبى عليه وكان شديدَ الوجد بها. فزاره الأمينُ يوماً فسُر به وزاد عليه في الشرب حتى ثمل فانصرف وأخذ الجارية. فلما أصبح جعفر نَدم على ما جرى ولم يَدْر ما يصنع. فدخل على الأمين. فلما مَثل بين يديه قال له: أحسنت والله يا جعفر بدَفعك بذل إلينا وما أحسنّا. ووَقر زَورقه بعشرين ألفَ ألفِ درهم. ووَزر للأمين الفضلُ بن الرَّبيع إلى آخر أيامه. وكان حاجبَه العباسُ بن الفضل بن الربيع ثم عليُّ بن صالح صاحب المُصلّى ثم السِّندي بن شاهك. المأمون ثم بُويع أبو العبِّاس عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بعد قَتل أخيه يومَ الخميس لخمس خلون من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة. وكان مولدُه بالياسرية في ليلة الجمعةَ لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وتُوفي بالبَذَنْدُون سنة ثماني عشرة ومائتين لثمانٍ خلون من رجب. ودُفنِ بطرسوس فكانت خلافتُه عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثةَ عشرَ يوماً وكانت سنُه ثمانياً وأربعين سنة وأربعةَ أشهر إلا أياماً. وكان أبيضَ تعلوه شُقرة أجنأ أعينَ طويلَ اللحية رقيقَها ضيقَ الجبين بخدِّه خالٌ أسود وكان قد وَخطه الشيب. نَقْش خاتمه " سَل الله يُعطك ". وكان الرشيد حدَّ المؤمون. وذلك أنه دَخل على الرشيد وعنده مُغَنية تُغنيه فلَحنت فكسر المأمون عينه عند استماعه اللحن فتغيّر لونُ الجارية وفَطن الرشيد لذلك فقال: اعْلمتها بما صنعت قال: لا والله يا مولاي. قال: ولا أومأتَ إليها قال: قد كان ذلك. فقال: كُن منّي بمرأى ومَسمع فإذا خرج إليك أمرى فانته إليه ثم أخذ دواةً وقرطاساً وكتب إليه: يا آخذ اللَّحن على ال قينة عند الطَربِ تُريد أن تفهمها حدَّ لُغات العرب أقسم بالله وما سَطَر أهلُ الكُتب للكَلب خيرٌ أدباً مِن بعض أهل الأدب إذا قرأتَ ما كتبتُ به إليك فَأمُر مَن يضربك عشرين مَقرعة جياداً. فدعا المأمون البوابين ثم أمرهم ببَطحه وضَربه فامتنعوا. فأقسم عليهم فامتثلوا أمره. ورُزق من الولد محمداً الأصغر وعُبيد اللّه من أم عيسى بنت موسى الهادي. وتزوَّج بُوران بنت الحسن بن سَهل بنى بها سنةَ عشر ومائتين ووَهب لأبيها عشرةَ آلافِ ألفِ درهم ولولده ألفَ ألفِ درهم. وكان له عدّة أولاد من بنين وبنات. ووَزر له الفضلُ بن سهل ذو الرياستين ثم الحسنُ بن سهل ثم أحمد بن أبي خالد ثم أحمد بن الأحول يوسف ثمِ ثابت بن يحيى ثم محمد بن يزداد. واستحجب عبدَ الحميد بن شَبيب ثم محمداً وعلياً ابني صالح مولى المنصور. المعتصم باللّه ثم بُويع أخوه أبو إسحاق المُعتصم بن الرشيد يومَ الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين. وكان مولده في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومائة. وتُوفي بسرَ من رأىِ يوم الخميس لاثنتي عشرةَ ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين. وصلّى عليه ابنُه هارون الواثق. وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر. وأمه أم ولد يقال لها ماردة. وكان أبيضَ أصهبَ اللحية طويلها مَربوعاً مُشرب اللون حُمْرةً. نقش خاتمه " الله ثقة أبي إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن " وكان شديدَ البأس حَمل باباً من حديد فيه سبعُمائةٍ وِخمسون رطلاً وفوقه عِكام فيه مائتان وخمسون رطلاً وخَطا خُطا كثيرة وكان يُسمَى ما بين إصبعي المُعتصم المِقطرة لشدّته. وإنه أعتمد يوماً على غلام فدقَّه. وذكر الصُوليّ أنه كان يسمى المُثمّن وذلك أنه الثامن من خلفائهم. ومولده سنة ثمان وسبعين ومائة. ووَلي الأمرَ في سنة ثماني عشرة ومائتين وله ثماني وأربعون سنة. وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر. ورُزق من الولد الذَكور ثمانية ومن الإناث ثمانياً. وغزا ثماني غزوات. خلَّف في بيت ماله ثمانية آلافِ دينار ومن الوَرِق ثمانية آلاف ألف درهم. ووَزر له الفضلُ بن مروان ثم أحمد بن عمَّار ثم محمد بن عبد الملك الزيات. واستحجب وَصيفاً مولاه ثم محمد بن حمّاد بن دَنْفش. الواثق ثم بويع ابنه أبو جعفر هارون صبيحةَ اليوم الذي تُوفي فيه أبوه يومَ الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنةَ سبع وعشرين ومائتين. وكان مولدُه يوم الاثنين لعشر بقين من شعبان سنة ستّ وتسعين ومائة. وتُوفي بسُرَ مَن رأى يوم الأربعاء لستٍّ بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وصلّى عليه أخوه المتوكّل. فكانت خلافتُه خمسَ سنين وتسعةَ أشهر وثلاثةَ عشر يوماً. وكانت سنّه ستاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأياماً. وكان أبيضَ إلى الصُّفرة حسنَ الوجه جسيماً في عينه اليمنى نُكتة بياض نقش خاتمه " محمد رسول الله " وخاتم آخر " الواثق بالله ". ورُزق من الولد محمداً المُهتدي وأبا وأمه أم ولد يقال لها قُرب وعبد الله وأبا العبَّاس أحمد وأبا إسحاق محمداً وأبا إسحق إبراهيم. ووزر له محمد بن عبد الملك الزيات. وحاجبه إيتاخ ثم وصيف مولاه ثم ابن دَنفش. وقاضيه ابن أبي دُواد. المتوكل ثم بُويع أخوه أبو الفضل جعفر المتوكّل يومَ الأربعاء لستً بقين من ذي لحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكان مولده يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة ست ومائتين. وقُتل ليلةَ الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين ودُفن في القصر الجعفري. وصلى عليه ابنهُ المُنتصر ولمن عهده. فكانت مدةُ خلافته أربعَ عشرةَ سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام. وكان أسمرَ كبيرَ العينين نحيفَ الجسم خفيفَ العارضين. نقَش خاتمه " على إلهي اتكالي ". وكان كثيرَ الولد. وَزر له محمد بن عبد الملك الزيات ثم محمد بن الفضل الجُرجانيّ ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان. واستحجب وصيفاً التّركي ثم محمد بن عاصم ثم إبراهيم بن سهل. وكان خليفتَه على القضاء يحيى بن أكثم. المنتصر ثم بويع ابنُه أبو جعفر محمد المنتصر لأربع خلوان من شوّال سنة سبع وأربعين ومائتين. وكان مولدُه يومَ الخميس لستٍّ خلون من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين ومائتين. ومات ليلة السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين. فكانت خلافتُه ستة أشهر وسنّه ستاً وعشرين سنة إلا ثلاثةَ أيام. وكان قصيراً أَسمرَ ضخم الهامة عظيمَ البطن جَسيماً على عينه اليمنى أثر. نقَش خاتمه " يؤتى الْحذِر من مأمنه " وعلى خاتم آخر " أنا من آل محمد. الله وليّ ومحمد ". ورُزق من الولد عليا وعبدَ الوهاب وعبدَ الله وأحمدَ. المستعين ثم بويع المُستعين أبو العبَّاس أحمد بن محمد بن المعتصم يوم الاثنين لأربع خَلون من شهر ربيع الآخر سنةَ ثمان وأربعين ومائتين. وخلع نفسه بموافقة المُعتزّ بوساطة أبي جعفر المَعروف باْبن الكردية يومِ الجمعة لأربع خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين. وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر. وكان مولده يوم الثلاثاء لأربع خلون من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين. وقُتل بالقادسية مع خَلعه نفسَه بتسعة أشهر. وأمه أم ولد يقال لها مخارق. وكان مربوعاً أحمرَ الوجه أشقَر مُسْمِناً عريض المنكبين ضخم الكراديس خفيف العارضين بوجهه أثر جُدري ألثغ بالسين. نقش خاتمه " في الاعتبار غِنى عن الاختبار ". وزر له أحمدُ بن الخَصيب فنكبه وقلّد مكانَه ابنَ يَزْداد ثم شُجاع بن القاسم كاتب أوتامش وأوتامش هذا حاجبه. وكانت سنه إحدى وثلاثين سنة إلا ثمانية أيام. المعتز ثم وَلِى أبو عبد الله محمد المعتزّ بن المتوكّل يومَ الجمعة. لأربع خلون منِ المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين وكانت الفِتنة قبل ذلك بينه وبين المستعين سنةَ. وقُتل عشيةَ يوم الجمعة لليلة خلتْ من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين وكان مولده يومَ الخميس لإحدى عشرةَ ليلةً خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكانت خلافتُه منذ بُويع له واجتمعت الكلمةُ عليه ثلاثَ سنين وستةَ أشهر وثلاثة وعشرين يوماً ومنذ بايعه أهل سُرِّ من رأى إلى أن قُتل أربعَ سنين وستة أشهر وخمسة عشر يوماً. وقتله صالح بن وَصيف. وكان أبيض شديدَ البياض رَبْعة حسنَ الجسم على خدِّه الأيسر خالٌ أسود الشعر. نقش خاتمه " الحمد للهّ رب كل شيء وخالق كل شيء ". وزر له جعفر بن محمود الإسكافي ثم عيسى بن فرخان شاه ثم أحمد ابن إسرائيل الأنباري. وحاجبه سَماء بن صالح بن وصيف. وكانت سنه أربعاً وعشرين سنة وشهرين وأياماً. المهتدي ثم بويع المهتدى أبو عبد الله محمد بن الواثق بسُرَّ من رأى يومَ الأربعاء لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. وكان مولده يومَ الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة تِسع عشرة ومائتين: وقُتل بسرَ من رأى بسَهم لحقه يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين. فكانت خلافتُه أحدَ عشرِ شهراً وأربعةَ عشر يوماً. وكانت سنة سبعاً وكان أبيضَ مُشرباً حُمرة صغيرَ العينين أقنى الأنف في عارضيه شيب و خَضب لما ولي الخلافة: نقش خاتمه " من تعدَى الحق ضاق مذهبه!. وزَر له أيوب سليمان بن وَهب. وحاجبه باك باك. المعتمد ثم بويع أبو العبَّاس أحمد المعتمد بن المتوكل يومَ الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ستٍ وخمسين ومائتين. وكان مولده يوم الثلاثاء لثمان بقين من المحرم سنة تسع وعشرين ومائتين. فكانت خلافتُه ثلاثاً وعشرين سنة. وكانت سنه خمسين سنة وخمسةَ أشهر واثنين وعشرين يوماً. ومات أخوه وولىّ عهده طَلحة الموفّق في أيامه في صفر سنة ثمان سبعين ومائتين وكان قد غَلب على الأمر لمَيل الناس إِليه. وكان المعتمد قد عَقد لولده جعفر ولقبه المُفوض وبعدَه لأبي أحمد طلحة الموفّق فاشتد أمرُ الموفَق وقتل صاحب الزنج في سنة سبعين ومائتين ومَال الناس إِليه واسمه الناصر لدين للَه وكان يُدْعى له على المِنبر في أيام المعتمد وكان الموفّق حَبس ابنَه أبا العباس المعتضد فلما حضرتْه الوفاةُ أطلقه للقيام بالأمر وأجرى المُعتمد أمرَه على ما كان يَجري عليه أمر أبيه الموفق وافرده بولاية العهد وأمر بكَتْب الكُتب بخلع ابنه المفوض وأفرد وكان المعتمد أسمر مربوعاً نحيفَ الجسم حسنَ العينين مدوَر الوجه على وجه أثر جُدريّ. نقش خاتمة " السعيدُ من كفي بغيره ". ووَزر له عبيدُ الله يحيى ابن خاقان ثم سليمان بن وهب ثم الحسن بن مَخلد ثم صاعد بن مخلد ثم أبو الصقر إسماعيل بن بلبل. حاجبه موسى بن بغا ثم جعفر بن بغا ثم بكتمر. المعتضد وبُويع المعتضد أبو العباس أحمد بن المُوفق في رجب سنة سبع وسبعين ومائتين. - وكان مولده في جُمادى الآخرة سنةَ ثلاث وأربعين ومائتين. وتُوفى ببغداد ليلة الثلاثاء لسبع بقين من شهر - ربيع الأخر سنة تسع وثمانين ومائتين. وصلى عليه أبو عمر القاضي. فكانت خلافته تسعَ سنين وتسعة أشهر وأربعة أيام. وكانت سنّه خمساً وأربعين سنة وتسعةَ أشهر وأياماً: وأمه ضرِار. وكان نحيفَ الجسم معتدلَ القامة طويلَ اللحية أسمر. نَقْش خاتمة الاضطرار يزيل الاختيار ووَزر له عُبيد الله بن سليمان بن وهب ثم ابنُه القاسم بن عُبيد اللّه. وحاجبه صالح الأمين. المكتفي ثم بُويع ابنُه أبو محمد علىّ بن المُعتضد يومَ الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين. وكان مولدُه في رَجب سنة أربع وستين ومائتين وتُوفى ببغداد فدُفن عند قبر أبيه ليلةَ الأحد لثلاثَ عشرةَ ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. وكانت خلافتُه ستَّ سنين وستة أشهر وعشرين يوماً. وكانت سنّه إحدى وثلاثين سنة وأربعةَ أشهر وأياماً. وأمه جيجق وقيل خاضع. وكان رَبْعة حسنَ الوجه أسودَ الشعر وافرَ اللحية عريضها ولم يَشِب إلى أن مات. نقش خاتمه " بالله على بن أحمد يثق. وخلّف في بيت ماله ستة عشر ألفَ ألفِ دينار ومن الوَرِق ثلاثين ألفَ ألفِ درهم. ووَزر له القاسم بن عُبيد الله ثم العباس بن الحسن ثم الحسن بن أيوب. وحاجبُه خَفيف السمَرْقَندىّ ثم سَوسن مولاه. المقتدر ثم بُويع المقتدر وهو أبو الفضل جعفر بن المعتضد في اليوم الذي توفّى فيه أخوه يومَ الأحد لثلاث عشرةَ ليلةً خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. وخُلع في خلافته دَفعتين الأولى بعد جلوسه بأربعة أشهر وأيام بابن المُعتز وبطل الأمر من يومه. والدَفعة الثانية بعد إحدى وعشرين سنة وشهرين ويومين من خلافته خَلع نفسه وأشهد عليه وأجلس القاهرَ يومين وبعضَ اليوم الثالث. ووقع الخُلف بين العسكرين وعاد المقتدرُ إلى حاله. وكان مولده لثمان بقين من شهر رمضان سنة لاثنتين وثمانين ومائتين. وقُتل بالشَّماسية يوم الأربعاءِ لثلاثٍ بقين من شوَّال سنة عشرِين وثلثمائة. فكانت خلافتُه خمساً وعشرين سنة إلا خمسةَ عشرا يوماً. وكانت سنّه ثمانياً وثلاثين سنة وشهراً وعشرين يوماً. وكان أبيضَ مَشرباً حُمرة حسنَ الخلق ضخم الجسم بعيد ما بين المَنكبين جعدَ الشعر مدوَرَ الوجه قد كَثُر الشيبُ في وجه. نقش خاتمه " الحمد للّه الذي ليس كمثله شيء وهو على كل شيء قدير ". وَوَزر له العبَّاس بن الحسن ثم علىّ بن محمد بن موسى بن الفُرات ثم عبيد الله بن خاقان ثم أبو الحسن علىّ بن عيسى بن داود بن الجراح ثم حامد بن العبّاس ثم أحمد بن عبيد الله الخَصيبي ثم محمد بن علىّ بن مُقلة ثم سليمان بن الحسن بن مَخلد بن الجراح ثم عُبيد الله بن محمد الكلوذاني ثم الحسين بن القاسم بن عُبيد الله بن سليمان بن وهب ثم الفضل بن جَعفر ابنِ موسى بن الفرات. واستحجب سَوسنا مولى المكتفي ونصراً القشوريّ وياقوتاً المعتضديّ وإبراهيم ومحمداً ابني رائق. القاهر ثم بويع أخوه أبو منصور محمد القاهر بن المعتضد يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلثمائة. وخُلع وسُمل يوم الأربعاء لخمس خلون من جُمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. وكان مولده لخمس خلون من جمادى الأولى سنة سبع وثمانين ومائتين وكانت خلافتُه سنةً وستة أشهر وستة أيام. وعاش إلى أيام المطيع وكانت سنه وكان رَبْعة أسمر اللون معتدل القامة أصهب الشعر. وَوَزر له أبو علىّ محمد بن مُقلة ثم محمد بن القاسم بن عُبيد اللهّ ثم أحمد بن عُبيد الله الخَصيبىّ. واْستحجب علىّ بن بليق مولى يونس ثم سلامة الطولوني. الراضي ثم بويع الراضي أبو العباس أحمد بن المُقتدر يومَ الأربعاء لستٍّ خلون من جُمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. وكان مولده في رَجب سنةَ سبع وتسعين ومائتين. ومات ببغداد ليلةَ السبت لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الأول من سنة تسع وعشرين وثلثمائة. ودُفن بالرُصافة. وكانت خلافتهُ ستِّ سنين وعشرة أيام. وكانت سنّه إحدى وثلاثين سنة وثمانيةَ أشهر وأياماً. وأمه أمُّ ولد يقال لها ظَلوم. كان قصيرَ نحيفَ الجسم أسودَ الشعر رقيق السُّمرة في وجهه طول. نقش خاتمه " رسول الله ". ووزر له أبو علّيِ محمد بن مُقله ثم ابنُه أبو الحسين علي بن محمد ثم عبد الرحمن بن عيسى بَن داود بن الجرَّاح ثم محمد بن القاسم الكَرْخيّ ثم سُليمان بن الحَسن بن محمد بن الجراح ثم الفَضل بن جعفر بن الفرات ثم أبو عبد الله أحمد بن محمد اليزيديّ. واستحجب محمدَ بن ياقوت ثم ذكيّاً مولاه. المتقيَ ثم بويع أخوه المُتقي أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر يومَ الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلثمائة. وخلع وسمل يوم السبت لثمان خلون من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة. وكان مولده في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين. وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهراً إلا أياماً. وكان أبيض تعلوه حُمرة أصهَبَ شَعرِ اللحية كثّ اللِّحية بفكه الأدنى عِوَج. نقش خاتمه " محمد رسول الله " وزر له أحمد بن محمد بن ميمون ثم اليزيدىّ ثم سليمان بن الحسن بن مخلد ثم أبو إِسحاق محمد بن أحمد القراريطي. ثم محمد بن القاسم الكَرخي ثم أحمد بن عبد الله الأصبهانيّ ثم عليِّ بن محمد بن مُقلة. واستحجب سلامة مولى خُمارويه بن أحمد ثم بدر الخرشني ثم عبد الرحمن بن أحمد بن خاقان المُفْلحيّ. المستكفي ثم بُويع أبو القاسم عبد الله بن عليّ المستكفي في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة بالسِّنديّة عُقيب كسوف القمر. وخلع في شعبان سنة أربع وثلاثين وثلثمائة. فكانت خلافته سنة واحدة وسِتة أشهر وأياماً. وكان مولدُه مستهل سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وتوفى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة. وكانت سنه سبعاً وأربعين سنة. وأمه أم ولد يقال لها غُصن. وكان أبيضَ تعلوه حُمرة ضخمَ الجسم تام الطُول خفيفَ العارضين كبيرَ العينين أشهلَ جهوريّ الصوت. نقش خاتمه " محمد رسول الله ". وَزر له محمد بن عليّ السرَّ مَن رائي. واستكتب بعده أبا أحمد الفضل بن عبد الله الشيرازي واستحجب أحمد بن خاقان. المطيع ثم بُويع المطيع أبو القاسم الفضل بن المقتدر لسبعِ بقين من شعبان سنه أربع وثلاثين وثلثمائة وخَلع نفسَه ببغداد لسبعَ عشرة ليلة خَلت من ذي الحجة سنة ثلاث وستين وثلثمائة. وكان مولدُه في النصف من ذي القِعدة سنة إحدى وثلثمائة. وتوفي في. فكانت خلافته تسعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوماً. وأمه أم ولد تُدعى مَشْعلة. وكانت سنة وكان شديدَ البياض أسودَ شعر الرأس واللحية. وَزر له عليّ بن محمد ابن مُقلة. والناظر في الأمورِ أبو جعفر الصيمريّ. كاتب أحمد بن بُويه. ثم استولى على اسم الوزارة. وكتب للمطيع الفضل بن عبد الرحمن الشيرازيّ ومات وقام مقامه أبو محمد الحسن بن محمد المُهلبي وحاجبه عزْ الدولة بُحتيار ابن مُعز الدولة. تم كتاب اليتيمة الثانية |
كتاب الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعهم فرش الكتاب قال الفقيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عَبد ربّه رضي الله عنه: قد مَضى قولُنا في أخبار زياد والحجَّاج والطالبين والبرامكة ونحن قائلون بعَون الله وتَوفيقه في أيام العرب ووقائعهم فإنها مآثر الجاهليَّة ومكارمُ الأخلاق السنيّة. قيل لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تتحدّثون به إذا خلوتم في مجالسكم قال: كُنّا نتناشد الشعر ونتحدّث بأخبار جاهليّتنا. وقال بعضُهم: وددتُ أنّ لنا مع إسلامنا كرمَ أخلاق آبائنا في الجاهليَّة ألا ترى أنّ عَنترة الفوارس جاهليّ لا دينَ له والحسنَ بن هانئ إسلاميّ له دين فمنع عنترةَ كرمُه ما لم يَمنع الحسنَ بن هانئ دينُه فقال عنترة في ذلك: وأغُضّ طَرْفي إن بَدت ليَ جارتي حتى يُوارِي جارتي مَأواها وقال الحسنُ بن هانئ مع إسلامه: كان الشبابُ مطيَّةَ الجَهل ومُحسِّنَ الضَّحكات والهَزْل حروب قيس في الجاهلية يوم مَنْعِجِ لغَنيّ على عبس قال أبو عبيدة مَعْمر بن المُثنّى: يوم مَنعج يقال له يوم الرِّدْهة وفيه قُتل شأس بن زُهير بن جَذيمة بن رَواحة العبسيّ بمنعج على الردْهة. وذلك أنّ شأس بن زُهير أقبل من عند النُعمان بن المُنذر وكان قد حَباه بحباء جَزيل وكان فيما حباه قطيفةٌ حَمراء ذات هُدب وطَيلسانٌ وطِيبٌ. فورد مَنْعج وهو ماء لغنيّ فأناخ راحلتَه إلى جانب الرَّدْهة عليها خِباء لرِيَاح ابن الاسَل الغَنويّ وجعل يَغتسلِ وامرأةُ رياح تنظر إليه وهو مثل الثور الأبيض. فانتزع له رياحٌ لسَهما فقتله ونحر ناقته فأكلها وضمَّ متاعَه وغَيَّب أثره. وفُقد شأس بن زهير حتى وجدوا القطيفةَ الحمراء بسوق عُكاظ قد سامتهاامرأةُ رياح بن الأسَل فعلموا أنّ رياحاً صاحبُ ثأرهم. فغزت بنو عَبس غنياً قبل أن يطلبوا قَوَداً أوْدِيةً مع الحصين بن زُهير بن جَذيمة والحُصين بن أسَيد بن جَذيمة. فلما بلغ ذلك غَنِياً قالوا لرِيَاح: أنجُ لعلّنا نُصَالح القومَ على شيء. فخرج رياحٌ رَدِيفاً لرجلِ من بني كلاب لا يريان إلا أنهما قد خالفا وِجْهة القوم. فمرّ صُرَدٌ على رُءوسهما فصَرصر. فقالا: ما هذا فما راعهما إلا خيلُ بني عَبْس. فقال الكِلاَبي لرِياح: أنحدر من خَلفي وألتَمس نفقاً في الأرض فإنّي شاغلٌ القومَ عنك. فأنحدر رياحٌ عن عَجز الجَمل حتى أتى صَعْدة فاحتفر تحتها مثلَ مكان الأرنب ووَلَج فيه. ومَضى صاحبُه فسألوه فحدّثهم وقال: هذه غني جامعة وقد استمكنتُم منهم. فصدقوه وخلّوا سبيلَه. فلما ولّى رأوا مَركبَ الرجل خلفَه فقالوا: مَن الذي كان خلفَك فقال: لا أكذب رياح بن الأسل وهو في تلك الصَعَدات. فقال الحُصينان لمن معهما: قد أمكننا الله من ثأرنا ولا نُريد أن يَشرَكنا فيه أحد. فوقفوا عنهما ومَضيا فجعلا يُرِيغان رياحَ بن الأسل بين الصَعَدات. فقال لهما رياح: هذا غزالكما الذي ترِيغانه. فابتدراه فَرمى أحدَهما بسهم فأقصده وطَعنه الآخر قبل أن يَرْميه فأخطأه ومرَّت به الفرسُ واستدبره رياحٌ بسهم فقَتله ثم نجا حتى أتى قومَه وانصرفوا خائبين مَوْتورين وفي ذلك يقول الكُميت بن زيد الأسديّ وكانت له أمان من غَنيّ: أنا ابنُ غَنيّ والداي كلاهما لأمَّين منهم في الفُروع وفي الأصل هم استَودعوا زُهَراً بسَيْب بن ساِلم وهُم عَدلوا بين الحُصَينيين بالنبْل وهم قَتلوا شأسَ المُلوك وأرغموا أباه زُهيراً بالمَذَلّة والثُكْل لبني عامر على بني عبس فيه قُتل زُهير بنِ جَذيمة بن رَوَاحة العَبسيّ وكانت هوازن تُؤدي إليه إتَاوة وهي الخراج. فأتته يوماً عجوز من بني نصر بن مُعاويةَ بسَمن في نِحْي واعتذرت إليه وشكتْ سنينَ تتابعت على الناس فذاقه فلم يَرْض طعمَه فدَعسها بقوس في يده عُطل في صدرها. فاستلقت على قَفاها مُنكشفة. فتألى خالدُ بن جعفر وقال: والله لأجعلنّ ذراعي في عُنقه حتى يُقتلَ أو أقتل. وكان زهير عَدُوسا مِقداماً لا يُبالي ما أَقدم عليه. فاستقلّ أي انفرد من قومه بابنَيْه وبَنى أَخويه: أُسيدَ وزِنْباع يَرعى الغيثَ في عُشَرَاوات له وشَوْل. فأتاه الحارث بن الشرَّيد وكانت تُماضر بنت الشَرِيد تحت زُهير فلما عرف الحارث مكانَه أنذر بني عامر بن صَعصعة رهطَ خالد بن جعفر. فركب منهم ستة فوارس فيهم خالد بن جعفر وصَخر بن الشريد وحُنْدج ابنُ البَكاء ومعاوية بن عُبادة بن عَقِيل فارس الهَرار - ويقال لمُعاوية: الأَخيل: وهو جَدّ ليلى الأخْيليّة - وثلاثة فوارس من سائر بني عامر. فقال أسَيد لزُهير: أعلمتْني راعيةُ غَنمي أنها رأتْ على رأس الثنيّة أشباحاً ولا أَحسبُها إلاّ خيلَ بني عامر فالحق بنا بقَومنا. فقال زهير: كُل أَزبّ نَفور. وكان أًسيد أشعرَ القفا فذهبتْ مثلاً. فتحمَّل أًسيد بمن معه وبقي زُهير وابناه: ورقاء والحارث وصُحبتهم الفوارس. فتمرِّدت بزُهير فرسُه القَعساء ولحقه خالد ومُعاوية الأخيل فطعن مُعاوية القعساء فقلبت زُهيراً وخرَّ خالد فوقه ورفع المِغْفر عن رأس زُهير وقال: يا آل عامر أَقبلوا جميعاً. فأقبل معاويةُ فضرِب زهيراً على مَفْرق رأسه ضرِبةً بلغت الدِّماغ وأقبل ورَقاء بن زُهير فضرب خالداً وعليه درعان فلم يُغن شيئاً وأجهض ابنا زُهير القوم عن زهير واحتملاه وقد اثخنته الضَّربة فمنعوه الماء. فقال: أَميِّتٌ أنا عَطشاً اسقُوني الماء وإن كانت فيه نفسي. فسقَوْه فمات بعد ثلاثة أيام. فقال في ذلك وَرقاء ابن زُهير: رأيتُ زهيراً تحت كَلْكل خالدٍ فأقبلتُ أَسعَى كالعَجول أُبادرُ إلى بَطَليْن يَنْهضان كلاهما يردان نصل السيف والسيف نادر فشُلَّت يميني يومَ أضربُ خالداً ويمنعه مني الحديد المظاهر فيا ليت أنّي قبل أيام خالد ويوم زهير لم تلدني تماضر لعمري لقد بُشِّرْتِ بي إذ وَلَدْتِني فماذا الذي ردت عليك البشائر وقال خالدُ بن جعفر في قتله زُهيراً: بل كيف تكْفُرني هوازنُ بعدما أعتقتهُم فتوالدوا أحرار وقتلتُ رَبّهمُ زُهيراً بعدما جَدَع الأنُوف وأَكثر الأوتارا يوم بطن عاقل لذبيان على عامر فيه قُتل خالد بن جَعفر ببطن عاقل. وذلك أن خالداً قَدم على الأسود بن المُنذر أخي النُّعمان بن المُنذر ومع خالد عُروة الرحَّال بن عُتبة بن جعفر. فالتقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم بن غَيظ بن مُرَّة بن عَوف بن سعد ابن ذُبيان عند الأسود بن المُنذر. قال: فدعا لهما الأسود بتَمر. فجيء به على نِطْع فجُعل بين أيديهم. فجعل خالد يقول للحارث بن ظالم: يا حارث ألا تَشكر يدي عندك أن قتلتُ عنك سيّدَ قومك زُهيراً وتركتك سيدَهم قال: سأَجزيك شُكْر ذلك. فلما خرج الحارث قال الأسود لخالد ما دعاك إلى أن تتحرش بهذا الكلب وأنت ضيفي فقال له خالد: إنما هو عَبد من عَبيدي لو وجدني نائماً ما أَيقظني. وانصرف خالدٌ إلى قُبَّته فلامه عِروةُ الرحّال. ثم ناما وقد أشرجت عليهما القُبة ومع الحارث تَبيع له من بني مُحارب يقال له خِرَاش. فلما هدأت العُيون أخرج الحارث ناقتَه وقال لِخَراش: كُن لي بمَكان كذا فإن طَلع كوكب الصُّبح ولم آتِك فانظُر أي البلاد أحب إليك فأعمِد لها. ثم انطلق الحارث حتى أتى قُبةَ خالد فهتك شرَجَها ثم ولَجها وقال لعُروة: أسكُت فلا بأس وزعم أبو عُبيدة أنه لم يشعر به حتى أتى خالداً وهو نائم فقتله ونادى عُروة عند ذلك: واجِوَارَ المَلك! فأقبل إليه الناسُ وسَمع الهُتافَ الأسودُ بن المُنذر وعنده امرأة من بني عامر يقال لها المُتجردة فشقت جَيبَها وصرَخت. وفي ذلك يقولُ - عبد الله بن جَعدة: شَقت عليكَ العامرية جَيْبَها أسفاً وما تَبْكِي عليكَ ضلا يا حارِ لو نَبهتَه لوجدتَه لا طائشاً رعِشاً ولا مِعْزالا واغرورقت عيناي لما أخْبرت بالجَعفري وأسبلتْ إسبالا فلنقتلنَ بخالدٍ سرواتِكم ولنجعلنْ للظالمين نَكالا فإذا رأيتُم عارضاً متهللاً مِنّا فإنا لا نُحاول مالا يوم رحرحان لعامر على تميم قال: وهرب الحارثُ بن ظالم ونَبَتْ به البلادُ فلجأ إلى مَعبد بنِ زُرارة وقد هَلك زرارةُ فأجاره. فقالت بنو تميم لمَعبد: مالك آويتَ هذا المَشئوم الأنكد وأغريت بنا الأسود وخَذلوه غير بني دمَاوية وبني عبد الله ابن دارم. وفي ذلك يقول لَقيطُ بن زُرارة: فأمَا نَهشلٌ وبنو فُقَيْم فلم يَصبِر لنا منهم صَبُورُ فإنْ تَعمِد طُهيةَ في أمور تجدْها ثَم ليس لها نَصير ويَربوع بأسْفل ذي طُلوح وعمرو لا تَحل ولا تَسير أسيد والهُجيم لها حُصاص وأقوامٌ من الجَعْراء عُور وأسلمنا قبائلُ من تميم لها عددٌ إذا حُسبوا كَثير وأما الآثمان: بنو عَديّ وَتيم إذا تُدبرت الأمور فلا تَنعم بهم فِتيانَ حَرْب إذا ما الحيُ صبحهم نذير إذا ذهبت رماحُهمِ بزَيْد فإن رِماحَ تَيْم لا تَضير قال: وبلغ الأحوصَ بن جعفر بنِ كلاب مكانُ الحارث بن ظالم عند مَعبد فغزى مَعبداً فالتقَوْا برَحرحان. فانهزمت بنو تَميم وأسر مَعبد ابنُ زرارة أسره عامرٌ والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب. فوفد لَقيطُ ابن زُرارة عليهم في فِدائه فقال لهما: لكما عندي مائتا بعير. فقال: لا يا أبا نَهشل أنت سيد الناس وأخوكَ معبد سيد مضر فلا نقبل فيه إلا ديةَ مَلِك. فأبى أن يَزيدهم وقال لهم: إن أبانا أوصانا أن لا نزيد أحداً في ديته على مائتي بعير. فقال مَعبد للقِيط: لا تَدَعْني يا لقيط فوالله لئن تركتَني لا تراني بعدها أبداً. قال: صبراً أبا القَعقاع فأين وصاة أبينا ألا تُؤكلوا العربَ أنفسكم ولا تَزيدوا بفدائكم على فِداء رجل منكم فَتذْؤُب بكم ذُؤبان العرب. ورحل لقيط عن القوم. قال: فمنعوا معبداً الماءَ وضارّوه حتى مات هُزالا. وقيل: أبَى معبد أن يَطعم شيئا أو يَشرب حتى مات هُزالا. ففي ذلك يقول عامر ابن الطفيل: قضينا الجَوْن من عبس وكانت منية مَعبد فينا هُزالاَ وقال جرير: وليلةَ وادي رَحْرحان فَرَرْتُم فِراراً ولم تُلْووا زَفيفَ النعائِم تركتم أبا القَعقاع في الغُل مُصْفَداً وأيَ أخ لم تسلموا وقال: يوم شعب جبلة لعامر وعبس على ذبيان وتميم قال أبو عُبيدة: يوم شِعب جَبلة أعظم أيام العرب وذلك أنه لما انقضت وَقْعة رَحرحان جمع لقيطُ بن زرارة لبني عامر وألب عليهم. وبين يوم رَحرحان ويوم جَبلة سنة كاملة. وكان يوم شِعْب جَبَلة قبلَ الإسلام بأربعين سنة وهو عام وُلد النبيّ صلى الله عليه وسلم. وكانت بنو عَبس يومئذ في بني عامر حُلفاءَ لهم فاْستعدى لَقيط بني ذُبيان لعداوتهم لبني عَبس من أجل حَرب داحس فأجابته غَطفان كلّها غيرَ بني بدر. وتجمّعت لهم تميم كلها غير بني سَعد وخرجت معه بنو أَسد لحلْف كان بينهم وبين غَطفان حتى أتى لقيط الجونَ الكَلْبيّ وهو ملك هَجر وكان يَجبى مَن بها من العَرب فقال له: هل لك في قوم غارِّين قد مَلئوا الأرض نَعماً وشاء فترسلَ معي ابنيك فما أَصبنا من مال وَسبْى فلهما وما أصبنا من دم فَلِي فأجابه الجَون إلى ذلك وجعل له موعداً رأسَ الحَوْل. ثم أتى لقيطٌ النعمانَ بن المُنذر فاسنتجده وأطعمه في الغنائم فأجابه. وكان لقيطٌ وجيهاً عند الملوك. فلما كان على قَرن الحَول من يوم رَحرحان انهلّت الجيوش إلى لَقيط وأقبل سِنانُ بن أبي حارثة المُرّي في غَطفان وهو والد هَرِم بن سِنان الجَواد وجاءت بنو أسد وأرسل الجونُ ابنيه معاويةَ وعمراً وأرسل النعمان أخاه لأمه حسَّان ابن وَبَرة الكَلبيّ. فلما توا فَوْا خرجوا إلى بني عامر وقد أُنذروا بهم وتَأهّبوا لهم. فقال الأحوصُ بن جعفر وهو يومئذ رَحَا هوازن لقيس بنُ زهير: ما ترى فإنك تزعم أنه لم يَعْرض لك أمران إلا وجد تَ في أحدهما الفَرج. فقال قيسُ ابن زهير: الرأي أن نَرتحل بالعِيال والأموال حتى نَدْخل شِعْب جَبلة فنُقاتِل القوم دونها من وَجه واحد فإنهم داخلون عليك الشِّعب وإنّ لقيطاً رجل فيه طَيش فسيقتحم عليك الجبَل فأرى لك أن تأمر الإبل فلا تَرعى ولا تُسقى وتُعقل ثم تَجعل الذّراري وراء ظُهورنا وتأمر الرجالَ فتأخذُ بأذناب الإبل فإذا دخلوا علينا الشِّعب حَلّت الرّجّالة عُقل الإبل ثم لَزِمت أذنابَها فإنها تنحدر عليهم وتحنّ إلى مرعاها وورْدها ولا يَردّ وجوهَها شيء وتخرج الفُرسان في إثر الرّجّالة الذين خلفَ الإبل فإنها تُحطّم ما لقيت وتُقبل عليهم الخيل وقد حُطِّموا من عَل. قال الأحوص: نِعم ما رأيت فأخذ برأيه. ومع بني عامر يومئذ بنو عَبس وغنى في بني كِلاب وباهلةُ في بني كعب والأبناءُ أبناء صَعصعة. وكان رهط المُعَقَر البارقيّ يومئذ في بني نُمير بن عامر وكانت قبائل بَجيلة كُلّها فيهم غير قَسْر. قال أبو عُبيدة: وأقبل لَقيط والملوك ومن مَعهم فوجدوا بني عامر قد دخلوا شِعْب جَبلة فنزلوا على فَم الشِّعب. فقال لهم رجل من بني أسد: خذوا عليهم فَم الشِّعب حتى يَعْطشوا ويَخْرجوا فوالله ليتساقطُنّ عليكم تساقطَ البَعَر من أست البعير. فأتوا حتى دخلوا الشِّعب عليهمِ وقد عقلوا الإبل وعَطّشوها ثلاثة أخماس وذلك اثنتا عشرةَ ليلة ولم تَطْعم شيئاً. فلما دخلوا حلّوا عُقُلَها فأقبلت تهوي. فسمع القومُ دَويها في الشِّعب فظنوا أن الشِّعب قد هُدم عليهم والرّجالة في إثرها آخذين بأذنابها فدقّت كلَّ ما لقيتْ وفيها بَعير أعور يتلوه غلام أعسر أخذٌ بذنبه وهو يرتجز ويقول: " أنا الغلامُ الأعسر الخيرُ فيِّ والشرّ والشرُّ في أَكثرْ " فانهزموا لا يُلوون على أحد. وقُتلَ لقيطُ بنُ زُرارة وأسر حاجبُ بن زرارة أسره ذو الرُّقَيْبة. وأسر سِنان بن حارثة المُري أسره عُروة الرحال فجزّ ناصيَته وأطلقه فلم تَشِنْه. وأسر عمرو بن أبي عمرو بن عُدس أسره قيس بن المُنتفق فجزّ ناصيته ناصيته وخلاّه طَمعاً في المُكافأة فلم يَفعل. وقُتل معاوية بن الجَوْن ومُنقذ بن طَرِيف الأسدي ومالك بن رِبْعيّ بن جَندل ابن نَهشل. فقال جرير: كأنك لم تَشهدْ لَقِيطاً وحاجباً وعمرو بنَ عمرو إذ دَعا يا لَدَارم ويومَ الصّفا كُنتم عَبيداً لعامر وبالحَزْن أصبحتم عَبيدَ اللَهازم يعنى بالحَزن يومَ الوقيط. وقال جرير أيضاً في بني دارم: وكبل حاجبٌ بشِمام حَوْلاً فحكَم ذا الرًّقيبة وهو عَانى وقالت دخْتَنوس بنت لَقيط تَرثي لَقيطاً: فَرَّت بنو أسد فِرا رَ الطيْر عن أربابها عن خَير خِنْدف كلها مِن كهلها وشَبابها وأتَمَها حسباً إذا نُصَّتْ إلى أحسابها وقال المُعقَر البارقيّ: أمِن آل شَعثاء الحُمول البَواكرُ مع الصُّبح أم زَالتْ قُبيلُ الأباعرُ وحَلت سُليمى في هِضاب وأيكة فليس عليها يومَ ذلك قادر وألقتْ عَصاها واستقرت بها النَوى كما قَرّ عيناً بالإياب المُسافر وصبحها أملاكُها بكتَيبةٍ عليها إذا أمستْ من الله ناظر مُعاويةُ بنُ الجَون ذُبيانُ حولَه وحسان في جَمع الرِّباب مُكاثر وقد زَحفتْ دُودان تَبغي لثأرِها وجاشت تميم كالفُحول تُخاطر وقد جَمَعوا جمعاً كأنَّ زُهاءه جراد هَفا في هَبْوة مُتطاير فلم نَقْرهم شيئاً ولكنْ قِراهُم صَبوح لدينا مَطْلَع الشمس حازِر وصَبَحهم عد الشَرُوق كتائب كأركان سَلْمى سيرُها مُتواتر كأن نَعام الدَوَ باض عليهمُ وأعينهمُ تحت الحَبيك خَوازر مِن الضاربين الهام يَمْشون مَقدماً إذا غُصّ بالرِّيق القليل الحَناجر أضنّ سرَاةُ القوم أنْ لن يُقاتلوا إذا دُعيت بالسَّفْح عَبْسٌ وعامر ضربنا حَبِيك البَيْض يا غَمر لجة فلم يَنج في الناجِين منهم مُفاخر هوى زَهْدمٌ تحت العَجَاج لحاجب كما انقضّ بازٍ أقتمُ الرِّيش كاسر يُفرّج عنّا كُلَّ ثَغرٍ نخافه مِسَحّ كسِرْحان القَصيمة ضَامر وكُلُّ طَموح في العِنان كأنها إذا اغتمَست في الماء فَتْخاء كاسِر لها ناهضٌ في الوَكْر قد مهدت له كما مَهَدت لِلبَعْل حَسناءُ عاقِرِ تخاف نِساءً يَبْتَززن حِليلَها مُحرَّبةٌ قد أحْردتها الضرائر استعار هذا البيت فألقت عصاها من المُعَقّر البارقيّ إذ كان مثلاً في الناس راشدُ بن عبد صحا القلب عن سَلْمى وأقْصر شأْوه ورَدّت عليه تبتغيه تًماضرُ وحَلّمه شَيْبُ القَذال عن الصِّبا وللشَّبيبُ عن بَعض الغَواية زاجر فأقصر جهلي اليومَ وارتد باطلي عن اللهو لما أبيض مني الغدائر على أنه قد هاجه بعدَ صحْوه بمَعرض ذي الآجام عِيسٌ بَواكر ولما دنتْ من جانب الغُوط أخصبت وَحلّت فلاقاها سُلَيم وعامر وخبّرها الرُّكبان أنْ ليس بينها وبين قُرى بصرى ونَجران كافر فألقت عَصاها واستقرَّت بها النِّوى كمَا قَر عيناً بالإياب المُسافر فاستعار هذا البيت الأخير من المُعقّر البارقيّ ولا أحسبه استجاز ذلك إلا لاستعمال العامة له وتمثّلهم به. يوم مقتل الحارث بن ظالم بالخَربَة قال أبو عُبيدة: لما قَتل الحارث بنُ ظالم خالدَ بن جعفر الكِلابيّ أتى صديقاً له من كِندة فالتفَّ عليه فطلبه الملك فخَفَّى ذكره. ثم شَخص من عند الكِنْديّ وأضمرته البِلاد حتى استجار بزياد أحد بني عِجل بن لُجيم فقام بنو ذُهل بن ثَعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا لعِجْل: أخْرجوا هذا الرجل من بين أظهركم فإنه لا طاقَة لنا بالشهباء ودَوْسر - وهما كتيبتان للأسود بن المُنذر - ولا بمُحاربة الملك. فأبتْ ذلك عليهم عِجْل. فلما رأى ذلك الحارثُ ابنُ ظالم كَرِه أن يَقع منهم فِتْنة بسببه فأرتحل من بني عِجْل إلى جَبلَي طيىء فأَجاروه فقال في ذلك: لَعمري لقد حَلِّ بي اليومَ ناقَتي على ناصِر من طَيىّء غير خاذل فأصبحتُ جاراً للمَجرَّةِ فيهم على باذخ يعلو يدَ المتطاول إذا أَجأ لفت علِيَّ شِعابَها وَسَلْمى فأني أنتمُ مِن تَناولي فمكث عندهم حِيناً ثم إنّ الأسود بن المُنذر لما أَعجزه أمره أرسل إلى جارات كُنّ للحارث بن ظالم فاستاقهنّ وأموالهن. فبلغِ ذلك الحارثَ ابنَ ظالم فخرج من الجَبلين فاندسَّ في الناس حتى عَلمِ مكان جاراته ومَرعى إبلهن فأتاهنّ فاستنقذهنّ واستاق إبلَهن فألحقهنّ بقومهن واندس في بلاد غَطفان حتى أتى سِنانَ بن أبي حارثة المُري وهو أبو هَرِم الذي كان يمدحه زُهير. وكان الأسود بن المنذر قد اْسترضع ابنه شَرَحْبيل عند سَلْمى امرأة سِنان وهي من بني غَنم بن دُودان بن أسد فكانت لاَ تأمن على ابن الملك أحداً فاستعار الحارث بن ظالم سَرج سِنان وهو في ناحية الشَّرَبَّة لا يعلم سِنَان ما يُريد وأتى بالسّرْج امرأة سنان وقال لها: يقول بعلُك: ابعثي بابن الملك مع الحارث فإني أريد أن أستأمن له الملكَ وهذا سرجُه آية ذلك. قال: فزينته سَلْمى ودفعتْه إليه. فأتى بِه ناحيةً من الشرَبة فقَتله وقال في ذلك: أخصْيي حِمارٍ بات يَكْدِم نَجْمةً أتُؤكل جاراتي وجارُك سالمُ علوتُ بذي الحيات مَفْرقَ رأسِه ولا يركب المَكْروهَ إلا الأكارم فتكتُ به كما فتكتُ بخالد وكان سِلاحي تَجْتويه الجماجم بَدأتُ بذاك وانثنيتُ بهذه وثالثة تَبيضّ منها المَقادم قال: وَهَرب الحارث من فَوره ذلك وهَرب سنان بن أبي حارثة. فلما بلغ الأسودَ قتلُ ابنه شرحبيل غزا بنِي ذُبيان فقتل وسَبى وأخذ الأموال وأغار على بني دُودان رَهْطِ سَلْمى التي كانِ شرحبيل في حِجرها فقتلهم وسبَاهم بسَط أرِيك. قال: فوجد بعد ذلك نَعلي شرحبيل في ناحِية الشَّربة عند بني مُحَارب بن خَصفة فغزاهم الملك ثم أسرهم ثم أحْمَى الصَّفا وقال: إني أحذيتكم نعالاً فأمشاهم على ذلك الصفا فتساقطت أقدامهم. ثم إن سيار بن عمرو بن جابر الفَزاري احتمل للأسود ديةَ ابنه ألف بعير وهي دية الملوك ورَهنه بها قوسَه فوفاه بها فقال في ذلك: ونحن رهنا القوسَ ثُمَّتَ فودِيت بألفٍ على ظَهر الفَزاري أقْرعاً بعشر مِئين للملوك وفَى بها ليُحمَد سيار بن عمروٍ فأسرعا وكان هذا قبل قَوس حاجب. وقال في ذلك أيضاً: وهل وجد تُم حاملاً كحاملي إذ رَهن القوسَ بألفٍ كامل بِدِية ابن المَلِك الحُلاحِل فافتكها مِن قَبل عام قابِل سيار الموفى بها ذو النَائل وهرب الحارث فلحق بمَعبد بن زُرارة فاستجار به فأجاره وكان من سَببه وقعة رَحْرَحان التي تقدم ذكرها. ثم هرب الحارث حتى لحق بمكة وقريش لأنه يقال إن مُرة بن عَوف بن سعد بن ذبيان إنما هو مُرة بن عَوف بن لؤي ابن غالب فتوسَّل إليهم بهذه القَرابة وقال في ذلك: إذا فارقتُ ثَعلبة بنَ سَعْد وإخوتَهم نسبت إلى لُؤيّ فإمْ يك منهمُ أصْلي فمنهم قَرابين الإله بني قُصي فقالوا: هذه رَحم كَرْشَاء إذ استغنيتُم عنها لنْ يَتِرَكم. قال: فشخص الحارث عنهم غَضبان وقال في ذلك: ألا لستم منّا ولا نحن منكُم بَرِئْنا إليكم من لُؤي بن غالب غَدَوْنا على نَشْز الْحِجاز وأنتم بمنشعب البَطْحاء بين الأخاشب وتوجّه الحارث بن ظالم إلى الشام فلحق بيزيدَ بن عمرو الغساني فأجاره وأكرمه. وكان ليزيد ناقة مُحماة في عُنقها مُدية وزِناد وصُرَة مِلْح وإنما كان يَمتحن بها رعيِّته لينظر مَن يجترئ عليه. فوَحِمت امرأة الحارث فاشتهت شَحماً في وَحَمها فانطلق الحارثُ إلى ناقة الملك فانتحرها وأتاها بشَحمها وفُقدت الناقة فأرسل الملكُ إلى الخِمْس التغلبي وكان كاهناً فسأله عن الناقة فأخبره أنِّ الحارث صاحبها. فهَم الملك به ثم تذمم من ذلك. وأوجس الحارثُ في نفسه شرّاً فأتى الخِمْس التّغلبيّ فقَتله. فلما فعل ذلك دعا به الملك فأمر بقَتله. قال: أيها الملك إنك قد أجرتَني فلا تَغْدرنّ بي. فقال الملك: لا ضَير إن غدرتُ بك مرة لقد غدرتَ بي مراراً. وأمر ابنَ الخِمْس. فقَتله وأخذ ابنُ الخِمْس سيفَ الحارث فأتى به عُكاظ في الأشهر الحُرم فأراه قيسَ بن زُهير العبسيّ فضربه به قيسٌ فقَتله وقال يرثي الحارثَ بن ظالم: أعز وأحمَى عند جارٍ وذِمّة وأضرَبَ في كابٍ من النّقع قاتم حرب داحس والغبراء وهي من حُروب قيس قال أبو عُبيدة: حرب داحس والغبراء بين عَبس وذُبيان ابني بَغيض بن رَيْث بن غَطفان. وكان السبب الذي هاجها أنّ قيسَ بن زُهير وحَمل بن بَدر تَراهنا على داحسِ والغَبراء أيهما يكون له السَّبْق وكان داحس فحلاً لقيس ابنُ زهير والغبراء حِجْراً لحَمَل بن بَدْر وتواضعا الرهان على مائة بعير وجعلا مُنتهى الغاية مائة غَلْوة والإضمار أربعين ليلة ثم قادوهما إلى رأس المَيدان بعد أن أَضمروهما أربعين ليلة وفي طَرف الغاية شِعاث كثيرة. فأكمن حَملُ بن بدر في تلك الشّعاب فِتْيانا على طريق الفَرسين وأمرهم إن جاء داحس سابقاً أن يردّوا وجهه عن الغاية. قال: فأرسلوهما فأحضرا فلما احضرا خَرجت الأنثى من الفحل. فقال حَمَل بن بدر: سبقتُك يا قيس. قال قيس: رُوَيدا يَعْدُوان الجَدَد إلى الوَعْث ترشح أعطاف الفحل. قال: فلما أَوغلا في الجَدد وخرجا إلى الوَعْث بَرز داحس عن الغَبراء فقال قيس: جَرْي المُذْكيات غِلاء فذَهبت مثلاً. فلما شارف داحس الغاية ودنا من الْفِتية وَثبوا في وجه داحس فردّوه عن الغاية. ففي ذلك يقول قيسُ بن زُهير: هُمُ فَخروا عليّ بغير فَخْر وردّوا دون غايته جَوادي ثارت الحرب بين عبس وذُبيان ابني بَغيض فبقيت أربعين سنة لم تُنتَج لهم ناقه ولا فَرس لاشتغالهم بالحرب. فبعث حذيفة بن بدر ابنَه مالكاً إلى قيس بن زُهير يطلب منه حَق السبتى. فقال قيس: كلا لأمطُلنك به ثم أخذ الرُّمح فَطعنه به فدقّ صلبه ورجعت فرسه عارية فاْجتمع الناسُ فاحتملوا دية مالك مائة عُشَراء. وزعموا أن الرَّبيع بن زياد العَبسيّ حَملها وحدَه فقَبضها حُذيفة وسكن الناس. ثم إن مالك بن زهير نزل اللُّقاطة من أرض الشربّة فأخبر حُذيفة بمكانه فعدا عليه فقتله. ففي ذلك يقول عَنترة الفوارس: فللّه عَينَا مَن رَأى مثلَ مالِكٍ عَقيرةَ قوم أن جَرَى فَرَسان فليتهما لم يَجريا قَيْد غَلوة وليتهما لم يُرْسَلا لِرهان فقالت بنو عَبس: مالك بن زُهير بمالك بن حُذيفة ورُدّوا علينا مالَنا. فأبَى حذيفةُ أن يردّ شيئاً. وكان الربيعُ بن زياد مجاوراً لبني فَزارة ولم يكن في العَرب مثلُه ومثلُ إخوته وكان يقال لهم الكَمَلة وكان مُشاحناً لقيس بن زهير من سَبب دِرْع لقيس غَلبه عليها الربيعُ بن زياد فاطّرد قيسٌ لَبوناً لبني زياد فأتى بها مكةَ فعاوض بها عبد الله بن جُدعان بسلاح وفي ذلك يقول قيس ابن زُهير: ومَحْبسها على القُرشيّ تُشْرى بأدراع وأسياف حِداد وكنتُ إذا بُليت بخَصم سَوء دَلفتُ له بدَاهية نآد ولما قُتل مالك بن زُهير قامت بنو فَزارة يسألون ويقولون: مَا فعل حِماركم قالوا: صِدْناه. فقال الربيع: ما هذا الوَحْي قالوا: قتلنا مالكَ بن زهير. قال بئسما فعلتم بقَومكم قَبلتم الدِّية ثم رَضيتم بها وغَدرتم. قالوَا: لولا أنك جارنا لقَتلناك وكانت خُفرة الجار ثلاثاً. فقالوا له: بعد ثلاث ليال: اخرُج عنا. فخرج وأتبعوه فلم يَلحقوه حتى لَحق بقومه. وأتاه قيسُ بن زهير فعاقده. وفي ذلك يقول الربيع: فإنْ تكُ حَربُكم أمستْ عوَانا فإني لم أكُن ممَن جَناها ولكنْ وُلْد سودة أرثوها وَحشُوا نارها لِمَن اصطلاها فإنّي غيرُ خاذلكم ولكن سأسعى الآن إذ بَلغت مداها ثم نَهضت بنو عَبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غَطفان إلى بني فَزارة وذُبيان ورئيسهم الربيع بن زياد ورئيس بني فَزارة حُذيفة بن بَدر. يوم المريقب فالتقوا بذي المرَيْقِب: من أرض الشربة فاقتتلوا فكانت الشوكةُ في بني فَزارة قُتل منهم عوف بن زيد بن عمرو بن أبي الحصين أحد بني عديّ بن فَزارة وضَمضم أبو الحصين المُري قتله عَنترة الفوارس ونَفر كثير ممن لا يعرف أسماؤهم. فبلغ عنترةَ أنّ حُصينا وهَرِماً ابني ضَمضم يشتُمانه ويُواعدانه فقال في قصيدته التي أولها: يا دار عَلبة بالجوَاء تَكلَمي وعِمِي صَباحاً دَار عَبلة واسلمي ولقد خَشيتُ بأن أمَوتَ ولم تَدُر للحَرْب دائرةُ على ابنى ضَمْضم الشاتِمَي عِرْضى ولم أشتمهما والناذِرين إذا لم ألْقَهما دَمي إن يَفعلا فلقد تركت أباهما جَزَر السباع وكل نَسر قَشْعم لما رآني قد نزلتُ أريده أبدى نواجذَه لغَير تَبسم وفي هذه الوقعة يقول عنترة الفوارس: فلتعلَمن إذا التقت فُرسانُنا يوم المُريقب أنَ ظنك أحمقُ ثم إن ذُبيان تجمّعت لِمَا أصابت بنو عَبْس منهم يومَ المُريقب: فزارةُ ابن ذُبيان ومُرة بن عَوف بن سعد بن ذُبيان وأحلافُهم فنزلوا فتوافَوْا بذي حُسَا وهو وادي الصفا من أرض الشَرّبة وبينها وبين قَطن ثلاث ليال وبينها وبين اليَعْمرية ليلة. فهربت بنو عَبر وخافت أن لا تقوم بجماعة بني ذُبيان واتبعوهم حتى لَحقوهم فقالوا: التَفاني أو تُقيدونا. فأشار قيسُ ابن زُهير على الربيع بن زياد ألا يُناجزوهم وأن يُعطوهم رهائنَ من أبنائِهم حتى ينظروا في أمرهم. فتراضَوْا أن تكون رُهُنُهم عند سُبيع بن عمرو أحدِ بني ثعلبة ابن سعد بن ذبيان. فدَفعوا إليه ثمانيةً من الصِّبيان وانصرفوا وتكاف الناس. وكان رأيُ الربيع مُناجزَتهم. فصرفه قيس عن ذلك. فقال الربيع: أقول ولم أملك لقَيْس نصيحةً أرى ما يَرى واللهُ بالغَيبِ أعلم أَتُبقي على ذُبيان في قَتل مالك فقد حَشَ جاني الحَرب ناراً تَضرَّم فمكثت رُهُنُهم عند سُبيع بن عمرو حتى حضرتْه الوفاة فقال لابنه مالك ابن سُبيع: إن عندك مكرمةً لا تَبيد لا ضَيْرَ إنْ أنت حفظتَ هؤلاء الأغَيلمة فكأَنّي بك لو متَُّ أتاك خالُك حُذيفة بنُ بدر فعَصر لكَ عيْنيه وقال: هلك سيدُنا ثم خَدعك عنهم حتى تَدفعهم إليه فيقتلهم فلا تشرف بعدها أبداً فإن خِفْتَ ذلك فاذهب بهم إلى قومهم. فلما هلك شبيع أطاف حُذيفة بابنه مالك وخدعه حتى دفعهم إليه. فأتى بهم اليَعْمريّة فجعل يُبرز كل يوم غُلاماً فينصبه غَرضاً ويقول: نادِ أباك. فيُنادي أباه حتى يَقتله. يوم اليعمرية لعبس على ذبيان فلما بلغ ذلك مِن فِعل حُذيفة بني عبس أَتوهم باليَعْمرية فلقُوهم - بالحَرَّة حرَّة اليعمريّة - فقتلوا منهم اثني عشر رجلاً منهم: مالكُ بن سُبيع الذي رَمَى بالغِلْمة إلى حُذيفة وأخوه يزيدُ بن سُبيع وعامر بن لَوذان والحارث بن زَيد وهرم بن ضَمضم أخو حُصين. ويقال ليوم اليعمريّة يوم نفْر لأنّ بينهما أقلَّ من نصف يوم. يوم الهباءة لعبس على ذبيان ثم اجتمعوا فالتقوا في يوم قائظ إلى جَنب جَفْر الهَباءة واقتتلوا من بُكرة حتى أنتصف النهار وحَجز الحرّ بينهم وكان حُذيفة بن بدر يحرق فخذيه الركضُ فقال قيس بن زهير: يا بني عبس إن حذيفة غداً إذا احتدمت الوديقة مُستنقع في جَفْر الهَباءة فعليكم بها. فخرجوا حتى وَقعوا على أثر صارف فرس حُذيفة والحَنْفاء فرس حَمل بن بذر. فقال قيس بن زهير: هذا أثر الحَنْفاء وصارف فَقَفَوْا أثَرهما حتى توافَوْا مع الظَّهيرة على الهَباءة. فَبصُر بهم حملُ بن بدر فقال لهم: من أبغضُ الناس إليكم أن يقف على رؤوسكم قالوا: قيسُ ابنُ زهير والربيعُ بن زياد فقال: هذا قيسُ بن زهير قد أتاكم. فلم يَنقض كلامُه حتى وقف قيسٌ وأصحابُه على جَفْر الهَباءة وقيس يقول: لبّيكم لَبَّيكم - يعني إجابة الصِّبية الذين كانوا ينادونهم إذ يُقتلون - وفي الجفر حُذيفةُ وحَمَل ابنا بدر ومالك بن بَدْر ووَرْقاءُ بن هِلال من بنِي ثَعلبة بن سعد وحَنَش بن وهْب. فوقف عليهم شدَّاد بن مُعاوية العَبْسيِّ وهو فارس جَروة وجروة فرسه ولها يقول: ومَنْ يكُ سائلاً عنّي فإنّي وجَروةَ كالشِّجا تحت الْوريد أقوتها بقُوتي إنْ شَتَوْنا وألحقها رِدائي في الجَليد فحال بينهم وبين خَيلهم. ثم توافت فرسان بني عَبس فقال حَمل: ناشدتك الله والرحم يا قيس. فقال: لَبيكم لَبَّيكم. فعَرف حُذيفة أنه لن يَدعهم فأنتهر حملاً وقال: إياك والمأثورَ من الكلام. فَذهبت مثلاً. وقال لقيس: لئن قتلَتني لا تَصلح غطفانُ أبعدها. فقال قيس: أبعْدَها الله ولا أصلحها. وجاءه قِرْواش بمعْبلة فقَصَم صُلبه. وأبتدره الحارث بن زُهير وعمرو بن الأصلع فَضرباه بِسَيْفيهما حتى ذفّفَا عليه. وقَتل الربيعُ بن زياد حمَل بن بدر. فقال قيس ابن زهير يَرثيه: تعَلّم أنّ خيرَ الناس مَيْت على جَفْر الهَباءة ما يَرِيم ولولا ظُلمه مازلت أبكي عليه الدهر ما طَلع النجوم ولكن الفَتى حملَ بن بَدر بَغى والبَغْيُ مَرْتعه وَخيم أضن الحلْم دلّ عليّ قَومي وقد يُستضعف الرجُل الحليم ومارستُ الرجالَ ومارَسُوني فَمُعْوجٌ عليَّ ومُستقيم ومثّلوا بحُذيفة بن بدر كما مَثل هو بالغِلْمة فقَطعوا مَذاكيره وجعلوها في فيه وجعلوا لسانه في استه. وفيه يقول قائلهم: فإنّ قتيلاً بالهَباءة في استه صحيفتُه إنْ عاد للظُّلم ظالمُ متى تَقرأوها تَهْدِكم عن ضلالكم وتُعرف إِذ ما فُضَّ عنها الخَواتم وقال في ذلك عَقيل بن علَّفة المرِّي: ويوقد عوفٌ للعشيرة نارَه فهلا على جَفْر الهَباءة أوْقدَا فإنّ على جَفر الهَباءة هامة تُنادي بني بَدر وعاراً مُخلّدا وقال الربيع بن قَعْنب: خَلُق المَخازي غيرَ أنّ بذي حُسا لبني فَزارة خِزْيةً لا تَخْلقُ تِبْيانُ ذلك أنّ في استِ أبيهم شَنعاءَ من صُحف المَخازي تَبْرق وقال عمرو بن الأسِلع: إنّ السماء وإنّ الأرض شاهدة والله يَشهد والإنسانُ والبَلدُ أنّي جَزيتُ بني بَدْر بسَعْيهم على الهَباءة قَتلاً ماله قَوَد لمّا التقينا على أَرجاء جُمّتها والمَشرفيّة في أيماننا تَقِد عَلوتُه بحُسام ثم قلتُ له خُذْها إليك فأنتَ السيّد الصِّمَد فلما أصيب أهلُ الهَباءة واستعظمت غَطفان قَتل حُذيفة تجمّعوا وعَرفت بنو عَبس أنْ ليس لهم مُقام بأرض غَطفان فخرجوا إلى اليمامة فنزلوا بأخوالهم بني حَنيفة ثم رَحلوا عنهم فنزلوا ببني سَعد بن زيد مَناة. يوم الفروق ثم إنّ بني سَعد غدروا لجوارهم فأتوا معاويةَ بن الجَوْن فاستجاشوه عليهم وأرادوا أكلَهم. فبلغ ذلك بني عَبس ففروا ليلاً وقدموا ظُعُنهم ووقف فرسانهم بمَوضع يقال له الفَرُوق. وأغارت بنو سَعد ومَن معهم من جُنود المَلِك على محلّتهم فلم يجدوا إلا مَواقد النَيران فاتبعوهم حتى أتوا الفَروق فإذا بالخيل والفُرسان وقد توارت الظعن فانصرفوا عنهم. ومضى بنو عَبس فنزلوا ببني ضبة فأقاموا فيهم وكان بنو جَذِيمة من بني عَبس يُسَمون بني رَوَاحة وبنو بَدر من فَزارة يُسمون بني سَوْدة. ثم رجعوا إلى قومهم فصالحوهم وكان أول مَن سعى في الحَمالة حَرْملة بن الأشعر بن صِرمة بن مُرَّة فمات فسعى فيها هاشمُ ابن حَرملة ابنُه وله يقول الشاعر: أحيا أباه هاشمُ بن حَرْمله يوم الهَباتَينْ ويوم اليَعْمَله ترى المُلوك حولَه مُرعْبله يَقْتل ذا الذّنب ومَن لا ذَنْبَ له يوم قَطَن فلما توافَوْا للصُلح وقفت بنو عَبس بقَطن وأقبل حُصين بن ضَمْضم فلقي تيحان. أحد بني مخزوم بن مالك. فقتله بأبيه ضَمضم وكان عنترةُ بن شدّاد قتله بذي المُريقب. فأشارت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غَطفان وقالوا: لا نصالحكم ما بَلَّ البحر صُوفة وقد غدرتم بنا غيرَ مرّة وتنَاهض القومُ عبس وذُبيان فالتَقَوْا بقَطن فقَتل يومئذ عمرو بن الأسلع عُيينةَ ثم سَفرت السفراءُ بينهم وأتى خارجةُ بن سِنان أبا تَيحان بابنه فدَفعه إليه فقال: في هذا وفاء من ابنك. فأخذه فكان عنده أياماً. ثم حمل خارجةُ لأبي تيْحان مائةَ بعير قادها إليه واصطلحوا وتعاقدوا. يوم غدير قَلْهى قال أبو عُبيدة: فاصطلح الحيان إلاّ بني ثَعلبة بن سَعد بن ذُبيان فإنهم أبَوْا ذلك وقالوا: لا نَرضى حتى يُودوا قَتلانا أو يُهدَر دمُ مَن قَتلها. فخرجوا من قَطن حتى وَردوا غدير قلْهى فسَبقهم بنو عَبْس إلى الماء فمَنعوهم حتى كادوا يموتون عَطشَاً ودوابّهم فاصلح بينهم عوف ومَعقل ابنا سُبيع من بني ثعلبة وإياهما يَعني زُهير بقوله: تداركتُما عَبْساً وذُبيان بعدما تفانَوْا ودقُّوا بينهم عِطْرَ مَنْشَم فورَدوا حَرباً واخرجوا عنه سَلْما. يوم الرّقم لغطفان على بني عامر غَزت بنو عامر فأغاروا على بلاد غَطَفان بالرَّقَم - وهو ماء لبني مُرة - وعلى بني عامر عامر بن الطُّفيل - ويقال يزيد بن الصعق - فركب عُيينة بن حِصن في بني فَزارة ويزيد بن سِنان في بني مُرَّة ويقال الحارث بن عَوف فانهزمت بنو عامر وجعل يقاتل عامر بن الطُّفيل ويقول: " يَا نَفْسُ إلا تقْتلي تَموتي " فزعمت بنو غَطفان أنهم أصابوا من بني عامر يومئذٍ أربعةً وثمانين رجلاً فدَفعوهم إلى أهل بيت من أَشجع كانت بنو عامر قد أصابُوا فيهم فقتلوهم أجمعين. وانهزم الحَكم بن الطفيل في نفر من أصحابه فيهم جِرِابُ بن كعب حتى انتهوا إلى ماء يقال له المَرَوراة فقطع العطشُ أعناقَهم فماتوا وخنق نفسَه الحكمُ بن الطُّفيل تحت شجرة مخافَة المُثلة. وقال في ذلك عُروة بن الوَرْد: عجبت لهمِ لمْ يَخْنقون نُفوسهم ومَقْتلهم تحت الوَغى كان أجدرَا يوم النُّتَأة لعبس علي بني عامر خرجتْ بنو عامر تُريد أن تدرك بثأرها يوم الرِّقم فجمعوا على بني عَبس بالنُتَأة وقد أنذروا بهم فالتقوا وعلى بني عامر عامرُ بن الطُّفيل وعلى بني عَبس الربيعُ بن زياد فاقتتلوا قتالاً شديداً. فانهزمت بنو عامر وقُتل منهم صَفوان بن مُرة قتله الأحنفُ بن مالك ونهشل بن عُبيدة بن جعفر قَتله أبو زُعبة بن حارث: وعبدُ الله بن أَنس بن خالد. وطَعنِ ضبيعةُ بن الحارث عامرَ بن الطُّفيل فلم يَضرّه ونجا عامر وهُزمت بنو عامر هَزيمةَ قَبيحة. فقال خراشةُ بن عمرو العَبْسي: وسارو على أَظمائهم وتَواعدُوا مِياهاً تحامتها تَميم وعامِرُ كأنْ لم يكن بين الذُّنَاب وواسطٍ إلى المُنحنَى مِن ذي الأراكة حاضر ألا أَبْلِغَا عنّي خَلِيلِيَ عامراً أتَنْسى سُعادَ اليومَ أم أنتَ ذاكِر وصدتك أطرا فُ الرِّماحِ عن الهَوى ورُمتَ أموراً ليس فيها مَصادر وغادرتَ هِزّانَ الرئيس ونَهشلاً فلله عينا عامرٍ مَن تُغادر قَذَفْتَهمُ في الموت ثم خَذلْتهم فلا وَالت نفس عليك تحاذر وقال أبو عبيدة: إن عامر بن الطُّفيل هو الذي طَعن ضُبيعة بن الحارث ثم نجا من طَعنته وقال في ذلك: فإن تَنجُ منها يا ضُبيع فإنّني وَجدِّك لم أعقِدْ عليك التَّمائمَا يوم شُوَاحط لبني محارب على بني عامر غَزت سرّيةٌ من بني عامر بن صعصعة بلاَد غَطفَان فأغارت على إبل لبني مُحارب بن خَصَفة فأدركهم الطلبُ فقتلوا من بني كلاب سَبعةً واْرتدّوا وإبلهم. فلما رجعوا من عندهم وَثب بنو كلاب على جَسْر وهم من بني مُحارب كانوا حاربوا إخوتهم فخرجوا عنهم وحالفوا بني عامر بن صَعصعة فقالوا: نَقتلهم بقَتل بني محارب من قَتلوا منّا. فقام خِداش بن زُهير دونهم حتى مَنعهم من ذلك وقال: أيا راكباً إمّا عرِضتَ فبلّغنْ عَقِيلاً وابْلغ إن لقيتَ أبا بَكْر فيا أخَوَينا من أبينا وأمنا إليكم إليكم لا سبيلَ إلى جَسْر أبى فارسُ الضَحياء عمرو بنُ عمرو أبي الذَّم واختار الوَفاء على الغَدْر يوم حوّزة الأول لسُلَيم على غطفان قال أبو عُبيدة: كان بين معاوية بن عمرو بن الشريد وبين هاشم بن حَرْملة أحد بني مُرة بن غطفان كلام بعُكاظ فقال معاوية: لوددتُ والله أني قد سمعتُ بظعائنَ يَنْدبنْك. فقال هاشم: والله لوددتُ أني قد تَربت الرَّطْبة - وهي جْمة معاوية وكان الدهرَ تَنطِف ماءً ودُهنا وإن لم تُدْهن - فلما كان بعدُ تهيأ معاوية ليغزو هاشماً فنهاه أخوه صخر. فقال كأني بك إن غزوتهم علق بجمَتك حسك العُرْفط. قال: فأبى مُعاوية وغزاهم يوم حوزة فرآهم هاشم بن حرملة قبل أن يراه مّعاوية وكان هاشماً ناقهاً من مَرض أصابه فقال لأخيه دُريد ابن حَرملة: إنّ هذا إن رآني لم آمَن أن يَشد عليّ وأنا حديثُ عهد بشَكِيَّة فاستَطْرِدْ له دوني حتى تجعلَه بيني وبينك ففعل. فحمل عليه معاويةُ وأردفه هاشم فاختلفا طَعنتين فأردى معاويةُ هاشماً عن فرسه الشمّاء وأنفذ هاشم سِنانة من عانة معاوية. قال: وكَرّ عليه دُريد فظنّه قد أرْدى هاشماً فضرب معاويةَ بالسيف فقتله وشدَّ خِفافُ بن عُمير على مالك ابن حارث الفَزاريّ: قال: وعادت الشمّاء فرس هاشم حتى دخلت في جَيش بني سُليم فأخذوها وظنّوها فرس الفَزاري الذي قَتله خفاف ورجع الجيشُ حتى دنوا من صَخْر أخي معاوية فقالوا: أنْعم صَباحاً أبا حسان. فقال: حُييتم بذلك ما صنع مُعاوية قالوا: قُتل. قال: فما هذه الفرس قالوا: قَتلنا صاحبَها. قال: إذاً قد أدركتم ثأركم هذه فرسُ هاشم بن حرملة. قال: فلما دخل رجب رَكِب صخرُ بن عمرو الشّماءِ صبيحةَ يوِم حَرام فأتى بني مُرة. فلما رأوه قال لهم هاشم: هذا صخر فحيوه وقولوا له خيراً وهاشم مريض من الطعنة التي طَعنه معاوية فقال: مَن قَتل أخي فسكتوا. فقال: لمن هذه الفرسُ التي تحتي فسكتوا. فقال هاشم: هَلَم أبا حسان إلى مَن يُخبرك. قال: مَن قتل أخي فقال هاشم: إذا أصبتَنِي أو دريداً فقد أصبتَ ثأرَك. قال: فهل كفَّنتموه قال: نعم في بُردين أحدهما بخَمس وعشرين بَكْرة. قال: فأروني قبره. فأروه إياه. فلما رأى القبر جَزع عنده ثم قال: كأنكم قد أنكرتُم ما رأيتُم من جَزعي فوالله ما بِت منذ عَقَلتُ إلا واتراً أو موتوراً أو طالباً أو مطلوباً حتى قُتل معاوية فما ذقت طَعم نوم بعده. يوم حوزة الثاني قال: قم غَزاهم صَخر فلما دنا منهم مضى على الشمّاء وكانت غَرّاء مُحجّلة فسوَّد غُرتها وتَحجيلها فرأتْه بنتٌ لهاشم فقالت لعمّها دُريد: أين الشمّاء قال: هي في بني سُليم قالت: ما أشبهها بهذه الفرس. فاستوى جالساً فقال: هذه فرس بَهيم والشمّاء غَرّاء محجّلة وعاد فاضطجع. فلم يَشعر حتى طَعنه صخر. قال: فثارُوا وتَناذروا وولّى صَخر وطلبته غَطفان عامّةَ يومها وعارض دونه أبو شَجرة بن عبد العُزّى وكانت أمه خَنساء أخت صَخر وصَخْر خاله فرد الخَيل عنه حتى أراح فرسَه ونجا إلى قومه. فقال خُفاف بن ندبه لما قتل مُعاوية: قَتلني الله إن بَرحت مِن مَكاني حتى أثار به فشدّ على مالك سيّد بني جُمح فقَتله فقال في ذلك: فإن تَكُ خَيلي قد أصيب صَميمُها فَعمْداً على عَيْنٍ على عَين تَيَمَّمْتُ مالكا نَصبتُ له عَلْوَى وقد خام صُحبتي لأَبْنيَ مَجداً أو لأثأر هالكا أقول له والرمحُ يَأْطر مَتنْه تَأَمَّل خُفافاً إنني أنا ذلكا وقال صَخر يَرثي مُعاوية وكان قال له قومه أهجُ بني مُرة. فقال: ما بيننا أجل من القَذْع. وأنشأ يقول: وعاذلةٍ هَبّت بليلٍ تَلُومني ألا لا تلُوميني كَفَى اللومُ مابيا تقول أَلا تَهْجو فوارسَ هاشم وماليَ أنْ أهْجوهم ثُم مالِيا إذا ما أمرؤ أَهدَى لِمَيْتٍ تحيةَ فَحَيّاك ربًّ الناس عَنِّي مُعاويا وهَوَّن وَجدي أنني لم أقُل له كذبت ولم أبخلْ عليه بماليا وذي إخوة قطّعت أقرانَ بَيْنهم كما تَركوني واحِداً لا أخَالِيا وقال في قَتْل دريد: ولقد دفعت إلى دُريد طَعنةً نَجْلاء تُوغَرِ مثل غَطّ المنخُر ولقد قتلتُكمُ ثُناءَ ومَوْحداً وتركتُ مُرّة مِثل أمس الدَّابر قال أبو عبيدة: وأما هاشم بن حَرملة فإنه خَرج مُنتجعاً فلقيه عمرُو بن قيس الجشميّ فتَبِعه وقال هذا قاتلُ مُعاوية لا وَألتْ نفسي إن وَأل فلما نزل هاشمٌ كَمَن له عمرو بن قَيس بين الشَجر حتى إذا دنا منه أرسل عليهِ مِعْبلة ففَلق قَحفه فقتله وقال في ذلك: لقد قتلتُ هاشمَ بن حَرْمله إذ المُلوك حوله مُغَرْبله يقتل ذا الذَنب ومن لا ذنَب له يوم ذات الأَثل قال أبو عُبيدة: ثم غزا صخرُ بن عمرو بن الشَّريد بني أَسد بن خُزيمة واكتسحِ إبلهم فأتى الصريخُ بني أسد فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل فاقتتلوا قِتالاً شَديداً فطعن ربيعةُ بن ثَور الأسديّ صخراً في جَنبه وفات القَوم بالغَنيمة. وجرى صخرٌ من الطعنة فكان مريضاً قريبا من الحَوْل حتى مَلّه أهلُه فسمِع امرأة من جاراته تسأل سَلْمى امرأته: كيف بعلُكِ قالت: لا حَيّ فيُرجى ولا ميْت فيُنسىَ لقد لقينا منه الأمرَّين. وكانت تُسأل أمه: كيف صخر فتقول: أرجو له العافية إن شاء اللّه. فقلل في ذلك: أرى أُمّ صخر لا تَملّ عِيادتي ومَلّت سُلَيمى مَضْجعي ومَكاني فأيّ امرئ ساوَى بأمّ حَليلةً فلا عاش إلا في شَقَى وهَوانَ وما كنتُ أخشِىَ أن أكونَ جِنازة عليكِ ومَن يَغترُّ بالحَدثان لَعمري لقد نبّهتُ مَن كان نائماً وأسمعت مَن كانت له أذنان أَهُمّ بأمر الحَزْم لو أسْتَطيعه وقد حِيل بين العَيْر والنّزوان فلما طال عليه البلاءُ وقد نَتأت قِطْعة من جَنبه مثْلُ اليد في موضع الطعنة قالوا له: لو قطعْتها فما بالُ عَينِيَ ما بالُها لقد اخضل الدمع سِرْبالَها أمِن فَقدِ صَخْر من آل الشَري د حَلّت به الأرضِ أثقالَها فآليت أبكي على هالك وأسأل نائحةً ما لَها هممتُ بنَفسيِ كُلَّ الهموم فأولَى لنَفسيَ أولى لها سأحمل نفسي على آلة فإمَّا عليها وإما لها وقالت ترثيه: وقائلة والنَّعشُ قد فات خَطْوَها لِتُدركَه يا لهفَ نَفسي على صَخْرِ ألا ثَكِلَت أمُّ الذين غَدَوا به إلى القبر ماذا يَحملون إلى القَبْرِ يوم عَدْنِيَّة وهو يوم مِلْحان قال أبو عُبيدة: هذا اليوم قبل يوم ذات الأثْل وذلك أن صخراً غَزا بقومه وترك الحيّ خِلْواً فأغارت عليهم غطفان فثارت إليهم غِلْمانهم ومَن كان تخلّف منهمِ فقُتل من غَطفان نَفر وأنهزم الباقون فقال في ذلك صَخر: جزى الله خيراً قومَنا إذ دعاهُم بَعْدنِيةَ الحَيُّ الخُلوف المُصبِّح وغلمانُنا كانوا أسود خَفِيَّة وحَقَّ علينا أن يُثابوا وُيمدحوا هُم نَفَّروا أقرانَها بمُضَرَّس وسعْرٍ وَذوا الجَيش حتى تَزحزحوا كأنهم إذ يُطردون عَشية بقُنّة مِلْحان نَعام مُروّح يوم اللوى لغطفان على هوازن قال أبو عُبيدة: غزا عبدُ الله بن الصِّمة - واسم الصمَة معاوية الأصغر من بني عزيّة بن جُشم بن مُعاوية بن بكر بن هوازن وكان لعبد الله ثلاثة أسماء وثلاثُ كنى فاسمه عبد الله وخالد ومَعبد وكُنيته أبو فُرغان وأبو ذفافة وأبو وفاء وهو أخو دُريد بن الصمة لأبيه وأمه - فأغار على عَطفان فأصاب منهم إبلاً عظيمة فأطردها. فقال له أخوه دُريد: النجاة فقد ظَفرت. فأبى عليه وقال: لا أبرح حتى انتقع نقيعتي - والنقيعة: ناقة ينحرها من وسط الابل فيَصنع منها طَعاماً لأصحابه ويَقْسم ما أصاب على أصحابه - فأقام وعَصى أخاه فتتبعته فَزازة فقاتلوه وهو بمكان يقال له اللَوى فقُتل عبد اللهّ وارتُث دُريد فبقي في القَتلى. فلما كان في بعض الليل أتاه فارسان فقال أحدُهما لصاحبه: إني أرى عينيه تَبِصّ فأنزل فانظُر إلى سُبتَّه. فنزل فكشف ثوبَه فإذا هي تَرمْز فطَعنه فخرج دم كان قد أحتقن. قال دُريد: فأفقتُ عندها فلما جاوزوني نهضتُ. قال: فما شعرِت إلا وأنا عند عُرقوبيَ جمل امرأة من هَوازن. فقالت: من أنت أعوذ بالله من شرك. قلت: لا بل مَن أنت ويلك! قالت: امرأة من هَوازن سيارة. قلت: وأنا من هوازن وأنا دُريد ابن الصَمّة. قال: وكانت في قوم مُجتازين لا يشعرون بالوَقعة فضمته وعالَجَته حتى أفاق. فقال دُريد يرثي عبد الله أخاه ويذكر عِصْيانه له وعِصْيان قومه بقوله: أعاذِلَ إن الرزءَ في مِثل خالد ولا رُزْءَ فيما أهلك المرءُ عن يَدِ وقُلت لعارض وأصحاب عارض ورَهْطِ بني السوداء والقوم شهَدى أمرتُهم أمرِي بمُنقطع اللوى فلم يستبينوا الرُشد إلا ضحَى الغَد فلما عَصَوْني كنتُ منهم وقد أرى غَوايتَهم وأنني غيرُ مُهْتدي وما أنا إلا من غَزِيّة إن غَوَت غويتُ وإن تَرْشُد غَزيّة أرْشُد فإن تُعقب الأيامُ والدهر تَعلموا بَني غالب أنا غِضاب لِمَعبد تنادَوْا فقالوا أردَت الخيلُ فارساً فقلتُ أعبدُ الله ذلكم الردي فإنْ يك عبدُ الله خلَّى مكانَه فما كان وقَافاً ولا طائشَ اليَد ولا بَرِماً إذ ما الرياحُ تناوحتْ برَطْب العِضاه والضرّيع المُعضد كميشُ الإزار خارجٌ نصف ساقه صبور على الضراءِ طلاع أنجُد قليل التشكّي للمَصائب حافظٌ من اليوم أعقاب الأحاديث في غَد وهوَن وَجْدي أنّني لم أَقُل لَه كَذَبْت ولم أبْخل بما مَلكتْ يدِي أبو حاتم عن أبي عُبيدة قال: خَرج دريدُ بن الصِّمة في فوارسَ من بني جشَم حتى إذا كانوا في وادٍ لبني كِنانة يقال له الأخْرم وهم يُريدون الغارةَ على بني كنانة إذ رُفع له رجل في ناحية الوادي معه ظَعينة فلما نَظر إليه قال لفارس من أصحابه: صِحْ به: خَلِّ عن الظعينة وأنجُ إنّ أنثنائي دون قِرْني شائني أَبلى بلائي وأخبُري وعايِني ثم حَمل عليه فصرَعه وأخذ فرسَه فأعطَاه للظِّعينة. فبعث دُريد فارساً آخر لينظرَ ما صَنع صاحبُه. فلما انتهى إليه ورأى ما صَنع صاح به. فتصامم عنه كأن لم يَسمع. فظن أنه لم يَسمع فغَشيه. فألقى زِمامَ الرَّاحلة إلى الظّعينة ثم خَرج وهو يقول: خَلِّ سبيلَ الحُرّة المنيعة إنك لاقٍ دونها رَبيعه في كَفّه خَطِّيَّة مطيعه أَوْلا فخُدْها طعنةً سَريعه والطَّعنُ منّي في الوغَى شريعه ثم حَمل عليه فصرعه. فلما أبطأ على دُريد بعث فارساً لينظر ما صنعا. فلما انتهى إليهما وجدهما صريعَيْن ونظر إليه يقود ظعينته ويجُر رُمْحه. فقال له الفارس: خل عن الظعينة. فقال للظَّعينة: أقصِدي قصدَ البيُوت ثمِ أقبل عليه فقال: ماذا تُريد من شَتيم عابس ألم تَر الفارس بعد الفارِس أَرْداهما عاملُ رُمح يابس ثم حَمل عليه فصرعه وانكسر رُمحه. وارتاب دُريد فظنّ أنهم قد أخذوا الظّعينة وقَتلوا الرجل. فلحق دريد ربيعةَ وقد دَنا من الحيّ ووجد أصحابَه قد قتلوا فقال: أيها الفارس إنّ مِثْلك لا يُقتل ولا أرى معك رُمحك والخيلُ ثائرةٌ بأصحابها فدونَك هذا الرُّمحَ فإني مُنصرف إلى أصحابي ومُثبِّطهم عنك. فانصرف إلى أصحابه فقال: إنّ فارس الظَّعينة قد حَماها وقَتل أصحابكم وأنتزع رُمحي ولا مَطْمع لكم فيه. فانصرف القومُ. فقال دُريد في ذلك: ما إن رأيتُ ولا سَمِعتُ بمثله حامِي الظّعينة فارساً لم يُقتل أردَى فوارسَ لم يكونوا نُهْزةّ ثم استمرّ كأنه لم يَفْعل مُتهلِّلاً تَبدو أَسِرَّة وجهه مثل الْحسام جَلَتْه كفُّ الصَيْقل يُزْجِي ظَعينَته ويَسْحب رُمْحه مُتوجهاً يمنَاه نحو المَنزل وتَرى الفوارسَ من مَهابة رُمحه مثلَ البُغاث خَشِين وَقْع الأجْدل يا ليتَ شعْري مَن أبوه وأمّه يا صاح مَن يَكُ مثلَه لا يجهل وقال ابنُ مُكَدَم: إن كان يَنفعكِ اليقينُ فسائلِي عنِّي الظعينةَ يومَ وادي الأخْرم إذ هِي لأوَّل مَن أتاها نُهبة لولا طعانُ رَبيعة بنِ مُكَدَّم إذ قال لي أدنى الفوارس منهم خَلِّ الظعينَةَ طائعاً لا تَنْدَم ومَنحت آخرَ بعدَه جَيَّاشةً نَجْلاء فاغرةً كشِدْقِ الأضجَم ولقد شفعتُهما بآخَر ثالثٍ وأبى الفِرارَ عن العُداة تَكرُّمي ثم لم يَلبث بنو كنانة أن أغاروا على بني جُشم فقتلوا وأسروا دريدَ بن الصِّمة فأخفى نَسبه. فبينما هو عندهم مَحبوس إذ جاءت نِسوة يتهادَيْن إليه فصاحت إحداهنّ فقالت: هلكتم وأهلكتم! ماذا جَرّ علينا قومنا هذا والله الذي أعطى ربيعة رُمحه يوم الظعينة ثم ألقت عليه ثَوبها وقالت: يا آل فراس أنا جارةٌ له منكم هذا صاحبنا يوم الوادي. فسألوه: من هو فقال: أنا دُريد ابن الصَمة فمَن صاحبي قالوا: رَبيعة بن مُكدَم. قال: فما فَعل قالوا: قتلتْه بنو سليم. قال: فما فعلتْ الظّعينة قالت المرأة: أنا هي وأنا امرأته. فحَبسه القومُ وأتمروا أنفسهم فقال بعضُهم: لا ينبغي لدُريد أن تُكفر نعمتُه على صاحبنا وقال الآخرون: لا والله لا يَخرج من أيدينا إلا برضا المُخارق الذي أسره. فانبعثت المرأة في الليل. وهي رَبطة بنت جِذْل الطِّعان فقالت: سنَجزى دُريداً عن ربيعة نِعمةً وكُل امرئ يجزى بما كان قَدَّمَا فإن كان خيراً كان خيراً جزاؤه وإن كان شرًا كان شراً مُذَمما سنَجزيه نُعمَى لم تكن بصَغيرةٍ بإهدائه الرُّمح الطَّويل المقوما فإنْ كان حَياً لم يَضِق بثَوابه ذِراعاً غَنِياً كان أو كان مُعْدِما ففُكّوا دُريداً من إسار مخارق ولا تجعلوا البؤسىَ إلى الشرّ سلَما فلما أصبحوا أطلقوه. فكستْه وجَهَّزته ولحق بقومه. فلم يَزل كافا عن حَرب بني فراس حتى هلك. يوم الصلعاء لهوازن على غطفان فلما كان في العام المُقبل غزاهم دُريد بن الصَمة بالصَّلعاء فخرجت إليه. غطفان. فقال دُريد لصاحبه: ما ترى قال: أرى خيلاً عليها رجال كأنهم الصَبيان أسِنتها عند آذان خَيلها. قال: هذه فَزارة. ثم قالت: انظُر ما ترى قال: أرى قوماً كأن عليهم ثياباً غُمست في الجادي. قال: هذه أشجع. ثم قال: انظر ما ترى قال: أرى قوماً يَهزّون رماحَهم سوداً يخدُون الأرضَ بأقدامهم. قال: هذه عَبْس أتاكم الموت الزُّؤام فاثبتُوا. فالتقوا بالصّلعاء فكان الظَّفر لهوازن على غَطفان وقَتل دُريدٌ ذُؤَابَ بن أسماء بن زيد بن قَارِب. حرب قيس وكنانة يوم الكديد لسليم على كنانة فيه قتل ربيعة بنُ مُكَدَّم فارسُ كنانة. وهو من بني فِراس بنِ غنْم بن مالك بن كِنانة وهم أنجد العرب كان الرجل منهم يُعدل بعشرة من غيرهم وفيهم يقول علي بن أبي طالب لأهل الكوفة: وددتُ والله أنّ لي بجَميعكم وأنتم مائةُ ألف ثَلثَمائةٍ من بني فراس بن غنم. وكان ربيعة بن مُكَدَم يعقَر على قبره في الجاهليَّة ولم يُعقر على قبر أحد غيره ومر به حسانُ بن ثابت. وقتلته بنو سُليم يوم الكَدِيد. ولم يحضُر يوم الكَدِيد أحد من بني الشريد. يوم برزة لكنانة على سليم قال أبو عُبيدة: لما قَتلت بنو سُليم ربيعَة بن مُكدم فارسَ كنانة ورجعوا أقاموا ما شاء الله. ثم إن ذا التاج مالكَ بن خالد بن صَخر بن الشّريد - واسم الشريد عمرو وكانت بنو سُليم قد توجوا مالكاً وأمَروه عليهم - غزا بني كنانة فأغار على بني فِراس ببَرْزة ورئيسُ بني فِراس عبدُ الله بن جِذْل. فدعا عبدُ الله إلى البِراز فبرز إليه هندُ بن خالد بن صَخْر بن الشرًيد فقال له عبدُ اللّه: مَن أنت قال: أنا هِندُ بن خالد بن صَخر. فقال عبدُ الله: أخوك أسن منك يُريد مالكَ بن خالد. فَرجع فأحضر أخاه فبَرز له فجعل عبدُ الله ابن جِذلَ يرتحز ويقول: ادْنُ بني قِرْف القِمَعْ إنّي إذا الموتُ كَنَعْ لا أستغيثُ بالجَزَعْ ثم شَدّ على مالك بن خالد فقتله فبرز إليه أخوه كرز بن خالد بن صخر فشد عليه عبد الله بن جِذل فقتله أيضاً. فشدّ عليه أخوهما عمرو بنُ خالد بن صَخْر بن الشَّريد فتخالفا طَعْنتين فجرح كُلُّ واحد منهما صاحبَه وتحاجزا. وكان عمرو قد نهى أخاه مالكاً عن غَزو بني فِراس فعصاه وانصرف للغَزْو عنهم. فقال عبدُ الله بن جذل: تجنبتُ هِنداً رغبةً عن قتاله إِلى مالكٍ أَعْشُو إلى ضَوْء مالِك فأيقنت أنّي ثائرُ ابن مُكَدَّم غَداتئذ أو هالك في الهَوالك فأنفذتُه بالرُّمح حينَ طَعنتُه مُعانقةً ليست بطَعْنة باتِك وأثنى لكُرز في الغبار بطَعْنة عَلَتْ جِلْدَه منها بأحمَر عاتك قتلنا سُليماً غَثَّها وسَمِينها فصبراً سُليماً قد صَبرنا لذلك وقال عبد الله بنْ جِذل أيضاً: قَتلنا مالكاً فبَكَوْا عليه وهل يُغْني مِن الجَزع البُكاء وكُرْزاً قد تَركناه صريعاً تَسيل علَى تَرائبه الدِّماء فإنْ تَجزع لذاك بنو سُلَيم فقد - وأبيهم - غُلب العَزاء فصبراً يا سُليم كما صَبرنا وما فِيكم لواحدنا كِفاء فلا تَبْعد ربيعةُ من نَديم أخو الهُلاك إن ذُمّ الشِّتاء وكم مِن غارة ورَعِيل خَيْل تَدَاركها وقد حَمِس اللِّقاء يوم الفيفاء لسليم على كنانة قال أبو عُبيدة: ثم إنّ بني الشّريد حَرَّموا على أنفسهم النِّساء والدُّهن حتى يُدركوا بثأرهم من بني كِنانة. فغزا عمرو بن خالد بن صَخر بنِ الشرّيد بقومه حتى أغار على بني فِراس فقَتل منهم نَفراً: منهم عاصم بن المُعلَى ونَضلة والمُعارِك وعمرو بن مالك وحِصْن وشُريح وسَبى سَبْيا فيهم ابنة مُكَدّم أخت ربيعة بن مُكَدّم. فقال عبَّاس بن مِرْداس في ذلك يرُدّ على ابن جِذْل في كلمته التي قالها يومَ بَرْزة: ألا أَبلغَا عَنّي ابن جِذْل ورهْطَه فكيف طَلبناكمُ بِكُرْزٍ ومالِك غداةَ فَجَعْناكم بحِصن وبابنه وبابن المُعلَّى عاصمٍ والمعارك ثمانية منهم ثَأرناهُم به جميعاً وما كانوا بَواءً بمالك نُذيقكم والموتُ يَبني سرُادقاً عليكم شَبا حدِّ السّيوف البواتك تَلُوح بأيدينا كما لاح بارق تلألأ في داجٍ من اللَّيل حالك صَبحناكم العُوجَ العَناجيج بالضُّحى تَمُر بنا مَرِّ الرِّياح السواهك وقال هندُ بن خالد بن صخر بن الشَريد: قتلتُ بمالك عمراً وحِصْناً وخَلّيت القَتام على الخُدودِ وكُرزاً قد أًبأتُ به شُريحاً على أَثر الفوارس بالكَديد جَريناهم بما انتكهوا وزِدْنا عليه ما وَجدنا من مَزِيد جَلَبنا من جَنوب الفَرْد جُرْداً كطَيْر الماء غَلّس للوُرود قال: فلما ذكر هندُ بن خالد يوم الكَدِيد وافتخر به ولم يشهده أحدٌ من بني الشريد غضب من ذلك نُبيشة بن حَبيب فأنشأ يقول: تُبخل صُنْعَنا في كُل يوم كمَخْضوب البَنان ولا تَصِيد وتأكل ما يَعاف الكلبُ منه وتَزعم أن والدَك الشريد أبى لي أن أقِر الضيمَ قيس وصاحبُه المَزُور به الكَديد حرب قيس وتميم يوم السُّوبان لبني عامر على بني تميم قال أبو عُبيدة: أغارت بنو عامر علي بني تميم وضَبْة فاقتتلوا. ورئيس ضَبَة حسّان بن وَبرة وهو أخو النعمان لأمه فأسره يزيد الصعِق وانهزمت تميم. فلما رأى ذلك عامرُ بن مالِكِ بن جَعفر حَسده فشذ على ضرِارَ بن عمرو الضبي وهو الردِيم. فقال لابنه أدْهم: أغْنِه عني. فشد عليه فطَعنه. فتحوّل عن سرَجه إلى جَنب أبدائه. ثم لَحقه فقال لأحد بَنيه أغنه عني فَفَعل مثل ذلك. ثم لَحقه فقال لابن له آخر: أغنه عني ففعل مثل ذلك فقال: ما هذا إلا مُلاعب الأسنة فسُمَى عامرٌ من يومئذ ملاعبَ الأسنة. فلما دنا منه قال له ضِرار: إني لأعلم ما تريد أتُريد اللبن قال: نعم. إنك لن تَصل إلي ومِن هؤلاء عينٌ تَطرف كلهم بني. قال له عامر: فأحلني على غيرك. فدلّه على حُبيش بن الدُّلف وقال: عليك بذلك الفارس. فشدّ عليه فأسره. فلما رأى سوادَه وقِصَره جعل يتفكّر. وخاف ابن الدُلف أن يقتله فقال: ألست تُريد اللبن قال: بَلى. قال: فأنا لك به. وفادى حسان بن وَبرة نفسَه من يزيد بن الصّعق على يوم أقرن لبني عبس على بني دارم غزا عمرو بن عُدَس من دارم وهو فارس بن مالك بن حَنظلة فأغار على بني عَبْس وأخذ إبلا وشاء ثم أقبل حتى إذا كان أسفَل من ثَنية أقْرُن نزل فابتَنى بجارية من السبْي. ولحقه الطلب فاقتتلوا. فقتَل أنسُ الفوارس بنُ زياد العَبْسي عَمراً وانهزمت بنو مالك بن حَنظلة. وقتلت بنو عبس أيضاً حَنظلةَ بن عمرو - وقال بعضُهم: قُتل في غير هذا اليوم - وارتدوا ما كان في أيدي بني مالك. فنعى ذلك جريرٌ على بني دارم فقال: هل تَذكُرون لَدَى ثنية أقْرُن أنسَ الفَوارس حين يَهْوي الأسلع وكان عمرو أسلعَ أي أبرص وكان لسَمَاعة بن عمرو خال من بني عَبس فزاره يوماً فقَتله بأبيه عمرو. يوم المروت لبني الغير على بني قشير أغار بَحيِر بن سَلْمة بن قُشير على بني العَنبر بن عمرو بن تميم فأتى الصريخُ بني عمرو بن تميم فاتبعوه حتى لحقوه وقد نزل المَرُّوت وهو يَقسم المِرْباع ويُعطى مَن معه. فتلاَحق القومُ واقتتلوا. فطعَن قعْنبُ بن عتّاب الهيثَم بن عامر القُشيري فصرعه فأسره وحَمل الكدَام وهو يزيد بن أزهر المازني على بحير بن سَلمة فطعنه فأرداه عن فرسه ثم نزل إليه فأسره. فأبصره قَعنب بن عتاب فحمل عليه بالسيَّف فضربه فقتله. فانهزم بنو عامر وقُتل رجالهم. فقال يزيدُ بن الصَعِق يرثي بَحيرا: أواردةٌ عليّ بني رِياح بفَخْرهُم وقد قتلوا بَحيرَا فأجابته العَوْراء من بني سَليط بن يَربوع: قَعيدَك يا يزيدُ أبا قُبيس أَتُنذر كي تُلاقينا النّذورَا وتُوضِع تُخبرالرُّكبان أنّا وُجدنا في مراس الحَرب خُورا ألم تعلم قعيدَك يا يزيد بأنا نَقَمع الشَّيخَ الفَخُورا فأبلغ إن عَرضت بني كلاب بأنا نحن أَقعَصْنا بَحيرا وضرَّجنا عُبيدة بالعَوالي فأَصبح مُوثَقاً فِينا أَسِيرا أفخراً في الخلاء بغير فَخْرٍ وعند الحَرب خَواراً ضَجُورا يوم دارة مأسل لتميم على قيس غزا عُتبة بن شُتَير بن خالد الكِلابيّ بني ضَبّة فاستاق نَعَمهم وقَتل حُصيْن ابن ضِرار الضَّبي أبا زَيد الفوارس فجمع أبوه ضرار قومَه وخرج ثائراً بابنِهِ حُصين وزيد الفوارس يومئذ حَدَث لم يُدرك فأغار على بني عمرو بن كِلاب فأفلت منه عُتبةُ بن شُتير بن خالد وأسر أباه شُتير بن خالد وكان شيخاً أعور. فأتى به قومه فقال: إما أن ترُدّ ابني حُصينا. قال: فإني لا أَنشر الموتى. قال: وإما أن تدفع إليّ ابنك عُتبة أقتله به. قال: لا تَرضى بذلك بنو عامر أن يدفعوا فارسَهم شاباً مُقتبَلاً بشَيخ أعورَ هامة اليوم أو غد. قال: وإما أن أقتلك. قال: أمّا هذه فنعم. قال: فأمر ضِرارٌ ابنَه أدهم أن يَقتله فلما قَدّمه ليضربَ عُنقه نادى شُتير: يا آل عامر صَبْراً بصبيّ. كأنه أنِف أن يُقتل بصبيّ. فقال في ذلك شمعلة في كلمة له طويلة: وخيَرْنا شُتيراً في ثلاثٍ وما كان الثلاثُ له خيارَا جعلتُ السيفَ بين اللِّيث منه وبين قِصاص لمَّته عِذَارا وقال الفرزدق يَفخر بأيام ضبّة: عوابسُ ما تَنفكُّ تحت بطونها سَرابيلُ أبطال بنائُقها حُمْر تَركْن ابنَ ذي الجَدَّين يَنْشِج مُسْندا وليس له إلا ألاءته قَبر وهُنّ على خَذَي شتير بن خالد أثير عَجاج من سنَابكها كُدْر إذا سُوّمت للبأس يَغْشى ظُهورَها أسودٌ عليها البِيض عادتها الهَصْر يَهزّون أرماحاً طِوالا مُتونُها يهن الغِنى يومَ الكَريهة والفَقْر أيام بكر على تميم يوم الوقيط قال فراسُ بن خِنْدف: تجمَّعت اللهازُم لتُغير على تَميم وهم غارُّون فرأى لك ناشب الأعور بن بَشامة العَنبري وهو أسير في بني سَعد بن مالك ابن ضُبيعة بن قيسِ بن ثعلبة فقال لهم: أعطوني رسولاً أرسله إلى بني العَنبر أوصيهم بصاحبكم خيراً ليولوه مثلَ الذي تولوني من البر به والإحسان إليه. وكان حَنظلة بن الطُّفيل المَرثدي أسيراً في بني العَنبر. فقالوا له: على أن تُوصيه ونحن حضُور. قال نعم. فأتوه بغلام لهم. فقال: لقد أتيتموني بأحمقَ وما أراه مُبلِّغاً عني. قال الغلام: لا والله ما أنا بأحمَق وقل ما ئشت فإني مُبلَغه. فملأ الأعورُ كفه من الرمل فقال: كم هذا الذي في كفِّي من الرمل قال الغلام: شيء لا يُحصى كَثرة ثم أومأ إلي الشمس وقال: ما تلك قال: هي الشمس. قال: فاذهب إلى قومي فابلغهم عني التحيةَ وقُل لهم يُحسنوا إلى أسيرهم وُيكْرموه فإني عند قوم مُحسنين إلي مُكرمين لي وقل لهم يَقْروا جمل الأحمر ويَرْكبوا ناقتي العَيْساء بآية أكلت معهم حَيْساً وَيرْعوا حاجتي في أبيني مالك. وأخبرهم أنِّ العوسج قد أَوْرق وأنّ النِّساء قد اشتكت. ولْيعصوا هَمَّام بن بَشَامة فإنه مَشْئوم مَحدود وُيطيعوا هُذَيل بن الأخْنس فإنه حازم مَيمون. قال: فأتاهم الرسول فأبلغهم. فقال بنو عمرو بن تميم: ما نعرف هذا الكلام ولقد جنّ الأعورُ بعدنا فواللهّ ما نعرف له ناقةً عَيْساء ولا جملاً أحمر. فشخص الرسولُ ثم ناداهم هُذيل: يا بني العنبر قد بَين لكم صاحبُكم: أما الرمل الذي قبض عليه فإنه يُخبركم أنه أتاكم عددٌ لا يُحصى وأما الشمس التي أومأ إليها فإنه يقول: إن ذلك أوضحُ من الشَّمس وأما جَمله الأحمر فإنه هو الصَمَّان يأمركم أن تُعْروه وأما ناقتهُ العَيساء فهي الدَّهناء يأمركم أن تَحْترزوا فيها وأما أبْناء مالك فإنه يأمركم أن تنذروا بني مالك بن حنظلة ابن مالك بن زَيد مناة ما حَذركم وأن تُمسكوا الحِلْف بينكم وبينهم وأما العَوْسج الذي أورق فيُخبركم أنّ القوم قد لَبسوا السلاح وأما تشكيَ النساء فيُخبركم بأنهن قد عَمِلنَ شِكاءً يغزون به. قال: وقوله بآية ما أكلت معكم حَيساً يريد أحلاطاً من الناس قد غزوكم. فتحرَّزت عمرو فركبتَ الدَهناء وَأنذروا بني مالك فقالوا: لسنا ندري ما يقول بنو عمرو ولسنا متحوِّلين لِمَا قال صاحبُكم: قال فصبّحتِ اللهازمُ بني حنظلة فوجدوا بني عمرو قد أجلت وإنما أرادوهم على الوَقيط وعلى الجَيش أبجر بِن جابر العِجْليّ. وشهدها ناسٌ مع تيم اللات وشهدها الفِزْر بن الأسود بن شريد من بني سِنان. فاقتَتلوا فأسر ضِرارُ بن القَعقاع بن مَعبد بن زُرارة وتَنازع في أسره بِشرُ بن العوراء من تيم اللات والفِزْر بن الأسود فجزّا ناصيتَه وخَليّا سربه من تحت الليل. وأسر عمرو بن قيس من بني ربيعة عَثْجَلَ بن المأموم بن شَيبان بن عَلقمة من بني زُرارة ومَنَ عليه. وأسرت غَمامةُ بنت طوق بن عُبيد بن زُرارة واشترك في أسِرها الحَطيم بن هلال وظربان بن زياد وقيس بن خالد. ورَدُوها إلى أهلها. وعَير جريرٌ الخَطفي بني دارم بأسْر ضِرارِ وعَثْجل وغَمامة فقال: أغَمام لو شَهد الوقيطَ فوارسي ما قِيد يقتل عَثجل وضِرَارُ وأسر حنظلةُ بن المأمون بن شيبان بن عَلقمة أسره طَيْسلة بن زِياد أحد بني ربيعة. وأسر جُويرية بن بَدر من بني عبد الله بن دارم فلم يزل في الوثاق حتى قال أبياتاً يَمدح فيها بني عِجل وأنشأ يتغنّى بها رافعاً عقيرته: وقائلةٍ ما غالَه أن يَزُورها وقد كنتُ عن تلك الزَيارة في شُغل وقد أدركتْني والحوادثُ جَمةٌ مَخالبُ قوم لا ضِعافٍ ولا عُزْل سِراع إلى الدّاعَي بِطاء عن الخَنَا رزانٍ لدى النّادي مِن غير ما جَهْل لعلهُم أن يمَطروني بنعمية كما طاب ماءُ المُزن في البلَد المَحْل فقد يُنعش الله الفتى بعد عسرة وقد يَبتدي الحُسنَى سَراةُ بني عِجْل فلما سَمعوه أطلقوه. وأسر نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة وعمرو ابن ناشب وأسر سنان بن عمرو أخو بني سلامة بن كِندة من بني دارم وأسر حاضر بن ضَمرة وأسر الهيثم بن صَعصعة وهَرب عوفُ بن القَعقاع عن إخوته وقُتل حكيم النّهشلي وذلك أنه لم يَزل يُقَاتل وَهو يَرتجز ويقول: كُل امرئ مُصبَّح في أهله والموتُ أدنى مِن شِراكَ نَعْلِهِ وفيه يقول عَنترة الفوارس: وغادَرْنا حكيماً في مَجال صَريعاً قد سَلَبناه الإزارَا يوم النِّباج وثَيْتل لتميم على بكر الخُشنيّ قال: أخبرنا أبو غَسّان العَبْديّ - واسمه رفيع - عن أبي عُبيدة مَعمر بن المُثنى قال: غدا قيس بن عاصم في مُقاعس وهو رئيس عليها - ومُقاعس هم: صُريم ورَبيع وعُبيد بنو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زَيدَ مناة ابن تَميم - ومعه سَلاَمة بن ظرِب بن نَمِر الحَمّاني في الأجارب وهم حِمّان وربيعة. ومالك والأعرج بنو كعب بن سَعد بن زيد مناة بن تميم. فغَزوا بكر بن وائل. فوجدوا بني ذهل بن ثَعلبة بن عُكابة واللَّهازم - وهم قَيس وتيم اللتَ ابنا ثَعلبة وعِجْل بن لُجيم وعَنَزة بن أسد بن ربيعة - بالنِّباج وثَيْتل وبينهما رَوْحة. فتنازع قيسُ بن عاصم وسَلامة بن ظَرِب في الإغارة ثم اتفقا على أن يُغير قَيس على أهل النِّباج ويُعير سلاَمة على أهل الثَيتل. قال: فبعث قيسُ بن عاصم سنانَ بنَ سُمَي الأهتم شيِّفَةً له - والشَّيفة: الطَّليعة - فأتاه الخبرُ. فلما أصبح قيسُ سقى خَيله ثم أطلق أَفواه الرَّوايا وقال لقومه: قاتلوا فإن الموت بين أيديكم والفلاةَ مِن ورائكم. فلما دنوا من القوم صُبحاً سمعوا ساقياً من بكر يقول لصاحبه: يا قيس أَوْرد. فتفاءلوا به. فأغاروا على النِّباج قبل الصُبح فقاتلوهم قتالاً شديداً. ثم إن بكر انهزمت وأَسر الأهتمُ حُمْرانَ بن بِشر بن عمرو بن مَرْثد وأصابوا غنائم كثيرة. فقال قيس لأصحابه لا مُقام دون الثَّيتل فالنجاء النجاء. فأبوا. ولم يُغِر سَلاَمة ولا أَصحابه بعد على من بثَيْتَل فأغار عليهم قيس بن عاصِم فقاتلوه ثم انهزموا. فأصاب إبلاً كثيرة. فقال سلامة: إنكم أعرتُم على ما كان أمره إليّ. فتلاحَوْا في ذلك. ثم اتفقوا على أن سَلّموا إليه غنائم ثَيتل. ففي ذلك يقول ربيعة بن ظَرِيف: فلا يُبعِدَنْك الله قيسَ بن عاصم فأنتَ لنا عِزٌّ عزيز وَمَوْئل وأنت الذي حَرَّبْت بكر بنَ وائل وقد عَضَّلَتْ منها النِّباجُ وثَيتل غداة دَعت يا آل شَيبان إذ رأت كراديس يَهْدِيهنّ وَرْد مُحجّل وظَلّت عُقاب الموت تَهْفو عليهم وشُعثُ النواصي لجمهنّ تُصَلصل فما منكُم أبناءَ بكر بن وائل لغارتِنا إلا رَكوبُ مُذلّل وقال جرير يصف ما كان من إطلاق قَيس بن عاصم أفواه المَزاد بقوله: وفي يوم الكُلاب ويوم قَيْسٍ هَرَق على مُسلّحةَ المَزادَ وقال قُرة بن قَيس بن عاصم: أنا ابنُ الذي شَقَّ المَزاد وقد رَأى بثيتل أَحياء اللَهازم حُضَّرَا على الجُرد يَعَلُكْن الشكِيم عَوابساً إذا الماءُ من أعطافهنَ تَحذَرا فلم يَرها الراءون إلا فُجاءةً يُثرنَ عَجاجاً بالسنابك أكْدرا سَقاهم بها الذِّيفانَ قيسُ بن عاصم وكان إذا ما أوْردَ الأمرَ أصْدرا وحُمران أدته إلينا رِماحُنا فنازَع غُلا مِن ذِرَاعيه أسمَرا وجَشَامة الذُهلي قُدْناه عَنْوةً إلى الحيّ مَصْفود اليدَيْن مُفكِّرا يوم زرود لبني يربوع على بني تغلب أغار خُزيمة بنِ طارق التغلبي على بني يَرْبوع وهم يزَرود فنَذِروا به فالتقَوا فاقتتلوا قتالاً شديداً ثم انهزِمت بنو تَغلب. وأسر خزٍيمة بن طارق أسره أنيف بن جبلة الضبيّ وهو فارس الشَيط وكان يومئذٍ مُعتلاً في بني يربوع وأسيدُ بن حِناءة السّليطي فتنازعا فيه فحَكما بينهما الحارث بن قُراد وأم الحارث امرأة من بني سَعد بن ضَبّة فحكم بناصية خزيمة لأنيف بن جَبله على أنّ لأسيد على أنيف مائةً من الإبل. قال: ففدا خزيمةَ نفسَه بمائتي بعير وفَرِس. وقال أنيف: أخذتُك قَسراً يا خُزَيمَ بنَ طارقٍ ولاقيت منِّي الموتَ يوم زَرُود أيام يربوع على بكر وهذه أيام كُلها لبني يربوع على بني بكر من ذلك: يوم ذي طُلوح وهو يوم أوْد ويوم الحائِر ويوم مَلْهَم ويوم القُحْقُح وهو يوم مالة ويوم رأس عَين ويوم طِخْفة. ويوم الغَبِيط ويوم مُخطط ويوم جَدُود ويوم الْجِبايات ويوم زَرود الثاني. يوم ذي طلوح لبني يَربوع على بكر كان عَمِيرة بن طارق بن خصينة بن أرِيم بن عبيد بن ثَعلبة تَزوَّج مُرية بنت جابر أخت أبجر بن جابر العِجْليّ فَخَرج حتى ابتنى بها في بني عِجْل. فأتى أبجرُ أختَه مُرَيّة امرأة عَميرة يزورها فقال لها: إني لا أرجو أنْ آتيك ببنت النَطِف امرأة عَميرة التي في قومها. فقال له عَميرة: أترضى أن تُحاربني وتَسْبيني فَندِم أبجر وقال لعَميرة: ما كنتُ لأغزو قومك. ثم غزا أبجر والحَوْفزان مُتساندين. هذا فيمن تَبعه من بني شَيبان وهذا فيمن تَبعه من بني اللَّهازم وساروا بعَميرة. معهم قد وكّل به أبجرُ أخاه حُرْفصة بن جابر. فقال له عمَيرة: لو رجعْتُ إلى أهلي فاحتملتُهم فقال حُرْفصة: افعل. فكرّ عَميرة على ناقته ثم نكل عن الجَيش فسار يومين وليلة حتى أتى بني يربوع فأنذرهم الجيش. فاجتمعوا حتى التقوا بأسفل ذي طُلوح. فأوِّل ما كان فارس طَلع عليهم عَمِيرة فنادى: يا أبجر هَلُم. فقال: مَن أنت قال: أنا عَميرة. فكذّبه فسَفر عن وجهه فعرفه فأقبل إليه. والتقت الخيلُ بالخيل. فأسر الجيشُ إلا أقلِّهم وأسر حَنظلةُ بن بشر بنِ عمرو بن عدس بن زَيد بن عبد الله ابن دارمَ. وكان في بني يَربوع الحوفزانَ بنِ شريك وأخذه معه مُكَبّلا. واخذ ابن طارِق سَوادَةَ بن يزيد بن بجير بن غنْم عم أبجر وأخذ ابن عَنَمة الضِّبي الشاعر وكان مع بني شيبان فافتكه مُتمم بن نوبرة. فقال ابن عَنَمة يَمدح مُتمَم بن نُوبرة: جَزى الله ربَ الناس عنّي مُتمَماً بخَير جزاء ما أعف وأمْجدَا أجيرتْ به آباؤنا وبنَاتُنا وشَاركَ في إطلاقنا وتَفرَّدا أبا نَهْشل إني لكم غيرُ كافرٍ ولا جاعلٌ من دونك المالَ مُؤصدا وأسر سُويد بن الحَوفزان وأسر أسود وفَلْحس وهما من بني سَعد بن هَمّام. فقال جرير في ذلك يذكر يوم ذي طُلوح: ولمّا لَقِيتا خيلَ أبجرَ يَدّعي بدَعْوى لُجيم غير مِيل العوَاتِقِ صبَرنا وكان الصبر منّا سَجِيّةً بأسيافنا تحت الظِّلال الخَوافق فلما رَأوا أن لا هوادةَ عِنْدنا دَعَوْا بعد كَربٍ يا عَمِيرَ بن طارق يوم الحائر وهو يوم مَلْهَم. لبني يربوع على بكر وذلك أن أبا مُليلِ عبد الله بن الحارث بن عاصم بن حُميد وعَلْقمة أخاه انطلقا يطلبان إبلاً لهما حتى وردا مَلهم من أرض اليمامة. فخرج عليهما نَفر من بني يَشْكر فقتلوا علقمة وأخذوا أبا مليل. فكان عندَهم ما شاء الله ثم خلّوا سبيلَه وأخذوا عليه عهداً وميثاقاً أن لا يُخبر بأمر أخيه أحداً. فأتى قومَه فسألوه عن أمر أخيه فلم يخبرهم. فقال وَبَرة بن حمزة: هذا رجل قد أخذ عليه عَهد وميثاق. فخرجوا يَقُصّون أثرَه ورئيسُهم شِهاب بن عبد القيس حتى وردوا مَلْهم. فلما رآهم أهل مَلْهم تحصنوا. فحرقت بنو يَربوع بعضَ زرعهم وَعقروا بعضَ نَخلهم. فلما رأى ذلك القوم نزلوا إليهم فقاتلوهم فهُزمت بنو يشكر وقُتل عمرو بن صابر صَبْراً ضَربوا عُنقه وقَتل عُتَيبة بن الحارث بن شهاب مُثَلّم بن عبيد بن عمرو رجلاً آخر منهم وقتل مالكُ بن نويرة حُمرانَ بن عبد الله وقال: طَلبنا بيوم مثل يومك عَلْقمَا لَعمري لمَن يَسعى بها كان أَكرَما قَتلنا بجَنْب اَلعِرْض عمرَو بن صابر وحُمْران أَقْصدناهما والمُثلَّما يوم القحقح وهو يوم مالة. لبني يربوع على بني بكر أغارت بنو أبي ربيعة بن ذُهل بن شَيبان على بني يربوع ورئيسهم المَجَبَّةُ ابن أبي ربيعة بن ذُهل فأخذوا إبلاً لعاصم بن قُرط أحد بن عُبيد وانطلقوا. فطلبهم بنو يربوع فناوشوهم فكانت الدائرة على بني أبي ربيعة. وقَتل المِنْهالُ بن عِصْمة المَجَبّة بن أبن ربيعة. فقال في ذلك ابن نِمْران الرّياحيّ: وإذا لقيتَ القومَ فاطعَن فيهم يومَ اللِّقاء كطَعنة المِنْهالِ تَرك المَجَبَّةَ للضِّباع مُنكَّساً والقومُ بين سَوافلٍ وعَوالي يوم رأس العين لبني يربوع على بكر أغارت طوائفُ من بني يربوع على بني أبي رَبيعة برأس العَيْن فاطردوا النَعم. فاتبعهم مُعاوية بنِ فِراس في بني أبي ربيعة فأدركوهم فقُتل معاويةُ ابن فِرَاس وفاتوا بالإبل. وقال سحُيم في ذلك: همُ قَتلوا المَجَبَّة وابنَ تَيم تَنوح عليهما سُود اللَّيالي وهُم قَتلوا عَميد بني فِراس برأس العَين في الحِجَج الخَوالي وذاد يومَ طِخْفة عن حِماهم ذِيادَ غَرائبِ الإبل النَهال يوم العظالي لبني يربوع على بكر قال أبو عُبيدة: وهو يوم أعشاش ويوم الأفاقة ويوم الإياد ويوم مُليحة. قال: وكانت بكر بن وائل تحت يدِ كسرى وفارس وكانوا يُجيرونهم ويُجهزونهم فأقبلوا من عند عامل عَين التَمر في ثلاثمائة فارس مُتساندين يتوقعون انحدار بني يربوع في الحَزن وكانوا يَشْتُون خُفافاً فإذا انقَطع الشتاء انحدروا إلى الحَزْن. قال: فاحتمل بنو عُتيبَة وبنو عُبيد وبنو زُبيد من بني سَليط من أول الحيّ حتى أَسْهلوا ببطن مُليحة فطَلعت بنو زُبيد في الحَزن حتى حَلّوا الحُدَيقة والأفاقة وحلت بنو عُتيبة وبنو عُبيد بعَين بروضة الثّمَد. قال: وأقبل الجيشُ حتى نزلوا هَضْبة الخَصيّ ثم بَعثوا رئيسَهم. فصادفوا غلاماً شاباً من بني عُبيد يقال له: قُرط بن أَضبط فعرفه بِسْطام وقد كان عرف عامة غلمان بني ثَعلبة حين أسره عُتيبة - قال: وقال سَلِيط: بل هو المُطَوًح بن قِرواش - فقال له بسطام: أخبرني ما ذاك السواد الذي أرى بالحُديقة قال: همٍ بنو زُبيد. قال: أفيهم أَسِيد بن حِنَاءة قال: نعم كم هُم قال: خمسون بيتاً قال: فأين بنو عتيبة وأين بنو أَزْنم قال: نَزَلوا رَوْضة الثمَد. قال: فأين سائر الناس قال: هم مُحتجزون بخُفاف. قال: فمن هُناك من بني عاصم قال: الأحيمر وقَعنب: ومَعْدان ابنا عِصْمة. قال: فمن فيهم من بني الحارث بن عاصم قال: حُصَين ابن عبد اللهّ. فقال بِسطام لقومه: أَطيعوني تَقْبضوا على هذا الحيّ من بني زُبيد وتُصبحوا سالمين غانمين. قالوا: وما يُغني عنا زُبيد لا يَردون رِحْلتنا. قال: إن السلامة إحدى الغَنيمتين. فقال له مفْروق: انتفخ سَحْرك يا أبا الصَهباء. وقال له هانئ: أَجُبْناً! فقال لهم: ويلكم إن أَسيداً لم يُظِله بيت قطُّ شاتياً ولا قائِظاً إنما بيته القفر فإذا أحسَ بكم أحال على الشقراء فَركض حتى يُشرف على مليحة فينادي: يا ليربوع فتركب فيلقاكم طَعن يُنسيكم الغنيمة ولا يبصر أحدُكم مصرعَ صاحبه وقد جَبّنْتُموني وأنا أتابعكم وقد أَخبرتُكم ما أنتم لاقون غداً. فقالوا: نَلتقط بني زُبيد ثم نَلتقط بني عُبيد وبني عُتيبة كما تلتقط الكَمْأة ونبعث فارسين فيكونان بطريقِ أَسيد فيحولان بينه وبين يَرْبوع ففعلوا. فلما أحسّ بهم أَسيد رَكِب الشّقراء ثم خرج نحو بني يَربوع. فابتدره الفارسان فطعن أحدَهما فألقى نفسه في شِق فأخطاه ثم كَر راجعاً حتى أشرف على مُليحة فنادى: يا صباحاه ياليربوع غُشِيتم. فتلاحقت الخَيلُ حتى توافوا بالعُظَالي فاقتتلوِا فكانت الدائرة على بنى بكر قُتل منهم: مَفروق بن عمرو فدُفن بثَنيّة يقال لها ثِنية مَفْروق والمقاعس الشَيباني وزُهير بن الحزوَر الشَيباني وعمور بن الحَزَور الشيباني والهَيْش بن المِقعاس وعُمير بن الوَدّاك والضريس. وأمّا بِسْطام فألح عليه فارسان من بني يَربوع وكان دارعاً على ذات النُّسوع وكانتا إذا أَجدَت لم يتعلّق بها شيء من خيلهم وإذا أَوعثت كادوا يَلْحقونها فلما رأى ثِقل دِرْعة وَضعها بين يديه على القَربُوس وكَرِه أن يَرْمي بها وخاف أن يُلحق في الوَعث فلم يزل ديدَنُه وديدنُ طالبيه حتى حَمِيت الشمسُ وخاف اللِّحاق فمرّ بو جار ضَبُع فرمى الدِّرع فيه فمدَّ بعضها بعضاً حتى غابت في الوِجار. فلمّا خفف عن الفرس نَشِطت ففاتت الطَّلب وكان أخر مَن أتى قومَه وكان قد رَجع إلى دِرعه لمَّا رجع عنه القومُ فأخذها. فقال العوَّام بن شَوْذب الشيباني في بِسْطام وأصحابه: إنْ يك في يوم الغَبِيط مَلامَة فيومُ العُظالي كان أَخزَى وأَلْوما أناخُوا يريدون الصَّباح فصَبَّحوا وكانوا على الغازين دَعْوة أَشْأَما فررتُم ولم تُلووا على مُجْحِريكم لو الحارث الحَرّاب يدْعى لأَقْدَما ولو أنّ بِسْطاماً أُطيع لأمره لأدّى إلى الأحياء بالحِنْو مَغْنما وأَيقن أنَّ الخيلَ إنْ تَلْتبس به يَعُد غانماً أو يَملأ البيت مأتما ولو أنها عُصفورة لحسبها مُسوَّمة تدعو عُبَيْداً وأَزْنَما أبَى لك قَيد بالغِبِيط لقاءهم ويومُ العُظالي إن فخرِتَ مُكلَّما فأفلتَ بسطام جَريضاً بنَفسه وغادَر في كَرْشاء لَدْناً مُقوَّما وفاظ أسيراً هانئ وكأنّما مَفارِقُ مَفْروقِ تَغشَّين عَنْدَما قال: ثم إن هانئاً فَدَى نفسَه وأَسرى قومِه فقال العوًّام في ذلك: إنِّ الفَتى هانئاً لاقَى يشكّته ولم يَخم عن قِتال القوم إذ نَزَلا ثمت سارَع في الأَسْرى فَفكَّهُم حامِىَ الذّمار حقيق بالذي فَعلا يوم الغبيط لبني يربوع على بني بكر قال أبو عُبيدة: يقال لهذا اليوم: يوم الغبيط ويوم الثَّعالب. والثعالب: أسماء قبائل اجتمعت فيه ويقال له يوم صَحْراء فَلْج وقال أبو عُبيدة: حدَّثني سَليط بن سَعْد وزَبَّان الصُّبيري وجَهْم بن حسان السَلِيطيّ قالوا: غزا بِسْطام بن قَيس ومَفْروق بن عَمرو والحارث بن شَريك وهو الحَوفْزان بلادَ بني تميم - وهذا اليومُ قبلَ يوم العُظالي - فأغاروا على بني ثَعلبة بن يَرْبوع وثعلبة بن سَعد بن ضبة وثعلبة بن عديّ بن فزارة وثعلبة بن سعد بن ذُبيان. فلذلك قيل له يوم الثَّعالب وكان هؤلاء جميعاً مُتجاورين بصَحراء فَلج فاقتتلوا فانهزمت الثعالبُ فأصابوا فيهم واستاقوا إبلاً من نَعمهم. ولم يَشهد عُتيبةُ بن الحارث بن شهاب هذه الوَقْعَة لأنه كان نازلاً يومئذ في بني مالك بن حَنظلة ثم امتَرُّوا على بني مالك وهم بين صحراء فَلج وبين الغَبِيط فاكتسحوا إبلَهم. فركبتْ عليهم بنو مالك فيهم عتيبة بن الحارث بن شِهاب ومعه فَرسان من بني يَربوع تَأثّفهُم - أي صاروا لهم مثل الأثافي للرَماد - وتألّف إليهم الأحيمر بن عَبد اللّه والأسيد بن حِنَّاءةَ وأبو مَرْحب وجَزْء ابن سعد الرِّياحي وهو رئيس بني يَربوع وربيع والحلَيس وعُمارة بنو عُتيبة ابن الحارث ومَعْدان وعِصْمة ابنا قعنب ومالك بن نُويرة والمِنْهال بن عِصْمة أحد بني رِياح بن يَربوع وهو الذي يقول فيه مُتمَم بن نويرة في شعره الذي يَرثي فيه مالكاً أخاه: لقد غَيّب المنهالُ تحت لِوائه فتى غير مِبْطان العَشِيِّة أَرْوعَا فأدركوهم بغَبيط المَدَرة فقاتلوهم حتى هَزَموهم وأدركوا ما كانوا استاقوا من أموالهم. وألحّ عُتيبة وأَسيد والأحيمر على بسطام. فلحقه عُتيبة فقال: أَسْتَأَسِرْ لي يا أبا الصَهباء. فقال: ومَن أنت قال: أنا عُتيبة وأنا خيرٌ لك من الفَلاة والعَطش. فأسره عُتيبة ونادى القومُ بِجَادَا أخا بسطام: كُرَّ على أخيك وهم يرجون أنْ يأْسروه. فناداه بِسْطام: إن كَرَرت فأنا حَنيف وكان بِسْطام نَصْرانيَّاً فلحق بِجَاد بقومه. فلم يزل بسطام عند عُتيبة حتى فادى نَفْسه. قال أبو عُبيدة: فزعم أبو عمرو بن العلاء أنه فَدى نَفسَه بِأربعمائة بَعير وثلاثين فرساً - ولم يكن عَرِبيُ عكاظي أعلى. فداءً منه - على أنْ جَزَ ناصيته وعاهده أنْ لا يَغْزو بني شِهاب أبداً. فقال عُتيبة بن الحارث بني شِهاب: أبْلغ سَرِاة بني شَيْبان مالُكةً أَنَي أبأتُ بعبد الله بِسْطاما قاظ الشَرَبَّة في قَيْد وسِلْسلة صوت الحديد يُغنِّيه إذا قاما يوم مخطط لبني يربوع على بكر قال أبو عُبيدة غزا بِسْطام بن قيس والحَوْفزان وهو الحارث مُتساندين يقودان بكر بن وائل حتى وَردوا على بني يَرْبوع بالفِردَوْس وهو بَطْن لإياد وبينه وبين مُخطّط ليلة وقد نذرتْ بهم ينو يَربوع فالتقوا بالمُخطّط فاقتتلوا. فانهزمت بكرُ بن وائل وهَربَ الحَوفزان وبِسطام ففاتا رَكْضاً. وقُتل شريكُ ابن الحوفزان قَتله شِهابُ بن الحارث أخو عُتيبة وأسر الأحيمرُ بن عبد الله ابن الضُّريس الشَيباني. فقال في ذلك مالكُ بن نويرة ولم يَشهد هذا اليوم: إلا أكُن لاقيتُ يومَ مخطّط فقد خبَر الرُّكبان ما أَتودّدُ بأفناء حَيّ مِن قبائل مالك وعَمرو بن يَربوع أقاموا فأَخْلدوا فقال الرئيسُ الحَوفزان تَبَينوا بني الحِصْن قد شارفتُم ثم حَردوا فما فَتِئوا حتى رَأَوْنا كأنّنا مع الصُبح آذي من البَحر مُزيد بمَلْمومة شَهْباء يُبرق جالُها ترى الشمس فيها حين دَارتْ تَوَقد فما برحوا حتَى عَلَتْهم كتائب إذا طُعنت فرسانُها لا تُعَرد صَريعٌ عليه الطير ُيَحْجِل فوقَه وآخرُ مَكبُول اليَدين مُقَيد وكان لهم في أَهْلهم ونسائهم مبيت ولم يَدْرُوا بما يحدث الغَد وقد كان لابن الحَوفزان لو انتهى شَريكٌ وبِسطام عن الشر مَقْعد يوم جدود غزا الحوفزان وهو الحارث بن شريك فأغار على مَن بالقاعة من بني سَعد بن زَيد مناة فأخذ نَعَماً كثيراً وسَبى فيهنّ الزَّرقاء من بني ربيع بن الحارث فأعجب بها وأعجبت به وكانت خَرقاء فلم يتَمالك أن وَقع بها. فلما انتهى إلى جَدود مَنعتهمّ بنو يربوع بن حَنظلة أن يَرِدُوا الماء ورئيسُهم عُتيبة ابن الحارث بن شهاب فقاتلوهم. فلم يكن لبني بكر بهم يد فصالحوهم على أن يُعطوا بني يربوع بعضَ غنائمهم على أن يُخلوهم يَردوا الماء فقَبِلوا ذلك وأجازوهم. فبلغ ذلك بني سَعد فقال قيسُ بن عاصم في ذلك: جَزَى الله يَرْبوعاً بأسوأ سَعْيها إذا ذُكرت في النّائبات أمورُها ويوم حَدُود قد فَضَحتم أباكمُ وسالمتُم والخيلُ تَدْمى نُحورُها فأجابه مالك: ولما أتى الصريخ بني سعد رَكب قيسُ بن عاصم في إثر القوم حتى أدْركهم بالأشْيمَينْ فألحّ قيسٌ على الحَوْفزان وقد حمل الزرقاء. وكان الحَوْفزان قد خرج في طَليعة فلقيه قيس بنُ عاصم فسأله: مَن هو فقال: لا تَكاتُم اليوم أنا الحَوْفزان فمن أنت قال: أنا أبو عليّ ومَضى. ورجع الحوفزان إلى أصحابه فقال: لقيتُ رجلاً أزرق كأنّ لِحْيته ضرَيبة صُوف فقال: أنا أبو عليّ. فقالت عجوز من السّبي: بِأَبي أبو عليّ ومَن لنا بأبي عليّ فقال لها: ومن أبو عليّ قالت: قَيس بنُ عاصم. فقال لأصحابه: النَّجاء وأردف الزَّرقاء خلفه وهو على فرسه الزبِد وعَقد شَعرها إلى صَدره ونجا بها. وكانت فرسُ قيس إذا أوْعثت قَصرَّت وتَمطَّر عليها الزَّبد. فلما أجدَّت لحقت بحيث تكلّم الحوفزان. فقال قيس له: يا أبا حِمار أنا خير لك من الفلاة والعَطَش. قالت له الحوفزان: ما شاءت الزَّبِد. فلما رأى قيس أنِّ فرسه لا تَلحقه نادي الزرقاء فقال: مِيلي به يا جَعار. فلما سَمِعه الحوفزان دَفعها بِمرفقه وجَزَّ قُرونها بسيفه. فلما ألقاها عن عَجز فرسه. وخاف قيس ألاّ يَلحقَه فنَجله بالرُّمح في خُرابة وَركه فلم يُقْصِده وعرّج عنها. وردّ قيس الزرقاء إلى بنِي الرّبيعِ. فقال سَوَّار بن حَيّان اْلمِنقريّ: ونحن حَفرنا الحَوفزانَ بطَعْنةٍ تَمجّ نَجيعاً من دم الجَوف أشكلاَ قال أبو عُبيدة: التقت بنو مازن وبنو شَيبان على ماء يقال له سَفَوَان فزعمت بنو شَيبان أنه لهم وأرادوا أن يُجْلوا تميَماً عنه فاقتتلوا قتالاً شديداً فظهرتْ عليهم بنو تَميم وذادوهم حتى وردوا المُحْدَث وكانوا يَتواعدون بني مازن قبلَ ذلك فقال في ذلك وَدَّاك المازنِيّ: رُوَيْداً بني شَيْبان بعض وَعيدكم تُلاقوا غداً خَيْلي على سَفَوَانِ تُلاقُوا جِياداً تَحِيد عن الوَغَى إذا الخيلُ جالت في القَنا المُتداني عَليها الكمِاة الغُرُّ من آل مازنٍ ليوث طِعان كلَّ يوم طِعان تُلاقُوهمُ فَتعْرِفوا كيف صَيْرُهم على ما جَنت فِيهم يدُ الحَدَثان مَقاديم وصّالون في الرَّوْع خَطْوَهم بكُل رَقِيق الشَّفْرتين يَمانِي إذا استُنجدوا لم يَسألوا مَن دعاهم لأية حَرْب أم لأيّ مَكان يوم السلي قال أبو عُبيدة: كان من حديث يوم السليّ أن بني مازن أغارت على بني يَشكُر فأصابوا منهم وشدّ زاهرُ بن عبد الله بن مالك على تيْم بن ثَعلبة اليَشْكري فقتله فقال في ذلك: للّهِ تَيم أيُّ رُمح طِرَادِ لاقَى الحِمَامَ وأي نَصْل جِلادِ ومِحَشّ حَرْب مُقدم متعرض للموت غَير مُعرد حَياد وقال حاجب بنَ ذُبْيان المازني: سَلي يَشْكُراً عني وأبناء وائل لَهازِمَها طُرَأ وجَمْعَ الأراقم ألم تَعلمي أنّا إذا الحربُ شمرت سِمَامُ على أعدائنا في الحَلاَقِم عتاةٌ قُراةٌ في الشِّتاء مَساعِرٌ حُماةُ كماةٌ كالليوث الضَراغم بأيديهُم سُمْرٌ من الخَطّ لَدْنةٌ وبيضٌ تُجَلَى عن فِراخ الجَماجم أولئك قوْمٌ إن فخرتُ بعزهم فخرتُ بعزّ في اللَهى والغَلاصم هُمُ أنزلوا يومَ السلي عزيزَها بسُمْر العَوالِي والسُيوف الصَوارم يوم نقا الحسن قال أبو عُبيدة: غزا بسطامُ بن مَسعود بن قيس بن خالد وقيسُ بن مسعود وهو ذو الجدَين وأخوه السليلُ بن قيس بن ضَبة بن أد ابن طابخة فأغار على ألف بعير لمالك بن المنتَفق فيها فَحْلُها قد فَقأ عينَه وفي الإبل مالكُ بن المُنتفق. فركب فرساً له ونجا رَكْضاً حتى إذا دنا من قومه نادى: يا صباحاه. فركبتْ بنو ضبة وتداعت بنو تميم فتلاحقوا بالنقا. فقال عاصمُ بن خَليفة لرجل من فُرسان قومه: أيهم رئيس القوم قال: حاميتهم صاحبُ الفرس الأدهم - يعني بِسْطاماً - فعلا عاصمٌ عليه بالرمح فعارضه حتى إذا كان بحذائه رَمى بالقوس وجمعَ يَديه في رُمحه فطَعنه فلم تخطئ صِماخَ أذنه حتى خرج الرمحُ من الناحية الأخرى وخَر على الألاءة - والألاءة: شجرة - فلما رأى ذلك بنو شَيبان خلُوا سبيل بن مَسعود أخا بِسطام في سِبعين من بني شَيبان. فقال ابنُ عَنَمة الضبي: وهو مجاور يومئذ في بني شَيبان يرثي بسطاماً وخاف أن يقتلوه فقال: لأمَ الأرْض ويلٌ ما أجنَتْ بحيثُ أضَرَ بالحَسَن السَّبيل يقسِّم مالَه فينا ويَدْعو أبا الصَّهباء إذ جَنح الأصيل كأنكِ لم تَرَيْه ولن نراه تَخب به عُذَافِرةٌ ذَمُول حَقِيبة رَحْلها بَدنٌ وسَرْج تُعَارِضها مُرببة دَءُول لكَ المِرْباع منها والصَّفَايا وحُكْمُك والنَشيطةُ والفُضول لقد ضَمِنت بنو زيد بن عمرو ولا يُوفِي ببسطام قَتِيل فخر على الآلاءة لم يوسد كأن جَبينه سيفٌ صَقِيل فإن تَجزع عليه بنو أبيه فقد فُجعوا وحل بهم جليل بمِطْعام إذا الأشوالُ راحت إلى الحَجَرات ليس لها فَصيل وقال شَمعلة بن الأخضر بن هُبيرة: ويم شقائق الحَسَنَيْن لاقتْ بنو شَيبان آجالاً قِصارا شَكَكْنا بالرِّماح وهُن زُور صِمَاخي كَبْشهم حتى استدارا وأَوْجزناه أسمرَ ذا كُعوب يُشبّه طولُه مَسداً مُغَارا وقال مُحرز بن المُكَعبر الضَّبي: أطلقت من شَيبان سبعينَ راكباً فآبوا جميعاً كلّهم ليس يَشْكُر إذا كنتَ في أَفْناء شَيبان مُنعِماً فجُزّ اللِّحى إنّ النّواصيَ تَكْفُر فلا شُكرَهم أَبغِي إذا كنتُ مُنعِماً ولا وُدَّهم في آخر الدَّهر أُضْمِر أيام بكر على تميم يوم الزُّويرين قال أبو عُبيدة: كانت بكر بن وائل تَنتجِع أرضَ تميم في الجاهليَّة تَرعى بها إذا أجدبوا. فإذا أرادوا الرُّجوع لم يَدعوا عورة يُصيبونها ولا شيئاً يَظفرون به إلا اكتسحوه. فقالت بنو تميم: امنعوا هؤلاء القوم من رَعْي أرضكم وما يأتون إليكِم. فَحُشدت تميم وحُشدت بكر واجتمعت فلم يتخلّف منهم إلاّ الحَوافزان ابن شريك في أناس من بني ذُهل بن شَيبان وكان غازياً. فقدّمتْ بكرُ عليهم عَمراً الأصمّ أبا مَفْروق - قال: وهو عمرو بن قيس بن مَسعود أبو عمرو ابن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان - فحسد سائرُ ربيعة الأصمّ على الرِّياسة فأتوه فقالوا: يا أبا مَفْروق إنا قد زَحفنا لتميم وزَحفوا لنا أكثرَ ما كنا وكانوا قطُّ. قالت: فما تريدون قالوا: نُريد أن نجعل كُل حيّ على حَياله ونَجعل عليهم رجلاً منهم فَنعْرفَ غناء كل قبيلة فإنه أشدُ لاجتهاد الناس. قال: والله إني لأبغض الخلافَ عليكم ولكن يأتي مَفْروق فينظر فيما قلتم. فلما جاء مَفروق شاوره أبوه - وذلك أول يوم ذُكر فيه مَفروق بن عمرو - فقال له مفروق: ليس هذا أرادوا وإنما أرادوا أن يَخْدعوك عن رأيك وحَسدوك على رِياستك والله لئن لقيتَ القومَ فظفرتَ لا يزال الفضلُ لنا بذلك أبداً ولئن ظُفِر بك لا تزال لنا رياسة نُعرف بها. فقال الأصم: يا قوم قد استشرتُ مَفروقاً فرأيتُه مخالِفاً لكم ولستُ مخالفاً رأيه وما أشار به. فأقبلتْ تميم بجمَلين مجللَين مقرونين مُقيَّدين وقالوا: لا نُولي حتى يُولّي هذان الجملان وهما الرُّوَيْران. فأَخبرت بكر بقولهم الأصم. وأنا زُوَيركم إن حَشُّوهما فحُشوني وإن عقروهما فاعقِروني. قال: والتقى القومُ فاقتتلوا قتالاً شديداً. قال: وأَسرت بنو تميم حَرَّاث بن مالك أخا مُرة بن هَمام فركَض به رجل منهم وقد أردَفه وأتبعه ابنُه قتادة بن حَرَّاث حتى لحق الفارسَ الذي أسر أباه فطَعنه فأراده عن فرسه واستنقذ أباه. ثم استحرّ بين الفريقين القتالُ فانهزمت بنو تميم فقُتل مِنهم مَقتلة عظيمة فممن قُتل قُتل منهم: أبو الرئيس النَّهشلي. وأخذت بكر الزّويرين أخذتهما بنو سَدوس بن شَيبان بن ذُهل بن ثعلبة فنحروا أحدَهما فأكلوه واقتحلوا الآخر وكان نَجِيباً فقال رجل من بني سَدوس: يا سَلْم إن تَسْألي عنّا فلا كُشُفٌ عنا اللِّقاء ولسنا بالمَقارِيفِ نحن الذين هَزَمْنا يوم صبَّحنا جيشَ الزُّوَيْرين في جَمع الأَحاليف ظلُوا وظَلْنا نَكُرّ الخيلَ وَسْطَهمُ بالشِّيب منّا وبالمُرْد الغَطاريف وقال الأغلب بن جُشَم العِجْليّ: فكر بالسيف الرُّمح انحطم كهِمَّةَ اللَيث إذا ما الليثُ هَمّ كانت تميمُ معشراً ذوي كَرَم مُخلِصة من الغَلاصم العظم قد نَفخوا لو يَنفُخون في فَحَمْ وصَبروا لو صبروا على أمَمْ إذ ركبتْ ضَبة أعجازَ النَّعم فلم تَدَع ساقاً لها ولا قَدَم يوم الشَّيِّطين لبكر على تميم قال أبو عُبيدة: لما ظَهر الإسلامُ قبل أن يُسلم أهلُ نجد والعراق سارت بكر بن وائل إلى السوِاد وقالت: نغير على تميم بالشيطين فإن في دِين ابن عبد المطلب إنه مَن قَتل نفساً قُتل بها. فنُغير هذا العام ثم نُسلم عليها. فارتحلوا مِن لَعلع بالذّراري والأموال فأتوا الشّيطين في أَربع وبينهما مسيرةً ثمان أميال فسَبقوا كُلّ خبر حتى صبَّحوهم وهم ولا يشعرون ورئيسُهمٍ يومئذ بشرُ بن مَسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجَدّين فقَتلوا بني تميم قتلاً ذريعاً وأخذوا أموالَهم. واستحرّ القتلُ في بني العَنبر وبني ضَبَّة وبني يَربوع دون بني مالك بن حَنظلة. قال أبو عُبيدة: حَدَّثنا أو الحَمناء العَنبريّ قال: قُتل من بني تميم يوم الشَيطين ولعلع ستمُّائة رجل. قال: فوفد وفدُ بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع الله على بكر بن وائل. فأبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فقال رُشيد بن رُمَيْض العنبريّ: وما كان بين الشَّيِّطين ولَعْلع لِنسْوتنا إلا مراجِعُ أربُع فجئْنا بجَمْع لم يرَ الناسُ مثلَه يكاد له ظَهْر الوريعة يَظْلَع بِأَرعن دَهْم تُنْشَد البلقُ وَسْطَه له عارضٌ فيه الأسنةُ تَلمع صَبحنا به سعداً وعَمراً ومالكاً فكان لهم يومٌ من الشرّ أشنع فخلّوا لنا صَحْن العِراق فإنّه حَمِىً منهم لا يستطاع مُمنع يوم صَعْفُوق لبكر على تميم أغارت بنو أبي ربيعة على بني سَليط بن يَرْبوع يوم صَعْفوق فأصابوا منهم أَسرى. فأتى طريفُ بن تميم العَنبري فروةَ بن مَسعود وهو يومئذ سيدُ بني أبي ربيعة ففدَى منهم أَسرى بني سَليط ورَهنهم ابنه. فأبطأ عليهم فقَتلوا ابنَه فقال: لا تَأْمننّ سُلَيمى أنْ أُفارقَها صرمى الظعائن بعد اليوم صَعْفوق يوم مبايض لبكر على تميم قال أبو عُبيدة: كانت الفُرسان إذا كانت أيامُ عُكاظ في الشهر الحرام وأَمن بعضهم بعضاً تقنّعوا كيلا يُعرفوا وكان طَريف بن تميم العَنْبري لا يتقنع كما يتَقنِّعون فوافى عُكاظَ وقد كشفت بكر بن وائل وكان طريفُ قد قتل شَراحيل الشَيباني أحد بني عمرو بن أبي ربيعة بن ذُهل بن شيبان. فقال حَصِيصه: أروني طريفاً. فأروه إياه. فجعل كُلّما مرّ به تأمَله ونَظر إليه ففَطِن طَريف فقال: مالك تنظر إليِّ فقال: أتوسّمك لأعرفك. فلله علي إن لَقِيتُك أن أقتلكَ أو تَقْتلني. فقال طريف في ذلك: أَوَ كُلما وردتْ عُكاظَ قَبيلةٌ بَعثوا إلي عريفَهم يتوسَّم فتوسموني إنّني أنا ذلكم شاكِي سلاحي في الحوادث مُعْلَم تحتي الأغر وفوق جِلْدي نَثْرةٌ زَغف تَردُ السيفَ وهو مُثَلّم حولي أُسَيِّدُ والهجيم ومازنٌ وإذا حللتُ فحولَ بيتيَ خَضَم قال: فمضى لذلك ما شاء الله. ثم إنّ بني عائذة حُلفاء بني أبي ربيعة بن ذهل بن أبي شيبان. وهم يزعمون أنهم من قريش وأن عائذة ابنُ لُؤي بن غالب - خرج منهم رجلان يَصِيدان فعَرض لهما رجل من بني شَيبان فذَعر عليهما صيدَهما فوثبا عليه فقتلاه. فثارت بنو مُرّة بن ذهل بن شَيبان يريدون قَتلهما. فأبت بنو أبي ربيعة عليهم ذلك. فقال هانئ بن مَسعود: يا بني أبي ربيعة إن إخوتَكم قد أرادوا ظُلمكم فانمازوا عنهم. قال: ففارقوهم وساروا حتى نَزلوا بمُبايض ماء - ومُبايض: عَلَم من وراء الدهناء - فأَبق عبدٌ لرجل من بني أبي ربيعة فسار إلى بلاد تَميم فأخبرهم أنّ حيَاً جديداً من بني بكر بن وائل نُزول على مُبايض وهم بنو أبي ربيعة أو الحيّ الجديد المُنتقى من قومه. فقال طَريف العَنبريّ: هؤلاء ثأرى يا آل تَميم إنما هم أَكَلة رأس. وأقبلَ في بني عمرو بن تميم وأقبل معه أبو الجَدْعاء أحد بني طُهيَّة وجاءَه فَدكيُّ بن أَعْبد المِنْقري في جَمْع من بني سعد بن زيد مَناة فنَذِرت بهم بنو أبي ربيعة فانحاز بهم هانئ بن مَسعود وهو رئيسهم إلى عَلَم مُبايض فأقاموا عليه. وشرَّقوا بالأموال والسرح وصَبّحتهم بنو تميم. فقال لهم طَريف: أطيعوني وافرغُوا من هؤلاء الأكلب يَصْفُ لكم ما وراءهم. فقال له أبو الجدعاء رئيس بني حَنظلة وفدكيّ رئيسُ سعد بن زيد مناة: أُنُقاتل أكْلباً أحرزوا نفوسهم ونترك أموالهم ما هذا برأي وأبوا عليه. فقال هانئ لأصحابه: لا يُقاتل رجل منكم. ولحقت تميم بالنَّعم والبغال فأغاروا عليها. فلمّا ملئوا أيديهم منِ الغَنيمة قال هانئ بن مسعود ولقد دعوتُ طريف دعوةَ جاهل سَفَهاً وأنت بعَلم قد تَعلُم وأتيتُ حيَّاً في الحُروب محلَّهمَ والجيشُ باسم أبيهم يستقدم فوجدتُ قوماً يَمنعون ذِمارهم بُسْلاً إذا هاب الفوارسُ أَقْدموا وإذا دُعُوا أبني رَبيعة شَمَّروا بكتائب دون السَّماء تُلَمْلم حَشَدوا عليك وعَجلوا بِقراهمُ وحَمَوْا ذِمار أبيهم أنْ يُشْتموا سَلبوك دِرْعك والأغرّ كليهما وبنو أُسيّد أَسْلموك وخَضَّم يوم فيحان لبكر على تميم قال أبو عُبيدة: لما فَدى نفسه بسْطامُ بن قَيس من عُتيبة بن الحارث إذ أُسر يوم الغَبيط بأربعمائة بعير قال: قال: لأدركنّ عَقْل إبلي. فأغار بفيحان فأخذ الربيعَ بن عُتَيبة وأستاق مالَه. فلمّا سار يومين شُغل عن الربيع بالشراب وقد مال الربيع على قدِّه حتى لان ثم خَلعه وانحلّ منه ثم جال في مَتن ذات النُّسوع - فرس بِسطام - وهرب. فركبوا في إثره فلمّا يَئسوا منه ناداه بِسطام يا ربيع هُلمّ طليقاً فأبَى. قال: وأبوه في نادِي قومه يُحدثهم فجعل يقول في أثناء. حديثه: إيهاً يا ربيع أنجُ يا ربيعَ وكان معه رَئِيِّ. قال: وأقبل ربيع حتى انتهى إلى أدنى بني يَربوع فإذا هو براع فاستسقاه وضربت الفرس برأسها فماتت فسمى ذلك المكان إلى اليوم: هَبِير الفرس. فقال له أبوه عُتَيبة: أمّا إذ نجوت بنفسك فإني مخلف لك مالَك. يوم ذي قار الأول لبكر على تميم قال أبو عبيدة: فخرج عتَيبة في نحو خمسةَ عشر فارساً من بني يربوع فكمن في حِمى ذي قار حتى مَرت إبل بني الحُصين بالفَداوّية اسم ماء لهم فصاحوا بمن فيها من الحامية والرِّعاء ثم استاقوها. فأخلف للرِبيع ما ذهب له وقال: ألم تَرني أفأتُ على رَبيعٍ جِلاداً في مَباركها وخُورَا وأني قد تركتُ بني حُصين بذي قارٍ يَرِمُّون الأمورا يوم الحاجر بكر على تميم قال أبو عبيدة: خرج وائل بن صُريم اليَشكريّ من اليمامة فلقيه بنو أُسيِّد ابن عمرو بن تميم فأخذوه أسيراً فجعلوا يَغْمسونه في الركيَّة ويقولون: يأيها الماتحُ دَلْوى دُونكما حتى قتلوِه. فغزاهم أخوه باعث بن صُريم يوم حاجر فأخذ ثُمامة بنِ باعث ابن صُريم رجلاً سائلْ أسَيِّد هل ثأرتُ بوائل أم هل شَفيتُ النفسَ من بَلبالها إذ أرسلوني ماتحاً لدِلائهم فملأتُها عَلَقاً إلى أَسْبالها إنّ الذي سَمك السماء مكانَها والبدرَ ليلةَ نِصْفها وهِلالِها آليت أنقُف منهُم ذا لحْية أبداً فَتَنْظُر عينُه في مالِها وقال: سائل أسيّد هل ثأرتُ بوائل أم هل أتيتهمُ بأمرٍ مُبْرَم إذ أرسلوني ماتحاً لِدلائهم فملأتهنّ إلى العَراقي بالدمِ يوم الشِّقِيق لبكر على تميم قال أبو عُبيدة: أغار أَبجر بن جابر العِجلْي على بني مالك بن حَنظلة فسَبى سُلَيْمى بنت مِحْصَن فولدت له أَبجرِ. ففي ذلك يقول أبو النَجم: ولقد كررتُ على طُهية كَرَّةَ حتى طرقت نساءها بمَساء حرب البسوس وهي حرب بكر وتغلب ابني وائلٍ أبو المُنذر هشام بن محمد بن السائب قال: لم تَجتمع مَعد كلها إلاّ على ثلاثة رَهط من رؤساء العرب وهم: عامر وربيعة وكُليب. فالأول: عامر بن الظَّرب بن عمرِو بن بكر بن يَشكر بن الحارث وهو عَدْوان بن عمرو بن قيس بن عَيلان وهو النَاس بن مُضر. وعامر بن الظرب هو قائد معد يوم البَيداء حين تَمَذْحجت مَذْحج وسارت إلى تِهامه وهي أول وَقْعة كانت بين تهامة واليمن. والثاني: ربيعة بن الحارث بن مُرة بن زهير بن جُشم بن بكر بن حُبَيب ابن كعب وهو قائد معدّ يوم السُّلان وهو يوم كان بين أهل تهامة واليمن. والثالث: كُليب بن ربيعة وهو الذي يُقال فيه: أعزّ من كليب وائل. وقاد معدَاً كلها يوم خَزار ففصّ جُموع اليمن وهَزمهم. فاجتمعت عليه معدّ كُلها وجعلوا له قسمِ الملك وتاجَه وتحيّته وطاعته. فغَبر بذلك حيناً من دهره ثم دخله زهوٌ شديد وبغى على قومه لما هو فيه من عِزّة وانقياد معدّ له حتى بلغ من بَغيه أنه كان يَحمي مواقع السحاب فلا يُرعى حِماه ويُجير على الدَهر فلا تُحفر ذمّته ويقول: وَحش أرض كذا في جواري فلا يُهاج ولا تورد إبلُ أحدٍ مع إبله ولا توقد نار مع ناره حتى قالت العرب: أعزُّ من كليب وائل. وكانت بنو جُشم وبنو شَيبان في دار واحدة بتِهامة وكان كُليب بن وائل قد تزوّج جَليلة بنت مُرة بن ذُهل بن شَيبان وأخوها جَسّاس ابن مُرة. وكانت البَسوس بنت مُنقذ التميميّة خالةَ جساس بن مُرة وكانت نازلةً في بني شَيبان مجاورةً لجسّاس وكانت لها ناقة يقال لها سَراب ولها تقول العرب: أشأم من سَراب وأشأم من البَسوس فمرّت إبل لكُليب بسَراب ناقة البسوس وهي مَعقولة بفناء بيتها في جوار جَسَّاس بن مُرة. فلمّا رأت سرابُ الإبلَ نازعت عِقالَها حتى قطعتْه وتَبعت الإبل واختلطت بها حتى اْنتهت إلى كُليب وهو على الحَوض معه قوسٌ وكنانة. فلمّا رآها أنكرها فانتزع لها سهماً فخَرم ضَرعها فنفرت الناقة وهي تَرْغو. فلما رأتها البسوس قَذفت خِمارَها عن رأسها وصاحت: واذُلاّه! واجاراه! وخرجت. فأحمست جسّاساً. فركب فرساً له مُعْرَوريةً فأخذ آلته وتَبعه عمرو ابن الحارث بن ذُهل بن شَيبان على فرسه ومعه رمحه حتى دخلا على كليب الحِمَى فقال له: أيا أبا الماجدة عمدتَ إلى ناقة جارتي فعقرتها. فقال له: أتُراك ما نِعي إن أذُبّ عن حِماي فأحمسه الغضبُ فطَعنه جسَّاس فقَصم صُلبه وطعنه عمرو بن الحارث من خلفه فقطع بَطنه فوقع كُليب وهو يَفْحص برجله وقال لجساس: أغِثْنى بشربة من ماء. فقال: هيهات تجاوزت شبَيثَاً والأحَصّ. ففي ذلك يقول عمرو بن الأهْتم: وإنّ كُليباً كان يَظلم قومَه فأدركه مثلُ الذي تَريانِ فلما حَشاه الرمحَكفُّ اْبن عمّه تذكّر ظُلم الأهل أيّ أوان وقال لجسّاسٍ أَغِثْني بشرَبة وإلا فخَبِّر مَن رأيتَ مكاني فقال تجاوزتَ الأحصَّ وماءه وبَطن شُبيثٍ وهو غير دِفَان وقال نابغة بني جَعدة: أَبْلغ عِقالاً أنّ خُطة داحس بكَفَيك فاستأخر لها أو تَقَدّم كليب لعمري كان أكثَر ناصرأً وأيسرَ ذَنباً منك ضُرِّج بالدَّم رَمى ضَرْع ناب فاستمرّ بطَعْنة كحاشية البُرد اليَماني المُسهًم وقال لجسّاسً أغثْني بشَرْبةٍ تَداركْ بها مَنَّا عليّ وأَنعِم فقال تجاوزتَ الأحصّ وماءَه وبطن شُبيث وهو ذو مترسّم فلما قُتل كُليب ارتحلت بنو شيبان حتى نزلوا بماء يقال له النِهى. وتشمّر المُهلهل أخو كليب بكر وترك النِّساء والغَزل وحَرّم القِمار والشَراب وجَمع إليه قومَه فأرسل رجالاً منهم إلى بني شَيبان يُعذر إليهم فيما وَقع من الأمر. فأتوا مُرة بن ذهل بن شَيبان وهو في نادي قومه فقالوا له: إنكم أتيتم عظيماً بقَتلكم كُليباً بناب من الإبل فقطعتمِ الرحم وانتهكتمِ الحُرمة وإنا كرهنا العَجلة عليكم دون الإعذار إليكم. ونحن نعرض عليكمِ خِلالاً أربع لكم فيها مَخرج ولنا مَقنع. فقال مرة: وما هي قال له: تُحْي لنا كليباً أو تدفع إلينا جَساساً قاتلَه فنقتله به أو همّاماً فإنه كُفء له أو تُمكننا من نفسك فإنّ فيك وفاءَ منِ دمه فقال: أما إحيائي كُلَيباً فهذا ما لا يكون وأمّا جَسّاس فإنه غلام طَعن طعنةَ على عَجَل ثم ركب فرسَه فلا أدري أيّ البلاد أحتوى عليه وأمّا همّام فإنه أبو عَشرة وأخو عَشرة وعَمّ عشرة كُلهم فُرسان قومهم فلن يُسلموه لي فأدفعه إلَيكم يُقتل بجرَيرة غيره وأما أنا فهل هو إلاّ أنْ تَجول الخيلُ جولةً غداً فأكونَ أوّلَ قتيل بينها فما أتعجَّل من الموت ولكن لكم عندي خَصْلتان: أما إحداهما فهؤلاء بنيّ الباقون فعلِّقوا في عُنق أيّهم شِئتم نِسْعة فانطلقوا به إلى رِحالكم فأذبحوه ذَبْح الجَزور وإلا فأَلف ناقة سوداء المُقَل أقيمِ لكم بها كفيلاً من بني وائل. فغضب القومُ وقالوا: لقد أسأتَ تُرْذل لنا ولدك وتسومنا اللبنَ من دم كُليب. ووقعت الحربُ بينهم. ولحقت جليلةُ زوجةُ بأبيها وقومها. ودعت تغلب النمرَ بن قاسط فانضمّت إلى بني كُليب وصاروا يداً معهم على بكر ولحقت بهم غُفَيلة ابن قاسط واعتزلت قبائل بكر بن وائلِ وكَرِهوا مُجامعة بني شَيبان ومُساعدتهم على قتال إخوتهم وأعظموا قتلَ جسّاس كُليباً رئيسهم بناب من الإبل. فظَعنت لجيم عنهم وكفّت يَشْكر عن نُصرتهم وأنقبض الحارث بن عُباد في أهل بيته. وهو أبو بُجير وفارس النَّعامة. وقال المُهلهل يرثي كُليباً: بِت ليلي بالأنْعَمين طويلاً أرقب النجم سهراً أن يزولا كيف أهَدَأ ولا يزال قَتيلٌ من بني وائل ينسي قتيلا غَنِيت دارنا تهامة في الده ر وفيها بنو معد حلولا فتساقَوْا كأساً أمرت عليهم بينهم بقتل العزيز الذليلا فَصَبحْنا بني لُجيم بضَرب يترك الهم وقعه مفلولا لم يُطيقوا أن يَنْزلوا ونزَلناً وأخو الحرب من أطاق النزولا انتضَوْا مَعْجِس القسي وأبْرق نا كما توعد الفحولا قَتلوا ربَّهم كُلباً سَفاهاً ثم قالوا ما نخاف عويلا كَذبوا والحرام والحِلِّ حتى نسلب الخدر بيضة المحجولا كُليبُ لا خيرَ في الدنيا ومَن فيها إذ أنت خليتها فيمن يخلبها كُليب أيّ فتَى عزٍّ ومَكْرُمة تحت السّقائف إذ يعلوك سافيها نَعى النُعاةُ كُليباً لي فقلتُ لهم مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها الحَزم والعَزْمُ كانا من صَنيعته ما كل آلائه يا قوم أحصيها القائدُ الخَيْل تَرْدَى في أعنَتها زهواً إذا الخيل لجت في تعاديها مِن خيل تَغْلبَ ما تلقي أسنَّتها إلا وقد خضبوها من أعاديها يُهَزْهِزُون من الخَطّيّ مُدْمَجة كمتاً أنابيبها زرقاً عواليها تَرى الرِّماحَ بأيدينا فنُوردها بيضاً ونصدرها حمراً أعاليها ليت السماء على مَن تّحتها وقعتْ وانشقت الأرض فانجابت بمن فيها لا أصلح الله منِّا من يُصالحكم ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها يوم النهِّي قال أبو المُنذر: أخبرني خِرَاش أن أوَل وَقعة كانت بينهم بالنهي يوم النهِّى. فالتقوا بماء يقال له النَهي كانت بنو شَيبان نازله عليه. ورئيسُ تَغلب المهلهل ورئيس شَيبان الحارثُ بن مُرًة. فكانت الدائرةُ لبني تَغلب وكان الشَّوكة في شَيبان واستحرّ القتل فيهم إلا أنه لم يُقتل في ذلك اليوم أحد من بني مَرَة. يوم الذنَّائب ثم التقوا بالذنائاب وهي أعظم وَقعة كانت لهم فظفرت بنو تَغلب وقُتلت بكر مقتلة عظيمة. وفيها قُتل شرَاحيل بن مرة بن هَمام بن مُرة بن ذُهل بن شَيبان وهو جدّ الحَوْفزان وهو جد مَعْن بن زائدة. والحَوْفزان هو الحارث ابن شريك بن عمروِ بن قيس بن شَراحيل قتله عتاب بن سَعد بن زُهير بن جُشَم. وقُتل الحارث بن مُرة بن ذُهل بن شَيبان قتله كعب بن ذُهل بن ثعلبة. وقُتل من بني ذهل ثَعلبة: عمرو بنُ سَدوس بن شَيبان بن ذُهل بن ثعلبة. وقتل مِن بني تَيم الله. جميلُ بن مالك بن تَيم اللّه وعبد الله بن مالك بن تَيم اللّه. وقُتل من بني قيس ابن ثعلبة: سعدُ بن ضُبيعة بن قيس وتميم بن قيس بن ثعلبة وهو أحد الخَرِفين. وكان شيخاً كبيراً فحُمل في هودج فلَحِقه عمرو بن مالك بن الفَدَوْكس بن جُشم وهو جدّ الأخطل فقَتله. هؤلاء مَن أصيب من رؤساء بكر يوم الذنائب. يوم واردات ثم التقوا بواردات وعلى الناس رؤساؤهم الذين سمَينا. فظفرت بنو تغلب وأستحر القتلُ في بني بكر فيومئذ قتل الشعثمان شَعثم وعبد شمس ابنا معاوية بن عامر بن ذُهل بن ثعلبة وسيار بن الحارث بن سيار. وفيه قُتل همام ابن مرة بن ذُهل بن شَيبان أخو جساس لأمه وأبيه فمرْ به مُهلهل مقتولاً فقال: والله ما قُتل بعد كُليب قَتيل أعز علي فقداً منك وقتله ناشرة. وكان همَام رَباه وكَفله كما كان ربى حُذيفةُ بن بَدْر قِرْواشاً فقتله يومَ الهَباءة. يوم عُنيزة ثم التقوا بعُنيزة فظَفِرت بنو تَغلب. ثم كانت بينهم مُعاودة ووقائع كثيرة كُل ذلك كانت الدائرة فيه لبني تَغلب على بني بكر. فمنها: يوم الحِنو ويوم عُويْرضات ويوم أنيق ويوم ضَرِيّة ويوم القُصيبات. هذه الأيام لتغلب على بكر. أُصيبت فيها بكر حتى ظنّوا أن ليس يَسْتقبلون أمرهم. وقال مُهلهل يصف هذه الأيّام ويَنعاها على بكر في قَصيدة طويلة أولها: أليلَتنا بذي حُسُم أَنِيري إذا أنت انقضَيت فلا تَحُورِي فإن يكُ بالذّنائب طال ليلي فقد أَبكي من اللّيل القَصير وفيها يقول: كأنّا غدوةً وبني أَبينا بجَنب عُنَيزة رَحَيا مُدِير وإنّي قد تركتُ بوارداتٍ بجُيراً في دَم مِثل العَبير أكثرت قتلَ بني بكر بِربّهم حتى بكيتُ وما يَبْكي لهم أحدُ آليتُ بالله لا أرضىَ بِقَتْلهمِ حتى أبهرج بكراً أينما وُجدوا قال أبو حاتم: أُبهرج: أدعهم بهرجاً لا يُقتل بهم قتيل ولا تُؤخذ لهم دية. قال: والبَهْرج من الدراهم مِن هذا. وقال المُهلهل: يا لبَكر انشروا لي كُلَيباً يا لبَكر أينَ الفِرارُ تلك شيبان تقول لبكر صرِّح الشرُّ وبان السِّرار وبنو عِجْل تقول لقَيس ولتَيْم اللات سِيرُوا فسارُوا وقال: حتى تبيدَ قبائلٌ وقبيلةٌ ويَعض كلُ مثقف بالهَامَ حتى تبيدَ قبائلٌ وقبيلةٌ ويَعض كلُ مثقف بالهَامَ وتقومَ ربَّاتُ الخُدور حواسراً يَمْسحن عُرْض ذَوائب الأيتام حتى يَعضّ الشيخُ بعدَ حَمِيمه مما يرَى نَدماً على الإيهام يوم قِضَة ثم إنّ مُهلهلاً أسرف في القتل ولم يُبال بأيّ قبيلة من قبائل بكر أوقع وكان أكثرُ بكر قعدت عن نُصرة بني شَيبان لقَتْلهم كُليب بن وائل فكان الحارث بن عُباد قد اعتزل تلك الحُروب. حتى قُتل ابنُه بُجير بن الحارث. ويقال إنه كان ابنَ أخيه فلما بلغ الحارثَ قتلُه قال: نِعْم القتيلُ قتيلٌ اصلح بين ابني وائل وظنّ أنّ المُهلهل قد أدرك به ثأر كُليب وجعله كُفئاً له. فقيل له: إنما قتله بشِسْع نَعْل كُليب. وذلك أن المهلهل لما قَتل بُجيراً قال: بُؤ بشِسْع كُليب. فغضب الحارثُ بن عُباد وكان له فرس يقال لها النَّعامة فَركبها وتولَّى أمرَ بكر فقَتل تَغلب حتى هَرب المُهلهل وتفرقت قبائل تغلب فقال في ذلك الحارث بن عُباد: قربا مَرْبط النًّعامة مِنّي لَقحتْ حربُ وائل عَن حِيالي لم أكُن من جُناتها علم اللهُ وإنّي بحِرّها اليومَ صَالي الكلاب الأول قال أبو عُبيدة: لما تَسافهت بكرُ بن وائل وغَلبها سفهاؤها وتقاطعت أرحامُها ارتأى رؤساؤهم فقالوا: إنّ سُفهاءنا قد غَلبوا على أمرنا فأكل القويُ الضعيفَ ولا نَستطيع تغييرَ ذلك فنرى أن نُملَك علينا ملكاً نُعطيه الشاةَ والبعير فيأخذ للضّعيف من القوي ويردُّ على المظلوم من الظالم ولا يُمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون فتفسُد ذاتُ بيننا ولكنّا نأتي تُبعَاً فنُملَكه علينا. فأتوه فذكروا له أمرهم فملّك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكِنديّ فقَدِم فنزل عاقل ثم غزَا ببكر بن وائل حتى أنتزع عامة ما في أيدي ملوك الحيرة اللَّخميَين وملوك الشام الغسانيين وردّهم إلى أقاصي أعمالهم. ثم طُعن في نَيْطه أي مات فدُفن ببطن عاقل. واختلف أبناه شُرَحْبِيل وسَلَمة في المُهلك فتواعد الكُلاب. فأقبل شُرَحبيل في ضَبة والرباب كُلها وبني يَربوع وبكر بن وائل. وأقبل سَلَمة في تَغلب والنمر وبَهراء ومَن تَبعه مِن بني مالك بن حَنظلة وعليهم سُفيان بن مُجاشع وعلى تغلب السفَاح - إنما قيل له السفاح لأنه سَفح أوعية قَومه - وقال لهم: أبدرُوا إلى ماء الكلاب فسبقوا ونزلوا عليه. وإنما خرجتْ بكرُ بن وائل مع شُرحبيل لعداوتها لبني تغلب. فالتقوا على الكُلاب واستحر القتلُ في بني يَربوع وشد أبو حَنَش على شُرحبيل فقتله وكان شرُحبيل قتل ابنه حَنَشاً فأراد أبو حَنَش أن يأتي برأسه إلى سَلمة فخافه فبعثه مع عَسيف له. فلما رآه سَلمة دَمعت عيناه وقال له: أنت قتلتَه قال: لا ولكنه قتله أبو حَنش. فقال: إنما أدفع الثوابَ إلى قاتله. وهَرب أبو حَنش عنه. فقال سَلَمة: ألا أبْلغ حَنَش رسولاً فما لك لا تجيء إلى الثوابِ تعلم أن خير الناس مَيْتاً قَتِيلٌ بَين أحجار الكُلاب تداعت حَوله جُشَمِ بن بَكر وأسلمه جَعاسيسُ الرباب ومما يَدُل على أن بكراً كانت مع شرُحبيل قولُ الأخطل: أبا غسان إنّك لم تُهني ولكن قد أهنتَ بني شِهاب تَرقَّوا في النَخيل وأنسِئونا دِماءَ سرَاتكم يومُ الكُلاب يوم الصفقة ويوم الكلاب الثاني قال أبو عُبيدة: أخبرنا أبو عمرو بن العَلاء قال: كان يوم الكُلاب مُتصِلاً بيوم الصَفْقة وكان من حديث الصَفقة أن كِسرى الملك كان قد أوقع ببني تميم فأخذ الأموالَ وسَبى الذَّراري بمدينة هَجر وذلك أنّهم أغاروا على لَطيمة له فيها مِسك وعَنبر وجَوهر كثير فسُمِّيت تلك الوَقعة يوم الصَّفقة ثم إنّ بني تميم أداروا أمرهم وقال ذو الحِجا منهم: إنكم قد أغضبتم الملك وقد أوقع بكم حتى وَهنتم وتسامعتْ بما لقيتُم القبائل فلا تَأْمنون دَوران العرب. فجَمعوا سَبعة رؤساء منهم وشاوروهمِ في أمرهم وهم: أكثم بن صيفيّ الأسيِّديّ والأُعيمر بن يَزيد بن مُرة المازنيّ وقيس بن عاصم المِنْقريّ وأُبير بن عِصْمة التَّيميّ والنُّعمان ابن الحَسْحاس التَّيمي وأُبَيْر بن عمرو السَّعدي والزِّبْرقان بن بَدر السعديّ. فقالوا لهم: ماذا تَروْن فقال أكثم بن صَيفيّ وكان يُكنى أبا حَنش: إنّ الناس قد بلغهم ما قد لقينا ونحن نخاف أن يطمعوا فينا ثم مَسح بيده على قَلبه وقال: إنّي قد نَيّفت على التِّسعين وإنما قلبي بَضْعة من جِسْمي وقد نَحل كما نحل جِسْمي وإنّي أخاف أن لا يُدرك ذهني الرأيَ لكم وأنتم قومٌ قد شاع في النّاس أمرُكم وإنما كان قوامكم أسيفاً وَعَسيفاً - يُريد العَبد والأجير - وصِرْتم اليوم إنما تَرعى لكم بناتكم فليعرض عليّ كُل رجل منكم رأيَه وما يَحْضُره فإني متى أسمع الحَزم أعرفه. فقال كُل رجل منهم ما رأى وأكثمُ ساكتٌ لا يتكلَم حتى قام النعمان بن الحَسْحاس فقال: يا قوم انظُروا ماءَ يجمعكم ولا يعلم الناس بأيّ ماء أنتم حتى تَنفرج الحَلْقة عنكم وقد جَممتم وصلُحت أحوالُكم وانجبر كسيركم وقَوِي ضعيفُكم. ولا أعلمِ ماءً يَجمعكم إلا قِدّة فارتحلوا ونزلوا قِدَة. وهو موضع يُقال له الكُلاب. فلما سمِع أكثم ابن صيفيّ كلام النعمان قال: هذا هو الرأي. فارتحلُوا حتى نزلوا الكُلاَب. وبين أدناه وأقصاه مسيرة يوم وأعلاه مما يلي اليمن وأَسفله مما يلي العراق. فنزلت سعدُ والرَّباب بأعلى الوادي ونزلتْ حَنظلة بأسفله. قال أبو عُبيدة: وكانوا لا يخافون أن يُغْزَوا يفي القَيْظ ولا يسافر فيه أحد ولا يَستطيع أحدٌ أن يَقطع تلك الصَّحاري لبُعْد مَسافتها وليس بها ماء ولشدّة حرّها. فأقاموا بقيّة القَيظ لا يعلم أحد بمكانهم حتى إذا تَهوّر القيظ - أي ذ هب - بَعث الله ذا العَينين وهو من أهل مدينة هَجَر فمرَّ بقِدّة وصَحرائها فرأى ما بها من النَّعم فانطلق حتى أَتىَ أهل هَجر فقال لهم: هل لكم في جارية عَذْراء ومُهرة شَوهاء وَبكْرة حَمْراء ليس دونها نَكبة فقالوا: ومَن لنا بذلك قال: تلكم تَميم ألقاء مطروحون بقِدّة. قالوا: إي واللّه. فمشى بعضُهم إلى بعض وقالوا: أغتنمُوها من بني تَميم. فأَخرَجوا منهم أربعةَ أملاك يقال لهم اليَزيديّون: يزيد بن هَوْبر ويزيد بن عبد المَدَان ويزيد بن اَلمأمور ويَزيد بن المُخَرِّم وكلهم حارثيّون ومعهم عبد يغوث الحارثيّ. فكان كُل واحد منهم على أَلفين والجماعة ثمانية آلاف. فلا يعلم جيش في الجاهلية كان أكبرَ منه ومن جيش كَسْرى يومَ ذي قَار ويوم شِعْب جَبلة. فمضَوا حتى إذا كانوا ببلاد باهلةَ قال جَزْء بن جَزْء الباهليّ لابنه: يا بني كل لك في أُكْرومة لا يُصاب أبداً مثلُها قال: وما ذاك قال: هذا الحيّ من تميم قد وَلجوا هناك مخافةً وقد قصصتُ أثرَ الجيش يريدونهم فأركب جَملي الأرْحبيّ وسِرْ سيراً رُويداً عُقْبةً من الليل - يعني ساعة - ثم حل عنه حَبْليه وأَنْخِه وتوسَّد ذراعه فإذا سمعته قد أَفاض بجرّته وبال فاستنقعتْ ثَفِناته في بَوْله فشُدّ عليه حَبْله ثم ضَعْ السوط عليه فإنك لا تَسأل جملَك شيئاً من السَّير إلا أعطاك حتى تصبح القوم ففعل ما أمره به. قال الباهلي: فحللت بالكلاب قبل الجَيش وأنا أنظُر إلى ابن ذُكاء - يعني الصّبح - فناديتُ: يا صَباحاه! فإنهم لَيَثِبون إليّ ليسألوني مَن أنت إذ أقبل رجل منهم من بني شَقيق على مُهر قد كان في النَّعم فنادى يا صباحاه! قد أُتي على النَّعم. ثم كَر راجعاً نحو الجيش. فلقيه عبد يغوث الحارثيّ وهو أول الرعيل فطعنه في رأس مَعدته فسبق اللبنَ الدمَ وكان قد أصطبح. فقال عبد يغوث: أطيعوني وامضُوا بالنعم وخلوا العَجائز من تميم ساقطةً أفواهُها. قالوا: أما دون أن نَنكح بناتِهم فلا. وقال ضمرة بن لَبيد الحِماسي ثم المَذْحجي الكاهن: انظُروا إذا سُقْتم النعم فإن أتتكم الخيلُ عُصَباً العصبة تنتظر الأخرى حتى تلحق بها فإن أمر القوم هين وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضُهم بعضاً حتى يردوا وُجوه النعم فإن أمرهم شديد. وتقدمت سعد والرباب في أوائلٍ الخَيل فالتقَوْا بالقوم فلم يَلتفتوا إليهم. واستقبلوا النعم ولم يَنتظر بعضُهم بعضاً. ورئيس الرباب النعمان بن الحَسْحاس ورئيس بني سعد قَيسُ بن عاصم. وأجمع العُلماء أن قيس بن عاصم كان رئيسَ بني تميم. فالتقى القوم فكان أولَ صريع النعمانُ بن الحسحاس. واقتتل القومُ بقية يومهم وثبَت بعضُهم لبعض حتى حَجز الليلُ بينهم. ثم أصبحوا على راياتهم فنادى قيسُ بن عاصم: يالَسعد ونادى عبدُ يغوث: يالَسعد. قيسٌ يدعو سعدَ بنَ زيدَ مناة وعبدُ يغوث يدعو سعدَ العشيرة. فلما سمع ذلك قيسٌ نادى: يالكعب فنادى عبدُ يغوث يالكعب. قيس يدعو كعبَ بن سعد وعبدُ يغوث يدعو كعبَ بن مالك. فلما رأى ذلك قيس نادى: يالكعب مُقاعس. فلما سمعه وَعْلة بن عبد الله الجَرْمي وكان صاحبَ لواء أهل اليمن نادى: ياَلمُقاعس تفاءل به فطَرح اللواء وكان أول من أنهزم. فحملت عليهم بنو سعد والرباب فهزموهم. ونادى قيسُ بني عاصم: يالَتميم لا تقتلوا إلا فارساً فإن الرّجالة لكم. ثم جعل يرتجز ويقول: لما تولَّوا عُصَباً هواربَاً أقسمتُ أطعن إلاٌ راكباً إنْي وجدتُ الطعن فيهم صائباً وقال أبو عبيدة: أمر قيس بن عاصم أن يَتبعوا المُنهزمة ويقطعوا عُرقوبَ مَن لَحِقوا ولا يَشتغلوا بقَتلهم عن اتَباعهم. فجزُوا دوابرَهم. فذلك قولُ وَعْلة: فدى لكمُ أهلي وأُميَ ووالدي غداةَ كُلاب إذ تُجز الدَوابرُ - وسنكتب هذه القصيدة على وَجهها -. وحَمى عبدُ يغوث أصحابه فلم يُوصل إلى الجانب الذي هو فيه فألظٌ به مَصاد بن ربيعة بن الحارث. فلما لحقَه مَصاد طعنه فألقاه عن الفرس فأسره. وكان مَصاد قد أصابته طعنة في مَأْبِضه وكان عِرْقُه يَهمي - أي يَسيل - فَعصبه وكَتفه - يعني عبدَ يغوث - ثم أردفه خلفه فنزفه الدمُ فمال عن فرسه مَقْلوباً. فلما رأى ذلك عبدُ يغوث قطع كِتافَه وأجهز عليه وانطلق على فرسه وذلك أولَ النهار. ثم ظُفِر به بعد في آخره ونادى مُنادٍ: قُتِل اليزيديّون. وشَدٌ قَبيصة بن ضرار الضَبي على ضمرة بن لَبيد الحِماسيّ الكاهن فطَعنه فخر صريعاً. فقال له قَبيصةُ: ألا أخبرك تابعُك بمَصرعك اليوم وأسر عبد يغوث أسره عِصمة ابن أُبير التَّيمي. قال أبو عُبيدة: انتهى عِصْمة بن أُبير إلى مَصَاد وقد أمعنوا في الطلب فوَجده صريعاً وقد كان قبل ذلك رأى عبد يَغوث أسيراً في يديه فعرف أنه هو الذي أجهز عليه فاقتصّ أثرَه فلما لحقه قال له: ويحك! إنّي رجل أُحب الِّلبن وأنا خيرٌ لك من الفَلاة والعَطش. قال عبد يغوث: ومن أنت قال: عصمة بن أُبير. قال عبد يغوث: أوَ عندك مَنَعة قال: نعم. فألقى يدَه لا يده. فانطلق به عِصْمة حتى خَبأه عند الأهتم على أن جَعل له من فدائه جُعلا. فوَضعه الأهتم عند امرأته العَبْشمية. فأعجبها جمالُه وكمانُا خَلْقه. وكان عِصْمة الذي أسره غلاماً نحيفاً. فقالت لعبد يغوث: مَن أنت قال: أنا سيد القوم. فضحكت وقالت: قَبَّحك الله سيّد قوم حينَ أسرك مثلُ هذا! ولذلك يقول عبد يغوث: وتَضْحك مني شيخةٌ عَبْشميّة كأنْ لم تَريْ قَبْلي أسيراً يَمانيَا فاجتمعت الرباب إلى الأهتم فقالت: ثأرُنا عندك وقد قُتل مَصاد والنُعمان فأخرجه إلينا. فأبى الأهتم أن يُخرجه إليهم فكاد أن يكون بين الحيين الرباب وسعد فِتْنة. حتِى أقبل قيسُ بن عاصم المِنْقري فقال: أيؤتى قطع حِلف الرباب - مِن قِبَلنا وضرب فمَه بقَوس فهَتمه فَسُمَي الأهتم. فقال الأهتم: إنما دَفعه إليّ عِصْمة بن أبير ولا أدفعه إلاّ إلى مَن دَفعه إليّ فليجئ فليأخذه فأتوْا عِصْمة فقالوا: يا عصمة قُتل سيدنا النعمان وفارسنا مَصاد وثأرنا أسيرُك وفي يدك فما ينبغي لك أن تَسْتحييه. فقال: إني مُمْحل وقد أصبت الغِنى في نفسي ولا تَطيب نفسي عن أسيري. فاشتراه بنو الحَسْحاس بمائة بعير - وقال رُؤبة بن العجَّاج: بل أرضوه بثلاثين من حواشي النَّعم - فدفعه إليهم فخَشُوا أن يهجوهم فشدُّوا على لسانه نِسْعة. فقال: إنكم قاتلي ولابد فَدعُوني أذُم أصحابي وأنوح على نفسي. فقالوا: إنك شاعر ونخاف أن تَهجوَنا. فعقد لهم ألا يفعل. فأطلقوا لسانَه وأمهلوه حتى قال قصيدته التي أولها: ألم تَعْلما أنّ الملامةَ نَفعها قليل وما لوْمِي أخِي مِن شِمَاليا فيا راكباً إمَّا عَرضْتَ فبلَغنْ نَدامايَ من نَجْران أن لا تَلاقيا أبا كَرب والأيْهمين كليهما وقيس بأعلى حَضرموتِ اليمانيا جَزى الله قومي بالكُلاب مَلامة صَريحَهم والآخِرين المَواليا ولو شئتُ بَحَّتنى من القوم نَهدة ترى خلفها الجُرد الجياد تَواليا ولكنًني أحمِي ذِمارَ أبيكمِ وكاد الرِّماح يَخْتطفْن المُحاميا أحقَّاً عبادَ الله أنْ لستُ سَامِعاً نَشيدَ الرِّعاء المُعزِبين المَتاليا أقولُ وقد شَدُّوا لساني بنِسْعة أمَعشَر تَيْم أَطْلِقوا عَن لِسانيا وتَضْحك منِّي شيخةٌ عبشمية كَأَنْ لم تَرَيْ قَبْلي أسيراً يمانياً أمعشَر تَيْم قد مَلكتم فأَسْجِحوا فإنَّ أخاكم لم يكن من بَوائيا وقد عَلمتْ عِرْسي مُليكةُ أنَّني أنا الليثُ مَعْدوَاً عليه وعاديا وقد كنتُ نحّارَ الجَزور ومُعْمل اْلمط ي وأمضي حيث لا حي ماضيا كأنِّيَ لم أرْكب جواداً ولم أقُلْ لِخَيْليَ كرّي قاتِليعن رِجالِيا ولم أَسْبَأ الزِّقّ الرَّوِيّ ولم أقُلْ لأيْساَرِ صِدْقِ أَعْظِموا ضوْءَ نارِيا قال أبو عُبيدة: فلِما ضُربِت عنقه قالت ابنةُ مَصاد: بؤ بمَصَاد. فقال بنو النعمان: يا لَكاع نحن نشتريه بأموالنا ويبوء بمَصاد! فوقع بينهم في ذلك الشر ثم اصطلحوا وكان الغَناء كُله يوم الكُلاب من الرَّباب لتميم ومن بني سَعد لِمُقاعس. وقال وَعْلة الجَرْميّ وكان أول مُنهزم انهزم يوم الكُلاب وكان بيده لِواء القَوم: ومَنّ عليَ الله مَنَّاً شكرتُه غَدَاةَ الكُلاب إذ تُجز الدّوابر ولمّا رأيتُ الخيلَ تَتْرَى أَثابجاً علمتُ بأن اليومَ أَحْمسُ فاجِر نجوتُ نجاءً ليس فيه وَتيرَة كأني عُقابٌ عند تَيمن كاسر خُدارية صَقْعاء لَبّد ريشَها بطَخْفة يوم ذو أَهاضيبَ ماطرُ لها ناهض في الوَكْر قد مَهَدت له كما مَهدت للبَعْل حَسْناءُ عاقر كأنا وقد حالت حذُنُة دوننا نَعامٌ تَلاه فارسٌ مُتواتر فمَن يك يَرْجو في تَميم هوادة فليس لجَرْم في تميم أواصِر ولا أكُ يا جَرَّارة مُضريةٍ إذا ما غدتْ قوت العِيال تُبادر وقد قُلت للنهدي هل أنت مُرْدِفي وكيف رِدافُ الفَل أمُك عاثِر يُذَكَرني بالآل بيني وبينه وقد كان في جرم ونَهْد تَدَابُر وقال محرز بن المُكعْبر الضبي ولم يَشهدها وكان مُجاوراً في بني بكر بن وائل لما بلغه الخبر: فِدى لقومِيَ ما جمعت من نَشب إذ ساقت الحربُ أقواماً لأقوام إذ حُدِّثت مَدْحجِ عنا وقد كُذبت أنْ لا يُذببعن أحسابنا حاَمي دارت رحانا قليلاً ثم واجههم ضربٌ تَصدّع منه جِلْدة الهام ظلّت ضباع مُجَيْراتٍ تجررهم وأَلْحُموهن منهم أيّ إلحام حتى حُذُنة لم نَترك بها ضَبُعا إلا لها جزر من شِلْو مِقْدام ظَلت تدوس بني كَعب بكَلْكَلها وَهمّ يومُ بني فَهْد بإظْلام قال أبو عُبيدة: حدَّثني المُنتجع بن نَبهان قال: وَقف رُؤبة بن العجاج على التَّيم بمسجد الحروريَّة فقال: يا معشر تيم إني سَمرت عند الأمير تلك الليلة فتذاكرنا يومَ الكُلاب فقال: يا معشرَ تَيم إنّ الكُلاب ليس كما ذكرتم فأعفُونا من قصيدَتيْ صاحبَيْنا - يعني عبد يغوث وَوعْلة الجَرميّ - يوم طِخَفَة كانت الرِّدافة رِدافة المَلِك لعتّاب بن هَرْميّ بن رِياح ثم كانت لقَيس بن عَتّاب فسأل حاجب بن زُرَارة النُّعمان أن يجعلها للحارث بن قُرْط بن سفيان بن مُجاشع فسأَلها النعمانُ بن يَربوع وقال: أَعقبوِا إخوتكم في الرِّدافة. قالوا: إنهم لا حاجة لهم فيها وإنما سألها حاجبٌ حسداً لنا وأَبَوْا عليه فقال الحارث بن شِهاب وهو عند النعمان: إنّ بنيِ يَربوع لا يُسلمون رِدافتهم إلى غيرهم. وقال حاجب: إن بعث إليهم الملك جيشاً لم يمنعوه ولم يَمتنعوا فبعث إليهم النعمانُ قابوسَ ابنَه وحسَّانَ بن المنذر. فكان قابوس على الناس وكان حسان على المقدمة وبَعث معهم الصَنائع والوَضائع - فالصنائع: مَن كان يأتيه من العرب والوضائع: المُقيمون بالحِيرة - فالتقوا بطِخفة فانهزم قابوسُ ومَن معه وضَرب طارق بنُ عُميرة فرسَ قابوس فعقره وأَخذه ليجزّ ناصيته. فقال قابوس: إنّ الملوك لا تُجز نواصيها فجهّزه وأرسله إلى أبيه وأما حسان بن المُنذر فأسره بشرُ بن عمرو الرياحيّ ثم مَنّ عليه وأَرسله. فقال مالك بن نويرة: ونحن عَقرنا مُهر قابوسَ بَعدما رَأْي القومُ منه الموتَ والخيل تُلْحَب عليه دلاص ذاتُ نَسْج وسَيفُه جُراز من الْهندي أبيضُ مُقْضَب يوم فيف الريح قال أبو عُبيدة: تجمّعت قبائل مَذْحج وأكثرُها بنو الحارث بن كعب شعب وقبائلُ من مُراد وجُعْفِيّ وزَبِيد وخَثْعم وعليهم أنسُ بنُ مُدْركة وعلى بني الحارثُ الحُصين. فأغاروا على بني عامر بن صَعْصعة بفَيف الرِّيح وعلى بني عامر عامرُ بن مالك مُلاعب الأسِنَّة. قال: فاقتَتل القومُ فكَثروهم. وارفضّت قبائلُ من بني عامر. وصَبرت بنو نُمير فما شُبِّهوا إلا بالكِلاب المُتعاظلة حوْلَ اللّواء. وأقبلِ عامر بن الطًّفيلِ وخَلفه دعيُّ بن جعفر. فقال: يا معشر الفِتيان مَن ضرَب ضربة أو طعن طعنةَ فلْيُشهدني. فكان الفارس إذا ضَرب ضربة أو طَعن طعنة قال عند ذلك: أبا عليّ. فبينما هو كذلك إذ أتاه مُسْهِر بن يزيد الحارثي فقال له مِن ورائه: عندك يا عامر والرمح عند أذنه. فوَهَصه - أي طعنه - فأصابَ عَينَه. فوثب عامرٌ عن فَرسه ونجا على رِجْليه وأخذ مُسْهِر رمحَ عامر. ففي ذلك يقول عامرُ بن الطُفيل بن مالك بن جَعفر: لعَمري وما عَمْري على بهين لقد شان حُر الوَجْه طَعنةُ مُسْهِرِ أعاذل لو كان البِداد لقُوتلوا ولكن نَزَوْنا للعديد المُجمهَر ولو كان جمع مثلُنا لم يَبَزّنا ولكنن أَتتنا أُسْرة ذاتُ مَفْخر وقال مُسْهِر وقد زعم أنهم أخذوا امرأة عامر بن الطفيل: رَهصتُ بخرْص الرُّمح مُقلة عامر فأضحَى بخَيصاً في الفَوارس أَعْورَا وغادر فينا رُمحَه وسِلاحَه وأَدْبر يَدْعو في الهَوالك جَعْفرا وكُنّا إِذا قَيسيَّة دُهيت بنا جَرى دَمعُها مِن عَينها فتحدَرا مخافةَ ما لاقتْ حليلةُ عامر من الشرِّ إذ سِرْبالها قد تَعفرا وقال: وامتنّت بنو نُمير على بني كلاب بصَبرهم يوم فَيف الريح فقال عامر: تَمُنُّون بالنُّعمى ولولا مَكَرُنا بمُنعرجِ الفَيفا لكنتُم مواليَا ونحن تداركْنا فوارسَ وَحْوحٍ عشيّة لاقينَ الحُصين اليَمانيا وحوح من بني نُمير وكان عامر أستنقذهم وأُسر حَنظلة بن الطفيل يومئذ. قال أبو عُبيدة: كانت وقعة فيف الريح وقد بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلمه بمكة وأَدرك مُسهِرُ بن يزيد الإسلام فأسلم. يوم تِيَاس كانت أفناء قبائل من بني سَعد بن زَيد مَناة وأفناء قبائل من بني عمرو بن تميم التقت بِتَياس فقطع غيلانُ بن مالك بن عمرو بن تميم رِجْلَ الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة فطلبوا القِصاص فأقسم غيلان أن لا يَعْقِلَها ولا يُقَص بها حتى تُحشى عيناه تُراباً وقال: لا نَعْقِل الرٌجلَ ولاَ نِديها حتى تَروْا داهيةً تنسيها فالتقوا فاقتتلوا فجرحوا غيلان حتى ظَنوا أنهم قد قتلوه. ورئيسُ عمرو كعب بن عمرو ولواؤه معِ ابنه ذُؤيب وهو القائل لأبيه: يا كعبُ إنّ أخاك مُنْحَمِق إن لم يكن بكَ مرّةً كعب جانِيكَ مَن يَجني عليك وقد تُعْدِي الصحاحَ مَبارك الجُربِ والحربُ قد تضطر صاحبَها نحو المَضيق ودونه الرحْبُ يوم زرود الأول غزا الحوفزان حتى انتهى إلى زَرود خلفَ جبل من جبالها فأَغاروا على نَعم كثير صادر عن الماء لبني عَبْس فاحتازوه. وأتى الصريخُ بني عَبس فركبوا. ولحق عُمارة بن زِيَاد العَبْسيّ الحَوْفزان فعَرفه وكانت أُمًّ عُمارة قد أرضعتْ مُضَرَ بنَ شَريك وهو أخو الحَوفزان. وقالِ عُمارة: يا بني شَريك قد علمتُم ما بيننا وبينكم. قال الحوفزان وهو الحارث بن شريك: صدقتَ يا عمارة فانظُر كُل شيء هو لك فخذْه. فقال عُمارة: لقد علمتْ نساءُ بني بكر بن وائل أنّي لم أَملأ أيدي أزواجهنّ وأبنائهنّ شفقةً عليهن من المَوت. فحمل عُمارة ليُعارض النَّعم ليردَّه وحال الحوفزانُ بينه وبين النَّعم فعَثرت بعُمارة فرسُه فطَعنه الحوفزان. ولحَق به نَعامةُ بنُ عبد الله بن شَريك فطعنه أيضاً. وقال نَعامة: ما كرهتُ الرُّمح في كَفل رجل قط أشدّ من كَفل عُمارة. وأُسِر ابنا عُمارة: سِنان وشَدّاد. وكان في بني عَبس رجلان من طيء ابنان لأوس بن حارثة مُجاورَيْن لهم وكان لهما أخ أسير في بني يَشْكر فأصابا رجلاً من بني مُرّة يقال له: مَعْدان بن مِحْرب فذَهبا به فدَفناه تحت شجرة فلمّا فقدتْه بنو شَيبان نادَوْا: يا ثارات مَعدان فعند ذلك قَتلوا ابني عُمارة. وهَرب الطائيّان بأسيرهما. فلما بَرأ عُمارة من جِراحه أتى طيّئاً فقال: ادفعوا إليّ هذا الكَلب الذي قُتِلنا به. فقال الطائيّ لأوس: أدفَع إلى بني عَبس صاحبَهم. فقال لهم أوس: أتأمرُونني أُنْ أُعطِيَ بني عَبْس قطرةً من دمي وإن اْبني أسيرٌ في بني يَشكر فوالله ما أرجو فَكاكَه إلا بهذا. فلما قَفل الحَوفزانُ من غَزْوه بَعث إلى بني يَشْكر في ابن أوْس. فبعثوا به إليه فافتكّ به مَعْدان. وقال نَعامة بن شَريك: استَنْزلت رماحُنا سِنَانَا وشيخَه بطَخْفة عِيَانا ثم أخوه قد رَأى هَوانا لما فَقدْنا بيننا مَعْدانا هو يوم كِنهل قال أبو عُبيدة: أقبل ابنا هُجَيمة وهما من بنى غَسّان في جَيْش فنَزلا في بني يَرْبوع فجاورا طارقَ بن عَوْف بن عاصم بن ثعلبة بن يَرْبوع فنزلا معه على ماء يقال له كِنْهل فأغار عليهما أناسٌ من ثَعلبة بن يَربوع فاستاقوا نَعمَهما وأسروا مَن كان في النَعم فركب قيسُ بن هُجيمة بخَيله حتى أدرك بني ثَعلبة فكَر عليه عُتيبة بن الحارث. فقال له قَيس: هل لك يا عتيبة إلى البِرَاز فقال: ما كنتُ لأسْألَه وادعه. فبارزه. قال عُتيبة: فما رأيتُ فارساً أملأ لعيني منه يومَ رأيتُه فَرَماني بقَوسه فما رأيتُ شيئاً كان أكرهَ إليَ منه. فطَعنني. فأصاب قَرْبوس سَرْجي حتى وجدت مَسّ السِنان في باطن فَخِذي فتجنبتُ. قال: ثم أَرسل الرُّمح وقَبض بيدي وهو يَرى أنْ قد أَثْبتني وانصرف. فأتبعتهُ الفرس. فلما سَمع زَجلها رَجع جانحاً على قَرَبوس سَرْجه وبدا لي فَرْج الدِّرع ومَعي رمح مُعلَّب بالقِدّ والعَصَب كُنّا نَصطاد به الوَحش فرميتُه بالقَوس وطعنتُه بالرمحٍ فقتلتُه وانصرفت فلحقتُ النَّعم. وأقبل الهِرْماس بن هُجيمة فوقف على أخيه قتيلاً ثم أتْبعني وقال: هل لك في البِراز فقلتُ لعلّ الرجعةَ لك خير. قال: أبعد قَيس ثَم شدّ عليّ فضربني على البَيضة فخَلَص السيفُ إلى رأسي. وضربتُه فقتلتُه. لقد كنتَ جار ابْني هُجيمة قبلَها فلم تغْن شَيئاً غير قَتْل المُجاور وقال جرير: وساق ابني هجَيمة يومَ غَوْلٍ إلى أسْيافنا قَدَرُ الحِمام يوم الجُبَّات قال أبو عُبيدة: خَرج بنو ثَعلبة بن يِرْبوع فمرّوا بنَاسٍ من طوائف بني بَكْر بن وائل بالجُبَّات خرجوا سِفاراً فنزلوا وسرحوا إبلهم تَرْعى وفيها نَفر منهم يَرْعونها منهم سَوادة بن يَزيد بن بُجير العِجْليّ ورجل من بني شَيبان وكان مَحمُوماً فمرَّت بنو ثَعلبة بن يَرْبوع بالإبل فأطْرَدوها وأخذوا الرّجلين فسألوهما: مَن مَعكما فقالا: معنا شيخُ بن يزيد بن بُجير العِجْليّ في عصابة من بني بَكْر بن وائل خَرجوا سِفاراً يُريدون البَحْرين. فقال الربيعُ ودُعْموص ابنا عُتيبة بن الحارث بن شِهاب: لن نذهب بهذين الرجلين وبهذِه الإبل ولم يَعلموا مَن أخذها ارجعوا بنا حتى يَعلموا مَن أخذ إِبلهم وصاحَبيْهم ليعنِيَهم ذلك. فقال لهما عُميرة: ما وراءكما إلا شَيْخ ابن يَزيد قد أَخذتما أخاه وأَطْردتُما مالَه دعاه. فأبَيا ورَجعا فوقفا عليهم وأخبراهم وتسمَّيا لهم فركب شيخُ بن يزيد فأتْبعهما وقد وَلّيا فَلَحِق دُعموصاً فأسره. ومَضى ربيع حتى أتى عُميرة فأخبره أنّ أخاه قد قُتل. فرجع عُميرة على فرس يقال له الخنساء حتى لَحِق القَوْم فافتكّ دُعْموصاً على أن يردَّ عليهم أخاهم وإبلهم. فردّها عليهم. فكفَر ابنا عُتيبة ولم يَشْكُرا عُميرة. فقال: ألمن تَرَ دُعْموصاً يصُدّ بوَجهه إذا ما رآني مُقْبِلاً لم يُسَلِّم فعارضتُ فيه القومَ حتى انتزعتُه جِهاراً ولم أنظُر له بالتلوُّم يوم إرَاب غزا الهُذيلِ بن هُبيرة بن حَسَّان التَّغلبيِّ فأغار على بني يَربوع بإراب فقَتل فيهم قَتْيلاً ذَريعاً وأصاب نَعَماً كثيرة وسَبى سَبْياً كثيراً فيهم زينب بنت حِمْير بن الحارث بن همَّام بن رِياح بن يَرْبوع وهي يومئذ عَقِيلة نساء بني تَميم. وكان الهُذيل يُسمَى مِجْدعا وكان بنو تميم يُفزعون به أولادهم وسَبى أيضاً طابية بنت جَزْء بن سَعد الرِّياحي ففَداها أبوها ورَكب عُتيبة بن الحارث في أسراهم ففكَّهم أجمعين. يوم الشِّعْب غزا قيسُ بن شَرْقَاء التَّغلبيّ فأغار على بني يَرْبوع بالشِّعب فاقتتلوا فانهزمت بنو يَربوع. فزَعم أبو هُدْبة أنها كانت اختطافا. فأُسر سُحيم لا ابن وثيل الرِّياحي ففي ذلك يقول سُحيم: أقول لهم بالشِّعْب إذ يأسرُونني ألم تَعْلموا أنِّي ابن فارس زَهْدَم ففدا نَفسه وأُسر يومئذ مُتمَم بن نُويرة. فوفد مالكُ بن نوبرة على قَيسَ ابن شرقاء في فِدائه فقال: فلما رأى وَسامته وحُسن شارته قال: بل مُنعم. فأطلقه له. يوم غول الأول فيه قُتل طَريف بن شَراحيل وعمرو بن مَرثد المحلَّيّ. غزا طَريف بن تميمِ في بني العَنبر وطوائف من بني عمرو بن تَميم فأغار على بني بَكْر بن وائل بغول فاقتتلوا. ثم إن بكراً انهزمتْ فقُتل طَريف بن شرَاحيل أحدُ بني أبي رَبيعة وقُتل أيضاً عمرو بن مَرْثد المُحلَّميِّ وقتل المُحسَّر. فقال في ذلك رَبيعة بن طَريف: يا راكباً بَلِّغن عني مغَلْغلة بني الخَصِيب وشرُّ المَنْطق الفَنَدُ هَلا شراحيل إذ مالَ الحِزامُ به وسْطَ العَجَاج فلم يَغْضب له أحد أو المُحسَّر أو عمرو تَحيفَهم منّا فوارسُ هَيْجا نَصْرُهم حَشَدُ إنْ يَلحظوني بزُرْق من أسنَّتنا يُشْفَي بهنَ الشَّنا والعُجب والكَمد وقد قَتلناكُم صَبراً ونَأْسرِكم وقد طَرَدْناكم لو يَنْفع الطَّرد حتى استغاث بنا أدنىَ شَريدكم مِن بَعد ما مَسَّه الضرَّاء والنَّكد وقال نَضلة السُلميّ في يوم غَوْل وكان حقيراً دَميماً وكان ذا نَجدة وبأس: رأوْه فازْدَروه وهو حُرٌّ ويَنفع أهله الرجلُ القَبِيح فشدّ عليهم بالسيَّف صَلْتاً كما عَضَ الشِّبا الفرس الجَموح فأطْلق غُلّ صاحبه وأردَى قَتيلاً منهمُ ونَجا جَرِيح ولم يخشُوا مَصَالته عليهم وتحتَ الرّغْوة اللبن الصَّريح يوم الخَندَمَة كان رجلٌ من مُشركي قريش يَحدُ حَرْبةً يومَ فَتْح مكّة فقالت له امرأته: ما تصنع بهذه قال: أعددتُها لمحمَّد وأصحابه. قالت: والله ما أرى يقوم لمُحمد وأصحابه شيء. قال: والله إنِّي لأرجو أن أخدِمَك بعضَ نسائهم. وأنشأ يقول: إن تُقْبِلوا اليومَ فما بي عِلّة هذا سلاحٌ كامل وألّه وذو غِرَارين سريعُ السَّلّه فلما لَقيهم خالدُ بن الوليد يوم الخَندمة انهزم الرجل لا يلوي على شيء. فلامتْه امرأته فقال: إنك لو شَهدتِ يوم الخنْدمه إذ فَر صَفوانٌ وفَرّ عِكْرمه ولقِيتْنا بالسُّيوف المُسْلمه يَفْلقن كُلّ ساعد وجُمْجمه ضَرْباً فلا تَسمع إلا غَمْغمه لم تَنْطِقي في اللوم أدنى كَلِمه يوم اللّهَيْماء قال أبو عُبيدة: كان سبب الحرّب التي كانت بين عمرو بن الحارث ابن تميمِ بن سَعد بن هُذيل وبين بني عَبْد بن عَديّ بن الدِّيل بن بَكْر بن عَبْد مَناة أن قيْس بن عامر بن عَريب أخا بني عبد بن عَديّ وأخاه سالماً خَرجا يُريدان بني عمرو بن الحارث على فَرسين يقال لإحداهما الَّلعَّاب والأخرى عَفزر. فباتا عند رجل من بني نُفاثة. فقال النُّفاثيّ لقَيس وأخيه: أطيعاني وارجعا لا أعرفنّ رماحَكما تكْسر في قَتال نُعمان. قالا: إنَّ رماحنا لا تُكسر إلا في صُدور الرِّجال. قال: لا يَضرّكما وسَتَحْمدان أَمري. فأصبحا غاديَينْ فلما شارفا مَتْن الّلهيماء منِ نَعمان وبنو عمرو بن الحارث فويق ذلك بموضع يقال له أًديمة أغارا على غنَم لجُندب بن أبي عُمَيس وفيها جُندب فتقدَّم إليه قَيس فرماه جُندب في حَلَمة ثَدْيه وبَعجه قيس بالسيف فأصابت ظُبَةُ السَّيف وجه جُندب وخَرَّ قَيس. ونَفرت الغنم نحو الدار وأَتْبعها. وحَمل سالمُ على جُندب بفَرسه عَفْزر فضربَ جُندب خَطْمَ عَفزر بالسَّيْف فقَطعه وضَربه سالمٌ فاتقاه بيده فقَطع أحدَ زَنْديه فخر جُندب وذَفّف عليه سالم. وأدرك العشيُّ سالماً فخرج وترك سيفَه في المَعركة وثوبهُ بحِقْويه لم يَنْج إلا بجفْن سيفه ومِئْزره فقال في ذلك حَمَّاد بن عامر: لعمرُك ما ونىَ ابنُ أبي عُميس وما خانَ القتال وما أضاعَا سَمَا بقرانِه حتّى إذا ما أتاه قِرْنه بَذَل المِصَاعا فإنْ أكُ نائياً عنه فإنّي سرُرت بأنّه غُبِن البِيَاعا وأفلتَ سالمٌ منها جَرِيضاً وقد كُلِم الذُّبابة والذَّراعا وقال حُذيفة بن أُنس: ألا بَلِّغَا جِلّ السًواري وجابراً وَبلِّغ بني ذِي السِّهم عَنا ويَعْمُرا كَشفتُ غِطاء الحَرْب لما رأيتُها تَميل على صِغوٍ من الَّليل أكْدرا أخو الحَرْب إن عَضت به الحرب عضها وإن شَمَرت عن ساقَها الحَربُ شَمَّرا ويمْشي إذا ما الموتُ كان أمامَه كذي الشِّبْل يَحْمي الأنْف أن يَتأخرا نجا سالمٌ والنفسُ منه بشدْقه ولم يَنْج إلا جَفنَ سيف ومِئْزرا وطاب عن الَّلعّاب نفساً ورَبه وغادر قيسا في المكر وعفزرا يوم خزَاز قال أبو عُبيدة: فنازع عامر ومِسْمع ابنا عبد الملك وخالدُ بن جَبلة وإبراهيم بنِ محّمد بن نُوح العُطارديّ وغسان بن عبد الحميد وعبد الله بن سَلْم الباهليّ ونفر من وجوه أهل البَصْرة كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويَتنازعون في الرِّياسة يومَ خَزاز فقال خالد بن جَبلة: كان الأحوص بن جَعفر الرئيس. وقال عامر ومِسْمع: كان الرئيسَ كليبُ بن وائل. وقال ابن نُوح: كان الرئيسَ زرارةُ بن عُدَس. وهذا في مجلس أبي عمرو بن العَلاء. فتحاكَموا إلى أبي عَمرو فقال: ما شَهدها عامرُ بن صَعْصعة ولا دارمُ بن مالك ولا جُشَم بن بكر اليومُ أقدمُ من ذلك ولقد سألت عنه منذ ستّين سنة فما وجدتُ أحداً من القوم يعلم مَن رئيسُهم ومَن المَلِك غَير أنَّ أهل اليمن كان الرجلُ منهم يأتي ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها فيأخذ من أموال نزار ما شاء كعُمّال صَدقاتهم اليومِ وكان أوّل يوم امتنعت معدّ عن المُلوك ملوك حْمير وكانت نِزَار لم تَكْثُر بعد فأوقدوا ناراً على خَزَاز ثلاثَ ليال ودخَّنوا ثلاثةَ أيام. فقيل له: وما خزَز قال: هو جَبل قريب من إمْر على يَسار الطريق خلفه صَحْراء مَنْعِج يُناوحه كُور وكُوير إذا قطعتَ بطنَ عاقل. ففي ذلك اليوم امتنعت نِزار من أهل اليمن أنْ يأكلوهم ولولا قولُ عمرو بن كًلثوم ما ونحنُ غَدَاةَ أوقد في خَزَارِ رَفَدْنا فوق رِفْد الرافدينَا فكُنّا الأيْمنين إذا التقينا وكانَ الأيْسرِينِ بنو أبينا فصالُوا صَولةً فيمن يَليهم وصُلْنا صولةَ فيمن يَلينا فأبوا بالنِّهاب وبالسَّبايا وأبْنا بالمُلوك مصفدينا قال أبو عمر بن العلاء: ولو كان جدّه كُليب وائل قائدَهم ورئيسَهم ما ادَّعى الرّفادة وتَرك الرياسة وما رأيتُ أحداً عرَف هذا اليومَ ولا ذكره في شِعْره قبله ولا بعده. يوم المِعَا قال أبو عُبيدة: أغار المُنبطح الأسديُّ على بني عُبَاد بن ضُبَيعة فأخذ نَعَما لبني الحارث بن عُبَاد وهي ألفُ بعير فمر ببني سَعد بن مالك بن ضُبيعة وبني عِجْل بن لُجيم فتَبعوه حتى انتزعوها منه ورئيسُ بني سعد حُمران ابن عَبد عمرو فأسر اقْتلُ بن حَسان العِجْلي المُنبطحَ الأسديَ ففَداه قومه ولا أدري كم كان فداؤه واستنقذوا السَّبي. فقال حُجر بن خالد بن مَحمود في يوم المِعَا: ومُنْبَطح الفواضِر قد أذقْنا بنَا عجةِ المِعَا حَرَّ الجلاد سكن ابن باعث بن الحارث بن عُباد. والأخاذيذ. مَن أخذ من النساء. وقال حُمران بن عبد عمرو: إنَّ الفوارس يوم ناعجة المِعَا نِعْمَ الفوارسُ مِن بني سَيّار لم يُلْهم عَقْد الأصِرّة خَلْفهم وَحنِينُ مُنْهَلة الضُّروع عِشَار لَحِقوا على قُبِّ الأياطل كالقَنا شُعْث تُعدّ لكُلِّ يوم عَوَار حتى حَبَوْن أخا الغَواضِر ظَعْنةً وفَكَكن منه القِدَّ بعدَ إسَار سالتْ عليه من الشِّعاب خوانِف وِرْد الغَطَاط تبلُجَ الأسْحار يوم النِّسَار قال أبو عُبيدة: تحالفت أسدٌ وطيء وغَطفان ولَحقت بهم ضَبّة وعديّ فغَزَوْا بني عامر فقتلوهم قَتْلاً شديداً فغَضبتْ بنو تميم لقَتل بني عامر فتجمعوا حتى لحقوا طيِّئاً وغَطَفان وحلَفاءهم من بني ضَبّة وعَدِيّ يوم الجفَار فقُتلت تميمُ أشدَّ ممّا قُتلت عامر يومَ النِّسار. فقال في ذلك بِشرْ بن أبي خاَزم: غضبتْ تميم أن تقتَّلَ عامرٌ يوم النِّسار فأعْتِبوا بالصَّيْلَم فحلف ضمرة بنِ ضَمْرة النَّهشليّ فقال: الخَمر علي حرام حتى يكونَ له يوم يُكافئه. فأغار عليهم ضمرة يوم ذات الشُّقوق فقَتلهم وقال في ذلك: الآنَ ساغَ الشَّرابُ ولم أَكُن آتي التِّجارولا أَشُدّ تَكلُّمي حتى صَبحْت على الشقوق بغارة كالتَّمر ينْثر في حَرِير الحُرَّم وأبأتُ يوماً بالجفَار بمثله وأجرت نِصفاً مِن حَديث المَوْسم ومشتْ نساء كَالظباءَ عواطلاً من بين عارفة السباء وأيِّم ذَهب الرِّماح بزَوْجها فتَرَكْنَه في صَدْر معتدل القَناة مُقَوّم يوم خَوّ قال أبو عُبيدة: أغارت بنو أَسد على بني يَرْبوع فاكتَسحوا إبِلهم فأتى الصريخُ الحيَّ فلم يَتلاحقوا إلا مساءً بمَوضع يُقال له خَوّ. وكان ذُؤاب بن ربيعة الأشتر على فرس أنثى وحصان عُتَيبة بن الحارث بن شِهاب على حِصان فجعل الحصان يستنشق ريح الأُنثى في سواد الليل ويَتبعها فلم يعلم عُتَيبة إلا وقد أقحم فرسَه على ذُؤاب بن رَبيعة الأشتر وعتيبة غافل لا يبصر ما بين يديه في ظلمة اللّيل وكان عُتيبة قد لَبس دِرْعه وغَفل عن جُربَّانها حتى أتى الصَّريخ فلم يشُده ورآه ذُؤاب فأقبل بالرُّمح إلى ثُغرة نَحره. فخرّ صريعاً قتيلاً. ولحق الربيعُ بن عُتيبة فشدِّ على ذُؤاب فأَسره وهو لا يَعلم أنه قاتلُ أبيه فكان عنده أسيراً حتى فاداه أبوه ربيعةُ بإيل مَعلومة قاطَعَه عليها وتواعدا سُوقَ عُكاظ في الأشهر الحُرم أن يأتيَ هذا بالإبل ويأتي هذا بالأسير. وأقبلَ أبو ذُؤاب بالإبل وشغل الربيعُ بن عتيبة فلم يحضر سُوقَ عُكاظ. فلما رأى ذلك ربيعة أبو ذؤاب لم يشُك أن ذُؤابا قد قَتلوه بأبيهم عُتيبة فرثاه وقال: أبْلغ قبائلَ جَعْفر مخْصوصة ما إن أحاول جَعفرَ بنَ كِلابِ إنّ المودة والهوادة بيننا خَلَق كسَحْق الرَّيْطة المِنْجاب ولقد علمتُ على التجلّد والأسى أنّ الرزّية كان يومَ ذُؤاب إنْ يَقتلوك فَقد هتكتَ بيوتَهم بعُتيبة بن الحارث بن شِهَاب بأحبّهم فقداً إلى أعدائه وأشدِّهم فقداً على الأصحاب فلما بلغهم الشعرُ قتلوا ذُؤاب بن ربيعة. وقالت آمنةُ بنتُ عتيبة تَرثي أباها: على مِثْل ابن مَيّة فانْعَيَاه بشَقّ نَواعِم البَشَر الجُيوبَا وكان أبي عتيبة سَمهريّاً فلا تَلْقَاه يدَخر النَّصيبا ضَرُوباً للكَمِيّ إذا اشمعلّت عَوانُ الحَرْب لا وَرعاً هَيُوبا أيام الفجار الفجار الأول قال أبو عبيدة: أيّام الفِجار عدَّة وهذا أولها. وهو بين كِنَانة وهَوازن وكان الذي هَاجَه أنّ بَدر بن مَعْشر أحدَ بني غفار بن مُلَيْل بن ضمرِة بن بكر بن عَبد مَناة بن كِنانة. جُعل له مجلس بسوق عكاظ وكان حَدَثاً مَنيعاً في نفسه فقام في المجلس وقام على رأسه قائم وأنشأ يقول: نحن بنو مُدْرِكة بن خِنْدفْ مَن يَطْعنوا في عَيْنه لم يَطْوفْ ومَن يكونوا قومَه يُغَطْرف كأنّهم لُجة بحر مسْدف قال: ومدَّ رجلَه وقال: أنا أعزُّ العرب فمن زَعم أنه أعزُّ منّي فَلْيضربها. فضربها الأُحَيمر بن مازن أحدُ بني دَهْمان بن نَصر بن مُعاوية فأَنْدرها من الرُّكبة وقال: خُذْها إليك أيها المُخنْدف وقال أبو عبيدة: إنما خَرصها خريصة يسبرة وقال في ذلك: نحن بنو دهْمان ذو التغِطْرُف بحر لبَحر زاخرِ لم يُنْزفِ قال أبو عُبيدة: فتجاور الحيّان عند ذلك حتى كاد أن يكون بينهما الدماء ثم تراجعوا ورَأَوْا أنّ الخطبَ يسير. الفجار الثاني كان الفجار الثاني بين قُريش وهوازن وكان الذي هاجه أنَّ فِتْيةً من قُريش قَعدوا إلى امرأة من بني عامر بن صَعصعة وضيئةٍ حُسَّانة بسُوق عُكاظ. وقالوا: بل أطاف بها شبابٌ من بني كنانة وعليها بُرقع وهي في دِرْع فُضُل فأعجبهم ما رأوا من هَيئتها فسألوها أن تُسفر عن وجهها. فأبت عليهم. فأتي أحدُهم من خَلفها فشدَّ دُبُر دِرْعها بشوكة إلى ظهرها وهي لا تدري فلما قامت تقلّص الدرعُ عن دُبرها. فضحكوا وقالوا: مَنعتْنا النظَر إلى وجهها فقد رأينا دُبرها. فنادت المرأة: يا لعامر. فتحاور الناسُ وكان بينهم قتال ودماء يسيرة فحملها حربُ بن أُمية وأَصلح بينهم. الفجار الثالث وهو بين كنانة وهوازن. وكان الذي هاجه أنَّ رجلاً من بني كنانة كان عليه دين لرجل من بني نَصر بن مُعاوية فأَعدم الكِنانيّ. فوافى النصريُّ بسُوق عُكاظ بقِرْد فأَوقفه في سوق عُكاظ وقال: مَن يَبيعني مثلَ هذا بمالي على فلان حتى أَكثر في ذلك. وإنما فعل ذلك النَّصريُّ تعييراً للكنانيّ ولقومه. فمرّ به رجل من بني كنانة فضرب القِرْد بسَيفه فقتله. فهتَف النصريُّ: يا لَهوازن وهتَف الكنانيّ: يا لكنانة. فتهايج الناسُ حتى كاد أن يكونَ بينهم قتال ثم رأوا الخطبَ يسيراً فتراجعوا ولم يَفقم الشر بينهم. قال أبو عبيدة: فهذه الأيام تسمى فِجاراً لأنها كانت في الأشهر الحُرم وهي الشُّهور التي يُحرِّمونها ففجروا فيها فلذلك سُمِّيت فِجاراً. وهذه يقال لها: أيام الفجار الأول. الفجار الآخر وهو بين قُريش وكِنانة كلها وبين هوازن وإنما هاجها البرّاض بقتله عُروة الرَّجال بن عُتبة بن جعفر بن كلاب فأبت أن تقتل بعُرْوةَ البرّاض لأنَّ عروة سيّد هوازن والبرّاض خليع من بني كِنانة أرادوا أن يَقتلوا به سيّداً من قُريش. وهذه الحروب كانت قبل مَبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بستٍّ وعِشرين سنة وقد شَهدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو ابنُ أربعَ عشرةَ سنة مع أعمامه. وقال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: كنت أنْبُل على أعمامي يومَ الفِجار وأنا ابنُ أربعَ عشرةِ سنة - يعني أناولهم النَّبل - وكان سببُ هذه الحرب أنَّ النعمان بن المُنذر ملك الحِيره كان يَبعث بسُوق عُكاظ في كُل عام لطيمةً في جِوار رجل شريف مِن أشراف العرب يُجيرها له حتى تُباع هناك ويَشتري له بثَمنها من أدَم الطائف ما يحتاج إليه. وكانت سوق عكاظ تقوم في أول يوم من ذي القِعدة فيتسوَّقون إلى حُضور الحج ثم يَحُجّون. وكانت الأشهر الحرم أربعةَ أشهر: ذا القعدة وذا الحجّة والمُحرم ورجب. وعكاظ: بين نخلة والطائف وبينها وبين الطائف نحو من عشرة أميال. وكانت العربُ تَجتمع فيها للتجارة والتهيء للحجّ من أول ذي القعدة إلى وقت الحج ويأمن بعضُها بعضاً. فجهّز النُعمان عِير اللطيمة ثم قال: من يُجيرها فقال البرَّاض ابن قيس النمريُ: أنا أجيرها على بني كنانة. فقال النّعمان: ما أريد إلا رجلاً يُجيرها على أهل نجد وتِهامة. - فقال عُروة الرحّال وهو يومئذ رجلُ هوازن: أكَلْب خليع يُجيرها لك أبيتَ اللعن أنا أجيرها لك على أهل الشّيح والقَيْصوم من أهل نَجد وتهامة. فقال البرّاض: أعلى بني كِنانة تُجيرها يا عُروة قال: وعلى الناسِ كلِّهم. فدفعها النُّعمان إلى عُروة. فخرج بها وتبعه البَرّاضُ وعُروة لا يَخشى منه شيئاً لأنه كان بين ظَهراني قومه من غَطَفان إلى جانب فَدك إلى أرض يقال لها أُوارة. فنزل بها عروةُ فشرب من الخمر وغنّته قَيْنة ثم قام فنام. فجاء البرَاض فدخل عليه فناشده عُروة وقال: كانت مني زلّة وكانت الفعلة مني ضلّة. فقتله وخَرج يرتجز ويقول: هلا على غيري جعلتَ الزلّة فسوف أَعْلو بالحُسام القُلّة. وقال: وداهية يُهال الناس منها شددتُ لها بني بَكْر ضُلوعِي هَتكتُ بها بيوتَ بني كلاَبِ وأَرضعتُ الموالي بالضُّروع جمعتُ له يديَّ بنَصَل سَيفَ أفلّ فخرّ كالجذْع الصرَّيعِ واستاق اللَطيمة إلى خَيبر. وأتبعه المُساور بن مالك الغَطَفانَي وأسد بن خيْثم الغَنوى حتى دخل خَيبر. فكان البرّاض أولَ مَن لَقِيهما فقال لهما مَن الرجلان قالا: من غَطفان وغَنيّ. قال البرّاض: ما شأن غَطَفان وغنىّ بهذه البلدة قال: ومَن أنت قال: من أهل خَيبر. قالا: ألك عِلْم بالبرّاض قال: دَخل علينا طريداً خليعاً فلم يُؤْوِه أحد بخَيبر ولا أَدخله بيتاً. قالا: فأين يكون قال: وهل لكما به طاقةٌ إن دللتكما عليه قالا: نعم. قال: فانزلا. فنزلاً وعَقلاً راحلتَيْهما. قال: فأيّكما أجرأ عليه وأمضى مَقْدماً وأحدّ سيفاً قال الغَطفاني: أنا. قال البرَّاض: فانطلقْ أدلُّك عليه ويحفظ صاحبُك راحلتيكما. ففَعل. فانطلق البرَّاض يَمشي بين يدي الغَطفانيّ حتى انتهى إلى خَربة في جانب خَيبر خارجة عن البيُوت. فقال البرَّاض: هو في هذه الخَرِبة وإليها يَأْوي فأَنظرني حتى أنظرُ أثمَّ هو أم لا. فوقف له ودخل البرّاض ثم خرج إليه وقال: هو نائم في البَيت الأقصى خلفَ هذا الجدار عن يمينك إذا دخلت فهل عندك سيفٌ فيه صرامة قال: نعم. قال: هاتِ سَيفك أنظرُ إليه أصارم هو فأعطاه إياه. فهزِّه البرّاض ثم ضَربه بن حتى قَتله ووضع السيفَ خلفَ الباب وأقبل على الغنويّ فقال: ما وراءك قال: لم أَرَ أجبنَ من صاحبك تركته قائماً في الباب الذي فيه الرجل والرجلُ نائم لا يتقدم إليه ولا يتأخَر عنه. قال الغنويّ: يا لَهْفاه لو كان أحد ينظرُ راحلتَينا قال البراض: هما علي إن ذهبت. فانطلق الغنويُّ والبراض خلفه حتى إذا جاوز الغنويّ بابَ الخَرِبة أخذ البرَّاض السيفَ من خلف الباب ثم ضرَبه حتى قتله وأخذ سِلاحَيهما وراحلتيهما ثم انطلق. وِبلغ قريشاً خبرُ البرَّاض بسُوق العكاظ فخَلصوا نَجِيَّاً. وأتبعتهم قَيس لمّا بلغهم أن البرَّاص قتل عُروة الرحَّال وعلى قيس أبو بَراء عامر بن مالك. فأدركوهم وقد دخلوا الحرم ونادَوْهم: يا معشر قريش إنَّا نُعاهد الله أن لا نُبطل دم عُروة الرحَّال أبداً ونقتل به عظيماً منكم وميعادنا وإيّاكم هذه الليالي من العام المُقبل. فقال حرب بنُ أُمية لأبي سفيان ابنه: قل لهم: إنّ موعدكم قابِل في هذا اليوم. فقال خِداشُ بن زُهير في هذا اليوم وهو يوم نَخلة: يا شدَةً ما شدَدْنا غَيرَ كاذبةٍ على سَخِينةً لولا البيت والحَرمُ واستُقبلوا بضِراب لا كِفاءَ له يُبْدِي من العُزل الأكفال ما كَتموا ولَوا شلالاً وعُظمُ الخيل لاحقة كما تَخُب إلى أوطانها النَّعَم ولَت بهم كل مِحْضارٍ مُلَمْلمةٌ كأنَّها لِقْوة يَحْتثها ضَرَم وكانت العرب تسمي قريشاً سَخِينة لأكلها السُّخن. يوم شمطَة وهي من الفِجار الآخر ويوم نخلة منه أيضاً. قال: فجمعت كنانة قُريشها وعبد منافها والأحابيشومَن لحق بهم من بني أسد بن خُزيمة. وسلَّحَ يومئذ عبد الله بن جُدعان مائة كَمِيّ بأداة كاملة سِوى من سُلّح من قومه. والأحابيشُ بنو الحارث بن عبد مَناة بن كِنانة: قال: وجمعت سليم وهوازن جموعَها وأحلافها غير كِلاب وبني كعب فإنهما لم يشهدا يوماً الفِجار غيرَ يوم نَخلة فاجتمعوا بشْمطة من عُكاظ في الأيام التي تواعدوا فيها على قَرن الحَول وعلى كل قَبيلة من قريش وكِنانة سيِّدها وكذلك على قبائل قيس غير أن أمر كِنانة كلها إلى حَرْبِ بن أمية وعلى إحدى مُجنَّبَتها عبد الله بن جُدعان. وعلى الأخرى كريز بن ربيعة وحَرب بن أمية في القلب وأمرُ هوازن كُلها إلى مسعود بن معتب الثّقفي. فتناهض الناس وزَحف بعضهم إلى بعض فكانت الدائرة في أول النهار لكِنانة على هَوازن حتى إذا كان آخرُ النهار تداعت هَوازن وصابرت وانقشعت كنانة فاستحرَّ القتلُ فيهم فقُتل منهم تحت رايتهم مائة رجل وقيل ثمانون. ولم يُقتل من قُريش يومئذ أحدٌ يذكر. فكان يوم شَمطة لهوازن على كنانة. ثم جَمع هؤلاء وأولئك فالتقوا على قَرن الحَوْل في اليوم الثالث من أيام عُكاظ والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا في يوم شَمطة وكذلك على المُجَنَبتين فكان هذا اليوم أيضاً لهَوازن على كنانة وفي ذلك يقول خِداش بن زُهير: ألم يَبْلغك ما لقيتْ قُريش وحيّ بني كنانة إذ أُبِيروا دَهمناهم بأرعَن مُكفهرّ فظلّ لنا بِعَقْوتهم زَئِير وفي هذا اليوم قتل العوَامِ بن خُويلد والد الزُّبير بن العوَّام قتله مُرَّة ابن مُعتِّب الثقفيّ فقال رجل من ثقيف: منَا الذي ترك العوَّام مُنْجدلاً تَنتابه الطيرُ لحماً بين أَحجارِ يوم شَرَب ثم جمع هؤلاء وأولئك فالتقوا على قَرن الحَوْل في الثالث من أيام عُكاظ فالتقوا بشَرب ولم يكن بينهم يومٌ أعظم منه. والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا وكذلك على المُجنّبتين. وحَمل ابنُ جُدْعان يومئذ مائة رجل على مائة بعير ممَّن لم تكن له حَمولة فالتقوا. وقد كان لهوازن على كِنانة يومان مُتواليان: يوم شمطة ويوم العَبْلاء. فحميت قُريش وكنانة. وصابرت بنو مَخزوم ألا للهّ قومٌ و لدتْ أُختُ بني سَهْم هشامٌ وأبو عَبد مَنافٍ مِدْره الخَصْم وذو الرُّمحين أشبال مِن القُوَّة والحَزم فهذان يذُودان وذا مِنْ كَثَب يَرْمي وأبو عبد مناف: قُصي وهشام: ابن المُغيرة وذو الرُّمحين: أبو ربيعة بن المُغيرة قاتل يوم شرَب برُمحين وأمهم رَيطة بنت سَعيد بن لسَهْم. فقال في ذلك جَذْل الطعان: جاءت هوازنُ أرسالاً وإخوتها بنو سلَيم فهابوا المَوتَ وانصرفوا فاستُقبلوا بضرِابٍ فَضَّ جَمْعَهم مثلَ الحريق فما عاجُوا ولا عَطَفوا يوم الحرَيرة قال: ثم جمع هؤلاء وأولئك ثم التقَوْا على رأس الحَوْل بالحُريرة وهي حَرَّة إلى جَنب عُكاظ. والرؤساء على هؤلاء وأولئك هم الذين كانوا في سائر الأيام وكذلك على المُجنَّبتين إلا أنّ أبا مُساحق بَلْعاء بن قَيس اليَعْمُري قد كان مات. فكان من بعده على بكر بن عبد مَناة بن كِنانة أخوه حُثامة بن قَيس. فكان يوم الحُريرة لَهوازن على كِنانة وكان آخر الأيام الخَمسة التي تزاحفوا فيها. قال: فقُتل يومئذ أبو سفيان بن أُمية أخو حَرْب بن أمية. وقُتل من كِنانة ثمانيةُ نَفر قتلهم عثمانُ بن أُسيد بن مالك صت بني عامر ابن صَعْصعة. وقُتل أبو كَنَف وابنا إياس وعمرو بن أيوب. فقال خِدَاشُ بن زهير: إنّي مِن النَّفر المُحْمَر أَعْينهمِ أهل السوام وأهل الصَخر واللُّوبِ الطاعِنين نُحورَ الخَيل مُقْبِلةَ بكل سَمْراء لم تُعْلب ومَعْلوب وقد بلوتُم فأبلوكم بلاءَهم يوم الحُريرة ضرباً غير مَكذوب لاقتْهمُ منهمُ اسادُ مَلْحمة ليسوا بزارعة عُوج العَراقيب فالآن إن تُقْبلوا نأخذ نحورَكم كان تباهوا فإني غيرُ مَغلوب تركتُ الفارسَ البَذّاخ منهم تَمُجّ عروقُه عَلقاً غبيطا دعستُ لبانَه بالرُّمح حتى سمعتُ لِمَتْنه فيه أطيطا لقد أرديتَ قومَك يا بنَ صَخْر وقد جَشًمتهم أمراً سَلِيطاً وكم أسلمتُ منكم من كميِّ جريحاً قد سمعت له غَطِيطاً مضت أيام الفجار الأخر وهي خمسةُ أيام في أربعة سنين أولها يوم نَخلة ولم يكن لواحد منهما على صاحبه ثم يوم شَمطة لهوازن على كنانة وهو أعظم أيامهم ثم يوم العَبْلاء ثم يوم شَرب وكان لكنانة على هوازن ثم يوم الحُريرة لهوازن على كنانة. قال أبو عُبيدة: ثم تداعى الناس إلى السلم على أن يَذروا الفضلَ ويَتعاهدوا ويتواثقوا. يوم عين أباغ وبعده يوم ذي قار قال أبو عُبيدة: كان ملكَ العرب المُنذر الأكبر بنُ ماء السماء ثم مات. فملك ابنهُ عمرو بن المُنذر وأُمّه هند وإليه يُنسب. ثم هلك فَمَلك أخوه قابوس. وأمه هِنْد أيضاً فكان مُلكه أربعَ سنين. وذلك في مَملكة كِسْرى ابن هُرمز. ثم مات فملك بعده أخوه المُنذر بن المنذر بن ماء السماء وذلك في مَملكة كِسرى بن هُرمز. فغزاه الحارث الغساني وكان بالشامِ من تحت يد قَيصر فالتقوا بعَينْ أَباغ فقُتل المنذر. فطلب كسرى رجلاً يجعله مكانه. فأشار إليه عديّ بن زيد - وكان من تَراجمة كِسْرى - بالنّعان بن المنذر وكان صديقاً له فأَحبّ أنْ يَنفعه وهو أصغر بني المنذر بن ماء السماء فولاّه كِسْرى على ما كان عليه أبوه. وأتاه عديّ بن زيد فمكّنه النعمان. ثم سَعى بينهما فَحبسه حتى أتى على نَفسه وهو القائل: أبلغ النعمان عني مَالُكا أنّه قد طال حَبَسي وانتظاري لو يغير الماء حَلْقي شَرِق كنتَ كالغصّان بالماء اعتصاري وعِداتي شُمَّت أَعْجبهمِ أنّني غُيِّبت عنهم في إسارِي لامرئ لم يَبْل مني سَقْطةَ إن أصابَتْه مُلِمّات العِثارِ فلئن دَهْرٌ تولّى خَيرُه وجَرت بالنَّحس لي منه الجَواري لَبِما مِنه قَضَينا حاجةً وحياةُ المَرء كالشيء المُعار فلما قَتل النعمانُ عديّ بن زَيد العبَاديّ وهو من بني امرئ القيس بن سَعد بن زيد مَناة بن تميم سار ابنُه زيد بن عديّ إلى كسرى فكان من تَراجمته. فكاد النعمانُ عند كِسرى حتى حمله عليه. فهرب النعمانُ حتى لحق ببني رَواحة من عَبْس واستعمل كِسرى على العرب إياسَ بنَ قَبيصة الطائي. ثم إنّ النعمان تجوَّل حِيناً في أحياء العرب ثم أشارت عليه امرأتُه المُتجرّدة أنْ يأتي كسرى ويعتذرَ إليه ففعل. فَحبسه بساباط حتى هلك ويقال: أوْطأه الفيلة. وكان النعمانُ إذا شَخِص إلى كسرى أودع حَلْقته وهي ثمانمائة دِرْع وسلاحاً كثيراً هانئ بنَ مسعود الشّيباني وجعل عنده ابنته هندَ التي تُسمّى حُرَقة. فلما قُتل النعمان قالت فيه الشعراء. فقال فيه زُهير بن أبي سُلْمى المزنيّ: ألم تَر للنُّعمان كان بنَجْوةٍ من الشرِّ لو أَنّ امرأَ كان باقيَا فلم أرَ مَخذولاً له مثلُ مُلْكه أقلَّ صديقاً أو خليلا مُوافيا خلا أنَّ حيا من رَوَاحة حافظوا وكانوا أُناساً يَتَّقون المَخازيا فقال لهم خيراً وأَثنى عليهمُ ووَدّعهم تَوديع أنْ لا تَلاقيا يوم ذي قار قال أبو عُبيدة: يوم ذي قار هو يوم الحِنْو ويوم قُراقر ويوم الجبابات ويوم ذات العَجرم ويوم بَطحاء ذي قار وكُلّهن حَوْل ذي قار وقد ذكرتْهن الشعراء. قال أبو عُبيدة: لم يكن هانئ بن مَسعود المُستودع حلقة النًّعمان وإنما هو ابنُ ابنه واسمه هانئ بن قَبيصة بن هانئ بن مَسعود لأن وَقعة ذي قار كانت وقد بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم وخبّر أصحابَه بها فقال: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نُصروا. فكتب كسرى إلى إياس بنِ قَبيصة بأمره أن يَضُم ما كان للنُّعمان. فأَبى هانئ بن قَبيصة أن يُسلم ذلك إليه فغضب كسرى وأراد استئصال بَكْر بن وائل. وقَدِم عليه النَّعمانُ بن زُرْعة التَّغلبيّ وقد طمع في هلاك بكر بن وائل فقال: يا خير الملوك ألا أدلّك على غِرَّة بكر قالَ: بلى. قال أقِرَّها وأظْهر الإضراب عنها حتى يُجْليها القَيظ ويُدنيها منك فإنهم لو قاظُوا تساقطوا بماء لهم يقال له ذو قار تساقطَ الفَراش في النار فأقرَّهم حتى إذا قاظوا جاءت بكرُ بن وائل حتى نزلوا الحِنْو حِنْو ذي قار فأرسل إليهم كِسْرى النعمانَ بن زُرعة يُخيّرهم بين ثلاث خصال: إما أن يُسلموا الحَلْقة وإما أن يُعرو الدِّيار. وإما أن يَأْذنوا بحَرب. فتنازعتْ بكرُ بينها. فهَمَّ هانئ بن قَبيصة برُكوب الفلاة وأشار به على بَكْر وقال: لا طاقَة لكم بجمُوع الملك. فلم تُرَ من هانئ سقطةٌ قبلها. وقال حِنظلةُ ابن ثَعلبة بن سيّار العِجْليّ: لا أرى غير القتال فإنّا إن رَكبنا الفلاة مِتْنا عَطشا وإن أعطينا بأيدينا تقتل مُقاتلتُنا وتُسبى ذرارينا. فراسلت بكر بينها وتوافت بذي قار ولم يَشْهدها أحد من بني حَنيفة. ورؤساء بني بكر يومئذ ثلاثة نفر: هانئ بن قَبيصة ويزيد بن مُسْهر الشَّيباني وَحنظلة بن ثَعلبة العِجْتي - وقال مِسْمع بن عبد الملك العِجْلي بن لُجيم بن صَعْب بن عليّ بن بكر بن وائل: لا والله ما كان لهم رئيس وإنما غُزوا في ديارهم - فثار الناسُ إليهم من بيوتهم. وقال حَنظلة بن ثعلبة في هانئ بن قَبيصمة: يا أبا أمامة إنّ ذمّتنا عامّة وإنه لن يُوصل إليك حتى تفَنى أرواحنا فأخْرج هذه الحلقة ففرِّقها في قومك فإن تَظفر فستردّ عليك وإن تَهْلِك فأهونُ مَفقود. فأمر بها فأُخرجت وفُرِّفت بينهم وقال للنعمان: لولا أنك رسول ما أُبتَ إلى قومك سالماً. قال أبو المُنذر: فعقد كِسْرى للنعمان بن زُرعة على تَغلب والنّمِر وعقد لخالد بن يزيد البَهرانيّ على قُضاعة وإياد وعَقد لإياس بن قَبيصة على جَميع العَرب ومعه كَتيبتاه الشَّهباء والدَّوْسر وعقد للهامَرْز التُّسْتَريّ وكان على مسلّحة كِسرى بالسواد على ألف من الأساورة. وكتب إلى قَيس بنِ مَسعود ابن قَيس بنِ خالد ذي الجَدّين وكان عاملَه على الطَّف طفّ سَفَوان. وأمره أن يُوافيَ إياس بن قَبيصة ففعل. وسار إياس بمَن معه من جُنده من طيىء ومعه الهامَرْز والنّعمان بن زُرعة وخالد بن يَزيد وقَيْس بن مَسْعود كُل واحد منهم على قومه. فلما دنا من بَكر انسل قيسٌ إلى قومه ليلاً فأتى هانئاً فأشار عليهم كيف يصنعون وأمرهم بالصبر ثم رجع. قلما التقى الزَّحْفان وتقارب القومُ قام حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العِجْلي فقال: يا معشر بكر إنّ النّشّاب التي مع هؤلاء الأعاجم تُفرقكُم فعاجلوا اللقاء وابدءوا بالشدَّة. وقال هانئ بن مَسعود: يا قوم مَهلك مَعْذور خير من مَنْجى مَغرور. إن الجَزع لا يردّ القَدر وإن الصبر من أسباب الظّفر. المنيّة خير من الدنيّة واستقبال الموت خير من استدباره. فالجِدّ الجِد فما من الموت بُد. ثم قام حنظلة بن ثعلبة فقَطع وُضُن النِّساء فسقطْنَ إلى الأرض وقال: ليقاتل كُل رجل منكم عن حَليلته فسُمَي مُقَطّع الوُضُن. قال: وقَطع يومئذ سبعُمائة رجل من بني شَيبان أيديَ أَقْبيتهم من مناكبها لتخف أيديهم لضَرب السُّيوف. وعلى ميمنتهم بكرُ ابن يزيد بن مُسهر الشّيباني وعلى مَيْسرتهم حَنظَلة بن ثعلبة العِجْلي وهانئ بن قَبيصة. ويقال: ابنُ مَسعود في القَلب. فتجالد القومُ وقَتل يزيدُ بن حارثة اليشكري الهَامَرز مُبارِزه ثم قُتل يزيد بعد ذلك. ويقال إنَّ الحَوفزان بن شريك شد على الهامَرْز فقَتله. وقال بعضُهم: لم يُدرك الحَوفزان يوم ذي قار وإنما قتله يزيدُ بن حارثة. وضرب الله وُجوهي الفُرس فانهزموا فأَتبعهم بكر حتى دخلوا السّواد في طلبهم يَقْتلونهم. وأُسر النّعمان بن زُرعة التّغلَبي ونجا إياسُ بن قبيصة على فرسِه الحَمامة فكان أولَ من انصرِف إلى كسرى بالهزيمة إياسُ بن قَبيصة وكان كِسرى لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتِفه. فلما أتاه ابن قَبيصة سأله عن الجيش. فقال: هَزمنا بكر بن وائل وأتيناك ببناتهم. فأعجب بذلك كِسْرى وأمر له بكسوة ثم استأذنه إياس وقال: إن أخي قيس بن قبيصة مريض بعين التّمر فأردتُ أن آتيَه. فأذن له. ثم أَتى كِسْرى رجل من أهل الحِيرة وهو بالخَوَرْنق فسأل: هل دَخل على الملك أحدٌ فقالوا: إياس فظَنّ أنه حدّثه الخَبر فدَخل عليه وأَخبره بهزيمة القوم وقَتْلهم. فأَمر به فنُزعت كَتِفاه. قال أبو عُبيدة: لما كان يوم ذي قار كان في بَكْر أسرى من تَميم قريباً من مائتي أَسِير أكثرهم من بني رِيَاح بن يَرْبوع. فقالوا: خَلُّوا عنّا نُقاتلْ معكم فإنما نَذُب عن أَنفسنا. قالوا: فإنا نخاف ألا تناصحونا. قالوا: فدعونا نُعلم حتى تروا مكاننا وغَناءنا فذلك قولُ جرير: منّا فوارسُ ذي بهْدِي وذي نَجَب والمُعْلَمِون صباحاً يوم ذِي قار قال أبو عُبيدة: سُئل عمرو بن العلاء وتَنافر إليهِ عِجْليّ ويَشكري فزعم العِجْليّ أنه لم يَشهد يومَ ذي قار غيرُ شيبانيّ وعِجْلي. وقال اليَشكريّ: بل شهدتْها قبائلُ بكر وحُلفاؤهم. فقال عمرو: قد فَصل بينكماَ التّغلَبيّ حيث يقول: في غَمرة الموتِ التي لا تَشتَكي غمراتِها الأبطالُ غير تَغَمْغم وكأنما أقدامهم وأكفُّهم سِرْب تَساقَط في خَليج مُفْعم لمَّا سمعتُ دُعاء مُرَّة قد عَلا وابني رَبيعة في العَجاج الأَقتم ومحلم يَمْشون تحت لوِائهم والموتُ تحت لواء آل مُحلِّم لا يَصْدفون عن الوغى بوجوههم في كُل سابغةٍ كلون العِظْلم ودَعَت بنو أُم الرِّقاع فأقبلوا عند الِّلقاء بحَل شاكٍ مُعْلم وسمعتُ يَشْكر تدّعي بخُبَيِّب تحت العجَاجة وهي تَقْطُر بالدّم يَمْشون في حَلق الحديد كما مَشت أُسْد العَرين بيوم نَحْس مُظْلم والجَمع من ذُهل كأنّ زُهاءهمِ جُرد الجمال يَقودها ابنا قَشْعم والخَيل من تحت العجاج عوابساً وعلى سنَابكها مناسج من دَم وقال العُديل بن الفُرْخ العِجْليّ: ما أَوقد الناس من نار لمَكْرُمة إلا اصطَلينا وكُنّا موقدي النّارِ ومن نائب الملك ومن الرئيس فهو إذا كان لهم كانت الرياسة لهانئ وكان حَنظلة يُشير بالرأي. وقال شاعرهم: إنْ كُنت ساقيةً يوماً ذوي كَرم فاسقي الفوارِسَ من ذُهلِ بنِ شَيبانَا واسقي فوارسَ حامُوا عن ذِمارهم واعلي مفارقَهم منسْكاً ورَيْحانا وقال أعشي بكر: أمّا تميمٌ فقد ذاقتْ عداوتَنا وقيسَ عَيلان مَسَّ الخِزْيُ والأسَفُ وجُند كِسْرى غداة الحِنْو صَبَّحهم منّا غَطاريف تُزجي الموتَ فانْصرفوا لَقُوا مُلَمْلَمةَ شَهْبَاء يَقْدمها للموتِ لا عاجزٌ فيها ولا خَرِف فَرْعٌ نَمَتْهُ فُروع غيرُ ناقصةٍ مُوفَّق حازمٌ في أمره أُنف فيها فوارسُ محمود لقاؤهمُ مِثْل الَأسنَّة لا مِيل ولا كُشف بِيضُ الوُجوهِ غداةَ الروع تَحْسَبهم جِنَّان عَبْس عليها البَيْض والزَّغَف لما التقينا كَشَفْنا عن جَماجمنا لِيَعْلَموا أننا بَكْرٌ فينْصَرفوا قالوا البقيَّةَ والهِنْديُ يحْصدهم ولا بقيَّةَ إلا السيف فانكَشفوا إذا عَطْفنا عليهم عَطْفَةً صَبَرتْ حتى تولَّت وكاد اليومُ يَنْتَصف بطارق وبنو مُلْك مرازبة من الأعاجم في آذانها النَّطف مِنْ كل مَرْجانة في البحر أحرَزها تيارُها ووقاها طينَها الصّدَف كأنما الآلُ في حافاتِ جَمْعهم والبِيض بَرْق بدا في عارضٍ يَكِف ما في الخُدود صدود عن سيُوفهم ولا عن الطَّعْنِ في الَّلبَّات مُنْحَرف وقال الأعشىَ يلوم قَيسَ بن مسعود: أقَيسَ بنَ مَسْعود بنِ قيس بنِ خالد وأنت أمرؤٌ تَرْجو شبابك وائلُ أَطوْرَيْن في عام: غزَاة ورحلة ألا ليت قيْساً غَرَّفَتْه القوابل لقد كان في شَيبان لو كنتَ راضياً قِبابٌ وحيٌّ حِلَّة وقَنابل ورَجْراجة تُعْشي النواظرَ فَحْمةٌ وجُرْد على أكتافهنَّ الرَّواحل رحلتَ و تَنْظُر وأنت عميدُهم فلا يَبْلغنَي عنك ما أنت فاعل وعُرِّيت من أهل ومالٍ جمعتَه كما عُرِّيَتْ مما تُمِرُّ المَغازل ولما بلغ كسرى خبرُ قيس بن مَسعود إذ انسل إلى قومه حَبسه حتى مات في حَبْسه. وفيه يقول الأعشى: وعُرِّيت من أهل ومال جَمعتَه كما عُرِّيت مما تُمِرّ المغازلُ وكتب لَقيطٌ الإياديّ إلى بني شَيبان في يوم ذي قار شعراً يقول في بَعضه: قُوموا قياماً على أمشاط أرجلِكم ثم أفزعوا قد يَنالُ الأمنَ من فَزِعا وقَلِّدوا أمرَكم للّه دَرُّكم رَحْبَ الذِّراع بأمر الحرب مُضطلعا لا مُترَفاً إنْ رخاءُ العيش ساعدَه ولا إذا عَض مكروهٌ به خَشَعا ما زال يَحْلُب هذا الدهرَ أشْطُرَه يكون مُتَبَعاً طوراً ومُتَبِعا حتى اْستمرّت على شَزْر مَريرتُه لا مُسْتحكمَ الرأي لا قَحْماً ولا ضَرعا وهذه الأبيات نظير قول عبد العزيز بن زُرَارة: قد عِشتُ في الدهر أطواراً على طُرق شتى فصادفت منه اللينَ والفَظَعا كُلاَّ بلوتُ فلا النعماءً تُبطرني ولا تَخشّعت من لأوائه جَزعا لا يملأ الأمرُ صدري قبلَ موقعه ولا أضيق به ذرْعاً إذا وَقعا |
كتاب الزمردة الثانية في فضائل الشعر قال الفتيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه رحمه اللّه: قد مَضى قولُنا في أيام العرب ووقائعها وأخبارها ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في فضائل الشعر ومَقاطعه ومَخارجه إذ كان الشعر ديوانَ العرب خاصة والمنظومَ من كلامها والمقيِّدَ لأيامها والشاهد على أحكامها. حتى لقد بلغ من كَلَف العرب به وتَفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تَخيَّرتها من الشعر القديم فكتبتها بماء الذهب في القبَاطيّ المُدرجة وعَلِّقتها بين أستار الكعبة. فمنه يقال: مذهَّبة امرئ القيس ومُذَهَّبة زُهير. والمذَهبات سبع وقد يقال لها المُعَلقات. قال بعضُ المحدثين يصف قصيدةً له ويُشبهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت: بَرْزة تُذكر في الحُس ن من الشعر المعلق كل حَرْف نادرٍ من ها له وجهٌ معشق المعلقات لامرئ القَيس: قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل. أمن أم أوفى دِمْنة لم تكلم ولطَرَفة: لِخَوْلة أطلالٌ ببرقة ثَهمد ولعَنترة: يا دارَ عَبلة بالجواء تكلمي ولعمرو بن كُلْثوم ألا هُبِّي بصحنك فاصْبحينا وللَبيد: عفَت الدِّيار محلها فمقامها وللحارث بن حِلَّزة: آذَنَتْنا ببَيْنها أسماء اختلاف الناس في أشعر الشعراء قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم وذُكر عنه امرؤ القيس بن حُجْر: هو قائد الشعراء وصاحبُ حلفتُ فلم اتركْ لنَفْسك رِيبةً وليس وراء الله للمرءِ مَذْهَبُ قالوا: نابغة بني ذُبيان. قال لهم: فمن الذي يقول هذا الشعر: أتيتُك عارياً خَلَقاً ثِيابي على وَجَل تُطَنُّ بيَ الظُنونُ فألفيت الأَمانةَ لم نَخنها كذلك كَان نُوح لا يَخون قالوا: هو النابغة. قال: هو أشعرُ شُعرائكم. وما أحسب عُمر ذهب إلا إلى أنه أشعرُ شُعراء غَطفان: ويَدُل على ذلك قوله: هو أشعرُ شُعرائكم. وقد قال عمر لابن عَباس: أنشدني لأشعر الناس الذي لا يُعاظِل بين القوافي ولا يَتَتَبَّع حُوشيّ الكلام. قال: مَن ذلك يا أمير المؤمنين قال: زُهير بن أبي سُلْمى. فلم يَزل يُنشده من شعره حتى أصبح. وكان زُهير لا يَمدح إلا مُستحقّاً كمدحه لِسنان بن أبي حارثة وهَرِم بن سِنان وهو القائِل: وانّ أشعر بيتِ أنتَ قائلُه بيتٌ يُقال إذا أنشدتَه صَدَقا وكذلك أحسنُ القول ما صدّقه الفعل قالت بنو تَميمٍِ لسَلامة بن جَندَل: مجدْنا بشعرك قال: افعلوا حتى أقول. وقيل للبيد: مَن أشعر الشعراء قال: صاحبُ القُروح - يريد امرأ القيس - قيل له: فبعده مَن قال: ابن العِشْرين - وقيل للحُطيئة: من أشعَر الناس قال: النابغة إذا رَهب وزُهير إذا رَغب وجَرير إذا غَضِب. وقال أبو عمرو بن العلاء: طرفة أشعرُهم واحدةً يعني قصيدته: لِخولة أطلالٌ بِبُرقة ثَهْمد وفيها يقول: ستُبدى لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ويَأتيك بالأخبار مَن لم تزوِّدِ وانشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا البيتَ فقال: هذا من كلام النُّبوة. وسمع عبد الله بن عمر رجلاً ينشد بيت الحُطيئة: مَتى تَأْتِه تَعْشُو إلى ضَوء نارِه تَجدْ خَيْرَ نارٍ عندها خيرُ موقِدِ فقال: ذاك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إعجاباً بَالبيت. يعني أنّ مثل هذا المَدح لا يَستحقّه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُئل الأصمعيّ عن شعر النابغة فقال: إنْ قلت ألينُ من الحرير صدقتَ وإن قلتَ أشدّ من الحديد صدقت. وسُئل عن شعر الجَعديّ فقال: مُطْرف بآلاف. وخِمار بواف. وسُئل حمَّاد الراوية عن شعر ابن أبي رَبيعة فقال: ذلك الفسِتق المُقشرّ الذي لا يُشبع منه. وقالوا في عمرو بن الأهتم: كان شعره حللاً مًنَشرَة. وسُئل عمرو بن العلاء عن جَرير والفَرزدق فقال: هما بازيان يَصيدان ما بين الفِيل والعَنْدبيل. وقال جرير: أنا مدينةُ الشعر والفَرزدقُ نَبْعته. وقال بلالُ بن جرير: قلت لأبي: يا أبت إنك لم تَهْج قوماً قطُّ إلا وضعتَهم إلا بني لَجأ. قال: إنّي لم أجد شرفاً فأضعَه ولا بناء فأهدمه. واختلف الناس في أَشعر نصف بَيت قالته العربُ. فقال بعضهم: قولُ أبي ذُؤيب الهُذلي: والدهرُ ليس بمُعتب من يَجْزَع وقال بعضهُم: قول حُميد بن ثَور الهِلاليّ: نوكّل بالأدنى وإن جَلَّ ما يَمضي وقال بعضهُم قول زُميل: ومَن يَكُ رهناً للحوادث يَغلق وهذا ما لا تُدرك غايته ولا يُوقف على حده. والشعر لا يفوت به أحد ولا يأتي له بديع إلا أتى ما هو أبدعُ منه وللّه دَرّ القائل: أشعر الناس مَن أبدع في شعره. إلا ترى مَروان بن أبي حَفصة على موضعه من الشعر وبُعد صِيته فيه ومَعرفته بغَثِّه وسَمِينه انشدوه لامرئ القَيس فقال: هذا أشعرُ الناس. وقد قالوا: إنَّ لحسَّان بن ثابت أفخِرَ بيت قالته العرب وأحكمَ بيت قالته العرب. فأما أفخر وبيوم بَدْرٍ إذ يرد وجوهَهم جِبريل تحت لِوائنا ومحمدُ وأما أحكم بيت قالته العرب فقوله: وإنَ امرأً أَمسى وأصبح سالماً من النَّاس إلا ما جَنى لسعيدُ وقالوا: أهجى بيت قالته العرب قول جرير: والتَّغْلبيّ إذا تَنَحْنح للقِرَى حكَّ آسْتَه وتمثَّلَ الأمْثَالاَ ولما قال جرير هذا البيت قال: والله لقد هجوتُ بني تَغلب ببيت لو طُعنوا في أستاههم بالرِّماحِ ما حكّوها. ويقال: إن أبدع بيت قالته العرب قولُ أبي ذُؤيب الهُذَليّ: والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبتها وإذا تُردُّ إلى قَليلٍ تَقْنعُ ويقال: إنَّ أصدق بيت قالته العرب قولُ لَبيد: ألاَ كُل شيءٍ ما خلا الله باطلُ وكُل نَعيم لا محالةَ زائلُ وذُكر الشعر عند عبد الملك بن مَروان فقال: إذا أردتُم الشعر الجيِّد فعليكم بالزُّرق من بني قيس بن ثَعلبة وهم رهط أعشى بَكْر وبأصحاب النِّخل من يَثرب يريد الأوس والخَزْرج وأصحاب الشَّعف من هُذيل والشَّعف: رءوس الجبال. ومن الدليل على عِظَم الشِّعر عند العرب وجليل خَطْبهِ في قلوبهم أنَّه لما بُعث النبيُ صلى الله عليه وسلم بالقرآن المُعجِز نظمه المُحكم تأليفه وأعجب قريشاً ما سمعوا منه قالوا: ما هذا إلا سِحْر. وقالوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم: " شَاعِرٌ نَتربصُ بهِ رَيْبَ المَنُون ". وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمرو بن الأهتم لمّا أعجبه كلامُه: إنَّ مِنِ البيان لَسِحْراً. لقد خشيت أن تَكون ساحرَاً روايةً مَرّاً ومراً شاعرَاً وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ من الشعر لحِكْمة. وقال كعبُ الأحبار: إنّا نَجد قوماً في التوراة أناجيلُهم في صُدورهم تَنطق ألسنتهم بالحِكْمة وأظنّهم الشُّعراء. وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه: أفضلُ صِناعات الرَّجل الأبيات من الشِّعر يُقدِّمها في حاجاته يَستعطف بها قلبَ الكريم ويستميل بها قلب اللئيم. وقال الحجَّاج للمُساور بن هند: ما لك تقول الشعرَ وقد بلغتَ من العُمر ما بلغتَ قال. أرعى به الكلأ وأشرب به الماء وتقضي لي به الحاجة فإن كفيتَني ذلك تركتهُ. وقال عبدُ الملك بن مروان لمؤدِّب ولده: روَهم الشِّعر يَمْجدوا ويَنْجدوا. وقالت عائشة: روُّوا أولادَكم الشعرَ تعذُب ألسنتهم. وبعث زياد بولده إلى معاوية فكاشفه عن فنون منِ العِلم فوجده عالماً بكل ما سأله عنه. ثم أستنشده الشعر فقال: لم أَرْوِ منه شيئاً. فكتب معاويةُ إلى زياد: ما منَعك أن تُرَوِّيه الشعر فوالله إن كان العاقّ لَيَرْويه فَيبرّ وإن كان البخيل لَيَرْويه فيسخُو وإن كان الجبان لَيَرْويه فيقاتل. وكان علي رضي الله عنه إذا أراد المُبارزة في الحرب أنشأ يقول: أيّ يوميّ من المَوتِ أفرّ يومَ لا يُقدر أم يوم قَدِرْ يومَ لا يُقدر لا أَرْهَبه ومِن المَقدور لا يَنجو الحَذِر وقال المقداد بن الأسود: ما كنتُ أعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بشِعر ولا فَريضة من عائشة رضي الله عنها. وفي رواية الخُشَنِيّ عن أبي عاصمٍ عن عبد الله بن لاحق عن ابن أبي مُليكة قال: قالت عائشة: رحم الله لَبيداً كان يقول: قَضِّ اللُبانةَ لا أبالك وأذهبِ والحق بأسرتك الكِرام الغُيَّبِ ذهب الذين يُعاش في أكنافهم وبقيتُ في خَلف كجِلْدِ الأجرب فكيف لو أدرك زَماننا هذا! ثم قالت: إني لأروي ألفَ بيت له وإنه أقلُّ ما أروي لغيره. وقال الشَعبيّ: ما أنا لشيء من العِلم أقلّ مني روايةً للشِّعر ولو شئتُ أن أنشد شعراً شهراً لا أعيد بيتاً لفعلت. وسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم عائشة وهي تُنشد شعر زُهير بن جَناب: أرفَعْ ضعيفَك لا يَحُر بك ضعْفهُ يوماً فتُدركَه عواقبُ ما جَنَى فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: صدق يا عائشة لا يشكر الله مَن لا يشكر الناس. يزيد بن عمرو بنِ مسلم الخُزاعي عن أبيه عن جَدّه قال: دخلتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ومُنشد يُنشده قول سُويد بن عامر المصطلق: لا تأمنَن وإن أمسيتَ في حَرَمٍ إنَّ المَنايا بجَنْبي كُل إِنْسانِ فاسلُك طريقَك تَمْشي غير مُخْتَشع حتى تلاقِي الذي مَنَّى لك الماني فكل ذي صاحب يوماً مُفارقهُ وكُلّ زادٍ وإنّ أبقيته فاني والخيرُ والشرُّ مَقْرونان في قَرَن بكُل ذلك يأتيك الجَدِيدان فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لو أَدرك هذا الإسلام لأسلم. أبو حاتم عن الأصمعي قال: جاء رجُل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك يا رسول اللّه قال: نعم. فأنشده: تركتُ القِيان وَعزْف القِيان وأدمنتُ تَصليةً وابتهالا وكَرِّي المُشقَّر في حَوْمة وشَنِّي على المُشْركين القِتالا فيا ربّ لا أغبننْ صفقتيَ فقد بِعْت مالي وأهلي بدالا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: رَبح البَيع ربح البيع. قدم أبو ليلى النابغة الجَعديّ على بَلَغنا السماءَ مجدنا وسناؤنا وإِنا لَنرجو فوق ذلك مَظْهَرَا فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: إلى أين يا أبا ليلى فقال: إلى الجنة يا رسول الله بك. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إلى الجنة إن شاء اللّه: فلما انتهى إلى قوله: ولا خير في حِلم إذا لم تَكُن له بوادرُ تَحْمِي صَفْوه أن يُكَدَّرا ولا خيرَ في جَهل إن لم يكُن له حَلِيم إذا ما أورد الأمرُ اصدرَا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا يفْضض الله فاك. فعاش مائةً وثلاثين سنة لم تَنْغُض له ثنية. سفيان الثّوري عن لَيث عن طاووس عن ابن عباس قال: إنها لكَلمة نبيّ. يَعني قولَ طرفة: ستُبدي لك الأيامً ما كنت جاهلاً وَيأتيك بالأحبار مَن لم تُزودِ وسمع كعب قولَ الحُطيئة: مَن يفعل الخير لا يَعْدَم جَوازيه لا يذْهبُ العُرف بين الله والناس قال: إنه في التّوْراة حَرْفاً بحَرف: يقول اللّه تعالى: " مَن يفعل الخير يَجدْه عندي لا يذهب الخيرُ بيني وبينَ عبدي ". وقال عبد الله بن عبّاس: أنشدت النبيّ صلى الله عليه وسلم أبياتاً لأًمية بن أبي الصَّلت يذكر رَجُلٌ وثَورٌ تحتَ رِجْل يَمينه والنّسرِ للأخرى وليثٌ مُرْصَدُ والشمسُ تَطْلُع كُل آخر ليلةٍ فجراً ويُصبح لونُها يتوقد تبدو فما تبدو لهم في وَقْتها إلا مُعذِّبة وإلا تُجْلَد فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم كالمُصدِّق له. ومن حديث ابن أبي شَيْبة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أردف الشريد فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: تَرْوي من شِعر أُمية بن أبي الصَّلت شيئاً قلتُ: نعم. قالت: فأنشِدني. فأنشدته. فجعل يقول بين كل قافيتين: هيه حتى أنشدتُه مائة قافية. فقال: هذا رجل آمن لسانه وكَفر قلبُه. ولو لم يكن من فضائل الشعر إلا أنه أعظم جُند يجنّده رسول الله صلى الله عليه وسلم على المُشركين يدُل على ذلك قولُه لحَسان: شُنَ الغَطاريف على بني عبد مناف فوالله لشعرك أشدُّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام: وتَحفظْ ببَيْتي فيهم. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيَّاً لأسُلّنّك منهم سَلّ الشّعرة من العجين. ثم أخرج لسانه فضرب به أَرنبة أَنفه وقال: والله يا رسولَ الله إنه ليخيّل لي أنّي لو وضعته على حَجر لفَلقه أو على شَعَر لحَلقه. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيد الله حسّاناً في هَجْوه برُوح القُدس. وقال ابن سيرين: بلغني أنّ دَوْساً إنما قَضينا من تِهامة كُلّ نحب وخَيْبر ثم أَغْمدنا السيوفَا نُخبِّرها ولو نَطقت لقالت قواضبُهنَّ دَوْساً أو ثَقِيفاً وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت لقد شكر الله لك قولَك حيثُ تقول: زعمتْ سَخينةُ أنْ ستغلب رَبَّها ولَيُغْلبنّ مُغالب الغَلاّبِ ولو لم يكن من فضائل الشّعر إلا أنّه أعظمُ الوسائل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك أنه قال لعبد الله بن رَواحة: أَخْبرني ما الشعرُ يا عبد الله قال: شيء يَختلج في صَدْري فيَنطق بهِ لساني. قال: فأَنْشِدني فأَنشده شعره الذي يقول فيه: فثبَّت الله ما آتاك مِنْ حَسَنِ فَفَوْتَ عيسى بإذْن الله والقَدَرِ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: وإياك ثَبَّت الله وإياك ثَبت الله ومِن ذلك ما رواه ابنُ إسحاق صاحب المَغازي وابنُ هشام. قال ابن إسحاق: لما نزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصفراء - قال ابنُ هشام: الاثيلِ - أمر عليَّاً فضرَب عنق النَضر بن الحارث بن كَلدة بن عَلْقمة بن عبد مناف صبراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت أُختُه قُتيلة بنت الحارث ترثيه: يا راكباً إنّ الأثيل مَظنّة من صُبحِ خامسة وأنت مُوفقُ مني عليك وعَبرة مَسْفوحة جادت بواكِفها وأًخرى تَخنُق هل يَسمعني النضرُ إن ناديتُه أم كيف يَسمع مَيت لا ينطق أمحمد يا خيرَ ضِنْء كَريمة في قَومنها والفحلُ فحلٌ مُعرق ما كان ضرك لو مَننت وربما مَنّ الفتى وهو المَغيظ المُحنق فالنضر أقربُ من أَسرت قرابةً وأحقُّهم إن كان عِتْق يُعتق ظَلّت سيوفُ بني أبيه تَنوشه للهّ أرحام هناك تمزق صبراً يُقاد إلى المنيّة مُتعباً رَسْفَ المُقيّد وهو عانٍ مُوثَق قال ابن هشام: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا بلغه هذا الشعر: لو بلغني قبلَ قتله ما قتلْتهُ. من حديث زياد بن طارق الجشميّ قال: حدّثني أبو جَرْول الجُشمي وكان رئيس قومه قال: أَسَرَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم حُنين فبينما هو يُميز الرجال من النساء إذ وثبتُ فوقفتُ بين يديه وأنشدته: امنُن علينا رسولَ الله في حُرَم فإنك المرءُ نرجوه ونَنتظر امنُن على نِشوة قد كنتَ تَرْضعها يا أَرجح الناس حِلْماً حين يُخْتبر فذكَّرته حين نشأ في هوازن وأرضعوه. فقال عليه الصلاةُ والسلام: أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو للّه ولكم. فقالت الأنصار: وما كان لنا فهو للّه ولرسوله. فردّت الأنصار ما كان في أيهديها من الذَّراري والأموال. فإذا كان هذا مَقامِ الشعر عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فأي وسيلة تَبلغه أو تعْشره. وكان الذي هاج فتْح مكة أنّ عمرو بن مالك الخْزاعِيّ أحدَ بني كَعب خَرج من مكة حتى قَدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكانت خُزاعة في حِلْف النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي عهده وعَقْده فلمّا انتقضت عليهم قريش بمكة وأصابوا منهم ما أصابوا أقبل عمرو بنُ مالك الخُزاعيّ بأبيات قالها. فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال: يا رب إنّي ناشدٌ مُحمدَاً حِلْفَ أَبينا وأَبيه الأتْلدَا قد كنتُم وُلْداً وكُنّا وَلدا ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك الموكدا وجعلوا لي في كَداء رَصداً وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذلّ وأقل عدداً هُم بيّتونا بالوتير هُجَّدا وأدْع عبَاد الله يأتوا مَدَدا فيهِم رسولُ الله قد تجرّدا إنْ سِيم خَسْفاً وجهُه تَربّدا في فَيْلق كالبَحر يَجْري مُزْبدا قال ابن هشام: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نُصرت يا عمرو بن مالك. ثمَّ عَرض عارضٌ من السماء فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه السحابة تستهلّ بنَصْر بني كعب. وقال عمر بن الخطّاب: الشعر جَزل من كلام العرب يُسكَّن به الغَيظ وتُطفأ به الثائرة ويتبلَّغ به القومُ في ناديهم وُيعطى به السائل. وقال ابنِ عبّاس: الشعر عِلْم العرب وديوانها فتعلَّموه وعليكم بشعر الحِجاز. فأحسبه ذهب إلى شعر الحجاز وحَضَّ عليه إذ لغتهم أَوسط اللّغات. وقال معاويةُ لعبد الرحمن بن الحكم: يا بن أخي إنك شُهرت بالشعر فإياك والتشبيبَ بالنّساء فإنك تغرّ الشريفة في قومها والعفيفة في نفسها والهجاء فإنك لا تَعْدو أن تُعادي كريماً أَو تَستثير به لئيماً. ولكن افخر بمآثر قَومك وقُل من الأمثال ما تُوَقّر به نفسك وتؤدِّب به غيرك. وسُئل مالك ابن أنس: منِ أين شاطر عمرُ بن الخطاب عُمّاله فقال أموال كثيرة ظهرت عليهم وإنّ شاعراً كتب إليه يقول: نَحجُّ إذا حَجُّوا ونَغْزو إذا غَزَوْا فأنيَّ لهم وَفْر وَلَسنا بذي وَفْر فدونك مالَ الله حيثُ وجدتَه سَيرضَون إن شاطرتهم منك بالشَّطْر قال: فشاطرهم عُمر أموالهم. وأنشد عمر بن الخطّاب قولَ زُهير: فإن الحق مَقْطعه ثلاثٌ يَمين أو نَفارٌ أو جَلاءُ فجعل يعجب بمعرفته بمقاطع الحُقوق وتَفصيلها وإنما أراد: مَقطع الحقوق يَمين أو حكومة أو بيِّنة. وأُنشد عُمر قول عَبَدة بن الطَّبيب: والعيشُ شح وإشفاقٌ وتَأميلُ فقال: على هذا بُنيت الدنيا. ولمّا هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهاجر أصحابُه مستهم وباء المدينة فمرض أبو بكر وبلال. قالت عائشة: فدخلتُ عليهما فقلت: يا أبت كيف تَجدك ويا بِلال كيف تَجدك قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمّى يقول: كُلّ امرئ مُصَبّح في أهله والموتُ أَدْنى من شرِاك نَعْلِهِ وقالت: وكان بلال إذا أَقلعت عنه يَرفع عقيرته ويقول: ألا ليتَ شِعْري هل أبيتنّ ليلةً بوادٍ وحَوْلي إذْخر وجَليلُ قالت عائشة: وكان عامر بن فُهيرة يقول: وقد رأيتُ الموتَ قبل ذَوْقه إنّ الجَبان حَتْفه مِن فَوْقه كالثَور يَحْمي جِلده برَوْقِه قالت عائشة: فجئتُ رسوله الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه. فقال: اللَّهم حبِّب إلينا المدينة كحُبنا مكة وأشد وصَحّحها وبارك لنا في صاعها ومُدها وأنقُل حماها فاجعلها بالجُحفة. ومن حديث البَراء بن عازب قال: لما كان يوم حُنين رأيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم والعبّاس وأبا سُفيان بن الحارث بن عبد المطّلب وهما آخذان بِلجام بغلته وهو يقول: أنا النبيّ لا كَذِب أنا ابنُ عبد المُطّلبْ ومن حديث أبي بكر بن أبي شَيبة عن سُفيان بن عُيينة يَرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل الغار نُكِبَ فقال. هل أنتِ إلا إصْبع دَمِيت في سَبيل الله ما لقيت فهذا من المَنثور الذي يُوافِق المنظوم وإن لَم يتعمد به قائله المنظوم. ومثل هذا من كلام الناس كثير يأخذه الوَزن مثلُ قول عبد مملوك لمواليه: اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى. ومثله كثير مما يأخذه الوزن ولا يُراد به الشعر. ولا يُسمَّى قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن كان موزوناً شعراً لأنه لا يراد به الشّعر. ومثلُه قي أي الكتاب: " ومِن اللَّيْل فَسَبّحه وإدْبَار النُّجوم " ومنه: " وجِفَان كالجَوَاب وقُدُور راسيات " ومثله " ويُخزْهم ويَنْصركم عليهم ويَشْفِ صدور قوم مُؤمنين " ومنه: " فَذَلكَ الَّذي يَدُعِّ اليَتيم ". ولو تطلّبت في رسائل الناس وكلامهم لوجدت فيه ما يَحتمل الوزن كثيراً ولا يُسمّى شعراً. من ذلك قولُ القائل: مَن يشتري باذنجان. تقطيعه: مستفعلن مفعولات. وهذا كثير. مَن قال الشعر من الصحابة والتابعين والعلماء المشهورين كان شعراء النبيّ صلى الله عليه وسلم: حسّان بن ثابت وكَعب بن مالك وعبدَ الله بن رواحة. وقال سعيد بن المُسيِّب: كان أبو بكر شاعراً وعُمر شاعراً وعليُّ أشعرَ الثلاثة. ومن قول عليّ كرّم الله وجهه بصِفين: لمَن رايةٌ سَوداء يخْفِق ظلُّها إذا قِيل قَدِّمها حُضين تَقدَّما يُقدِّمها في الصَّف حتى يزِيرها حِياضَ المَنايا تَقْطُر السّمّ والدَما جَزى الله عنِّي والجَزاء بكَفِّه رَبيعة خيراً ما أَعف وأكَرما وقال أنس بن مالك خادمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: قَدِم علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وما في الأنصار بيت إلاّ وهو يقول الشعر. قيل له: وأنتَ أبا حمزة قال: وأنا وقال عمرو بن العاص يوم صفين: شَبّت الحربُ فأعددتُ لها مُفْرع الحارِك مَحْبوك الثَّبَجْ يَصِل الشدَّ بشِدٍّ فإذا وَنت الخيلُ عن الشدَ مَعَج جُرْشُع أعظَمُه جُفْرَته فإذا أبتلّ من الماء خَرَج وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: فلو شَهدتْ جُمل مُقامي ومَشْهدي بصفِّين يوماً شاب منها الذوائب عشيّةً جا أهلُ العِراق كأنهم سَحاب ربيع زعْزعتها الجَنائب وجِئْناهُم نَرْدِي كأنّ صُفوفنا من البحر مدٌّ موجُه مُتراكب إذا قلت قد ولَّوا سرِاعاً بدت لنا كتائبُ مِنهم وأرجحنّت كَتائب فدارتْ رَحانا واستدارت رَحاهُم سراة النّهارِ ما تَوالى المناكب وقالوا لنا إنا نَرى أنْ تبايعوا علياً فقُلنا بل نَرى أن نُضارب من شعراء التابعين عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مَسعود وهو ابن أخي عبد الله بن مَسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحد السَّبعة من فُقهاء المدينة وله يقول سَعيد بن المُسيّب: أنت الفقيه الشاعر. فقال: لا بُد للمصدور أن يَنْفث. يعني أنه مَن كان في صَدره زُكام فلا بد من أن يَنفث زَكمة صدره. يريد أن كل من أختلج في صَدره شيء من شعر أو غيره ظهر على لسانه. وقال عُمر بن عبد العزيز: وَدِدْت لو أنّ لي مجلساً من عبيد الله بن عبد الله ابن عُتبة بن مَسعود بدينار. قال عبيد الله بن عَبد الله بن عُتبة بن مسعود: ما أحسن الحسنات في إثْر السيآت وأقبحَ السيآت في إثر الحَسنات وأحسن من هذا وأقبح من ذلك: الحسنات في إثر الحسنات والسيآت في إثر السيآت. ومن شعراء التابعين عروة بن أذينة وكان من ثقات أصحاب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يَروي عنه مالك. وقال ابن شُبرمة: أن عُروة بن أذينة يَخرج في الثُّلث الأخير من الليلِ إلى سِكك البصرة فينادي: يأهل البصرة " أَفأمِنْ أَهْلُ القُرَى أنْ لأْتِيَهم بَأْسُنا بَيَاتاً وهُم نائِمُون. أَوَ أَمِن أهْل القُرى أن يأتيَهم بأْسنا ضُحى وهُم يَلعَبونّ ". الصلاة الصلاة. من شعراء الفقهاء المبرزين عبد الله بن المًبارك صاحب الرقائق. وقال حِبان: خرجنا مع ابن المُبارك مُرابطين إلى الشام فلما نَظر إلى ما فيه القومُ من التعبّد والغَزو والسرايا كل يَوم التفت إليّ وقال: إنّا للهّ وإنّا إليه راجعون على أعمار أفنيناها وليال وأيام قطعناها في عِلْم الخليَّة والبَرِيّة وتركناها هنا أبوابَ الجَنَّة مفتوحة. قال: فبينما هو يمشي وأنا معه في أزقة المَصِّيصة إذ لقي سَكرانَ قد رفع عَقيرته يتغنّى ويقول: أذلني الهوى فأنا الذليلُ وليس إلى الذي أهوى سبيل قال: فأخرج برنامجاً من كُمه فكتب البيت. فقلنا له: أتكتب بيت. شعر سمعتَه من سكران قال: أما سمعتم المَثل: رُب جوهرة في مَزْبلة قالوا: نعم. فهذه جَوْهرة في مَزبلة. وبلغ عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن عمر بن عبد العزيز بعضُ ما يكره فكتب إليه: أتاني عنك هذا اليومَ قولٌ فضِقْت به وضاق به جَوابي فإن تك عاتباً تُعْتَب وإلا فما عودي إذاً بيَراع غاب وقد فارقتُ أعظَم منك رُزءَاً وواريتُ الأحِبَّة في التُّراب وقد عَزّوا علي إذ اسْلموني معاً فلبستُ بعدهُم ثِيابي وقد ذكرنا شعر عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة وعُروة بن أُذينة في الباب الذي يتلو هذا الباب وهو: قولهم في الغزل. حدّث فرج بن سلام قال: حدِّثنا عبد الله بن الحَكم الواسطيّ عن بعض أشياخ أهل الشام قال: استعمل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حَرب على نجران. فولاّه الصلاة والحرب. ووجّه راشدَ بن عبد ربِّه السلمي أميراً على القضاء والمظالم. فقال راشدُ بن عبد ربّه: صحا القلبُ عن سَلمى وأقصر شأوه وردّت عليه ما بَعَتْه تُماضر وحكّمه شيبُ القَذال عن الصبا وللشّيب عن بعض الغَواية زاجر فاقصر جَهْلِي اليومَ وأرتد باطلي عن الَّلهو لما ابيض مني الغدائر على أنه قد هاجه بعد صحْوه بمَعْرض ذي الاجام عيسٌ بواكر ولما دنت من جانب الغُوط أخصبت وحلّت ولاقاها سُلَيم وعامر فألقت عَصاها واستقرت بها النَّوى كما قَر عيناً بالإياب المُسافر وكان عبد الله بن عمر يُحب ولده سالماً حبّاً مُفرطا فلامه الناس في ذلك فقال: يلومونني في سالم وألومهم وجِلْدَةُ بين العَين والأنْف سالم وقال: إنّ ابني سالما ليُحب الله حبّاً لو لم يخَفه ما عصاه. وكان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إذا برز إلى القتال أنشد: أيّ يومي من الموتِ أفر يومَ لا يُقدر أم يوم قُدر يومَ لا يُقدر لا أرهبه ومِن المقدور لا يَنْجو الحَذِر وكان إذا سار بأرض الكوفة يرتجز ويقول: يا حبذا السير بأرض الكُوفه أرضٍ سواءٍ سَهْلة مَعروفه تعرفها جِمالنا المَعْلوفه وكان عبد الله بن عباس في طريقه من البصرة إلى مكة يحدو الإبل ويقول: أُولى إلى أهلك يا ربَابُ أُولى فقد هان لك الإيابُ وقال ابن عباس لما كفّ بصره إن يأخذ الله من عينيّ نُورَهما ففي لساني وقَلبي منهما نُورُ قولهم في الغزل قال رجل لمحمد بن سيرين: ما تقول في الغَزل الرقيق يُنشده الإنسان في المسجد فسَكت عنه حتى أُقيمت الصلاة وتقدَم إلى المحراب فالتفت إليه فقال: وتبرد بَرد رداء العرو س في الصَّيف رَقرقتَ فيه العَبيرا وَتسخن ليلةَ لا يَسْتطيع نُباحاً بها الكلبُ إلا هَريرا ثم قال: الله أكبر. وقال العجاّج. دخلتُ المدينة فقصدتُ إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا بأبي هُريرة قد أكب الناس عليه يسألونه فقلت: أفرجوا لي عن وجهه. فأفرج لي عنه. فقلت له: إني إنما أقول: طاف الخَيالان فهاجَا سَقَما خيالُ أروى وخيِال تَكْتُما تُريك وجهاً ضاحكاً ومِعْصما وساعداً عَبْلاً وكَعْباً أَدْرما فما تقوله فيه قال: قد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُنشَد مثلَ هذا في المسجد فلا ينكره. ودخل كعب بن زهير على النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الصبح فمثل بيت يديه وأنشد: ما إن تَدوم على حال تكون بها كما تلوّن في أثوابها الغُول ولا تَمسّك بالوعد الذي وَعدت إلا كما يُمسك الماءَ الغَرابيل كانت مواعيد عُرقوب لها مثلاً وما مواعيدُها إلا الأباطيل ولا يَغُرًنك ما منت وما وَعدت إنّ الأمانيّ والأحلام تَضْليل ثم خرج من هذا إلى مَدح النبيّ صلى الله عليه وسلم. فكساه بُرداً اشتراه منه معاويةُ بعشرين ألفاً. ومن قول عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود في الغزل: كتمتَ الهوى حتى أضرّ بك الكَتْم ولامَك أقوامٌ ولومُهمُ ظُلم ونَم عليك الكاشِحون وقبل ذا عليك الهَوى قد تَمّ لو نَفع النّم فيامَن لِنفس لا تَموت فَيْنقضي عَناها ولا تَحْيا حَياةً لها طَعم ودخل كعب بن زهير على النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الصبح فمثل بيت يديه وأنشد: بانت سعاد فقَلبي اليوم مَتْبولُ مُتَيم إثْرها لم يُفْد مَكْبُولُ وما سُعاد غدَاة البَين إذ رَحلوا إلا أغنُّ غَضيض الطرف مَكحول هَيفاء مَقْبلة عَجْزاء مدْبرة لا يشتكي قِصَر منها ولا طُول ما إن تَدوم على حال تكون بها كما تلوّن في أثوابها الغُول ولا تَمسّك بالوعد الذي وَعدت إلا كما يُمسك الماءَ الغَرابيل كانت مواعيد عُرقوب لها مثلاً وما مواعيدُها إلا الأباطيل ونَم عليك الكاشِحون وقبل ذا عليك الهَوى قد تَمّ لو نَفع النّم فيامَن لِنفس لا تَموت فَيْنقضي عَناها ولا تَحْيا حَياةً لها طَعم ومن شعر عُروة بن أذينة وهو من فقهاء المدينة وعُبّادها وكان من أرقّ الناس تشبيبا: قالت وأَنبثتها وَجْدي وبُحت به قد كُنتَ عندي تحب السِّتر فاستَتِر ومن شعر عُروة بن أذينة وهو من فقهاء المدينة وعُبّادها وكان من أرقّ الناس تشبيبا: قالت وأَنبثتها وَجْدي وبُحت به قد كُنتَ عندي تحب السِّتر فاستَتِر ألست تُبصر من حولي فقلتُ لها غطَّى هواك وما ألقَى على بَصري ووقفتْ عليه امرأة فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت تقوله: إذا وجدتُ أُوار الحُبّ في كَبِدي غدوتُ نحو سِقاء الماء أَبتَرِدُ هبني بردتُ ببرَد الماء ظاهرَه فَمن لنار على الأحشاء تَتّقد والله ما قال هذا رجل صالح. وكذبتْ عدوةُ الله عليها لعنة اللّه بل لم يكن مُرائيا ولكنه كان مَصْدورا فنَفث. وقدم عُروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك في رجال من أهل المدينة فلما دخلوا عليه ذكروا حوائجِهم فقضاها ثم التفت إلى عُروة فقال له: ألست القائل: لقد علمتُ وخيرُ القول أصدَقهُ بأنّ رزْقي وإن لم آتِ يَأْتيني أسعى له فيُعنِّيني تَطَلُّبه ولو قعدت أتاني لا يُعَنّيني قال: بلى. قال: فما أراك إلا قد سَعيت له. قال: سأنظر في أمري يا أمير المؤمنين وخَرج عنه قولهم في المدح قال شَراحيل بن مَعْن بن زائدة: حجّ الرشيد وزميلُه أبو يوسف القاضي وكنت كثيراً ما أسايره: فبينما أنا أسايره إذ عرض له أعرابيّ من بني أسد فأنشده شعراً مدحه فيه وقَرّظه. فقال له الرشيد: ألم أَنْهك عن مثل هذا في شِعْرك يا أخا بني أسد إذا أنت قلت فقل كما قال مَروان بن أبي حَفصة في أبي هذا وأشار إليّ يقول: بنوِ مَطر يوم اللِّقاء كأنهم أُسود لها في غِيل خِفَّان أَشْبُلُ همً يمنعون الجار حتى كأنما لجارهمُ بين السِّماكين منزل بها ليلُ في الإسلام سادُوا ولم يكُن كأوِّلهم في الجاهليّة أول هم القومُ إن قالوا أصابُواو إن دُعوا أجابُواو إنْ أَعطوا أَطابوا وأَجْزلوا وما يَستطيع الفاعلون فَعالَهم وإنْ أَحسنوا في النائبات وأَجملوا وقال عُتبة بن شمَّاس يَمدح عُمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: إنّ أولى بالحقّ في كل حَقٍّ ثُمّ أحرى بأن يكون حَقِيقَا مَن أبوه عبدُ العزيز بنُ مَرْوا ن ومَن كان جَدُّه الفَاروقا مَدحٍ عبّاس بن مِرْداس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فكَساه حُلَّة. ومَدحه كَعب بن زهير كَساه بُردا اشتراه منه معاويةُ بعشرين ألف درهم وإن ذلك البُرد لعند الخلفاء إلى اليوم. وقال ابنُ عبّاس: قال لي عُمر بن الخطّاب: أنشدني قول زُهير. فأنشدتُه قولَه في هَرِم بن سِنَان بن حارثة حيثُ يقول: قومٌ أبوهم سِنان حين تَنْسبهم طابُوا وطابَ من الأفلاذ ما ولَدوا لو كان يُعقد فوق الشّمس من كَرم قوم بأولهم أو مَجْدهم قَعدوا جِنّ إذا فَزِعوا إنْس إذا أمنوا مُرَزَّءون بهاليل إذا احتَشدوا مُحسَّدون على ما كان مِن نِعم لا يَنزع الله منهم مالَه حُسدوا فقال له عمر: ما كان أحبَّ إليّ لو كان هذا الشِّعر في أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. انظُر إلى ضنانة عُمر بالشعر كيف يرَ أحداً يَستحق مثل هذا المدح إلا أهلَ بيت محمد عليه الصلاة والسلام. وأسمع رجل عبد الله بنِ عمر بيتَ الحُطيئة: مَتى تَأْتِه تَعْشو إلى ضوْء ناره تَجدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقِد فقال ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فلم ير أحداً يَستحق هذا المدح غير رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذن نُصيب بن رَبَاح على عمر بن عبد العزيز فلم يأذن له فقال: أعْلموا أميرَ المؤمنين أنِّي قلتُ شعراً أوله الحمد للّه. فأعلموه. فأَذِن له فأُدخل عليه وهو يقول: الحمدُ للّه أما بعدُ يا عُمر فقد أتتْنا بك الحاجاتُ والقَدرُ فأَنت رأسُ قريش وابنُ سيِّدها والرأسُ فيه يكون السمع والبَصر فأَمر له بحلْية سَيفه. ومدَحه جرير بشعره الذي يقول فيه: هذِي الأراملُ قد قَضِّيت حاجتَها فَمَنْ لحاجةِ هذا الأرمل الذكرِ فأَمر له بثلثمائة دِرْهم. ومدحه دُكين الرَّاجز فأَمر له بخَمس عشر ناقة. ومَدح نُصيب بن ربَاح عبد الله بن جعفر فأَمر له بمال كثير وكُسوة ورَواحل. فقيل له: تَفعل هذا بمثل هذا العَبدِ الأسود فقال: أمَا والله لئن كان عبداً إنّ شعره لحُر وان كان أسودَ إن ثناءه لأبيض. وإنما أخذ مالاً يفَنى وثياباً تَبلى ورواحل تَنضى فأعطى مديحا يُروى وثَناءه يَبقى. ودخل ابن هَرِم بن سِنان على عمرَ بن الخطاب فقال له: مَن أنت قال: أنا ابنُ هرم بن سنان. قال: صاحب زهير قال: نعم. قال: أما إنه كان يقول فيكم فيُحسن. قال: كذلك كنا وكان طُريح الثًقفي ناسكاً شاعراً فلما قال في أبي جعفر المَنصور قولَه: أنت ابنُ مُسْلنِطح البِطاح ولم تَعْطِف عليك الحني والولُجُ لو قلت للسيل دَعْ طريقَك والمو جُ عليه كالليل يَعتلج لهمَّ أو كاد أو لكان له في سائر الأرض عنك مُنعرج طُوبىَ لفرعَيْك من هُنا وهُنا طوبَى لأعراقك التي تَشج قال أبو جعفر: بلغني عن هذا الرجل أنه يتأله فكيف يقول للسّيل: دع طريقك. فبلغ ذلك طريحاً فقال: الله يعلم أني إنما أردت: يا رب لو قلت للسيل دع طريقك. وقال الحطيئة لمّا حَبسه عمرُ بن الخطاب في هجائه للزّبرقان بنَ بدر أبياتاً يمدح فيها عُمر ويسَتعطفه. فلما قرأها عمرُ عَطف له وأمر بإطلاقه وعفا عما سلف منه. والأبيات: ماذا تقول لأَفراح بذي مَرَخ زُغْبٍ الحَواصل لا ماء ولا شَجَرُ ألقيت كاسبَهم في قَعر مُظلمة فاغفر عليك سلامُ الله يا عمر أنت الإمام الذي من بعد صاحِبه ألقَى إليك مقاليد النًّهى البَشر ما آثروك بها إذ قدّموك لها لكنْ لأنفسهم كانت بها الإثر ودخل ابن دارَة على عديّ بن حاتم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مدحتُك. قال: أمسك حتى آتيك بمالي ثم امدحني على حَسبه فإنّي أكره ألا أعطيك ثمن ما تقول لي ألفُ شاة وألفُ دِرْهم وثلاثة أَعبد وثلاث إماء وفرسي هذا حَبيس في سبيل اللّه فامدَحْني على حَسب ما أخبرتك. فقال: تحِنّ قَلوصي في مَعدٍّ وإنما تُلاقيِ الربيعُ في ديار بني ثُعَلْ وأبْقى الليالي مِن عَديّ بن حاتم حُساماً كنَصل السِّيف سُلَّ من الخِلَل أبوك جواد لا يُشق غُباره وأنت جواد ليس يُعذِر بالعِلل فإنْ تَفعلوا شرّاً فمثلكُم اتَّقى وإنْ تَفعلوا خيراً فمثلكُم فعل قال عديّ: أمسك لا يبلغ مالي إلى أكثر من هذا. قولهم في الهجاء قال الله تبارك وتعالى في هجو المشركين: " والشَعَراءُ يَتبِعُهم الغَاوون. آَلمْ تَرَ أَنّهم في كُلِّ وادٍ يَهيمون. وأَنّهم يَقُولون ما لا يفعلونْ. إلا الذين آمنوا وعَمِلُوا الصَّالحات وذَكَرُوا الله كَثيراً وانتصروا مِن بَعد ما ظُلموا وسَيَعْلَم الذين ظَلَموا أيَّ مُنْقَلب يَنْقَلبون " فأرْخَص الله للشعراء بهذه الآية في هِجائهم لمن تعرّض لهم يزيد بن عمرو بن تميم الخُزاعيّ عن أبيه عن جدّه: أنَّ رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال. يا رسول اللّه إن أبا سفيان يهجوك. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اللّهم إنه هَجاني وإني لا أقول الشعر فاهجُه عني. فقام إليه عبد الله بن رَواحة فقال: يا رسول اللّه إيذن لي فيه. قال: أنت القائل: قثبّت الله ما آتاك من حسن. قال: نعم. قال: وإياك فثبت اللّه. ثم قام إليه كعب بن مالك فقال: يا رسول اللّه إيذن لي فيه. فقال: أنت القائل هممت قال: نعم. قال: لستَ له. ثم قام حسَّان بن ثابت فقال: يا رسول اللّه إيذن لي فيه وأخرج لسانه فضَرب به أَرْنبة أنفه وقال: والله يا رسول الله إنه ليخيَّل لي أني لو وضعتُه على حجر لفَلقه أو على شَعر لحَلقه. فقال: أنت له اذهب إلى أبي بكر يُخبرك بمثالب القوم ثم اهجهم وجبريل معك. فقال يرد على أبي سفيان: ألا أبلِغ أبا سفيان عَنِّي مغلغَلةً فقد برح الخَفاءُ هجوت محمداً وأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجَزاء أتهجوه ولست له بندٍّ فشركما لخير كما الفداء أمن يهجو رسوله الله منكم ويطريه ويمدحه سواء لنا في كُل يوم من مَعدٍّ سِباب أو قِتال أو هِجَاء لساني صارمٌ لا عيبَ فيه وبَحْري لا تُكدِّره الدِّلاء فإنّ أبي ووالدَه وعِرْضى لِعْرض محمد منكم وِقَاء وقال رجل من أهل اليمن: دخلتُ الكوفة فأتيتُ المسجد فإذا بعَمار بن ياسر ورجل يُنشده هِجاء معاوية وعمرو بن العاص وهو يقول: ألصق بالعجوزَيْن. قلت له: سبحان اللّه!. أتقول هذا وأنتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال: إن شئت فاجلس وإن شئت فاذهب. فجلست فقال. أتدري ما كان يقول لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هجانا أهلُ مكة قلت: لا أدري. قال: كان يقول لنا: قولوا لهم مثل ما يقولون لكم. وقال النبيّ صلى الله عليه زعمتْ سَخينة أنْ ستغلب ربَّها وليُغلبنّ مُغالب الغلاّب وسألت هُذيل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُحل لها الزِّنا. فقال حسان في ذلك: سالت هذيل رسولَ الله فاحشةً ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب وقال عبد الملك بن مروان: ما هجاني أحدٌ بأوجع من بيت هُجي به ابن الزُّبَير وهو: فإن تُصِبْك مِن الأيام جائحة لم نَبك منك على دُنيا ولا دين وقيل لعَقيل بن علَّقة: ما لك لا تُطيل الهجاء قال: يَكفيك من القِلاَدة ما أحاط بالعنق. وقال رجل من ثَقيف لمحمد بن مُناذر: ما بالُ هجائك أكثر من مَدْحك قال: ذلك مما أغراني به قومُك واضطرني إليه لؤمك. وقال أبو عمرو بن العلاء: قلت لجرير: إنك لعَفيف الفَرج كثيرُ الصَّدقة فَلِم تَسُب الناس قال: يبدءوني ثم لا أغفر لهم. وكان جرير يقول: لست بمُبتدئ ولكنني مُعتدٍ - يريد أنه يُسْرفِ في القِصاص. ومثله قوله الشاعر: بني عمّنا لا تَنْطقوا الشعرَ بعدما دَفنتم بأفناء العُذَيب القَوافِيا فَلَسنا كَمن قد كنتمُ تَظْلِمونه فيقبل ضَيماً أو يحكم قاضيا ولكنّ حكم الصيف فيكم مُسلَط فنرضى إذا ما اصبح السيفُ راضيا فإن قلتُم إنّا ظَلمنا فلم نكُن ظَلمنا ولكنّا أسأنا التقاضيا أبو الحسن المدائني قال: وفد جرير على عبد الملك بن مروان فقال عبد الملك للأخطل: أتعرف هذا قال: لا. قال: هذا جرير قال الأخطل: والذي أعمى رأيك يا جرير ما عرفتُك. قال له جرير: والذي أعمى بصيرتك وأدام خِزيتك لقد عرفتُك لَسِيماك سِيما أهل النار. ابنُ الأعرابيّ قال: دَخل كُثيّر عَزّة على عبد الملك فانشده وعنده رجل لا يعرفه. فقال عبدُ الملك للرجل: كيف تَرى هذا الشعر قال. هذا شعر حِجازيّ دعني أضغَمه لك ضَغْمه. قال كُثِّير: مَن هذا يا أمير المؤمنين قال: هذا الأخطل. قال: فالتفت إليه فقال له: هل ضَغمتَ الذي يقول: والتَغلبيّ إذا تَنحنح للقِرَى حكّ آستَه وتمثَّل الأمثالاَ تلقاهُم حُلَماء عن أعدائهم وعلى الصَّديق تراهم جُهَّالا حدّثنا يحيى بن عبد العزيز قال: حدثنا محمد بن عبد الحَكم بمصر قال: كان رجل له صديق يقال له حُصين فَولى موضعاً يقال له السَّابَيْن فطلب إليه حاجةً فاعتلّ عليه فيها فكتب له: لا أذهبْ إليك فإنّ وُدّكَ طالق مني وليس طلاقَ ذات البَيْنِ فإذا ارْعويتَ فإنها تَطْليقة وتُقيم وُدَّك لي على ثِنْتين وإذا أبيتَ شفعتُها بمثالها فيكون تَطليقان في حَيْضين لم أَرض أنْ أَهجو حُصيناً وحدَه حتى أسود وجهَ كل حُصين طَلب دِعبلُ بن عليِّ حاجة إلى بعض الملوك فصَرّح بمَنعه. فكتب إليه: أحسبتَ أرضَ الله ضيّقةً عنّي فأرضُ الله لم تَضِقِ وحَسبْتني فَقْعاً بِقَرْقرةٍ فوطِئْتَني وَطْئاً على حَنَقِ فإِذا سألتُك حاجةً أبدا فاضربْ بها قُفْلاً على غَلَق وأعِدَّ لي غُلاًّ وجامعةً فاجمع يديّ بها إلى عُنقي ثم ارم بي في قَعر مُظلمة إن عدتُ بعد اليوم في الحُمُق ما أطوَلَ الدُّنيا وأوسَعها وأدلَّني بمَسالك الطُّرق ومثل هذا قول أبي زُبيدة: ليتكَ أَدّبتَني بواحدة تجعلها منكَ آخِرَ الأبدِ تَحِلف ألا تَبرّني أبداً فإنّ فيها بَرْداً على كَبِديَ إن كان رِزْقي إليك فارْم به في ناظرَيْ حية على رَصَدِ وقال زياد: ما هُجيت ببيت قطُّ أشدَّ عليّ من قول الشاعر: سُبْحان من مُلْك عَبّاد بقُدرته لا يَدْفع الخلقُ محتومَ المَقادير وقال بِلاَل بن جَرير: سألتُ أبي: أيّ شيء أشدُّ عليك قال: قولُ البَعِيث: ألستَ كُليبياً إذا سِيم خُطّةً أقرَّ كإقرار الحَليلة للبَعْل وكل كُليبيّ صحيفة وجهه أذلُّ لأقدام الرّجال من النَعل وكان بلالُ بن جَرير شاعراً ابنَ شاعر ابنَ شاعر لأن الخَطفي جدَّه كان شاعراً وهو القائل: ما زال عِصيانُنا للّه يُسْلمنا حتى دفعنا إلى يَحيى ودينارِ إلى عُليجين لم تُقْطع ثِمارُهما قد طالما سَجداً للشمس والنّار ومن أخبث الهجاء قولُ جَميل: أبوك حُباب شارق الضَّيف بُرْدَه وجدِّيَ يا شمّاخ فارسُ شَمَّرَا بنو الصّالحين الصالحون ومَن يَكُن لآباء سَوْء يَلْقهم حيث سَيَّرَا فإن تَغْضبوا من قِسمة الله فيكم فَللَهُ إذ لم يُرضِكم كان أبصرا وقال كُثير في نُصيب وكان أسودَ ويكني أبا الحَجناء: رأيت أبا الحَجناء في الناس حائراً ولونُ أبي الحَجناء لونُ البهائِم يراه على ما لاحَه من سَواده وإن كان مَظلوماً له وجهُ ظالم ألم تَر أنّ الله أنزل نَصْره وسعدٌ بباب القادسيّة مُعْصِم فأُبْنا وقد آمتّ نساء كثيرة ونسْوة سَعد ليس فيهنّ أيَم فقال سَعد: اللهم اكفني يَده ولسانَه. فَخَرِس لسانُه وضُربت يدُه فقُطعت. وذُكر عند المُبرّد محمد بن يزيد النحويّ رجلٌ من الشعراء فقال: لقد هجاني ببيتين أنضجَ بهما كَبدي. فاستنشدوه. فأَنشدهم هذين البيتين: سألنا عن ثُمالةَ كُلّ حَيّ فكُلّ قد أجاب ومَن ثُماله فقلتُ محمد بن يزيدَ منهم فقالوا الآن زِدْتهما جَهاله ولم يَقل أحدٌ في القبيح أحسنَ من قول أبي نُوَاس: وقائِلةٍ لها في وَجْه نُصْحٍ علامَ قتلتِ هذا المُستهامَا فكان جوابُها في حُسن مَيْسِ أأجمع وجهَ هذا والحَراما وكان جرير يقول: إذا هجوت فأضحك. وينشَد له: إذا سَعلتْ فتاةُ بَنى نُمير تلقَّمَ بابُ عِصْرِطها التُّرابا تَرى بَرصاً بمَجمع إسكَتيها كعَنْفقَة الفَرزدق حين شَابا وقوله أيضاً: وقوله أيضاً: أحين صِرْت سَماماً يا بني لجأ وخاطرتْ بيَ عن أحسابها مُضَرُ هيأتمُ عُمَرا يحمي دياركم كما يُهيَّأ لاست الخارئ الحَجر وقال عليُّ بن الجهم يهجو محمدَ بن عبد الملك الزيَّات وزيرَ المتوكل: أحسن من سبعين بيتاً سُدى جمعُك إياهنّ في بَيْتِ ما أحوَج المُلك إلى دِيمَة تَغسل عنه وَضَر الزَّيت وقالوا: أَهجى بيت قالْته العرب قولُ الطرمّاح بن حَكيم: تميم بطُرْق اللؤمٍ أهدَى من القَطَا ولو سَلكتْ سُبْلَ المَكارم ضَلَّت ولو أنّ بُرْغوثا على ظهر قَملة رأتْه تميمٌ يوم زحْفٍ لولّت ولو أن عُصفوراً يمُد جناحَه لقامت تميمٌ تحتَه واستظلّتِ وقال بعضُهم: قولُ جرير في بني تَغلب: والتّغلبيّ إذا تَنحنح للقِرَى حكّ آستَه وتمثّل الأمثالاَ ويقال: قولُه: قومٌ إذا اْستَنْبح الأضيافُ كلبَهُم قالوا لأمهم بُولِي على النّار قالوا الأشاقر تَهجوكم فقلتُ لهم ما كنتُ أحسبُهم كانوا ولا خُلِقُوا وهم من الحَسب الذّاكي بمنزلةٍ كطُحلب الماء لا أصلٌ ولا وَرَق لا يكثُرون وإن طالتْ حياتهم ولو يَبول عليهم ثَعلب غَرِقوا وقوله أيضاً: قَضى الله خلقَ الناس ثم خُلقُتُم بَقِيَّةَ خَلْق الله آخرَ آخِر فلم تَسمعوا إلا الذي كان قبلكم ولم تُدركوا إلا مَدَقّ الحَوافر وقال فيهم: قَبيلةٌ خَيرُها شرّها وأصدقُها الكاذب الآثم وضيفهُمُ وَسْطَ أبياتِهم وان لم يكن صائماً ضائمُ ونظير هذا قول الطِّرمَّاح: وما خُلقتْ تَيْم وزَيد مَناتِها وضبَّةُ إلا بعد خَلق القَبائل ومن أخبث الهجاء قول الطرمّاح في بني تميم: لو حان ورد تَميم ثم قِيل لهم حوض الرَّسول عليه الأزْدُ لم تَرِدِ لو كان يخفى على الرحمن خافية من خَلْقه خَفِيت عنه بنو أسد قومٌ أقام بدار الذل أوّلُهم كما أقامت عليه جذْمةُ الوَتِد ومثله قول المُساور بن هِنْد: ما سرني أنّ قَوْمي من بني أسد وأنّ رَبيٍّ يُنْجيني من النارِ وأنهم زَوّجوني من بناتِهم وأنّ لي كلّ يوم ألفَ دينار ومن أخبث الهجاء من غير إقذاع: بلاد نأَى عني الصديقُ وسبّني بها عنزيَّ ثم لم أَتكلّم وقال عبيد: يا أبا جعفر كتبتُك سَمْحاً فاستطال المِداد فالميم لامُ لا تلمني على الهِجماء فلم يَه جك إلا المدادُ والأقلام وقال سليمان بن أبي شَيخ: كان أبو سَعيد الرَّاني يُماري أهل الكوفة ويفضل أهلَ المديِنة فهجاه رجل من أهل الكوفة وسّماه شرْشيراً. وقال: كلب في جهنم يُسمى شرْشيراً. فقال: عندي مسائلُ لا شَرْشير يَعرفها إنْ سِيل عنها ولا أصحاب شَرْشير لا تسألنَّ مَدينيّا فتُكْفِرهْ إلا عن البَمّ والمَثْنى أو الزِّير فكتب أبو سعيد إلى أهل المدينة: إنكم قد هُجيتم فرُدُّوا. فَرَد عليه رجل من أهل المدينة يقول: لقد عجبت لغَاوٍ ساقَه قدر وكُل أمر إذا ما حُمّ مَقدورُ قالوا المدينة أرضَ لا يكون بها إلاّ الغِناء وإلاِّ البمّ والزّير لقد كذبتَ لعمر الله إنّ بها قَبرَ النبي وخير الناس مَقْبور قال: فما انتَصر ولا انتُصر به فليته لم يَقُل شيئاَ. وقال: فساور الوراق في أهل القِياس: كُنا من الدّين قبل اليوم في سَعِةٍ حتى بُلِينا بأصحاب المقاييس قامُوا من السُوق إذ قلّت مكاسبُهم فاستعمَلوا الرأيَ بعد الجَهد والبوس أمِّا العُرَيْب فأمَسوْا لا عطَاءَ لهم وفي المَوالي علاماتُ المفاليس قال: فلقيه أبو حَنيفة فقال له: هجوْتنا نحن نرضيك فبعث إليه بدراهم فَكفَّ عنه وقال: إذا ما الناسُ يوماً قايسُونا بمسألة من الفُتيا طريفَهْ أتيناهم بمقْياس صَحيح بَديع من طِراز أبي حَنِيفة ومن خبيث الهجاء قولُ الشاعر: عَجِبْت لعبدانٍ هَجوْني سَفاهةً أَن اصطَبحوا من شائِهم وتَقيَّلُوا بِجَاد وَرَيْسان وفِهْر وغالب وعَون وهِدْم وابن صِفْوة أَخيلُ فأمّا الذي يُحصيهم فمُكَثِّر وأمّا الذي يطريهم فمُقلِّل وقال أبو العتاهية في عبد الله بن مَعن بن زائدة: قال ابنُ مَعْنِ وجَلَى نَفسه على القَرابات مِن الأَهل هَل في جَوارِي الحَيّ من وائل جاريةٌ واحدة مِثْلي أُكْنَى أبا الفضل فيا مَن رأى جاريةً تُكنى أبا الفَضْل قد نقطت في خدِّها نُقطةً مخافةَ العَين من الكُحل مداراة الشعراء وتَقيتهم أبو جعفر البَغداديّ قال: مَدح قومٌ من الشعراء بن سُليمان بن عليّ بن عبد الله بن عبَّاس فماطلهم بالجائزة وكان الخليلُ بن أحمد صدَيقه وكان وقتَ مَدْحهم إياه غائباً فلمّا قَدِمَ الخليلُ أَتَوْه فأخبروه واستعانوا به عليه فكتب إليه: لا تَقبلنّ الشعر ثم تَعُقه وتَنام والشعراءُ غيرُ نيام واعلم بأنهمُ إذا لم يُنصَفوا حَكموا لأنفسهم على الحُكّام وجنايةُ الجاني عليهم تَنْقضي وعقابُهم باقٍ على الأيّام فأجازهم وأحسن إليهم. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمّا مدحه عبّاس بن مِرْداس: اقطعوا عنّي لسانَه. قالوا: بماذا يا رسولَ اللّه فأمر له بحُلة قَطع بها لسانَه. ومَدح ربيعةُ الرقيّ يزيدَ بنَ حاتم وهو والي مصر فتشاغل عنه ببعض الأمور واستبطأه ربيعةُ فشخص من مصر وقال: أُراني ولا كُفران للّه راجعاً بخُفَّيْ حُنين من نَوال ابنِ حاتِم فبلغ قولُه يزيدَ بن حاتم فأرسل في طلبه وردّه. فلمّا دخل عليه قال له: أنت القائل: قال: نعم. قال: هل قُلت غير هذا قال: لا. قال: والله لترجعنّ بِخُفيِّ حُنين مملوءتين مالاً فأمر بخَلْع خُفيه وأن تُملا له مالاً. ثمّ قال: أَصْلح ما أفسدت من قولك. فقال فيه لما عُزل من مصر ووُلّي مكانَه يزيدُ بن حاتم السُّلمي: بَكى أهلُ مصر بالدموع السَّواجِم غداة غدا منها الأغر ابن حاتم لشتّان ما بيت اليَزيدين في النّدى يزيد سليمٍ والأغرِّ ابن حاتم فَهَمُّ الفَتى القَيْسيّ إنفاقُ مالِه وهَمُّ الفَتى العَبْسيّ جَمْعُ الدَّراهم فلا يَحسب التَّمتامُ أنّي هجوته ولكنًني فضّلتُ أهل المَكارم وأعلم أنّ تقيّةَ الشعراء من حِفظ الأعراض التي أمر الله تعالى بحفظها. وقد وضعنا في هذا الكتاب باباً فيمن وضعه الهجاء ومَن رفعه المدح. وكان لزياد عامل على الأهوازِ يقال له: تَيم. فمدحه رجلٌ من الشعراء فلم يعطه شيئاً. فقال له الشاعر: أما إني لا أهجوك ولكنّني سأقول فيك ما هو شرّ عليك من الهجاء فدخل على زياد فأسمعه شعراً مدحه فيه وقال في بَعضه: وكائن عند تَيْم مِن بُدُور إذا ما صُفِّدتْ تدعو زِياداً دعَتْه كي يُجيب لها وشيكاً وقد مُلئت حناجرُها صِفاداً |
باب في رواة الشعر قال الأصمعيّ: ما بلغتُ الحلُم حتى رويتً اثني عشر ألفَ أرجوزةٍ للأعراب. وكان خَلف الأحمر أَروى الناس للشِّعر وأعلَمهم بجيّده. قال مَروان بن أبي حَفْصة: لما مدحْتُ المهديَّ بشعري الذي أولًه: طرقْتك زائرةً فحيِّ خَيالَهَا بيضاءُ تَخْلِط بالحَياء دَلالَها أردتُ أنْ أَعرضه على بُصراء البَصرة فدخلتُ المسجد الجامع فتصفَحت الحَلَق فلم أر حَلقة أعظمَ من حَلْقة يُونس النحوي فجلستُ إليه فقلتُ له: إني مدحتُ المهديَّ بشعر وأردتُ ألا أرفعه حتى أعرضَه على بصرائكم وإني تَصفْحت الحَلق فلم أر حَلْقة أحفلِ من حَلْقتك فإن رأيتَ أن تَسمعه مِنّي فافْعل. فقال: يا بن أخي إنّ هاهنا خَلَفاً ولا يُمكن أحدُنا أن يَسمع شعراً حتى يحضَر فإذا حَضر فأسْمعه. فجلستُ حتى أقبل خلف الأحمر. فلمّا جلس جلستُ إليه ثم قلت له ما قلتُ ليونس. فقال: أنشد يا بن أخي. فأنشدتُه حتى أتيتُ على آخره. فقال لي: أنتَ والله كأعشى بكر بل أنت أشعرُ منه حيث يقول: رَحلتْ سُمَيّة غُدوةً أجمالهَا غَضْبَى عليك فما تقول بدَالهَا وكان خَلفٌ مع روايته وحِفظه يقول الشعر فيُحسن وينَحله الشعراء. ويقال إن الشعر المَنسوب إلى ابن أخت تأبّط شَرّاً وهو: إنَّ بالشِّعب الذي دون سَلْع لقتيلاً دَمُه ما يُطَلُّ لخلَف الأحمر وإنه نَحله إياه. وكذلك كان يفعل حمّاد الرواية يَخلط الشعر القديم بأبيات له. قال حماد: ما مِن شاعر إلا قد زِدْتُ في شعره أبياتاً فجازت عليه إلا الأعشى أعشى بكر فإني لم أزد في شعره قطُّ غيرَ بيت فأفسدتُ عليه الشعر. قيل له: وما البيتُ الذي أدخلته في شعر الأعشى فقال: وأنكرتْني وما كان الذي نَكِرتْ من الحوادث إلا الشَّيبَ والصلعَا وقال حمّاد الراوية: أرسل إليّ أبو مُسلم ليلاً فراعني ذلك فلبستُ أكفاني ومضيتُ. فلما دخلتُ عليه تركني حتى سَكن جأشي ثم قال لي: ما شِعر فيه أوتاد قلت: من قائله أصلح اللّه الأمير قال: لا أدري. قلت: فمِن شعراء الجاهلية أم مِن شُعراء الإسلام قال: لا أدري. قال: فأطرقتُ حيناً أفكر فيه حتى بدر إلى وَهمي شعر الأفوه الأوديّ حيث يقول: لا يَصلح الناسُ فوضىَ لا سراةَ لهم ولا سَراةَ إذا جُهّالهم سادُوا والبيت لا يُبتنَي إلا له عَمَد ولا عِمادَ إذا لم تُرْس أوتاد فقلت: هو قَوْل الأَفوه الأودي أصلح الله الأمير وأنشدته الأبيات. فقال: صدقتَ انصرفْ إذا شئتَ. فقمتُ فلما خطوتُ البابَ لحَقني أعوان له معهم بَدْرة فصَحِبوني إلى الباب. فلما أردتُ أن اقبضها منهم قالوا: لا بُدّ مِن إدخالها إلى موضع مَنامك. فدخلوا معي فعرضتُ أنْ أعطيهِم منها. فقالوا: لا نقدم على الأمير. الأصمعيّ قال: أقبل فِتْيان إلى أبي ضمضم بعد العشاء فقال: ما جاء بكم قالوا: جِئنا نتحدّث إليك. قال: كذبتم يا خُبثاء ولكنْ قُلتم: كَبر الشيخُ فهلم بنا عسى أن نأخذَ عليه سَقطة قال: فأَنشدهم لمائة شاعر كُلهم اسمه عمرو. وقال الأصمعي: فعددتُ أنا وخَلف الأَحمر فلم نَزد على أكثر من ثلاثين. وقال الشَّعبي: لستُ لشيء من العُلوم أقلَّ رواية مني للشعر ولو شئتُ لأنشدت شهراً ولا أعيد بيتاً. وكان الخليل بن أحمد أروى الناس للشعر ولا يقول بيتاً. وكذلك كان الأصمعي. وقيل للأصمعي: ما يمنعك من قول الشعر قال: نَظري لجيِّده. وقيل للخليل: ما لك لا تقول الشعر قال: الذي أريده لا أجده والذي أجده منه لا أريده. وقيل لآخر: ما لك تَروي الشعر ولا تقوله قال: لأني كالمسَنّ أَشحذ ولا أَقطع. وقال الحسنُ القاسم بن محمد السّلاميّ قال: حدَّثنا أحمد بن بِشْر الأطْروش قال: حدَّثني يحيىِ بن سَعيد قال: أخبرني الأصمعيِّ قال: تصرَفتْ بي الأسباب إلى باب الرشيد مؤِمِّلاً للظفر بما كان في الهِمَّة دفيناً أترقّب به طالع سَعد يكون على الدَّرك مُعيناً. فاتَصل بي ذلك إلى أن كنت للحرسِ مُؤْنساً بما استملتُ به مودتَهم. فكنتُ كالضَّيف عند أهل المبرة. فطَرقتُهمِ متوجِّهاً بإتحافي. وطاولْتني الغايات بما كِدْت أصِير به إلى مَلالة غير أنني لم أزل مُحْيِياً للأمل بمذاكرته عند اعتراض الفَترة وقلتُ في ذلك: وأيُّ فتى أعِير ثباتَ قَلْب وساع ما تَضِيق به المَعاني تجاذبه المواهبُ عن إباء ألاّ بل لا تُواتيه الأمانَي فرُبَّ مُعرَّس للناس أجلى عن الدَرك الحميد لدى الرِّهان وأيّ فتى أناف على سُموّ مِن الهمّات مُلْتهبَ الْجَنَان بغير توسُّع في الصَّدرماض على العَزمات كالعَضْب اليَماني فلم نَبْعد أنْ خرج علينا خادم في ليلةٍ نَثرت السعادةَ والتوفيق وذلك أن الرشيد تربّعِ الأرقُ بين عينيه فقال: هل بالحَضرة أحدٌ يحسن الشعر فقلت: الله أكبر رُبّ قيْد مُضيَّق قد فكّه التَيسير للإنعام. أنا صاحبُك إن كان صاحبُك مَن طلب فأدمن أو حَفِظ فأَتقن. فأَخذ بيدي ثم قال: ادخل إنْ يحتم الله لك بالِإحسان لديه والتَّصويب فلعلّها تكون ليلةً تُعوِّض صاحبها الغِنى. قلت: بَشرك الله بالخير. قال: ودخلتُ فواجهتُ الرَشيد في البهو جالساً كإنّما رُكِّبب البدرُ فوق أزراوه جمالاً والفضلُ بن يحيى إلى جانبه والشَمع يحُدق به على قضب المَنابر والخَدم فوق فَرشه وُقوف. فوقف بي الخادم حيث يَسمع تَسْليمي ثم قال: سَلِّم. فسلّمت. فردّ ثم قال: يُنَحَّى قليلاً ليسكن روعه إن وجد للرَّوْعة حساً. فقعدتُ حتى سكن جأشي قليلاً ثم أقدمتُ فقلت: يا أمير المؤمنين إضاءة كَرمك وبَهاء مجدك مُجيران لمن نَظر إليك من اعتراض أذَّية له أيسألني أمير المؤمنين فأجيب أم أبتدئ فأصيب بيُمن أمير المؤمنين وفَضْله قال: فتبسّم إليَّ الفَضلُ ثم قال: ما أحسن ما أستدعى الاختبار وأسهلّ به المُفاتحة وأجْدر به أن يكون محسناً. ثم قال الفضل: والله يا أمير المؤمنين لقد تقدم مبرزاً مُحسناً في استشهاده على براءته من الحَيْرة وأرجو أن يكون مُمْتعاً. قال: أرجو. ثم قال: ادْنُ. فدنوتُ. فقال: أشاعرٌ أم راوية قلت: رواية يا أمير المؤمنين. قال: لمن قلت: لذى جِدٍّ وهَزْل بعد أن يكون محسناً. قال: والله ما رأيتُ أوعى لعِلم ولا أخير بَمحاسنِ بيان قَتقَتْه الأذهان منك. ولئن صرتُ حامداً أثرَك لتعرفن الإفضال مُتوجِّهاً إليك سريعاً. قلت: أنا على الميْدان يا أمير المؤمنين فيُطلق أميرُ المؤمنين من عِقالي مُجيباً فيما أحبه. قال: قد أنصف القارةَ مَن راماها. ثم قال: ما معنى المثل في هذه الكلمة بَديّاً قلت: ذكرت العربُ يا أمير المؤمنين أنَ التتابعة كانت لهم رُماة لا تقع سِهامهم في غير الحَدق وكانت تكون في المَوْكب الذي يكون فيه المَلك على الجياد البُلْق بأيديهم الأسورةُ وفي أعناقهم الأطواق تُسميهم العرب القارة. فخرج من موكب الصُغد فارس مُعْلَم بعَذَبات سُود في قَلنْسوته قد وضع نُشابته في الوتر ثم صاح: أين رُماة الحرب قالوا: قد أنصف القارة مَن راماها. والملك أبو حسَّان إذ ذاك المضاف إليه. قال: أحسنت! أرويتَ للغجَّاج ورُؤبة شيئاً قلت: هما يا أمير المُؤمنين يتناشدان لك بالقَوافي وإن غابا عنك بالأشخاص. فمدَ يدَه فأخرج من تحت فراشه رُقعة ينظر فيها ثم قال: اسْمعني: ارقني طارقُ هّم طَرَقا فمضيتُ فيها مُضي الجَواد في سَنن مَيدانه تَهْدِرُ بها أشداقي حتى إذَا صَرتُ إلى امتداح بني أمية ثَنيتُ عِنان اللسان إلى امتداحه المنصورَ في قوله. قُلْت لزِيرٍ لم تَصِلْه مَرَيمه قال: أعن حَيْرة أمِ عن عَمد قلت: بل عن عمد تركتُ كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. قال الفضل: أحسنتَ بارك الله فيك مثلك يُؤمَّل لهذا الموقف. قال الرشيد: أرجع إلى أول هذا الشعر. فأخذتُ من أوله حتى صرت إلى صفة الجمل فأطلتُ. فقال الفَضل: ما لك تُضيِّق علينا كَلّ ما اتسع لنا من مساعدة السَّهر في ليلتنا هذه بذكر جَمل أَجرب صِرْ إلى امتداح المنصور حتى تأتي على آخره. فقال الرشيد: اسكت هي التي أخرجتْك من دارك وأَزعجتك من قَرارك وسلبتْك تاجِ مُلكك ثم ماتت فعملت جلودها سِياطاً يضرب بها قومُك ضربَ العبيد ثم قهقه. ثم قال: لا تَدع نفسك والتعرّضَ لما تكره. فقال الفضل: لقد عُوقبتُ على غير ذنب والحمد للّه. قال الرشيد: أخطأتَ في كلامك يرحمك اللّه لو قلتَ: وأستغفر اللّه قلتَ صواباً وإنما يُحمد الله على النعم. ثم صَرف وجهه إليّ وقال: ما أحسن ما أدَّيت في قدر ما سئلت أسمعني كلمةَ عديِّ بن الرّقاع في الوليد ابن يزيد بن عبد الملك: عَرف الدِّيار توهماً فاعتادها فقال الفضل: يا أمير المؤمنين ألبستْنا ثوبَ السهر ليلتَنا هذه لاستماع الكذب لمَ لا تأمره أن يُسمعك ما قالت الشعراء فيك وفي آبائك قال: ويحك! إنه أدب ما يُخطب أبكاره بالنّسب وقلّما يُعتاض عن مثله. ولأن أسمع الشعر ممن يَخْبره وشغلته العنايةُ به عُمرَه أحبُّ إليّ من أن تُشافهني به الرُّسوم. وللمُمتَدح بهذا الشعر حركات ترد عليها فلا تصدُر من غير انتفاع بها. ولا أكون أول مُستنّ طريقة ذِكْر لم تؤدها الرواية. قال الفضل: قد والله يا أميرَ المؤمنين شاركتُك في الشوق وأعنتُك على التّوْق. ثم التفتَ إليّ الفضلِ فقال: أحْدُ بنا ليلتك مُنشداً هذا سيدي أمير المُؤمنين قد أصغى إليك مُستمعاً فمُر وَيحك في عِنان الإنشاد فهي ليلة دهرك لن تنصرف إلا غانماً. قال الرشيد: أمّا إذا قطعتَ عليّ فأحلف لتشركنّي في الجزاء. فما كان لي في هذا شيء لم تُقاسمنيه. قال الفضل: قد والله يا أمير المؤمنين وطنت نفسي على ذلك متقدّماً فلا تَجعلنّه وعيداً. قال الرشيد: ولا أجعله وَعيداً. قال الأصمعي: الآن ألبس رداء التِّيه على العرب كلها إني أرى الخليفة والوزير وهما يَتناظران في المَواهب لي. فمررتُ في سنن الإنشاد حتى إذا بلغتُ إلى قوله: تُزْجِي أَغنَّ كأن إبرة رَوْقة قَلَم أصابَ من الدَّواة مِدادَها فاستوى جالساً ثم قال: أتحفظ في هذا شيئاً قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال الفرزدق: لما قال عَدي: تزجي أغنّ كأن إبرة رَوْقة قلت لجرير: أيّ شيء تراه يناسب هذا تشبِيهاً فقال جرير: قلم أصاب من الدَّواة مِدادَها فما رجع الجواب حتى قال عديّ: فقلت لجرير: ويحك! لكأن سَمعَك مَخبوء في فؤاده. فقال جرير: اسكت شغَلني سَبُّك عن جَيّد الكلام. ثم قال الرشيد: مُرَّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله: ولقد أراد الله إذ ولاكها من أُمةٍ إصلاحَها ورَشادها قال الفضل: كذب وما برّ. قال الرشيد: ماذا صَنع إذ سمع هذا البيت قلت: ذكرت الرواةُ يا أمير المؤمنين أنه قال: لا حول ولا قوة إلاّ باللّه. قال: مُرّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله: تأتيه أَسْلاب الأعِزة عَنوَةً عُصَباً وتَجمع للحُروب عَتادَها قال الرشيد: لقد وصفه بحَزم وعزم لا يَعْرِض بينهما وَكْلٌ ولا استذلال. قال: فماذا صَنع قلت: يا أمير المؤمنين ذكرت الرواة أنه قال: ما شاء اللّه. قال: أحسبك وَهمت قلت: يا أمير المؤمنين أنت أولى بالهِداية فليردّني أميرُ المؤمنين إلى الصواب. قال: إنما هذا عند قوله: ولقد أراد الله إذ ولاّكها من أُمة إصلاحَها ورشادَها ثمّ قال: والله ما قلت هذا عن سَمع ولكنني أعلم أنّ الرجل لم يمكن يُخطئ في مثل هذا. قال الأصمعيّ: وهو والله الصواب. ثم قال: مُرَّ في إنشادك. فمضيتُ حتى بلغت إلى قوله: وقال: وكان من خَبرهم ماذا قلت: ذكرت الرواة أن جريراً لمّا أنشد عدي هذا البيت قال: بلى واللّه وعشر مِئين. قال عديّ: وَقْر في سمعك أثفل من الرصاص. هذا والله يا أمير المؤمنين المَديح المُنتقى. قال الرشيد: والله إنه لنقيّ الكلام في مَدْحه وتَشبيبه. قال الفضل: يا أمير المؤمنين لا يُحسنِ عديّ أن يقول: شُمسُ العَداوة حتى يُستقاد لهم وأعظم الناس أحلاماً إذا قَدروا قال الرشيد: بلى. قد أحسن إذ يقول في الوليد: لِلْحمد فيه مذاهب ما تَنتهي ومكارم يَعْلون كُلَّ مكارم ثمّ التفت إليَّ فقال: ما حفظتُ له في هذا الشعر شيئاً حين قال: أطفأتَ نِيران الحُروب وأُوقدت نارٌ قَدَحْتَ براحتيك زِنادهَا قلت: ذكرت الرواة يا أمير المؤمنين أنه حَك يميناً بشمال مُقتدحاً بذلك ثم قال: الحمد للّه على هبة الإنعام. ثم قال الرشيد: أرويتَ لذي الرُّمة شيئاً قلت: الأكثر يا أمير المؤمنين. قال: والله إني لا أسألك سؤال امتحان وما كان هذا عليك ولكنّني أجعله سبباً للمُذاكرة فإن وَقع عن عِرْفانك شيء فلا ضيق عليك بذلك عِندي فما ذا أراد بقوله: مُمَرّ أَمرّت مَتْنَه أسديّة يَمانيّة حَلالة بالمَصانِع قلت: وصف يا أمير المؤمنين حماراً وحشِيَّاً أسمنه بَقل رَوضة تشابكت فروعه ثم تواشجت عُروقه من قَطْر سحابة كانت في نَوء الأسد ثم في الذَراع منه. قال: أصبتَ. أفترى القومَ علموا هذا من النجوم بنظرهم إذ هو شيء قَلّما يُستخرج بغير السبب الذي رُويت لهم أصوله أو أَدَّتهم إليه الأوهام والظُّنون فالله أعلم بذلك. قلت: يا أمير المؤمنين هذا كثير في كلامهم ولا أحسبه إلا عن أثر أُلْقي إليهم. قال: قلّما أجد الأشياء لا تُثيرها إلاّ الفكر في القُلوب. فإن ذهبتَ إلى أنه هِبة الله ذكّرهم بها ذهبتَ إلى ما أدَتهم إليه الأوهام. ثم قال: أرويتَ للشّماخ شيئاً قلتُ: نعم يا أمير المؤِمنين. قال: يُعجبني منه قولُه: إذا رُدَّ من ثِنْي الزِّمَام ثَنتْ له جِراناً كخُوط الخَيْزران المُمَوَّج قلت: يا أمير المؤمنين هي عَروس كلامه. قال: فأيها الحسن ألان من كلامه قلت: الرائيّة وأنشدتُه أبياتاً منها. قال: أمسك ثمّ قال: أستغفر الله ثلاثاً أَرِحْ قليلاً واجلس فقد أمتعتَ مُنشداً ووجدناك مُحسناً في أدبك مُعبراً عن سرائر حفظك. ثم التفت إلى الفضل فقال: لكَلام هؤلاء ومَن تقدّم من الشعراء دِيباجُ الكلام الخُسْرواني يَزيد على القَدِم جِدّة وحُسناً. فإذا جاءك الكلام المُزيَن بالبديع جاءك الحرير الصِّينيّ المُذهّب يَبقى على المُحادثة في أفواه الرواة. فإذا كان له رَوْنق صَوَاب وَعَته الأسماع ولَذّ في القلوب ولكن في الأقل منه. ثم قال: يُعجبني مثلُ قول مُسلم في أبيك وأخيك الذي افتتحه بمخاطبة حليلته مفتخراً عليها بطُول السّرى في اكتساب المغانم حيث قال: أجدّكِ هل تَدرين أن رُبَ ليلةٍ كأنّ دُجاها من قُرونك يُنشَر صبرتُ لها حتى تجلّت بُغرة كغُرة يحيى حين يُذكر جَعفر أفرأيت ما ألطف ما جعلهما مَعدناً لكمال الصفات ومَحاسِنها ثم التفت إليّ فقال: أجدُ ملالة ولعلِّ أبا العبّاس يكون لذلك أنشط وهو لنا ضيف في ليلتنا هذه فأقِم معه مُسامراً له ثم نَهض. فتبادر الخدم فأمسكوا بيده حتى نزل عن فَرشه ثم قُدّمت النعل فلما وضع قدمه فيها جعل الخادم يُسوّي عَقب النعل في رجْله. فقال له: ارفُق ويحك حَسْبك قد عَقرتني. قال الفضل: لله دَرُّ العَجم ما أحكم صَنعتهم لو كانت سِنْديّة ما احتجت إلى هذه الكلفة. قال: هذه نَعلي ونَعل آبائي رحمة الله عليهم وتلك نَعلك ونعل آبائك. لا تزال تُعارضني في الشيء ولا أَدعك بغير جواب يُمضّك ثم قال: يا غلام عليّ بصالح الخادم. فقالت: يُؤمر بتَعجيل ثلاثين ألفَ درهم في ليلته هذه. قال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه أحد غيره لدعوت لك بمثل ما أمر به أمير المؤمنين. فدعا له بمثل ما أمر به أمير المؤمنين إلا ألفَ درهم. وتصبح من غد فتلقى الخازن إن شاء اللّه. قال الأصمعيّ: فما صليت الظَّهر إلا وفي منزلي وقال دِعبل بّن علي الخُزاعي: يَموت رديء الشَعر من قبل أهلِه وجيّده يَبقى وإن مات قائلُه وقال أيضاً: إنّي إذا قلتُ بيتاً مات قائله ومَن يقال له والبيتُ لم يَمُتِ باب مَن استعدى عليه من الشعراء لما هَجا الحُطيئة الزِّبرقان بنَ بَدْر بالشّعر الذي يقول فيه: دَع المكارِم لا تَرْحل لبُغيتها واقعُد فإنك أنت الطاعِم الكاسي إستعدى عليه عمرَ بن الخطّاب وأنشده البيتَ. فقال: ما أرى به بأساً. قال الزِّبرقان: والله يا أمير المؤمنين ما هُجيت ببيت قطُّ أشدَّ عليّ منه. فبعث إلى حسّان بن ثابت وقال: انظُر إن كان هجاه. فقال: ما هَجاه ولكن سَلح عليه. ولم يكن عُمر يَجهل موضع الهجاء في هذا البيت ولكنه كَره أن يتعرّض لشأنه فبعث إلى شاعر مثله وأمر بالحُطيئة إلى الحَبس وقال: يا خَبيث! لأشغلّنك عن أعراض المسلمين. فكتب إليه من الحَبس يقول: ماذا تقول لأفراخ بذي مَرَخٍ زغب الحَواصل لا ماء ولا شَجَرُ ألقيت كاسبَهم في قعر مظلمة فاغفِر عَليك سلامُ الله يا عُمر أنت الإمام الذي مِن بعد صاحبه أَلقت إليك مَقاليدَ النُّهى البَشر ما آثروك بها إذ قدَّموك لها لكنْ لأنفسهم قد كانت الإثَر فأمر بإطلاقه وأخذ عليه ألا يهجو رجلاً مُسلماً. ولمِّا هجا النجاشيُ رهطَ تميم بن مُقبل استعدَوا عليه عمَر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: يا أميرَ المؤمنين إنّه هجانا. قال: وما قال فيكم قالوا: قال: إذا الله عادَى أهل لُؤم ورقة فعادَى بني عَجْلان رَهْط ابنِ مُقبل قال عمر: هذا رجل دعا فإن كان مظلوماً استُجيب له وإن لم يكن مظلوماً لم يُستجب له. قالوا: فإنه قد قال بعد هذا: قبيلته لا يَخْفرون بذمَة ولا يَظلمون الناسَ حَبَّة خَرْدل قال عمر: ليت آلَ الخطاب مثل هؤلاء. قالوا: فإنه يقول بعد هذا: ولا يَردون الماءَ إلا عشية إذا صَدر الوْرَّاد عن كُل مَنْهل قال: فإن ذلك أَجَمّ لهم وأمكن. قَالوا: فإنه يقول بعد هذا: وما سمَي العَجلان إلاّ لقَولهم خُذ القَعْب واحلب أيها العَبْد واعجل قال عمر: سيِّد القوم خادمُهم فما أرى بهذا بأساً. ونظير هذا قول معاوية لأبي بُردة بن أبي مُوسى الأشعري وكان دَخل حمّاما فزحمه رجل فرفع رجلُ يده فلَطم بها أبا بُردة فأثر في وجهه. فقال فيه عُقَيبة الأسديّ: لا يَصرم الله اليمينَ التي لها بوَجهك يابنَ الأشعريّ نُدوبُ قال: فاستعدى عليه مُعاوية وقال: إنّه هَجاني. قال: وما قال فيك فأنشده البيت. قال معاوية: هذا رجل دَعا ولم يقل إلا خيراً. قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال فأنشده: وأنت اْمرؤٌ في الأشْعرين مُقابَل وفي البَيت والبَطحاء أنت غَريبُ قال معاوية: وإذا كنتَ مُقابَلا في قومك فما عليك ألا تكون مقابَلا في غيرهم. قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال قال قال: وما أنا من حُدّاث أمك بالضُّحى ولا مَن يُزكِّيها بظَهر مَغِيبِ قال: إنما قال: ما أنا من حدَاث أمك فلو قال: إنه من حُدَّاثها لكان ينبغي لك أن تغضب. والذي قال لي أشد من هذا. قال: وما قال لك يا أمير المؤمنين قال قال: مُعاويَ إننا بَشرٌ فأسجِحْ فَلسْنا بالجبال ولا الحديدِ أكلتُم أرضَنا وجَردتموها فهل من قاَئم أو من حَصِيد فَهَبْنا أُمةً هَلَكت ضَياعاً يَزيدُ أميرُها وأبو يَزيدِ أتطمع بالخُلود إذا هَلَكنا وليس لنا ولا لك مِن خُلود ذَرُواجَور الخلافة واستقِيموا وتأميرَ الأرازل والعَبيد قال: فما مَنعك يا أميرَ المًؤمنين أن تَبعثَ إليه مَن يضرب عُنقه قال: أو خَيْر من ذلك قال: استعدى قومٌ زيادا على الفَرزدق وزعموا أنه هَجاهم. فأرسل إليه وَعَرض له أن يُعطيه. فهرب منه وأنشده: دَعانِي زيادٌ للعَطاء ولم أكُن لأقْرَبه ما ساق ذو حَسَب وَفرا وعِنْد زياد لو يريد عطاءَهم رجالٌ كثيرٌ قد يَرى بهمُ فَقْرا فلمّا خَشِيتُ أن يكون عطاؤه أداهم سُودا أو مُحَدْرَجة سمرا نَهضتُ إلى عَنْس تَخوَّن نيها سُرى الليل واستعراضُها البلدَ القَفْرا يَؤم بها المَوماة مَن لا ترى له لدى ابن أبي سُفيان جاهاً ولا عُذرا ثم لحق بَسعيد بن العاص وهو والي المدينة فاستجار به وانشده شعره الذي يقول فيه: إليك فررتُ منك ومن زيادٍ ولم أحْسب دمِي لكما حَلالاً فإنْ يكُن الهِجاء أحلّ قَتْلي فقد قُلنا لشاعركم وقَالا ترى الغُر السوابق من قريش إذا مِا الأمرُ في الحَدَثان عالا قِياماً يَنْظرون إلى سعيد كأنَهمُ يَرَوْن به هلالا ولما وقع التّهاجي بين عبد الرحمن بن حسَّان وعبد الرحمن بن أم الحكَم أرسل يزيد بنُ مُعاوية فاهْج الأنصار. فقال: أرادِّي أنت إلى الإشراك بعد الإيمان لا أهجوا قوماً نصروا رسول الله صلى الله عيه وسلم ولكن أدلك على غُلامٍ منّا نصرانيّ. فدلّه على الأخطل. فأرسل إليه فهجا الأنصار وقال فيهم: ذهبت قريش بالمَكارم كُلِّها والُّلؤمُ تحت عَمائِم الأنصارِ قومٌ إذا حَضر العَصِير رأيتَهم حُمْرا عُيونُهم من المُسْطار وإذا نسبتَ ابن الفُريعة خِلْتَه كالجَحش بين حِمارة وحِمار فدعُوا المَكارم لستُمُ من أهلها وخذُوا مساحِيَكم بني النّجار وكان مع معاوية النُّعمان بن بَشير الأنصاريّ فلما بلغه الشّعر أقبل حتى دخل على معاوية ثم حَسر العِمامة عن رأسه وقال: يا معاوية هل تَرى من لؤم قال: ما أرى إلا كَرَماً. قال: فما الذي يقول فينا عبدُ الأراقم: ذهبت قُريش بالمَكارم كُلها واللؤمُ تحت عمائم الأنصار قال: قد حكّمتك فيه. قال: والله لا رضيتُ إلا بقَطع لسانه. ثم قال: مُعاوي إلا تُعطنا الحقّ تَعْترف لِحَى الأزد مَشْدودا عليها العمائمُ أيشتُمنا عبدُ الأراقم ضلّة وما ذا الذي تجدي عليك الأراقم قال معاوية: قد وهبتُك لسانَه. وبلغ الأخطلَ. فلجأ إلى يزيدَ بن معاوية. فركب يزيدُ إلى النُّعمان فاستوهبه إياه. فوَهبه له. ومن قول عبد الرحمن بن حسان في عبد الرحمن بن أُم الحكم: وأمَّا قولُك الخُلفاء منّا فهم مَنعوا وَريدَك مِن وِداجِي ولولاهم لَطِحْتَ كَحُوت بَحْر هَوَى في مُظلم الغَمرات داجِي وهم دُعْج ووُلْد أبيك زُرق كأنّ عُيونهم قِطَع الزُجاج وقال يزيد لأبيه: إنّ عبد الرحمن بن حسَّان يُشبَب بابنتك رَملة قال: وما يقول فيها قال: يقول: هِيَ بَيْضاء مثلُ لؤلؤة الغَوّ اص صِيغت من لُؤلؤ مَكنونِ قال: صدق. قال: ويقول: إذا ما نسبتها لم تَجِدْها في سَناء من المَكارم دونِ قال: صدق أيضاً. قال: ويقول: تجعل المسك واليَلَنْجو ج صِلاءً لها على الكانون قال: وصدق. قال: فإنه يقول: ثم خاصَرتها إلى القُبة الخض راء تَمشي في مَرمر مَسْنون قُبّة من مَراجل ضربوها عند بَرْد الشتاء في قَيْطون قال: ما في هذا شيء. قال: تبعث إليه من يأتيك برأسه. قال: يا بُني لو فعلت ذلك لكان أشدَّ عليك لأنه يكون سبباً للخوض في ذِكره فيُكثِّر مكثر ويزيد زائد اضرب عن هذا صفحا واطودونه كَشْحا. ومن قول عبد الله بن قيس المَعروف بالرُّقيات. يُشبِّب بعاتكة بنت يزيد بن معاوية: أعاتِك يا بنْت الخَلائف عاتكَا أنيلي فتىً أَمسى بحُبك هالِكَا تبدَّتْ وأتراب لها فقتْلنَنيِ كذلَك يَقْتلن الرجالَ كذلكا يُقلِّبن ألحاظاً لهنّ فوِاتراَ ويَحْملن من فوق النَعال السبائكا إذا غَفلت عنّا العُيون التي نرى سَلَكْن بنا حيثُ اشتهين المَسالكا وقُلْن لنا لو نَستطيع لزاركم طَبِيبان مِنّا عالمان بدائكا فهل مِن طَبيب بالعِراف لعلّه يُداوي سَقِيماً هالكاً مُتهالكا فلم يَعرض له يزيدُ للذي تقدّم من وصاية أبيه مُعاوية في رَملة. تحدَثت الرواة أن الحَجاج رأى محمدَ بن عبد الله بن نُمير الثقفي وكان يُشبّب بزَينب بنت يوسف أخت الحجّاج فارتاع مِن نظر الحجّاج إليه. فدعا به. فلما وقف بين يديه قال: وإن كنتُ بالعنقاء أو بتُخومها ظننتك إلا أنْ تَصُد تَراني فقال له: لا عليك فوالله إن قُلتَ إلا خيراً إنما قلت هذا الشعرَ: يُخبئن أطرافَ البنَان من التُقى ويَخْرُجن وسطَ الليل مُعتجراتِ ولكن اخبرني عن قولك: ولما رأت رَكْب النّميري أعرضت وكُنُ من أن يَلقينَه حَذِرات في كم كنت قال: والله إن كنتُ إلا على حِمار هَزيل معي رفيق على اتان مثله. قال: فتبسِّم الحجّاج ولم يَعرض له. والأبيات التي قالها ابنُ نمير في زَينب بنت يوسف: ولم تَر عيني مثلَ سِرْب رأيتُه خَرَجْن من التَّنْعيم مُعْتمرات مَرَرْن بفَخِّ ثم رُحن عشيةً يُلبِّين لرحمن مُؤْتجرات تَضوّع مِسْكاً بطنُ نَعمان إذ مَشَتْ به زينب في نسْوة خَفِرات ولما رأت رَكْب النُّميري أعرضتْ وكُنَّ من أن يلْقَينه حَذِرات دَعَت نِسْوةً شُمَّ بدَناً نواضِرَ لا شُعْثاً ولا غَبِرات فأدْنين لما قُمْن يَحْجُبن دونها حِجاباً مِن القَسيِّ والحِبرَات وكان الفرزدق قد عرَّض بهشام بن عبد الملك في شِعره. والبيتُ الذي عرض به فيه قولُه: يُقلِّب عينَاً لم تكن لخليفة مُشَوِّهةً حَوْلاء جما عُيوبُها فكتب هشام إلى خالد بن عبد الله القَسْريّ عامله على العراق يأمره بحَبسه فحبسه حتى دخل جَرير على هشام فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت تُريد أن تَبْسط يدَك على بادي مُضر وحاضرها فأطْلِق لها شاعرهَا وسيّدها الفرزدق. فقال له هشام: أوَ مَا يسُرك ما أخزاه اللّه قال: ما أريد أن يُخزيه الله إلا على يديّ. فأمر بإطلاقه. أي بيت تقوله العرب أشعر قيل لأبي عمرو بن العلاء: أيّ بيت تقوله العرب أشعر قال: البيت الذي إذا سمعه سامعُه سَوّلت له نفسه أن يقول مثله ولأن يخدَش أنفه بظفر كلْبٍ أهونَ عليه من أن يقول مثلَه. وقيل للأصمعيّ: أيّ بيت تقوله العرب أشعر قال: الذي يُسابق لفظه معناه. وقيل لخليل: أي بيت تقوله العرب أشعر قال: البَيت الذي يكون في أوله دليل على قافيته. وقيل لغيره: أي بيت تقوله العرب أشعر قال: البيتُ الذي لا يَحْجبه عن القلب شيء. وأحسن من هذا كله قول زُهير: وإنّ أحسنَ بيتٍ أنت قائُله بيت يُقال إذا أَنشدتَه صَدَقا أحسن ما يجتلب به الشعر قالت الحكماء: لم يُستدع شارد الشعر بأَحسنَ من الماء الجاري والمكان الخالي والشرف العالي. وتأول بعضهم الحالي بالحاء. يريد الحالي بالنوَّار يعني الرياض وهو توجيه حسن ولقي أبو العتاهية الحسنَ بن هانئ فقال له: أنت الذي لا تقول الشعر حتى تُؤتى بالرّياحين والزهور فتوضع بين يديك قال: وكيف ينبغي للشعر أن يُقال إلا على هكذا قال: أما إني وقال عبد الملك بن مَروان لأرطاة بن سُهيّة: هل تقول الآن شعراً قال: ما أَشرب ولا أَطرب ولا أضرب فلا يقال الشعر إلا بواحدة من هذه. وقيل للحُطيئة: مَن أشعر الناس فأخرج لساناً رقيقاً كأنه لِسان حَيّة وقال: هذا إذا طَمِع. وقيل لكُثير عَزّة: لمَ تركتَ الشعر قال: ذهب الشَّباب فما أَعجب وماتت عَزّة فما أطرب ومات ابن أبي ليلى فما أرغب. يريد عبد العزيز بن مروان وقالوا: أشعر الناس النابغة إذاَ هب وزُهير إذا غضب وجَرير إذا رَغب. وقال عمرو بن هند لِعَبيد بن الأبرص ولَقيه في يوم بُؤسه: أَنْشِدني من شعرك. قال: حال الجَريض دون القَريض. وقد يَمتنع الشعر على قائله ولا يَسلس حتى يَبعثه خاطر يطربه أو صوت حَمامة. وقال الفرزدق: أنا أشعر الناس عند اليأس وقد يأتي عليّ الحِين وقَلْع ضِرْس عندي أهون من قول بيت شِعر. وقال الراجز: إنما الشِّعر بناءٌ يبتنيه المُتنونَا فإذا ما نسقوه كان غَثاً أو سمينا رُبما وأتاك حِينا ثم يستصعب حِينا واسلس ما يكون الشعر في أول الليل قبل الكَرى وأول النهار قبل الغداء وعند مفاجأة النفس واجتماع الفكر. وأقوى ما يكون الشعر عندي على قَدر قُوة أسباب الرغبة أو الرهبة. قيل للخُريمي: ما بال مدائحك لمحمد من مَنصور بن زياد أحسنُ من مَراثيك قال: كُنا حينئذ نعمل على الرجاء ونحن اليوم نَعمل على الوفاء وبينهما بَوْن بعيد. والدليل على صحة هذا المعنى وصِدْق هذا القياس أنّ كُثيرَ عزّة والكُميت ابن زيد كانا شِيعيّين غاليين في التشيع وكانت مدائحهما في بني أمية أشرفَ وأجود منها في بني هاشم وما لذلك علّة إلا قوة أسباب الطمع. وقيل لكُثير عزّة: يا أبا صخر كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر قال: أَطوف في الرّباع المُحيلة والرِّياض المُعشبة فإن نفرت عنك القوافي وأعيت عليك المعاني فروّح قلبك وأجمّ ذهنك وارتصد لقولك فراغَ بالك وسعة ذِهنك فإنك تجد في تلك الساعة ما يَمتنع عليك يومَك الأطول وليلك الأجمع. من رفعه المدح ووضْعه الهجاء قال بلال بن جرير: سألتُ أبي جريراً فقلت له: إنك لم تَهجُ قوماً قط إلا وضعتَهم غير بني لجأ وقد يكون الشيء مدحاً فيجعله الشَعر ذمّا ويكون ذمَّا فيجعله الشعر مدحا. قال حبيب الطائي في هذا المعنى: ولولا خِلال سَنها الشِّعْر ما دَرى بُغاةُ النَّدَى من أين تُؤتى المَكارمُ تُرى حكمة ما فيه وهو فُكاهة وَيقضي بما يقضي به وهْو ظالم ألا تَرى إلى بني عبد المَدان الحارثيِّين كانوا يَفخرون بطُول أجسامهم وقديم شرفهم حتى قال فيهم حسان بن ثابت: لا بأسَ بالقَوم مِن طُول ومن غِلَظ جِسْم البِغال وأحلامُ الصَافير فقالوا له: والله يا أبا الوليد لقد تَركْتَنا ونحن نَسْتحي من ذكر أَجسامنا بعدَ أن كُنَّا نَفخر بها. فقال لهم: سأصلح منكم ما أفسدت فقال فيهم: وقد كُنا نقول إذا رَأينا لِذي جِسْم يُعدّ وذِي بَيانِ كأنك أيها المُعطَى لِساناً وجِسْماً من بني عَبد المَدان وكان بنو حنظلة بن قُريع بن عَوْف بن كعب يقال لهم: بنوِ أنف الناقة يُسَبون بهذا الاسم في الجاهلية. وسبب ذلك أن أباهم نحر جزوراَ وقسم اللحم فجاء حَنظلة وقد فرغ اللحم وبقي الرأس وكان صبيّاً فجعل يجره. فقيل له: ما هذا فقال: أنف الناقة. فلُقب به وكانوا سِيري أمامَ فإنّ الأكثرين حصىً والأكرمين إذا ما ينسبون أبَا قوم هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرهُمِ ومن يُسوّي بأنف النّاقة الذّنبا فعاد هذا الاسم فخراً لهم وشرفاَ فيهم. وكان بنو نمير أشرافَ قيس وذوائبهَا حتى قال جريرِ فيهم: فغُضَّ الطَّرفَ إنك من نُمير فلا كَعباً بلغتَ ولا كلابا فما بقي نُميريّ إلا طأطأ رأسه. وقال حَبيب الطَّائي: وقد كان المحلق بن حَنْتَم بن شدَّاد خاملاً لا يذكر حتى طَرقه الأعشى في فِتْية وليس عنده إلا ناقة. فأتى أمه فقال: إنّ فتية طَرقونا الليلة فإنْ رأيتِ أن تأذني في نَحر الناقة قالت: نعم يا بُني. فنَحرها واشترى لهم ببعض لحمها شراباً وشَوى لهم بعضَ لحمها. فأصبح الأعشى ومَن معه غادِين. فلم يَشْعر المحلّق حتى أتته القصيدةُ التي أولها: أَرِقتُ وما هذا السُّهاد المُؤرّقُ وما بِيَ من سُقْم وما بي مَعشَقُ وفيها يقول: لَعْمري لقد لاحتْ عيون كثيرة إلى ضَوء نار في يَفاع تَحرَّقُ رَضِيعي لَبانٍ ثَدْىَ أمّ تقَاسما بأسْحمَ داجٍ عوْضُ لا نتَفرّق ترى الجُود يَسْرِي سائلاً فوق وَجهه كما زان مَتْن الهُنْدوانيّ رَونق فلما أتته القصيدةُ جَعلت الأشراف تخطب إليه ويقول القاتل: وبات على النّار النَّدى والمُحلَّق وقوله تقاسما بأسحم داج. يقول: تحالقا على الرماد وهذا شيء تفعله الفُرس لئلا يفترقوا أبداً. والعرض: الدهر. ما يعاب من الشعر وليس بعيب قال الأصمعي: سمعتُ حمّاداً الراوية وأَنشده رجل بيتَ حَسّان: يُغْشَون حتى ما تَهِرّ كلابُهم لا يَسْألون عن السواد المُقبل فقال: ما يُعرف هذا إلا في كلاب الحَانات. وأنشده آخر قولَ الشاعر: لِمنْ مَنزل بين المَذانب والجِسْر فقال: ما يعرف هذا إلا دار الماسيديين. ومما يُعاب من الشعر وليس بعيب قولُ الفرزدق: فقال مَن جهل المَعنى ولم يعرف الخبر: ما في هذا من المدح أن يمدح رجل بلباس بُردين وركوب فرس ورْد. وإنما معناه: ما قال أبو عُبيدة: إن وفود العرب اجتمعت عند النعمان فأخرج إليهم برُدي مُحرِّق. وقاد لهم: ليقُم أعزّ العرب قَبيلةً فَليلْبِسْهما. فقال عامر بن أحيمر بن بَهدلة فائترز بأحدهما وتَردّى بالآخر. فقال له النُّعمان: بم أنت أعزُ العرب قبيلةً قال: العِزّ والعدد من العرب في مَعدّ ثم في نِزار ثم في مُضَر ثم في خِنْدف ثم في تَميم ثم في سَعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بَهدلة فمن أنكر هذا من العرب فَلْينافرني فسكت الناس. فقال النعمان: هذه عَشيرتك فكيف أنت كما تَزعم في نَفسك وأهل بَيتك فقال: أنا أبو عشرة وعَم عشرة وخال عشرة وأمّا أنا في نفسي فهذا شاهدي. ثم وَضع قَدمَه في الأرض وقال: مَن أزالها فله مائة من الإبل. فلَمْ يتعاطَ ذلك أحدٌ. فذهب بالبُردين. فسُمَّي: ذا البُردين وفيه يقول الفرزدق: فما تمِّ في سَعد ولا آل مالك غُلام إذا ما سِيل لم يَتبهدل لهمْ وهَب النعمانُ بُردَي مُحَرِّق بمَجْد مَعَدّ والعديد المُحصّل ومما يُعاب من الشعر وليس بعَيْب قولُ الأعشى في فرس النُّعمان وكان يُسمَى اليحموم: ويأمر لليَحموم كُلّ عشيَّة بقَت وتَعْليق فقد كاد يَسْنَقُ فقالوا ما هذا مما يُمدح به أحد من السُّوقة فضلاً عن الملوك. إنه يقوم بفوس ويأمر له بالعلف حتى كادَ يسنق. وليس هذا معناه وإنما المعنى فيه ما قال أبو عُبيدة: إن ملوك العرب بلغ من حَزمها ونَظرها في العواقب أنّ أحدهم لا يبيت إلا وفرسُه مَوقوف بسَرجه ولجامه بين يديه قريباً منه مخافة عدو يفجؤه أو حال تنقلب عليه: فكان للنعمان فرس يقال له اليَحموم يتعاهده كُلّ عشية. وهذا مما يتمادح به العرب من القيام بالخيل وارتباطها بأَفنية البيوت. ومما عابوه وليس بعَيب قولُ زُهير: قِفْ بالديار التي لم يَعْفُها القِدَم بلَى وغيَّرها الأرياح والدِّيمُ فنَفى ثم حقّق في معنى واحد. فنَقض في عجز هذا البيت ما قال في صدره لأنه زعم أنَّ الديار لم يَعْفُها القِدَم. ثم إن انتبه من مَرْقده فقال: بلى عفاها وغيْرها أيضاً الأرياح والدِّيم. وليس هذا معناه الذي ذهب إليه وإنما معناه: أنَّ الديار لم تَعْفُ في عَيْنه من طريق محبّته لها وشغفه بمن كان فيها. وقال غيرُه في هذا المعنى ما هو أبين من هذا وهو قولُه: ألا ليتَ المنازل قد بَلينا فلا يَرْمِين عن شَزْر حَزِينَا فقوله ألا ليت المنازل قد بلينا أي بَلِي ذِكْرُها ولكنَها تتجدّد على طُول البلى بتجدّد ذكرها. وقال الحسن بن هانئ في هذا المعنى فلخّصه وأوضحه وشنَّفه وقرّطه حيث يقول: تجافَى البِلَى عنهنّ حتى كأنما لَبسْنَ على الإقواء ثوبَ نَعيم وممَّا عِيب من الشّعر وليس بعَيب ما يُروى عن مَروان بن الحَكم أنه قال لخالد بن يزيدَ بن معاوية وقد أستنشده من شعره فأَنشده: فلو بقيتْ خلائفُ آل حَرْب ولم يُلْبِسْهمُ الدَّهرُ المَنونَا لأصبح ماءُ أهل الأرض عَذْباً وأصبح لحمُ دُنياهم سمينا فقال له مروان: منونا وسمينا والله إنها لقافية ما اضطرك إليها إلا العَجْز. وهذا مما لا عَجز فيه ولا عابه أحد في قوافي الشعر وما أرى العيب فيه إلا على مَن رآه عيباً لأنَ الياء والواو يتعاقبان في أشعار العرب كُلها قديمها وحديثها. وقال عبَيد بن الأبرصِ: وكُل ذي غيْبة يؤوب وغائبُ المَوت لا يؤوبً مَن يسأل الناسَ يَحْرموه وسائلُ الله لا يَخِيب ومثلُه من المُحدثين: أجارةَ بيتينا أبوك غَيُور وميسور ما يُرجى لديك عَسيرُ ومما عِيب من الشعر وليس بعيب قولُ ذي الأمة: رأيتُ الناسَ يَنْتجعون غَيْثاً فقلت لصَيْدح انتجعي بلالا ولما أنشدوا هذا الشعر بلالَ بن أبي بُردة قال: يا غلام مُرْ لصيدح بقَتٍّ من عَلف فإنها هي انتجعَتْنا. وهذا من التعنّت الذي لا إنصاف معه لأن قوله انتجعي بلالا إنما أراد نفسه. ومثله في كتاب الله تعالى: " واسأل القَرْيةَ التي كُنّا فِيها والعِيَر التي أقْبَلنا فيها ". وإنما أراد أهلَ القرية وأهل العِير. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في بعض ما يَرتجز به من شعر: إليك تَعدو قَلِقاً وَضينُها مخالِفاً دينَ النصارى دينُها فجعل الدِّين للناقة وإنما أراد صاحبَ الناقة. ولم تزل الشعراء في مدائحها تصف النُّوق وزيارتَها لمن تمدحه ولكنّ مَن طلب تعنّتاً وَجده أو تجنّياً على الشاعر أدركه عليه كما فعل صريعُ الغواني بالحَسن بن هانئ حين لَقيه فقال له: ما يَسلم لك بيتٌ عندي من سَقَط. قال: فأيّ بيت أسْقطت فيه قال: أنشدني أيَّ بيتٍ شئتَ. فأنشدَه: ذَكر الصِّبوحَ بسُحرِة فارتاحا وأمله ديكُ الصّباح صِياحَا فقال له: قد ناقضت في قولك كيف يُمِلّه ديك الصباح صِياحاً وإنما يُبشره بالصَّبوح الذي ارتاح له. فقال له الحسن: فأنشدني أنت من قولك. فأنشده: عاصىَ العَزاءَ فراح غَير مُفَنَدِ وأقام بين عَزيمة وتجلّدِ عاصى العزاء فراح غير مُفند ثم قلت: وأقام بين عزيمة وتجلّد فجعلته رائحاً مُقيماً في مقام واحد والرائح غير المُقيم. والبيتان جميعاً مؤتلفان. ولكنَ من طلب عيباً وجده. ومما عابه ابنُ قتيبة وليس بعيب قول المُرقَش الأصغر: صحا قلبُه عنها على أنّ ذِكْرها إذا ذُكرت دارت به الأرضُ قائمَا فقال له: كيفَ يَصحو مَن كانت هذه صِفته والمعنى صحيح وإنما ذهب إلى أن حاله هذه على ما تقدّم من سوء حاله حال صَحْو عنده. ومثل هذا في الشعر كثير لأن بعض الشّر أهون من بعض. وقال النبيّ صلى الله عيه وسلم في عمّه أبي طالب: إنه أخفُّ الناس عذاباً يوم القيامة يُحذَى نعلين من نار يَغلي منها دماغُه. وهذا من العذاب الشديد وإنما صار خفيفًا عندما هو أشدّ منه فزعم المُرقّش أنه عند نفسه صاحٍ إذ تبدُل حاله أسهل مما كان فيه. وقد عاب الناسُ على الحَسن بن هانئ قَوله: واخفَت أهلَ الشّرك حتى إنّه لتخافُك النُطفُ التي لم تخلقِ فقالوا: كيف تَخافه النُطف التي لم تُخلق ومجاز هذا قَريب إذا لحظ أنّ كل من خاف شيئاً خافه بجوارحه وسَمْعه وبَصره ولحمه ودمه والنُطف داخلة في هذه الجملة فهو إذا أخاف أهل الشرك أخاف النُطف التي في أصلابها. وقال الشاعر: ألا تَرْثِي لمُكتئبٍ يُحبّك لحمُه ودمُه وقال المكفوف: أحبكمُ حبّاً على الله أجرُه تَضمّنه الأحشاءُ واللحمُ والدمُ ولقى العتّابي منصوراً النَمريّ فسأله عن حاله. فقال: إني لَمدهوش وذلك أني تركت امرأتي وقد عَسُر عليها ولادُها. فقال له العتّابي: ألا أدلّك على ما يُسهل عليها. قال: وما هو قال: اكتب عَلى رَحمها هارون. قال: وما مَعناكَ في هذا قال: ألستَ القائل فيه: إنْ أخلف القَطر لم تُخلف مواهبُه أو ضاق أمر ذَكرناه فيتسعُ فقال: أبا لخُلفاء تُعرّض وفيهم تَقع وإياهم تَعيب. فيقال: إنه دخل على هارون فأعلمه ما كان من قول العَتّابي. فكتب إلى عبد الصمد عمّه يأمره بقتله. فكتب إليه عبدُ الصمد يشفع له. فوهبه إياه. سُئل بعض علماء الشعر: من أشعر الناس قال الذي يُصوِّر الباطل في صورة الحق والحقَّ في صورة الباطل بلُطف معناه ورقّة فِطْنته فيُقَبِّح الحسنَ الذي لا أحسن منه ويُحسن القبيح الذي لا أقبح منه. فمن تحسين القبيح قولُ الحارث بن هشام يعتذر من فراره يوم بَدْر: الله أعلم ما تركتُ قِتالَهم حتى رَموا مُهري بأشقَرَ مُزْبِدِ وعلمتُ أنّي إن أقاتل واحداً أقتل ولا يَضْرر عدوّي مَشهدي فصرفتُ عنهم والأحبةُ فيهمُ طمعاً لهم بعقاب يوم مُفْسِدِ وهذا الذي سمعه صاحب الهند رُتْبيل فقال: يا معشر العرب حَسّنتم كل شيء فحَسُن حتى حَسّنتم الفرار. ومن تقبيح الحسن: قولُ بشّار العقيلي في سليمان بن عليّ وكان وصل رجلاً وأحسن إليه: يا سوأةً يُكثر الشيطانُ ما ذُكرت منها التعجبَ جاءت من سُليمانَا لا تَعجبنَّ لخَيْرِ زلّ عن يده فالكَوكبُ النَّحس يَسقي الأرضَ أحيانا وقال غيرُه في تَحسَين القَبيح: يقولون لي إنّي بَخيل بنائلي ولَلْبخلُ خيرٌ من سؤال بَخيل وحَبْس المال خيرٌ من بُغاه وضَرْبٌ في البلاد بغَيْر زادِ وإصلاحُ القليل يزيدُ فيه ولا يَبقَى الكثير مع الفَساد وقال محمود الورَاق في تحسين القبيح: يا عائبَ الفقر ألا تَزدجرْ عيبُ الغِنى أكبرُ لو تعتبرْ مِن شرَف الفَقر ومِن فَضله على الغِنى إنْ صَحّ منك النَّظر أنك تَعصي كي تَنال الغِنَى وليس تَعصي الله كي تفتقر ومن تحسين القبيح أنه قيل لجَذيمة الأبرش: ما هذا الوَضح الذي بك قال: سيفُ الله جلاه. وقال اْبن حَبْناء وكان به بَرص: لا تحسبنّ بياضاً فيَّ مَنْقصةً إنّ اللَّهاميمَ في أقرابها بَلقُ وقال محمود الورّاق يمدح الشَيب: وعائب عابَني بشَيْبي لم يَعْدُ لمّا ألم وقتَه فقلت للعائِبي بشيبي يا عائبَ الشَّيب لا بلغتَه وقال آخر: يقولون هل بعدَ الثلاثين مَلْعبُ فقلتُ وهل قبل الثلاثين مَلعبُ وقال أعرابيّ في عجوز: أبى القلبُ إلا أمّ عمرو وحُبّها عجوزاً ومَنْ يُحبِب عجوزاً يفنَّدِ كثَوْب يمانٍ قد تَقادم عهدُه ورُقْعته ماشِيتَ في العَين واليَدِ قال بَشّار العُقبليّ في سوداء: أشبهك المِسكُ وأشبهته قائمةً في لونه قاعدَه لا شَكَّ إذ لونُكما واحد أنّكما من طِينة واحده الاستعارة لم تزل الاستعارة قديمةً تُستعمل في المَنظوم والمَنثور. وأحسن ما تكون أن يُستعار المنثور من المنظوم والمَنظوم من المنثور. وهذه الاستعارة خفية لا يُؤبه بها لأنك قد نقلت الكلام من حال إلى حال. وأكثر ما يجتلبه الشعراء ويتصرف فيه البلغاء فإنما يجري فيه الآخر على سنَن الأول. وقلَّ ما يأتي لهم معنى لم يَسبق إليه أحد إما في مَنظوم وإما في مَنثور لأن الكلام بعضه من بعض ولذلك قالوا في الأمثال: ما ترك الأول للآخر شيئاً. ألا ترى أنّ كعب بن زُهير وهو في الرَّعيل الأول والصدر المتقدم قد قال ِفي شعره: ما أرانا نقول إلا مُعاراً أو مُعاداً من قولنا مَكْرورا ولكن في قولهم إن الآخِر إذا أخذ من الأول المعنى فزاد فيه ما يُحسنه ويَقرِّبه ويوضحه فهو أولى به من الأول وذلك كقول الأعشى: وكأْسٍ شربتُ على لذّة وأخرى تداويتُ منها بهَا فأخذ هذا المعنى الحسن بن هانئ فحسّنه وقَرّبه إذ قال: دعْ عنكَ لَوْمي فإنّ اللومَ إغراءُ وَداوِني بالَّتي كانتْ هي الدَّاءُ والناسُ مَن يَلْقَ خيراً قائلون له ما يَشْتَهي ولأمّ المخطئ الهَبَلُ أخذه من قول المُرقِّش: ومَن يَلق خيراً يَحمد الناسُ أمرَه ومن يَغْوَ لا يَعدَم على الغيّ لائِمَا وقال قيس بن الخَطيم: تَبدَّت لنا كالشَّمس تحت غمامةٍ بدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب أخذه بعضً المُحدثين فقال: فشبَّهتُها بدراً بدَا منه شِقُّه وقد سَترتْ خدا فأبدت لنا خَدا وأَذْرت على الخَدّين دمعاً كأنه تنَاثُر درّ أو نَدى واقَع الوَرْدا وأخذه آخر فقال: يا قمرا للنِّصف من شَهره أبْدَى ضِياءً لثمانٍ بَقينْ وأخذه بشّار فقال: ضنت بخدّ وجَلَت عن خَد ثم انثنت كالنَّفَس المُرْتدِّ فلم يُفسد الآخر قولَ الأول ولم يكن الأولُ أولى بالمعنى من الآخر. وقد قلنا في هذا المعنى ما هو أحسن من كل ما تقدم أو مثله وهو قولي: وأما الاستعارة إذا كانت من المنثور في المنظوم ومن المنظوم في المنثور فإنها أحسن استعارة. دخل سهلُ بن هارون على الرشيد وهو يضاحك ابنه المأمون فقال سهل: يدعو للمأمون: اللهم زِدْه من الخيرات وابسُط له من البركات حتى يكون كُل يوم من أيامه مُوفياً على أمسه مقصّراً عن غده. فقال له الرشيد: يا سهل من رَوى من الشعر أفصحه ومن الحديث أوضحه إذا رام أن يقول لم يعجزه القول قال: يا أمير المؤمنين ما أعلم أحداً سبقني إلى هذا المعنى. قال: بلي. سبقك أعشى همدان حيث يقول: رأيتك أمس خير بني مَعدّ وأنت اليوم خيرٌ منك أمس وأنت غداً تزيد الضعفَ خيراً كذاك تزيد سادةُ عبد شَمْس وقد يكون مثلُ هذا وما أشبهه عن موافقة. وقد سُئل الأصمعيّ عن الشاعريْنِ يَتّفقان في المعنى الواحد ولم يَسمع أحدُهما قول صاحبه. فقال: عُقول الرجال توافتْ على ألسنتها. اختلاف الشعراء في المعنى الواحد وقد تختلف الشعراء في الواحد وكل واحدٍ منهم مُحسن في مذهبه جارٍ في توجيهه وإن كان ألا ترى أن الشَماخ بن ضِرار يقول في ناقته: إذا بلغتني وحملتِ رَحلي عَرابةَ فاشرَقي بدَم الوَتِين وقال الحسن بن هانئ في ضِدّ هذا المعنى ما هو أحسن منه في محمد الأمَين: فإذا المطيُّ بنا بلغْن محمداً فظُهورهن على الرجال حَرامُ وقال أيضاُ: أقول لناقتي إذ أبلغتْني لقد صبحتِ مني باليَمين فلم أجعلك للغِربان نُحْلاً ولا قلتُ اشرَقي بدَم الوتين فقد عاب بعضُ الرواة قولَ الشماخ واحتجوا في ذلك بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم للأنصارية المأسورة التي نجت على ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم: إِني نذرت يا رسول الله إن نجْا بي الله عليها أن أنحرها قال: بئسما جَزيتيها. ولا نذْر لأحد في مِلْك غيره. وقد قالت الشعراء فلم تزل تمدح حُسن الهيئة وطيب الرائحة وإسبال الثوب. قال الفرزدق: بنو دارم قَومي ترى حُجزاتِهم عِتاقاً حواشيها رِقاقاً نِعالهُا يَجُرون هُدَّابَ اليَماني كأَنهم سُيوفٌ جلاَ الأطباعُ عنها صِقالُها رقاقُ النّعال طَيِّبٌ حُجزاتُهم يحيَّوْن بالريحان يوم السَّباسبِ وقال طَرَفة: ثم راحوا عَبقُ المِسك بهم يُلْحِفُين الأرضَ هُدَّابَ الأزُرْ وقال كُثير عَزِّة في إسبال الذيول يمدح بعض بني أمية: أشمّ من الغادِين في كُل حُلّة يَميسون في صِبْغ من العَصْب مُتْقِن هم أزر حمر الحَواشي بُطونها بأَقدامهم في الحَضْرميّ المُلسَّن وقال فيه أيضاً: إذا حُلَل العَصْب اليَماني أجادَها أَكُفُّ أساتيذ على النَّسج دُرَّب أتاهم بها الجابي فراحوا عليهمُ تمائمُ من فَضفاضهن المُكَعب لها طُرُز تحت البَنائِق أدنيت إلى مُرهفات الحَضرمي المُعَقْرب وقال آخر: معي كُل فَضفاض القَمِيص كأنه إذا ما سرتْ فيه المُدَام فَنِيق وخالفهم فيه صريع الغواني فقال: لا يَعبق الطيب خدّيه ومَفرقَه ولا يُمَسِّح عينيه من الكُحُل كَمِيش الإزار خارجٌ نصف ساقه بَعيد عن السوات طَلاّع أنجُدِ مثل قول الحجاج: أنا ابن جَلاَ وطَلاعِ الثنايا متَى أضع العمامَة تَعرفوني وقد يُحمل معناهم في تشمير الثوب وسَحبه واختلافهم فيه على وجهين: أحدهما أن يَستحسن بعضُهم ما يَستقبح بعض. والوجه الثاني وهو أشبه أن يكون لتشمير الثوب موضع ولسحبه موضع كما قال عمرو بن معد يكرب: فيوماً تَرانا في الخزوز نجرّها ويوماً تَرانا في الحَديد عوابسَا ويوماً تَرانا في الثَريد نَدسه ويوماً ترانا نكسر الكَعك يابسا وقال أعشى بكر لعمر بن مَعد يكرب: وإذا تجيء كتيبةٌ ملمومة شهباء يجتنب الكُماة نزالَها كتب المقدَم غيرَ لابس جُنّة بالسيف تَضرب معلماً أبطالها وقال مُسلم بن الوليد في يزيدَ بن مَزيد خلافَ هذا كُله وهو: تراه في الأمن في دِرع مُضاعَفة لا يأمن الدهرَ أن يُدعى على عَجل ولما أنشده يزيدَ بن مزيد قال له: ألا قلت كما قال الأعشى وأنشده البيتين. وقال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسديّ: ما أحسنُ شيء مُدحت به قال: قول الشاعر: أسيلم ذا كُمْ لا خَفاً بِمكانه لعين تُرجِّي أو لأذن تَسمَّعُ من النَّفر الشُّم الذين إذا اعتَزَوْا وهاب رجال حلْقَة الباب قَعْقَعوا جلا الأذفُر الأحوى من المسك فَرْقَه وطيبُ الدِّهان رأسَه فهوِ أنزع إذا النَفر السُّود اليمانون حاولوا له حَوْكَ بُرديه أدقّوا وأوْسعوا فقال عبد الملك: أحسن من هذا قول أبي قَيسِ بن الأسلت: قد حَصَّت البيضة رأسي فما أطعَم نوْماً غير تَهْجاع أَسْعى على جُلِّ بني مالكٍ كُل امرئ في شأنه ساعِي وقال بعضُهم: سألتُ المُحبين الذين تَحمّلوا تبَاريحَ هَذا الحُب في سالف الدَهرِ فقالوا شفاءُ الحُب حب يُزيله لأخرى وطُولٌ للتَمادي على الهَجر وقال الحَمدوني ما هو أحسن من هذا المعنى في ضدّه وهو قولُه: زَعموا أنّ من تشاغل بالح بّ سَلا عن حَبيبِه وأفاقا كيف أسلو بلذة عنك والل ذات يُحدثْن لي إليك اشتياقا كُلما رُمتُ سَلوةً تُذهب الحُرقةَ زادت قلبي عليكِ احتراقا وقال كُثير عزّة: أريد لأنسى ذكرَها فكأنما تَمثلُ لي ليلى بكُل سَبيل وقال بعضُ الناس: إن كان يُحبها فلماذا يُحب أن يَنسى ذكرها ألا قال كما قال مجنون بني عامر: فلا خَفِّف الرحمنُ ما بي من الهَوى ولا قَطَع الرحمنُ عن حُبها قَلْبي فما سَرَّني أنّي خَليُّ من الهَوى ولو أن لي ما بين شرَق إلى غَرب وذهب أكثرهم إلى أنّ بُعْدَ العَهد يُسلي المُحب عن حَبيبه وقالوا فيه: إذ ما شئتَ أن تَسلو حبيباً فأكثر دونه عَدَد اللّيالِي وقال العبّاس بن الأحنف: إذا كنت لا يُسليك عمن تُحبه تَناء ولا يَشفيك طُولُ تلاقِي فما أنتَ إلا مستعير حَشاشةً لمُهجة نَفس آذنتْ بِفراق وقال كُثيّر عَزة: ومثله قولُ بشّار: ومن حُبها أتمنّى أن يُلاقيَني من نحو بَلْدتها ناعٍ فيَنْعاها كيما أقول فِراقٌ لا لِقاء له وتُضمر النفس يأسا ثم تَسلاها وهذه المذاهب كلها خارجة من معناها حائرة في مجراها. وقال عبدُ الله بن جُندب: ألا يا عبادَ الله هذا أخوكُم قتيلاً فهل منكم له اليومَ واترُ خذوا بدَمي إن مِتُّ كل خَريدة مريضةِ جَفْن العَين والطَّرفُ ساهر وقال صَريع الغواني في ضد هذا: أدِيرا عليِّ الراح لا تَشربَا قبلي ولا تَطْلُبا من عند قاتلتي ذَحْلي وقول عبد الله بن جُندب أحسَن في هذا المعنى لأنه إنما أراد أن يَدُل على موضع ثأره واسم قاتله ولم يُرد الطلب بالثأر لأنه لا ثأر له. وقد قال عبدُ الله بن عبّاس ونَظر إلى رجل مُدنف عِشْقاً: هذا قتيلً الحُبّ لا عَقْل ولا قَوَد وقال الفرزدق وأراد مذهب ابن جُندب فلم تُوانه رقّة الطَّبع فخرج إلى أَجْف القول وأَقْبحه يا أخت ناجيةَ بنِ سامةَ إنني أَخشى عليكِ بَنيَّ إن طَلبوا دَمِي لن يَتْركوك وقد قتلتِ أباهمُ ولو ارتقيت إلى السماء بسلم وقال ابنُ أخت تأبط شرّاً يرثي خالَه وقتلْته هُذيل: شامِسٌ في القُرِّ حتى إذا ما ذَكَت الشِعرى فبرْد وظِل ظاعِن بالحَزم حتى إذا ما حلَّ حَلَّ الحَزمُ حيث يحلّ أخذ معنى البيت الأول أعرابيّ فسهّل معناه وحسّن ديباجته فقال: إذا نزل الشتاء فأنت شمسٌ وإن نزل المصيف فأنت ظِلُّ وأَخذ معنى البيت الثاني الحسن بن هانئ فقال في الخَصيب: فما جازه جود ولا حلّ دونه ولكنْ يصير الجُود حيثُ يصيرُ وقالوا في الخَيال فحيّوه بالسلام ورحّبوا به فمن ذلك قولُ مروان ابن أبي حَفْصة: طرقْتك زائرةً فحيِّ خيالَها وقال آخر: طَرق الخَيالُ فحيّه بسَلام وعلى هذا بُنيت أشعارهم وخالفهم جَرير فطَرد الخيال فقال: وأولُ من طَرد الخيال طرفة فقال: فقُل لخَيال الحنظلية يَنقلب إليها فإنِّي واصلٌ مَن وَصَلْ وأعجبُ مِن هذا قولُ الرّاعي الذي هجا الخَيال فقال: طافَ الخيالُ بأصحابي فقلتُ لهم أم شَذرة زارتْني أم الغُولُ لا مرحباً بابنة الأقيال إذ طَرقت كأنّ مَحْجرها بالقار مَكْحول وقد يختلف معنى الشاعر أيضاً في شعر واحد يقوله ألا ترى أن امرأ القيس قال في شعره: وإن تك قد ساءتك منّي خليفةٌ فسُلِّي ثِيابي مِن ثيابك تَنْسُل توصف نفسَه بالصبر والجَلَد والقوة على التهالك ثم أدركتْه الرقةُ والاشتياق فقال في البيت الذي بعده: أغرّك منّي أنّ حُبّك قاتِلي وأنك مهما تأمري القلبَ يَفعَل مُستدركاً قولَه في البيت الأول: فسُلي ثيابي من ثيابك تَنْسُل ولم يزلْ من تقدم من الشعراء وغيرهم مُجمعين على ذَم الغُراب والتشاؤم به وكأن اسمَه مُشتق من الغُربة فسمَّوه غراب البَيْن وزعموا أنه إذا صاح في الديار أقوتْ من أهلها. وخالفهم أبو ما فَرق الأحباب بع د الله إلا الإبلُ والناس يَلْحَون غُرا ب البَيْن لما جَهِلوا وما إذا صاح غُرا ب في الدِّيار احتملوا وما على ظَهر غُرا ب البَينْ تُطْوى الرحل وما غُراب البين إل لا ناقة أو جَمل وقال آخر في هذا المعنى وذَكَر الإبل: لهنّ الوَجى إذ كُن عَوْناً على النَوى ولا زال منها ظالعٌ وكَسِيرُ وما الشّؤم في نَعْب الغُراب ونَعْقه وما الشؤْم إلا ناقة وبَعير ومن قولنا في هذا المعنى: نعب الغراب فقلتُ أكذبُ طائرٍ إن لم يُصدِّقه رُغاء بَعير رِدُّ الجمال هو المُحقَق للنَّوى بل شَر أحلاس لهنّ وَكُور وقد يأتي من الشعر ما هو خارج عن طبقة الشعراء مُنفردٌ في غرائبه وبديع صنعته ولطيف تَشْبيهه كقول جعفر بن جِدار كاتب ابن طُولون: وطَفْلة رَخْصة المَدارِي لَيست تُحَلّى ولا تُسمى إلا بسِلْك من اللآلى يُعْجِز من يُخرج المُعمَى صُغرى وكُبرى إلى ثلاثِ مثل التّعاليل أو أتَمَّا وكم ببَم وأرض بَمّ وكَم بِرَمّ وأرْض رَمّا من طَفلة بَضَة لَعوب تلقاك بالحُسن مستتما مُنهن رَيّا وكيف رَيّا ريا إذا لاقت المَشَما لو شمها طائر بَدوٍّ لَخَرّ في التُرب أولَهَمّا تَسحب ثوبين من خَلْوق قد أفنيا زعفران قُمّا كأنما جلّيا عليها من طِيب ما باشرَا وشَما فأَلفيا زعفران قُم فانغمسا فيه واستحمِّا فهي نظير اسمها المُعلَّى يقوح لامِرْطها المُدَمَّا هيهاتَ يا أختَ آل بَمِّ غَلطت في الاسم والمُسمَّى لو كنت ممن لكنت مِمّا لكنّني قد كَبرتُ عَمّا عاتبني الدهرُ في عِذاري بأحرُف فارعويت لمّا قُوّس ما كان مستقيماً وأبيضّ ما كان مُدّلهمّا وكيف تَصبو الدُّمى إلى مَنِ كان أخاً ثم صار عَمّا بي عنكِ يا أختَ أهل بَمَ شُغْل بما قد دنا مُهِمّا فلستُ من وجهك المُفدَّى ولستُ من قَدّك المُحمّى أذهلني عنك خوفُ يوم يحيا له كل من ألمَّا ما كسَبتْه يداي وَهْنا خيراً وشرًّاً أصبت ثَما تُحشر فيه الجنان زَفًّا وتُحشر النَار فيه زَمّا تقول هذي لَطالبيها هَيتَ وهذي لهم هَلُمّا نَفسيَ أولى بأنْ أذُمّا مِن أمرها كل ما استُذمّا يا نفسُ كم تُخدعين عَمّا بلُبس داج وأكل لمّا في حُفرة ما يُحير حَرفاً قد دكّ من فوقها وطما والمُزَنَيّ الذيَ إليه نَعشو إذا دَهرُنا ادلهما أخفى فؤادي له عَزائي لكنْ زَفيري عليه نَمَا كأنما خُوِّفا فخافا أو حذَرا كاساهما فصما أقبل سَهْم من الرَّزايا فخَصَ أعلامنا وعَمَّا دَكدك منّا ذُرَا جبال شامخة في السماء شما وَحصَنا دون مَنْ عليها وزاد همًّا بنا وغما قد قَرُب الموتُ يا بنَ أما فبادر المَوت يا بن أما واعلم بأنَّ من عصاك جهلا مِن التُقى لم يُطعك هِمّا هو الهُدى والرَّدى فإمَّا أتيت آتى الردى وإما ها أنذا فَاعتبر بحالي في طَبق مُوصَد مُعَمَّى قد أسكنتني الذُّنوب بيتاً يخاله الإلف مُستحما أو ابحثي عن فُل بن فُل تَرَيْه تحت التراب رِمّا لبئس عَبْد يروح بَغْياَ مع المَساوي تراه دَوْما في غَمرة العَيش لا يُبالي أحمده الجارُ أمْ أَذَمَّا كم بين هذا وبين عبد يغدو خميصَ الحشى هضمّا يقطع آناءه صلاةً ودهره بالصلاح صوْمَا إنّ بهذا الكلام نُصحاً إن لم يوافِ القلوب صُمّا يا رب لِي ألفُ ذَنب إن تعفُ يا رب فاعفُ جَمّا فأبْرِد بعفوٍ غليلَ قَلب كأنّ فيه رسيسَ حُمَى وقال الغَزّال: لَعَمْري ما ملّكتُ مِقْوَدَي الصِّبا فأمْطوَ للذّات في السَّهل والوَعْرِ ولا أنا ممّن يُؤثِر اللهوَ قلبُه فأمسي في سُكر وأصبحِ في سكرِ ولا قارع باب اليهوديّ مَوْهناً وقد هَجع النُّوامُ من شهوة الخمر وأوْتَغه الشيطان حتى أصاره من الغَيّ في بحر أضلّ من البَحر كفانيَ من كُل الذي أعجبوا به قُلَيلة ماء تُستقى لي من النَّهر ففيها شرَابي إن عَطشتُ وكُلّ ما يريد عيالي للعَجين وللقِدْر بخُبْز وبَقل ليس لحماً وإنني عليه كثيرُ الحمد لله والشكر فيا صاحبَ اللُحمان والخَمر هل تَرى بوجهي إذا عاينتَ وجهيَ من ضر وبالله لو عمرت تِسعين حِجةً إلى مثلها ما اشتقتُ فيها إلى خَمْر ولا طربتْ نفسي إلا مِزْهر ولا تَحَنَّن قلبي نحو عُود ولا زَمْر وقد حدّثوني أن فيها مَرارة وما حاجة الإنسان في الشرب للمُرّ أخي عُد ما قاسيتَه وتقلبت عليك به الدُّنيا من الخَير والشر فهل لك في الدُنيا سِوَى الساعةِ التي تكون بها السَّراء أو حاضِر الضُّرّ فما ساق منها لا يُحس ولا يُرى وما لم يكن منها عَمِي عن الفِكْر فطوبَى لعبدٍ أخرج الله روحَه إليه من الدنيا على عَمل البِر ولكنني حُدثْت أن نُفوسَهم هنالك في جاه جليل وفي قَدْر نَجْم من الحُسن ما يجرى به فَلَك كأنه الدرّ والياقوت في النَّظم ذاك الذي حاز حُسناً لا نظير له كالبدر نوراً عَلا في مَنْزل النّعم وقد تناظَرَ واليِرْجِيسُ في شَرَفٍ وقَارَن الزَّهرةَ البَيضاء في تَوَم فذاك يُشبهه في حُسن صُورته وذا يَزيد بحظّ الشّعر والقَلم أشكو إلى الله ما ألقى لفُرقته شِكْوى مُحبّ سَقيم حافظِ الذِّمم لو كنت أشكو إلى صُمِّ الهضاب إذاً تَفطَّرتْ للذي أبديه من أَلم يا غادراً لم يزَل بالغَدر مُرتدياً أين الوفاءُ ابِنْ لي غيرَ محْتشم إن غاب جسمُك عن عَيني وعن نَظري فما يَغيب عن الأسرار والوَهم إني سأبكيك ما ناحتْ مَطوقةٌ تبْكي أَلِيفاً على فَرْع من النَّشم ما يجوز في الشعر مما لا يجوز في الكلام قال أبو حاتم: أبيح للشاعر ما لم يُبَح للمتكلم من قَصرْ الممدود ومَدّ المقصور وتَحريك الساكن وتَسكين المتحرك وصَرْف ما لا يَنصرف وحَذف الكلمة ما لم تلتبس بأُخرى كقولهم: فل من فلان وحم من حمام. وجاءت حوادث مِن مِثلها يقال لِمثلك: ويهاً فُل وقال مُسلم بن الوليد: سَل الناسَ إني سائل الله وحْدَه وصائنُ وِجهي عن فُلان وعن فُل وقال آخر: دعاء حمامات تُجاوبها حَمُ ومن المحذوف أيضاً قولُ الشاعر: لها أشاريرُ مات لَحم تتَمِّره من الثَعالِي وَوَخْز من أرَانِيها يريد من الثعالب. ومثله قول الشاعر: ولضَفادِي جمَه نَقانِقُ يريد الضفادع. ومن المحذوف قولُ كعب بن زُهير: ويلُمّها خَلّةً لو أنها صَدقت في وَعدها أو لو أنَّ النُّصح مَقْبولُ يريد ويل لأمها. ومنه قولهم: لاه أبوك يريدون: للّه أبوك. وقال الشاعر: لاه ابن عَمّك لا يخا ف المُبْديات من العَواقب ثم استمرُّوا وقالوا إنّ موعدَكم ماء بشرقيّ سَلْمى فَيْدُ أورَكَكُ قال الأصمعي: سألت بجنبات فَيد عن رَكك. فقيل: ماء هاهنا يُسمى ركّا. فعلمت أن زهيراً احتاج فضعَّف: ومنه قول القِطامىّ. وقولُ المرء يَنْفُذ بعد حِين مواضعَ ليس يَنفذُها الإبارُ ومثله قولهم: كَلكال من كلكل. ونظر هذا كثير في الشعر لمن تتَبّعه. وأما قَصرهم المَمدود فجائز في أشعارهم ومدِّ المقصور عندهم قَبيح. وقد يُستجاد في الشعر على قِبحه مثلُ قوله حسّان بن ثابت: قَفاؤُك أحسن من وجهه وأمك خيرٌ من المُنذرِ وأنشد أبو عُبيدة: يالك من تمْرٍ ومن شِيشاءِ يَنْشبَ في الحَلق وفي اللهاء فمد اللَّهى هو جمع لهاة: كما قالوا: قطاة وقطى ونواة ونوى. أما تحريك الساكن وتسكين المتحرك فمن ذلك قول لَبيد بن ربيعة: تَرّاك أمكنةٍ إذا لم أَرْضَها أو يَرْتبطْ بعضَ النفوس حِمامُها ومثله قولُ امرئ القيس: وِقال أمية بن أبي الصَّلت: تأبى فما تَطلع لهم في وقتها إلا مُعذبة وإلا تُجْلدُ ومن قولهم في تحريك الساكن: اضْرِبَ عنك الهُمومَ طارقَها ضَرْبَك بالسَّوط قَوْنَس الفَرس وأما صَرف مالا يَنصرف عندهم فكثير والقَبيح عندهم ألا يُصرف المُنصرف وقد يُستجاد في الشعر على قُبحه. قال عبِّاس بن مُرْداس: وما كانَ بَدْر ولا حابس يفوق مِرداس في المَجمع ومن قولهم في تَسكين المُتحرّك وقد استشهد به سيبويه في كتابه: عَجِب الناسُ وقالُوا شِعْرُ وضَاح اليَماني إنما شِعْريَ قَنْدٌ قد خُلِطْ بجُلجلان ولو حرك خلط اجتمع خمس حركات. |
باب ما أدرك على الشعراء قال أبو عبد الله بن مسلم بن قُتيبة: أدركتِ العلماءُ بالشعر على امرئ القيس قولَه: أغرّك منّي أنّ حُبك قاتلي وانك مهما تأمُري القلبَ يفعل وقالوا: إذا لم يَغُرّ هذا فما الذي يَغر ومعناه في هذا البيت يناقض البيت الذي قبله حيث يقول: وإنْ كُنتِ قد ساءتكِ مني خليقة فسُلّى ثِيابي من ثيابك تَنْسُل لأنه ادَّعى في هذا البيت فضلاً للتجلد وقوة الصبر بقوله: فسُلّى ثيابي من ثيابك تنسل وزعم في البيت الثاني أنه لا تَحمُل فيه للصبر ولا قُوة على التمالك بقوله: وإنك مهما تأمُري القلبَ يَفْعَل وأقبح من هذا عِندي قولهُ: فظَلّ العَذَارى يَرْتمين بلَحْمها وشَحْمٍ كهُدَّاب الدِّمَقْس المُفتَّل ومما أدرك على زُهير قولُه في الضفادع: وقالوا: ليس خروج الضفادع من الماء مخافَة الغَمّ والغرق وإنما ذلك لأنهن يبتن في الشّطوط. ومما أدرك على النابغة قولُه يصف الثِّور: تَحِيد عن أسْتَن سودٍ أسافلُه مثل الإماء الغوادِي تَحْمل الحُزَمَا قال الأصمعيّ: إنما تُوصف الإماء في مثل هذا الموضع بالرَّواح لا بالغدو لأنهن يجَئن بالحَطبِ إذا رُحن قال الأخْنَس التِّغلبيّ: تَظل بها رُبْدُ النَعام كأنها إماء يَرُحن. بالعَشيّ حَواطبُ وأخذ عليه في وصف السيف قولُه: يَقُدِّ السَّلوقيَّ المُضاعَفَ نَسجه وُيوقِد بالصُّفّاح نارَ الحُباحبِ فزعم أنه يَقُد الدّرع المضاعفة والفارس والفرس ثم يقع في الأرض فيقدح النار من الحجارة وهذا من الإفراط القَبيح. وأقبح عندي من هذا في وصف المرأة قولِه: ليستْ من السُّود أعقاباً إذا انصرفتْ ولا تَبيع بأعلى مكّة البُرمَا وممّا أخذ عليه قولُه: خَطاطيفُ حُجْنٌ في حِبَال مَتينةٍ تُمدُ بها أيدٍ إليك نَوَازعُ تُمدّ بها الدلو. وكان الأصمعيّ يُكثر التعجب من قوله: وعَيرتْني بنو ذُبيان خَشْيتَه وهل علي بأن أخشاكَ من عارِ ومما أدبك على المُتلمّس قوله: وقد أتناسى الهَمّ عند احتقاره بناجٍ عليه الصيعريّة مُكْدَم والصيعرية: سِمة للنوق فجعلها صفة للفَحْل. وسمعه طرفة وهو صبّي يُنشد هذا البيت فقال: استنوق الجمل. فضحك الناس وصارت مثلاً. وأخذ عليه أيضاً قولُه. أحارثُ إنا لو تُساط دماؤنا تَزايلْنَ حتى لا يَمسّ دمٌ دمَا وهذا من الكَذب المُحال. ومما أدرك على طَرفة قوله: أسد غِيل فإذا ما شرَبوا وَهَبوا كلّ أمُون وطِمِرّ ثم راحوا عَبق المسك بهم يلْحِفون الأرضَ هدّاب الأزر فذكر أنهم يُعطون إذا سَكروا ولم يَشترط لهم ذلك إذا صَحَوْا كما قال عنترة: وإذا شربتُ فإنني مستهلكٌ مالِي وعِرْضي وافر لم يُكَلم وإذا صحوتْ فما أقصِّر عن ندى وكما عَلمتِ شمائِلي وتكرُّمي ومما أدرك على عديّ بن زَيد قولُه في صفة الفَرس: ولا يقال للفرس: فاره وإنما يقال له: جواد وَعَتيق. ويقال للكَوْدن والبَغْل والحمار: فاره. ومما أدرك عليه وصفهُ الخمر بالخُضرة ولا نعلم أحداً وصفها بذلك فقال: المُشْرِفُ الهِنديّ يُسْقَى به أخضَر مَطْموثاً بماء الخَريصْ ومما أدرك على أعشى بَكر قولُه: وقد غَدوتُ إلى الحانوت يَتْبعني شاوٍ مِشَلّ شَلول شلشل شَوِلُ وهذه الألفاظ الأربعة في معنى واحد. ومما أدرك علِى لَبيد قوله: ومُقام ضيِّق فرْجتُه بمُقامي ولساني وجَدَلْ لو يقوم الفِيل أو فيّالُه زلّ عن مِثل مُقامي وزَحَل فظن أن الفَيال أقوى الناس كما أن الفِيل أقوى البهائم. ومما أدرك على عمرو بن أحمر الباهلي قولُه يصف المرأة: لم تدر ما نَسْجُ اليَرندج قبلَها وَدِراسُ أعوصَ دَارِس مُتجَدّدِ اليَرَندجِ: جلود سُود. فَظنّ أنه شيء يُنْسج. ودِراسِ أعوص يريد أنها لم تُدارس الناس عَويص الكلام الذي يخفي أحياناً ويَتبين أحياناً. وقد أتى ابنُ أحمر في شعره بأربعة ألفاظ لم تُعرف في كلام العرب منها: أنه سمّى الناعر كما تطايح عن مامُوسة الشَّرَرُ وسَمَّى حُوار الناقة بابوساً ولا يُعرف ذلك فقال: حَنّتْ قَلُوصي إلى بابُولسِها جَزعاً فما حَنِينُكِ أمْ مَا أنتِ والذّكَر وفي بيت آخر يذكر فيه البَقرة: وبَنسَ عنها فرْقَد خَصِرُ أي تأخّر ولا يُعرف التَبنّس. وقال. وتقَنَع الحرباء أرْنَتَه يريد ما لُفّ على الرأس. ولا تعرف الأرنة إلا في شعره. ومما أدرك على نُصيب بن رَبَاح قولُه: أَهيمُ بدَعْد ما حَييت فإن أمُت فواكبدي مَن ذا يَهيم بها بَعدِي تلهّف على من يهيم بها بعده. ومما أدرك على الرَّاعي قولهُ في المرأة: تكسو المفارقَ واللّباتِ ذا أرَج من قُصْب مُعتَلف الكافور درَّاج أراد المسك. فجعله من قُصْب. والقُصب: المِعَى. فجعل المِسك من قُصْب دابّة تعتلف هذا ابنُ عمّي في دِمَشْق خليفة لو شِئتُ ساقكُم إليَّ قَطِبنَا القطين في هذا الموضع: العَبيد والإماء. وقيل له: أبا حَزْرة ما وجدتَ في تميم شيئاً تفخر به عليهم حتى فخرتَ بالخلافة لا والله ما صنعتَ في هجائهم شيئاً. ومما أدركَ على الفَرزدق قولُه: وعَضّ زمان يابن مَروان لم يَدَعْ من المال إلا مُسْحتا أو مُجَلَّفُ وقد أكثر النحويّون الاحتيالَ لهذا البيت ولم يأتوا فيه بشيء يُرضي. ومثلُ ذلك قولُه: غداةَ أحلَّت لابن أَصْرَم طَعنةً حُصَينٌ عَبيطاتِ السَّدائفِ والخَمرُ كان حُصين بن أصرم قد حلف ألا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتى يدرك ثأره فأدركه في هذا اليوم الذي ذكره. فقال " عبيطات السدائف. فنصب عبيطات السدائف ورفع الخمر هانما هي معطوفة عليها وكان وجهها النصب فكأنه أراد: وحلّت له الخمر. ومما أدرك على الأخطلِ قولُه في عبد الملك بِن مَرْوان: وقد جَعل الله الخِلافة منهمُ لأبيض لا عارِي الخِوَان ولا جَدْبِ وهذا مما لا يُمدح به خليفة. وأخذ عليه قولُه في رجل من بني أسد يمدحه وكان يُعرف بالقَين ولم يكن قَيناً فقال فيه: قد كنتُ أحسبه قَيْناً وأنبؤه فالآن طيَر عن أثوابِه الشَرَرُ وهذا مدْح كالهجاء. ومما أدرك على ذي الرمة: تُصْغي إذا شَدَّها بالكور جانحةً حتى إذا ما استَوى في غَرْزها تَثِبُ وسَمعه أعرابيّ يُنشده فقالت: صُرع والله الرجل ألا قلت كما قال عَمُّك الراعي: وواضعة خدّها للزَما م فالخَدُّ منها له أصْعرُ ولا تُعجل المرءَ قبل الرًّكو ب وهي برُكبته أبْصر وهي إذا قام في غرْزها كمثل السفينة أو أوْقرُ ومما أدرك عليه قولُه: حتى إذا دَوّمت في الأرض راجعةً كِبْرٌ ولو شاء نَجَّى نَفْسه الهَربُ قالوا: التَّدويم: إنما يكون في الجوّ يقال: دَوّم الطائر في السماء إذا حلّق واْستدار ودوَم في الأرض إذا استدار فيها. وما أدرك على أبي الطَّمَحان القَيْنيّ قولُه: لما تَحَمَّلت الحُمول حسبتُها دَوْماً بأثلة ناعماً مَكْمُوماً ومما أخذ على العجّاج قوله: كأنّ عَينيه من الغُؤور قَلتان أو حَوْجَلتا قارُورِ صَيّرتا بالنَّضح والتِّصْيير صلاصلَ الزَّيت إلى الشّطورِ الحوجلتان: القارورتان. جعل الزَجاجَ ينضح ويَرشح. ومما أدرك على رؤبة قوله: كُنتم كمن أدخل في جُحرٍ يدا فأخطأ الأفعى ولاقَى الأسودا جعل الأفعى دون الأسود وهي فوقه في المضرّة. وأخذ عليه في وصف الظَّليم قوله: وكُلُّ زَجّاج سُخَامُ الخَمْل تَبْري له في زعلاتٍ خطْل فجعل للظليم عدّة إناث كما يكون للحَمار وليس للظليم إلا أنثى واحدة. وأُخذ عليه قولُه يصف الرَّامي: لا يَلتوي من عاطس ولا نَغَق إنما هو النَّغيق والنُّغاق وإنما يصف الرامي. وأدرك عليه قولُ: أقفرت الوعثاء والعثاعِث من أهلها والبُرَق البَرَارِثُ إنما هي البراث: جمع بَرْث. وهي الأرض اللينة. وأدرك عليه قولُه: يا ليتنا والدهر جري السُّمّةِ إنما يقال: ذهب السّهمي أي في الباطل وأخذ عليه قوله أو فِضّة أو ذهبٌ كِبْريتُ قال: سَمع بالكِبْريت أنه أحمر فظن أنه ذَهب. مما يَستقبح من تشبيهه قولُه في النساء: يَلْبسن من لين الثيابِ نِيما والنِّيم: الفرو المُغشىَّ. وأخذ عليه قولُه في قوائم الفَرس: يَردبن شتَّى وَبقَعْن وَفْقَا وأنشده مُسلم بنِ قُتَيبة فقال له: أخطأت يا أبا الجَحِّاف. جعلتَه مُقيداً. قال له رؤبة: أدْنني من ذنب البعير. ومما أُدرك على أبي نُخيلة الراجز قولهُ في وصف المرأة: مُرَية لم تَلْبس المرقّقا ولم تذُق من البُقول الفُستُقا فجعل الفُستق من البقول وإنما هو شَجر. ومما أُدرك على أبي النجم قولُه في وصف الفرس: قال الأصمعي: إذا كان كذلك فحِمار الكسَّاحِ أسرع منه لأن اضطراب مؤخره قَبيح. وإنما الوجه فيه ما قال أعرابي في وصف فرس أبي الأعور السُّلمي: مرّ كَلمع البَرق سام ناظرُه يَسْبَح أُولاه ويَطفُو آخرُه فما يَمسّ الأرضَ منه حافرُه وأخذ عليه في الوُرود قولُه: جاءت تَسامى في الرَّعيل الأول والظِّل عن أَخفافها لم يَفْضل فوصف أنها وردت في الهاجرة. وإنما خَير الورود غَلساً والماء بارد. كما قال الآخر: فوردت قبل الصباح الفاتِقِ وكقول لبَيد بن ربيعة العامريّ: إنّ من وِرْدي لتغْلِيس النَهل وقال آخر: فوردْنَ قبل تَبينُّ الألوان وأنشد بشَّار الأعمى قوِلَ كُثيّر عزة: ألا إنَّما ليلَى عصا خيْزُرانة إذا غَمزوها بالأكُفّ تَلِينُ فقال: للّه أبو صخر! جعلها عصا خَيْزرانة. فوالله لو جعلها عصا زيْد لَهَجّنها بالعَصَا ألا قال كما قلتُ: وبيضاء المَحاجر من معَدٍّ كأن حديثَها قِطَع الجُمانِ إذا قامتْ لحاجتها تَثَنَّت كأنّ عِظامَها من خَيزران ودخل العتابيّ على الرشيد فأَنشده في وصف الفَرس: كأنّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا قادمةً أو قلماً مُحرّفَا فعلم الناس أنه لحن ولم يهتدِ أحدٌ منهم إلى إصلاح البيت غير الرشيد فإنه قال: قُل: تخال أذْنيه إذا تَشَوَّفا والراجز وإن كان لَحن فإنه أصاب التَّشبيه. حدّث أبو عبد الله بن محمد بن عُرْفَة بواسط قال: حدّثني أحمد بن محمد أبن يحيى عن الزُّبير بن بكّار عن سُليمان بن عياش السَّمديّ عن السائب راوية كُثير عَزة قال: قال لي كُثير عَزة يوماً: قُم بنا ابنِ أبي عَتيق نتحدّث عنده. قال: فجئنا فوجدنا عنده ابنَ مُعاذ المُغنّي. فلما رأى كُثيّراَ قال لابن أبي عتيق: ألا أُغنيك بشعر كُثير عزة قال: بلى فغنّاه: أبائنة سُعدى نعم ستَبِين كما انبت من حَبل القَرين قرينُ كأنك لم تَسمع ولم تَر َقبلها تفرُّق أُلاف لهنّ حَنِين فأخلفن مِيعادي وخُنّ أمانتي وليس لمن خانَ الأمانة دِينُ فالتفت ابنُ أبي عَتيق إلى كُثيّر فقال: أوللدِّين صحبتهن يا بن أبي جُمعة ذلك والله أشبهُ بهنّ وأدعى للقلوب إليهنّ وإنما يُوصفن بالبُخل والامتناع وليس بالوفاء والأمانة. وذو الرقيات أشعر منك حيث يقول: حَبّذا الإدلال والغَنَجُ والتي في طَرفها دَعَجُ وِالتي إن حدّثت كَذبت والتي في ثَغرها فَلج خبروني هل على رجُل عاشِقٍ في قُبلة حَرَج فقال كُثيّر: قُم بنا من عند هذا ومَضى. عُمارة بن عَقيل بن بِلال بن جَرير قال: إنّي بباب المأمون إذ خرج عبد الله ابن أبي السِّمط فقال لي: علمتُ أنّ أمير المؤمنين على كماله لا يعرف الشِّعر. قلت له: وبِم علمتَ ذلك قال: أسمعتُه الساعَة بيتاً لو شاطرني مُلكه عليه لكان قليلاً. فنظر إلي نَظراً شَزراً كاد يَصطلمني. قلت له: وما البيت فأنشد: أضحى إمامُ الهُدى المأمون مُشتغلاً بالدّين والناسُ بالدنيا مَشاغيلُ قلت له: والله لقد حَلم عليك إذ لم يؤدّبك عليه. ويلك! وإذا لم يشتغل هو بالدنيا فمن يدبّر أمرها ألا قلت كما قالَ جَدّي في عبد العزيز بن مروان: فلا هو في الدُّنيا مُضِيع نصيبه ولا عَرَضُ الدُّنيا عن الدّين شاعلُ فقال: الآن علمتُ أنني أخطأت. الهيثم بن عَدِيّ قال: دخل رجل من أصحاب الوليد بن عبد الملك عليه فقال: يا أمير المؤمنين لقد رأيتُ ببابك جماعةً من الشعراء لا أحسبُهم اجتمعوا بباب أحد من الخلفاء فلو أذنتَ لهم حتى يُنشدوكَ فأذن لهم فأَنشدوه وكان فيهم الفرزدق وجرير والأخطل والأشهب بن رُميلة. وترك البَعِيث فلم يأذن له. فقال الرجل المُستأذن لهم: لو أذنتَ للبَعِيث يا أمير المؤمنين إنه لشاعر. فقال: إنه ليس كهؤلاء إنما قال من الشعر يسيراً. قال: والله يا أمير المؤمنين إنه لشاعر. فأَذِن له فلما مَثَل بين يديه قال: يا أمير المؤمنين إن هؤلاء ومَن ببابك قد ظَنّوا أنك إنما أذنتَ لهم دوني لفَضل لهم عليّ. قال: أولستَ تعلم ذلك قال: لا واللّه ولا علّمه الله لي. قال: فأنشِدْني من شعرك. قال: أمَا والله حتى أنشدك من شعر كُل رجل منهم ما يَفضحه فأقبل على الفرزدق فقال: قال هذا للشيخُ الأحمق لعبد بني كُليب: بأيّ رِشاءٍ يا جريرُ وماتحٍ تدلّيت في حَوْمات تلك القَماقِم فجعله يتدلّى عليه وعلى قومه من عَلُ وإنما يأتيه من تحته لو كان يَعقلُ. وقد قال هذا كَلبُ بني كُليب: لَقومِيَ أحَمى للحقيقة منكُم وأضربُ للجَبَّار والنقعُ ساطع وأوثقُ عند المُرْدفات عشيّة لَحَاقاً إذا ما جَرَّد السيفَ لامِع فجعل نساءه لا يثقْنَ بلَحاقه إلا عشيَّة وقد نُكحن وفُضحن. وقال هذا النصراني ومدح رجلاً يسمى قَيناً فهجاه ولم يشعر فقال: قد كُنت أحسبه قيناً وأُنبؤه فالآن طُيّر عن أثوابه الشَّررُ وقال ابن رُميلة ودَفع أخاه إلى مالك بن رِبْعيّ بن سَلْميّ فقُتل فقال: مَدَدنا وكان ضَلَّة من حلومنا بَثَدْيٍ إلى أولاد ضَمرة أقْطَعا فمن يرجو خيرَه وقد فعل بأخيه ما فَعل. فجعل الوليدُ يُعْجب من حفظه لمثالب القوم وقُوة قلبه وقال له: قد كشفتَ عن مساوئ القوم فأنشدني من شعرك. فأنشده فاستحسن قولَه ووصَله وأجزل له. ومما عِيب على الحسن بن هانئ قولُه في بعض بني العبًاس: كيف لا يدينك من أمل مَنْ رسولُ الله من نَفره فقالوا: إنّ حَق الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُضاف إليه ولا يُضاف هو إلى غيره. ولو اتسع فأجازه لكان له مجاز حسن. وذلك أن يقول القائل من بني هاشم لغيره من أفناء قُريش: منّا رسول الله صلى الله عليه وسلم. يريد أنه من القبيلة التي نحن منها كما قال حسّان بن ثابت: وما زال في الإسلام من آل هاشم دعائمُ عِزٍّ لا تُرام ومَفْخَرُ بَهاليلُ منهم جَعفرٌ وابنُ أمه عليّ ومنهم أحمدُ المتخير فقال: منهم كما قال هذا: من نفر. ومما أُدرك عليه قولُه في البَعير: أَخْنس في مثل الكِظَام مَخْطِمُه والأخنس: القصير المَشافر وهو عَيب له وإنما تُوصف المَشافر بالسبوطة. ومما أُدرك على أبي ذُؤيب قوِلُه في وصف الدُّرّة: فجاء بها ما شئت مِن لطميّة يدُور الفُرات فوقَها وَتمُوجُ قالوا: والدُّرة لا تكون في الماء الفُرات إنما تكون في الماء المالح. واجتمع جريرُ بن الخَطَفي وعُمَر بن لَجَأ التَّيمي عند المُهاجر بن عبد الله والي اليمامة فانشده عُمر بن لَجأ أرجوزَته التي يقول فيها: حتى انتهى إلى قوله: تُجَرّ بالأهونِ من إدْنائها جَرّ العَجوز الثنْيَ من خِفَائها فقال جرير: ألا قلت: جرّ الفتاة طَرَفَيْ رِدائها فقال: والله ما أَردتُ إلا ضَعْف العجوز. وقد قلتَ أنت أعجبُ من هذا وهو قولُك: وأوثق عند المُرْدفات عَشيّةً لَحاقاً إذا ما جَرّد السَّيفَ لامعُ والله لئن لم يُلْحقن إلا عشيّة ما لُحقن حتى نكحن وأحبلن. ووقع الشَّرُّ بينهما. وقَدم عمرُ بن أبي ربيعة المدينةَ فأقبل إليه الأحوصُ ونُصيب فجعلوا يتحدثون. ثم سألهما عمرُ عن كُثيّر عَزّة فقالوا: هو هاهنا قَريب. قال: فلو أرسلنا إليه قالا: هو أشدّ بَأْوا من ذلك. قال: فاذهبا بنا إليه. فقاموا نحوَه فألفَوْه جالساً في خَيمة له. فوالله ما قام للقُرشيّ ولا وَسّع له. فجعلوا يتحدّثون ساعة. فالتفت إلى عمر بن أبي ربيعة فقال له: إنك لشاعر لولا أنك تُشبِّب بالمرأة ثم تَدعها وتُشبِّب بنفسك. أَخبرني عن قولك: ثم اسبَطَرت تَشتدِّ في أَثَري تسأل أهلَ الطَّوافِ عن عُمر والله لو وصفتَ بهذا هِرّة أهلِك لكان كثيراً! ألا قلت كما قال هذا يعني الأحوص: وما كنتُ زَوّاراً ولكنّ ذا الهَوى وإن لم يَزر لا بُدّ أن سيزور قال: فانكسرت نَخوةُ عمر بن أبي ربيعة ودخلت الأحوصَ زَهوةٌ ثم ألتفت إلى الأحوص فقالت: أخبرني عن قولك: فإنّ تَصِلي أصِلْك وإن تَبِيني بهَجْرك بعد وَصْلك ما أبالِي أمَا والله لو كنتَ حُرَّاً لبالَيتَ ولو كُسر أنفُك. ألا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيب: بزينَب اْلمِم قبلَ أن يَرحل الرَّكْبُ وقُلْ إن تَملِّينا فما ملكِ القَلْبُ قال: فانكسر الأحوص ودخلت نصيْباً زهوة. ثم التفت إلى نُصيب فقال له: أخبرني عن قولك: أهيم بدَعد ما حييتُ فإن أمت فواكبدِي مَن ذا يهيم بها بَعدِي أهمّك ويحك مَن يفعل بها بعدك. فقال القوم: الله أكبر استوت الفِرَق قُوموا بنا من عند هذا. ودخل كُثير عزة على سُكينة بنت الحُسين عليه السلام فقالت له: يا بن أبي جُمعة أخبرني عن قولك في عَزّة: وما رَوْضة بالحزن طَيِّبة الثَّرى يَمُج النَدى جَثْجاثُها وعَرارُها بأطيَبَ من أرْدَانِ عَزّة مَوْهِناً وقد أوقدت بالمندل الرَّطب نارُها طاب ريحُها. ألا قلت كما قال عَمّك امرؤ القيس: ألم تَريَاني كُلما جِئْتُ طارقاً وجدتُ بها طِيباً وإن لم تَطَيّبِ سمر عبدُ الملك بنُ مَروان ذاتَ ليلة وعنده كُثيّر عَزّة فقال له: أنشدني بعضَ ما قلتَ في عَزّة. فأنشده حتى إذا أتى على هذا البيت: هممتُ وهَمّت ثم هابتْ وَهِبْتُها حياءً ومِثْلي بالحَيَاء حَقِيقُ قال له عبدُ الملك: أما والله لولا بيت أنشدتَنيه قبل هذا لحرمتُك جائزتك. قال: لمَ يا أمير المؤمنين قال: لأنك شركتُها معك في الهَيبة ثم استأثرت بالحياء دونها. قال: فأي بيت عفوتَ به يا أمير المؤمنين قال قولك: دعُوني لا أريد بها سِواها دعُوني هائماً فيمن يَهيمُ ومما أدرك على الحسن بن هانئ قولُه في وصفِ الأسد حيث يقول: كأنما عينُه إذا التفتت بارزةَ الجفن عينُ مَخْنُوقِ وإنما يُوصف الأسد بغؤور العَينين كما قال العجّاج: كأن عَينيه من الغُؤور قَلتان أو حَوْجلتا قارورِ وقال أبو زُبيد: ومن قولنا في وصف الأسد ما هو أشبه به من هذا: ولرُبّ خافقة الذَوائب قد غَدتْ مَعْقودةً بلوائه المَنْصور يَرْمِي بها الآفاق كُل شَرَ نْبَث كفّاه غيرُ مُقلَّم الأظْفورِ لَيثٌ تَطِير له القُلوبُ مخافةً مِن بين همهمة له وزَئير وكأنما يُومي إليك بطَرفة عن جَمْرتين بجَلْمد مَنْقُور http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب من أخبار الشعراء حَدّث دِعْبل الشاعر أنه اجتمع هو ومسلم وأبو الشِّيص وأبو نُواس في مجلس فقال لهم أبو نُواس: إنّ مجلسنا هذا قد شُهر باجتماعنا فيه ولهذا اليوم ما بعده فليأت كُل واحد منكم بأحسن ما قال فَلْينشده. فأنشد أبو الشِّيص فقال: وَقف الهَوى بي حيثُ أنتِ فليس لي متأخر عنه ولا مُتقدَّمُ أجدُ الملامةَ في هَواكِ لذيذةً حُبّاً لذِكْرك فَلْيلمني اللُّوم وأهنتِني فأهنت نفسيصاغراً ما مَن يهون عليك ممَن أُكْرِم أشبهتِ أعدائي فصرتُ أحبّهم إذ كان حَظِّي منك حظِّي منهمُ قال: فجعل أبو نواس يعجب من حُسن الشعر حتى ما كاد ينقضي عَجبُه. ثم أنشد مسلم أبياتاً من شعره الذي يقول فيه: فاقسم أنْسىَ الداعياتِ إلى الصِّبا وقد فاجأتْها العينُ والسِّترُ واقعُ فغطّت بأيديها ثمارَ نُحورها كأيدي الأسرى أثقلتها الجَوَامع قال دِعبل: فقال لي أبو نُواس: هاتِ أبا عليّ وكأنّي بك قد جئتنا بأم القِلادة. فقلتُ: يا أين الشَّبابُ وأيَّة سَلَكا أَمْ أَين يُطلب ضلَّ أم هَلَكا يا ليتَ شعري كيف صَبْرُكما يا صاحِبَيَّ إذا دَمِي سُفِكا لا تطلُبا بظُلامتي أحداً قَلبي وطَرْفي لا دَمِي اشتركا ثم سَألناه أن ينشد. فأنشد أبو نُواس: لا تَبْك هِنداً ولا تَطْرب إلى دَعْدِ واشرب على الوَرْد من حَمراء كالوَرْدِ كأساً إذا انحدرتْ في حَلْق شاربها وجدتَ حُمرتها في العيْن والخَدّ فالخَمر ياقوتة والكأس لُؤلؤة في كَفّ جاريِة مَمشوقةَ القَدّ تَسْقيك من عَينها خَمْراً ومن يَدها خَمراً فما لكَ من سُكْرَين من بُدّ لي نَشْوتان وللندْمان واحدة شيء خُصصتُ به من بينهم وَحْدي فقاموا كلهم فسجدوا له. فقال: أفعلتموها أعجميَّة لا كلمتُكم ثلاثاً ولا ثلاثاً ولا ثلاثاً. ثم قال: تسعة أيام في هَجر الإخوان كثير وفي هجر بعض يوم استصلاح للفساد وعُقوبة على الهَفوة. ثم التفت إلينا فقال: أعلمتم أنّ حكيماً عَتب على حكيم فكتب المعتوبُ عليه إلى العاتب: يا أخي إنّ أيام العمر أقلُّ من أن تَحتمل الهجر محمد بن الحسن المَدِينيّ قال: أَخبرني الزبيرُ بن أبي بكرة قال: دخلت على المُعتز بالله أمير المؤمنين فسَلمتُ عليه فقال: يا أبا عبد اللّه إني قد قلتُ في ليلتي هذه أبياتاً وقد أعيا عليّ إجازةُ بعضها. قلت: أنشدني. فأنشدني وكان مَحموماً: إنّي عرفتُ عِلاجَ القَلْب من وَجَع وما عرفتُ عِلاجَ الحُبّ والخُدَع جَزعتُ للحبِّ والحمَى صَبرتُ لها إني لأعجبُ من صَبري ومن جزعي مَن كان يَشغلُه عن حُبه وَجَعٌ فليس يَشغلني عن حُبكم وَجَعي قال أبو عبد الله: فقلت: وما أملُّ حَبيبي ليلةً أبداً مع الحَبيب ويا ليتَ الحبيبَ معِي فأمر لي على البيت بألف دِينار. اجتمع الحسنُ بن هانئ وصريعُ الغواني وأبو العتاهية في مجلس بالكوفة فقيل لأبِي العتاهية: أنشدنا. فأنشد: أسيَّدتي هاتي فديتُك ما جُرْمي فانزِلَ فيما تَشْتهين من الحُكْم كفاكِ بحَقّ الله ما قد ظَلَمْتِني فهذَا مقامُ المُسْتجير من الظُّلم وقيل لصريع الغواني: أنشدنا. فأنشأ يقول: قد اطّلعتَ على سِرِّي وإعْلاني فاذهبْ لشانِكَ ليس الجَهْلُ من شَانِي ثم قيل للحسن بن هانئ: أنشدنا فأنشد: يا بنة الشَيخ اصْبَحينا ما الذي تَنتظرِينَا قد جَرى في عُوده الما ءُ فأجْرِي الخمر فِينا قيل: هذَا الهزل فهاتِ الجدّ. فأنشأ: لمِن طَلل عارِي المَحلّ دفينُ عفا عهدُه إلا روائمُ جُونُ كما افترقت عند المَبيت حمائمٌ غَريباتُ مُمْسىً ما لهن وُكون ديارُ التي أمّا جَنَى رَشَفاتها فحُلو وأما مسها فيَلين وما أَنْصفت أما الشُّحوبفظاهرٌ بوَجهي وأمّا وجهها فَمَصُون فقام صريعُ الغواني يجرّ ذيلَه وخرج وهو يقول: إن هذا مجلس ما جلستُه أبداً. هشام بن عبد الملك الخُزاعيّ قال: كُنا بالرقة مع هارون الرشيد فكتب إليه صاحبُ الخَبر بموت الكِسائي وإبراهيم المَوصلي والعبَّاس ابن الأحنف في وقت واحد. فقال لابنه المأمون: اخرج فصلّ عليهم. فخرج المأمون في وُجوه قُوّاده وأهل خاصّته وقد صُفُّوا له. فقالوا له: مَن ترى أن يُقدَّم قال: الذي يقول: يا بَعِيدَ الدار عن وَطنه هائماً يَبْكي على شَجَنِهْ قيل له: هذا وأشاروا إلى العباس بن الأحنف. فقال: قَدّموه فقُدِّم عليهم. أبو عمرو بن العلاء قال: نزل جرير وهو مُقبل من عند هشام بن عبد الملك فبات عندي إلى الصبح فلمّا أَصْبح شَخص وخرجتُ معه أشيعه. فلما خرجنا عن أَطناب البيوت التفتَ إليّ فقال: أنشدني من قول مَجنون بني عامر قيس ابن المُلوّح فأنشدتُه: وأدنْيتِني حتى إذا ما سَبَيْتني بقَول يُحلّ العُصْمَ سَهلَ الأباطحَ تجافيتِ عنِّي حين لا ليَ حيلة وغادرتِ ما غادرتِ بين الجَوانح فقال: والله لولا أنه لا يَحسن لشيخ مثلي الصُّراخ لصرخت صرخة يسمعها هشامٌ على سريره. وهذا من أرق الشِّعر كُله وألطفه لولا التضمين الذي فيه. والتضمين أن يكون البيت معلّقاً بالبيت الثاني لا يتم معناه إلا به. وإنما يُحمد البيت إذا كان قائماً بنفسه. وقال العبّاسُ بن الأحنف نظير قول المجنون بلا تضمين وهو قولُه: أشكو الذين أذاقُوني مودَتهم حتى إذا أيقظوني بالهَوى رقدُوا وقال الأصمعيّ: دخلتُ على هارون الرشيد فوجدتُه منغمساً في الفراش فقال: ما أبطأ بك يا أصمعيّ قلت: احتجمت يا أمير المؤمنين. قال: فما أكلتَ عليها قلت: سِكباجة وطَباهَجة قال: رميتَها بحَجرها. أتشرب فقلت: نعم وقلت: قال: يا مسرور أي شيء معك قال: ألف درهم. قال: ادفعها للأصمعيّ. وكان يصحب عليَّ بن داود الهاشمي يَهوديّ ظَريف مؤنس أديب شاعر أريب فلما أراد الحَج أراد أن يَستصحبه فكتب إليه اليهودأي يقول: إنّي أعوذ بداودٍ وحُفْرته من أن أحُج بكُره يا بن داوُدِ نُبِّئتُ أنْ طريقَ الحَج مُصردة عن النَّبيذ وما عَيْشي بِتَصريدِ والله ما فيَّ من أَجر فتَطلبَه فيما علمت ولا دِيني بمَحْمود أما أبوك فذاك الجُود يعَرِفُه وأنت أشبهُ خَلق الله بالجُود كأنّ ديباجَتَيْ خَدّيه من ذهب إذا تَعصّب في أثوابه السّود حَدّث أبو إسحاق يحيى بن محمد الحَواريّ قال: سمعتُ شيخاً من أهل البَصرة يقول: قال إبراهيم السَّويقي مولى المَهالبة: تتابعتْ عليّ سنون ضيّقة وألحِّ عليَّ العُسر وكثرةُ العِيال وقلّة ذات اليد وكُنت مشتهراً بالشعر أقصد به الإخوان وأهلَ الأقدار وغيرَهم حَتى جفاني كُل صديق وملّني مَن كنت أقصده فأضرّني ذلك جدّاً. فبينما أنا ذات يوم جالس مع امرأتي في يوم شديد البرد إذ قالت: يا هذا قد طال علينا الفَقر وأضرّ بنا الجهد وقد بقيتَ في بيتي كأنك زَمِن هذا مع كَثرة الولد فاخرُج عنّي واكفِني نفسك ودَعني مع هؤلاء الصبيان أقوم بهم مَرّة وأقعد بهم أخرى. وألَحّتْ عليّ في الخصومة وقالت لي: يا مشؤوم تعلمتَ صناعة لا تُجدي عليك شيئاً. فضجرتُ منها ومِن قولها وخرجتُ على وجهي في ذلك البرد والرِّيح وليس عليَّ إلا فَرْو خَلَق ليس فوقه دِثار ولا تحته شِعار وعلى عُنقي إزار ثم جاءت ريحٌ شديدة فذهبت به عن بدني وتفرّقت أجزاؤه عني من بِلاه وكثرة رقاعه. وعلى عنقي طَيْلسان ليس عليّ منه إلا رسمه. فخرجت والله متحيَّراً لا أدري أين أقصد ولا حيث أذهب. فبينما أنا أجِيل الفكرة إذ اخذتني سماء بقطر متدارك. فدفعت إلى دارٍ على بابها روشن مطل ودكّان نظيف وليس عليه أحد فقلت: أستتر بالروشن إلى أن يسكن المطر. فقصدت قصدَ الدار. فاذا بجارية قاعدة قد لزمتْ باب الدار كالحافظة عليه فقالت لي: إليك يا شيخ عن بابنا. فقلت لها: ويحك لستُ بسائل ولا أنا ممن تُتخوف ناحيته. فجلست على الدّكان. فلما سكنت نفسي سمعتُ نغمة رخيمة من وراء الباب تدلّ على نغمة امرأة. فأصغيت فإذا بكلام يدل على عِتاب. ثم سمعت نغمةً أخرى مثل ذلك وهي تقول: فعلتِ وفعلتِ. والأخرى تقول: بل أنت فعلتِ وفعلتِ. إلى أن قالت إحداهما: أنا جُعلت فداك إن كنتُ أسأتُ فاغفري واحفظي عنه أشعار ظريفة. فأنشدتْها تقول: هبيني يا مُعذِّبتي أسأتُ وبالهِجْران قَبلكُم بدأت فقالت: تها. ثم قالت: يا أبا إسحاق ما لي أراك بهذه الهَيئة الرثّة والبزّة الخَلقة فقلت: يا مولاتي تعدَّى عليّ الدهرُ ولم يُنصفني الزمان وجفاني الإخوان وكَسدت بضاعتي. فقالت: عَزّ عليّ ذلك. وأومأت إلى الأخرى فضربت بيدها علىِ كمُها. فسلّت دملُجا من ساعدها ثم ثَنَّت باليد الأخرى فسلّت منها دملجاً آخر. فقالت: يا أبا إسحاق خُذ هذا واقعد على الباب مكانَك وانتظر الجاريةَ تأتيك. ثم قالت: يا جارية سَكَن المطر قالت: نعم. فقامتا وخرجتا وقعدتُ مكاني. فما شعرت إلا والجارية قد وافت بمنديل فيه خمسةُ أثواب وصرّة فيها ألفُ دِرهم وقالت لي: تقول مولاتي: أنفق هذه فإن احتجتَ فصر إلينا حتى نزيدك إن شاء الله. فأخذت ذلك وقمت وقلت في نفسي: إن ذهبت بالدملجين إلى امرأتي قالت: هذا لِبَناتي وكابرتني عليهما. فدخلت السّوقَ فبعتُهما بخمسين ديناراً وأقبلتُ. فلما فتحت الباب صاحب امرأتي وقالت: قد جئتَ أيضاً بشُؤمك! فطرحتُ الدنانيرَ والدراهم بين يديها والثياب فقالت: من أين هذا قلت: مِن الذي تشاءمت به وزعمتِ بضاعتي التي لا تُجدي. فقالت: قد كانت عندي في غاية الشؤم وهي اليوم في غاية البركة. نوادر من الشعر وقال المأمون لمحمد بن الجَهم: أَنشدني بيتاً أوّله ذَمّ وآخره مَدْح أولك له كُورة فأنشده: قَبحتْ مناظرُهم فحين خبرتُهم حَسُنت مناظرُهم لحسن المَخْبَر أرادوا ليُخفوا قبرَه عن عدوّه فطيبُ تُراب القَبر دلَّ على القبر فولاه الدِّينور. وقال هارون الرشيد للمُفَضّل الضَّبِّي: أنشدنا بيتاً أوله أعرابي في شَملته هَبَّ من نَومته وآخره مَدنيّ رقيق غُذِّي بماء العَقيق. قال المُفضل: هَوَّلتَ عليَّ يا أمير المؤمنين فليت شعري بأيّ مَهر تُفتضّ عَروس هذا الخدْر قال هارون: هو بيتُ جَميل حيث يقول: ألا أيها النّوام ويحكُم هُبُّوا أُسائلكم هل يَقتل الرجلَ الحبُّ فقال له المفضل: فأخبرني يا أمير المؤمنين عن بيت أوله أكثمُ بن صَيفيّ في إصابة الرأي وآخره بُقراط الطبيب في معرفته بالداء والدواء قال له هارون: ما هو قال: هو بيتُ الحسن بن هانئ حيث يقول: دع عنكَ لَومي فإنّ اللومَ إغراء وداوني بالَّتي كانت هي الدواء قال: صدقت. وقال الرَّبيع: خرجنا مع المنصور مُنصَرفنا من الحَجّ فنزلنا الرَّضمة ثم راح المنصور ورُحنا معه في يوم شديد الحَرّ وقد قابلْته الشمس وعليه جُبة وَشيْ. فالتفت إلينا وقال: إنّي أقول بيتاً من الشعر فمَن أجازه منكم فله جُبتي هذه قلنا: يقول أمير المؤمنين. فقال: وهاجرة نصبت لها جَبيني يُقطِّع حرُّها ظَهرَ العِظَايه فبَدره بشّار الأعمى فقال: وقفتُ بها القلوصَ ففاض دَمعي على خَدِّي وأَسعد واعظَايه فخرج له من الجُبة. فلقيته بعد ذلك فقلت له: ما فعلتَ بالجُبة قال: بعتُها بأربعة آلاف درهم. خرج رسول عائشة بنت المَهديّ وكانت شاعرةً إلى الشعراء وفيهم صرَيع الغواني فقال: تُقرئكم سيدتي السلامَ وتقول لكم: من أجاز هذا البيتَ فله مائة دينار. فقالوا: هاته. فأنشدهم: أنيلي نَوَلاً وجُودي لنَا فقد بلغتْ نَفسيَ التَرْقوه فقالِ صَريع: وإني كالدلْو في حُبكم هَوِيتُ إذا انقطعتْ عَرْقوه قال الحسن: صدقتَ. ثم أقبل إليه رجلٌ آخر فقال: يا أبا سَعيد ما تقول في الرجلِ يشك في الشَّخص يبدو له فيقول: والله هذا فلان ثم لا يكون هو ما ترى في يمينه فقال الفرزدق: وقد ولستَ بمأخوذ بقَول تقولُه إذا لم تُعِنْه عاقداتُ العزائِم قال الحسن: صدقتَ. فأخذ المائة الدِّينار. وكان الفرزدق يجلس إلى الحَسن البَصريّ وجرير يجلس إلى ابن سِيرين لتباعد ما بين الرَّجلين وكان موتُهما في عام واحد وذلك سنة عشر ومائة. فبينما الفرزدق جالس عند الحَسن إذ جاءه رجل فقال: يا أبا سَعيد: إنّا نكون في هذه البُعوث والسرَّ أيا فنُصيب المرأة من العدوّ وهي ذاتُ زَوْج أفتحلّ لنا من غير أن يُطلّقها زوجُها قالت الفرزدق: قد قلتُ أنا في مثل هذا في شعري. قال له الحسن: وما قلت قال: قلتُ: وذات حَلِيل أَنكحْتها رماحُنا حَلالاً لمن يبني بها لم تُطلَقِ واستعدت امرأةٌ على زَوجها عبّادَ بن منصور وزعمت أنه لا يُنفق عليها. فقال لرؤبة: احكُم بينهما. فقال: فطَلّق إذا ما كنتَ لستَ بمُنفقٍ فما الناسُ إلا مُنفِقٌ أو مطلق وكان رجل يدَّعي الشعرَ ويستبرده قومُه فقال لهم: إنما تَستبردونني من طريق الحَسد. قالوا: فبيننا وبينك بشّار العقيلي. فارتفعوا إليه. فقال له: أنشدني. فأنشده فلما فرغ قال له بشّار: إني لأظنك من أهل بيت النُّبوة قال له: وما ذلك قال: إن الله تعالى يقول: وَما علّمْنَاهُ الشِّعْرَ أنا أبو دُلف المُبدِي بقافية جوابُها يهلك الداهي من الغَيظِ مَن زاد فيها له رَحْلي وراحلتي وخاتمي والمَدَى فيها إلى القَيظ فأجابه ابنُ عبد ربّه. قد زدتُ فيها وإن أَضحى أبو دُلف والنفسُ قد أَشرفت منه على الفَيظِ سَمر الفرزدقُ والأخطلُ وجرير عند سليمان بن عبد الملك ليلةً فبينما هم حوله إذ خفَق. فقالوا: نَعس أمير المؤمنين وهمّوا بالقيام. فقال لهم سليمان: لا تقوموا حتى تقولوا في هذا شعراً. فقال الأخطل: رَماه الكَرى في رأسه فكأنّه صَرِيع تَروَّى بين أصحابه خَمْرا فقال له: ويحك! سكران جعلتَني ثم قال جرير بن الخَطَفي: رماه الكَرى في رأسه فكأنما يرى في سواد الليل قُنبرةً حَمْرا فقال له: ويحك! أجعلتَني أَعمى. ثم قال الفرزدق بعد هذا: رماه الكَرى في رأسه فكأنما أَمِيمُ جَلاميدٍ تَركْن به وَقرا قال له: ويحك! جعلتني مَشْجوجاً. ثم أذن لهم فانقلبوا فحيّاهم وأعطاهم. كان عمرُ بن أبي ربيعةَ القُرشيّ غَزلاً مُشبِّباً بالنساء الحَوَاجّ رقيقَ الغزل وكان الأصمعي يقول في شعره: الفُستق المقشَّرَ الذي لا يُشبع منه. وكان جرير يَستبرده ويقول: شِعر حِجازِيّ لو أَنجد في تَمُوز لوُجد البرد فيه. فلما أنشد: فلما تلاقينا عرفت الذي بها كمثل الذي بي حذَوكَ النَّعل بالنَّعل فقال: ما زال يَهْذي حتى قال الشعر. وقالت العلماء: ما عُصي الله بشعر ما عُصي بشعر عمر بن أبي ربيعة. ووُلد عمر بن أي ربيعة يوم مات عُمر بن الخطاب فسُمي باسمه فقالت العلماء. أي خَير رُفع وأي شرّ وُضع. ثم إنه تاب في آخر أيامه وتَنسك ونذر لله أن يُعتق رقبة بكل بيت يقوله وإنه حَجَ فبينما هو يطوف بالبيت إذ نَظر إلى فتى من نُمير يلاحظ جاريةً في الطواف فلما رأى ذلك منه مِراراً أتاه فقال له: يا فتى أمَا رأيت ما تصنع فقال له الفتى: يا أبا الخَطّاب لا تَعجل عَليّ فإنّ هذه ابنة عمّي وقد سُمّيت لي ولستُ أقدر على صَداقها ولا أظفر منها بأكثر مما ترى وأنا فلان بن فلان وهذه فلانة بنت فلان. فعرفهما عُمر فقال له: أقعد يا بن أخي عند هذه الجارية حتى يأتيكَ رسولي. ثم ركب دابّته حتى أتى منزلَ عم الفتى فقَرع الباب فخرج إليه الرجل فقال: ما جاء بك يا أبا الخطّاب في مثل هذه الساعة قال: حاجة عَرضت قِبَلك في هذه الساعة. قال: هي مَقْضية. قال عمر: كائنة ما كانت قال: نعم. قال: فإني قد زوَّجت ابنتك فلانة من ابنِ أخيك فلان. قبل: فإني قد أجزتُ ذلك. فنزل عُمر عن دابَّته ثم أرسل غلاماً إلى داره فأتاه بألف درهم فساقها عن الفتى ثم أرسل إلى الفتى فأتاه فقال لأبي الجارية: أقسمتُ عليك إلا ما ابتني بها هذه الليلَة. قال له: نعم. فلما أدخلت على الفتى انصرف عمر إلى داره مسروراً بما صنع فرمى بنفسه على فراشه وجعل يتململ ووليدة له عند رأسه فقالت له: يا سيدي أرقت هذه الليلة أرقاً لا أدري ما دَهمك فأنشأ يقول: تقول وليدتِي لمّا رأتْنيِ طَربتُ وكنتُ قد أقصرتُ حِيناً أراك اليوم قد أحدثتَ شَوقاً وهاج لك الهَوى داءً دفينا وكنتَ زعمْتَ وإن تَعزي مَشُوق حين يَلقي العاشِقينا ثم ذكر يمينَه فاستغفر الله وأعتق رقبةً لكل بيت. دعا الأعورُ بنُ بنان التِّغلبي الأخطل الشاعر إلى منزله فأدخله بيتاً قد نجّد بالفُرش الشريفة والوِطاء العجيب وله امرأة تُسمى بَرَة في غاية الحسن والجمال فقال له: أبا مالك إنك رجلِ تدخل على الملوك في مجالسهم فهل ترى في بيتي عَيباً فقال له ما أرى في بيتك عيباً غيرك. فقال له: إنما أعجب من نفسي أذ كنت أدخل مثلَك بيتي اخرج عليك لعنة اللّه. فخرج الأخطل وهو يقول: ويُلصق بَطْناً مُنتن الريح مُجْرِزاً إلى بَطْن خَوْد دائِم الخَفقَان |
باب من الشعر يخرج معناه في المدح والهجاء قال الشاعر في خيّاط أعور يسمَّى عَمْراً: خاط لي عَمرو قَباءْ ليت عينيه سواء فاسأل الناس جميعاً أمديحٌ أم هجاء ومثله قولُ حبيب في مَرثية بني حُميد حيث يقول: لو خَر سيفٌ من العَيُّوق مُنصلتاً ما كان إلا على هاماتهم يَقَعُ فلو هُجي بهذا رجل على أنه أنجس خَلق الله لجاز فيه ولو مُدح به على مذهب قول الشاعر: وإنا لتَستحلي المَنايا نُفوسُنا ونترك أخرى مُرةً ما تَذُوقها وقول الآخر: ونحن أناس ما نَرى القَتل سُبَّةً إذا ما رأتْه عامرٌ وسَلُولُ يُقَرِّب حبّ المَوت آجالَنا لنا وتَكرهه آجالهمُ فتَطُول وما مات منّا سيّد في فِراشه ولا طُلّ مِنّا حيثُ كان قَتِيل تسيل على حَدِّ السيوف دماؤنا وليس على غَير السُّيوف تَسِيل انظر فحيثُ تَرى السُيوفَ لوامعاً أبداً ففَوْقَ رؤوسهم تتألّقُ ما قالوه في تثنية الواحد وجمع الاثنين والواحد وإفراد الجمع والاثنين وقال الفرزدق في تثنية الواحد: وعندي حُساماً سيفه وحمائلُه وقال جرير: لما تَذكَّرت بالدَّيْرين أرقني صوتُ الدَجاج وقَرْعٌ بالنَّواقيس وإنما هو دَيْر الوليد مَعروف بالشام وأراد بالدجاج: الدَيكة. وقال قَيس بن الخَطيم في الدِّرع: مُضاعفة يَغشى الأناملَ رَيْعُها كأنّ قتيريْها عُيون الجَنادبِ يريد: قَتيرها. وقال آخر: وقال لبَوَّابَيْه لا تُدخِلنَّه وسُدَا خَصاصَ الباب عن كل مَنْظرِ وقال أهِلُ التفسير في قول الله عزّ وجلّ: " ألْقِيَا في جَهَنَم كُلًّ كَفار عَنِيد " إنه إنما أراد واحداً فثنَّاه. وكذلك قولُ معاوية للجِلْواز الذي كان وكلّه برَوْح بن زِنْباع لما اعتذر إليه رَوح واستعطفه: خلِّيا عنه. قولهم في جمع الاثنين والواحد قال الله تبارك وتعالى: " فإنْ كان له إخْوةٌ فلأمّه السُّدُس ". يريد أخوين فصاعدا. وقوله: " إنّ الذين يُنَادونَك مِنْ وَرَاء الحجُراتِ أكْثرُهم لا يعْقِلُون " وإنما ناداه رجلٌ من بني تَميم وقوله: " وألْقَى الألْوَاحَ " وإنما هما لَوْحان. وقال الشاعر: لَوْ الرجاء لأمرٍ ليس يَعْلمه خَلْق سِوَاك لما ذَلَت لكم عُنُقِي ومثل هذا كثير في الشعر القديم والمُحدث. وأمّا قولهم في إفراد الجمع فهو أقل من هذا الذي ذكرنا. وكذلك في إفراد الاثنين. فمن ذلك قول الله تعالى: " ثُم يُخرِجكُم طِفْلاً " وقوله: " فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ " وقوله: " فما مِنكم مِنْ أحِدِ عَنهُ حَاجِزين " وقال جرير: وقال آخر: وكأنّ بالعينين حَبَّ قَرَنْفُل أو فُلفلٍ كحِلت به فانهلّتِ وِلم يقل: فانهلّتا. وقال مُسلم بن الوليد: ألا أنِف الكَواعبُ عَن وِصالي غداةَ بدَا لها شيبُ القَذال وقال جرير: وقُلنا للنِّساء به أقيمي قولهم في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر قال مالك بن أَسماء بن خارجة الفَزاريّ في شعره الذي أوله: حَبَّذا ليلُنا بتلِّ بَوَناً ومَررنا بنِسْوة عطراتٍ وسَماع وقَرقَف فنزلْنَا ما لَهم لا يُبارك الله فيهم حين يُسألن مَنحنا ما فَعلنا وقال آخر: وقد استشهد به سيبويه في كتابه. فلا ديمة وَدقت وَدْقها ولا أرْضَ أَبقلَ إبقالهَا أنّ السماحةَ والمُروءة ضمنا قَبرًا بمَرْو على الطَّريق الوَاضح وقالت أعرابية: قامتْ تُبكّيه على قَبرهِ مِن ليَ مِن بعدك يا عامر تركْتَني في الدار وحشيةً قد ذَلّ مَن ليس له ناصر وقال أبو نُواس: كَمَن الشَّنآن فيه لَنا ككُمون النار في حِجرِهْ وإنما ذكرتُ هذا البابَ في كتاب الشعر لاحتياج الشاعر إليه في شعره واتساعه فيه http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب ما غلط فيه على الشعراء وأكثر مَا أدرك على الشعراء له مجاز وتوجيه حسن ولكنّ أصحاب اللغة لا يُنصفونهم وربمَا غَلّطوا عليهم وتأوّلوا غير معانيهم التي ذهبوا إليها. فمن ذلك قولُ سيبويه واستشهد ببيت في كتابه في إعراب الشيء على المعنى لا على اللفظ وأخطأ فيه: مُعاوِي إننا بَشر فأسْجح فَلَسنَا بالجبال ولا الحَدِيدَا كذا رواه سيبويه على النَّصب وزعم أنّ إعرابه على معنى الخبر الذي في ليس. وإنما قاله الشاعر على الخَفض والشعر كله مخفوض فما كان يضطره أن ينصب هذا البيت ويحتال على إعرابه بهذه الحِيلة الضعيفة وإنما الشعر: مُعاوي إنّنا بَشر فأَسْجِحْ فلسنا بالجبال ولا الحَديدَ أكلتُم أرضنا فَجَردْتُمُوها فهل من قَائمٍ أو من حَصِيد أتطمع في الخُلود إذا هَلكنا وليس لنا ولا لك من خُلود فهَبْنا أمةً هلكتْ ضَياعاً يزيدُ أميرُها وأبو يَزيد ونظير هذا البيت ما ذكره في كتابه أيضاً واحتج به في باب النون الخفيفة: وهذا البيت للنَّجاشيَّ. وقد ذكره عمرو بن بحر الجاحظ في فخر قَحطان على عدنان. في شعر كُله مخفوض وهو: أيا راكباً إمّا عرضتَ فبلِّغن بني عامر عنّي يزيدَ بن صَعْصع نَبتم نَبات الخَيزرانيّ في الثرى حديثاً متى ما يأتك الخيرُ يَنفع ومثله: قولُ محمد بن يزيدَ النحويّ المعروف بالمُبرّد في كتاب الروضة وأدركَ. على الحسن بن هانئ قولَه: وما لِبَكْرِ بن وائل عُصْم إلا بحمَقائها وكاذِبها فزعم أنه أراد بحَمقائها هَبنَّقة القَيسيّ. ولا يقال في الرجل حَمقاء. وإنما أراد دُغَة العِجليَّة وعِجْل في بكر وبها يُضرب المثل في الحُمق. http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب من مقاطع الشعر ومخارجه اعلم بأنك متى ما نظرتَ بعين الإنصاف وقطعت بحجة العقل علمتَ أنّ لكل ذي فضل فضلَه. ولا ينفع المتقدمَ تقدُّمُه ولا يضرّ المتأخرَ تأخره. فأمّا مَن أساء النظمِ ولم يحسن التأليف فكثير كقول القائل: شرَ يومَيْها وأغواه لها ركبتْ عَنْز بِحِدْج جَملاً شرّ يوميها نصب على المحلّ. وإنما معناه ركبت عنز جَملاً بحِدْج في شر يوميها. وكقول الفرزدق: وما مثْله في النّاس إلا مُملَّكاً أبو أمه حيٌ أَبوه يقاربُه معناه: ما مِثل هذا الممدوح في الناس إلا الخَليفة الذي هو خاله فقال: أبو أُمه حيّ أبوه يقاربه. فبعد المَعنى القريب ووعّر الطريق السهل ولبَّس المعنى بتوعّر اللفظ وقُبح البِنية حتى ما يكاد يُفهم. ومثل هذا إلاّ أنه أقرب منه إلى الفهم قولُ القائل: بينما ظِل ظَلِيلٌ ناعم طلعتْ شمس عليه فاضمحلْ يريد: حتى طلعت شمس عليه. . ومثلُه قولُ الآخر: يريد: على من يتكل عليه. وللّه دَرّ الأعشى حيث قال في المخبأة: لم تَمْش ميلاً ولم تَركب على جَملٍ ولم تَر الشمسَ إلا دونَها الكِلَلُ وأبين منه قولُ النابغة: ليست من السود أعقاباً إذا انصرفتْ ولا تبيع بأعلى مكة البَرَمَا وقد حذا على مثال قول النابغة بعضُ المُبرزين من أهل العصر فقال: ليست من الرمص أشفاراً إذا نَظرت ولا تَبيع بفَوق الصُخرة الرُّغُفا فقيل له: ما معناك في هذا قال: هو مثلُ قول النابغة وأنشد البيت وقال: ما الفرق بين أن تَبيع البَرَم أو تَبيع الرغُف وبين أن تكون رمضاء العينين أو سوداء العَقِبين. وانظر إلى سُهولة معنى الحسن بن هانئ وعُذوبة ألفاظه في قوله: حذَر امرئ ضربت يداه على العدا كالدَّهر فيه شراسةٌ وليانُ وإلى خُشونة ألفاظ حبيب الطائي في هذا المعنى حيث يقول: شَرسْتَ بل لِنْت بل قابلتَ ذاك بذا فأنتَ لا شك فيك السهلُ والجبلُ وقد يأتي من الشعر ما لا فائدة له ولا معنى كقول القائل: الليلُ ليلٌ والنهارُ نهارُ والأرضُ فيها الماءُ والأشجارُ إنّ محلاً وإن مُرتحلا وإنّ في السفْر إذ مَضىَ مَهَلاَ وقال إبراهيم الشَيْبانيّ الكاتب: قد تكون الكلمة إذا كانت مفردةً حُوشيّة بشعة حتى إذا وضعت في موضعها وقُرنت مع إخواتها حَسُنت كقول الحسن بن هانئ: ذو حَصر أفلت من كَرّ القبَل والكر: كلمة خسيسة ولاسيما في الرقيق والغزل والنسيب غير أنها لما وضعت في موضعها حَسُنت وكذلك الكلمة الرقيقة العَذْبة ربما عقبُتْ ونفرت إذا لم تُوضع في موضعها مثل قول الشاعر: رأت رائحاً جَوْناً فقامت غَريرةً بمِسْحاتها جُنحَ الظلام تُبادِرُهْ فأوقع الجافي الجلْفُ هذه اللفظَة غير موضعها وبَخسها حقَّها حين جعلها في غير مكانها حقًّا لأنّ المسَاحي لا تَصلح للفرائز. واعلم أنه لا يَصلح لك شيء من المنثور والمنظوم إلا أن يُجري منه على عِرق وأن يتمسّك منه بسبب فأما إن كان غيرَ مُناسب لطبيعتك وغير ملائم لقَريحتك. فلا تُنض مطيَّتك في التماسه ولا تُتعب نفسَك في ابتغائه باستعارتك ألفاظَ الناسِ وكلامَهم فأنّ ذلك غيرُ مُثمر لك ولا مُجدٍ عليك ما لم تكن الصناعة ممازجةَ لذهنك ومَلتحمة بطبعك. واعلم أنّ من كانَ مرجعُه اغتصابَ نظم من تقدمه واستضاءتَه بكوكب مَن سبقه وسَحْبَ ذيل حُلة غيره ولم تكن معه أداة تُولِّد له من بناتِ ذهنه ونتائج فكره الكلامَ الجَزْل والمعنى الحَفْل لم يكن من الصناعة في عِير ولا نفير ولا وِرد ولا صَدَر على أن سماع كلام الفصحاء المطبوعين وَدرْسَ رسائل المُتقدمين هو على كل حال ما يَفْتق اللسان ويُقوي البيان ويُحد الذهن ويَشحذ الطبع إن كانت فيه بقيّة وهناك خيية. واعلم أنّ العلماء شبَهّت المعاني بالأرواحِ والألفاظَ بالأجساد واللُّباب. فإِذا كتب الكاتب البليغ المعنى الجزلَ وكساه لفظاً حسناً وأعاره مَخرجاً سهلاً ومَنحه دَلاًّ مُونقاً كان في القلب أحلَى وللصدر أملاً. ولكنه بقي عليه أن يُؤلفه مع شقائقه وقُرنائه ويجتمع بينه وبين أشباهه ونظائره وينَظمه في سِلْكه كالجوهر المنثور الذي إذا تولى نظمه الناظمُ الحاذقُ وتعاطى تأليفَه الجوهريُّ العالم اظهر له بإحكام الصَّنعة ولطيف الحِكمة حُسناً هو فيه وكشاه ومَنحه بهجة هي له. وكذلك كلما احلولى الكلامُ وعذُب وراق وسَهُلت مخارجه كان أسهلَ وُلوجاً في الأسماع وأشدَ اتصالاً بالقلوب وأخفّ على الأفواه لا سيما إذا كان المعنى البديعُ مترجَماً بلفظ مُونق شريف لم يَسِمْه التكلفُ بِمِيسمه ولم يُفسده التعقيدُ باستهلاكه كقول ابن أبي كَريمة: قَفاه وجهٌ والذي وجههُ مثلُ قَفاه يُشبه الشمسا حيث قال: بأبي أنتَ مِن غزالٍ غَرير بزَّ حُسنَ الوُجوه حُسنُ قَفاكَا وكلاهما أخذه من حسَّان بن ثابت حيث يقول: قفَاؤك أحسنُ من وجهه وأمُّك خير من المُنذِرِ " وقَد يأتي من الشعر في طريق المَدح ما الذمُ أولى به من المدح ولكنه يُحمل على مَحْمَل ما قبله وما بعده ومثله قولُ حبِيب: لو خَرَّ سيفٌ من العَيُّوق مُنصلتاً ما كان إلا على هاماتِهم يَقَعُ وهذا لا يجوز ظاهره في شيء من المدح وإنما يجوز في الذم والنَّحس لأنك لو وصفت رجلاً بأنه أنحسُ الخَلق لم تَصِفه بأكثر من هذا. وليس للشجاعة فيه وجْه لأنّ قوَلهم: لو خَر سيف من السماء لم يقع إلا على رأسه هذا رأس كل نَحس. قولهم في رقة التشبيب ومن الشعر المطبوع الذي يجري مع النفس رِقةً ويُؤدٌي عن الضمير إِبانة مثل قول العباس بن الأحنف: ليلةَ جِئناها على مَوعدٍ نَسْرِي وداعِي الشوقِ مَتْبوع لما خَبت نيرانها وانكفأ الس امِر عنها وهو مصروع قامت تَثَنَّى وهي مَرْعوبةٌ تَودّ أنّ الشملَ مَجْموع حتى إذا ما حاولتْ خطوةً والصدرُ بالأرداف مَدْفوع بَكى وِشَاحاها على مَتْنها وإنما أبكاهما الجُوع فانتبه الهادُون مِن أهلها وصار للمَوْعود مَرْجوع يا ذا الذي نم علينا لَقَدْ قُلتَ ومنك القولُ مَسْموع لا تشغليني أبداً بعدها إلا ونَمامُك مَنْزوع ما بال خَلْخَالك ذا خَرْسة لسانُ خَلخالك مَقْطوع عاذِلتي في حُبها أَقْصري هذا لَعَمْري عنكِ مَوْضوع وفي معناه لبشارِ بن بُرد: سَيّدي لا تأت في قمر لحديثٍ وارقب الدّرُعا الأصمعي قال: سَمع كُثيّر عزة مُنْشداً يُنشد شعرَ جَميل بن معَمر الذي يقول فيه: ما أنتِ والوعدَ الذي تَعدِيننيِ إلاّ كَبرْقِ سَحابةٍ لم تُمْطِرِ تُقضى الديونُ وليسَ يُقضىَ عاجلاً هذا الغريم ولستُ فيه بمعسِر يا ليتَني ألقَى المنيةَ بغتةً إن كان يومُ لقائكم لم يُقدَر يَهواك ما عشتُ الفؤادُ وإن أمت يَتْبع صَداي صداك بين الأقبُر فقال كُثَيّر: هذا والله الشعرُ المَطبوع ما قال أحد مثلَ قول جميل وما كنتُ إلا راويةً لجميل ولقد أبقى للشعراء مثالاً يحتذى عليه. وسمع الفرزدق رجلاً ينشد شعر عُمر بن أبي رَبيعة الذي يقول فيه: فقالتْ وأرْخَت جَانبَ السِّتر إنما مَعِي فتحدَّثْ غيرَ ذِي رِقْبة أهْلي فقلتُ لها مالي بهم من تَرقُّب ولكنّ سري ليس يَحمله مِثْلي حتى انتهى إلى قولِه: فلما تَواقَفنا عرفتُ الذي بها كمِثل الذي بي حذوَك النَّعل بالنَعل فقال الفرزدق: هذا والله الذي أرادت الشعراء أن تقوله فأخطأتْه وبكتْ على الطّلول. وإنما عارض بهذا الشعر جميلاً في شعره الذي يقول فيه: فلم يصنع عمر مع جَميل شيئاً. ومن قولنا في رقةّ النَسيب والشعر المَطبوع الذي ليس بدون ما تقدّم ذِكْرُه: صحا القلبُ إلا خَطْرَةً تبْعث الأسىَ لها زَفرةٌ موصولة بحَنينِ بَلى رُبما حلَت عُرى عَزَماتِه سوالف آرام وأعْينُ عِين لواقطُ حَبّات القُلوب إذا رَنَت ثِمارُ صُدور لاَ ثِمارُ غُصون بُرُودٌ كأنوار الرَّبيع لِسنَها ثيابُ تَصاب في ثِياب مُجون قَرَيْن أديمَ اللَّيل عن نور أوْجُهٍ تُجَن بها الألبابُ أيّ جنون وجوهٌ جرى فيها النَّعيمُ فكلَلت بوَرْد خُدود يُجتَنى بعُيون سألبس للأيام دِرعاً من العَزَا وإن لم يَكُن عند اللَقا بحَصِين فكيف ولي قلبٌ إذا هَبّت الصَبا أهابَ بِشَوق في الضلوع دَفين ويهتاجُ منه كُلّ ما كان ساكناً دُعاءُ حَمامٍ لم يَبِت بوكون وإنّ ارتياحي من بُكاء حَمامةٍ كذِي شَجن داويتَه بشجون كأن حَمامَ ألأيك حِين تَجاوبت حزينٌ بكَى من رَحمة لِحَزين فيا حَزني أنّي أموت صبابةَ ولكنْ على من يحلُ له قَتْلَي فَدَيتُ التي صًدت وقالت لِترْبها دَعِيه الثريا منه أقربُ من وَصْلي فقلت على رويّه: أتقتُلني ظُلماً وتَجْحدني قَتْلي وقد قام مِن عَيْنيك لي شاهدا عَدْل أطُلاّبَ ذَحْلي ليس بي غيرُ شادنٍ بعَيْنيه سِحْر فاطلُبوا عنده ذَحْلي أغار على قَلبي فلما أتيتُه أطالبه فيه أغار على عَقلِي بِنَفسي التي ضَنّت برد سَلامها ولو سألتْ قَتليِ وَهبتُ لها قَتلي إذا جئتُها صَدَّت حياءً بوَجهها فتهجُرني هَجراً ألذَ من الوَصْل وإن حكمتْ جارتْ عليّ بحُكْمها ولكنّ ذاك الجَورَ أشهى من العَدْل . كتمتُ الهوى جَهدي فجرّده الأسى بماء البُكا هذا يَخُط وذا يُملي وأحببتُ فيها العذْلَ حُبًّا لذِكرها فلا شيء أشهى في فؤادي من العذْل أقول لقَلبي كلما ضَامَه الأسىَ إذا ما أبيتَ العِزّ فاصبر على الذُّل برأيكِ لا رَأيي تعرّضتُ للهَوى وأمرك لا أمري وفِعْلكِ لا فِعْلي فمن نَظر إلى سُهولة هذا الشعر مع بديع معناه ورقة طَبعه لمْ يَفْضُله شعرُ صريع الغواني عنده إلا بفضل التقدم ولا سيما إذا قرن قوله في هذا الشعر: كتمتُ الذي ألقى من الحُبّ عاذِلي فلم يَدْر ما بي فاسترحتُ من العَذْل يقولي في هذا الشعر: وأحببتُ فيها العذلَ حُباً لذكرها فلا شيَء أشهى في فؤادي من العَذْل كتمتُ الهَوى جهدي فجرّده الأسى بماء البكا هذا يخط وذا يُمْلي أقول لقلبي كلما ضامه الأسى إذا ما أبيت فاصبرْ على الذل ومن قولنا في رِقّة النسيب وحُسن التشبيب: كم سَوسنٍ لَطُف الحياءُ بلوْنه فأصاره وَرْداً على وَجناتِه ومثله: يا لؤلؤاً يَسْبِي العقولَ أنيقَاً وَرَشاً بتَقْطيع القلوب رَفيقَا ما إنْ رأيتُ ولا سمعتُ بمثله دُرًّا يَعود من الحَياء عَقِيقا ونظيرُ هذا من قولنا في رقة التشبيب وحُسن التشبيه البديع الذي لا نظير له والغريب الذي لم يُسبق إليه: نَظرتْ إليّ بمقلتَيْ أدْمانة وتلفّتت بسَوالف اليَعْفور فكأنما غاض الأسى بجُفونها حتى أتاك بلؤلؤ مَنْثور ونظير هذا من قولنا: أدعو إليك فلا دُعاءٌ يُسمَع يا مَن يَضرّ بناظرَيْه ويَنْفعُ للوَرْد حِينٌ ليس يطلُعُ دونَه والوردُ عندك كُلَّ حين يَطْلُع لم تَنصدع كَبِدي عليك لضَعْفها لكنّها ذابَتْ فما تَتَصدّع مَن لي بأحورَ ما يبين لسانُه خَجلاً وسيفُ جُفونه ما يَقطَع مَنع الكلامَ سوى إشارةِ مُقلةٍ فبها يُكلِّمني وعَنها يَسْمع ومثله: جَمال يفوت الوَهْمَ في غاية الفِكْر وطَرْفٌ إذا ما فاه يَنْطق بالسِّحرِ ووجهٌ أعارَ البدرَ حُلة حاسدٍ فمنه الذي يَسْود في صَفحة البَدْر وقال بشّار بن بُرْد: وَيْح قلبي في حُبّها ممّا يُجنّ ضاق من كِتْمانه حتّى عَلنْ كأنها روضة مُنوَرةٌ تنفستْ في أواخر السَّحَرِ ولبشّار وهو أشعر بيت قاله المولدون في الغزل: أنا والله أشتهي سِحْر عَيَني ك وأخشى مَصارع العُشَاقِ وله: حَوْراءُ إن نظرت إلي ك سَقَتْك بالعينين خَمْرا وكأنّها بَرْد الشرَا بِ صفا ووافق منك فِطْرا ولأبي نُواس: وذات خَدّ مورّدْ قُوهيّة المُتجرّدْ تأمّل العينُ منها محاسناً ليس تَنْفَد فبعضه في انتهاء وبعضه يتولّد وكلما عدْت فيه يكون في العَوْد أحْمد وله أيضاً: ضَعيفة كَرّ الطَّرف تَحسب أنّها قريبةُ عهد في الإفاقة من سُقْم قولهم في النحول قال عمر بن أبي ربيعة القُرشيّ يصف نُحولَ جِسْمه وشُحوبَ لونه في شِعره الذي يقول فيه: رأتْ رجلاً أيْما إذا الشمسُ عارضَتْ فَيَضْحَى وأيما بالعشي فَيَخْصَرُ أخا سَفر جَوّابَ أرْض تقاذفتْ به فَلَواتٌ فهو أشعثُ أغبرُ قليلاً على ظَهر المَطِيّة شَخصُه خلاَ ما نَفَى عنه الرداء المُحبّر وفي هذا الشعر يقول: فلما فقدتُ الصوتَ منهم وأطفئتْ مصابيحُ شُبّت بالعِشاء وأَنؤرُ وغاب قمَير كنتُ أرجو غيوبَه ورَوَّح رُعْيان ونَوَم سُمَّر وخُفِّض فيّ الصوتُ أقبلتُ مِشية ال حُبابِ ورُكْني خِيفَة القوم أزور فحييتُ إذ فاجأتها فتلهّفتْ وكادت بمكتَوم التّحيّة تَجهر وقالت وعضت بالبَنان فضحتَني وأنت امرؤ مَيْسورُ أمرك أعْسر أريتَك إذ هُنّا عليك ألم تَخفْ رقيباً وحَولي من عدوّك حضر فوالله ما أدري أتعجيل حاجةٍ سَرتْ بك أم قد نام من كُنتَ تَحذر فيالك من ليلٍ تقاصَر طولُه وما كان ليلي قبل ذلك يَقْصُر ويا لك من مَلهىً هُناك ومجلس لنا لم يُكدِّره علينا مُكدِّر يَمج ذكيَّ المسك منها مُفلَّجٌ رقيقُ الحَواشي ذو غُروب مؤشر يَرفّ إذا تَفترُّ عنه كأنه حصىَ بَرَد أو أُقْحوان مَنوّر وتَرْنو بعَيْنيها إليَّ كما رَنا إلى رَبْرب وَسْط الخميلة جُؤْذُر فلمّا تقضىّ الليلُ إلا أقله وكادت توالي نَجْمِه تَتغوّر أشارت بأنّ الحَيّ قد حان منهمُ هُبوب ولكنْ موعدٌ لك عَزْور فما راعني إلا مُنادٍ برحْلة وقد لاح مَفْتوق من الصُّبح أشقر فلما رأتْ مَن قد تنوَّر منهمُ وأيقاظهم قالت أشِرْ كيف تأمُر فقلتُ أباديهم فإمَا أفوتُهم وإما يَنالُ السيفُ ثأراً فيثأر فقالت أتحقيقاً لما قال كاشح علينا وتصديقاً لما كان يُؤثر فإنْ كان ما لا بدَ منه فغيره من الأمر أدنى للخفاء وأسْتر فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا أقلي عليكِ اللومَ فالخَطْب أيْسر يقوم فَيَمشي بيننا مُتنكِّراً فلا سِرنا يَفْشو ولا هو يُبصرَ فكان مِجَنّي دون من كنتُ أتّقي ثلاثُ شخوص كاعبان ومُعْصر فلمَّا أجزنا ساحةَ الحيِّ قُلْن لي ألم تَتَّقِ الأعداءَ والليلُ مُقْمِر وقُلن أهذا دأبُك الدهرَ سادراً أما تَستحي أم تَرْعوي أم تُفكِّر ويُروى أن يزيدَ بن معاوية لما أراد تَوجيه مُسلم بن عُقبة إلى المدينة اعترض الناسَ فمرّ به رجل من أهل الشام معه تُرس قبيح فقال له: يا أخا أهل الشام مجنّ ابن أبي ربيعة كان أحسَنَ من مِجَنك هذا - يريد قولَ عمر ابن أبي ربيعة: فكان مجنّي دون من كنتُ أتّقي ثلاثُ شُخوص كاعبان ومُعْصر وقال أعرابيُّ في النحول " ولو أنّ ما أبقيتِ مني مُعلَّقٌ بعود ثُمام ما تأوّد عودُها وقال آخر: إن تسألوني عن تباريح الهَوى فأنا الهَوى وأبو الهَوى وأخُوه فانظُر إلى رجل أضرّ به الأسىَ لولا تقلّب طَرفه دَفَنوه ألا إنما غادرتِ يا أم مالِكٍ صَدى أينما تذهب به الريحُ يَذْهبِ وللحسن بن هانئ: كما لا يَنقضي الأرَبُ كذا لا يَفْتر الطلَبُ ولم يُبْق الهوى إلاّ أقلّي وهو مُحْتَسب وِسوَى أنَّي إلى الحَيوا ن بالحركات أنتسب وقال آخر وهو خالدٌ الكاتب: هذا مُحبّك نِضْو لا حراكَ به لم يَبْقَ من جِسْمه إلا توهّمه ومن قولنا في هذا المعنى: سبيلُ الحُبِّ أوَّله اغترار وآخِره هُمومٌ وادّكارُ وتَلْقى العاشِقين لهم جسوم بَراها الشوق لو نُفِخوا لطارُوا ومثلُه من قولنا: لم يبقَ من جُثمانه إلا حُشاشةُ مُبْتئِسْ قد رَقّ حتى ما يُرى بلِ ذاب حتى ما يُحسّ وفي الشعوثة أرْبى فكان أشْهَى وأحلى أردت أن تَزديك الْ عيُونُ هَيهاتَ كَلا يا عاقد القَلْب منّيِ هلا تذكّرتَ حَلا تركتَ منّي قليلاً مِن القليل أقلا يَكاد لا يَتجزّا أقلّ في اللَّفْظ مِن لا ولأبي العتاهية: تلاعبتِ بي يا عُتْبَ ثم حَمَلْتِني على مَرْكَب بي المَنيّة والسُّقْم ألا في سبيل الله جِسْمي وقوتي ألا مُسْعد حتى أنوح على جِسمي وله: ولم تبقِ منّي إلا القليلَ وما أحسبها تترك الذي بَقِيا قولهم في التوديع قال لسَعيد بن حُميد الكاتب وكان على الخراج بالرقّة: ودّعت جاريةً لي تُسمّى شفيع وأنا أضحك وهي تبكي وأقول لها: إنما هي أيام قلائل. قال: إن كنت تقدر أن تُخلف مثل شفيع ودعتها والدمعُ يقطُر بَيننا وكذاك كُل مُلذَّع بفِراقِ شُغلتْ بتَغييض الدّموع شِمالُها ويَمينها مشغولة بعناقِي قال: فكتبتْ إليّ في طومار كبير ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم وفي آخره: يا كذاب - وسائر الكتاب أبيض. قال: فوجّهتُ الكتب إلى ذي الرياستين الفضل بن سَهل وكتبْت إليها كتاباً على نحو ما كتبتْ ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم وفي آخره أقول: فودعتها يوم التّفرق ضاحكاً إليها ولم أعلم بأنْ لا تلاقيَا فلو كنتُ أدري أنه آخر اللقا بكيتُ وأبكيتُ الحبيبَ المُصافيا قال: فكتبتْ إليّ كتاباً آخر ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم في أوله وفي آخره: أعيذك بالله أن يكون ذلك. فوجهته إلى ذي الرياستين الفضل بن سهل فأشخصني إلى بغداد وصيّرني إلى ديوان الضياع. محمد بن يزيد الرَّبعيّ عن الزّبير عن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل قال: إنه لما نفاه المتوكل إلى جزيرة أقريطش فطال مُقامه بها تمتّع بجارية رائعة الجمال بارعة الكمال فأَنسته ما كان فيه من رَونق الخلافة وتَدبيرها. وكان قبل ذلك مُتيَّماً بجارية خلّفها بالعراق فسلا عنها. فبينما هو مع الأقريطشيّة في سرور وحُبور يَحلف لها أنه لا يُفارق البلدَ ما عاش إذ قَدِم عليه كيف بَعدي لا ذُقْتمُ النومَ أنتمْ خَبِّروني مذ بِنْتُ عنكم وبِنْتُم بمراض الجُفون من خُردِ الع ين ووَرْدِ الخُدود بعدي فُتِنتم يَا أخلايِ إنّ قلبي وإن با ن من الشَّوق عندكم حيثُ كُنتم فإذا ما أبَى الإله اجتماعاً فالمَنايا عليّ وَحْدي وعِشْتم أخذَتْ هذا المعنى من قول حاتم: إذا ما أتى يومٌ يُفرَق بيننا بمَوت فكُن أنتَ الذي تتأخَّرُ فلم يباشر لذةً بعد كتابها حتى رضي عنه المُتوكل وصَرفه إلى أحسن حالاته. الزُّبيريّ قال: حدّثني ابنُ رجاء الكاتب قالت: أخذ مني الخليفة المُعتز جاريةً كنتُ أحبها وتُحبّني فشربا معاً في بعض اللَيالي فسكر قبلَها وبقيتْ وحدها ولم تَبرح من المجلس هيبةً له فذكرتْ ما كنّا فيه من أيامنا فأخذت العُود فغنّت عليها صوتاً حزيناً من قلب قريح وهي تقول: لا كان يومُ الفِراق يوماً لم يُبقِ للمُقْلَتَيْن نَوْمَا شَتّتَ مني ومنك شَملاً فسَر قوماً وساء قَوما يا قوم مَن لي بوَجْد قَلب يسُومني في العذاب سَوْما ما لامني الناسُ فيه إلا بكيتُ كيما أزاد لَوْما فلما فرغت من صوتها رفع المُعتز رأسه إليها والدمعُ يجري على خدّيها كالفَريد انقطع سِلكَه فسألها عن الخبر وحَلف لها أن يُبلغها أملَها. فأعلمتهُ القصة. فردّها إليّ وأحسن إليها وألحقني في نُدمائه وخاصته. وكان لأبي أحمد صاحب حَرب المعتمد جارية فكتبتْ إليه وهو مُقيم على العلويّ بالبصرة تقول: لنا عبراتٌ بعدكم تَبعث الأسى وأنفاسُ حُزن جَمَّة وزَفِيرُ ألا ليتَ شِعْري بعدنا هل بَكيتُمُ فأمّا بُكائي بعدكم فكَثير قال أبو أحمد: فلم يكُن لي هَمّ غيرها حتى قفلتُ من غَزاتي. وكتب مروان بن محمد وهو مُنهزم نحو مصر إلى جارية له خلّفها بالرَّمْلة: وما زال يَدعوِني إلى الصد ما أرى فأنأى وَيَثْنيني الذي لكِ في صَدْري وكان عزيزاً أنّ بيني وبينها حِجاباً فقد أمسيتُ منك على عَشر وأنكاهما والله للقَلب فاعلَمي إذا ازددتُ مثلَيْها فصرتُ على شَهْر وأعظم من هذينِ والله أنني أخافُ بألا نَلْتقي آخرَ الدهر سأبكيك لا مُسْتَبْقياً فيْضَ عَبْرةٍ ولا طالِباً بالصَّبر عاقبةَ الصبر الزبير بن بكار قال: رأيتُ رجلاً بالثّغر وعليه ذلّة واستكانة وخضوع وكان يُكثر التنفّس ويُخفي الشَّكوى وحركاتُ الحُب لا تَخفى فسألتُه وقد خلوتُ به فقال وقد تحدّر دمعُه: أنا في أمْرَيْ رَشادِ بين غَزْو وجِهادِ بَدني يَغزو الأعادي والهَوى يَغزُو فؤادي يا عليماً بالعِبادِ رُدّ إلْفي ورُقادِي وقال أعرابي يصف البَينْ: أدْمت أناملَها عضّا على البَينْ لما انثنت فرأتْني مَعَ العين وردَّعتنيَ إيماء وما نَطقتَ إلا بسُبابة منها وعيَنين وَجْدِي كوَجدك بل أضعافُه فإذا عني تواريتِ قابَ الرّمح واحيَني وان سمعتِ بموتي فاطلُبي بدَمي هواكِ والبَيْن واستعدي على البَين وقال الآخر مالتْ تودّعني والدمعُ يَغْلِبها كما يَميل نسيم الرِّيح بالغُصْنِ ثم استمرّت وقالتْ وهي باكية يا ليتَ مَعْرفتي إياكَ لم تَكُن فكُلما أنَّ مِن شَوْق أجالَ يداً على فُؤاد له بالبَينْ مخْتلَسِ وقال آخر: أمبتكر للبينْ أم أنتَ رائحُ وقلبُك مَلْهوفٌ ودمعُك سافحُ أالآنَ تبكي والنَّوى مُطمئنة فكيف إذا بارحتَ مَنْ لا تُبارح فإنّك لم تَبْرح ولا شطت النَّوى ولكنّ صَبْري عن فؤادِيَ نازح وقال آخر: إذا انفتحتْ قُيود البَينْ عَنّيِ وقِيل أتِيح للنّائي سراحُ أبتْ حَلقَاتُه إلا انقفالاً ويأبَى الله والقدَر المُتَاح ومن لي بالبَقَاء وكُلّ يومٍ لِسَهْم البَينْ في كَبِدي جِرَاح وقالَ محمد بن أبي أُمية الكاتب: يا غريباً يَبكي لكل غَريبِ لم يَذُق قَبْلها فِراقَ حَبِيبِ عَزّه البينُ فاستراح إلى الدّم ع وفي الدّمع راحةٌ للقلوب خَتلتْه حوادثُ الدَّهر حتَى أقصدتْه منها بسَهْم مُصيب أقول له يومَ ودَّعتُه وكُل بعَبْرته مُبْلِسُ لئن رجعتْ عنك أجسامُنا لقد سافرتْ معك الأنْفُس وقال أبو العتاهية: أبِيت مُسَهداً قلِقاً وِسَادِي أروِّح بالدُموع عن الفُؤادِ فِراقُك كان آخرَ عَهْدِ نَوْمي وأوَّل عَهْد عَيْني بالسُّهاد فلم أرَ مثلَ ما سُلِيَتْه نَفسي وما رجعتْ به من سُوء زادي وقال محمد بن يزيد التُسْتريّ: رَفعت جانباً إليكَ من الكِل لة قد قابلتْه طَرْفاً كَحِيلاَ نظرتْ نَظرَةَ الصًبابة لا تم لك للبَيْن دَمْعها أن يَجُولا ثم ولَّت وقد تَغيّر ذاك الصّب ح من خَدّها فعاد أصيلا وقال يزيدُ بن عثمان: دمعَة كاللُّؤلؤ الرّط ب على الخدّ الأسيل وجُفون تنفث السح رمن الطَّرف الكَحِيل يا وحشتا للغريب في البَلد الن نازح ماذا بنَفْسه صَنَعا فارقَ أحبابَه فما انتفعُوا بالعَيْش من بعده وما انتفَعا يقولُ في نأيه وغُربته عَدْل مِن الله كلُّ ما صَنَعا وقال آخر: بانُو فأضْحى الجِسمُ من بعدهم ما تُبصر العينُ له فَيَّا يا أسفي منهم ومن قولهم ما ضَرك الفقدُ لنا شَيّا بأيّ وَجْه أتلقّاهم إن وجَدوني بعدهم حَيَّا وقال آخر: أترحل عن حَبيبك ثم تَبْكي عليه فمَنْ دَعاك إلى الفِرَاقِ وقال هُدْبة العذريّ: ألا ليتَ الرِّياحَ مُسخَّرات بحاجتنا تُباكرُ أو تَؤُوبُ فتُخْبِرَنا الشًمالُ إذا أتَتْنا وتُخبرَ أهلَنا عنّا الجَنُوب عسىَ الكَرْبُ الذي أَمْسيتُ فيه يكون وراءه فَرَج قَرِيب لا باركَ الله في الفِراق ولا بارَك في الهَجْر ما أمرَّهُمَا لو ذُبِح الهَجْر والفِراق كماِ يُذْبح ظَبْي لمَا رَحِمْتُهما شربت كأس الفراق مُترَعةً فَطار عن مُقلتيّ نومُهُما يا سيّدي والذي أؤمّله ناشدتُك الله أن تَذُوقهما وقال حبيب الطائي: الموتُ عِنْدي والفِرا قُ كلاهما ما لا يُطَاقُ يَتعاونان على النُّفو س فَذا الحِمام وذا السِّياق لو لم يكُن هذا كذا ما قِيل موت أو فِراق وقال آخر: شتّان ما قُبْلةُ التَلاقِ وقُبلة ساعةَ الفِرَاقِ هذي حياة وتلك موت بينهما راحةُ العِنَاقِ وقال سعيد بن حُميد: موقفُ البَن مأتَمُ العاشِقينا لا تَرى العينُ فيه إلا حَزِينَا ثم لي فَرْحة إذا قَدِم الن ناس لتَسْليمهم على القادِمينا وقال أعرابي: ليلُ الشَّجِيِّ على الخَليّ قصيرُ وبَلا المُحِبّ على الحبيب يَسِيرُ بانَ الذين أحبُّهم فتَحمَّلوا وفراقُ مَن تَهْوى عليك عَسِير فلأبعثنْ نياحةً لفراقهم فيها تُلَطَّم أوجه وصُدور ولألبسنّ مَدارعاً مُسْودَة لُبْس الثَّواكل إذ دهاك مَسِير ولأذكرنّك بعد موتي خالياً في القَبْر عندي مُنْكَرٌ ونَكير ولأطلبنّك في القِيامة جاهداً بين الخَلائق والعِبادُ نشور فبِجَنّةٍ إن صرتَ صرتُ بجَنّة ولئن حواك سعيرُها فَسعِير والمُستهامُ بكُل ذاك جديد والذَّنب يُغفر والإله شَكُور ومن قولنا في البَينْ: هَيّج البينُ دَواعِي سَقَمِيِ وكَسَا جسميَ ثَوْبَ الألَم أيّها البَين أقلني مَرّةَ فإذا عُدْت فقد حَلَّ دَمِي ومن قولنا في المعنى: ودّعْتني بزَفْرة واعتناقِ ثم نادتْ متى يكون التَّلاقِ وتَصدَّت فأَشرقَ الصّبحُ منها بين تلك الجُيوب والأطْواق يا سقيمَ الجُفون من غير سُقم بين عَينيك مَصْرعُ العُشّاق إنّ يومَ الفِراق أفظع يوم ليتَني مِتّ قبل يوم الفِراق ومن قولنا فيه: فررت من اللِّقاء إلى الفِراق فحَسْبي ما لَقِيتُ وما ألاقِي سَقاني البَيْنُ كأسَ الموت صِرْفاً وما ظَني أموتُ بكَفِّ ساقي فيا بردَ اللِّقاء على فُؤادي أجِرْني اليومَ من حَرِّ الفِراق وقال مجنون بني عامر: وإني لمُفْنِ دمعِ عيني من البُكا حِذاراً لأمرٍ لم يكن وهو كائِن وقالوَا غداً أو بعد ذاك بليلةٍ فراقُ حبيب لم يَبِنْ وهو بائن وما كنتُ أخشى أن تكون مَنيّتي بكَفِّيَ إلاّ أنّ ما حان حائِن فواحزَني إنْ لم أودّعه غُدوة ويا أسفَاً إن كنتُ فيمن يُوَدَع فإن لم أودِّعه غداً مِتُّ بعده سريعاً وإنْ ودّعتُ فالمَوْتُ أسرَع أنا اليومَ أبكيه فكيف به غداً أنا في غدٍ والله أبكَى وأجزَع لقد سخُنت عينيِ وجلَّت مُصيبتي غداةَ غدٍ إن كان ما أتوقّع فيا يوم - لا أدبرت - هل لك مَحْبِس ويا غدُ - لا أقبلتَ - هل لك مَدْفع وقال بشّار بن بُرد: نَبَت عيني عن التَغميض حتى كأنّ جفونَها عنها قِصارُ أقول وليلتي تَزداد طُولاً أمَا للَيل بعدكم نَهار وقال المُعتصم لما دخل مصر وذكر جاريةً له: غريب في قُرى مِصر يُقاسي الهم والسقما لَلَيلٌ كان بالمَيْدَا نِ أقصرُ منه بالفَرَما وقال آخر: وَداعكِ مِثلُ وداع الرَّبيعِ وفقدُك مثلُ افتقاد الدِّيَمْ قال أبو الحسن الأخفش: قالت جَحْدر العُكْليّ وكان لصًا: وقِدْماً هاجَني فازددتُ شوقاً بكاءُ حمامتَيْن تجاوبانِ تجاوبتَا بلَحَن أعجميٍّ على عُودين من غَرَب وبانِ فكان البانُ أن بانت سُليمى وفي الغَرَب اغترابٌ غيرُ دانِي وقال آخر: وتفَرَّقوا بعد الجميع لأنه لا بُدّ أن يتفرّق الجيرانُ لا تَصبِر الإبلُ الجلادُ تفرّقت بعد الجَميع ويَصبر الإنسَانُ وقال آخر: فهل ريبة في أن تَحِنّ نَجِيبة إلى إلْفها أو أنْ يَحن نَجِيبُ وإذا رجّعت الإبلُ الحَنِينَ كان ذلك أحسَنَ صوت يَهتاج له المفارقون كما يهتاجون لصوت الحَمام. وقال عَوف بن مُحلم: ألا يا حمامَ الأيك إلفك حاضر وغَصْنك مَيّاد ففِيم تنُوح وكل مُطوَّقة عند العرب حمامة كالدُّبسي والقُمري والوَرشان وما أشبه ذلك وجمعها حَمام ويقال حمامة للذكر والأثنى كما يقال بطة للذكر والأنثى. ولا يقال حَمام إلا في الجمع. والحمامة تبكي وتغني وتنوح وتُغرّد وتسجع وتُقرقر وتَترنّم وإنما لها أصوات سَجع لا تُفهم فيجعله الحزين بكاء ويجعله المسرور غناء. وقال حُميد بن ثَور: وما هاج هذا الشوقَ إلا حمامة دعت ساقَ حُرٍّ تَرْحةً وترنُّماً مُطوقة خَطْباء تَسْجِع كُلّما دَنا الصَّيْفُ وانزِاحَ الربيعُ فأنْجمَا تَغنَّت على غُصن عشاءً فلم تَدع لنائحةٍ في نوْحها مُتلوّما فلم أرَ مِثْلي شاقَه صوتُ مِثْلها ولا عَربيا شاقَه صوتُ أعْجما وقال مَجنون بني عامر في الحمام: ألا يا حماماتِ اللَوى عُدْن عودةً فإنِّي إلى أصواتكنّ حَزينُ فعُدْن فلما عدْن كِدْن يُمتْننيِ وكِدْتُ بأشجاني لهنّ أبِين لم تَرَ عيْني مثلَهن بوَاكياً بكَينْ فَلَم تَذْرِف لهن عُيون وقال حَبيب في هذا المعنى: هُنّ الحمامُ فإن كَسَرْتَ عِيافةً من حائهنّ فإنهن حِمامُ وقال: كما كاد يُنْسى عهد ظَمياء باللِّوى ولكنْ أَمَلَّتهُ عليّ الحَمائمُ لها نَغَم ليست دُموعاً فإنْ علَتْ مَضَتْ حيث لا تَمضي الدموعُ السَّواحم ومن قولنا في الحمام: فكيف ولي قَلْب إذا هَبّت الصبا أهاب بشَوق في الضُّلوع مَكِين ويهتاج منه كُلما كان ساكناً دُعاءُ حمامٍ لم تَبِت بوُكوَن وكان ارتياحي من بُكاء حمامةٍ كذي شَجَن داويتَه بشجون كأنّ حمامَ الأيك لمّا تجاوبتْ حزين بكَى من رَحمة لحزين ومن قولنا في المعنى: ونائحٍ في غُصون الأيك أرَّقني وما عنيت بشيء ظَلّ يَعْنِيه مُطوَّقٍ بخِضابِ ما يُزايله حتى تُفارقَه إحدى تَراقِيه قد بات يبكي بشجْوٍ ما دَريت به وبِت أبكي بشَجو ليس يَدريه ومن قولنا فيه: أناحتَ حماماتُ اللِّوىِ أم تغَنَّتِ فأبدتْ دواعِي قَلْبه ما أجنَّتِ فديتُ التي كانت ولا شيءَ غيرُها مُنَى النَّفس لو يُقْضىَ لها ما تَمنّت لكِ الويلُ كم هَيَّجت شجواً بلاَ جَوًى وشَكْوى بلا شَكوى وكَرْباً بلا كَرْب وأسكبتِ دمعاً من جُفونِ مُسَهِّدٍ وما رَقرقت منك المدامع بالسَّكب وقال ذو الرُمة: رأيتُ غُراباً ناعباً فوق بانة من القضب لم يَنْبت لها ورقٌ نَضْرُ فقلت غرابِّ لاغتراب وبانةٌ لبَينْ النَّوى هذي العِيافة والزَّجر قولهم في طيب الحديث قال عديّ بن زَيد العِباديّ: في سَماعٍ يأذَن الشيخُ له وحَديثٍ مثل ماذيّ مشَارْ وقال القُطامي: فهنّ يَنْبِذْن من قَولٍ يُصِبْن به مواقعَ الماء من ذي الغُلَّة الصادِي وقال جِران العَود: فَنِلْنا سِقاطاً من حديث كأنّه جَنَى النّحل أو أبكار كَرَمْ تقطف وقال آخر: وإنا ليَجري بيننا حين نَلْتقي حديث له وشيٌ كَوشي المَطارِف وقال بشّار: وكأنّ نَشر حديثها قِطَع الرِّياض كُسين زَهْرا وله: لئن عشقت أُذني كلاماً سمعتُه رخيماً فقلبي إذاً لا شكّ باللحظِ أعشق وقال بَشّار أيضاً: وبكر كَنُوَّارِ الرَّبيع حديثُها يَرُوق بوجهٍ واضحٍ وقوَام وقال آخر: كأنّما عَسَل رُجعَانُ منطقها إن كان رَجْع كلام يُشْبه العَسَلاَ وقال آخر: وحديثٍ كأنّه زهرَ الرّو ض وفيه الصَّفراءُ والحَمْراءُ قولهم في الرياض أنشد أحمدُ بن جِدار للمُعلَّى الطائيّ: كأنّ عُيونَ الروض يَذْرِفن بالنَّدَى عُيون يُراسلنَ الدّموعَ على عَذْل وقال البُحتريّ: شَقائق يَحْملن النِّدى فكِأنه دُموعُ التَّصابِي في خُدود الخَرائِدِ ومِن لُؤلؤ كالأقْحوان مُنضَدٍ على نُكَت مُصْفَرَّة كالفرائد وقال أيضاً: وقد نَبّه النيروزُ في غَلَس الدُّجَى أوائلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمس نُوَّمَا يُفَتِّقها بَرْدُ الندى فكأنه يَنُثّ حديثاً كان قبلُ مكَتَّما ومن شَجرٍ ردَ الربيعُ لِباسَه عليه كما نَشَّرْتَ وَشْياً منَمْنما وقال أعشى بَكْر: ما روضةٌ من رِياض الحَزْن مُعشِبة خَضْراءُ جاد عليها مُسْبِل هَطِلُ يضاحك الشمسَ منها كوكب شَرق مؤزَّر بعمِيم النَّبتِ مُكتهل وأنشد ابنُ أبي طاهر لنفسه: فتقت جُيوبَ الرَّوض منها ديمة حَلَّت عَزاليها صباً وقَبول ولها عُيون كالعُيون نَواظر تَبْدُو فمنها أَمْرَه وكَحِيل وقال الأخطل الصغير: خَلَع الرَّبيعُ على الثَّرى من وَشْيه حُلَلاً يَظَلّ بها الثرى يَتَخيَّلُ نَوْرٌ إذا مَرَت الصبا فيه الندى خِلْتَ الزَّبَرجد بالفَريد يُفصَل فكأنها طَوْراً عُيون كُحَّل وكأنها طَوْراً عُيون هُملُ وقال أبو نُواس: يَوم تَقاصر واستتبِّ نَعِيمُه فِي ظِلّ مُلتفّ الحَدائق أخْضَرا وإذا الرِّياح تَنسّمت في رَوضة نثرت به مِسْكاً عليه وعَنْبرا وأنشد ابنُ مُسهر لابن أبي زُرعة الدِّمشقيّ يقول: وقد لَبِستْ زُهْرُ الرِّياض حُليها وتجللت الأرضَ الفَضَاء الزخارفُ لجين وعِقْبان ودُرّ وجَوْهر تُؤلّفه أيدي الرَّبيع اللَطائفُ فكأنّ الحَوْذان والأقحوان ال غَضّ نَظْمان لُؤْلؤ وفَريد وأنشد ابن جدار للمُعلَّى: ترى للنَّدى فيه مجالاً كأنِّما نَثَرتَ عليه لؤلؤ فَتبدَّدا وأنشد ابنُ الحارثيّ لنفسه: وما رَوضة عُلْويةٌ أسديّة مُنَمنة زَهْراء ذاتُ ثَرىً جَعْدِ سَقاها النَّدى في عقْب جنح من الدُّجىِ فنُوَّارها يهتزّ بالكَوكب السَّعد بأحسنَ من حُرٍّ تَضمّن حاجةَ لحُرّ فأَوْفَى بالنّجاح مع الوَعْد وأنشد محمد بن عَمَّار للحَسن بن وَهْب يقول: طلعتْ أوائلُ للرَّبيع فبشّرتْ نَوْرَ الرِّياض بجدَة وشَبابِ وغدا السحابُ مكلِّلاً جَوَّ الثّرى أَذيالَ أَسْحم حالكِ الجلْباب فترى السماء إذا أجَدّ رَبابُها فكأنما التحفَتْ جَناحَ غُراب وترى الغُصون إذا الرِّياح تناوحتْ ملتفةً كتعانُق الأحباب وقال حَبيب بن أوس الطائيّ: وأنشد البُحتري في دمشق: إذا أردتَ ملأتَ العين من بلدٍ مُستحسن وزَمانٍ يُشبه البَلَدا يمسي السحابُ على أجبالها فِرقاً ويُصبح النَبتُ في صحرائها بَدَدا فلستَ تُبصر إلا واكفاً خَضِلاً أو يانعاً خَضِراً أو طائراً غِردا كأنما القَيظَ ولّى بعدَ جَيئته أو الربيعُ دنا من بعد ما بَعُدا أنشد ابن أبي طاهر لأشْجع: بين الكنائس والأرواح مُطَردٌ للعين يَلْعب فيه الطّرفُ والبَصِرُ في رُقعة من رقاع الأرض يَعْمرها قومٌ على أبوَيهم أجمعت مضر وأنشد عليّ بن الحمم لعليّ بن الخليل: ورَوضة في ظلال دَسْكرةٍ جداولُ الماء في جوانبها تَسْتَنّ في رَوْضة مُنوَّرة يُغرِّد الطير في مَشاربها كأنّ فيها الحُليّ والحُلل ال يَمْنة تُهدى إلى مَرازبها وقال إبراهيم بن العبّاس الكاتب: ومَسْحب نَوْر الرَّبي ع أنفاسهُ المِسكُ والعَنبر خِلالَ شقائِقه أصْفر وأضعافَ أصْفره أحمر والماء مُطّرد بينه يُصفق باديه والمصدر يُشارفه البرّ من جانب ومن جانب بحرُه الأخضر مَجالُ وحُوش ومَرفا سَفين فيا عُرف لَهْوٍ ويا مَنظر ويا حُسن دُنيَا ويا عِزّ مُل ك يسوسهما السائسُ الأكبر وِقال ابن أبي عُيينة في بُستانه: يُذكرني الفِرْدوس طوراً فأنثني وطَوراً يُواتيني إلى القَصْف والفَتْك بغَرْس كأبكار العَذارَى وتُربة كأنَّ ثراها ماء وَرْد على مِسْك كأنّ قصورَ الأرض ينظُرن حولَه إلى مَلِك أوفَى على مِنْبر المُلك يُدِلّ عليها مُستطيلاً بحُسنه ويَضحك منها وهي مُطرقة تَبْكي وقال فيه أيضاً: يا جَنّة فاقت الجنان فما تبلغها قيمة ولا ثَمَنُ فانظر وفكِّر فيما تَمُر به إن الأريبَ المُفكّرُ الفَطن من سُفنِ كالنَعام مقْبلةٍ ومِن نَعام كأنها سُفن وقال الخليلَ بن أحمد: يا صاحبَ القَصر نِعْم القَصْرُ والوادِي بمَنْزلٍ حاضر إن شئتَ أو بادِي تَرْقى به السُفن والظّلمان واقفةٌ والنّون والضّبّ والمَلاح والحادِي وقال إسماعيل بن إبراهيم الحَمْدُوني: برَوْضة صنعت أيدي الربيع لها بُرُودَها وكَسَتْها وَشْيها عَدَنُ عاجَت عليها مَطايا الغيث مسبلةَ لهنّ في ضَحِكاتٍ أدمُعٌ هُتُن كأنما البَيْن يُبْكيها ويُضحكها وَصْلٌ حَباها به من بعده سَكَن فولّدت صُفراً أثوابها خُضرا أحشاؤهُن لأحشاء الندى وَطن من كل عَسجدةٍ في خِدْرها اكْتتمتْ عَذْراءُ في بَطنها الياقوتُ مُكْتَمِن وأنشد عمرو بن بحر الجاحظ: أين إخوانُنا على السرّاء أين أهلُ القِباب والدَهناءِ ومن قولنا في هذا المعنى: وَروضةٍ عقدتْ أيدي الرَّبيع بها نَورا بنَوْر وتَزْويجاً بتَزْويج بمُلقِح مُن سَواريها ومُلقحة وناتج من غَواديها ومَنتوج تَوشَحت بمُلاة غير مُلْحمة من نَورها ورداء غير مَنْسوج فأَلبست حُلل المَوشي زَهرتَها وجَللتها بأَنماط الدَّيابيج ومن قولنا: ومَوْشيّةٍ يهدِي إليك نَسيمُها على مَفْرق الأرواح مِسكاً وَعنبراً سَداوتُها من ناصع اللَّون أَبيض ولُحمتُها من ناقع اللَون أَصْفرا تُلاحظ لَحظاً من عُيونٍ كأنَّها فصوص من الياقوت كُلَلن جوهرا ومثلُه قولُنا: وما رَوضة بالحَزن حاك لها النَّدى برُوداً من المَوشيّ حُمرَ الشَقائق يُقيم الدُّجى أعناقَها وُيميلها شعاعُ الضَحى المُستَنّ في كُل شارق إذا ضاحكْتها الشمسُ تَبكي بأعين مُكلَلة الأَجْفان صُفْر الحَمالق http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif كتاب الجوهرة الثانية في أعاريض الشعر فرش الكتاب قال أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه: قد مضى قولُنا في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في أعاريضه وعِلله وما يَحسن ويقبح من زِحافه وما ينفكّ من الدوائر الخَمس من الشطور التي قالت عليها العرب والتي لم تقُل وَتلخيص جميع ذلك بمَنثور من الكلام يقرُب معناه من الفهم ومنظوم من الشعر يسهل حفظُه على الرواة. فأكملتُ جميعَ هذه العُروضِ في هذا الكتاب الذي هو جزآن فجزء للفرش وجزء للمثال مختصراً مبينّا مفسراً. فاختصرتُ للفرش أرجوزة وجمعت فيها كل ما يدخل العروضَ ويجوز في حشو الشعر من الزحاف. وبيّنت الأسباب والأوتاد والتعاقب والتراقب والخروم والزيادة على الأجزاء وفك الدوائر في هذا الجزء. واختصرتُ المثالَ في الجزء الثاني في ثلاث وستين قطعة على ثلاثة وستين ضرباً من ضروب العروض. وجعلت المقطعات رقيقة غَزِلة ليسهل حفظها على ألسنة الرواة. وضمّنت في آخر كُل مقطَّعة منها بيتاً قديماً متصلاً بها وداخلاً في معناها من الأبيات التي استشهد بها الخليل في مختصر الفرش اعلم أنّ أول ما ينبغي لصاحب العروض أن يبتدئ به معرفة الساكن والمتحرك فإن الكلام كُلَّه لا يعدو أن يكون ساكناً أو متحركاً. واعلم أن كل أَلِف خفيفة أو ألف ولام خفيفتين لا يظهران على اللسان ويثبتان في الكتابة فإنهما يسقطان في العروض وفي تقطيع الشعر نحو ألف: قال ابنك أو ألف ولام نحو: قال الرجل. وإنما يُعَدّ في العروض ما ظهر على اللسان. واعلم أنّ كل حرف مشدّد فإنه يعُد في العروض حرفين أولهما ساكن والثاني متحرك نحو ميم محمد ولام سلاّم. واعلم أن التنوين كله يعُد في العروض نوناً ساكنة ليست من أصل الكَلمة. http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب الأسباب والأوتاد اعلم أنّ مدار الشعر وفواصل العروض على ثمانية أجزاء وهي: فاعلن فعولن مفاعيلن فاعلاتن مستفعلن مفاعلتن متفاعلن مفعولات. وإنما ألفت هذه الأجزاء من الأسباب والأوتاد. فالسبب سببان: خفيف وثقيل. فالسبب الخفيف حرفان: متحرك وساكن مثل: من وعن وما أشبههما. والسبب الثقيل حرفان متحركان مثل: بك ولك وما أشبههما. والوتد وتدان: مفروق ومجموع. فالوتد المجموع ثلاثة أحرف: متحركان وساكن مثل: على وإلى وما أشبههما. والوتد المفروق ثلاثة أحرف: ساكن بين متحركين مثل أين وكيف وما أشبههما. وإنما قيل للسبب سبب لأنه يضطرب فيثبت مرة ويسقط أخرى وإنما قيل للوتد وتد لأنه يثبت فلا يزول. http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب الزحاف اعلم أنّ الزحاف زحافان فزحاف يُسقط ثاني السبب الخفيف وزحاف يُسكن ثاني السبب الثقيل وربما أسقطه. ولا يَدخل الزحافُ في شيء من الأوتاد وإنما يدخل في الأسباب خاصة. وإنما يدخل من الجزء في ثاني الجزء ورابعه وخامسه وسابعه. فإذا أردت أن تعرف موضع الزحاف من الجزء فانظُر إلى جزء من الأجزاء الثمانية التي سُميّت لك. فإن رأيت الوتد في أول الجزء فإنما يزحف خامسه وسابعه. وإن كان الوتد في آخر الجزء فإنما يُزحف ثانيه ورابعه. وإن كان الوتد في وسط الجزء فإنما يزحف ثانيه وسابعه. وللزحاف الذي يدخل في ثاني الجزء ثلاثةُ أسماء: الخَبن والإضمار والوقص. فالمخبون: ما ذهب ثانيه الساكن. والمضمر: ما سكن ثانيه المتحرك. والموقوص: ما ذهب ثانيه المتحرك. وللزحاف الذي يدخل في رابع الجزء اسم واحد: المطويّ وهو ما ذهب رابعه الساكن. وللخامس منها ثلاثة أسماء: القَبض والعَصْب والعَقل: فالمقبوض: ما ذهب خامسه الساكن. والمعصوب: ما سكن خامسه المتحرك. والمعقول: ما ذهب خامسه المتحرك. وللسابع اسم واحد: المكفوف وهو ما ذهب سابعه الساكن. |
باب الزحاف المزدوج المخبول هو ما ذهب ثانيه ورابعه الساكنان. والمخزول: هو ما سكن ثانيه وذهب رابعه الساكن. والمنقوص: هو ما سكن خامسه وذهب سابعه الساكن. والمشكول: هو ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان. علل الأعاريض والضروب المحذوف: هو ما ذهب من آخر الجزء بسبب خفيف. والمقطوف: هو ما ذهب من آخر الجزء سبب خفيف وسكن آخر ما بقي. والمقصور: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الجزء الذي في آخره سبب. والمقطوع: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الجزء الذي في آخره وتد. والأبتر: ما حُذف ثم قُطع فكان فاعل من فاعلاتن وفع من فعولن. والأخذ: ما ذهب من آخر الجزء وتد مجموع. والأصلم ما ذهب من آخر الجزء وتد مفروق. والموقوف: ما سكن سابعه المتحرك. والمكسوف: ما ذهب سابعه المتحرك. والمجزوء: ما ذهب من آخر الصدر جزء ومن آخر العجز جزء. والمشطور: ما ذهب منه أربعة أجزاء وبقي جزآن. والزيادة على الأجزاء ثلاثة أشياء: المُذال: وهو ما زاد على اعتدال جزئه حرف ساكن مما يكون في آخره وتد والمُسبّغ: ما زاد على اعتداله حرف ساكن مما يكون في آخره سبب والمُرفَل: ما زاد على اعتداله حرفان: متحرك وساكن مما يكون في آخره وتد: واعلم أن كل جزء من أجزاء العروض يكون مخالفاً لأجزاء حَشوه بزحاف أو سلامة فهو المعتل. وما كان معتلاً فإنما هو أربعة أشياء: ابتداء وفصل وغاية واعتماد. هذا قول الخليل. وأنا أقول: إن المعتل كله ثلاثة أشياء: ابتداء وفصل وغاية: وإن الاعتماد ليس علة لأنه غير مخالف لأجزاء الحشو إذ جاز فيه القبض والسلامة ولذلك يجوز في أجزاء الحشو كلها وإنما خالفها في الحسن والقبح وليس اختلاف الحسن والقبح عِله. ونحن نجد الاعتماد أقيموا بني النُّعمان عنا صُدورَكم وإلا تُقيموا صاغرين الرؤوسا ومنه قولُ امرئ القيس: أعنَي على بَرق أَراه وَميض يضئ حَبِيا في شَماريخَ بِيض وتَخرج منه لامعات كأنها أكفّ تَلَقَّى الفوزَ عند المفِيض وإنما زعم الخليلُ أن المُعتلّ ما كان مخالفاً لأجزاء حشوه بزحاف أو سلامة ولم يُقل بحُسن أو قُبح. ألا ترى أن القَبض في مفاعيلن في الطويل حَسن والكَفّ فيه قبيح. والقبض في مفاعيلن في الهزج قبيح والكف فيه حسن. والاعتماد في المتقارب على ضد ما هو في الطويل السالم فيه حسن والقبض فيه قبيح. فإذا اعتلّ أولُ البيت سُمي ابتداء وإذا اعتلّ وسطه وهو العروض سُمي فصلاً وإذا اعتل الطرف وهو في القافية سمي غاية. وإذا لم يعتل أوله ولا وسطه ولا آخره سُمي حشواً كُله: وما كان من الأنصاف مستوفياً لدائرته وآخرُ جزء منه بمنزلة الحَشو من الآخر فهو التام. وما كان من الأنصاف لم يذهب به الانتقاص بجزء من الأجزاء أجِمع فهو وافٍ وإذا ذهب به الانتقاص فهو مجزوء. وما كان من الأنصاف مُقفى فهو مُصرَّع: فإن كانت الكلمة كلها كذلك فهو مشطور. فإذا لم يبق منه إلا جزآن فهو المَنهوك. وإذا اختلفت القوافي واختلطت وكانت حيزاً حيزا من كلمة واحدة هو المُخمَس. وإذ كانت أنصاف على قواف تجمعها قافية واحدة ثم تعاد لمثل ذلك حتى تنقضي القصيدة فهو المُسمَّط. http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب الخرم اعلم أن الخَرم لا يدخل إلا في كل جزء أوله وَتد. وذلك ثلاثة أجزاء: فعولن مفاعلتن مفاعيلن. وهو سقوط حركة من أول الجزء. وإنما منعه أن يدخل في السَّبب لأنك لو أسقطت من السبب حركة بقي ساكن. ولا يُبدأ بساكن أبدا. ولا يدخل الخرم إلا في أول البيت. فإذا أدخل الخرم فعولن قيل له أثلم. فإذا دخل القبض مع الخرم قيل له أثرم. فإذا دخل الخرم مفاعلتن قيل له أعصب. فإذا دخله العَصب مع الخرم قيل له أقصم. فإذا دخله القبض مع الخرم قيل له أعقص. فإذا دخله العقل مع الحزم قيل له أجمّ. فإذا دخل الخرم مفاعيلن قيل له أخرم. فإذا دخله الكفّ مع الخَرم قيل له أخرب. فإذا دخله القَبض مع الخرم قيل له أشتر. وكل ما لم يدخله الخرم فهو الموفور. http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب التعاقب والتراقب اعلم أن التعاقب يدخل بين السببين المتقابلين في حشو الشعر حيثما كانا ولا يكونان من جميع العروض إلا في أربعة أشطار: في المديد والرمل والخفيف والمجتث. وقد بينّا جميع ذلك في موضعه. فما عاقبه ما قبله فهو صَدر. وما عاقبه ما بعده فهو عَجز. وما عاقبه ما قبله وما بعده فهو طرفان. وما لم يُعاقبه ما قبله ولا ما بعده فهو بريء. والتراقب بين السببين المُتقابلين مع فاصلة واحدة. ولا يدخل التراقب من جميع العروض إلا في المضارع والمُقتضب. وقد فسّرناه هنالك. وقد نظمنا جميع ما ذكرناه من هذه الأبواب في أرجوزة ليسهل حفظُها على المتعلم إذ كان حفظ المنظوم أسهلَ من حفظ المنثور وذكرنا فيها كُل الدوائر الخمس وما ينفكّ في كل دائرة من عدد الشُطور التي قالت عليها العرب والتي لم تقل عليها وموضع الزَحاف منها. واعلم أن الدائرة الأولى مؤلّفة من أربعة أجزاء سُباعيّين مع خُماسيين وهي: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن. والدائرة الثانية من ثلاثة أجزاء سباعية وهي: مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن. والدائرة الثالثة مؤلفة من ثلاثة أجزاء سباعية وهي: مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن. والدائرة الرابعة مؤلفة من ثلاثة أجزاء سباعية وهي: مستفعلن مفعولات مستفعلن. والدائرة الخامسة مؤلفة من أربعة أجزاء خماسية وهي: فعولن فعولن فعولن فعولن. واعلم أنّ كل دائرة من هذه الدوائر ينفكّ من رأس كل سَبب وكل وتد فيها شطر. وقد بينّا جميع ذلك في الدوائر وأسماء الشطور التي تنفكّ عنها. بالله نبدا وبه التمامُ وباسمه يُفتتَح الكلامُ يا طالبَ العِلْم هو المِنهاجِ قد كثُرت من دونه الفِجاج وكُل عِلْم فله فُنونُ وكُل فَنّ فله عُيون أولها جوامعُ البيَانِ وأصلها معرفةُ اللِّسان فإنّ في المجَاز والتأويل ضلّت أساطيرُ ذوي العُقول حتى إذا عَرَفتَ تلك الأبنية واحدَها وجَمعها والتَّثنية طلبتَ ما شئتَ من العلوم ما بين مَنثور إلى مَنظوم فَداوِ بالأعراب والعَروض داءك في الأمْلال والقَريض كلاهما طِبّ لداء الشَعرِ واللّفظ من لَحن به وكَسْرِ ما فَلْسف النَّيطس جالينوسُ وصاحبُ القانون بَطْليْموس ولا الذي يَدْعونه بهرْمس وصاحب الأركند والإقليدس فَلسفَة الخَليل في العَروض وفي صَحيح الشِّعر والمَريض هذا اختصار الفَرش من مَقالي وبعدَه أقولُ في المِثال أوله والله أستعينُ أن يُعرف التحريكُ والسكُونُ من كُل ما يبدو على اللَسان لا كُل ما تَخُطه اليدانِ ويَظهر التَّضعيفُ في الثقيلِ تَعُدُّه حَرفين في التَّفصيل مُسكنَاً وبعدهُ مُحركاً كنون كُنّا وكراء سَركا http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب الأسباب والأوتاد وبعد ذا الأسبابُ والأَوتادُ فإنها لقولنا عِمادُ فالسببُ الخفيف إذ يعدّ محرّك وساكن لا يَعْدُو والسببُ الثقيلُ في التبيينِ حركتان غير ذي تَنوينِ والوتد المَفروق والمَجموعُ كلاهما في حَشوه مَمنوعُ وإنما اعتلَّ من الأجزاء في الفصل والغائي والابتداءِ فالوتد المَجموع منها فافهمنْ حركتان قبل حَرف قد سَكَنْ والوتد المَفروق من هذينِ مُسكَنٌ بين مُحركينِ وإنما عَروض كُل قافيه جار على أجزائه الثَّمانية وهاكَها بيّنة مصوَّره لكُل مَن عاينها مفسَّره الفواصل فاعلن فعولن مستفعلن فاعلاتن مفاعيلن مفاعلتن متفاعلن مفعولات. هذي التي بها يقول المُنشد في كُل مَا يَرْجُز أو يُقَصِّد كُل عروض يَعتزي إليها وإنما مَدارهُ عليها منها خمُاسيّان في الهِجاءِ وغيرها مُسبَّع البِناءِ يدخلُها النُقصان بالزّحافِ في الحشو والعروض والقوافي وإنما تدخل في الأسبابِ لأنها تُعرف باضطرابِ باب الزحاف في موضعين فكُل جزءٍ زَال منه الثاني من كُل ما يبدو على اللَسانِ وكان حرفاً شانُه السكون فإنه عندي اسمُه مخْبونُ وإن وجدت الثاني المَنْقوصَا محركاً سميتَه المَوْقوصَا وإن يكُن مُحرَّكاً فسكِّنا فذلك المُضمَر حقاً بَيّنَا والرابع الساكن إذ يَزول فذلك المطويُ لا يَحُولُ وإن يكن هذا الذي يزولُ مُحركَّاً فإنه المعقولُ وإن يكُن محرّكاً سكّنتَهُ فسمِّه المَعصوب إن سميته وإن أزلت سابعَ الحُروفِ سميتَه إذ ذاك بالمَكْفوفِ باب الزحاف الذي يكون في موضعين من الجزء كُل زحاف كان في حَرفين حَلَّ من الجزء بمَوْضعين فإنه يُجحِف بالا جزاءِ وهو يسمى أقبحَ الأسماءَ فكُل ما سُكِّن منه الثاني وأسقط الرّابع في اللِّسانِ فذلك المَخزول وهو يَقْبُح فحيثما كان فليس يَصلُحُ وإن يَزُل رابعُه والثاني ذاك وذا في الجُزء ساكِنانِ فإنه عندي اسمُه المَخبولُ يُقصِّر الجُزءَ الذي يطولُ وكل جُزء في الكتاب يُدركُ يَسكُن منه الخامس المُحركُ وأسقط السابع وهو يسكنُ فذلك المَنقوص ليس يَحْسُن باب العلل والعِللُ التي تجوز أجمعُ وليس في الحَشو لهنّ موضعُ ثلاثة تُدعى بالابتداءِ والفَصل والغَاية في الأجزاء والاعتماد خارجٌ عن شَكلها وفِعْله مُخالف لفعلها لأنهم قد تَركوا التزامَهْ وجاز فيه القَبضُ والسلامهْ ومثلُ ذاك جائزٌ في الحَشْوِ فَنحو هذا غير ذاك النحوِ وكُل مُعتلّ فغيرُ جائزِ في الحَشو والقَصِيد والأراجزِ وإنما أجاَزه الخَليلُ مُجازفاً إذ خانه الدَّليلُ وكُل حيّ من بني حَوّاءِ فغيرُ مَعْصوم من الخَطَاءِ فأول البَيت إذا ما اعتلا سميته بالابتداء كُلاّ وغاية الضَّرب تسمَى غايهْ وليس في الحَشو لها حِكايهْ وكُل ما يَدخل في العَروض من عِلّة تَجوزُ في القَريض والخَرم في أوائل الأبياتِ يُعرف بالأسماء والصفاتِ نُقصان حَرف من أوائل العَددْ في كُل ما شَطْر يُفكِّ من وَتدْ خَمسة أشطار من الشُّطور يُحزم منها أول الصُّدورِ منها الطِّويل أول الدوائرِ وأطْول البِناء عند الشاعر يَدْخله الخَرم فيُدعَى أثلمَا فإنْ تلاه القَبْض سُمّي أثَرْمَا والوافر الذي مَدار الثانِيهْ عليه قد تَعيه أذْن واعِيَهْ يَدخله الخَرمُ في الابتداءِ في أول الجُزء من الأجزاءِ وهو يسمى أعضباً فكُلما ضمّ إليه العَصبُ سمى أَقْصما وإن يكن أعصب ثم يُعْقلُ فذلك الأجمّ ليس يُجهلُ والهَزَج الذي هو السّوارُ عليه للثالثة المَدارُ يدخله الخَرْم فيُدعى أخرمَا وهو قَبيح فاعلمنّ وافْهمَا حتى إذا ما كف بعد الخَرم سميته أخْرب إذ تُسمي ولا يجوز الخَرم فيه وحده إلا بقَبض أو بكَفٍّ بعدهُ لعلة التَّراقب المَذكور خُصّ به من أجمع الشُطورِ والمُتقارب الذي في الآخر تَحلو به خامسة الدَّوائر يَدخله ما يدخُل الطويلاً من خَرمه وليس مُسْتحيلاً هذا جميع الخَرم لا سواهُ وهو قبيح عند من سَمّاهُ يدخل في أوائل الأشعارِ ما قيل في ذي الخمسة الأَشطارِ لأنّ في أول كل شَطْرٍ حَركتين في اْبتداء الصَّدرِ وإنما يَنفكّ في الأوتاد فلم يَضرها الخرمُ في التَّمادِي لقوّة الأوتاد في أجزائها وأنها تَبرأ من أدْوائها سالمةً من أجمع الزِّحافِ في كُل مَجْزوء وكل وافِي والجُزء ما لم تر فيه خرْمَا فإنه المَوْفورُ قد يُسمّى باب علل الأعاريض والضروب والعِلل المسميات اللاتي تُعرف بالفُصول والغاياتِ تَدْخل في الضرَّب وفي العَروض وليس في الحَشْو من القَريض منها الذي يُعرف بالمَحْذوفِ وهو سُقوط السَّبب الخَفيف في آخر الجُزء الذي في الضرب أو في العَروض غير قول الكذبِ ومثله المَعروف بالمَقطَوف لولا سكون آخر الحروف وكل جُزء في الضُّروب كائنِ اسقط منه آخر السَّواكنِ وسكن الآخر من باقِيه ما يجيزون الزَحافَ فيه فذلك المَقصورُ حين يُوصفُ وإن يكن آخرُه لا يُزْحف من وَتد يكون حين لا سَببْ فذلك المَقطوع حين يَنْتسبْ وكل ما يحذف ثم يُقطعُ فذلك الأبترُ وهو أشنعُ وإن يَزُل من آخر الجُزء وَتدْ إن كان مَجموعاً فذلك الأحَدْ وأن يكُن محرَّكاً فاذْهِبا فذلك المَكسوف حقّاً مُوجِبَاً وبعده التَشعيث في الخَفيفِ في ضَربه السالم لا المَحْذوفِ يُقطع منه الوَتد المُوسَّطُ وكُل شيء بعده لا يَسقُط باب التعاقب والتراقب وبعد ذا تَعاقب الجُزأينِ في السببين المُتقابلين لا يسقطان جُملةً في الشِّعرِ فإنّ ذاك من أشدّ الكَسْرِ ويثبتان أيّما ثَباتِ وذاك من سَلامة الأبياتِ وأن يَنَل بعضهما إزالَهْ عاقَبه الآخر لا مَحالَهْ فكُل ما عاقبه ما قَبلهُ سُمِّي صَدراً فافهمنِّ أصلَهُ وكُل ما عاقَبه ما بعدَه فهو يُسمَّى عَجُزاً فعُدَّه وإن يكُن هذا وذا مُعاقبَاً فهو يُسمى طَرفين واجبَاً يَدخل في المَديد والخفيفِ والرَّمل المَجزوء والمَحْذوفِ وهكذا إن قِسْتَه التعاقبُ وليس مثلَ ذلك التَّراقبُ لأنه لم يأت من جُزأينِ في السببين المُتجاورينِ لكنّه جاء بجزء واحَدِ في أول الصَّدر من القَصائدِ والسببان غير مَزْحوفينِ في جُزئه وغيرُ سالمينِ إن زال هذا كان ذا مكَانَه فاسمَعْ مقالي وافهمنْ بيانَه فهكذا التراقُب المَوصوفُ وكُله في شَطره مَعْروفُ يدخُل أولَ المُضارع السبب وبعدَه يدخُل صدرَ المُقتضبْ الزيادات على الأجزاء ثم الزِّيادات على الأجزاء مَوجودة تُعرف بالأسماءِ وإنما تَكون في الغاياتِ تُزاد في أواخر الأبياتِ وكُلها في شَطره مَوجودُ منها المُرفل الذي يَزيدُ حَرْفين في الجزء على اعْتدالِه مُحرَّكاً وساكناً في حالِه وهو الذي يَزيد حرفاَ ساكنَا على اعتدال جُزئه مُباينَا ومثله المُسبغ من هذي العِللْ حَرْف تَزيده على شَطر الرَّمَلْ http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب نقصان الأجزاء فإن رأيتَ الجُزء لم يَذهب معا بالانتقاص فهو وافٍ فاسمعا وإن يكُن أَذهبه النقصان فافْهم ففي قولي لك البَيانُ فذلك المَجزوء في النِّصفين إذا انتقصتَ منهما جُزأينِ والبيتُ إن نقصتَ منه شطرَهُ فذلك المَشطور فافهم أَمرهُ وإن نقصتَ منه بعد الشَطرِ جُزءاً صحيحاً من أخير الصَّدرِ وكان ما يبقى على جُزأينِ فذلك المَنهوك غيرَ مَين صفة الدوائر وصورهما فاسمع فهذي صِفة الدوائرِ وَصْفَ عليم بالعَروض خابرٍ دوائرٌ تعيا على ذِهْن الحَذِق خمس عليهن الخُطوط والحَلَقْ والنُّقط التي على الخُطوطِ علامة تُعدّ للسُّقوط والحَلق التي عليها يُنْقطُ تسكن أحياناً وحِيناً تَسقَطُ والنُّقط التي بأجواف الحَلْق لمبتدأ السطور منها يُخترقْ فانظُر تجد من تحتها أسماءها مكتوبة قد وُضعت إزاءَها والنُّقطتان موضعَ التعاقب ومثل ذاك موضعَ التراقب وهذه صُورةُ كُل واحدة مِنها ومَعنى فَسْرها على حِدَه أولها دائرة الطويل وهي ثمانٍ لذوي التفضيل مُقسَّم الشطر على أرباع بين خُماسيّ إلى سُباعِي حُروفه عشرون بعد أربَعه قد بَيّنوا لكُل حرف موضعَه تنفك منها خَمسة شُطورُ يَفصلها التفعيل والتَّقديرُ منها الطويلُ والمَديد بعدهُ ثم البَسيط يُحكمون سَرْدَهُ ثلاثةٌ قالت عليها العربُ واثنان صدّوا عنهما ونَكَبُوا الطويل: مبني على فعولن مفاعيلن. ثماني مرات. المديد: مبني على فاعلات فاعلن. ست مرات بعد الحذف. البسيط: مبني على مستفعلن فاعلن. ثماني مرات. وهذه الثانية المخصوصة بْالسبب الثُقيل والمَنقوصة أحزاؤها ثلاثة مسبعة قد كَرهوا أن يَجعلوها أَربعة لأنها تَخرج عن مِقدارهم في جُملة المَوزون من أشعارهم فهي على عِشرين بعد واحدِ من الحُروف ما بها من زائدِ تنفك منها وافرٌ وكاملُ وثالثٌ قد حار فيه الجاهل الثانية دائرة المؤلف الوافر: مبني على مفاعلتن. ست مرات. فقطفوا ضربه وعروضه. الكامل: مبني على متفاعلن. ست مرات. والدارة الثالثة التي حكتْ في قَدرها الثانيةَ التي مَضَتْ في عِدة الأجزاء والحُروف وليس في الثَّقيل والخفيفِ ترفل من ديباجها في حُلل من هَزج أو رَجز أو رَمل وهذه صورتُها مبينة بحَلْيها ووَشْيها مُزَيَّنه الثالثة دائرة المجتلب الهزج: مبني على مفاعيلن. بعد الحذف. أربع مرات. الرجز: مبني على مستفعلن. ست مرات. الرمل: مبني على فاعلاتن. ست مرات. ورابع الدوائر المسرودة أَجزاؤها ثلاثة مَعْدودة عَجيبة قد حار فيها الوَصْفُ عِشرون حرفاً عَدُّها وحَرْف مثل التي تقدّمت من قَبلها وشَكْلها مُخالف لشَكْلها بَدِيعة أحْكم في تَدْبيرها بالوَتِد المَفْروق في شُطورها ينفكّ منها ستّة مَقُولة مِن بينها ثلاثةٌ مَجهولة وكل هذه الستّة المَشْطورة مَعْروفة لأهلها مَخْبوِرة أوّلها السَّريع ثم المُنسرحْ ثم الخَفيف بعده ثَم وَضحْ وبعدها المُجتث أحلى شَطْر يُوجد مَجْزوءاً لأهل الشِّعرِ الرابعة دائرة المشتبه السريع: مبني على مستفعلن مستفعلن مفعولات. ست مرات. المنسرح: مبني على مستفعلن مفعولات مستفعلن. ست مرات. الخفيف: مبني على فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن. ست مرات. المضارع: مبني على مفاعيلن فاعلاتن. ست مرات. فحذفوا منه جزأين فصار مربعا. المقتضب: مبني على مفعولات مستفعلن مستفعلن. ستَ مرات. فربعوه كما تقدم. المجتث: مبني على فاعلاتن فاعلاتن. ست مرات. فربعوه كما تقدم. بعدها خامسة الدَّوائر للمُتقارب الذي في الآخرِ ينفكّ منها شَطْرَه لم يأتِ في الأشعار منه الذّكرُ مِن أَقصر الأجزاء والشُطورِ حُروفه عِشرْون في التَّقديرِ مؤلَّف الشطر على فواصل مخمسات أَرْبع مَوائل هذا الذي جَرّبه المُجرِّبُ من كُل ما قالت عليه العربُ ولا نقول غيرَ ما قد قالوا لأنّه من قَولنا مُحالُ وإنه لو جاز في الأبياتِ خلافها لجاز في اللغاتِ وقد أَجاز ذلك الخَليلُ ولا أقول فيه ما يَقولُ لأنه ناقَض في مَعناه والسيفُ قد يَنبو وفيه ماه إذ جَعل القول القديم أصلَه ثم أجاز ذا وليس مثلَه وقد يَزِلّ العاِلم النّحريرُ والحَبر قد يَخُونه التَّحبيرُ وليس للخَليل مِن نَظير في كُل ما يأتي من الأمور لكنّه فيه نَسيجُ وحدِهَ ما مثله مِن قبله وبَعدِه فالحمدُ للّه على نعمائه حمداً كثيراً وعلى آلائه يا مَلكاً ذلّت له المُلوكُ ليس له في مُلكه شَريكُ ثبِّت لعبد الله حُسن نيَّته واعطفه بالفَضل على رعيّته الخامسة دائرة المتفق إبتداء الأمثال شطر الطويل الطويل مُثَمّن له عروض واحد مقبوض وثلاثة ضروب: ضرب سالم وضرب مقبوض وضرب مَحذوف معتمد. العروض المقبوض والضرب السالم ورَوْضة وَرْدِ حُفّ بالسَّوسن الغَضِّ تحلت بلَوْن السَّام والذَّهب المَحْض رأيتُ بها بدراً على الأرض ماشياً ولم أر بدراً قطُّ يَمشي على الأرض إلى مِثله فَلْتَصْبُ إن كنتَ صابياً فقد كان منه البَعضُ يَصْبو إلى البعض وكُلْ وَرد خَدّيه ورُمّان صَدْره بمَصٍّ على مَصٍّ وعَضٍّ على عَضَ وقُل للذي أَفْنى الفُؤِاد بِحُبّه على أنه يَجْزي المَحبّة بالبغْض أبا مُنذر أفنيتَ فاستبق بعضنا حَنانيْك بعضُ الشّر أهون من بَعض تقطيعه فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن فعولن مفاعيلن فعول مفاعيلن وحاملةٍ راحاً على راحةِ اليَدِ مُورَّدة تَسعَى بلون مُورَّدِ متى ما ترى الإبريقَ للكأس راكعاً تُصَلِّ له من غير طُهر وتَسْجُدِ على ياسَمين كاللّجين ونَرْجس كأقراط دُرّ في قَضيب زَبَرْجد بتلك وهذِي فاله ليلَك كُلَّه وعنها فَسَلْ لا تسأل النَاسَ عن غَد ستُبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ويأتيك بالأخبارِ من لم تُزوِّد تقطيعه فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن الضرب المحذوف المعتمد أيقتُلني دائِي وأنتَ طبيبي قريب وهل مَن لا يرى بقَريبِ لئن خنتَ عَهدي إنّني غيرُ خائِنٍ وأيّ مُحبٍّ خانَ عهدَ حَبيب وساحبة فَضلَ الذّيول كأنها قَضِيب من الريحان فوقَ كَثِيب إذا ما بدتْ من خِدْرها قال صاحبي أَطِعْني وخُذْ من وَصْلها بنَصيب وما كُل ذي لُبٍّ بمؤُتيك نُصْحه وما كل مُؤْتٍ نُصْحه بلبيبِ فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن فعولن مفاعِيلن فعول فعولن يجوز في حَشو الطويل القبض والكَف. فالقَبض فيه حَسن: والكَف فيه قبيح. ويدخله الخَرم في الابتداء فيقال له: أثلم. فإذا دخله القبض مع الخرم قيل له: أثرم. والخَرم: سقوط حركة من أول البيت ولا يكون إلا في وتد. والقَبض: ما ذهب خامسه الساكن. والكفّ: ما ذهب سابعه الساكن. والاعتماد: سقوط الخامس من فعولن التي قبل القافية اعتمد به فقبض. ولم تَجر فيه السلامة إلاّ على قبح. ولم يأت في الشعر إلاّ شاذّاً قليلاً. والاعتماد في المتقارب: سلامة الجزء الذي قبل القافية. والمحذوف: ما ذهب من آخره سبب خفيف. شطر المديد هو مجزوء كله له ثلاثة أعاريض وستة ضروب: فالعروض الأول منها مجزوء وله ضرب مثله. والعرض الثاني محذوف لازم الثاني له ثلاثة ضروب لازمة الثاني: ضرب مقصور لازم الثاني وضرب محذوف لازم الثاني وضرب أبتر لازم الثاني. والعروض الثالث محذوف مخبون. له ضربان: ضرب مثله وضرب أبتر لازم الثاني. العروض المجزوء والضروب المجزوء يا طويلِ الهَجْر لا تَنس وَصْلي واشتغالي بك عن كُل شُغل يا هلالاً فوق جِيدِ غَزالٍ وقضيباً تحته دِعْصُ رَمْل لا سلَتْ عاذلتي عنه نَفْسي أكثِري في حُبه أو أَقِلّي شادِن يُزْهى بخَدٍّ وجِيدٍ مائس فاتن بحُسْن ودَل ومتى مايَع منك كلاماً فتَكلَّم فيحجبك بعَقْل فعلاتن فعلن فعلاتن فعلاتن فعلن فعلاتن العروض المحذوف اللازم الثاني والضرب المقصور اللازم الثاني يا وميضَ البَرق بين الغَمام لا عليها بلى عليك السلامْ إنّ في الأحداج مَقْصورة وجهُها يَهْتك سِتْر الظَّلامْ تَحسب الهَجر حلالاً لها وتَرى الوصلَ عليها حَرام ما تأسِّيك لِدار خَلَتْ ولشعب شت بعْد التِئامْ إنما ذكرُك ما قد مَضى ضلَّةٌ مِثل حديث المَنام تقطيعه فاعلاتن فعلن فاعلن فاعلاتن فعلن فاعلان الضرب المحذوف اللازم الثاني عاتِب ظَلْتُ له عاتِبَاً رُبّ مَطْلوب غدَا طالِبا مَن يتب عن حُب مَعْشوقه لستُ عن حُبِّي له تَائبَا سَاكِنَ القَصر ومَن حلّه أصبح القلبُ بكم ذاهِبا اعلمُوا أنِّي لكم حافظٌ شاهداً ما عِشْتُ أو غائبا تَقطيعه فاعلالَن فاعلن فاعلن فاعلاتن فاعلن فاعلن الضرب الأبتر أي تُفاح ورُمّانِ يُجتنى منِ خُوط رَيحانِ أي ورد فوق خد بدا مستنيراً بين سُوسان وَثَن يُعبد في رَوضة صِيغ من دُرّ ومَرْجان مَن رأى الذَّلفَاء في خَلْوة لم يَر الحَدَّ على الزاني إنّما الذَّلفاء يا قوتة أخرجت من كِيس دِهْقانِ تقطيعه فاعلاتن فاعلن فاعلن فاعلاتن فاعلن فعلن مِن مُحب شَفِّه سقمه وتلاشىَ لحمهُ ودَمُه كاتب حَنّث صحيفته وبكَى مِن رحمة قَلَمُه يَرفع الشكوَى إلى قَمر يَنْجلي عن وَجْهه ظُلمه من لقَرْن الشمس جَبْهته وللَمع البَرق مبتسمه خَلّ عَقلي يا مُسفِّهه إن عَقلي لستُ أَتّهمه للفتى عَقل يَعيش به حيثُ تَهدي لساقَه قدُمه تقطيعه فاعلاتن فاعلن فعلن فاعلاتن فاعلن فَعِلن الضرب الأبتر اللازم الثاني زادني لَومُك إضرارا إنّ لي في الحُب أنصارا طار قلبي مِن هَوى رَشإِ لو دَنا للقَلب ما طارا خُذ بكفِّي لا أَمُتْ غَرَقاً إنّ بَحر الحُب قد فارا أَنضجت نارُ الهَوى كَبدي ودُموعي تُطفئ النارا تقطيعه فاعلاتن فاعلن فعلن فاعلاتن فاعلن فَعْلن يجوز في حشو المديد: الخَبن والكَف والشكل. فالمخبون: ما ذهب ثانيه الساكن. والمكفوف: ما ذهب سابعه الساكن. والمشكول: ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان وهو اجتماع الخَبن والكَف في فاعلاتن. ويدخله التعاقب في السببين المتقابلين بين النون من فاعلاتن والألف من فاعلن لا يسقطان جميعاً وقد يثبتان. فما عاقبه ما قبله فهو صدر وما عاقبه ما بعده فهو عجز وما عاقبه ما قبله وما بعده فهو طرفان وما لم يعاقبه شيء فهو بريء. والمقصور: كما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من السبب. والأبتر: ما حذف ثم قطع. شطر البسيط البسيط له ثلاثة أعاريض وستة أضرب: فالعروض الأول مخبون تام له ضربان: ضرب مثله وضرب مقطوع لازم الثاني. والعروض الثاني مجزوء له ثلاثة أضرب: ضرب مذال وضرب مجزوء وضرب مقطوع ممنوع من الطي. والعروض الثالث مقطوع ممنوع من الطي له ضرب مثله. العروض المخبون والضرب المخبون بين الأهلة بدر ماله فَلَكُ قلبي له سُلِّم والوجه مُشْتركُ إذا بدا انتهبت عيني محاسِنه وَذَلّ قَلبي لعَينيه فينتهك ابْتعت بالدّين والدُّنيا مودَّته فخانَني فَعلى مَن يرجع الدَّرَك كفُّوا بني حارث أَلحاظَ رِيمكم فكلها لفؤادي كلِّه شرَك يا حارِ لا أُرمين منكم بداهية لم يَلْقها سُوقة قَبْلي ولا مَلكُ تقطيعه الضرب المقطوع اللازم الثاني يَا ليلة ليس في ظَلمائها نورُ إلا وُجوهاً تُضاهيها الدَّنانيرٌ حُورٌ سَقَتْنيَ بكأس الموت أعينُها ماذا سَقَتْنيه تلك الأعينُ الحُور إذا ابتسَمْن فُدرّ الثغَر مُنتظمِ وإنْ نَطَقن فدر اللفظ مَنْثور خَلِّ الصِّبا عنك واحتِم بالنُّهى عملاً فإنّ خاتمةِ الأعمال تَكْفيرُ والخَير والشرَّ مَقْرونان فيَ قرن فالخَبر مُتّبع والشر محذُور تقطيعه مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فَعْلن العروض المجزوء والضرب المذال يا طالباً في الهَوى ما لا يُنالْ وسائلاً لم يعْفَ ذُلّ السّؤال ولَت ليالي الصِّبا مَحمودةً لو أنها رَجعت تلك اللَّيالْ وأعقبتها التي واصلتُها بالهَجر لمّا رأت شَيب القَذَال لا تلتمس وُصلة من مُخلف ولا تَكُن طالباً ما لا يُنال تقطيعه مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن مستفعلان الضرب المجزوء ظالمتي في الهَوى لا تَظْلمي وتَصرمي حَبل مَن لم يَصْرِم أهكذا باطلاً عاقِبْتني لا يَرْحم الله مَن لم يَرْحم قتلتِ نفساً بلا نَفس وما ذَنْب بأعظمَ من سَفك الدَّم لمِثل هذا بكَتْ عيني ولا للمنزل القَفْر وللأرْسم ماذا وُقوفي على رَسمٍ عَفا مخْلولق دارسٍ مُسْتعجِم قطيعه مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن الضرب المقطوع الممنوع من الطي ما أقربَ اليأس من رَجائي وأبعَد الصبرَ من بُكائي يا مُذكيَ النَّار في فؤادي أنت دَوَائي وأنت دائي سألتها حاجةً فلم تَفُه فيها بنَعمٍ ولا بلاءَ قلت استجيبي فلمّا لم تجب سالت دُموعي على ردائي تقطيعه مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن فعولن العروض المقطوع الممنوع من الطي ضربه مثله كآبة الذل في كتابي ونَخْوةُ العِزّ في جَوابي قَتلتَ نفساً بغير نَفس فكيف تَنجُو من العذاب خُلِقْت من بَهجة وطِيب إذ خلقِ الناسُ من تُراب ولَّت حُميَّا الشَّباب عنّي فلهفَ نفسي على الشَباب أصبحتُ والشَّيبُ قد عَلاَني يَدْعو حَثِيثاً إلى الخِضَابِ تقطيعه مستفعلن فاعلن فعولن مستفعلن فاعلن فعولن يجوز في حشو البسيط: الخَبن والطي والخبل. فالخبن: ما ذكرناه في المديد. والطي: ما ذهب رابعه الساكن. والمخبول: ما ذهب ثانيه ورابعه الساكنان وهو اجتماع الخبن والطي في مستفعلن. والخبن فيه حسن والطي فيه صالح. والخبل فيه قبيح. والمقطوع: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الوتد. والمذال: ما زاد على اعتداله حرف ساكن. تمت الدائرة الأولى. شطر الوافر له عروضان وثلاثة ضروب فالعرض الأول مقطوف له ضرب مثله. والعروض الثاني مجزوء ممنوع من العقل له ضربان: ضرب سالم وضرب معصوب. العروض المقطوف الضرب المقطوف تَجافى النومُ بعدك عن جُفوني ولكن ليسَ يجفوها الدموعُ يطيب ليَ السُّهاد إذا افترقنا وأنت به يطيب لك الهجوعُ يذكرني تبسمك الأقاحي ويَحكي لي تورّدك الرّبيع يطير إليك من شوقٍ فُؤادي ولكن ليس تتركه الضُّلوع كأنّ الشمسَ لما غِبْت غابت فليس لها على الدُّنيا طُلوع فما لي عند لَذكّرك امتناع ودون لقائك الحِصْن المَنيع إذا لم تَستطع شيئاً فدَعه وجاوزْه إلى ما تَستطيع تقطيعه العروض المجزوء الممنوع من العقل الضرب السالم غزال زانه الحَور وساعد طَرْفه القَدَر يُريكِ إذا بدا وجهاً حَكاه الشمس والقَمر براه الله من نُور فلا جِنّ ولا بَشر فَذَاك الهمُّ لا طَلل وقفتَ عليه تَعْتَبر أهاج منزل أَقوى وغَيّر آيه الغِير تقطيعه مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن الضرب المعصوب وَبدْرٍ غير ممحوق من العقيان مخلوق إذا أسقيت فَضْلته مَزَجتُ بريقه رِيقي فيالك عاشقاً يسقي بقيَّة كأس مَعْشوق لمنزلة بها الأفلا ك أَمثال المَهاريق تقطيعه مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعيلن يجوز في حَشو الوافر: العَصب والعقل والنقص. فالعصب فيه حسن والنقص فيه صالح والعقل فيه قبيح. ويدخله الخرم في الابتداء فتستقط حركة من أول البيت ويسمى أعصب. فإذا دخله العصب مع الخرم قيل له: أقصم. فإذا دخله النقص مع الخرم قيل له: أعقص. فإذا دخله العقل مع الخرم قيل له: أجم. والمعصوب: ما سكن خامسه المتحرك. والمنقوص: ما سكن خامسه المتحرك وذهب سابعه الساكن. والمقطوف: ما ذهب من آخره سبب خفيف وسكن آخر ما بقي. ولا يدخل القطف إلا في العروض والضرب من تام الوافر. شطر الكامل الكامل له ثلاثة أعاريض وتسعة ضروب. فالعروض الأول تام له ثلاثة ضروب: ضرب تام مثله وضرب مقطوع ممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره وضرب أحذ مضمر. والعروض الثاني أحذ له ضربان: ضرب مثله وضرب مضمر. والعروض الثالث مجزوء له أربعة ضروب: ضرب مرفّل وضرب مُذال وضرب مجزوء وضرب مقطوع ممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره. العروض التام الضرب التام يا وَجْهَ مُعتذر ومُقلةَ ظالمٍ كمَ من دَم ظُلماً سفكت بلا دَم أَوَجَدْتِ وصلي في الكِتاب مُحرما ووجدتِ قَتلي فيه غيرَ مُحرّم كم جَنةٍ لكِ قد سكنتُ ظِلالَها مُتفكِّهاً في لَذة وَتنعّم وشربتُ من خَمر العيون تعلّلا فإذا انتشيت أجود جُود المِرْزم وإذا صحوَتُ فما أقصّرَ عن ندَى وكما علمتِ شمائلي وتَكرُّمي تقطيعه الضرب المقطوع الممنوع إلاّ من الإضمار والسلامة حَالَ الزمانُ فبدّل إلا مالا وكَسا المَشيبُ مَفارقاً وقَذالاَ غنيتْ غواني الحَيّ عنك وربما طلعتْ عليك أكَلّة وحِجَالا أَضَحى عليكَ حلالُهن مُحرماً ولقد يكون حرامُهن حَلالا إنْ الكواعِبَ إنْ رأينك طاوياً وِصْلَ الشبابِ طَوين عنك وِصالا وإذا دَعَونك عَمَّهن فإنه نسب يزيدكَ عندهن خَبالا تقطيعه متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن فعلاتن الضرب الأحذ المضمر يوم المُحب لِطوله شَهر والشهر يحسب أنه دهر بأبي وأُمي غادة في خَدّها سِحْر وبين جُفونها سحْر الشمسُ تَحسب أنها شَمس الضحى والبَدر يَحسب أنها البَدر لمَن الديارُ برامَتَيْن فعاقِلٌ دَرست وغَيّر أيها القَطر تقطيعه متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن فعلن العروض الأحذ الثالث ضربه مثله أمّا الخليطُ فشَدّ ما ذَهبوا بانُوا ولم يَقضُوا الذي يَجبُ فالدارُ بعدهُم كوَشْم يَدٍ يا دارُ فيك وفيهمُ العَجَبُ أين التي صِيغت محاسنُها من فِضّة شِيبت بها ذَهب ولّى الشبابُ فقلت أندُبه لا مثلَ ما قالوا ولا نَدبوا دِمَنٌ عَفت ومَحا معاَلمها هَطِلٌ أجَشُ وبارِح تَرِب تقطيعه متفاعلن متفاعلن فعلن متفاعلن متفاعلن فعلن يا نظرةً أذكتْ على كَبدي ناراً قضيتُ بحرّها نَحْبي خَلُّواً جَوى قلبي أَكابده حَسبي مُكابدةُ الجَوى حَسْبي عَينيِ جنتْ من شُؤم نَظرتها ما لا دواءَ له على قَلْبي جانيك مَن يَجني عليك وقد تُعدي الصحاحَ مبارك الجُرب قطيعه متفاعلن متفاعلن فعلن متفاعلن متفاعلن فعلن العروض المجزْوء والضرب المجزوء المرفل هتك الحبابَ عن الضمائر طَرْف به تُبلَى السَّرائرْ يَرنو فيمتحن القُلو بَ كأنه في القَلب ناظر يا ساحراً ما كنتُ أع رف قَبله في الناس ساحر أقصيتني من بعد ما أدنيتَني فالقلبُ طائر وغررتَني وزعمتَ أن ك لابن بالصَيف تامِر متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلاتن الضرب المذال يا مقلة الرّشأ الغَري ر وشُقّة القَمر المنيْر ما رنّقت عيناك لي بين الأكلَّة والسُّتور إلا وضعتُ يدِي على قَلبي مخافةَ أن يطير هَبْني كبعض حمام مك ة واستمِع قولَ النَّذير أَبُنيّ لا تَظْلم بمك ة لا الصَّغير ولا الكَبير تقطيعه متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلان الضرب المجزوء قُل ما بدا لك وافعل واقطَعْ حِبالَك أَوْصل هذا الربيعُ فَحيِّه وانزلْ بأكرم مَنزل وصِل الذي هو واصلٌ فإذا كَرهت فبدِّل وإذا افتقرت فلا تَكُن مُتخشعاً وتَجمّل تقطيعه متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن الضرب المقطوع الممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره يا دَهرُ ماليَ أُصْفي وأنت غير مُواتِ جَرّعَتني غُصصاً بها كدّرتَ صفو حياتي أينَ الذَين تَسابقوا في المجد للغايات قوم بهم رُوح الحيا ة ترد في الأموات وإذا هُمُ ذكروا الإسا ءة أكثروا الحسنات تقطيعه متفاعلن متفاعلن متفاعلن فعلاتن يجوز في الكامل من الزحاف: الإضمار والوَفص والخزل. فالإضمار فيه حسن والوقص فيه فالمضمر: ما سكن ثانيه المتحرك. والموقوص: ما ذهب ثانيه المتحرك. والمخزول: ما سكن ثانية المتحرك وذهب رابعه الساكن. ويدخله من العلل القطع والحذ. فالمقطوع ما تقدم ذكره. والأخذ: ما ذهب من آخر الجزء وتد مجموع. شطر الهزج الهزج له عَروض: واحد مجزوء ممنوع من القبض. وضربان: ضرب سالم وضرب محذوف. العروض المجزوء الممنوع من القبض ضربه مثله أيا مَنْ لامَ في الحُبِّ ولم يَعلم جَوى قَلبِي ملاِمُ الصّبّ يُغويه ولا أَغوى من القَلب فأنيُ لمتَ في هند مُحِبّاً صادق الحُبِّ وهند ما لها شِبه بشَرْق لا ولا غَرب إلى هِنْد صَبا قَلْبي وهِنْد مثلُها يصبي تقطيعه مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن الضرب المجزوء المحذوف مَتى أشفي غليلِي بنَيل من بَخيل جميل الوجه أخلاني من الصَّبر الجَميل قَد حَملت الضيَم فيه من حَسود وعَذول وما ظَهري لباغي الضَّي م بالظَّهر الذِّلول تقطيعه مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن فعولن يجوز في الهَزج من الزحاف القبض والكف. فالكف فيه حسن. والقبض فيه قبيح. وقد فسرنا المقبوض والمكفوف في الطويل أيضاً. ويدخله الخرم في الابتداء فيكون أخرم. فإذا دخله الكف مع الخرم قيل له: أخرب فإذا دخله القبض مع الخرم قيل له: أشتر. والخرم كله قبيح. شطر الرجز الرجز له أربعة أعاريض وخمسة ضروب. فالعروض الأول تام له ضربان: ضرب تام مثل عروضه وضرب مقطوع ممنوع من الطيّ. والعروض الثاني مجزوء له ضرب مثله مجزوء. والعروض الثالث مشطور له ضرب مثله. والعروض الرابع منهوك له ضرب مثله. العروض التام الضرب التام لم أَدْر جِنِّيٌّ سَباني أم بَشرْ أم شَمس ظُهر أشرَقت لي أم قَمَرْ أم ناظِر يهدي المَنايا طَرفُه حتى كأنّ الموتَ منه في النَّظر يُحي قَتيلاً ما له من قاتِلِ إلاّ سِهام الطّرف رِيشت بالحَوَر ما بال رَسم الوَصل أضحَى داثراً حتى لقد أذكرتَني ممّا دثر دارٌ لسَلمى إذ سُليمى جارة قَفْراً تُرى آياتُها مِثل الزبر تقطيعه الضرب المقطوع الممنوع من الطي قَلب بلوعات الهَوى معمودُ حَيّ كَمَيْت حاضرٌ مَفْقودُ ما ذقت طعم الموت في كأس الأسى حتى سَقَتْنيه الظباءُ الغِيدُ من ذا يداوي القلبَ من داء الهوى إذ لا دواءٌ للهَوى مَوجود أم كيف أسلو غادة ما حبّها إلا قَضاءٌ ما له مَرْدود القلبُ منها مُستريح سالمٌ والقَلب مني جاهد مجهودُ تقطيعه مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعل العروض المجزوء الضرب المجزوء أعطيته ما سألا حكّمتُه لو عَدلا وهبتُه رَوحي فما أدري به ما فَعلا أسلمته في يده عَيَّشه أم قَتلا قَلبي به في شُغل لا مَلَّ ذاك الشغلا تقطيعه مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن العروض المشطور الضرب المشطور يأيها المَشغوف بالحبّ التَّعِبْ كم أنت في تَقْرِب ما لا يَقتربْ دَعْ ودّ من لا يَرعوي إذا غَضب ومَن إذا عاتبته يوماً عَتب إنك لا تَجني من الشوك العِنَب تقطيعه مستفعلن مستفعلن مستفعلن العروضِ المنهوك الضرب المنهوك بياضُ شَيْب قد نصَعْ رفعتُه فما ارتفع إذا رأى البِيض انقمع مِن بين يأس وطَمَعْ للّه أيام النَّخع يا ليتني فيها جَذع أخُبُّ فيها وأَضع ويجوز في حشو الرجز: الخبن والطي والخبل. فالخبن فيه حسن. والطي فيه صالح. والخبل فيه قبيح. وقد مضى تفسير الطي والخبن والخبلِ في البسيط. ويدخله من العلل: القطع وقد ذكرناه. ويكون مجزوءاً. والمجزوء: ما ذهب من آخر الصدر جزِء ومن آخر العجز جزء. ويأتي مشطوراً. والمشطور: ما ذهب شطوه. ويأتي منهوكاً. والمنهوك: ما ذهب من شطره جزآن وبقي على جزء. شطر الرمل الرمل له عروضان وستة ضروب. فالعروض الأول محذوف جائز فيه الخبن. له ثلاثة ضروب: ضرب متمم وضرب مقصور جائز فيه الخبن وضرب محذوف مثل عروضه. والعروض الثاني مجزوء له ثلاثة ضروب: ضرب مسبغ وضرب مجزوء مثل عروضه الجائز فيه الخبن وضرب محذوف جائز فيه الخبن. العروض المحذوف الجائز فيه الخبن الضرب المتمم وأنَا في اللَّذات مَخلوع العِذارِ هائم في حب ظَبي ذي احْورارِ صُفرة في حُمرة في خدّه جمعتْ روضة وَرْد وبَهار بأبي طاقةُ آسٍ أقبلت تَتَثَنّى بين حِجْل وسِوار قادني طَرفي وقَلبِي للهَوى كيف من طَرفي ومِن قلبي حِذارِي لو بغير الماء حَلقي شَرقٌ كنتُ كالغَصّان بالماء اعتصارِي تقطيعه فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن يا مُدير الصُّدغ في الخدّ الأَسيلْ ومُجيل السِّحر بالطرف الكَحيلْ هل لمحزون كَئيب قُبلة منكَ يَشفي بَردُها حَرَّ الغَليل وقليل ذاك إلاّ أنه ليس مِن مثلك عندي بالقَليل بأبي أحورُ غَنَى مَوهناً بغناءٍ قصَّر الليلَ الطويل يا بني الصّيداء ردُّوا فَرسي إنما يفعل هذا بالذَّليل تقطيعه فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلان الضرب المحذوف شادن يَسحب أذيال الطَّربْ يَتَثنّى بين لَهو ولعبْ بِجَبين مفْرغٍ من فِضَّة فوق خدٍّ مُشرَب لونَ الذهب كَتَب الدمعُ بخدّي عَهده للهوَى والشوقُ يُملي ما كَتب ما لجهلي ما أراه ذاهباً وسوادُ الرأس منّي قد ذَهب قالت الخنَساء لمّا جِئْتُها شابَ بعدي رأسُ هذا واشتهب فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن العروض المجزوء الضرب المسبغ يا هلالاً في تَجنّيهِ وقضيباً في تثنيه والذي لست أسميه ولكنّي أكنِّيه شادِن ما تقدر العينَ تَراه من تَلالِيه كلما قابله شخص رأى صورته فيه لان حتى لو مشى الذّ ر عيله كاد يدميه تقطيعه فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتان الضرب المجزوء يا هلالاً قد تجلّى في ثِياب من حَريرْ وأميراً بهواه قاهراً كُلّ أمير ما لخدّيك استعارَاً حُمرة الوَرد النضير مُقفرات دارسات مثلَ آيات الزبور تقطيعه فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن الضرب المجزوء المحذوف الجائز فيه الخبن يا قتيلاً من يده ميّتاً من كمَده قدحتْ للشوق ناراً عينُه في كَبده هائم يبكي عليه رحمةً ذو حسده كل يوم هُو فيه مستعيذ من غَده قلبُه عند الثريا بائن عن جَسده تقطيعه فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فعلن يجوز في الرمل من الزحاف: الخَبن والكَف والشكل. فالخبن فيه حسن. والكف فيه صالح. والشكل فيه قبيح. وقد فسرنا المكفوف والمخبون. ويدخله التعاقب في السيبين المتقابلين على حسب ما يدخل في المديد. ويدخله من العلل الحذف والقصر والإسباغ. وقد فسرنا المحذوف والمقصور. وأما المسبغ: فهو ما زاد على اعتدال جزئه حرف ساكن مما يكون في آخره سبب خفيف وذلك فاعلاتن يزاد عليها حرف ساكن فيكون فاعلاتان. شطر السريع السريع له أربعة أعاريض وسبعة أضرب: فالعَروض الأول مَكسوف مَطوي لازم الثاني له ثلاثة ضروب: ضرب موقوف مطوي لازم الثاني وضرب مكسوف مطوي لازم الثاني مثل عروضه وضرب أصلم سالم. والعروض الثاني مخبول مكسوف له ضربان: ضرب مثل عروضه وضرب أصلم سالم. والعروض الثالث مشطور موقوف ممنوع من الطي ضربه مثله. والعروض الرابع مشطور مكسوف ممنوع من الطي ضربه مثله. العروض المكسوف المطوي اللازم الثاني الضرب الموقوف المطوي اللازم الثاني بكيت حتى لم أدعْ عَبرةً إذ حَملوا الهَودج فوق القَلوصْ بُكاءَ يَعقوبَ على يُوسفٍ حتى شَفى غُلته بالقميص لا تأسفِ الدهرَ على ما مَضى والقَ الذي ما دونه من مَحيص قد يُدرك المبطئ من حَظه والخيرُ قد يَسبق جُهد الحَريص مستفعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلان الضرب المكسوف المطوي اللازم الثاني للهّ دَرُ البَين ما يَفعلُ يَقتل مَن شاء ولا يُقْتلُ بانُوا بمَن أهواه في ليلةٍ ردّ على آخرها الأوّل يا طُولَ ليل المُبتلي بالهَوى وصبْحُه مِن ليله أطول الدارُ قد ذكَرني رسمها ما كِدتُ عن تَذكاره أذْهل هاج الهَوى رسم بذات الغَضى مُخْلولق مستعجم مُحْوِل تقطيعه مستفعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن الضرب الأصلم السالم قَلبي رهين بين أضلاعي من بين إيناسٍ وإطماع من حيثُ ما يدعوه داعِي الهَوى أجابه لَبَّيْك مِن داعي مَن لِسَقيم ماله عائدٌ وَميِّت ليس له ناعي قالتْ ولم تَقْصد لقِيل الخَلني مَهْلاً لقد أبلغتَ أسماعِي تقطيعه مستفعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن فعلن العروض المخبول المكسوف ضربه مثله شَمس تجلّت تحت ثَوب ظُلَمْ سقيمةُ الطَّرف بغير سقَمْ ضاقت عليّ الأرضُ مُذ صَرّمتْ حَبلي فما فيها مكانُ قَدم شمس وأقمارٌ يطوف بها طَوْفَ النَّصارى حول بيت صَنَم النشر مِسك والوُجوه دنا نير وأطراف الأكفّ عَنم تقطيعه مستفعلن مستفعلن فعلن مستفعلن مستفعلن فعلن الضرب الأصلم السالم أنتَ بما في نفسه أعلمْ فاحكُم بما أحببتَ أن تَحْكُمْ يا مُقلة وحشيّة قَتلت نفساً بلا نَفس ولم تَظْلم قالت تسلّيت فقلتُ لها ما بال قلبي هائم مغْرم يأيهاي الزَاري على عمَر قد قلتَ فيه غير ما تَعلم تقطيعه مستفعلن مستفعلن فعلن مستفعلن مستفعلن فعلن العروض المشطور الموقوت الممنوع من الطي ضربه مثله خَلّيتُ قلبي في يدَيْ ذات الخالْ مصفدا مُقيّدا في الأغلالْ قد قُلت للباكي رسومَ الأطلال يا صاح ما هاجَك من رَبعٍ خال تقطيعه مستفعلن مستفعلن مفعولان العروض المشطور المكسوف الممنوع من الطي ضربه مثله مُكَحّل ما مَسّه من كُحل لا تَعذُلاني إنني في شُغل يا صاحبَيْ رحلِي أقلا عَذْلي تقطيعه مستفعلن مستفعلن مفعولن ويجوز في السريع من الزحاف: الخبن والطي والخبل. فالخبن فيه حَسن. والطي صالح والخبل فيه قبيح. ويدخله من العلل: الكسف والوقف والصلم. فالمكسوف: ما ذهب سابعه المتحرك. والموقوف: ما سكن سابعه. والأصلم: ما ذهب من آخره وتد مفروق. والمشطور: ما ذهب شطره. شطر المنسرح المنسرح له ثلاثة أعاريض وثلاثة ضروب: فالعروض الأول ممنوع من الخبل له ضرب مطوي. والعروض الثاني منهوك موقوف ممنوع من الطي له ضرب مثله. والعروض الثالث منهوك مكسوف ممنوع من الطي له ضرب مثله. العروض الممنوع من الخبل الضرب المطوي بَيْضاء مَضْمومة مُقرطقة يَنْقدّ عن نهَدها قَراطقُها كأنما بات نعماً جَذِلا في جَنة الخُلد مَن يُعانقها وأيّ شيء ألذّ مِن أمل نالتْه مَعْشوقة وعاشِقُها دَعْني أمُت من هوى مَخدَّرةٍ تَعلق نفسي بها عَلائقها مَن لم يَمُت غِبْطة يَمُت هَرَما الموتُ كأسٌ والمَرء ذائقها تقطيعه العروض المنهوك الموقوف الممنوع من الطي ضربه مثله أقصرتُ بعض الإقصارْ عن شادن نائي الدارْ صَبرني لما سارْ ولم أكُن بالصبار وقالَ لِي باستعبار صبراً بني عبد الدَّار تقطيعه مستفعلن فعولات العروض المنهوك المكسوف الممنوع من الطي ضربه مثله عاضَتْ بوصلٍ صَدا تُريد قتلي عَمْدَا لمَا رأتني فَردا أبكي وألقَى جَهْدَا قالت وأبدتْ دُرًّا وَيَلُم سَعْد سَعْدَا يجوز في المُنسرح من الزحاف. الخبن والطي والخبل. فالخبن فيه حسن. والطي فيه صالح. والخبل فيه قبيح. ويدخله من العلل: الوقف والكسف. وقد فسرناهما في السريع. والمنهوك: ما ذهب شطره ثم ذهب منه شطر بعد الشطر. شطر الخفيف الخفيف له ثلاثة أعاريض وخمسة ضروب. فالعروض الأول منه تام له ضربان: ضرب يجوز فيه التشعيث وضرب محذوف يجوز فيه الخبن. والعروض الثاني جائز فيه الخبن له ضرب مثله. والعروض الثالث مجزوء له ضربان: ضرب مثله مجزوء وضرب مجزوء مقصور مخبون. العروض التام الضرب التام الجائز فيه التشعيب أنتِ دائي وفي يديكِ دوائِي يا شفائي من الجَوى وبَلائِي إنّ قلبي يُحب من لا أُسمِّي في عَنَاء أعْظِم به من عَناءِ كيفَ لا كَيف أنْ ألذّ بعَيش مات صَبري به وماتَ عَزائِي أيها اللائمون ماذا عليكم أنْ تَعِيشوا وأنْ أموتَ بدائي ليس مَن مات فاستراح بمَيْت إنّما المَيْت ميّت الأحياء تقطيعه الضرب المحذوف يجوز فيه الخبن ذات دَلّ وشاحُها قَلِقُ من ضُمور وحِجْلها شَرِق بَزّت الشمس نورَها وحَباها لَحْظَ عينيه شادن خَرِق ذَهَب خَدّها يَذُوب حَياءً وسِوَى ذاك كُله وَرِق إن أمُت مِيتَة المُحبّين وَجْداً وفؤادي من الهَوى حَرِق فالمَنايا من بين غادٍ وسارٍ كلّ حَيٍّ بَرْهنها غَلِق تقطيعه فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن متفعلن فعلن العروض المحذوف الجائز فيه الخبن ضربه مثله يا غليلا كالنار في كَبدي واغتراب الفُؤاد عن جَسدِي وجُفوناً تَذْري الدموعَ أسىً وتَبيع الرُّقاد بالسهد ليتَ مَن شفّني هواه رأَى زَفراتِ الهَوى على كَبدي ربّ خَرْق من دونها قذفٌ ما به غَير الجِنّ من أحد تقطيعه فاعلاتن مستفعلن فعلن فاعلاتن مستفعلن فعلن العروض المجزوء والضرب المجزوء ما لليلَى تبدَّلتْ بعدنا وُدَّ غَيْرنا أرهقتنا ملامةً بعد إيضاح عُذْرنا فسلوْنا عن ذِكرها وتسلّت عن ذِكْرنا لم نَقل إذ تَحرّمت واستهلت بَهجْرنا ليت شِعري ماذا ترى أمّ عَمرو في أمرنا تقطيعه فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن مستفعلن الضرب المجزوء المقصور المخبون أشرقت لي بُدور في ظَلام تُنيرُ يا بُدوراً أنا بها الد هر عانٍ أسير إنْ رضيتُم بأن أمُو ت فمَوتي حَقير كُل خطب إن لم تَكو نوا غَضبتم يسير تقطيعه فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فعولن يجوز في الخفيف من الزحاف: الخبن والكف والشكل. فالخبن فيه حسن والكف فيه صالح والشكل فيه قبيح. ويدخله التعاقب بين السببين المتقابلين من مستفعلن و فاعلاتن لا يسقطان معاً وقد يثبتان. وذلك أن وتد مستفع لن في الخفيف والمجتث كله مفروق في وسط الجزء. وقد بينا التعاقب في المديد. ويدخله من العلل: التشعيث والحذف والقصر. وقد بينا المحذوف والمقصور. وأما التشعيث فهو دخول القطع في الوتد من فاعلاتن التي من الضرب الأول من الخفيف فيعود مفعولن. شطر المضارع المُضارع له عروض واحد مجزوء ممنوع من القبض وضرب مجزوء ممنوع من القبض مثل عروضه وهو: أرى للصّبا وداعَا وما يذكر اجتماعَا كأن لم يكن جديراً بِحفْظ الذي أَضاعا ولم يُصبنا سُرورا ولم يلهنا سماعا فجدّد وصالَ صَبّ متى تَعْصه أطاعا إن تَدْن منه شِبْرا يقرِّبْك منه باعا تقطيعه مفاعلين فاعلاتن مفاعلين فاعلاتن يجوز في حشو المضارع من الزحاف: القبض والكف في مفاعيلن ولا يجتمعان فيه لعلّة التراقب: ولا يخلو من واحد منهما. وقد فسرنا التراقب مع التعاقب. وبدخله في فاعلاتن الكف. فأما القبض فُهو ممنوع منه وتد فاع لاتن في المضارع لأنه مفروق وهو فاع. والنراقب في المضارع بين السببين من مفاعيلن في الياء والنون لا يثبتان معاً ولا يسقطان معاً وهو في المقتضب بين الفاء والواو من مفعولات. شطر المقتضب المقتضب له عروض واحد مجزوء مطوي وضرب مثل عروضه وهو: يا مليحةَ الدَّعَج هل لديك من فرج أم تُراك قاتلتِي بالدَّلال والغنَج من لُحسن وَجهك من سُوء فِعْلك السمج عاذليّ حَسْبكما قد غرقت في لُجج هل عليّ وَيحُكما إن لهوتُ من حَرج تقطيعه فاعلاتن مفتعلن فاعلاتن مفتعلن يدخل التراقب في أول البيت في السببين المتقابلين. على حسب ما ذكرناه في المضارع. شطر المجتث له عروض واحد مجزوء ضربه مثله وشادن ذي دَلال مُعصب بالجمال يَضَنّ أَنْ يَحتويهَ معي ظلامُ اللَّيالي أو يَلتقي في منامي خياله مع خيالي غُصنٌ نَما فوق دِعْص يَختال كل اختيال البَطن منها خَمِيص والوَجه مثل الهلال تقطيعه مستفع لن فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن يجوز في المجتث: الزحاف والخبن والكف والشكل. فالخبن فيه حسن والكف فيه صالح والشكل فيه قبيح. ويدخله التعاقب بين السببين المتقابلين من مستفع لن وفاعلاتن على حسب ما يدخل الخفيف وذلك لأن وتد مستفع لن في المجتث مفروق كما هو في الخفيف مفروق وذلك يقع. شطر المتقارب المتقارب له عروضان وخمسة أضرب. فالعروض الأول منها تام يجوز فيه الحذف والقصر. له أربعة ضروب: ضرب تام مثل عروضه وضرب مقصور وضرب محذوف معتمد وضرب أبتر. والعروض الثاني مجزوء محذوف معتمد له ضرب مثله معتمد. العروض التام الجائز فيه الحذف والقصر الضرب التام حالَ عن العَهد لما أحالا وزال الأحبّة عنه فَزَالاَ مَحلّ تَحُل عُراها السَّحاب وتَحكي الجَنوبُ عليه الشمالا فيا صاح هذا مَقام المُحبّ وَربع الحَبيب فَحُطَّ الرِّحالا سَل الرَّبع عن ساكنيه فإنّي خرست فما أستطيع السُّؤالا ولاَ تُعْجلّني هَداك المليكُ فإنَّ لكُل مَقام مقالا تقطيعه فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فُؤادي رَميْتَ وعَقْلي سَبَيْتَ ودَمْعي مَرَيتَ ونومي نَفَيتَ يَصُد اصطباري إذا ما صَدَدت ويَنأى عَزائي إذا ما نأيت عَزمت عليك بمجَرى الوِشاح وما تحت ذلك مما كنيت وتُفّاح خَدٍّ ورُمَّان صَدْر ومَجناهما خير شيء جَنَيت تجدّد وصلاً عفا رسمهُ فمثلُك لمّا بدا لي بَنَيتَ على رَسْم دار قفار وَقَفْتَ ومِن ذكر عهد الحَبيب بَكَيْت تقطيعه فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن الضرب المحذوف المعتمد أيا ويح نَفسي ووَيل أمها لِمَا لَقِيَتْ من جَوَى هَمِّها فديتُ التي قتلتْ مُهجتي ولم تَتَّق الله في دَمِّها أَغُضّ الجُفونَ إذا ما بَدَتْ وأكني إذا قيل لي سمِّها أُداري العيون وأَخشى الرقيب وأَرْصُد غَفْلة قيّمّها تقطيعه فعولن فعولن فعولن فعل فعولن فعولن فعولن فعل الضرب الأبتر لاَ تبك لَيْلَى ولا مَيّه ولا تَندُبَنْ راكباً نِيّه وبَكِّ الصّبا إذ طَوى ثَوْبه فلا أَحدٌ ناشِرٌ طيّه ولا القَلب ناس لما قد مَضى ولا تاركٌ أبداً غَيّه ودَع قول باكٍ على أرْسم فَليس الرُّسوم بمَبكيّه خَلِيلي عُوجاً على رَسم دارٍ خَلَت من سُليمى ومن مَيّه تقطيعه فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فع العروض المجزوء المحذوف المعتمد ضربه مثله أأُحرمْ منْك الرّضا وتذكر ما قد مَضى قَضىَ الله بالحُبّ لي فصبراً على ما قَضىِ رميتَ فؤادي فمَا تركتَ بهِ مَنْهضاً فقَوْسك شرِيانَة ونَبْلك جمر الغَضا تقطيعه فعولن فعولن فعل فعولن فعولن فعل يجوز في المتقارب من الزحاف: القبض. وهو فيه حسن. ويدخله الحزم في الابتداء على حاسب ما يدخل الطويل. وقد أكملنا في هذا الجزء مختصر المثال في ثلاث وستّين مُقطعة وهي عدد ضرُوب العروض والتزمنا فيها ذكر الزّحاف والعلل التي يقوم ذكرها في الجزء الأول الذي اختصرنا فيه فرش العروض ليكون هذا الكتاب مكتفياً بنفسه لمَن قد تأدّى إليه معرفةُ الأسباب والأوتاد ومواضعها من الأجزاء الثمانية التي ذكرناها في مختصر الفرش. واحتجنا بعد هذا إلى اختلاف الأبيات التي استشهد بها الخليل في كتابه لتكون حجة لمَن نظر في كتابنا هذا. فاجتلبنا جملة الأبيات السالمة والمعتلة وما لكل شطر منها. أبيات الطويل العروض المقبوض الضرب السالم أبا مُنذر أفْنيت فاستَبْق بعضَنا حنانَيْك بعضُ الشرّ أهونُ من بَعض ضرب مقبوض ستُبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّد أثلم مكفوف شاقَتْك أحداج سلَيمَى بعاقلٍ فعيناكَ للبَيْن يَجُودان بالدمع أثرم هاجك رَبْع دارِسٌ باللَوى لأسماء عفَى المُزنُ والقَطْرُ محذوف معتمد وما كُل ذي لُب بمُؤتيك نُصحَه وما كُل مؤتٍ نُصحه بلَبيب أَقيموا بني النُّعمان عنا صُدورَكم وإلا تُقيموا صاغرين الرءوسا عروض مجزوء ضرب مجزوء يا لبكر انشرُوا لي كُليباً يا لبكر أين أين الفِرارُ ضرب مجزوء مخبون صدر ومتى مايَع منك كلاماً يتكلَم فيجبك بعَقْل مكفوف عجز لن يزال قومنا مخصبين صالحين ما اتَقَوا واستقامُوا مشكول عجز لمن الدّيارُ غَيّرهنّ كلّ جَوْنِ المُزْن داني الرَّبابِ مشكول طرفاه ليت شعري هل لنا ذاتَ يومٍ بجُنون فارع من تَلاق لا يضرن امرأً عيشُه كُل عيش صائر للزوال الضرب المحذوف وواللازم الثاني واعلموا أني لكم حافظٌ شاهداً ما كنتُ أو غائبا الضرب الأبتر اللازم الثاني إنما الذلفاء ياقوتة أُخرجت من كِيس دِهقان العروض المحذوف المخبون الضرب المحذوف المخبون للفتى عقل يَعيش به حيث تَهدي ساقه قدمُه الضرب الأبتر ربَّ نارٍ بتُّ أَرمقها تَقضم الهنديَّ والغارا أبيات البسيط العروض المخبون الضرب المخبون يا حارِ لا أُرمَينْ منكم بداهيةٍ لم يَلْقها سوقةٌ قبلي ولا مَلِك مخبون لقد حلّت صُروفَها عَجب فأحدَثتْ عِبراً وأَعقبت دُوَلا مطوي ارتحلُوا غُدوةً وانطلقوا بكَراً في زُمَرٍ منهم تتبعها زُمَرُ الضرب المقطوع اللازم الثاني قد أشهد الغارةَ الشَّعواء تَحملني جَرداء مَعْروقة اللحْيين سُرحوبُ والخير والشرّ مَقْرونان في قَرن فالخيرُ مُتَّبع والشرُ مَحْذورُ العروض المجزوء إنّا ذَمَمْنا على مَا خَيّلت سَعْد بن زَيدٍ وعمراً من تميم مخبون قد جاءكم أنكم يوماً إذا فارقتم الموتَ سوف تُبعثون مطوي يا صاح قد أخلفَتْ أسماءُ مَا كانت تمنِّيك من حُسن الوِصال الضرب المحذوف ماذا وُقوفي على ربع خلا مُخْلولقٍ دارس معجم مخبون إنِّي لمُثْنٍ عليها استمعوا فيها خصال تُعدُّ أربعُ مطويِ تَلقى الهَوى عن بني صادق نفسي فِداهُ وأُمَي وأبي الضرب المقطوع الممنوع من الطي سِيروا معاً إنما ميعادُكم يومُ الثلاثاء ببطن الوادِي العروض المقطوع الممنوع من الطيِ ما هَيَّج الشوقَ من أطلال أضحت قفاراً كوَحْي الواحِي أبيات الوافر العروض المقطوف الضرب المقطوف لنا غَنم نُسوِّقها غزار كأن قرون جلّتها العِصيّ إذا لم تستطع شيئاً فدَعْه وجاوزْه إلى ما تَستطيعُ معقول منازل لفَرتنى قِفارُ كأنما رسومُها شُطورُ أعصب إذا نَزل الشتاء بدارِ قومٍ تجنَّب جارَ بيتهم الشِّتاءُ أقصم ما قالوا لنا سيِّداً ولكن تفاحش قولُهم فأتوا بهُجْرِ وإنك خير مَن رَكب المَطايا وأكرمُهم أباً وأخاً وَنْفسَاً العروض المجزوء الممنوع من العقل لقد علمت ربيعة أن حَبلك واهن خَلَقُ أهاجك منزلٌ أَقوَى وغَيْر آيه الغِيَرُ الضرب المعصوب عجبتُ لمعشر عدلوا بمُعتمر أبا عَمْرِو أبيات الكامل العروض التام الضرب التام وإذا صحوتُ فما أقصر عن ندى وكما علمتِ شمائلي وتكرّمِي المضمر إنّي امرؤٌ من خير عَبس مَنصبي شَطْري وأَحمي سائِري بالمنصل موقوص يَذُب عن حَرِيمه بنَبله وسَيفه ورُمحه ويحْتمِي مخزول مَنزلة صمًّ صداها وعفا رسمها إن سُئِلت لم تُجِبِ الضرب المقطوع ممنوع إلا من الإضمار وإذا دعونَك عَمهن فإنه نسب يَزيدك عندهنّ خَبالا وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تَجد ذُخراً يكون كصالح الأعمالِ لمَن الديارُ برامَتين فعاقلٌ دَرست وغَيَّر آيها القَطْرُ العروض الأحذ السالم الضرب الأحذ المضمر لمَن الديار عفا معالمها هَطْل أجشُّ وبارح تَربُ الضرب الأحذ المضمر ولأنت أشجعُ من أُسامة إذ دُعيت نَزال ولُجّ في الذعر العروض المجزوء الضرب المرفل لقد سبقتم إل ى فَلِمْ نَزَعْتَ وأنت آخِر المضمر وغرتني وزعمت إن ك لابنٌ في الصَّيف تامر موقوص ذَهبُوا إلى أَجلٍ وك ل مؤجل حيّ كذاهب جَدَث يكون مقامه أبداً بمُختلف الرّياح مضمر إذا اغتبطت أو ابتأسْ - تُ حمدت ربّ العالمين موقوص كُتب الشقاءُ عليهما فهما له مُتيسرّ إن مخزول جاوبت إذ دعاك معالنا غير مخاف الضرب المجزوء وإذا افتقرت فلا تكُن متخشّعاً وتَجمَّلِ مضمر إذا الهوى كَرِه الهُدى وأَبَى التُقى فاعص الهَوى موقوص ولو أنها وزنت شمام بحِلْمه شالتْ لَه مخزول الضرب المقطوع الممنوع إلا من إضمار وإذا هم ذكروا الإسا ءة أكثروا الحَسناتِ مضمر وأبو الحليس ورب مك ة فارغ مشغول أبيات الهزج العروض المجزوء الممنوع من القبض ضربه مثله إلى هند صبا قلبي وهند مثلها يصبي مكفوف فهذان يَذودان وذا من كثب يرمي مقبوض فقالت لا تخف شيّاً فما عندك من باس أثرم أعادُوا ما استعاروه كذاك العيش عاريه أخرب ولو كان أبو بشر أميراً ما رَضِيناه وفي الذين ماتُوا وفيما جَمّعوا عِبْره الضرب المحذوف وما ظهري لباغي الض يم بالظَّهر الذّلول مثله قتلنا سيّد الخَزر ج سَعد بن عُباده أبيات الرجز العروض التام الضرب التام دار لسلمى إذ سليمى جارةٌ قَفْر تَرى آياتها مثل الزُّبر مخبون وطالما وطالما سَقَى بكفِّ خالِدٍ وأطْعما مطوى فأرسل المهر على آثارهم وَهيّأ الرُّمحَ لطعنٍ فطَعَنْ مخبول الضرب المقطوع الممنوع من الطي القلب منها مُستريح سالمٌ والقلبُ مني جاهد مجهودُ لا خَير فيمن كفَّ عنا شرّه إذ كان لا يُرجى ليوم خَيرُه العروض المجزوء الضرب المجزوء قد هاج قلبي منزل من أم عمروا مقفر مخبول مات الفَعَال كُلّه إذ مات عبد ربه مطوى هل يَستوي عندك مَن تَهوى ومَن لا تِمقُه مخبول لا متك بنت مَطر ما أنت وابنة مَطَر العروض المشطور الضرب المشطور إنك لا تَجني من الشوك العِنب مخبون قد تعلمون أنن ي ابنُ أختكم مطوى ما كان من ش يخك إلا عمله مخبول هلا سألت طللا وخِيمَاً مطوى العروض المنهوك يا ليتني فيها جَذع أخب فيها وأضع مخبون فارقت غي ر وامق مخبول يا صاح فيما غضبوا أبيات الرمل العروض المحذوف والجائز فيه الخبن الضرب المتمم مثل سَحق البُرد عَفَّى بعدك ال قطر مَغْناه وتأويبُ الشَّمال مخبون صدر وإذا رايةُ مجد رُفعت نَهض الصَّلتُ إليها فحَواها مكفوف عجز ليس كُلّ مَنْ أراد حاجةً ثم جَدّ في طِلابها قَضاها مشكول عجز فَدعُوا أبا سعيد عامراً وعليكمْ أخاهُ فاضرْبوه مشكول طرفان إنَ سعداً بطل مُمارسٌ صابر محتسب لما أصابه الضرب المقصور أحمدتْ كِسْرى وأمسىَ قيصر مُغلَقاً من دونه بابُ الحديد الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن قالت الخَنساءُ لمّا جِئتُها شابَ بعدي رأسُ هذا واشتهبْ مخبون كيف تَرجونَ سُقوطي بعدما لَفع الرأسَ مَشيبٌ وصَلَع الضرب المشبع يا خليليّ أَربعا فاست خبرا رَسْماً بعسفانِ مخبون واضحات فارسيَّا ت وأدم عربيّات الضرب المجزوء مُقْفرات دارسات مثل آيت الزَّبور الضرِب المشبع لانَ حتى لو مشى الذَ رّ عليه كادَ يُدْمِيهِ الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن مخبون قلبه عند الثريّا بائنٌ من جسده أبيات السريع قد يُدرك المُبطئ من حَظه والخيرُ قد يسبق جُهد الحَرِيص العروض المكفوف المطوي اللازم الثاني الضرب الموقوف اللازم الثاني أَزْمانَ سَلْمى لا يَرى مثلَها ال راءون في شامٍ ولا في عِراقْ مخبول قالها وهو بها عارف ويحك أمثالُ طَريفٍ قلِيل مخبون أردْ مِن الأمور ما يَنبغي وما تُطيقه وما يَسْتقيم الضرب المكسوف اللازم الثاني هاج الهوى رسم بذات الغَضى مُخلولق مُسْتعجم مُحْوِل الضرب الأصلم السالم قالت ولم تَقْصِد لِقيل الخَنَى مهلاً فقد أبْلغت أَسماعِي الضرب المخبون المكسوف النَّشر مسكٌ والوجوه دنا نير وأطرافُ الأكفّ عَنَمْ يأيها الزاري على عَمرو قد قُلتَ فيه غير ما تَعلم العروض المشطور الموقوف الممنوع من الطي يا صاح ما هاجك من رَبْع خَال يَنْضحن في حافاته بالأبْوال مخبون لا بد منه فاح ذرن وإن فتن مشطور يا صاحبي رحلي أقلاّ عذلي مخبون الضرب المشطور المكسوف الممنوع من الطي وبلدةٍ بعي دة النياط أبيات المنسرح العروض الممنوع من الخبل الضرب المطوى إنّ ابن زَيد ما زال مستعملا للخير يُهدي في مِصرْ العرْفا من لم يَمُت عَبْطَةَ يَمت هَرماً الموت كأس والمَرء ذائقها ومثله إنَ سُمَيراً أَرى عَشيرَته قد حَدبوا دونه وقد أنِفوا المطوى منازلَ عفاهنّ بذي الأراك كُلّ وابل مسبل هَطِل مخبون في بَلَدٍ معروفة سمته قَطَّعه عابر على جَمل ضربه مثله ويل أم سعد سعدا أبيات الخفيف العروض التام الضرب التام الجائِز فيه التشعيث حَل أهلي بَطن الغُميس فبادُوا لَي وحلّت عُلوية بالسخال ليس من مات فاستراح بمَيْت إنما الميتُ ميّت الأحياءِ مخبون صدر وفؤادي كعهده بسُليمى بهوى لم يَزل ولم يتغيَّر مكفوف عجز وأقلّ ما يظهر مِن هَواكا ونَحن نَسْتكثر حين يَبْدو مشكول عجز إنَّ قومي جَحاجحة كرم مُتقادم مَجْدهم أخيارُ مشكول طرفان الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن مخبون رُب خَرْق من دونها قذَف ما به غيرُ الجِنّ من أَحَد العروض المجزوء الضرب المجزوء ليت شِعريَ ماذا تَرى أم عمرو في أمرنا مثله اسْلمي أُمّ خالد رُبّ ساعٍ لقاعد الضرب المقصور المخبون كُل خطب إن لم تكونوا غَضبتمْ يسيرُ أبيات المضارع العروض المجزوء الممنوع من القبض وإن تدن منه شبراً يُقرِّبْك منه باعَا مقبوض دعاني إلى سُعادٍ دَواعي هَوى سعاد وقد رأيت مثل الرّجال فما أرى مثل زَيْد أشتر قلنا لهم وقالوا كُلٌّ له مَقال أبيات المقتضب العروض المجزوء المنطوي الضرب المجزوء المنطوي هل علي وَيحكما إنْ لهوتُ من حرج مخبون أعرضتْ فلاح لها عارضان كالبرد أبيات المجثث العروض المجزوء البطن منها خَميصٌ والوجه مثل الهلال الضرب المجزوء ولو علقت بسلمى علمت أن ستموت أولئك خير قومي إذ ذكر الخيار أنت الذي ولدتك أس ماء بنت الحباب العروض التام الجائز فيه الحذف والقصر الضرب التام فأمّا تميم تميم بن مُرّ فألقاهُم القومُ روبى نِيامَا ومثله فلا تُعجلنّي هداك المليكُ فإنّ لكُل مَقام مَقالا مقبوص أفاد فجاد وساد وزاد وذاد وعاد وقاد وأَفْضل أثلم رَمينا قِصاصاً وكان التَّقاصّ حقّاً وعدلاً على المسلِمينا أثرم قلت سداداً لمن جاءني فأحسنتُ قولاً وأحسنتُ رأيا مثل الأول ولولا خِداش أخذت دوا ب سعد ولم أعطه ما عليها الضرب المقصور مثله على رسم دارٍ قفار وقفتُ ومِنْ ذِكْر عَهْد الحَبيب بكيت مثله مقصور الضرب المحذوف المعتمد وأبني مِن الشِّعر شعراً عَوِيصاً يُنسيِّ الرواة الذي قد رَوَوْا سبَتْني بخَدِّ وجِيد ونحر غَداةَ رمتْني بأسهمها الضرب الأبتر غير معتمد الاعتماد في المتقارب بإثبات النون في فعولن التي قبل القافية خليليّ عُوجاً على رسم دار خَلَت من سُليمى ومن مَيّه مثله صفيّة قُومي ولا تَعجزي وبكّي النِّسَاءَ على حَمزِة الضرب المحذوف المجزوء المعتمد ورُوحك النَّادِي وتعلم ما في غدا علل القوافي القافية حرف الرويّ الذي يُبني عليه الشعر ولا بد من تكريره فيكون في كل بيت والحروف التي تلزم حرف الروي أربعة: التأسيس والردف والوصل والخروج: فأما التأسيس فألف يكون بينها وبين حرف الروي حرف متحرك بأيّ الحركات كان وبعض العرب يسميه الدَّخيل وذلك نحو قول الشاعر: كِلِيني لهم يا أميمة ناصب فالألف من ناصب تأسيس. والصاد دخيل. والباء روي. والياء المتولدة من كَسرة الباء وصل. أما الردف فإنه أحد حروف المد والّلين وهي الياء والواو والألف. يدخل قبل حرف الرويّ. وحركة ما قبل الرِّدف بالفتح إذا كان الردف ألفا وبالضم إذا كان واوا وبالكسر إذا كان ياء. والأرداف ثلاثة: فردف يكون ألفا مفتوحا ما قبلها. وردف يكون واوا مضموماً ما قبلها وردف يكون ياء مكسوراً ما قبلها. وقد تجتمع الياء والواو في شعر واحد لأن الضمة والكسرة أختان كما قال الشاعر: أجارةَ بيتنا أبوك غَيورُ ومَيْسور ما يُرجَى لديك عَسيرُ بان الخليطُ ولو طُووِعَت ما بانا وجِنس ثالث من الرِّدف وهو أن يكون الحرفُ مَفتوحاً ويكون الرِّدف ياء أو واو نحو قول الشاعر: كُنت إذا ما جئته من غَيب يَشَم رأسي ويشَممّ جيبي وأما الوصل. فهو إعراب القافية وإطلاقها. ولا تكون القافية مطلقةً إلا بأربعة أحرف: ألف ساكنة مَفتوح ما قبلها من الرويّ وياء ساكنة مكسور ما قبلها من الرويّ وهاء متحركة أو ساكنة مكنيّة. ولا يكون شيء من حُروف المُعجم وصلاً غير هذه الأحرف الأربعة: الألف والواو والياء والهاء المكنّية. وإنما جاز لهذه أن تكون وصلاً ولمَ يَجُز لغيرها من حروف المُعجم لأنّ الألف والياء والواو حُروف إعراب ليست أصليّات وإنما تتولّد مع الإعراب وتشبّهت الهاء بهن لأنها زائدة مثلهن. ووجدوها تكون خَلفا منهن في قولهم: أَرقت الماء وهرقت الماء وأيا زيد وهيازيد. ونحو قول الشاعر: قد جمعت من مكن وأَمْكنه من هاهنا وهاهنا ومن هُنه وهو يريد هنا فجعل الهاء خلفا من الألف. وأما الخروج فإنّ هاء الوصل إذا كانت متحرّكة بالفتح تبتْها ألف ساكنة وإذا كانت متحركة بالكسر تبعتها ياء ساكنة وإذا كانت متحركة بالضم تبعتها واو ساكنة. فهذه الألف والياء والواو يقال لها الخروج. وإذا كانت هاء الوصل ساكنةً لم يكن لها خروج نحو قول الشاعر: ثارَ عَجَاج مستطيل قَسْطلُه وأمّا الحَركات الَلوازم للقوافي فخمس وهي: الرس والحَذْو والتَّوجيه والمجرى والنَّفاذ. فأما الرَّس ففتحة الحرف الثاني قبل التأسيس. وأما الحَذو ففتحة الحرف الذي قبل الرِّدف أو ضَمته أو كسرته. وأما التَّوجيه فهو ما وجه الشاعرُ عليه قافيتَه من الفتح والضم والكسر يكون مع الرويّ المُطلق أو المُقيّد إذا لم يكن في القافية رِدف ولا تأسيس. وأما المجرى: ففتحِ حَرف الرويّ المُطلق أو ضَمته أو كسرته. وأما النفاذ فإنه فتحة هاء الوصل أو كَسرتها أو ضَمتها. ولا تجوز الفتحة مع الكسرة ولا الكسرة مع الضمة ولكن تنفرد كل حركة منها على حالها وقد يَجتمع في القافية الواحدة الرَّس والتأسيس والدَخيل والرويّ والمَجرى والوَصل والنفاذ والخُروج كما قال الشاعر: يُوشك من فَرّ من مَنيته في بَعض غراته يوافقها فحركة الواو الرس والألف تأسيس والفاء دخيل والقاف رَويِّ وحركته المجرى والهاء هاء الوصل وحركتها النفاذ والألف الخروج. ونحو قول الشاعر: عَفَت الديارُ مَحلّها فمقامُها فحركة القاف الحذو والألف الردف والميم الرويّ وحركتها المجرى والهاء وصل وحرَكتها النفاذ والألف الخروج. وكل هذه الحروف والحركات لازمة للقافية. ما يجوز أن يكون تأسيساً وما لا يجوز أن يكون إذا كانت ألف التأسيس في كلمة وكان حَرف الرويّ في كلمة أخرى منفصلةٍ عنها فليس بحرف تأسيس لانفصاله من حرف الرويّ وتباعده منه لأنّ بين حرف الرويّ والتأسيس حرفاً متحركاً. وليس كذلك الرِّدف لأنّ الردف قريب من الرويّ ليس بينهما شيء فهو يجوز أن يكون في كلمة ويكون الروي في كلمة أخرى منفصلة عنها نحو قول الشاعر: أتته الخلافةُ مُنقادةً إليه تُجرّر أذياَلها فلم تكُ تصلحُ إلا لَه ولم يكُ يَصُلحُ إلاّ لها فألف: إلا رِدف. واللام حرف الروي وهي في كلمة منفصلة من الردف فجاز ذلك لقرب فهن يعكفن به إذا حَجَا عَكْفَ النَّبيط يَلعبون الفَنْزَجَا فلم يجعلها تأسيساً لتباعدها عن الروي وانفصالها منه. ومثله قول الراجز: وطالمَا وطالمَا وطالمَا غلبتُ عاداً وغلبتُ الأَعجما فلم يجعل الألف تأسيساً. وقد يجوز أن تكون تأسيساً إذا كان حرف الرويّ مضمراً كما قال زُهير: ألا ليتَ شِعري هل يَرى الناسُ ما أَرى مِن الأمر أو يَبدو لهم ما بدَاليَا فجعل ألف بداليا تأسيساً وهي كملة منفصلة من القافية لما كانت القافية في مُضمر. وكذلك قولُ الشاعر: وقد يَنْبُت المَرعَى على دِمَن الثَّرى وتَبقى حَزازات النُّفوس كما هِيَا وأما غلامك وسلامك في قافية فلا تكون الألف إلا تأسيساً لأن الكاف التي هي حرف الرويّ لا تَنفصل من الغلام. ما يجوز أن يكون حرف روي وما لا يجوز أن يكون اعلم أن حروف الوصل كُلَّها لا يجوز أن تكون رويّا لأنها دخلت على القوافي بعد تمامها فهي زوائد عليها ولأنها تَسقط في بعض الكلام. فإذا كان ما قبل حرف الوصل ساكناً فهو حرف الرويّ لأنه لا يكون ما قبل حرف الرويّ ساكناً نحو قول الشاعر: أصبحتِ الدُّنيا لأربابها مَلْهَى وأَصبحتُ لها مَلْهَى كأنّني أُحرَم منها على قَدْر الذي نال أبي مِنْها وإذا حُرّكت ياء الوصل أو واو الوصل جاز لها أن تكون رويّا كَما قال زُهير: ألا ليتَ شِعْري هل يَرى الناسُ ما أرَى مِن الأمر أو يَبدُو لهمْ ما بدَاليَا وقال عبد الله بنُ قيس الرقيات: إنّ الحوادثَ بالمَدينة قد شيبتني وقَرْعَن مَرْوتيهْ وكذلك الهاء من طلحة وحمزة وما أشبههما لا تكون رويا أو وصلا لما قبلها. وجعلها أبو النَجم رويا فقال: أقول إذ جِئْن مُدبجاتِ ما أقربَ الموتَ من الحَياةِ وكذلك التاء نحو اقشعرت واستهلت والكاف نحو: مالكا وفعالكا فقد يجوز أن تكون رويّا وقد يجوز أن تكون وصلا. وإنما جاز أن دون رويّا لأنها أقوى من حرف الوصل وجاز أن تكون وصلاً لأنها دخلت على القوافي بعد تمامها. وقد جعلت الخَنساء التاء وصلاً ولزمت ما أعينيّ هلاّ تبكيان أخاكما إذا الخَيلُ منِ طُول الوَجيف اقشعرتِ فلزمت الراء في الشعر كله وجعلت التاء صلةَ. وقال آخر فجعل التاء رويا الحمدُ للّه الذي استقلّتِ بإذنه السماءُ واطمأنّتِ وقال حَسان فجعل الكاف رويّا: دعُوا فَلجات الشام قد حِيل بينها بطَعن كأفواه المَخاض الأواركِ بأيدي رجالٍ هاجروا نحو ربّهم بأَسيافِهم حقّاً وأيدي المَلائك ثم قال: إذا سلكت بالرمل منَ بطن عالج فقولا لها ليس الطريقُ هُنالِك وهنالك كافها زائدة تقول للرجل: هنالك وللمرأة: هنالك. وقال غيره: أبا خالدٍ يا خيرَ أهل زمانِكَا لقَد شَغلِ الأفواهَ حسنُ فَعالكَا فجعل الكاف رويّا. وقد يجوز أن تكون وصلاَ ويُلزم ما قبلهَا. وكذلك فعالكم وسلامكم الميم الآخرة حرف الرويّ كما قال الشاعر: بنو أُمية قومٌ من عَجيبهم أنّ المَنون عليهم والمَنون هُمُ الميم حرف الرويّ. وقد جعلها بعضُ الشعراء وصلاً مع الهاء والكاف التي قبلها لأنهما حرفا زرْ والدَيْك وقِفْ على قَبريْهما فكأنني بكَ قد نُقلتَ إليهما ومثلُه لأميّة بن أبي الصَلت: لَبّيكُما لَبَّيكماها ها أنذا لَدَيْكما وأما النّسبة مثلِ ياء قُرشيّ وثَقفيّ وما أشبه ذلك إذا كانت خفيفةً فأنت فيها بالخيار إن شئت جعلتها رويّا وإن شئتَ وصلاً نحو قول الشاعر: إنّي لمن أنكرني ابنُ اليَثربِي قتلتُ عِلبْاء وهِنْد الجملي فجعل الياء الخفيفة روّيا وإذا كانت النسبة مثقلة مثل قرشيّ وثَقفي لم تكن إلا رويّا. وإذا قال شعراً على حصاها ورماها لم تكن الهاء إلا حرف الرويّ. ومن بني شعرا على اهتدى فجعل الدال روّيا جاز له أن يجعل مع ذلك أحمدا. وإن جعل الألف من اهتدى حرف الرويّ لم يجز معها أحمدا وجاز له معها بشرى وحُبلى وعَصا وأفعى ومن ذلك قولُ الشاعر: داينتُ أَروي والدُّيونُ تُقضىَ فمطلَتْ بَعَضاً وأدت بَعْضَا فلزم الضاد من تقضى وجعل الياء وصلاً فشبّهها بحرف المدّ الذي في القافية. ومثله: ومثله: هجرتْك بعد تَواصل دَعْدُ وَبدا لدَعْد بَعض ما يَبْدُو ويرمي مع يقضي جائز إذا كانت الياء حرف الرويّ لأنها من أصل الكلمة. ومما لا يجوز أن يكون رويّا الحروف المضمرة كلها لدخولها على القوافي بعد تمامها مثل اضربا واضربوا واضربي لأن ألف اضربا لحقت اضرب وواو اضرِبوا لحقت اضرب وياء اضربي لحقت اضرب بعد تمامها: فلذلك كانت وصلاَ لأنها زائدة مع هذا الفعل في نحو قول الشاعر: لا يُبعد الله جيراناً تركتهُم لم أدرِ بعد غداةِ البَيْن ما صنعوا ومثله: يا دار عَبلة بالجواء تكلّمي وعمِي صباحا دار عبلة واسلمي فجعل الياء وصلا وبعضهم جعلها روّياً على قُبح. وأما ياء غلامي فهي أضعف من ياء اسلمي لأنها قد تُحذف في بعض المواضع تقول: هذا غلام تريد غلامي. وقالوا. يا غلام أقبل: في النداء وواغلاماه فحذفوا الياء وبعضهم يجعلها روِّياً على ضعفها كما قال: ومثله: إذا تغدّيت وطابتْ نَفْسي فليس في الحَيّ غلاَم مِثْلي قال الأَخفش: وقد كان الخَليل يُجيز إخواني مع أصحابي. ويأبي عليه العلماءُ ويحتجّ بقول الشاعر: بازل عامَين حديثُ سنّى لمثل هذا ولدتْني أمِّي وحرف الإضمار إذا كان ساكناً كان ضعيفاً. فإذا تحرَّك قَوِي وجاز أن يكون رويّاً كقول زُهير: ألا ليت شِعري هل يَرى الناسُ ما أَرى مِن الأَمر أو يَبْدو لهم ما بدَاليَا وإنما جاز الكاف أن تكون رويّاً ولم يجز ذلك للهاء وكلاهما حرف إضمار لأن الكاف أقوى عندهم من الهاء وأثبت في الكلام. وإذا خاطبت المذكر والمؤنث لا تبدل صورتها كما تُبدل الهاء في: غلامه وغلامها. وإذا قلت: مررت بغلامك ورأيت غلامك فالكاف في حال واحدة والهاء مضطربة في قولك. رأيت غلامه ومررت بغلامه. وإنما جاز فيها أن تكون وصلاً أيضاً كما تكون الهاء لأنها تشبهت بالهاء إن كانت حرف إضمار كالهاء ودخلت على الاسم كدخول الهاء وكانت اسماً للحرف كما تكون الهاء وإنما خالفتها بالشيء اليسير. وأما قولك: ارمه واغزه فلا تكون الهاء ها هنا روياً لأنها لحقت الاسم بعد تمامه ولأنها زوائد فيه وإنما دخلت لتبيّن الحركة من اغزه والميم من ارمه. وقد تدخل للوقف أيضاً. وإذا كانت الهاء أصلية لم تكن إلاّ روّياً: مثل قول الشاعر: قالت أبيلَىِ لي ولم أسَبَّهِ ما السنّ إلا غَفلة المُدلَّه ومن بَنى شعراَ على حيّ جاز له فيه طيّ وميّ لأن الياء الأولى من حي ليست بردف لأنها من حرف مثقل قد ذهب مجده ولينه. قال سيبويه: إذا قال الشاعر: تعالى أو تعالوا لم تكن الياء والواو إلا رويِّاً لأنَّ ما قبلها انفتح. فلما صارت الحركة التي قبلها غيّر حركتهما ذهبت قوتهما في المدّ وأكثر لينهما. وكذلك: اخشي واخشوا. وكل ياء أو واو انفتح ما قبلها. وكذلك قوله: رأيت قاضياً ورامياً وأريد أن يغزو وتدعو في قافيتين منِ قصيدة. وأما الميم من غلامهم وسلامهم فقد تكون رويّاً وقد تكون وصلا ويلزم ما قبلها كما قال الشاعر: يا قاتَل الله عُصبةً شَهِدوا خَيف مِنى لي ما كان أسرعهم إنْ نزلوا لم يكُن لهم لَبثٌ أو رَحلوا أعجلوا مُودَعهم فالعين هنا حرف الرويّ والهاء والميم صلة لحروف الإضمار كلها التي تقدّم ذكرها. ولا يَحسن أن يكون رويّاً إلا ما كان منها مُحرّكاً لأنّ المتحرك أقوى من الساكن وذلك مثل ياء الإضافة التي ذكرنا أو ما كان منها حرفاً قويّاً مثل الكاف والميم والنون فإنها تكون روّياً ساكنةً كانت أو متحركة وذلك مثل قول الشاعر: قِفي لا يكُن هذا تعلّةَ وَصْلِنا لبَيْنٍ ولا ذا حَظَّنا من نَوالكِ ثم قال: أبرّ وأوفى ذمّةً بعُهدوه إذا وُوزنت شُمّ الذُّرى بالحَوارِكِ وقال آخر: قُل لمنِ يَملك الملو ك وإن كان قد مُلِك قد شرَيناك مرّةً وبعَثْنا إليك بِك وقال آخر في الميم: رقَوْني وقالوا يا خُويلد لا ترعَ فقلت وأنكرتُ الوُجوه همُ همُ ولآخر: نَمت في الكِرام بني عامرٍ فُروعي وأصلي قُريش العَجَمْ وقال آخَر في النونِ: طَرحتم من التَرحال أمراً فَعمَنا فلو قد رحلتُم صَبّح الموتُ بَعضَنا وقال آخر: فهل يَمنعنّي ارتيادِي البِلاَ د من حَذَر الموت أن يأتينْ أليس أخو المَوت مُستوثقَاً عليّ وإنْ قلت قد أنسأن وأما الهاء. فقد أجمعوا ألا تكون رويّاً لضعفها إلا أن يكون ما قبلها ساكناً كما قد ذكرنا. ومَن بَنى شعراً على اخشَوا جاز له معها: طغوا وبغوا وعصوا فتكون الواو رويّاً لانفتاح ما قبلها وظهورها مع القبح لأنها مع الضمة صلة ولا تكون هذه إلا رويّاً. عيوب القوافي السناد والإيطاء والإقواء والإكفاء والإجازة والتضمين والإصراف. السناد على ثلاثة أوجه: فالوجه الأول منها اختلاف الحرف الذي قبل الرِّدف بالفتح والكسر نحو قول الشاعر: ألمِ تَر أَنّ تَغْلب أهلُ عِزٍّ جِبالُ مَعاقِل ما يُرتَقينَا شربنا من دِماء بني تَميم بأطراف القَنا حتى رَوِينَا والوجه الثاني اختلافُ التوجيه في الروي المُقيّد وهو اجتماع الفَتحة التي قبل الرويّ مع الكسرة والضمة كهيئتها في الحَذْو وذلك كقوله: وقاتم الأعماق خاوي المُخترقْ ثم قال: ألَّف شتَى ليس بالراعي الحَمِقْ ومثله: تَميم بن مُرّ وأشياعُها وكِنْدة حَولي جميعاً صبُر والوجه الثالث من السناد أن يُدخل حرف الرِّدف ثم يدعه نحو قول الشاعر: وبالطَّوف نالا خيرَ ما أصبحا به وما المرء إلاّ بالتقلّب والطَّوْفِ فِراق حَبيب وانتهاء عن الهَوى فلا تَعذُليني قد بدا لك ما أخفِي وأما القافية المُطلقة فليس اختلاف التوجيه فيه سناداً. وأما الإقواء والإكفاء فهما عند بعض العلماء شيء واحد وبعضهم يجعل الإقواء في العروض خاصة دون الضرب ويجعلون الإكفاء والإيطاء في الضرب دون العروض. فالإقواء عندهم أن تنقص قوة العروض فيكون: مفعولن في الكامل ويكون في الضرب متفاعلن فيزيد العجز على الصدر زيادة قبيحة. فيقال: أقوى في العروض أي أذهب قوته نحو قول الشاعر: لما رأت ماء السلى مَشروبَا والفَرث يُعْصَر في الإناء أرَنت ومثله: أفبعد مَقتل مالك بن زُهير ترجو النساء عواقبَ الأطهارِ والخليل يُسمى هذا المُقعَر. وزعم يونس أن الإكفاء عند العرب هو الإقواء. وبعضُهم يجعله تبديل القوافي مثل أن يأتي بالعين مع الغين لشبههما في الهجاء وبالدال مع الطاء لتقارب جارية من ضَبة بن أدّ كأنها في دِرْعها المنعط والخليل يُسمى هذا الإجازة. وأبو عمرو يقول: الإقواء: اختلاف إعراب القوافي بالكسر والضم والفتح. وكذلك هو عند يونس وسيبويه. والإجازة عند بعضهم اجتماع الفتح مع الضم أو الكسر في القافية. ولا تجوز الإجازة إلا فيما كان فيه لوصل هاء ساكنة نحو قول الشاعر: الحمدُ للّه الذي يَعْفو ويشتد انتقامُه في كرْههم ورِضَاهمُ لا يستطيعون اهتضامه ومثله: فديت من أنصفني في الهَوى حتى إذا أحكمه ملَّه أينما كنتُ ومَن ذا الذي قبلي صَفا العيشُ له كُلَه والإكفاء: اختلاف القوافي بالكسر والضم عند جميع العلماء بالشعر إلا ما ذكر يونس. وأما المُضمن فهو أن لا تكون القافية مُستغنيةً عن البيت الذي يليها نحو قول الشاعر: وهم وَردوا الجفار على تَميم وهم أصحابُ يوم عُكاظ إني شهدتُ لهم مَواطن صالحاتٍ تُنبِّئهم بودّ الصَّدر مِني وهذا قبيح لأنَ البيت الأول متعلق بالبيت الثاني لا يستغني عنه وهو كثير في الشعر. وأما الإيطاء وهو أحسن ما يُعاب به الشعر فهو تكرير القوافي. وكلما تباعد الإيطاء كان أحسن وليس في المعرفة مع النكرة إيطاء. وكان الخليل يزعم أن كل ما اتفق لفظُه من الأسماء والأفعال وإن اختلف معناه فهو إيطاء لأنّ الإيطاء عنده إنما هو تَرديد اللفظتين المُتفقتين من الجنس الواحد إذا قلت للرجل تخاطبه: أنت تضرب وفي الحكاية عن المرأة: هي تضرب فهو إيطاء. وكذلك في قافية: أمر جلل وأنت تريد تعظيمه وهو في قافية أخرى جلل وأنت تريد تهوينه فهو إيطاء. حتى إذا كان اسم مع فعل اسم وإن اتفقا في الظاهر فليس بإيطاء مثل يزيد وهو ويزيد وهو فعل ما يجوز في القافية من حروف اللين اعلم أنَّ القوافي التي تدخلها حروف المد وهي حروف اللين فهي كل قافية حُذف منها حرف ساكن وحركة فتقوم المدة مقام ما حذف. وهو من الطويل فعولن المحذوف ومن المديد فاعلان المقصور وفعلن الأبتر. ومن البسيط فعلن المقطوع ومفعولن المقطوع. فأما مستفعلان المذال فاختلف فيه فأجازه قوم بغير حرف مد لأنه قد تم وزيد عليه حرف بعد تمامه. وألزمه قوم المد لالتقاء الساكنين وقالوا: المدة بين الساكنين تقوم مقام الحركة. وإجازته بغير حرف مد أحسن لتمامه. وأما الوافر فلا يلزم شيء منه حرف مد. وأما الكامل فيدخل فيه حرف اللين في فعلاتن المقطوع وفي متفاعلان المذال. وأما الهزج فلا يلزمه حرف مد. وأما الرجز فيلزم مفعولن منه المقطوع حرف المد. وأما الرمل فيلزم فاعلان وحدها لالتقاء الساكنين. وأما السريع فيلزم فاعلان الموقوف لالتقاء الساكنين. وكذلك مفعولان. وأما المنسرح فيلزم مفعولات كما يلزم السريع. وأما الخفيف فإنه يلزم فعولن المقصور وإن كان قد نقص منه حرفان ليس في المدة خلف من حرفين. ولكن لما نقص من الجزء حرف وهو سين مستفعلن قام ما تخلف بالمدة مقام ما نقص من آخر الجزء لأنه بعد المَدة. وأما المضارع والمقتضب والمجتث فليس فيها حرف مد لتمام أواخرها. قال سيبويه: وكل هذه القوافي قد يجوز أن تكون بغير حرف المد لأنَ رويها تامّ صحيح على مثل حاله بحرف المَد وقد جاء مثلُ ذلك لا أشعارهم ولكنه شاذّ قليل وأن يكون بحرف المد أحسن لكثرته ولزوم الشعراء إياه. ومما قيل بغير حرف مَدّ. ولقد رحلتُ العِيس ثم زَجرتُها قُدُماً وقلتُ عليك خيرَ مَعدّ وقال آخر: إن تمنع النومَ النَساء يُمنعنْ مقطّعات على تأليف حروف الهجاء وضروب العَروض الضرب الأول من الطويل السالم وأزهرَ كالعَيّوق يَسعى بزَهراء لنا منهما داءٌ وبُرء مِنَ الدَّاءِ ألا بأبي صُدْعٌ حكَى العين عِطْفهُ وشاربُ مِسْك قد حَكى عِطفة الراء فما السحر ما يُعزَي إلى أرض بابلِ ولكن قثور اللَّحظ من طرف حَوّراء وكَفِّ أدارتْ فذْهب اللَون أصفراَ بمُذْهبة في راحة الكَف صَفراء الضرب الثاني من الطويل مقبوض معذِّبتي رِفقاً بقَلْبٍ مُعذًب وان كان يُرضيك العَذابُ فعذَبي لَعمري لقد باعدْتِ غيرَ مُباعَدٍ كما أنني قَربتُ غير مُقرَّب لو أن امرأ القيس بن حُجْر بدتْ له لما قال: مُرا بي على أم جُندب الضرب الثالث من الطويل المحذوف المعتمد محب طوى كَشْحاً على الزَّفراتِ وإنسانُ عَين خاضَ في غَمراتِ فيا مَن بِعَيْنَيه سَقامي وصِحَّتيِ وفَيِ في عيديه مِيتتِي وحَياتي بحُبك عاشرتُ الهُموم صَبابةَ كأني لها تِربٌ وهُن لِدَاتي فخدي أرضٌ. للدُمُوع ومُقْلتي سماءٌ لها تَنهْلّ بالعَبَرات الضرب الأول من المديد السالم طلق اللهوَ فؤادي ثلاثاً لا ارتجاع لي بعد الثلاثِ وبياضٌ في سَواد عِذاري بَدَل التشبيبَ لي بالمَراثي غير أنّي لا أطيق اصطباراً وأُراني صابراً لا نتكائي الضرب الثاني من المديد المقصور اللازم الثاني صدعتْ قلبيَ صَدْع الزُجاج ماله من حِيلة أو عِلاجْ مزجتْ رُوحيَ ألحاظُها بالهَوى فهو لروحي مِزاج يا قَضيباً فوق دِعْص نَقاً وكثيباً تَحت تِمثال عاج أنت نُوري في ظلام الدُجى وسِراجي عند فَقْد السَراج الضرب الثالث من المديد المحذوف اللازم الثاني مستهام دَمعه سابحُ بين جنبيه هَوىً فادح كُلما أم سَبيل الهُدى عافه السانِح والبَارح حَل فيما بين أعدائه وهُو عَن أحبابه نازح أيها القادِح نارَ الهَوى أصْلِها يأيها القادح الضرب الرابع من المديد عادَ منها كُل مطْبوخ غير داذِيّ ومَفْضوخ واعتقد مِن ود أهل الحِمى كُلَّ وُد غير مَشْدوخ وانتشقْ رياك من مُلتقى ضارب بالمِسْكِ مَلطوخ إنّ في العلم وآثاره ناسخاً من بعد مَنْسوخ الضرب الخامس من المديد المحذوف المخبون يا مُجيل الرُّوح في جَسدي والذي يَفترّ عن بَرَدِ وَفريد الحُسن واحدَه منتهاه منتهى العَدَد خُذ بكَفِّي إنني غَرِق في بِحار جَمّة المَدد ورياحُ الهَجْر قد هَدَمَت ما أقام الوَصْل من أوَدي الضرب السادس من المديد الأبتر ذكرت من طِيزَناباذِ فَقُرى الكَرْخ ببغداد مرة يهذي الحَليمُ بها بِأبي ذلك مِن هاذي فهي أستاذُ الشّراب بنا والمَعاني دأب أستاذي الضرب الأول من البسيط المخبون نُور تولّد من شَمس ومن قَمرِ في طرفه قَدر أمضىَ من القَدرِ أصْلَى فُؤادي بلا ذَنب جَوى حُرق لم يُبْق من مُهجتي شَيئاً ولم يَذَر لا والرحيق المُصفَّى من مَراشفه وما بخدَّيه من وَرْد ومن طُرر ما أنصفَ الحُبُّ قَلبي في حكومته ولا عَفا الشَوقُ عنّىِ عَفْوَ مُقتدر الضرب الثاني من البسيط المقطوع خرجتُ أجتاز قفراً غير مُجتاز فصادني أشهل العَينين كالبَازِي صَقرٌ على كفّه صَقْرٌ يؤلّفه ذا فوق بَغْلٍ وهذا فوق قُفّاز أبْكي ويَضحك منّي طرفُه هُزواً نَفسي الفِداء لذاك الضاحك الهازي الضرب الثالث من البسيط المجزوء المذال يا غُصنا مائساً بين الرِّياطْ مالي بعدك بالعيش اغتباط يا مَن إذا ما بدا لي ماشياً وَددتُ أنّ له خدّي بِساط تَترك عيناه مَن أبصره مُختلطاً عقله كُلّ اختلاط قلتُ متى نَلتقي يا سيدي قال غداً نَلتقي عند الصراط الضرب الرابع من البسيط المجزوء السالم يا ساحراً طرفُه إذ يَلحظ وفاتناً لفظُه إذ يَلفِظُ يا غصنا يَنثني من لِينه وجهُك مِن كُل عين يحفظ أيقظ طَرْفي إذ بدا مِن نعسة من طَرفه ناعسٌ مستيقظ ظَبْي له وَجْنة من رِقّة تجرحها مُقلتي إذ تَلْحظ المقطوع يا من دَمِي دونه مسفوك وكل حُرٍّ له مَملوكُ كأنه فِضِّة مَسْبوكة أو ذَهبٌ خالص مَسْبوك ما أطيبَ العَيشَ إلا أنه عن عاجل كُلّه مَتْروك والخَير مَسدودة أبوابُه ولا طَريق له مَسْلوك العروض المجزوء المقطوع ضربه مثله إليك يا غُرة الهِلال وبِدعة الحسن والجَمال مَددتُ كفِّاً بها انقباض فأين كَفِّي من الهلال شكوتُ ما بي إليك وجداً فلم تَرِقّ ولم تُبال أعاضك الله عن قَريب حالاً من السُّقم مثل حالي العروض الأول من الوافر بنفسي مَن مَراشفه مُدام وِمَنْ لحَظات مُقلته سِهامُ ومَن هو إن بدا والبدرُ تِمٌ خفِي من حسُنه البدر التمّام أقُول له وقد أَبدى صُدودا فلا لفظٌ إليّ ولا ابتسام تَكلَّم ليس يُوجعك الكَلام ولا يَمْحو محاسنُك السّلام العروض الثاني من الوافر مجزوء سالم ضربه مثله سلبتَ الرُّوح من بَدني ورُعت القلبَ بالحَزَنِ فلي بَدَن بلا رُوح وليِ رُوح بلا بَدن قرنتَ مع الرَّدَى نَفسي فنفسي وهو في قَرن فليتَ السِّحرَ من عَيْني ك لم أرَه ولم يَرَني العروض الثالث من الوافر المجزوء المعصوب فأتلع جيبه ذعرا وأشخص أيَّ إشخاص أيا مَن أَخلصتْ نَفسي هواه كُل إخلاص أطَاعك مِن صَميم القل ب عَفْواً كل مُعتاص العروض الأول من الكامل التام ضربه مثله في الكِلّة الصّفراء ريمٌ أبيضُ يَسْبي القلوبَ بمُقلتيه ويمرضُ لمَا غدا بين الحمُول مُقوّضاً كاد الفؤاد عن الحَياة يُقوّض صَد الكَرى عن جَفن عينك مُعرضاً لما رآه يَصد عنك ويُعْرِض أدّيتُ من حُبِّي إليك فريضةً إن كان حُب الخَلْق مما يُفرض الضرب الثاني المقطوعِ أومتْ إليك جُفونُها بودَاع خوْد بَدت لك مِنِ وراء قِنَاع أمّا الشباب فودّعت أيامه ووداعهنّ موكَل بوَداعِي لله أيام الصَّبا لو أنها كَرَّت عليَّ بلذّة وسَماع الضرب الثالث الأحذ المضمر أصغَى إليك بكأسه مُصغي صَلْت الجَبين مُعَقرب الصُّدغ كأس تؤلّف بالمَحبة بَيننَا طَوْراً وتَنْزغ أيْما نَزغ في رَوضة دَرجت بزهرتها الصبا والشمس في دَرج من الفَرغ فاشرَب بكفّ أغنّ عَقرب صدغه للقَلب منك مُميتة الَّلدغ الضرب الرابع الأحذ الممنوع من الإضمار العروض الثاني يا دمية نُصبت لمُعتكفِ بل ظَبية أوفت على شَرف بل دُرَّة زَهراء ما سَكَنت بَحراً ولا اكتنفت ذَرَا صَدف إنّي أتوبُ إليك مُعتَرفاً إن كنت تَقبل تَوْبَ مُعترف الضرب الخامس الأحذ المضمر يا فِتْنة بُعثت على الخَلقِ ما بينها والموتِ من فَرْقِ شَمسٌ بدتْ لك من مَغاربها يفترّه مبسمها عن البرْق ما كنتُ أحسب قبل رُؤيتها للشَّمس مُطَّلعا سوى الشَرق يا مَن يَضَنّ بفَضل نائله لوفي يَديْهِ مَفاتح الرزْق الضرب السادس المجزوء المرفل العروض الثالث - له أربعة ضروب طَلعتْ له والليلُ دَامِس شَمْسٌ تجلّت في حَنادِسْ تَختال في لِين المَجا سِد بين حارسة وحَارس يا مَن ببَهجة وَجهه يستأسِر البطلُ المُمارس الضرب السابع المجزوء المذيل دَعْ قَول واشية وواشي واجعلْهما كَلبَي هِراش واشرب مُعتَّقة تَسل سل في العِظام وفي المشاش الضرب الثامن المجزوء الصحيح ألْحاظ عيني تلتهي في رَوْض وَرْد يزدهي رتعت بها وتنزّهَت فيها ألذّ تنزه يا أيها الخَنِث الجُفو ن بنَخْوة وتكره والمكتسي غنجا أما ترثي لأشعث أمره الضرب التاسع المجزوء المقطوع إلا من سلامة الثاني أطفت شرَارةَ لَهوي ولوتْ بشدّة عَدْوِي لما سلكت عَروضَها ذهب الزحاف بحذوي يا أيها الشادي صه ليست بساعة شدو الهزج له عروض واحد وضربان ألا ياويح قلبي للش باب الغَضّ إذْ وَلى جعلت الغَيّ سِرْبالي وكان الرُّشد بي أولى بنَفْسي جائرٌ في الحُك م يُلْفَى جَوره عَدلا وليس الشهد في فِيه بأحلَى عنده مِن لا الضرب الثاني المحذوف هُنا تفنى قَوافي الشّع ر في هذا الروي قوافٍ أُلبست حَلْياً من الحُسن البدي تعالتْ عن جَرير بل زُهير بل عَدِيّ |
كتاب الياقوتة الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في أعاريض الشعر وعلل القوافي وفسرنا جميع ذلك بالمنظوم والمنثور ونحن قائلون بعون الله وإذنه في علم الغناء واختلاف الناس فيه ومن كرهه ولأي وجه كرهه ومن استحسنه ولأي وجه استحسن. وكرهنا أن يكون كتابنا هذا بعد اشتماله على فنون الآداب والحكم والنوادر والأمثال عطلا من هذه الصناعة التي هي مراد السمع ومرتع النفس وربيع القلب ومجال الهوى ومسلاة الكئيب وأنس الوحيد وزاد الراكب لعظم موقع الصوت الحسن من القلب وأخذه بمجامع النفس. قال أبو سعيد بن مسلم: قلت لابن دأب: قد أخذت من كل شيء بطرف غير شيء واحد فلا أدري ما صنعت فيه فقال: لعلك تريد الغناء قلت: أجل. قال: أما إنك لو شهدتني وأنا أترنم بشعر كثير عزة حيث يقول: وما مر من يوم علي كيومها وإن عظمت أيام أخرى وجلت لاسترخت تكتك. قال: قلت: أتقول لي هذا قال: إي والله وللمهدي أمير المؤمنين كنت أقوله. فضل الصوت الحسن قال بعض أهل التفسير في قول الله تبارك وتعالى: " يزيد في الخلق ما يشاء ": هو الصوت الحسن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري لما أعجبه حسن صوته: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود. وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم ويجري في العروق فيصفو له الدم ويرتاح له القلب وتهش له النفس وتهتز الجوارح وتخف الحركات. ومن ذلك كرهوا للطفل أن ينوم على أثر البكاء حتى يرقص ويطرب. وقالت ليلى الأخيلية للحجاج حين سألها عن ولدها وأعجبه ما رأى من شبابه: إني والله ما حملته سهوا ولا وضعته يتناً ولا أرضعته غيلا ولا أنمته مئقاً. يعني لم أنومه مستوحشا باكياً. ما حملته سهوا. تعني في بقايا الحيض. ويقال: حملت المرأة وضعا وتضعا إذا حملت في استقبال الحيض. وقولها ولا وضعته يتنا تعني منكسا. وقولها: ولا أرضعته غيلا تعني لبناً فاسداً. وزعمت الفلاسفة أن النغم فضل بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع فلما ظهر عشقته النفس وحن إليه الروح. ولذلك قال أفلاطون: لا ينبغي أن تمنع النفس من معاشقة بعضها بعضا. ألا ترى أن أهل الصناعات كلها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم ترنموا بالألحان فاستراحت لها أنفسهم. وليس من أحد كائنا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه ويعجبه طنين رأسه. ولو لم يكن من فضل الصوت إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من مأكل أو ملبس أو مشرب أو نكاح أو صيد إلا وفيها معاناة على البدن وتعب على الجوارح ما خلا السماع فإنه لا معاناة فيه على البدن ولا تعب على الجوارح وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة. فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق صلى الله عليه وسلم اصطناع المعروف وصلة الأرحام والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب. وقد يبكي الرجل بها على خطيئته ويرقق القلب من قسوته ويتذكر نعيم الملكوت وكان أبو يوسف القاضي ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء فيجعل مكان السرور به بكاءً كأنه يتذكر به نعيم الآخرة. وقال أحمد بن أبي داود: إن كنت لأسمع الغناء من مخارق عند المعتصم فيقع علي البكاء. حتى إن البهائم لتحن إلى الصوت الحسن وتعرف فضله. وقال العتابي وذكر رجلا فقال: والله إن جليسه لطيب عشرته لأطرب من الإبل على الحداء والنحل على الغناء. وكان صاحب الفلاحات يقول بأن النحل أطرب الحيوان كله إلى الغناء وأن أفراخها لا تستنزل بمثل الزجل والصوت الحسن. قال الراجز: والطير قد يسوقه للموت إصغاؤه إلى حنين الصوت وبعد: فهل خلق الله شيئاً أوقع بالقلوب وأشد اختلاساً للعقول من الصوت الحسن لا سيما إذا كان من وجه حسن كما قال الشاعر: رب سماع حسن سمعته من حسن مقرب من فرح مبعد من حزن لا فارقاني أبداً في صحة من بدني قل للجبان إذا تأخر سرجه هل أنت من شرك المنية ناجي إلا ثاب إليه روحه وقوي قلبه. أم هل على الأرض بخيل قد تقفعت أطرافه لؤماً ثم غني بقول حاتم الطائي: يرى البخيل سبيل المال واحدة إن الجواد يرى في ماله سبلا إلا انبسطت أنامله ورشحت أطرافه أم هل على الأرض غريب نازح الدار بعيد المحل يغني بشعر علي بن الجهم: يا وحشتا للغريب في البلد الن ازح ماذا بنفسه صنعا فارق أحبابه فما انتفعوا بالعيش من بعده ولا انتفعا يقول في نأيه وغربته عدل من الله كل ما صنعا إلا انقطعت كبده حنيناً إلى وطنه وتشوقاً إلى سكنه. اختلاف الناس في الغناء اختلاف الناس في الغناء فأجازه عامة أهل الحجاز وكرهه عامة أهل العراق. فمن حجة من أجازه أن أصله الشعر الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليه وندب أصحابه إليه وتجند به على المشركين. فقال لحسان: شن الغارة على بني عبد مناف فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام. وهو ديوان العرب ومقيد أحكامهم والشاهد على مكارمها. وأكثر شعر حسان بن ثابت يغنى به. قال فرج بن سلام: حدثني الرياشي عن الأصمعي قال: شهد حسان بن ثابت مأدبة لرجل من الأنصار وقد كف بصره ومعه ابنه عبد الرحمن فكلما قدم شيء من الطعام قال حسان لابنه: أطعام يد أم طعام يدين فيقول له: طعام يد. حتى قدم الشواء. فقال له: هذا طعام يدين. فقبض الشيخ يده. فلما رفع الطعام اندفعت قينةٌ لهم تغني بشعر حسان: انظر خليلي بباب جلق هل تبصر دون البلقاء من أحد جمال شعثاء قد هبطن من ال محبس بين الكثبان فالسند قال: فجعل حسان يبكي وجعل عبد الرحمن يومئ إلى القينة أن تردده. قال الأصمعي: فلا أدري ما الذي أعجب عبد الرحمن من بكاء أبيه. وقالت عائشة رضي الله عنها: علموا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم. وأردف النبي صلى الله عليه وسلم الشريد فايتنشده من شعر أمية فأنشده مائة قافية وهو يقول: هيه استحساناً لها. فلما أعياهم القدح في الشعر والقول فيه قالوا: الشعر حسن ولا نرى أن يؤخذ بلحن حسن. وأجازوا ذلك في القرآن وفي الأذان. فإن كانت الألحان مكروهة فالقرآن والأذان أحق بالتنزيه عنه. وإن كانت غير مكروهة فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن وإخراجه عن حد الخبر. وما الفرق بين أن ينشد الرجل: أتعرف رسما كاطراد المذانب مترسلاً أم يرفع بها صوته مرتجلاً. وإنما جعلت العرب الشعر موزوناً لمد الصوت فيه والدنانة. ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور. واحتجوا في إباحة الغناء واستحسانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: أهديتم الفتاة إلى بعلها قالت: نعم. قال: ويعثتم معها من يغني قالت: لا قال: أو ما علمتم أن الأنصار قوم أتيناكم أتيناكم نحييكم نحييكم ولولا الحبة السمرا ء لم نحلل بواديكم واحتجوا بحديث عبد الله بن أويس ابن عم مالك وكان من أفضل رجال الزهري قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بجارية في ظل فارع وهي تغني: هل علي ويحكم إن لهوت من حرج فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حرج إن شاء الله. والذي لا ينكره أكثر الناس غناء النصب وهو غناء الركبان. حدث عبد الله بن المبارك عن أسامة بن زيد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: مر بنا عمر بن الخطاب وأنا وعاصم بن عمر نغني غناء النصب فقال: أعيدا علي. فأعدنا عليه. فقال: أنتما كحماري العبادي وقيل له: أي حماريك شر قال: هذا ثم هذا. وسمع أنس بن مالك أخاه البراء بن مالك يغني فقال: ما هذا قال: أبيات عربية أنصبها نصبا. ومن حديث الحماني عن حماد بن زيد بن يسار قال: رأيت سعد بن أبي وقاص في منزل بين مكة والمدينة قد ألقى له مصلي فاستلقى عليه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يتغنى. فقلت: سبحان الله أبا إسحاق أتفعل مثل هذا وأنت محرم فقال: يا بن أخي وهل تسمعني أقول هجرا ومن حديث المفضل عن قرة بن خالد بن عبد الله بن يحيى قال: قال عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من هناتك. فأسمعه كلمة له. قال: وإنك لقائلها قال: نعم. قال: لطالما غنيت بها خلف جمال الخطاب. عاصم عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على ألحان الغناء والحداء. قال: وما بأس ذلك يا ابن أخي قال: وحدث عبيد بن عمير الليثي أن داود النبي عليه السلام كانت له معزفة يضرب بها إذا قرأ الزبور لتجتمع عليه الجن والإنس والطير فيبكي ويبكي من حوله. وأهل الكتاب يجدون هذا في كتبهم. ومن حجة من كره الغناء أن قال: إنه ينفر القلوب ويستفز العقول ويستخف الحليم ويبعث على اللهو ويحض على الطرب وهو باطل في أصله. وتأولوا في ذلك قول الله عز وجل: " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا ". وأخطأوا في التأويل. إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السمر والأحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن ويقولون إنها أفضل منه. وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا. وأعدل الوجوه في هذا أن يكون سبيله سبيل الشعر فحسنه حسن وقبيحه قبيح. وقد حدث إبراهيم بن المنذر الحزامي أن ابن جامع السهمي قدم مكة بمال كثير ففرقه في ضعفاء أهلها فقال سفيان بن عيينة: بلغني أن هذا السهمي قدم بمال كثير. قالوا: نعم. قال: فعلام يعطى قالوا: يغني الملوك فيعطونه. قال: وبأي شيء يغنيهم قالوا: بالشعر. قال: فكيف يقول فقال له فتى من تلاميذه: يقول: أطوف بالبيت مع من يطوف وأرفع من مئزري المسبل قال: بارك الله عليه ما أحسن ما قال! قال: ثم ماذا قال: وأسجد بالليل حتى الصباح وأتلو من المحكم المنزل قال: وأحسن أيضاً أحسن الله إليه ثم ماذا قال: عسى فارج الهم عن يوسف يسخر لي ربة المحمل قال: أمسك أمسك. أفسد آخراً ما أصلح أولاً. ألا ترى سفيان بن عيينة رحمه الله حسن الحسن من قوله وقبح القبيح. وكره الغناء قوم على طريق الزهد في الدنيا ولذاتها كما كره بعضهم الملاذ ولبس العباء وكره الحوارى وأكل الكشكار وترك البر وأكل الشعير لا على طريق التحريم فإن ذلك وجه حسن ومذهب جميل. فإنما الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله. يقول الله تعالى: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب. إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ". وقد يكون الرجل أيضاً جاهلا بالغناء أو متجاهلاً به فلا يأمر به ولا ينكره. قال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد قال: نعم العون على طاعة الله! يصل الرجل به رحمه ويواسي به صديقه. قال الرجل: ليس عن هذا أسألك. قال: وعم سألتني قال: أن يغني الرجل. قال: وكيف يغني فجعل الرجل يلوي شدقيه وينفخ منخريه. قال الحسن: والله يا بن أخي ما ظننت أن عاقلا يفعل هذا بنفسه أبداً. وإنما أنكر عليه الحسن تشويه وتعويج فمه وإن كان أنكر الغناء فإنما هو من طريق أهل العراق وقد ذكرنا أنهم يكرهونه. قال إسحاق بن عمارة: حدثني أبو المغلس عن أبي الحارث قال: اختلف في الغناء عند محمد بن إبراهيم والي مكة فأرسل إلى ابن جريج وإلى عمرو ابن عبيد فأتياه فسألهما فقال ابن جريج: لا بأس به شهدت عطاء بن أبي رباح في ختان ولده وعنده ابن سريج المغني فكان إذا غنى لم يقل له: اسكت وإذا سكت لم يقل له: غن وإذا لحن رد عليه. وقال عمرو بن عبيد: أليس الله يقول: " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ". فأيهما يكتب الغناء الذي عن اليمين أو الذي عن الشمال فقال ابن جريج: لا يكتبه واحد منهما لأنه لغو كحديث الناس فيما بينهم من أخبار جاهليتهم وتناشد أشعارهم. وقال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي أبو يوسف القاضي: ما أعجب أمركم يأهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم من شريف ولا دنيء يتحاشى عنها. قال: فغضبت وقلت: قاتلكم الله يأهل العراق! ما أوضح جهلكم وأبعد من السداد رأيكم! متى رأيت أحدا سمع الغناء فظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر فيترك أحدهم صلاته ويطلق امرأته ويقذف المحصنة من جاراته ويكفر بربه فأين هذا من هذا من اختار شعراً جيداً ثم اختار له جرماً حسناً فردده عليه فأطربه وأبهجه فعفا عن الجرائم وأعطى الرغائب. فقال أبو يوسف: قطعتني ولم يحر جواباً. قال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي الرشيد: من بالمدينة ممن يحرم الغناء قال: قلت: من أتبعه الله خزيته. قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه. قلت: يا أمير المؤمنين أو لمالك أن يحرم ويحلل! والله ما كان ذلك لابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من ربه فمن جعل هذا لمالك فشهادتي على أبي أنه سمع مالكا في عرس ابن حنظلة الغسيل يتغنى: سليمى أزمعت بينا فأين تظنها أينا ولو سمعت مالكا يحرمه ويدي تناله لأحسنت أدبه. قال فتبسم الرشيد. وعن أبي شعيب الحراني عن جعفر بن صالح بن كيسان عن أبيه قال: كان عبد الله بن عمر يحب عبد الله بن جعفر حبا شديدا. فدخل عليه يوماً وبين يديه جارية في حجرها عود فقال: ما هذا يا أبا جعفر. قال: وما تظن به يا أبا عبد الرحمن فإن أصاب ظنك فلك الجارية. قال: ما أراني إلا قد أخذتها هذا ميزان رومي. فضحك ابن جعفر وقال: صدقت. هذا ميزان يوزن به الكلام والجارية لك. ثم قال: هاتي. فغنت: أيا شوقا إلى البلد الأمين وحي بين زمزم والجحون ثم قال: هل ترى بأساً قال: لا. قال: فما أرى بهذا بأساً. وسمع عبد الله بن عمر ابن محرز يغني: لو بدلت أعلى منازلها سفلاً وأصبح سفلها يعلو فقال عبد الله بن عمر: قل: إن شاء الله. قال: يفسد المعنى. قال: لا خير في كل معنى يفسده إن شاء الله. حدث محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة قال: حدثني الشرقي عن الأصمعي قال. سمع عمر بن عبد العزيز راكباً يغني في سفره: فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبق العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكري إذا نادى المضاف محنباً كسيد الغضا في الطخية المتورد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الطراف المدد فقال عمر بن عبد العزيز: وأنا لولا ثلاث لم أحفل متى قام عودي: لولا أن أنفر في السرية وأقسم بالسوية وأعدل في القضية. قال جرير المدني: مررت بالأسلمي العابد وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لي فسلمت عليه فأوما إلى وأشار بالجلوس فجلست. فلما سلم أخذ بيدي وأشار إلى حلقي وقال: كيف هو قلت: أحسن ما كان قط. قال: أما والله لوددت أنه خلا لي وجهك وأنك أسمعتني: أصبح الربع من أمامة قفراً غير مغنى معارف ورسوم قلت: إذا شئت. قال: في غير هذا الوقت إن شاء الله. وحدث أبو عبد الله المروزي بمكة في المسجد الحرام قال: حدثنا حبان بن موسى وسويد صاحبا ابن المبارك قالا: لما خرج ابن المبارك إلى الشام مرابطا خرجنا معه فلما نظر القوم إلى ما فيه من النفير والغزو والسرايا في كل يوم التفت إلينا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها وأيام وليال قد قطعناها في علم الشعر وتركنا هاهنا أبواب الجنة مفتوحة. قال: فبينما هو يمشي ونحن معه في أرقة المصيصة إذا نحن بسكران قد رفع صوته يغني: أذلني الهوى فأنا الذليل وليس إلى الذي أهوى سبيل فأخرج رزنامجا من كمه فكتب البيت. فقلنا له: أتكتب بيت شعر سمعته من سكران قال: أما سمعتم المثل: رب جوهرة في مزبلة قال: وولي الأوقص المخزومي قضاء مكة فما رئي مثله في العفاف والنبل. فبينما هو نائم ذات ليلة في علية له إذ مر به سكران يتغنى ويلحن في غنائه. فأشرف المخزومي عليه فقال: يا هذا شربت حراماً وأيقظت نياماً وغنيت خطأ خذه عني فأصلحه عليه. قال: الأوقص المخزومي: قالت لي أمي: أي بني إنك خلقت في صورة لا تصلح معها لمجامعة الفتيان في بيوت القيان فعليك بالدين فإن الله يرفع به الخسيسة ويتم به النقيصة. فنفعني الله بقولها. وحدث عباس بن المفضل قاضي المدينة قال: حدثني الزبير بن بكار: قاضي مكة عن مصعب بن عبد الله قال: دخل الشعبي على بشر بن مروان وهو والي العراق لأخيه عبد الملك بن مروان وعنده جارية في حجرها عود. فلما دخل الشعبي أمرها فوضعت العود. فقال له الشعبي: لا ينبغي للأمير أن يستحي من عبده. قال: صدقتم. ثم قال للجارية: هاتي ما عندك فأخذت العود وغنت: ومما شجاني أنها يوم ودعت تولت وماء العين في الجفن حائر فلما أعادت من بعيد بنظرة إلي التفاتاً أسلمته المحاجر فقال الشعبي: الصغير أكيسهما يريد الزير. ثم قال: يا هذه أرخي من بمك وشدي من زيرك. فقال له بشر بن مروان: وما علمك قال: أظن العمل فيهما. قال: صدقت ومن لم ينفعه يقينه. وحدث عن أبي عبد الله البصري قال: غنى رجل في المسجد الحرام وهو مستلق على قفاه صوتا ورجل من قريش يصلي في جواره فسمعه خدام المسجد فقالوا: يا عدو الله أتغني في المسجد الحرام! ورفعوه إلى صاحب الشرطة. فتجوز القرشي في صلاته ثم سلم وأتبعه فقال لصاحب الشرطة: كذبوا عليه أصلحك الله إنما كان يقرأ. فقال: يا فساق أتأتوني برجل قرأ القرآن تزعمون أنه غنى! خلوا سبيله. فلما خلوه قال له القرشي: والله لولا أنك أحسنت وأجدت ما شهدت لك اذهب راشدا. وكان لأبي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب. وكان أبو حنيفة يحيي الليل بالقيام ويحييه جاره الكيال بالشراب ويغني على شرابه: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر فأخذه العسس ليلة فوقع في الحبس وفقد أبو حنيفة صوته واستوحش له. فقال لأهله: ما فعل جارنا الكيال قالوا: أخذه العسس فهو الحبس. فلما أصبح أبو حنيفة وضع الطويلة على رأسه وخرج حتى أتى باب عيسى بن موسى فاستأذن عليه. فأسرع في إذنه. وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي الملوك. فأقبل عليه عيسى بوجهه وقال: أمر ما جاء بك يا أبا حنيفة قال: نعم أصلح الله الأمير جارٌ لي من الكيالين أخذه عسس الأمير ليلة كذا فوقع في حبسك. فأمر عيسى بإطلاق كل من أخذ في تلك الليلة إكراماً لأبي حنيفة. فأقبل الكيال على أبي حنيفة متشكراً له. فلما رآه أبو حنيفة قال: أضعناك يا فتى يعرض له بقصيدته. قال: لا والله الأصمعي قال: قدم عراقي بعدل من خمر العراق إلى المدينة فباعها كلها إلا السود. فشكا ذلك إلى الدارمي وكان قد تنسك وترك الشعر ولزم المسجد. فقال: ما تجعل لي على أن احتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها على حكمك قال: ما شئت قال: فعمد الدارمي إلى ثياب نسكه فألقاها عنه وعاد إلى مثل شأنه الأول وقال: شعراً ورفعه إلى صديق له من المغنين فغنى به وكان الشعر: قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بزاهد متعبد قد كان شمر للصلاة ثيابه حتى خطرت له بباب المسجد ردي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحق دين محمد فشاع هذا الغناء في المدينة وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشق صاحبه الخمار الأسود. فلم تبق مليحة بالمدينة إلا اشترت خماراً أسود وباع التاجر جميع ما كان معه. فجعل إخوان الدارمي من النساك يلقون الدارمي فيقولون: ماذا صنعت فيقول: ستعلمون نبأه بعد حين. فلما أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه. وحدث عبد الله بن مسلمة بن قتيبة ببغداد قال: حدثني سهل عن الأصمعي قال: كان عروة بن أذينة يعد ثقةً ثبتاً في الحديث روى عنه مالك ابن أنس وكان شاعراً لبقاً في شعره غزلاً وكان يصوغ الألحان والغناء على شعره في حداثته وينحلها المغنين فمن ذلك قوله وغنى به الحجازيون: يا ديار الحي بالأجمه لم يبين رسمها كلمه وهو موضع صوته. ومنه قوله: قالت وأبثثتها وجدي وبحت به قد كنت عندي تحت الستر فاستتر ألست تبصر من حولي فقلت لها غطى هواك وما ألقى على بصري قال: فوقفت عليه امرأة وحوله التلامذة فقالت: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت القائل: إذا وجدت أوار الحب في كبدي عمدت نحو سقاء القوم أبترد هبني بردت ببرد الماء ظاهره فمن لنار على الأحشاء تتقد لا والله ما قال هذا رجل صالح قط. قال: وكان عبد الرحمن بن عبد الله الملقب بالقس عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح في العبادة وأنه مر يوماً بسلامة وهي تغني فقام يستمع غناءها. فرآه مولاه فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع فأبى. فلم يزل به حتى دخل. فقال له: أوقفك في موضع بحيث تراها ولا تراك فغنته فأعجبته فقال له مولاها: هل لك في أن أحولها إليك فأبى ذلك عليه فلم يزل به حتى أجابه. فلم يزل يسمعها ويلاحظها النظر حتى شغف بها. ولما شعرت للحظه إياها غنته: رب رسولين لنا بلغا رسالة من قبل أن يبرحا لم يعملا خفاً ولا حافراً ولا لساناً بالهوى مفصحا حتى استقلا بجوابيهما بالطائر الميمون قد أنجحا الطرف والطرف بعثناهما فقضيا حاجاً وما صرحا قال: فأغمي عليه وكاد أن يهلك. فقالت له يوماً: إني والله أحبك. قال لها: وأنا والله أحبك. قالت: وأحب أن أضع فمي على فمك. قال: وأنا والله. قالت فما يمنعك من ذلك قال: أخشى أن تكون صداقة ما بيني وبينك عداوةً يوم القيامة أما سمعت الله تعالى يقول: " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ". ثم نهض وعاد إلى طريقته التي كان عليها وأنشأ يقول: قد كنت أعذل في السفاهة أهلها فاعجب لما تأتي به الأيام فاليوم أعذرهم وأعلم أنما سبل الضلالة والهدى أقسام وله فيها: إن سلامة التي أفقدتني تجلدي لجرير وللغري ض وللقرم معبد خلتهم بين عودها والدساتين واليد أخبار عبد الله بن جعفر حدث سعيد بن محمد العجلي بعمان قال: حدثني نصر بن علي عن الأصمعي قال: كان معاوية يعيب على عبد الله بن جعفر سماع الغناء. فأقبل معاوية عاماً من ذلك حاجاً فنزل المدينة فمر ليلةً بدار عبد الله بن جعفر فسمع عنده غناءً على أوتار فوقف ساعة يستمع ثم مضى وهو يقول: أستغفر الله أستغفر الله. فلما انصرف من آخر الليل مر بداره أيضاً فإذا عبد الله قائم يصلي فوقف ليستمع قراءته فقال: الحمد لله ثم نهض وهو يقول: " خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم " فلما بلغ ابن جعفر ذلك أعد له طعاماً ودعاه إلى منزله وأحضر ابن صياد المغني ثم تقدم إليه يقول: إذا رأيت معاوية واضعا يده في الطعام فحرك أوتارك وغن. فلما وضع معاوية يده في الطعام حرك ابن صياد أوتاره وغنى بشعر عدي ابن زيد وكان معاوية يعجب به: يا لبينى أوقدي النارا إن من تهوين قد حارا رب نار بت أرمقها تقضم الهندي والغارا ولها ظبي يؤججها عاقد في الخصر زنارا قال: فأعجب معاوية غناؤه حتى قبض يده عن الطعام وجعل يضرب برجله الأرض طرباً. فقال له عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين إنما هو مختار الشعر يركب عليه مختار الألحان فهل ترى به بأساً قال: لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان. قال: وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية بالشام فأنزله في دار عياله وأظهر من إكرامه وبره ما كان يستحقه. فغاظ ذلك فاختة بنت قرظة زوجة معاوية فسمعت ذات ليلة غناءً عند عبد الله بن جعفر فجاءت إلى معاوية فقالت: هلم فاسمع ما في منزل هذا الذي جعلته بين لحمك ودمك وأنزلته في دار محرمك. فجاء معاوية فسمع شيئاً حركه وأطربه وقال: والله إني لأسمع شيئاً تكاد الجبال تخر له وما أظنه إلا من تلقين الجن ثم انصرف. فما كان من آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله وهو قائم يصلي. فأنبه فاختةً وقال لها: اسمعي مكان ما أسمعتني هؤلاء قومي ملوك بالنهار رهبان بالليل. ثم إن معاوية أرق ذات ليلة فقال لخادمه خديج: اذهب فانظر من عند عبد الله وأخبره بخروجي إليه فذهب فأخبره. فأقام كل من كان عنده ثم جاء معاوية فلم ير في المجلس غير عبد الله فقال: مجلس من هذا قال: مجلس فلان. قال معاوية: مره يرجع إلى مجلسه ثم قال: مجلس من هذا قال: مجلس فلان. قال: مره يرجع إلى مجلسه حتى لم يبق إلا مجلس رجل. فقال: مجلس من هذا قال: مجلس رجل يداوي الآذان يا أمير المؤمنين. قال له معاوية: فإن أذني عليلة فمره فليرجع إلى موضعه وكان موضع بديح المغني. فأمره ابن جعفر فرجع إلى موضعه. فقال له معاوية: داو أذني من علتها. فتناول العود ثم غنى: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدارج فالمتثلم فحرك عبد الله بن جعفر رأسه. فقال معاوية: لم حركت رأسك يا بن جعفر قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين لو لقيت عندها لأبليت ولئت سئلت عندها لأعطيت وكان معاوية قد خضب فقال ابن جعفر لبديح: هات غير هذا وكانت عند معاوية جارية أعز جواريه عنده كانت متولية خضابه. فغناه بديح: أليس عندك شكر للتي جعلت ما ابيض من قادمات الشعر كالحمم وجددت منك ما كان أخلقه صرف الزمان وطول الدهر والقدم فطرب معاوية طرباً شديداً وجعل يحرك رجله. فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين سألتني عن تحريك رأسي فأخبرتك وأنا أسألك عن تحريك رجلك. فقال معاوية: كل كريم طروب. ثم قام وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتيه أذني. فبعث إلى جعفر بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب من خاص ثيابه وإلى كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب. وعن ابن الكلبي والهيثم بن عدي قالا: بينا عبد الله بن جعفر في بعض أزقة المدينة إذ سمع غناء فأصغى إليه فإذا بصوت شجي رقيق لقينة تغني: قل للكرام ببابنا يلجوا ما في التصابي على الفتى حرج فنزل عبد الله عن دابته ودخل على القوم بلا إذن. فلما رأوه قاموا إليه إجلالاً له ورفعوا مجلسه. ثم أقبل عليه صاحب المنزل فقال: يا بن عم رسول الله دخلت منزلنا بلا إذن وما كنت لهذا بخليق. فقال عبد الله: لم أدخل إلا بإذن. قال: ومن أذن لك: قال: قينتك هذه سمعتها تقول: قل للكرام ببابنا يلجوا فولجنا فإن كنا كراماً فقد أذن لنا وإن كنا لئاماً خرجنا مذمومين. فضحك صاحب المنزل وقال: صدقت جعلت فداك ما أنت إلا من أكرم الأكرمين. ثم بعث عبد الله إلى جارية من جواريه فجاءت فقال لها: غني. فغنت. فطرب القوم وطرب عبد الله. فدعا بثياب وطيب فكسا القوم وصاحب المنزل وطيبهم ووهب له الجارية وقال له: هذه أحذق بالغناء من جاريتك. ذكر رجل من أهل المدينة أن ابن أبي تيق - وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - دخل على عائشة أم المؤمنين وهي عمته فوضع رأسه في حجرها أو على ركبتها ثم رفع عقيرته يتغنى: ومقيد حجل جررت برجله بعد الهدوء له قوائم أربع فاطرب زمان اللهو من زمن الصبا وانزع إذا قالوا أبي لك منزع فليأتين عليك يوما مرة يبكى عليك مقنعاً لا تسمع قالت له عائشة: يا بني فتق ذلك اليوم. حدث أبو عبد الله محمد بن عرفة بواسط قال حدثني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار عن سليمان بن عباس السعدي عن السائب رواية كثير قال: قال لي كثير يوماً: قم بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنده. قال: فجئناه فوجدنا عنده ابن معاذ المغني فلما رأى كثيراً قال لابن أبي عتيق: ألا أغنيك بشعر كثير فاندفع يغني بشعره حيث يقول: أبائنة سعدى نعم ستبين كما انبت من حبل القرين قرين أإن ذم أجمال وفارق جيرة وصاح غراب البين أنت حزين فأخلفن ميعادي وخن أمانتي وليس لمن خان الأمانة دين فالتفت ابن أبي عتيق إلى كثير فقال: وللدين صحبتهن يا بن أبي جمعة ذاك والله أشبه بهن وأدعى للقلوب إليهن وإنما يوصفن بالبخل والامتناع وليس بالأمانة والوفاء. وابن قيس الرقيات أشعر منك حيث يقول: حبذا الإدلال والغنج والتي في طرفها دعج والتي إن حدثت كذبت والتي في ثغرها فلج خبروني هل على رجل عاشق في قبلة حرج فقال كثير: قم بنا من عند هذا ثم نهض. وقال عبد الله بن جعفر لابن أبي عتيق: لو غنتك فلانة جاريتي صوتاً ما أدركتك ذكاتك. قال ابن أبي عتيق: قل لها تفعل وليس عليك إن مت ضمان. فأخذه بيده عبد الله بن جعفر وأدخله منزله ثم أمر الجارية فخرجت وقال لها: هات فغنت: بهواك صيرني العذول نكالا وجد السبيل إلى المقال فقالا ونهيت نومي عن جفوني فانتهى وأمرت ليلي أن يطول فطالا قال: فرمى بنفسه ابن أبي عتيق إلى الأرض وقال: فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمغتر. أبو القاسم جعفر بن محمد قال: لما وصف عبد الله بن جعفر لعبد الملك بن مروان ابن أبي عتيق وحدثه عن إقلاله وكثرة عياله أمره عبد الملك بن مروان أن يبعث به إليه. فأعلمه ابن جعفر بما دار بينه وبين عبد الملك وبعثه إليه. فدخل ابن أبي عتيق على عبد الملك فوجده جالساً بين جاريتين قائمتين عليه يميسان كغصني بانٍ بيد كل جارية مروحة تروح بها عليه مكتوب بالذهب على المروحة الأولى: إنني أجلب الريا ح وبي يلعب الخجل وحجاب إذا الحب يب ثنى الرأس للقبل وغياث إذا الندي م تغنى أو ارتجل وفي المروحة الأخرى: أنا في الكف لطيفة مسكني قصر الخليفة أنا لا أصلح إلا لظريف أو ظريفه أو وصيف حسن القد شبيه بالوصيفه قال ابن أبي عتيق: فلما نظرت إلى الجاريتين هونتا الدنيا علي وأنستاني سوء حالي وقلت: إن كانتا من الإنس فما نساؤنا إلا من البهائم. فكلما كررت بصري فيهما تذكرت الجنة فإذا تذكرت امرأتي وكنت لها محبا تذكرت النار. قال: فبدأ عبد الملك يتوجع إلي بما حكى له ابن جعفر عني ويخبرني بما لي عنده من جميل الرأي. فأكذبت له كل ما حكاه له ابن جعفر عني ووصفت له نفسي بغاية الملاء والجدة. فامتلأ عبد الملك سروراً بما ذكرت له وغما بتكذيب ابن جعفر. فلما عاد إليه ابن جعفر عاتبه عبد الملك على ما حكاه عني وأخبره بما حليت به نفسي. فقال: كذب والله يا أمير المؤمنين وإنه أحوج أهل الحجاز إلى قليل فضلك فضلاً عن كثيره. ثم خرج عبد الله فلقيني فقال: ما حملك أن كذبتني عند أمير المؤمنين قلت: أفكنت تراني تجلسني بين شمس وقمر ثم أتفاقر عنده! لا والله ما رأيت ذلك لنفسي وإن رأيته لي. فلما أعلم بذلك عبد الله بن جعفر عبد الملك بن مروان قال: فالجاريتان له. قال: فلما صارتا إلي زرت عبد الله بن جعفر فوجدته قد امتلأ فرحاً وهو يشرب وبين يديه عس فيه عسل ممزوج بمسك وكافور. فقال: مهيم. قلت: قد والله قبضت الجاريتين. قال: فاشرب. فتناولت العس فجرعت منه جرعة. فقال لي: زد. فأبيت عليه. فقال لجارية له عنده تغنيه: إن هذا قد حاز اليوم غزالتين من عند أمير المؤمنين فخذي في نعتهما فإنهما كما فلكت صدورهما. فحركت الجارية العود ثم غنت. عهدي بها في الحي قد جردت زهراء مثل القمر الضامر لو أسند ميتاً إلى صدرها قام ولم ينقل إلى قابر حتى يقول الناس مما رأوا يا عجباً للميت الناشر قال: فلما سمعت الأبيات طربت ثم تناولت العس فشربت عللاً بعد نهل ورفعت عقيرتي أغني: سقوني وقالوا لا تغني ولو سقوا جبال حنين ما سقوني لغنت قال: وخرج أبو السائب وابن أبي عتيق يوماً يتنزهان في بعض نواحي مكة فنزل أبو السائب ليبول وعليه طويلته فانصرف دونها. فقال له ابن أبي عتيق: ما فعلت طويلتك قال: ذكرت قول كثير: أرى الإزار على لبنى فأحسده إن الإزار على ما ضم محسود فتصدقت بها على الشيطان الذي أجرى هذا البيت على لسانه. فأخذ ابن أبي عتيق طويلته فرمى بها وقال: أتسبقني أنت إلى بر الشيطان سمع سليمان بن عبد الملك مغنيا في عسكره فقال: اطلبوه. فجاؤوا به. فقال: أعد علي ما تغنيت به. فغنى واحتفل. وكان سليمان أغير الناس فقال لأصحابه: وكأنها والله جرجرة الفحل في الشول. وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت. وأمر به فخصي. وقالوا: إن الفرزدق قدم المدينة على الأحول بن محمد بن عبد الله ابن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي حمت لحمه الدبر فقال الأحوص: ألا أسمعك غناء قال: تغن. فغناه: أتنسى إذ تودعنا سليمى بعود بشامة سقي البشام بنفسي من تجنبه عزيز علي ومن زيارته لمام ومن أمسي وأصبح لا أراه ويطرقني إذا هجع النيام فقال الفرزدق: لمن هذا الشعر قال: لجرير. ثم غناه: إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلاً بعينك ما يزال معيناً غيض من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا فقال: لمن هذا الشعر فقال لجرير ثم غناه: أسرى لخالدة الخيال ولا أرى شيئاً ألذ من الخيال الطارق إن البلية من يمل حديثه فانقع فؤادك من حديث الومق فقال: لمن هذا الشعر فقال: لجرير. فقال: ما أحوجه مع عفافه إلى خنوثة شعري وما أحوجني مع فسوقي إلى رقة شعره. وقال جرير: والله لولا ما شغلت به من هذه الكلاب لشببت تشبيباً تحن منه العجوز إلى أيام شبابها حنين الجمل إلى عطنه. وقال: الأحوص يوماً لمعبد: امض بنا إلى عقيلة حتى نتحدث إليها ونسمع من غنائها وغناء جواريها. فمضيا فألفيا على بابها معاذاً الأنصاري وابن صياد. فاستأذنوا عليها فأذنت لهم إلا الأحوص فإنها قالت: نحن على الأحوص غضاب. فانصرف الأحوص وهو يلوم أصحابه على استبدادهم بها وقال: شنت عقيلة عنك اليوم بالزاد وآثرت حاجة الساري على الغادي قولا لمنزلها حييت من طلل وللعقيق ألا حييت من وادي إذاً وهبت نصيبي من مودتها لمعبد ومعاذ وابن صياد وجعل رجل يترنم في مسجد المدينة ورجل من قريش يسمع فأخذه بعض القومة فقالوا: يا عدو الله أتغني في المسجد الحرام! وذهبوا به إلى صاحب الحكم. وأتبعهم القرشي فقال لصاحب الحكم: أصلحك الله إنما كان يقرأ. فأطلق سبيله. فقال له القرشي: والله لولا أنك أحسنت في غنائك وأقمت دارات معبد لكنت عليك أشد من الأعوان. والصوت المنسوب إلى دارات معبد قول أعشى بكر: ويروى أن معبداً دخل على قتيبة بن مسلم والي خراسان وقد فتح خمس مدائن فجعل يفخر بها عند جلسائه. فقال له معبد: والله لقد صغت بعدك خمسة أصوات إنها لأكثر من خمس المدائن التي فتحت. والأصوات هي: الأول: ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعاً أيها الرجل والثاني: هريرة ودعها وإن لام لائم غداة غد أم أنت للبين واجم والثالث: ودع لبانة قبل أن ترتحلا واسبل فإن سبيله أن يسبلا والرابع: لعمري لئن شطت بعثمة دارها لقد كدت من وشك الفراق أليح والخامس: تغذ بي الشهباء نحو ابن جعفر سواء عليها ليلها ونهارها أصل الغناء ومعدنه قال أبو المنذر هشام بن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج. فأما النصب فغناء الركبان والقينات. وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات. وأما الهزج فالخفيف كله وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم. وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهرا فاشياً وهي المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة وهذه القرى مجامع أسواق العرب. وقيل إن أول من صنع العود لامك بن قابيل بن آدم وبكى به على والده. ويقال: إن صانعه بطليموس صاحب كتاب الموسيقى وهو كتاب اللحون الثمانية. وكان أول من غنى في العرب قينتان لعاد يقال لهما الجرادتان ومن غنائهما: ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما وإنما غنتا بهذا حين حبس عنهما المطر. وكانت العرب تسمي القينة الكرينة والعود الكران. والمزهر أيضا هو العود وهو البربط وكان أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق طويس وهو علم ابن سريج والدلال ونومة الضحى وكان يكنى أبا عبد النعيم ومن غنائه وهو أول صوت قد براني الشوق حتى كدت من شوقي أذوب أخبار المغنين أولهم: طويس وكان في أيام عثمان رضي الله عنه. حدثنا جعفر بن محمد قال: لما ولي أبان بن عثمان بن عفان المدينة لمعاوية بن أبي سفيان قعد في بهوٍ له عظيم واصطف له الناس فجاءه طويس المغني وقد خضب يديه غمساً واشتمل على دف له وعليه ملاءة مصقولة فسلم ثم قال: بأبي وأمي يا أبان الحمد لله الذي أرانيك أميراً على المدينة إني نذرت لله فيك نذراً إن رأيتك أن أخضب يدي غمسا وأشتمل على دفي وآتي مجلس إمارتك وأغنيك صوتاً. قال: فقال: يا طويس ليس هذا موضع ذاك. قال: بأبي أنت وأمي يا بن الطيب أبحني. قال: هات يا طويس. فحسر عن ذراعيه وألقى رداءه ومشى بين السماطين وغنى: ما بال أهلك يا رباب خزراً كأنهم غضاب قال: فصفق أبان بيديه ثم قام عن مجلسه فاحتضنه وقبل بين عينيه وقال: يلومونني على طويس! ثم قال له: من أسن أنا وأنت قال: وعيشك لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى وعن ابن الكلبي قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الحج وهو والي المدينة وخرج الناس معه وكان فيمن خرج بكر بن إسماعيل الأنصاري وسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فلما انصرفا راجعين مرا بطويس المغني فدعاهما إلى النزول عنده. فقال بكر بن إسماعيل: قد البعير إلى منزلك. فقال له سعيد بن عبد الرحمن: أتنزل على هذا المخنث فقال: إنما هو منزل ساعة ثم نذهب. فاحتمل طويس الكلام على سعيد. فأتيا منزله فإذا هو قد نظفه ونجده فأتاهما بفاكهة الشام فوضعها بين أيديهما فقال له بكر بن إسماعيل: ما بقي منك يا طويس قال: بقي كلي يا أبا عمرو. قال: أفلا تسمعنامن بقاياك قال: نعم. ثم دخل خيمته فأخرج خريطة وأخرج منها دف ثم نقر وغنى: يا خليلي نابني سهدي لم تنم عيني ولم تكد كيف تلحوني على رجل مؤنس تلتذه كبدي مثل ضوء البدر صورته ليس بالزميلة النكد من بني آل المغيرة لا خامل نكس ولا جحد نظرت عيني فلا نظرت بعده عيني إلى أحد ثم ضرب بالدف الأرض والتفت إلى سعيد بن عبد الرحمن فقال: يا أبا عثمان أتدري من قائل هذا الشعر قال: لا. قال: قالته خوله بنت ثابت عمتك في عمارة بن الوليد بن المغيرة ونهض. فقال له بكر: لو لم تقل ما قلته لم يسمعك ما أسمعك. وبلغت القصة عمر بن عبد العزيز فأرسل إليهما فسألهما فأخبراه فقال: واحدة بأخرى والبادي أظلم. الأصمعي قال: حدثني رجل من أهل المدينة قال: كان طويس يتغنى في عرس رجل من الأنصار فدخل النعمان بن بشير العرس وطويس يتغنى: أجد بعمرة غنيانها فتهجر أم شاننا شانها وعمرة من سروات النسا ء تنفح بالمسك أردانها فقيل له: اسكت اسكت - لأن عمرة أم النعمان بن بشير - فقال النعمان: إنه لم يقل بأسا إنما قال: وعمرة من سروات النسا ء تنفح بالمسك أردانها وكان مع طويس بالمدينة ابن سريج والدلال ونومة الضحى ومنه تعلموا. ثم نجم بعد هؤلاء سلم الخاسر وكان في صحبة عبد الله بن جعفر. وعنه أخذ معبد الغناء. ثم كان ابن أبي السمح الطائي وكان يتيماً في حجر عبد الله بن جعفر وأخذ الغناء عن معبد وكان لا يضرب بعود إنما يغني مرتجلاً. فإذا غنى لمعبد صوتاً حققه ويقول: قال الشاعر فلان نام صحبي ولم أنم لخيال بنا ألم إن نام في القصر غادة كحلت مقلتي بدم وكان معبد والغريض بمكة. ولمعبد أكثر الصناعة الثقيلة. ولما قدمت سكينة بنت الحسين عليهما السلام مكة أتاها الغريض ومعبد فغنياها: عوجي علينا ربة الهودج إنك إلا تفعلي تحرجي قالت: والله ما لكما مثل إلا الجدي الحار والبارد ولا يدرى أيهما أطيب. قال إسحاق بن إبراهيم: شهد الغريض ختاناً لبعض أهله فقال له بعض القوم: غن. فقال: هو ابن الزانية إن غنى. قال له مولاه: فأنت والله ابن الزانية فغن. قال: أكذلك أبا عبدل قال: نعم: قال: أنت أعلم. فغنى: وما أنس م الأشياء لا أنس شادناً بمكة مكحولاً أسيلاً مدامعه تشرب لون الرازقي بياضه وبالزعفران خالط المسك رادعه فلوت الجن عنقه فمات. وقال غير إسحاق: بل غنى: أمن مكتومة الطلل يلوح كأنه خلل لقد نزلوا قريباً من ك لو نفعوك إذ نزلوا ثم نجم ابن طنبورة وأصله من اليمن وكان أهزج الناس وأخفهم غناء ومن غنائه: وفتيان على شرف جميعاً دلفت لهم بباطية تدور كأني لم أصد فيهم بباز ولم أطعم بعرصتهم صقوري فلا تشرب بلا لهوٍ فإني رأيت الخيل تشرب بالصفير ويقال إنه حضر مجلساً لرجل من الأشراف إلى أن دخل عليهم صاحب المدينة. فقيل له: غن فغنى: ويلي من الحية ويل ليه قد عشش الحية في بيتيه فضحك صاحب المدينة ووصله. ومنهم: حكم الوادي وكان في صحبة الوليد بن يزيد ويغني بشعره ومن غنائه: خف من دار جيرتي باين داود أنسها قد دنا الصبح أو بدا وهي لم يقض لبسها فمتى تخرج العرو س لقد طال حبسها خرجت بين نسوةٍ أكرم الجنس جنسها وكان بالشام أيام الوليد بن يزيد مغن يقال له الغزيل ويكنى أبا كامل وفيه يقول الوليد بن من مبلغ عني أبا كامل أني إذا ما غاب كالهامل ومن غنائه: أمدح الكأس ومن أعملها واهج قوماً قتلونا بالعطش إنما الكأس ربيع باكر فإذا ما لم نذقها لم نعش وكان لهارون الرشيد جماعة من المغنين منهم إبراهيم الموصلي وابن جامع السهمي ومخارق وطبقة أخرى دونهم منهم: زلزل وعمرو الغزال وعلوية. وكان له زامر يقال له برصوما. وكان إبراهيم أشدهم تصرفاً في الغناء. وابن جامع أحلاهم نغمة. فقال الرشيد يوماً لبرصوما: ما تقول في ابن جامع فقال: يا أمير المؤمنين وما أقول في العسل الذي حيثما ذقته فهو طيب قال: فإبراهيم الموصلي قال: هو بستان فيه جميع الثمار والرياحين. قال: فعمرو الغزال قال: هو حسن الوجه يا أمير المؤمنين. قال إسحاق: قلت ليوسف: من أحسن الناس غناء قال: ابن محرز. قلت: وكيف ذلك قال: إن شئت أجملت وإن شئت فصلت. قلت: أجمل قال: كان يغني كل إنسان بما يشتهي كأنه خلق من قلب كل إنسان. وكان إبراهيم أول من وقع بالقضيب. وحديث يحيى بن محمد قال: بينا نحن على باب الرشيد ننتظر الإذن إذ خرج الآذن فقال لنا: أمير المؤمنين يقرئكم السلام. قال: فانصرفنا. فقال لنا إبراهيم: تصيرون إلى منزلي قال: فانصرفنا معه. قال: فدخلت دارا لم أر أشرف منها ولا أوسع وإذا أنا بأفرشة خز مظهرة بالسنجاب. قال: فقعدنا ثم دعا بقدح كبير فيه نبيذ وقال: اسقني بالكبير إني كبير إنما يشرب الصغير صغير ثم قال: اسقني قهوة بكوب كبير ودع الماء كله للحمير ثم شرب به وأمر به فملئ وقال لنا: إن الخيل لا تشرب إلا بالصفير. ثم أمر بجوارٍ فأحطن بالدار. فما شبهت أصواتهن إلا بأصوات طير من أجمة يتجاوبن. وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: لما أفضت الخلافة إلى المأمون أقام عشرين شهراً لم يسمع حرفاً من الغناء ثم كان أول من تغنى بحضرته أبو عيسى. ثم واظب على السماع وسأل عني فجرحني عنده بعض من حسدني فقال: ذلك رجل يتيه على الخلافة. فقال المأمون: ما أبقى هذا من التيه شيئاً وأمسك عن ذكري. وجفاني كل من كان يصلني لما ظهر من سوء رأيه. فأضر ذلك بي حتى جاءني يوماً علوية فقال لي: أتأذن لي اليوم في ذكرك فإني اليوم عنده. فقلت: لا ولكن غنه بهذا الشعر فإنه سيبعثه على أن يسألك: من أين هذا فينفتح لك ما تريد ويكون الجواب أسهل عليك من الابتداء. فمضى علوية. فلما استقر به المجلس غناه الشعر الذي أمرته به وهو: يا مشرع الماء قد سدت مسالكه أما إليك سبيلٌ غير مسدود لحائمٍ حار حتى لا حياة به مشرد عن طريق الماء مطرود فلما سمعه المأمون قال: ويلك! لمن هذا قال: يا سيدي لعبد من عبيدك جفوته واطرحته قال: إسحاق قلت: نعم. قال: ليحضر الساعة. قال إسحاق: فجاءني الرسول فسرت إليه. فلما دخلت قال: ادن فدنوت. فرفع يديه مادهما فاتكأت عليه فاحتضنني بيديه وأظهر من إكرامي وبري ما لو أظهره صديقٌ لي مواس لسرني. قال: وحدثني يوسف بن عمر المدني قال: حدثني الحارث بن عبيد الله قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: حضرت مسامرة الرشيد ليلةً عبثراً المغنى وكان فصيحاً متأدباً وكان مع ذلك يغني الشعر بصوت حسن. فتذاكروا رقة شعر المدنيين فأنشد بعض جلسائه أبياتاً لابن الدمينة حيث يقول: وأذكر أيام الحمى ثم أنثني على كبدي من خشيةٍ أن تصدعا بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا فأعجب الرشيد برقة الأبيات. فقال له عبثر: يا أمير المؤمنين إن هذا الشعر مدني رقيق قد غذي بماء العقيق حتى رق وصفا فصار أصفى من الهوا ولكن إن شاء أمير المؤمنين أنشدته ما هو أرق من هذا وأحلى وأصلب وأقوى لرجل من أهل البادية. قال: فإني أشاء. قال: وأترنم به يا أمير المؤمنين قال: وذلك لك. فغنى لجرير: إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلا بعينك لا يزال معينا غيضن من عبراتهم وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا روحوا العشية روحة ًمذكورة إن حرن حرنا أو هدينا هدينا فرموا بهن سواهماً عرض الفلا إن متن متنا أو حيين حيينا قال: صدقت يا عبثر وخلع عليه وأجازه. وكان لإبراهيم الموصلي عبدٌ أسود يقال له زرياب وكان مطبوعا على الغناء علمه إبراهيم فدخل على زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب فغناه بأبيات عنترة الفوارس حيث يقول: فإن تك أمي غرابيةً من أبناء حامٍ بها عبتني فإني لطيفٌ ببيض الظبا وسمر العوالي إذا جئتني فغضب زيادة الله فأمر بصفع قفاه وإخراجه وقال له: إن وجدتك في شيء من بلدي بعد ثلاثة أيام ضربت عنقك. فجاز البحر إلى الأندلس فكان عند الأمير عبد الرحمن بن الحكم. وكان في المدينة في الصدر الأول مغن يقال له: قند وهو مولى سعد بن أبي وقاص. وكانت أم المؤمنين رضي الله عنها تستظرفه فضربه سعد فحلفت عائشة لا تكلمه حتى يرضى عنه قند فدخل عليه سعد وهو وجع من ضربه فاسترضاه فرضي عنه وكلمته عائشة. وكان معاوية يعقب بين مروان بن الحكم وسعيد بن العاص على المدينة يستعمل هذا سنةً وهذا سنة وكانت في مروان شدة وغلظة وفي سعد لين عريكة وحلم وصفح. فلقي مروان بن الحكم قنداً المغنى وهو معزول عن المدينة وبيده عكازة فلما رآه قال: قل لقند يشيع الأظعانا ربما سر عيننا وكفانا قال له قند: لا إله إلا الله ما أسمجك والياً ومعزولاً. وروى ابن الكلي عن أبيه قال: كان ابن عائشة من أحسن الناس غناء وأنبههم فيه وأضيقهم خلقاً إذا قيل له عن يقول: أو لمثلي يقال هذا علي عتق رقبة إت غنيت يومي هذا. فإن غنى وقيل له: أحسنت. قال: لمثلي يقال أحسنت علي عتق رقبة إن غنيت سائر يومي هذا. فلما كان في بعض الأيان سال وادي العقيق فجاء بالعجب فلم يبق بالمدينة مخبأة ولا شابة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره وكان فيمن خرج ابن عائشة المغني وهو معتجر بفضل ردائه فنظر إليه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وكان فيمن خرج إلى العقيق وبين يديه أسودان كأنهما ساريتان يمشيان بين يديه أمام دابته فقال لهما: أنتما حران لوجه الله. إن تفعلا ما آمركما به وإلا أقطعكما إربا إرباً اذهبا إلى ذلك الرجل المعتجر بفضل ردائه فخذا بضبعيه فإن فعل ما آمره به وإلا فاقذفا به في العقيق. قال: فمضيا والحسن يقفوهما. فلم يشعر ابن عائشة إلا وهما آخذان بضبعيه. فقال: من هذا فقال له الحسن: أنا هذا يا بن عائشة. قال: لبيك وسعديك وبأبي أنت وأمي. قال: اسمع مني ما أقول واعلم أنك مأسور في أيديهما هما حران أن لم تغن مائة صوت أن يطرحاك في العقيق ولئن لم يفعلا ذلك لأقطعن أيديهما. فصاح ابن عائشة: يا ويلاه! واعظيم مصيبتاه! قال: دع من صياحك وخذ فيما ينفعنا. قال: اقترح وأقم من يحصي وأقبل يغني. فترك الناس العقيق وأقبلوا عليه. فلما تمت أصواته مائة كبر الناس بلسان واحد تكبيرة واحدة ارتجت لها أقطار المدينة وقالوا للحسن: صلى الله على روحك حيا وميتاً فما اجتمع لأهل المدينة سرور قط إلا بكم أهل البيت. فقال له الحسن: إنما فعلت هذا بك يا بن عائشة لأخلاقك الشكسة. قال له ابن عائشة: والله ما مرت علي مصيبة أعظم منها. لقد بلغت أطراف أعضائي. فكان بعد ذلك إذا قيل له: وكان إبراهيم بن المهدي وهو الذي يقال به ابن شكلة داهياً عاقلاً عالماً بأيام الناس شاعراً مفلقاً وكان يصوغ فيجيد. ويروى عن إبراهيم أنه قد كان خالف على المأمون ودعا إلى نفسه فظفر به المأمون فعفا عنه وقال لما ظفر به المأمون: ذهبت من الدنيا كما ذهبت مني هوى الدهر بي عنها وأهوى بها عني فإن أبك نفسي أبك نفساً عزيزةً وإن أحتسبها أحتسبها على ضن فلما فتحت له أبواب الرضا من المأمون غنى بهما بين يديه. فقال له المأمون: أحسنت والله يا أمير المؤمنين. فقام إبراهيم رهبةً من ذلك وقال: قتلتني والله يا أمير المؤمنين لا والله لا أجلس حتى تسميني باسمي. قال: اجلس بإبراهيم. فكان بعد ذلك آثر الناس عند المأمون ينادمه ويسامره ويغنيه فحدثه يوما فقال: بينا أنا مع أبيك يوماً يا أمير المؤمنين بطريق مكة إذ تخلفت عن الرفقة وانفردت وحدي وعطشت وجعلت أطلب الرفقة فأتيت إلى بئر فإذا حبشي نائم عندها فقلت له: يا نائم قم فاسقني. فقال: إن كنت عطشان فانزل واستق لنفسك. فخطر صوتٌ ببالي فترنمت به وهو: كفناني إن مت في درع أروى واسقياني من بئر عروة مائي فلما سمعني قام نشيطاً مسروراً وقال: والله هذه بئر عروة وهذا قبره. فعجبت يا أمير المؤمنين لما خطر ببالي في ذلك الموضع. ثم قال: أسقيك على أن تغنيني قلت: نعم. فلم أزل أغنيه وهو يجبذ الحبل حتى سقاني وأروى دابتي ثم قال: أدلك على موضع العسكر على أن تغنيني قلت: نم. فلم يزل يعدو بين يدي وأنا أغنيه حتى أشرفنا على العسكر فانصرف. وأتيت الرشيد فحدثته بذلك فضحك. ثم رجعنا من حجنا فإذا هو قد تلقاني وأنا عديل الرشيد فلما رآني قال: مغن والله! قيل له: أتقول هذا لأخي أمير المؤمنين قال: إي لعمر الله لقد غناني وأهدى إلي أقطاً وتمراً. فأمرت له بصلة وكسوة وأمر له الرشيد بكسوة أيضاً. فضحك المأمون وقال: غنني الصوت فغنيته فافتتن به. فكان لا يقترح علي غيره. وكان مخارق وعلوية قد حرفا القديم كله وصيرا فيه نغماً فارسية فإذا أتاهما الحجازي بالغناء الأول الثقيل قالا: يحتاج غناؤك إلى قصار. واسم علوية علي بن عبد الله بن سيف بن يوسف مولى لبني أمية. وكان زلزل أضرب الناس بوتر لم يكن قبله ولا بعده مثله. ولم يكن يغني وإنما كان يضرب على إبراهيم وابن جامع وبرصوما. ومن غنائه في المأمون: رأى الله عبد الله خير عباده فملكه والله أعلم بالعبد حدث سعيد بن محمد العجلي عن الأصمعي قال: كان أبو الطمحان القيني حنظلة بن الشرقي شاعراً مجيداً وكان مع ذلك فاسقاً وكان قد انتجع يزيد بن عبد الملك فطلب الإذن عليه أياماً فلم يصل فقال لبعض المغنين: ألا أعطيك بيتين من شعري تغني بهما أمير المؤمنين فإن سألك من قائلهما فأخبره أني بالباب وما رزقني الله منه فهو بيني وبينك. قال: هات. فأعطاه هذين البيتين: يكاد الغمام الغر يرعد إن رأى محيا ابن مروان وينهل بارقه يظل فتيت المسك في رونق الضحى تسيل به أصداغه ومفارقه قال: فغني بهما في وقت أريحية فطرب لهما طرباً شديداً وقال: لله در قائلهما من هو قال: أبو الطمحان القيني وهو بالباب يا أمير المؤمنين. قال: ماأعرفه فقال له بعض جلسائه: هو صاحب الدير يا أمير المؤمنين. قال: وما قصة الدير قال: قيل لأبي الطمحان: ما أيسر ذنوبك قال: ليلة الدير. قيل له: وما ليلة الدير قال: نزلت ذات ليلة بدير نصرانية فأكلت عندها طفيشلاً بلحم خنزير. وشربت من خمره وزنيت بها وسرقت كساءها ومضيت. فضحك يزيد وأمر له بألفي درهم وقال: لا يدخل علينا. فأخذها أبو الطمحان وانسل بها أبو جعفر البغدادي قال: حدثني عبد الله بن محمد كاتب بغا عن أبي عكرمة قال: خرجت يوماً إلى المسجد الجامع ومعي قرطاسا لأكتب فيه بعض ما أستفيده من العلماء. فممرت بباب أبي عيسى بن المتوكل فإذا ببابه المسدود وكان من أحذق الناس بالغناء فقال: أين تريد يا أبا عكرمة قلت: إلى المسجد الجامع لعلي أستفيد في حكمة أكتبها. فقال: ادخل بنا على أبي عيسى. قال: فقلت: مثل أبي عيسى في قدره وجلالته يدخل عليه بغير إذن! قال: فقال للحاجب: أعلم الأمير بمكان أبي عكرمة. قال: فما لبث إلا ساعةً حتى خرج الغلمان فحملوني حملاً. فدخلت إلى دارٍ لا والله ما رأيت أحسن منها بناء ولا أطرف فرشاً ولا صباحة وجوه. فحين دخلنا نظرت إلى أبي عيسى. فلما أبصرني قال لي: يا بغيض متى تحتشم اجلس فجلست. فقال: ما هذا القرطاس بيدك قلت: يا سيدي حملته لأستفيد فيه شيئاً وأرجو أن أدرك حاجتي في هذا المجلس فمكثنا حيناً ثم أتينا بطعام ما رأيت أكثر منه ولا أحسن فأكلنا. وحانت مني التفاتة فإذا أنا بزنين ودبيس وهما من أحذق الناس بالغناء قال: فقلت: هذا مجلس قد جمع الله فيه كل شيء مليح. قال: ورفع الطعام وجيء بالشراب وقامت جارية تسقينا شراباً ما رأيت أحسن منه في كأس لا أقدر على وصفها. فقلت: أعزك الله. ما أشبه هذا بقول إبرهيم بن المهدي يصف جارية بيدها خمر: حسناء تحمل حسناوين في يدها صاف من الراح في صافي القوارير وقد جلس المسدود وزنين ودبيس. ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء فابتدأ المسدود فغنى: لما استقل بأرداف تجاذبه وأخضر فوق نظام الدر شاربه وتم في الحسن والتأمت محاسنه ومازجت بدعا فيها غرائبه وأشرق الورد في نسرين وجنته واهتز أعلاه وارتجت حقائبه كلمته بجفون غير ناطقة فكان من رده ما قال حاجبه ثم سكت فغنى زنين: الحب حلو أمرته عواقبه وصاحب الحب صب القلب ذائبه استودع الله من بالطرف ودعني يوم الفراق ودمع العين ساكبه ثم انصرف وداعي الشوق يهتف بي ارفق بقلبك قد عزت مطالبه ثم سكت وغنى دبيس: وعاتبته دهراً فلما رأيته إذا ازداد ذلاً جانبي عز جانبه بدر في الإنس حفته كواكبه قد لاح عارضه واخضر شاربه إن يعد الوعد يوماً فهو مخلفه أو ينطق القول يوماً فهو كاذبه عاطيته كدم الأوداج صافية فقام يشدو وقد مالت جوانبه قال أبو عكرمة: فعجبت أنهم غنوا بلحن واحد وقافية واحدة. قال أبو عيسى: يعجبك من هذا شيء يا أبا عكرمة فقلت: يا سيدي المنى دون هذا. ثم إن القوم غنوا على هذا إلى انقضاء المجلس إذا ابتدأ المسدود بشيء تبعه الرجلان بمثل ما غنى. فكان مما غنى المسدود: يا دير حنة من ذات الأكيراح من يصح عنك فإني لست بالصاحي يعتاده كل محفو مفارقه من الدهان عليها سحق أمساح ما يدلفون إلى ماء بآنيةٍ إلا اغترافاً من الغدران بالراح ثم سكت فغنى زنين: دع البساتين من آسٍ وتفاح واعدل هديت إلى ذات الأكيراح واعدل إلى فتية ذابت لحومهم من العبادة إلا نضو أشباح وخمرة عتقت في دنها حقباً كأنها دمعة من جفن سياح كأساً إذا انحدرت في حلق شاربها أغناك لألالؤها عن كل مصباح ما زلت أسقي نديمي ثم ألثمه والليل ملتحفٌ في ثوب سياح فقام يشدو وقد مالت سوالفه يا دير حنة من ذات الأكيراح ثم ابتدأ المسدود فغنى: باحورار العين والدعج وابيضاض الثغر والفلج وبتفاح الخدود وما ضم من مسك ومن أرج كن رقيق القلب إنك من قتل من يهواك في حرج ثم سكت وغنى زنين: كسروي التيه معتدل هاشمي الدل والغنج وله صدغان قد عطفا ببياض الخد كالسبج وإذا ما افتر مبتسما أطلق الأسرى من المهج ما لما بي منك من فرج لا ابتلاني الله بالفرج ثم سكت وغنى دبيس: مر بي في زي خنث بين ذات الضال من أمج قلت قلبي قد فتكت به قال ما في الدين من حرج ثم سكت وغنى المسدود: ما يبالي اليوم من صنعا من بقلبي يبدع البدعا كنت ذا نسك وذا ورع فتركت النسك والورعا كم زجرت القلب عنك فلم يصغ لي يوماً ولا نزعا لا تدعني للهوى غرضاً إن ورد الموت قد شرعا ثم سكت وغنى دبيس: اسقني كأساً مصردة إن نجم الليل قد طلعا قد شربت الحب شرب فتىً لم يدع في كأسه جرعا ثم ابتدأ أيضاً دبيس فغنى: يقولون في البستان للعين لذةٌ وفي الخمر والماء الذي غير آسن إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ففي وجه من تهوى جميع المحاسن فابتدأ المسدود فغنى: أدعوك من قلبي إذا لم أرك يا غاية الطرف إذا أبصرك قضى لك الله فسبحان من أحلك القلب ومن قدرك لست بناسيك على حالةٍ يا ليت ما تذكرني أذكرك صيرني الله على ما أرى منك من الهجر كما صيرك قال: فقال زنين: وأنا فلا بد أن أسلك سبيلكما. قال أبو عكرمة: ثم التفت إلي فقال: ما ترى فقلت: أحسنت والله. فابتدأ يغني: يا هائم القلب عاص من عذلك ما نلت ممن هويته أملك دعاك داعي الهوى بخدعته حتى إذا ما أجبته خذلك فاحتل لداء الهوى وسطوته إنك إن لم تداوه قتلك ثم ابتدأ المسدود يغني: شققت جيبي عليك شقاً وما لجيبي أردت شقا أردت قلبي فصادفته يداي بالجيب قد توقى قد ذبت شوقاً ومت عشقاً يا زفرات المحب رفقا ثكلت نفسي وزرت رمسي إن كنت للهجر مستحقا ثم سكت وغنى دبيس: ظمئت شوقاً وبحر عشقي يفيض عذاباً ولست أسقى أنا الذي صرت من غرامي على فراش السقام ملقى فمن زفير ومن شهيق ومن دموع تجود سبقا ثم ابتدأ المسدود فغنى: ماذا على نجل العيون لو أنهم أوموا إليك فسلموا أو عرجوا أمنوا مقاساة الهموم وأيقنوا أن المحب إلى الأحبة يدلج ثم سكت وغنى دبيس: هيا فقد بدأ الصباح الأبلج قد ضم مشبهة الغزال الهودج بانوا ولم أقض اللبانة منهم وكذا الكريم إذا تصابى يلهج ثم سكت وغنى زنين: أنضجت قلبي ولو أن الورى لقيت قلوبهم منك ما لاقيت ما لهجوا ثم سكت وابتدأ المسدود فغنى: يا صاحب المقل المراضٍ انظر إلي بعين راض إن تجفني متعمداً لتذيقني جرع الحياض فلطالما أمكنتني منك المراشف عن تراض ثم سكت وغنى زنين: هائم مدنف من الإعراض لا سبيل له إلى الإغماض موثق النوم مطلق الدمع ما يع رف ملجاً من الحتوف القواضي ما برى جسمه سوى لحظاتٍ أمرضته من العيون المراض ثم سكت وغنى دبيس: كن ساخطاً واظهر بأنك راضي لا تبدين تكره الإعراض وانظر إلي بمقلة غضبانةٍ إن كنت لم تنظر بمقلة راض وارحم جفوناً ما تجف من البكا في ليلةٍ مسلوبة الإغماض يا ذا الذي حال عن العهد ومن براني منه بالصد بسمرة الخال وما قد حوى من حمرةٍ في سالف الخد ألا تعطف على عاشقٍ منفرد بالبث والوجد ثم سكت وغنى زنين: أظل بكتمان الهوى وكأنما ألاقي الذي لاقاه غيري من الوجد فلا الدمع أطفى حرقة البين والبكا ولا أنا بالشكوى أنفس من جهدي ثم سكت وغنى دبيس: تهزأت بي لما خلوت من الوجد ولم ترث لي لا كان عندك ما عندي وعبت علي الشوق والوجد والبكا وأنت الذي أجريت دمعي على خدي صددت بلا جرم إليك أتيته أكان عجيباً لو صددت عن الصد ألا إنني عبدٌ لطرفك خاضع وطرفك مولىً لا يرق على عبد ثم غنى المسدود: أقمت ببلدةٍ ورحلت عنها كلانا عند صاحبه غريب خليلي ما للعاشقين قلوب ولا للعيون الناظرات ذنوب فيا معشر العشاق ما أوجع الهوى إذا كان لا يلقى المحب حبيب ثم سكت وغنى دبيس: ذلت لوجهك أعين وقلوب بين المخافة والرجاء تذوب يا واحد الحسن الذي لحظاته تدعو النفوس إلى الهوى فتجيب من وجهه القمر المنير وقده غصن نضيرٌ مشرق وكثيب ألناظريك على العيون رقيب أم هل لطرفك في القلوب نصيب ثم ابتدأ المسدود فغنى: قلق لم يزل وصبر يزول ورضى لم يطل وسخط يطول لم تسل دمعتي علي من الرح مة حتى رأيت نفسي تسيل جال في جسمي السقام فجسمي مدنف ليس فيه روح تجول ينقضي للقتيل حول فينسى وأنا فيك كل يوم قتيل ثم سكت وغنى زنين: ثم سكت وغنى دبيس: ليس إلى تركك من حيلة ولا إلى الصبر لقلبي سبيل فكيفما شئت فكن سيدي فإن وجدي بك وجدٌ طويل إن كنت أزمعت على هجرنا فحسبنا الله ونعم الوكيل قال أبو عكرمة: فأقبل أبو عيسى على المسدود فقال له: عن صوتاً. فغنى: ما حيلتي وفؤادي هائمٌ أبداً بعقرب الصدغ من مولاي ملسوع لا والذي تلفت نفسي بفرقته فالقلب من حرق الهجران مصدوع ما أرق العين إلا حب مبتدع ثوب الجمال على خديه مخلوع قال أبو عكرمة: فوالله الذي لا إله إلا هو لقد حضرت من المجالس ما لا أحصي ما رأيت مثل ذلك اليوم. ثم إن أبا عيسى أمر لكل واحد بجائزة وانصرفنا ولولا أن أبا عيسى قطعهم ما انقطعوا. من سمع صوتاً فوافقه معناه واستخفه الطرب حكى إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه قال: دخلت على هارون الرشيد فلما رأيته قد أخذ في حديث الجواري وغلبتهن على الرجال غنيته بأبياته التي يقول فيها: ملك الثلاث الآنسات عناني وحللن من قلبي بكل مكان مالي تطاوعني البرية كلها وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه قوين أعز من سلطاني فارتاح وطرب وأمر لي بعشرة آلاف درهم. وغنى إبراهيم الموصلي محمد بن زبيدة الأمين بقول الحسن بن هانئ فيه: رشأ لولا محاسنه خلت الدنيا من الفتن كل يوم يسترق له حسنه عبداً بلا ثمن يا أمين الله عش أبداً دم على الأيام والزمن أنت تبقى والفناء لنا فإذا أفنيتنا فكن سن للناس القرى فقروا فكأن البخل لم يكن قال: فاستخفه الطرب حتى قام من مجلسه وأكب على إبراهيم يقبل رأسه. فقام إبراهيم من مجلسه يقبل أسفل رجليه وما وطئتا من البساط. فأمر له بثلاثة آلاف درهم. فقال إبراهيم: يا سيدي قد أجزيتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم. فقال الأمين: وهل ذلك إلا خراج بعض الكور! الرياشي عن الأصمعي قال: قدم جرير المدينة فأتاه الشعراء وغيرهم وأتاه أشعب فيهم. فسلموا عليه وحادثوه ساعةً وخرجوا وبقي أشعب. فقال له جرير: أراك قبيحاً وأراك لئيم الحسب ففيم قعودك وقد خرج الناس فقال له: أصلحك الله إنه لم يدخل عليك اليوم أحدٌ أنفع لك مني قال: وكيف ذلك قال: لأني آخذ رقيق شعرك فأزينه بحسن صوتي. فقال له جرير: فقل. فاندفع يغنيه: يا أخت ناجية السلام عليكم قبل الرحيل وقبل لوم العذل لو كنت أعلم أن آخر عهدكم يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل قال: فاستخف جريراً الطرب لغنائه بشعره حتى زحف إليه واعتنقه وقبل بين عينيه وسأله عن حوائجه فقضاها له. الزبير بن بكار قال: كان المسور بن مخرمة ذا مال كثير فأسرع فيه على إخوانه فذهب. فسأل امرأته وكانت موسرة فمنعته وبخلت عليه. فخرج يريد بعض خلفاء بني أمية منتجعاً. فلما كان ببعض الطريق نزل ماءً يقال له بلاكث. فقال له غلامه: كيف يقال لهذا الماء قال: يقال له بلاكث. فقال: بينما نحن من بلاكث بالقا ع سراعاً والعيس تهوي هويا خطرت خطرة على القلب من ذك راك وهنا فما استطعت مضيا قلت لبيك إذ دعاني لك الشو ق وللحاديين كرا المطيا فقال: هن بدن إن لم تكرها رواجع. قال له: قد أشرفن على أمير المؤمنين. قال: هن بدن إن لم تكرها رواجع. فانصرف ودخل المصلى ليلاً. فوجد رجال قريش حلقا يتحدثون فقالوا له: زاد خير. فقال: زاد خير. حتى انتهى إلى داره. فقالت له امرأته: زاد خير. فأنشدها الأبيات. قالت: كل ما أملك في سبيل الله إن لم أشاطرك مالي. فشاطرته مالها. وروى أبو العباس قال: حدثت أن عمر الوادي قال: أقبلت من مكة أريد المدينة فجعلت أسير في صمد من الأرض فسمعت غناء من الهواء لم أسمع مثله فقلت: والله لأتوصلن إليه. فإذا هو عبد أسود. فقلت له: أعد ما سمعت فقال: والله لو كان عندي قرى أقريكه ما فعلت ولكن أجعله قراك. فإني والله ربما غنيت بهذا الصوت وأنا جائع فأشبع وربما غنيته وأنا وكنت متى ما زرت سعدى بأرضها أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ود جليسها إذ ما انقضت أحدوثةٌ لو تعيدها قال عمر: فحفظته منه. ثم تغنيت به على الحالات التي وصف فإذا هو كما ذكره. وتحدث الزبيريون عن خالد صامة بأنه كان من أحسن الناس ضرباً بعود قال: قدمت على الوليد بن يزيد في مجلس ناهيك به مجلساً فألفيته على سريره وبين يديه معبد ومالك بن أبي السمح وابن عائشة وأبو كامل غزيل الدمشقي فجعلوا يغنون حتى بلغت النوبة إلي. فغنيته: سرى همي وهم المرء يسري وغاب النجم إلا قيد فتر لهم ما أزال له قرينا كأن القلب أودع حر جمر على بكر أخي فارقت بكراً وأي العيش يصلح بعد بكر فقال: أعد يا صامة. ففعلت. فقال لي: من يقول هذا الشعر قلت: يقوله عروة بن أذينة يرثي أخاه بكراً. قال الوليد: وأي عيش يصلح بعد بكر. والله لقد حجر واسعاً. هذا والله العيش الذي نحن فيه يصلح على رغم أنفه. وقد قيل إن سكينة بنت الحسين غنيت بهذا الشعر فقالت: ومن بكر هذا فوصف لها. فقالت: هو ذاك الأسيد الذي كان يأتينا لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبز والزيت. وعن عبد الصمد بن المعذل قال: سمعت إسحاق الموصلي يتحدث قال: حججت مع الرشيد فلما نزلت المدينة آخيت بها رجلاً كانت له مروءة ومعرفة وأدب وكان يغني. فإني ذات ليلة في منزلي إذا أنا بصوته يستأذن علي وظننت أمراً قد حدث ففزع فيه إلي. فأسرعت نحو الباب فقلت: ما جاء بك قال: دعاني صديق إلى طعام عتيد ومجلس شراب قد التقى طرفاه وشواء رشراش وحديث ممتع وغناء مشبع فأجبته وأقمت معه إلى هذا الوقت فأخذت مني حميا الكأس مأخذها ثم غنيت بقول نصيب: بزينب ألم قبل أن يرحل الركب وقل إن تملينا فما ملك القلب فكدت أطير طرباً. ثم وجدت في الطرب تنغيصاً إذ لم يكن معي من يفهم هذا كما فهمته. ففزعت إليك لأصف لك هذه الحال ثم أرجع إلى صاحبي. وضرب بغلته موليا. فقلت: قف أكلمك. فقال: ما بي إلى الوقوف إليك من حاجة. وحدث أن معاوية بن أبي سفيان استمع على يزيد ذات ليلة فسمع عنده غناء أعجبه فلما أصبح قال له: من كان ملهيك البارحة قال: سائب خائر قال: فأكثر له العطاء. وكان ابن أبي عتيق من نبلاء قريش وظرفائهم. فمن ظريف أخباره أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة والياً عليها اجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار فقالوا له: إنك لا تعمل عملاً أحرى ولا أولى من تحريم الغناء والزنا. ففعل وأجلهم ثلاثاً. فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة وكان غائباً. فحط رحله بباب سلامة الزرقاء وقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي. قالت: أو ما تدري ما حدث بعدك وأخبرته الخبر. فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه. فلقيه فأخبره أنه إنما أقدمه حب التسليم عليه وقال له: إن أفضل ما عملت تحريم الغناء والزنا. فقال: إن أهلك أشاروا علي بذلك. فقال: إنهم وفقوا ووفقت ولكني رسول امرأة إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها. وأنا أسألك أيها الأمير ألا تحول بينها وبين مجاورة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال عثمان: إذا أدعها فقال: إذا لا يدعك الناس ولكن تدعو بها فتنظر إليها فإن كان يجوز تركها تركتها. قال: فادع بها. فأمر بها ابن أبي عتيق. فتنقبت وأخذت سبحة في يدها وصارت إليه فحدثته عن مآثر آبائه ففكه بها. فقال ابن أبي عتيق: أريد أن أسمع الأمير قراءتها. ففعلت فحركه حداؤها. ثم قال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها التي تركتها. فقال له: قل لها فلتغن. فغنت: سددن خصاص البيت لما دخلنه بكل بنان واضح وجبين فنزل عثمان عن سريره ثم جلس بين يديها وقال: لا والله ما مثلك يخرج عن المدينة. فقال ابن أبي عتيق: يقول الناس أذن لسلامة ومنع غيرها. فقال له: قد أذنت لهم جميعاً. وذكر لابن أبي عتيق أن المخنثين خصوا. وأنه خصي فلان فيهم لواحد منهم كان يعرفه. فقال ابن أبي عتيق: إنا لله! لئن خصي لقد كان يحسن: لمن ربع بذات الجي ش أمسى دارساً خلقا ثم استقبل ابن أبي عتيق القبلة فلما كبر وسلم ثم قال لأصحابه: أما إنه كان يحسن خفيفه فأما ثقيله فلا والله ثم كبر. وكان سليمان بن عبد الملك مفرط الغيرة فسمع مغنيا في عسكره فقال: اطلبوه فجاءوا به. فقال له: أعد ما تغنيت به. فأعاد واحتفل. فقال: لأصحابه: والله لكأنها جرجرة الفحل في الشول وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت إليه. ثم أمر به فخصي. وقال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي: روي لنا أن رجلاً من الصالحين كان عند إبراهيم بن هشام فأنشده إبراهيم قول الشاعر: إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية وإذ أجر إليكم سادراً رسني فقام الرجل فرمى بشق ردائه وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس ثم رجع إلى موضعه فجلس. فقال له إبراهيم: ما بالك قال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته فآليت ألا أسمعه إلا جررت ردائي كما جر هذا الرجل رسنه. إني أتيت إليك من أهلي في حاجة يسعى لها مثلي لا أبتغي شيئاً لديك سوى حي الحمول بجانب الرمل قال له: انزل فك ما طلبت مر دحمان المغني بقوم وعليه رداء عدني يثربي. فقالوا له: بكم أخذت الرداء فقال: ما ضر جيراننا إذا انتجعوا وحدث أبو العباس أحمد بن بكر ببغداد قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان يقال قديماً: إذا قسا عليك قلب القرشي من تهامة فغنه بشعر عمر بن أبي ربيعة وغناء ابن سريج. وكذا فعل أشعب برجل من أهل مكة من بني هاشم وكان أشعب قد انتجع أهل مكة من المدينة. قال أشعب: فلما دخلت عليه غنيته بغناء أهل المدينة وأهل العقيق. فلم ينجع ذلك فيه ولم يحرك من طيبه ولا أريحيته. فلما عيل صبري غنيته بغناء ابن سريج المكي وقول ابن أبي ربيعة القرشي: نظرت إليها بالمحصب من منى ولي نظر لولا التحرج عارم فقلت أشمسٌ أم مصابيح راهب بدت لك تحت السجف أم أنت هائم بعيدة مهوى القرط إما لنوفلً أبوها وإما عبد شمس وهاشم ولولا أن تقول لنا قريش مقال الناصح الأدنى الشفيق لقلت إذا التقينا قبليني وإن كنا بقارعة الطريق فقال: أحسن والله. هكذا يطيب التلقي لا بالخوف والتوقي. قال: فلما رأيته قد طرب للصوتين ولم يند لي بشيء. قلت: هو الثالث وإلا فعليه السلام. قال: فغنيته الثالث من غناء ابن سريج وقول عمر بن أبي ربيعة ويقال إنها لجميل: ما زلت أمتحن الدساكر دونها حتى ولجت على خفي المولج فوضعت كفي عند مقطع خصرها فتنفست نفساً ولم تتلهج قالت وحق أخي وحرمة والدي لأنبهن الحي إن لم تخرج فخرجت خيفة قولها فتبسمت فعلمت أن يمينها لن تحرج فرشفت فاها آخذاً بقرونها رشف النزيف ببرد ماء الحشرج فصاح الهاشمي: أواه! أحسبن والله وأحسنت! وأمر لي بألف درهم وثلاثين حلة وخلعة كانت عليه. وغنى ابن سريج رجلاً من بني هاشم بقول جرير: بعثن الهوى ثم آرتمين قلوبنا بأسهم أعداء وهن صديق قال: فخطب من ثوبه ذراعاً وقال: هذا والله العقيان في نحور القيان. قال: وصحب شيخٌ من أهل المدينة شاباً في سفينة ومعهم جارية تغني فقال له: إن معنا جارية تغني ونحن نجلك فإذا أذنت لنا فعلنا قال: فأنا أعتزل وافعلوا ما شئتم. فتنحى وغنت الجارية: حتى إذا الصبح بدا ضؤوه وغابت الجوزاء والمرزم أقبلت والوطء خفي كما ينساب من مكمنه الأرقم فرمى الناسك بنفسه في الفرات وجعل يخبط بيديه طربا ويقول: أنا الأرقم. فأخرجوه وقالوا: ما صنعت بنفسك فقال: والله إني أعلم من تأويله ما لا تعلمون. وقال أحمد بن جعفر: حضر قاضي مكة مأدبةً لرجل من الأشراف. فلما انقضى الطعام اندفعت جاريةً تغني: إلى خالد حتى أنخنا بخالد فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمل فلم يدر القاضي ما يصنع من الطرب حتى أخذ نعليه فعلقهما في أذنيه ثم جثى على ركبتيه قال: اهدوني فإني بدنة. كان رجل من الهاشميين يحب السماع فبعث إلى رجل من المغنين فاقترح عليه صوتاً كان كلفاً به فغناه إياه. فطرب الهاشمي وشق ثوبا كان عليه ثم قال للمغني: افعل بنفسك مثل ما فعلت بنفسي: قال: أصلحك الله إنك تجد خلفا من ثوبك وإني لا أجد خلفاً من ثوبي. قال: أنا أخلف لك. قال: فافعل ونفعل. قال: أخرجتنا من حد الطيب إلى حد السوم. من قرع قلبه صوت فمات منه أو أشرف حدث أبو القاسم إسماعيل بن عبد الله المأمون في طريق الحج من العراق إلى مكة قال: حدثني أبي قال: كانت بالمدينة قينة من أحسن الناس وجهاً وأكملهم عقلاً وأفضلهم أدباً قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية فوقعت عند يزيد بن عبد الملك فأخذت بمجامع قلبه فقال لها ذات يوم: ويحك! أما لك فرابةٌ أو أحد يحسن أن أصطنعه أو أسدي إليه معروفاً قالت: يا أمير المؤمنين أما قرابة فلا ولكن بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاتي كنت أحب أن ينالهم شيء مما صرت إليه. فكتب إلى عامله بالمدينة في إشخاصهم وأن يعطى كل رجل منهم عشرة آلاف درهم وأن يعجل بسراحهم إليه. ففعل عامل المدينة ذلك. فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم فأذن لهم وأكرمهم وسألهم حوائجهم. فأما الإثنان فذكرا حوائجهما فقضاها لهما. وأما الثالث فسأله عن حاجته فقال: يا أمير المؤمنين ولكن حاجتي لا أحسبك تقضيها. قال: ويحك فسلني فإنك لا تسألني حاجة أقدر عليها إلا قضيتها. قال: ولي الأمان يا أمير المؤمنين قال: نعم وكرامة. قال: إن رأيت أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا لها أن تغنيني ثلاثة أصوات أشرب عليها ثلاثة أرطال فافعل. قال: فتغير وجه يزيد وقام من مجلسه فدخل على الجارية فأعلمها. قالت: وما عليك يا أمير المؤمنين افعل ذلك. فلما كان من الغد أمر بالفتى فأحضر وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فألقيت. فقعد يزيد على أحدها وقعدت الجارية على الآخر وقعد الفتى على الثالث ثم دعا بطعام فتغدوا جميعاً ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت. ثم قال للفتى: قل ما بدا لك وسل حاجتك. قال: تأمرها تغني: لا أستطيع سلوًا عن مودتها أو يصنع الحب بي فوق الذي صنعا أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني حتى إذا قلت هذا صادق نزعا فأمر فغنت. فشرب يزيد وشرب الفتى ثم شربت الجارية. ثم أمر بالأرطال فملئت ثم قال للفتى: سل حاجتكن قال: تأمرها تغني: تخيرت من نعمان عود أراكة لهند ولكن من يبلغه هندا ألا عرجا بي بارك الله فيكما وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا قال: فغنت بهما وشرب يزيد ثم الفتى ثم الجارية. ثم أمر بالأرطال فملئت ثم قال للفتى: سل حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين مرها تغني: منا الوصال ومنكم الهجر حتى يفرق بيننا الدهر قال: فلم تأت على آخر الأبيات حتى خر الفتى مغشياً عليه. فقال: يزيد للجارية: انظري ما حاله. فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت. فقال لها: ابكيه. قال: لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حي. قال لها: ابكيه فوالله لو عاش ما انصرف إلا بك. فبكته وأمر بالفتى فأحسن جهازه ودفنه. قال: وحدث أبو يوسف بالمدينة قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي عن أبيه أن عبد الله بن جعفر وفد على عبد الملك بن مروان فأقام عنده حيناً فبينا هو ذات ليلة في سمره إذ تذاكروا الغناء. فقال عبد الملك: قبح الله الغناء ما أوضعه للمروءة وأجرحه للعرض وأهدمه للشرف وأذهبه للبهاء. وعبد الله ساكت وإنما عرض لعبد الله وأعانه عليه من حضر من أصحابه. فقال عبد الملك: ما لك أبا جعفر لا تتكلم قال: ما أقول ولحمي يتمزع وعرضي يتمزق. قال: أما إني نبئت أنك تغني قال: أجل يا أمير المؤمنين. قال: أفٍ لك وتف. قال: لا أف ولا تف فقد تأتي أنت بما هو أعظم من ذلك. قال: وما هو قال: يأتيك الأعرابي الجافي الزور ويقذف المحصنات فتأمر لها بألف دينار وأشتري أنا الجارية الحسناء من مالي فأختار لها من الشعر أجوده ومن الكلام أحسنه ثم تردده علي بصوت حسن فهل بذلك بأس قال: لا بأس ولكن أخبرني عن هذه الأغاني ما تصنع قال: نعم اشتريت جارية باثني عشر ألف درهم مطبوعة فكان بديح وطويس يأتيانها فيطرحان عليها أغانيهما فعلقت منهما حتى غلبت عليهما فوصفت ليزيد بن معاوية فكتب إلي: إما أهديتها إلي وإما بعتها بحكمك. فكتبت إليه: إنها لا تخرج عن ملكي ببيع ولا هبة فبذل لي فيها ما كنت أحسب أن نفسه لا تسخو به فأبيت عليه. فبينا هي عندي على تلك الحال إذ ذكرت لي عجوز من عجائزنا أن فتى من أهل المدينة يسمع غناءها فعلقها وشغف بها وأنه يجيء في كل ليلة مستتراً يقف بالباب حتى يسمع غناءها ثم ينصرف. فراعيت مجيئه فإذا الفتى قد أقبل مقنع الرأس فأشرفت عليه وقد قعد مستخفيا. فلم أدع بها تلك الليلة وجعلت أتامل موضعه. فبات مكانه الذي هو فيه. فلما انشق الفجر اطلعت عليه فإذا هو في موضعه فدعوت قيمة الجواري فقلت لها: انطلقي الساعة فزينين هذه الجارية واعجلي بها إلي فلما جاءت بها نزلت وفتحت الباب وحركته. فانتبه مذعوراً فقلت له: لا بأس عليك خذ هذه الجارية فهي لك وإن هممت ببيعها فردها إلي. فدهش وأخذه الخبل ولبط به. فدنوت من أذنه فقلت: ويحك! قد أظفرك الله ببغيتك فقم فانطلق بها إلى منزلك. فإذا الفتى قد فارق الدنيا. فلم أر شيئاً قط أعجب منه. قال عبد الملك: وأنا ما سمعت شيئاً قط أعجب من هذا ولولا أنك عاينته ما صدقت به فما صنعت بالجارية قال: تركتها عندي وكنت إذا ذكرت الفتى لم أجد لها مكاناً من قلبي وكرهت أن أوجه بها إلى يزيد فيبلغه حالها فيحقد علي فما زالت تلك حالها حتى ماتت. ووقف رجل يقال له طريفة على أيوب المغني فقال: إني قصدت إليك من أهلي في حاجة يسعى لها مثلي لا أبتغي شيئاً لديك سوى حي الحمول بجانب الرمل فقال له انزل فلك ما طلبت. فنزل. فأخرج عوده ثم غناه بقول آمرىء القيس: حي الحمول بجانب العزل إذ لا يلائم شكلها شكلي فلبط بطريفة فإذا هو في الأرض منجدل. فلما أفاق قام يمسح التراب عن وجهه. فقيل له: ويحك! ما كانت قصتك قال: ارتفع والله من رجلي شيء حار وهبط من رأسي شيء بارد فالتقيا وتصادما فوقعت بينهما لا أدري ما كانت حالي. أخبار عنان وغيرها من القيان حدثت محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة: قال: حدثنا إبراهيم بن عمر قال: كان هارون الرشيد قد استعرض عنان جارية الناطفي ليشتريها وقال لها: أنا والله أحبك. ثم أمسك عن شرائها. فجلس ليلةٍ معه سماره فغناه بعض من حضر من المغنين بأبيات جرير حيث يقول: إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلاً بعينك لا يزال معينا قال: فطرب الرشيد لها طرباً شديداً وأعجب بالأبيات وقال لجلسائه: هل منكم أحد يحيز هذه الأبيات بمثلهن وله هذه البدرة وبين يديه بدرة من دنانير. فقالوا فلم يصنعوا شيئاً. فقال خادم على رأسه: أنا بها لك يا أمير المؤمنين. قال: شأنك. فاحتمل البدرة ثم أتى الناطفي فقال له: استأذن لي على عنان. فأذنت له. فدخل وأخبرها الخبر. فقالت: ويحك! وما الأبيات فأنشدها إياها. فقالت له: اكتب: هيجت بالقول الذي قد قلته داء بقلبي ما يزال كميناً قد أينعت ثمراته في حينها وسقين من ماء الهوى فروينا كذب الذين تقولوا يا سيدي إن القلوب إذا هوين هوينا فقالت له: دونك الأبيات فدفع إليها البدرة ورجع إلى هارون. فقال له: ويحك! من قالها! قال: عنان جارية الناطفي. فقال: خلعت الخلافة من عنقي إن باتت إلا عندي. قال: فبعث إلى مولاها فاشتراها منه بثلاثين ألفاً وباتت بقية تلك الليلة عنده. وقال الأصمعي: ما رأيت الرشيد متبذلا قط إلا مرةً كتبت إليه عنان جارية الناطفي رقعة فيها: كنت في ظل نعمة بهواكا آمناً منك لا أخاف جفاكا فسعى بيننا الوشاة فأقرر ت عيون الوشاة بي فهناكا ولعمري لغير ذا كان أولى بك في الحق يا جعلت فداكا قال: فأخذ الرقعة بيده وعنده أبو حفص الشطرنجي فقال: أيكم يشير إلى المعنى الذي في نفسي فيقول فيه شعراً وله عشرة آلاف درهم فظننت أنه وقع بقلبه أمر عنان فبدر أبو حفص فقال: مجلس ينسب السرور إليه لمحب ريحانه ذكراكا فقال: يا غلام بدرة. فقال جرير: فقال: يا غلام بدرة. قال الأصمعي: فقلت: لم ينلك الرجاء أن تحضريني وتجافت أمنيتي عن سواكا قال: أحسنت والله يا أصمعي لها ولك بهذا البيت عشرون ألفاً. وقال غير أني أشعركم حيث أقول: قد تمنيت أن يغشيني الله نعاساً لعل عيني تراكا قلنا له: صدقت والله يا أمير المؤمنين. وقال بكر بن حماد الباهلي: لما انتهى إلي خبر عنان وأنها ذكرت لهارون وقيل له إنها أشعر الناس خرجت متعرضاً لها فما راعني إلا الناطفي مولاها قد ضرب على عضدي فقال لي: هل لك فيما سنح من طعام وشراب ومجالسة عنان فقلت: ما بعد عنان مطلب. ومضينا حتى أتينا منزله فعقل دابته ثم دخل فقال: هذا بكر شاعر باهلة يريد مجالستك اليوم. فقالت: لا والله إني كسلانة. فحمل عليها بالسوط ثم قال لي: ادخل فدخلت ودمعها يتحدر كالجمان في خدها فطمعت بها فقلت: هذي عنان أسبلت دمعها كالدر إذ ينسل من خيطه ثم قلت لها: أجيزي. فقال: فقلت لها: إن لي حاجة. فقالت: هاتها فمن سببك أوذينا. قلت لها: بيت وجدته على ظهر كتابي لم أقرضه ولم أقدر على إجازته. قالت: قل. فأنشدتها. فما زال يشكو الحب حتى حسبته تنفس في أحشائه أو تكلما قال: فأطرقت ساعة ثم أنشدت: ويبكي فأبكي رحمة لبكائه إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما قلت لها: فما عندك في إجازة هذا البيت: بديع حسن بديع صدٍ جعلت خدي له ملاذا فأطرقت ساعة ثم قالت: فعاتبوه فعنفوه فأوعدوه فكان ماذا وجلس أبو نواس إلى عنان فقالت: كيف علمك بالعروض وتقطيع الشعر يا حسن قال: جيد. قالت: قطع هذا البيت: أكلت الخردل الشامي في قصعة خباز فلما ذهب يقطعه ضحكت به وأضحكت. فأمسك عنها وأخذ في ضروب من الأحاديث ثم عاد سائلاً لها فقال: كيف علمك بالعروض قالت: حسن يا حسن. فقال: قطعي هذا حولوا عنا كنيستكم يا بني حمالة الحطب فلما ذهبت تقطعه ضحك أبو نواس. فقالت له: قبحك الله! ما برحت حتى أخذت بثأرك. حدث أبو عبد الله بن عبد البر المدني قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان للمأمون جماعة من المغنين وفيهم مغن يسمى سوسناً عليه وسم جمال. قال: فبينما هو عنده إذ تطلعت جارية من جواريه فنظرت إليه فعلقته. فكانت إذ حضر سوسن تسوى عودها وتغني: ما مررنا بالسوسن الغض إلا كان دمعي لمقلتي نديما حبذا أنت والمسمى به أن ت وإن كنت منه أذكى نسيما فإذا غاب سوسن أمسكت عن هذا الصوت وأخذت في غيره. فلم تزل تفعل ذلك حتى فطن المأمون. فدعا بها ودعا بالسيف والنطع ثم قال: اصدقيني أمرك قال: يا أمير المؤمنين ينفعني عندك الصدق قال لها: إن شاء الله. قالت: يا أمير المؤمنين اطلعت من وراء الستارة فرأيته فعلقته. فأمسك المأمون عن عقوبتها وأرسل إلى المغني فوهبها له وقال: لا تقربنا. قال أبو الحسن: كان الواثق إذا شرب وسكر رقد في موضعه الذي سكر فيه ومن سكر من ندمائه ترك ولم يخرج. فشرب يوماً فسكر ورقد وانقلب أصحابه إلا مغنياً أظهر التراقد وبقيت معه مغنية للواثق. فلما خلا المجلس وقع المغني في سحاءة ودفعها إليها: وكأن كفك في يدي وكأنما بتنا جميعاً في فراش واحد ثم انتبهت ومنكباك كلاهما في راحتي وتحت خدك ساعدي فأجابته: خيراً رأيت وكل ما أبصرته ستناله مني برغم الحاسد وتبيت بين خلاخلي ودمالجي وتحل بين مراشفي ومجاسدي فنكون أنعم عاشقين تعاطيا ملح الحديث بلا مخافة راصد فلما مدت يدها لترمي إليه بالسحاءة رفع الواثق رأسه فأخذ السحاءة من يدها وقال لهما: ما هذه فحلفا له أنه لم يجر بينهما قبل هذا كلامٌ ولا كتاب ولا رسول غير اللحظ إلا أن العشق قد خامرهما. فأعتقها وزوجها منه. فلما أشهد له وتم النكاح أقامها الواثق بمحضر المغني إلى بيت من بعض البيوت فوقع عليها ثم خرج إليه فقال له: أردت أن تكشخني فيها وهي خادمي فقد كشختك فيها وهي زوجتك. قال: ولما كلف يزيد بحبابة واشتغل بها وأضاع الرعية دخل عليه مسلمة أخوه قال: يا أمير المؤمنين تركت الظهور للعامة والشهود للجمعة وأضعت أمر المسلمين واحتجبت مع هذه الأمة. فارعوى قليلاً وظهر للناس. فأوحت حبابة إلى الأحوص أن يقول أبياتاً يهون فيها على يزيد ما ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا فقد منع المحزون أن يتجلدا إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا هل العيش إلا ما تلذ وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا فلما سمعها ضرب بخيزرانته الأرض وقال: صدقت! صدقت! على مسلمة لعنة الله. ثم عاد إلى سيرته الأولى. وحدث ابن الغاز قال: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال: حدثنا الهيثم ابن أبي بكر قال: كان يزيد بن عبد الملك كلفا بحبابة كلفاً شديداً. فلما توفيت أكب عليها أياماً يترشفها ويتشممها حتى أنتنت فقام عنها وأمر بجهازها ثم خرج بين يدي نعشها حتى إذا بلغ القبر نزل فيه حتى إذا فرغ من دفنها وانصرف لصق إليه مسلمة أخوه يعزيه ويؤنسه. فلما أكثر عليه قال له: قاتل الله ابن أبي جمعة حيث يقول: فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد وكل خليل زارني فهو قائلٌ من أجلك هذا هامة اليوم أو غد قال: وطعن في جنازتها فدفناه إلى سبعة عشر يوماً. وذكر المعتصم جاريةً كانت غلبت عليه وهو بمصر ولم يكن خرج بها معه فدعا مغنيا له فقال له: ويحك! إني ذكرت جارية فأقلقني الشوق إليها فهات صوتاً يشبه ما ذكرت لك. فأطرق ملياً ثم غنى: وددت من الشوق المبرح أنني أعار جناحي طائر فأطير فما لنعيم لست فيه بشاشةٌ وما لسرور لست فيه سرور وإن امرأ في بلدة نصف قلبه ونصف بأخرى غيرها لصبور فقال: والله ما عدوت ما في نفسي وأمر له بجائزة ورحل من ساعته. فلما بلغ الفرما قال: غريب في قرى مصر يقاسي الهم والسدما لليلك كان بالميدا ن أقصر منه بالفرما وقال المأمون في قينة له: لها في لحظها لحظات حتف تميت بها وتحيي من تريد فإن غضبت رأيت الناس قتلى وإن ضحكت فأرواح تعود وتسبي العالمين بمقلتيها كأن العالمين لها عبيد وأنشد البحتري في قينة له: أمازحها فتغضب ثم ترضى وجل فعالها حسن جميل وقال ابن المعتز في قينة له: سقتني في ليل شبيه بشعرها شبيهة خديها بغير رقيب فأمسيت في ليلين للشعر والدجا وشمسين من كأس ووجه حبيب وقال هارون الرشيد في قينة له: تبدي صدودا وتخفي تحته مقةً فالنفس راضيةٌ والطرف غضبان يا من وضعت له خدي فذلله وليس فوقي سوى الرحمن سلطان وقال إبراهيم الشيباني: القينة لا تخلص محبة لأحد ولا تؤتى إلا من باب الطمع. وقال علي بن الجهم: قلت لقينة: هل تعلمين وراء الحب منزلةً تدني إليك فإن الحب أقصاني فقالت: تأتي من باب الذهب وأنشدت: اجعل شفيعك منقوشاً تقدمه فلم يزل مدنياً من ليس بالداني وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة فجلس عندها يوماً يطارحها الغناء فلما أراد الخروج قال لها: ناوليني خاتمك أذكرك به. قالت: إنه ذهب وأخاف أن تذهب ولكن خذ هذا العود فلعلك تعود. وناولته عوداً من الأرض. وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة يكلف بها وينقطع إليها إذا نظر إليها. فطلبت منه أن يسلفها دراهم. فانقطع عنها وتجنب دارها فعملت له دواء ولقيته به. فقال لها: ما هذا قالت: دواء عملته لك تشربه لهذا الفزع الذي بك. قال: اشربيه أنت للطمع فإن انقطع طعمك انقطع فزعي وأنشأ يقول: أنا والله أهواك ولكن ليس لي نفقة فإما كنت تهويني فقد حلت لي الصدقه وقعد أبو الحارث جميز إلى قينة بالمدينة صدر نهاره فجعلت تحدثه ولا تذكر الطعام. فلما طال ذلك به قال: ما لي لا أسمع للطعام ذكراً قالت: سبحان الله أما تستحي أما في وجهي ما يشغلك عن هذا فقال لها: جعلت فداك لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعة واحدة لا يأكلان لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه وافترقا. وقال الشيباني: كانت بالعراق قينة وكان أبو النواس يختلف إليها فتظهر له أنها لا تحب غيره وكان كلما جاءها وجد عندها فتىً يجلس عندها ويتحدث إليها فقال فيها: ومظهرةٍ لخلق الله ودا وتلقي بالتحية والسلام أتيت فؤادها أشكو إليه فلم أخلص إليه من الزحام أراك بقية من قوم موسى فهم لا يصبرون على الطعام وقال الشيباني: حضر أبو النواس مجلساً فيه قيان فقلن له: ليتنا بناتك. قال: نعم ونحن على المجوسية. وقال العتبي: حضرت قينة مجلساً فغنت فأجادت فقام إليها شيخ من القوم فجلس بن يديها وقال: كل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق لو كانت الدنيا كلها صرارا في كمي لقطعتها لك فأما إذ لم يكن فجعل الله كل حسنة لي لك وكل سيئة عليك علي. قالت: جزاك الله خيراً فوالله ما يقوم الوالد لولده بما قمت به لنا. فقام شيخ آخر وقعد بين يديها وقال لها: كل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق إن كان وهب لك شيئاً ولا حمل عنك ثقلاً لأنه ما له حسنةٌ يهبها لك ولا عليك سيئة يحملها عنك فلأي شيء تحمدينه حدث أحمد بن عمر المكي قال حدثني أبي قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول: كان بالمدينة رجل جعفري من ولد جعفر بن أبي طالب وكان يحب الغناء وكان بالمدينة قينة يقال لها بصبص وكان الجعفري يتعشقها فقال يوماً لإخوانه: قوموا معي إلى هذه الجارية حتى نكاشفها فقد والله أيتمت ولدي وأرملت نسائي وأخرجت ضيعتي. فقاموا معه حتى إذا جاءوا إلى بابها دقه فخرجت إليه فإذا هي أملح الناس دلا وشكلاً فقال لها: يا جارية وكنت أحبكم فسلوت عنكم عليكم في دياركم السلام فاستحيت وخجلت وبكت وقالت: يا جارية هاتي عودي. والله ما أحسن هذا ولكن أحسن غيره فغنت: تحمل أهلها منها فبانوا على آثار من ذهب العفاء قال: فاستحيا والله صاحبنا حتى تصبب عرقاً ثم قال لها: يا سيدتي أفتحسنين أن تغني: وأخضع للعتبى إذا كنت ظالما وإن ظلموا كنت الذي أتفضل قالت: والله ما أعرف هذا ولكن غيره فغنت: فإن تقبلوا بالود أقبل بمثله وأنزلكم منا بأكرم منزل قال: فدفع الباب ودخل وأرسل غلامه يحمل إليه حوائجه. وقال: لعن الله الأهل والولد والضيعة. خبر الذلفاء قال أبو سويد: حدثني أبو زيد الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك بن مروان وهو جالس على دكان مبلط بالرخام الأحمر مفروش باليباج الأخضر في وسط بستان ملتف قد أثمر وأينع وإذا بإزاء كل شق من البستان ميدان بنبت الربيع قد أزهر. وعلى رأسه وصائف كل واحدة منهن أحسن من صاحبتها. وقد غابت الشمس فنضرت الخضرة وأضعفت في حسنها الزهرة وغنت الأطيار فتجاوبت وسفت الرياح على الأشجار فتمايلت بأنهار فيه قد شققت ومياه قد تدفقت. فقلت: السلام عليك يا أيها الأمير ورحمة الله وبركاته. وكان مطرقاً فرفع رأسه وقال: أبا زيد في مثل هذا الحين يصاب أحد حيا قلت: أصلح الله الأمير أو قد قامت القيامة بعد. قال: نعم على أهل المحبة سراً والمراسلة بينهم خفية. ثم أطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا قلت: أعز الله الأمير قهوة صفراء في زجاجة بيضاء تناولها مقدودة هيفاء مضمومة لفاء دعجاء. أشربها من كفها وأمسح فمي بفمها. فأطرق سليمان ملياً لا يحير جواباً تنحدر من عينه عبرات بلا شهيق. فلما رأى الوصائف ذلك تنحين عنه. ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد حللت في يوم فيه انقضاء أجلك ومنتهى مدتك وتصرم عمرك والله لأضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك. قلت: نعم أصلح الله الأمير كنت جالساً عند باب أخيك سعيد بن عبد الملك فإذا أنا بجارية قد خرجت إلى باب القصر كالغزال انفلت من شبكة الصياد عليها قميصٌ سكبٌ يتبين منه بياض بدنها وتدوير سرتها ونقش تكتها وفي رجليها نعلان صراران قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها مضمومة بفرد ذؤابة تضرب إلى حقويها وتسيل كالعثاكيل على منكبيها وطرة قد أسبلت على متني جبينها وصدغان قد زينا كأنهما نونان على وجنتيها وحاجبان قد قوسا على محجري عينيها وعينان مملوءتان سحراً وأنف كأنه قصبة در وفم كأنه جرح يقطر دما. وهي تقول: عباد الله من لي بدواء ما لا يشتكى وعلاج ما لا يسمى طال الحجاب وأبطأ الجواب فالفؤاد طائر والقلب عازب والنفس والهة والفؤاد مختلس والنوم محتبس رحمة الله على قوم عاشوا تجلداً وماتوا تبلداً ولو كان إلى الصبر حيلة وإلى العزاء سبيل لكان أمرا جميلاً ثم أطرقت طويلاً ثم رفعت رأسها. فقلت: أيتها الجارية إنسية أنت أم جنية سمائية أم أرضية فقد أعجبني ذكاء عقلك وأذهلني حسن منطقك. فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني ثم قالت: اعذر أيتها المتكلم الأريب فما أوحش الساعة بلا مساعد والمقاساة لصبٍ معاند ثم انصرفت. فوالله أصلح الله الأمير ما أكلت طيباً إلا غصصت به لذكراها ولا رأيت حسناً إلا سمج في عيني لحسنها. قال سليمان: أبا زيد كاد الجهل أن يستفزني والصبا أن يعاودني والحلم أن يعزب عني لحسن ما رأيت وشجو ما سمعت تلك هي الذلفاء التي يقول فيها الشاعر: إنما الذلفاء ياقوتة أخرجت من كيس دهقان شراؤها على أخير ألف ألف درهم. وهي عاشقة لمن باعها والله إني من لا يموت إلا بحزنها ولا يدخل القبر إلا بغصتها وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت نهية قم أبا زيد فاكتم المفاوضة. يا غلام ثقله ببدرة. فأخذتها وانصرفت. قال أبو زيد: فلما أفضت الخلافة إلى سليمان صارت الذلفاء إليه فأمر بفسطاط فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء مونقة زهراء ذات حدائق بهجة تحتها أنواع الزهر الغض من بين أصفر فاقع واحمر ساطع وأبيض ناصع فهي كالثوب الحرمي. وحواشي البرد الأتحمي يثير منها مر الرياح نسيما يربى على رائحة العنبر وفتيت المسك الأذفر. وكان له مغن ونديم وسمير يقال له سنان به يأنس وإليه يسكن. فأمر أن يضرب فسطاسه بالقرب منه. وقد كانت الذلفاء خرجت مع سليمان إلى ذلك المنتزه فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان في أكمل سرور وأتم حبور إلى أن انصرف مع الليل إلى فسطاسه. فنزل به جماعة من إخوانه فقالوا له: قرانا أصلحك الله. قال: وما قراكم قالوا: أكل وشرب وسماع. قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه إياي عنه إلا ما كان في مجلسه. قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا. قال: فاختاروا صوتاً واحداً أغنيكموه. قالوا. غننا صوت كذا. قال: فرفع عقيره يتغنى بهذه الأبيات: محجوبة سمعت صوتي فأرقها من آخر الليل لما طلها السحر تثنى على الخد منها من معصفرة والحلي بادٍ على لباتها خصر في ليلةٍ لا يدري مضاجعها أوجهها عنده أبهى أم القمر لم يحجب الصوت أحراسٌ ولا غلق فدمعها لطروق الصوت منحدر لو خليت لمشت نحوي على قدم تكاد من لينها للمشي تنفطر فسمعت الذلفاء صوت سنان فخرجت إلى وسط الفسطاط تستمع فجعلت لا تسمع شيئا من حسن خلق ولطافة قد إلى الذي وافق المعنى من وقت الليل واستماعها الصوت إلا رأت ذلك كله في نفسها وهيئتها فحرك ذلك ساكناً في قلبها فهملت عيناها وعلا نشيجها. فانتبه سليمان فلم يجدها معه فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال فقال لها: ما هذا يا ذلفاء فقالت: يروعك منه صوته ولعله إلى أمة يعزى معاً وإلى عبد فقال سليمان: دعيني من هذا فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامر. يا غلام علي بسنان. فدعت الذلفاء خادما لها فقالت: إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان فحذره ولك عشر آلاف درهم وأنت حر لوجه الله. فخرج الرسول. فسبق رسول سليمان. فلما أتي به قال: يا سنان ألم أنهك عن مثل هذا قال: يا أمير المؤمنين حملني الثمل وأنا عبد أمير المؤمنين وغذي نعمته فإن رأى أمير المؤمنين أن لا يضيع حظه من عبده فليفعل. قال: أما حظي منك فلن أضيعه ولكن ويلك! أما علمت أن الرجل إذا تغنى أصغت المرأة إليه وأن الحصان إذا صهل استودقت له الفرس وأن الجمل إذا هدر ضبعت له الناقة وأن التيس إذا نب استحرمت له الشاة إياك والعود إلى ما كان منك فيطول غمك. قال إسحاق: حدثني أبو السمراء قال: حججت فبدأت بالمدينة فإني لمنصرف من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا امرأة بفناء المسجد تبيع من طرائف المدينة وإذا هي في ناحية وحدها وعليها ثوبان خلقان وإذا هي ترجع بصوت خفي شجي فالتفت فرأيتها. فوقفت فقالت: هل من حاجة قلت: تزيدين في السماع قالت: وأنت قائم لو قعدت. فقعدت كالخجل. فقالت: علمك بالغناء قلت: علم لا أحمده. قالت: فعلام أنفخ بغير نار ما منعك من معرفته فوالله أنه لسحوري وفطوري قلت: وكيف وضعته بهذا الموضع العالي قالت: يا هذا وهل له موضع يوضع به وهو من علوه في السماء الشاهقة فكل هؤلاء النسوة اللاتي أرى على مثل رأيك وفي مثل حالك قالت: فيهن وفيهن ولي بينهن قصة. قلت: وما هي قالت: كنت أيامي شبابي وأنا في مثل هذه الخلقة التي ترى من القبح والدمامة وكنت أشتهي الجماع شهوة شديدة وكان زوجي شاباً وضيئاً وكان لا ينتشر علي حتى أتحفه وأطيبه وأسكره. فأضر ذلك بي وكان قد علقته امرأة قصار تجاورني فزاد ذلك في غمي. فشكوت إلى جارة لي ما أنا فيه وغلبة امرأة القصار على زوجي. فقالت: أدلك على ما ينهضه عليك ويرد قلبه إليك قلت: وابأبي أنت إذاً تكونين أعظم الخلق منةً علي. قالت: اختلفي إلى مجمع مولى الزبير فإنه حسن الغناء فاعلقي من أغانيه أصواتاً عشرة ثم غني بها زوجك فإنه سيجامعك بجوارحه كلها. قالت: فألظظت بمجمع فلم أفارقه حتى رضيني حذاقة ومعرفة. فكنت إذا أقبل زوجي اضطجعت ورفعت عقيرتي ثم تغنيت. فإذا غنيت صوتاً بت على زب وإن غنيت صوتين بت على زبين وإن غنيت ثلاثة فثلاثة. فكنا كندماني جذيمة حقبةً من الدهر حتى قيل لن يتصدعا قال: فضحكت والله حتى أمسكت على بطني وقلت: يا هذه ما أظن الله خلق مثلك. قالت: اخفض من صوتك. قلت: ما كان أعظم منة صاحبة المشورة. قالت: حسبك بها منة وحسبك بي شاكرة. قلت: ففي قلبك من تلك الشهوة شيء . قالت: لذع في الفؤاد وأما تلك الغلمة التي كانت تنسيني الفريضة وتقطعني عن النافلة فقد ذهب تسعة أعشارها. فوقفت عليها وقلت: ألك حاجة أن أرم بعض حالك قالت: لا أنا في فائت من العيش فلما نهضت لأقوم قالت: على رسلك لا تنصرف خائباً ثم ترنمت بصوت تخفيه من جاراتها. ولي كبدٌ مقروحة من يبيعني بها كبداً ليست بذات قروح أبى الناس كل الناس لا يشترونها ومن يشتري ذا علة بصحيح أبو بكر بن جامع عن الحسين بن موسى قال: كتب علي بن الجهم إلى قينة كان يتعشقها: خفي الله فيمن قد تبلت فؤاده وتيمته دهراً كأن به سحرا دعى الهجر لا أسمع به منك إنما سألتك أمراً ليس يعري لكم ظهرا فكتبت إليه: صدقت جعلت فداك. ليس يعرى لنا ظهراً ولكنه يملأ لنا بطناً. وكان أبو بكر الكاتب مفتتناً بقينة محمد بن حماد فاهدى إليها قميصاً فقال فيه بعض الكتاب: أهدى إليها قميصاً ينيكها فيه غيره حدث أبو عبد الله بن عبد البر المدني بمصر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان بالمدينة رجل من بني هاشم وكان له قينتان يقال لإحداهما رشأ وللأخرى جوذر وكان يحب الغناء. وكان بالمدينة مضحك لا يكاد يغيب عن مجالس المتظرفين. فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليضحك به. فلما أتاه قال: ما الفائدة فيك وفي لذتك ولا لذة لي قال له: وما لذتك قال: تحضر لي نبيذاً فإنه لا يطيب لي عيش إلا به. فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ وأمر أن يطرح فيه سكر العشر. فلما شربه المضحك تحركت عليه بطنه وتناوم الهاشمي وغمز جواريه عليه. فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين وأهل اليمن يسمون الكنف المراحيض. فقال لهما: يا حبيبتي أين المرحاض قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت يقول غنياني: رحضت فؤادي فخليتني أهيم من الحب في كل واد فاندفعتا تغنيانه. فقال في نفسه: ما أراهما فهمتا عني أظنهما مكيتين وأهل مكة يسمونها المخارج. قال: يا حبيبتي أين المخرج قالت إحداهما للأخرى: ما يقول قالت: يقول غنياني: خرجت بها من بطن مكة بعدما أصات المنادي للصلاة فأعلما فاندفعتا تغنيانه. فقال في نفسه: لم يفهما والله عني أظنهما شاميتين وأهل الشام يسمونها المذاهب. فقال لهما: يا حبيبتي أين المذاهب قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قال: يقول غنياني: ذهبت من الهجران في غير مذهب ولم يك حقا كل هذا التجنب فغنتاه الصوت. فقال في نفسه: لم يفهما عني وما أظنهما إلا مدنيتين وأهل المدينة يسمونها بيت الخلاء فقال لهما: يا حبيبتي أين بيت الخلاء قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت: يسأل أن نغني: خلي علي جوى الأشواق إذ ظعنا من بطن مكة والتسهيد والحزنا قال: فغنتاه. فقال: إنا لله وإن إليه راجعون وما أحسب الفاسقتين إلا بصريتين وأهل البصرة يسمونها الحشوش فقال لهما: أين الحش فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت يسأل أن نغنيه: أوحش الحشان فالربع منها فمناها فالمنزل المعمور فاندفعتا تغنيانه. فقال: ما أراهما إلا كوفيتين وأهل الكوفة يسمونها الكنف. قال: يا حبيبتي أين الكنيف قالت إحداهما لصاحبتها: يعيش سيدنا هل رأيت أكثر اقتراحاً من هذا تكنفني الهوى طفلا فشيبني وما اكتهلا قال: فغلبه بطنه وعلم أنهما تولعان به والهاشمي يتقطع ضحكاً فقال لهما: كذبتما يا زانيتان ولكني أعلمكما ما هو فرفع ثيابه فسلح عليهما وانتبه الهاشمي: فقال له: سبحان لله! أتسلح على وطائي! قال: والذي خرج من بطني أعز علي من وطائك إن هاتين الزانيتين إنما حسبتا أني أسأل عن الحش للضراط فأعلمتهما ما هو. قولهم في العود قال يزيد بن عبد الملك يوماً وذكر عنده البربط فقال: ليت شعري ما هو فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنا أخبرك ما هو محدودب الظهر أرسح البطن له أربعة أوتار إذا حركت لم يسمعها أحد إلا حراك أعطافه وهز رأسه. مر إسحاق بن إبراهيم الموصلي برجل ينحت عودا فقال له: لمن ترهف هذا السيف وقال بعض الكتاب في العود: وناطق بلسان لا ضمير له كأنه فخذ نيطت إلى قدم يبدي ضمير سواه في الكلام كما يبدي ضمير سواه منطق القلم ومن قولنا في هذا المعنى: يا مجلساً أينعت منه أزاهره ينسيك أوله في الحسن آخره لم يدر هل بات فيه ناعماً جذلا أو بات في جنة الفردوس سامره والعود يخفق مثناه ومثلثه والصبح قد غردت فيه عصافره وللحجارة أهزاج إذا نطقت أجابها من طيور البر ناقره كأنما العود فيما بيننا ملك يمشي الهوينى وتتلوه عساكره كأنه إذا تمطى وهي تتبعه كسرى بن هرمز تقفوه أساوره ذاك المصون الذي لو كان مبتذلا ما كان يكسر بيت الشعر كاسره صوت رشيق وضرب لو يراجعه سجع القريض إذا ضلت أساطره لو كان زرياب حياً ثم أسمعه لمات من حسد إذ لا يناظره وقال الحمدوني فيه: وسجعت رجع عودٍ بين أربعة سر الضمائر فيما بينها علن فولدت للندامى بين نغمتها وكفها فرحاً تفصيله حزن فما تلعثم عنها لفظ مزهرها ولا تحير في ألحانها لحن تهدي إلى كل جزء من طبائعها بنانها نغماً أثمارها فتن وترتعي العين منها روض وجنتها طوراً وتسرح في ألفاظها الأذن وقال عكاشة بن الحصين: من كف جارية كأن بنانها من فضة قد طرفت عنابا يا رب صوتٍ يصوغه عصبٌ نيطت بساق من فوقها قدم جوفاء مضمومة أصابعها في ساكنات تحريكها نغم أربعة جزئت لأربعة أجزاؤها بالنفوس تلتحم أصغرها في القلوب أكبرها يبعث منه الشفاء والسقم إذا أرنت بغمز لافظها قلت حمام يجيبهن حم لها لسان بكف ضاربها يعرب عنها وما لهن فم قولهم في المبردين في الغناء قال أبو نواس: قل لزهير إذا شدا وحدا أقلل أو أكثر فأنت مهذار سخنت من شد البرودة حتى صرت عندي كأنك النار لا يعجب السامعون من صفتي كذلك الثلج بارد حار وقال أيضاً: قد نضجنا ونحن في الجيش طرا أنضجتنا كواكب الجوزاء فأصيبوا لنا حسينا ففيه عوض من جليد برد الشتاء لو يغني وفوه ملآن خمراً لم يضره من برد ذاك الغناء وله: كأن أبا المغلس إذ يغني يحاكي عاطساً في عين شمس يميل بشدقه طوراً وطوراً كأن بشدقه ضربان ضرس وقال دعبل: أحسن الأقوام حالاً فيه من كان أصما وقال الحمدوني: بينما نحن سالمون جميعاً إذ أتانا ابن سالم مختالا فتغنى صوتاً فكان خطاء ثم ثنى أيضاً فكان محالا سألنا خلعة على ما تغنى فخلعنا على قفاه النعالا ولعباس الخياط: رأيت يوماً سائباً يضرب فقمت من مجلسنا أهرب لأنه ينبح من عوده عليك من أوتاره أكلب كأنما تسمع في حلقه دجاجة يخنقها ثعلب ما عجبني منه ولكنني من الذي يسمعه أعجب وقال آخر: ومغن يخرى على جلسائه ضرب الله شدقه بغنائه وقال مؤمن في ربيع المغني وكان يتغنى وينقر في الدواة: أغثنا في المصيف إذا تلظى ودعنا في الشتاء وفي الربيع |
باب في الرقائق قد جبل أكثر الناس على سوء الاختيار وقلة التحصيل والنظر مع لؤم الغرائز وضعف الهمم فقل من يختار من الصنائع أرفعها ويطلب من العلوم أنفعها ولذلك كان أثقل الأشياء عليهم وأبغضها إليهم مؤنة التحفظ وأخفها عندهم وأمهلها عليهم إسقاط المروءة. وقيل لبعضهم: ما أحلى الأشياء كلها قال: الارتكاس وقيل لعبد الله ابن جعفر: ما أطيب العيش قال: هتك الحياء واتباع الهوى. وقيل لعمرو بن العاص: ما أطيب العيش قال: ليقم من هنا من الأحداث. قال: فلما قاموا. قال: العيش كله إسقاط المروءة وأي شيء أثقل على النفس من مجاهدة الهوى ومكابدة الشهوة. ومن ذلك كان سوء الاختيار أغلب على طبائع الناس من حسن الاختيار. ألا ترى أن محمد بن يزيد النحوي على علمه باللغة ومعرفته باللسان وضع كتاباً سماه بالروضة وقصد فيه إلى أخبار المحدثين فلم يختر لكل شاعر إلا أبرد ما وجد له حتى انتهى إلى الحسن بن هانئ وقلما يأتي له بيت ضعيف لرقة فطنته وسبوطة بنيته وعذوبة ألفاظه فاستخرج له من البرد أبياتاً ما سمعناها ولا رويناها ولا ندري من اين وقع عليها وهي: تعشقها قلبي فبغض عشقها إلي من الأشياء كل نفيس وأين هذا الاختيار من اختيار عمرو بن بحر الجاحظ حين اجتلب ذكره في كتاب الموالي فقال: ومن الموالي الحسن بن هانئ وهو من أقدر الناس على الشعر وأطبعهم فيه. ومن قوله: فجاء بها صفراء بكراً يزفها إلي عروساً ذات دل معشق فلما جلتها الكأس أبدت لناظري محاسن ليتٍ بالجمان مطوق ومن قوله: ساع بكاس إلى ناس على طرب كلاهما عجب في منظر عجب قامت تريك وشمل الليل مجتمع صبحا تولد بين الماء والعنب كأن صغرى وكبرى من فقاقعها حصباء در على أرض من الذهب وجل أشعاره الخمريات بديعة لا نظير لها فخطر به اكلها وتخطاها إلى التي جانسته في برده فما أحسبه لحقه هذا الاسم أعني المبرد إلا لبرده. وقد تخير لأبي العتاهية أشعاراً تقتل من بردها وشنفها وقرظها بكلامه فقال: ومن شعر أبي العتاهية المستظرف عند الظرفاء المخير عند الخلفاء قوله: يا قرة العين كيف أمسيت أعزز علينا بما تشكيت آه من وجدي وكربي آه من لوعة حبي ما أشد الحب يا سبحانك اللهم ربي ونظير هذا من سوء الاختيار ما تخيره أهل الحذق بالغناء والصانعون للألحان من الشعر القديم والحديث فإنهم تركوا منه الذي هو أرق من الماء وأصفى من رقة الهواء وكل مدني رقيق قد غذي بماء العقيق وغنوا بقول الشاعر: فلا أنسى حياتي ما عبدت الله لي ربا وقلت لها أنيليني فقالت أفرق الدبا ولو تعلم ما بي لم تهب دبًا ولا كلبا وأقل ما كان يجب في هذا الشعر أن يضرب قائله خمسمائة سوط وصانعه أربعمائة والغنى به ثلثمائة والمصغي إليه مائتين. ومثله: كأنما الشمس إذا ما بدت تلك التي قلبي لها يضرب تلك سليمى إذا ما بدت وما أنا في ودها أرغب كأن في النفس لها ساحراً ذاك الذي علمه المذهب يعني بالمذهب الجني. ومثله: خبراني أين حلت مناي يا عباد الله لا تكتماني إنما حلت بواد خصيب ينبت الورس مع الزعفران أحلف بالله لو وجداني غرقا في البحر ما أنقذاني ومثله: أبصرت سلمى من منى يوماً فراجعت الصبا يا درة البحر متى تشهد سوقاً تشتري ومثله: يا معشر الناس هذا أمرٌ وربي شديد لا تعنفى يا فلانه فإنى لا أريد ومثله: أرقت فأمسيت لا أرقد وقد شفنى البيض والخود فصرت لظبي بني هاشم كأني مكتحل أرمد أقلب أمري لدى فكرتي وأهبط طوراً فما أصعد ما أرجى من حبيبٍ ضن عني بالمداد لو بكفيه سحاب ما ارتوت منه بلادي أنا في واد ويمسى هو لي في غير واد ليته إذ لم يجد لي بالهوى رد فؤادي ومثله: ما لسلمى تجنبت ما لها اليوم مالها إن تكن قد تغضبت أصلح الله حالها http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب من رقائق الغناء قال الزبير بن بكار: سألت إسحاق هل تغني من شعر الراعي شيئاً قال: وأين أنت من قوله: فلم أر مظلوماً على حال عزة أقل انتصاراً باللسان وباليد سوى ناظرٍ ساجٍ بعين مريضة جرت عبرة منها ففاضت بإثمد ومن شعر ابن الدمينة وهو عبيد الله بن عبد الله والدمينة أمه وهو من أرق شعراء المدينة بعد كثير عزة وقيس بن الخطيم: ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل له بهتة حتى يقال مريب جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى وفاضت له من مقلتي غروب وما ذاك إلا أن تيقنت أنه يمر بوادٍ أنت منه قريب يكون أجاجاً قبلكم فإذا انتهى إليكم تلقى طيبكم فيطيب أيا ساكني شرقي دجلة كلكم إلى القلب من أجل الحبيب حبيب ومن قول يزيد بن الطثرية وغنى به ابن صياد المغني وغيره: بنفسي من لو مر برد بنابه على كبدي كانت شفاءً أنامله ومن هابني في كل شيء وهبته فلا هو يعطيني ولا أنا سائله ومما يغنى به قول جرير: أتذكر إذ تودعنا سليمى بعود بشامة سقي البشام بنفسي من تجنبه عزيزٌ علي ومن زيارته لمام ومن أمسى وأصبح لا أراه ويطرقني إذا هجع النيام متى كان الخيام بذي طلوح سقيت الغيث أيتها الخيام وما أوحش الناس في عيني وأقبحهم إذا نظرت فلم أبصرك في الناس ومما يغني به معبد ذي الرمة. وهو من أرق شعر يغنى به قوله: لئن كانت الدنيا علي كما أرى تباريح من ذكراك فالموت أروح وأكثر ما كان يغني معبد بشعر الأحوص ومن جيد ما غنى به له قوله: كأني من تذكر أم حفص وحبل وصالها خلق رمام صريع مدامة غلبت عليه تموت لها المفاصل والعظام سلام الله يا مطرٌ عليها وليس عليك يا مطر السلام فإن يكن النكاح أحل شيئاً فإن نكاحها مطراً حرام ومن شعر المتوكل بن عبد الله بن نهشل وكان كوفيا في عصر معاوية وهو القائل: لا تنه عن خلق وتأتي مثله قفي قبل التفرق يا أماما وردي قبل بينكم السلاما ترجيها وقد شطت نواها ومنتك المنى عاماً فعاما فلا وأبيك لا أنساك حتى تجاوب هامتي في القبر هاما ولقد أصبت من المعيشة لذةً ولقيت من شظف الخطوب شدادها وعلمت حتى ما أسائل عالماً عن حرف واحدة لكي أزدادها http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن كتاب المرجانة الثانية قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى في قولنا فيالغناء واختلاف الناس فيه ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في النساء وصفاتهن وما يحمد ويذم من عشرتهن إذ كان العيش كله مقصوراً على الحليلة الصالحة والزوجة الموافقة والبلاء كله موكلاً بالقرينة السوء التي لا تسكن النفس إلى كريم عشرتها ولا تقر العين برؤيتها. قال الأصمعي: حدثني ابن أبي الزناد عن عروة بن الزبير قال: ما رفع أحد نفسه بعد الإيمان بالله بمثل منكح صدق ولا وضع أحدٌ نفسه بعد الكفر بالله بمثل منكح سوء. ثم قال: لعن الله فلانة ألفت بني فلان بيضا طوالاً فقلبتهم سوداً قصاراً. وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام: المرأة العاقلة تبني بيتها والسفيهة تهدمه. وقال: الجمال كاذب والحسن مختلف وإنما تستحق المدح المرأة الموافقة. مكحول عن عطية بن بشر عن عكاف بن وداعة الهلالي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا عكاف ألك امرأة قال: لا. قال: فأنت إذاً من إخوان الشياطين إن كنت من وقالت عائشة: النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته. وقال صلى الله عليه وسلم: " أوصيكم بالنساء فإنهن عندكم عوان " يعني أسيرات. قولهم في المناكح خطب صعصعة بن معاوية إلى عامر بن الظرب حكيم العرب ابنته عمرة وهي أم عامر بن صعصعة فقال: يا صعصعة إنك أتيتني تشتري مني كبدي فارحم ولدي قبلتك أو رددتك. والحسيب كفء الحسيب والزوج الصالح أب بعد أب. وقد أنكحتك خشية أن لا أجد مثلك أفر من السر إلى العلانية. يا معشر عدوان خرجت من بين أظهركم كريمتكم من غير رغبة ولا رهبة أقسم لولا قسم الحظوظ على الجدود ما ترك الأول للآخر ما يعيش به. العباس بن خالد السهمي قال: خطب عمرو بن حجر إلى عوف بن محلم الشيباني ابنته أم إياس فقال: نعم أزوجها على أن أسمي بنيها وأزوج بناتها. فقال عمرو بن حجر: أما بنونا فنسميهم بأسمائنا وأسماء آبائنا وعمومتنا وأما بناتنا فينكحهن أكفاؤهن من الملوك ولكني أصدقها عقاراً في كندة وأمنحها حاجات قومها لا ترد لأحد منهم حاجة. فقبل ذلك منه أبوها وأنكحه إياها. فلما كان بناؤه بها خلت بها أمها فقالت: أي بنية إنك فارقت بيتك الذي منه خرجت وعشك الذي فيه درجت إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه فكوني له أمة يكن لك عبدا واحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخرا. أما الأولى والثانية: فالخشوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة. وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لموضع عينه وأنفه فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشم منك إلا الطيب ريح. وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه فإن تواتر الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله والإرعاء على حشمه وعاليه وملاك الأمر في المال حسن التقدير وفي العيال حسن التدبير. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمرا ولا تفشين له سراً فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره وإن أفشيت سره لم تأمني غدره. ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتماً والكآبة بين يديه إذا كان فرحاً. فولدت له الحارث بن عمرو جد امرئ القيس الشاعر. الشيباني قال: حدثنا بعض أصحابنا أن زرارة بن عدس نظر إلى ابنه لقيط فقال: ما لي أراك مختالاً كأنك جئتني بابنة ذي الجدين أو مائة من هجائن النعمان فقال: والله لا يمس رأسي دهن حتى آتيك بهما أو ابلي عذراً. فانطلق حتى أتى ذا الجدين وهو قيس بن مسعود الشيباني فوجده جالساً في نادي قومه شيبان فخطب إليه بنته علانية فقال له: هلا ناجيتني قال: علمتي أني إن ناجيتك لم أخدعك وإن عالنتك لم أفضحك قال: ومن أنت قال: لقيط بن زرارة. قال: لا جرم ولا تبيتن فينا عزبا ولا محروما. فزوجه وساق عنه المهر وينى بها من ليلته تلك. ثم خرج إلى النعمان فجاء بمائتين من هجائنه وأقبل إلى أبيه وقد وفى نذره. فبعث إليه قيس بن مسعود بابنته مع ولده بسطام بن قيس فخرج لقيط يتلقاها في الطريق ومعه ابن عم له يقال له قراد فقال لقيط: هاجت عليك ديار الحي أشجانا واستقبلوا من نوى الجيران قربانا تامت فؤادك لم تقض التي وعدت إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا فانظر قراد وهل في نظرة جزع عرض الشقائق هل بينت أظعانا فيهن جارية نضح العبير بها تكسى ترائبها دراً ومرجانا كيف اهتديت ولا نجم ولا علم وكنت عندي نؤوم الليل وسنانا ولما رحل بها بسطام بن قيس قالت: مروا بي على أبي أودعه فلما ودعته قال لها: يا بنية كوني له أمةً يكن لك عبداً وليكن أطيب طيبك الماء ثم لا أذكرت ولا أيسرت فإنك تلدين الأعداء وتقربين البعداء إن زوجك فارس من فرسان مضر فإذا كان ذلك فلا تخمشي وجهاً ولا تحلقي شعراً. فلما قتل لقيط تحملت إلى أهلها ثم مالت إلى مجلس عبد الله بن دارم فقالت: نعم الأحماء كنتم يا بني دارم وأنا أوصيكم بالقرائب خيراً فلم أر مثل لقيط. ثم لحقت بقومها. فتزوجها ابن عم لها فكانت لا تسلو عن ذكر لقيط فقال لها زوجها: أي يوم رأيت فيه لقيطاً أحسن في عينك قالت: خرج يوماً يصطاد فطرد البقر فصرع منها ثم أتاني مختضباً بالدماء فضمني ضمة ولثمني لثمة فليتني مت ثمة. فخرج زوجها ففعل مثل ذلك ثم أتاها فضمها ولثمها ثم قال لها: من أحسن أنا أم لقيط عندك قالت: مرعى ولا كالسعدان. أبو الفضل: عن بعض رجاله قال: قدم قيس بن زهير بعدما قتل أهل الهباءة على النمر بن قاسط فقال: يا معشر النمر نزعت إليكم غريباً حزيناً فانظروا لي امرأة أتزوجها قد أذلها الفقر وأدبها الغنى لها حسب وجمال. فزوجوه على هيئة ما طلب. فقال: إني لا أقيم فيكم حتى أعلمكم أخلاقي: إني غيور فخور ضجور ولكني لا أغار حتى أرى ولا أفخر حتى أفعل ولا آنف حتى أظلم. فأقام فيهم حتى ولد له غلام سماه خليفة ثم بدا له أن يرتحل عنهم فجمعهم ثم قال: يا معشر النمر إن لكم علي حقاً وأنا أريد أن أوصيكم فآمركم بخصال وأنهاكما عن خصال: بالإبل فإن بها تنال الفرصة وسودوا من لا تعابون بسؤدده وعليكم بالوفاء فإن به عيش الناس وإعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة ومنع ما تريدون منعه قبل القسم وإجارة الجائر على الدهر وتنفيس المنازل. وأنهاكم عن الرهان فإن بها ثكلت مالكا وأنهاكم عن البغي فإنه صرع زهيراً وعن السرف في الدماء فإن يوم الهباءة أورثني الذل ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق ولا تردوا الأكفاء عن النساء فتحوجوهن إلى البلاء فإن لم تجدوا الأكفاء فخير أزواجهن القبور. واعلموا أني أصبحت ظالماً مظلوماً ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكاً وظلمت بقتلي من لا ذنب له. كان الفاكه بن المغيرة المخزومي أحد فتيان قريش وكان قد تزوج هند بنت عتبة وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس فيه بلا إذن فقام يوماً في ذلك البيت وهند معه ثم خرج عنها وتركها نائمة فجاء بعض من كان يغشى البيت فلما وجد المرأة نائمة ًولى عنها. فاستقبله الفاكه بن المغيرة فدخل على هند وأنبهها وقال: من هذا الخارج من عندك قالت: والله ما انتبهت حتى أنبهتني وما رأيت أحداً قط. قال: الحقي بأبيك. وخاض الناس في أمرهم. فقال لها أبوها: يا بنية: أنبئيني شأنك فإن كان الرجل صادقاً دسست عليه من يقتله فينقطع عنك العار وإن كان كاذباً حاكمته إلى بعض كهان اليمن: قالت: والله يا أبت إنه لكاذب. فخرج عتبة فقال: إنك رميت ابنتي بشيء عظيم فإما أن تبين ما قلت وإلا فحاكمني إلى بعض كهان اليمن. قال: ذلك لك. فخرج الفاكه في جماعة من رجال قريش ونسوة من بني مخزوم وخرج عتبة في رجال ونسوة من بني عبد مناف فلما شارفوا بلاد الكاهن تغير وجه هند وكسف بالها. فقال لها أبوها: أي بنية ألا كان هذا قبل أن يشتهر في الناس خروجنا قالت: يا أبت والله ما ذلك لمكروه قبلي ولكنكم تأتون بشراً يخطئ ويصيب ولعله أن يسمني بسمة تبقى على ألسنة العرب. فقال لها أبوها: صدقت ولكني سأخبره لك. فصفر بفرسه فلما أدلى عمد إلى حبة بر فأدخلها في إحليله ثم أوكى عليها وسار. فلما نزلوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم. فقال له عتبة: إنا أتيناك في أمر قد خبأنا لك خبية فما هي قال: ثمرة في كمرة. قال: أريد أبين من هذا. قال: حبة بر في إحليل مهر. قال: صدقت فانتظر في أمر هؤلاء النسوة فجعل يمسح رأس كل واحدة منهن ويقول: قومي لشأنك حتى إذا بلغ إلى هند مسح يده على رأسها وقال: قومي غير رسحاء ولا زانية وستلدين ملكاً سمى معاوية. فلما خرجت أخذ الفاكه بيدها فنترت يده من يدها وقالت: والله لأحرصن أن يكون ذلك الولد من غيرك. فتزوجها أبو سفيان فولدت معاوية. وذكروا أن هند بنت عتبة بن ربيعة قالت لأبيها: يا أبت إنك زوجتني من هذا الرجل ولم تؤامرني في نفسي فعرض لي معه ما عرض فلا تزوجني من أحد حتى تعرض علي أمره وتبين لي خصاله. فخطبها سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب فدخل عليها أبوها وهو يقول: أتاك سهيل وابن حرب وفيهما رضاً لك يا هند الهنود ومقنع وما منهما إلا يعاش بفضله وما منهما إلا يضر وينفع فدونك فاختاري فأنت بصيرةٌ ولا تخدعي إن المخادع يخدع قالت: يا أبت والله ما أصنع بهذا شيئاً ولكن فسر لي أمرهما وبين لي خصالهما حتى أختار لنفسي أشدهما موافقة لي. فبدأ يذكر سهيل بن عمرو فقال: أما أحدهما ففي سطةٍ من العشيرة وثروة من العيش إن تابعته تابعك وإن ملت عنه حط عليك تحكمين عليه في أهله وماله. وأما الآخر فموسع عليه منظور إليه في الحسب والحسيب والرأي الأريب مدره أرومته وعز عشيرته شديد الغيرة كثير الطيرة لا ينام على ضعة ولا يرفع عصاه عن أهله. فقالت: يا أبت الأول سيد مضياع للحرة فما عست أن تلين بعد إبائها وتصنع تحت جناحه إذا تابعها بعلها فأشرت وخافها أهلها فأمنت فساءت عند ذلك حالها وقبح عند ذلك دلالها فإن جاءت بولد أحمقت وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت فاطو ذكر هذا عني ولا تسمه لي. وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة الحرة العفيفة وإني للتي لا أريب له عشيرة فتغيره ولا تصيبه بذعر فتضيره وإني لأخلاق مثل هذا لموافقة فزوجنيه. فزوجها من أبي سفيان. فولدت له معاوية وقبله يزيد فقال في ذلك سهيل بن عمرو: نبئت هنداً تبر الله سعيها تأبت وقالت وصف أهوج مائق وما هوجي يا هند إلا سجية أجر لها ذيلي بحسن الخلائق ولكنني أكرمت نفسي تكرماً ورافعت عنها الذم عند الخلائق وإني إذا ما حرة ساء خلقها صبرت عليها صبر آخر عاشق فإن هي قالت خل عنها تركتها وأقلل بترك من حبيبٍ مفارق فإن سامحوني قلت أمري إليكم وإن أبعدوني كنت في رأس حالق فلم تنكحي يا هند مثلي وإنني لمن لم تمقني فاعلمي غير وامق فبلغ أبا سفيان فقال: والله لو أعلم شيئاً يرضي أبا زيد سوى طلاق هند لفعلته. وألح سهيل في تنقص أبي سفيان. فقال أبو سفيان: رأيت سهيلاً قد تفاوت شأوه وفرط في العلياء كل عنان وأصبح يسمو للمعالي وإنه لذو جفنةٍ مغشية وقيان وشربٍ كرام من لؤي بن غالب عراض المساعي عرضة الحدثان ولكنه يوماً إذا الحرب شمرت وأبرز فيها وجه كل حصان تطأطأ فيها ما استطاع بنفسه وقنع فيها رأسه ودعاني فأكفيه ما لا يستطاع دفاعه وألقيت فيها كلكلي وجراني ناقة ويقود شاة فقال لأبيه: يا أبت هذه ابنة هذه يريد الشاة ابنة الناقة فقال أبوه: يرحم الله هندا يعني ما كان من فراستها فيه. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله لو تزوجت أم هانئ بنت أبي طالب فقد جعل الله لها قرابةً فتكون صهراً أيضاً. فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: والله لهو أحب إلي من سمعي وبصري ولكن حقه عظيم وأنا موتمةٌ فإن قمت بحقه خفت أن أضيع أيتامي وإن قمت بأمرهم قصرت عن حقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناها على ولد في صغره وأرعاها على بعل في ذات يده. لو علمت أن مريم بنت عمران ركبت جملا لاستثنيتها. ولما توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن عفان عرض عليه عمر ابنته حفصة فسكت عنه عثمان. وقد كان بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يزوجه ابنته الأخرى. فشكا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سكوت عثمان عنه فقال له: سيزوج الله ابنتك خيراً من عثمان ويزوج عثمان خيراً من ابنتك. فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وتزوج عثمان ابنته. ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد بن عبد العزى ذكرت ذلك زخطب عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت أبي بكر وهي صغيرة فأرسل إلى عائشة فقالت له: الأمر إليك. فلما ذكرت ذلك عائشة لأم كلثوم قالت: لا حاجة لي فيه. فقالت عائشة: أترغبين عن أمير المؤمنين قالت: نعم. إنه خشن العيش شديد على النساء فأرسلت عائشة إلى المغيرة بن شعبة فأخبرته فقال لها: أنا أكفيك. فأتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين بلغني عنك أمر أعيذك بالله منه. قال: ما هو قال: بلغني أنك خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر. قال: نعم. أفرغبت بها عني أم رغبت بي عنها قال: لا واحدة منهما ولكنها حدثة نشأت تحت كنف خليفة رسول الله في لين ورفق وفيك غلظة ونحن نهابك وما نقدر أن نردك على خلق من أخلاقك فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك فقال: كيف لي بعائشة وقد كلمتها قال: أنا لك بها وأدلك على خير لك منها أم كلثوم بنت علي من فاطمة بنت رسول الله تتعلق منها بسبب من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان علي قد عزل بناته لولد جعفر بن أبي طالب. فلقيه عمر فقال: يا أبا الحسن أنكحني ابنتك أم كلثوم بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قد حسبتها لابن جعفر. قال: إنه والله ما على الأرض أحد يرضيك من حسن صحبتها بما أرضيك به فأنكحني يا أبا الحسن. قال: قد أنكحتكها يا أمير المؤمنين. فأقبل عمر فجلس على الروضة بين القبر والمنبر واجتمع إليه المهاجرون والأنصار. فقال: زفوني. قالوا: بمن يا أمير المؤمنين قال: بأم كلثوم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي " وقد تقدمت لي صحبة فأحببت أن يكون لي معها سبب. فولدت له أم كلثوم زيد بن عمر ورقية بنت عمر. وزيد بن عمر هو الذي لطم سمرة بن جندب عند معاوية إذا تنقص علياً فيما يقال. وخطب سليمان الفارسي إلى عمر ابنته فوعده بها فشق ذلك على عبد الله بن عمر فلقي عمرو بن العاص فشكا ذلك إليه. فقال له: سأكفيكه. فلقي سلمان فقال له: هنيئاً لك يا أبا عبد الله هذا أمير المؤمنين يتواضع لله عز وجل في تزويجك ابنته. فغضب سلمان وقال: لا والله لا تزوجت إليه أبداً. وخرج بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيه إلى قوم من بني ليث يخطب إليهم لنفسه ولأخيه فقال: أنا بلال وهذا أخي كنا ضالين فهدانا الله وكنا عبدين فأعتقنا الله وكنا فقيرين فأغنانا الله فإن تزوجونا فالحمد لله وإن تردونا فالمستعان الله. قالوا: نعم وكرامة. فزوجوهما. قالت تماضر امرأة عبد الرحمن بن عوف لعثمان بن عفان: هل لك في ابنة عمٍ لي بكر جميلة ممتلئة الخلق أسيلة الخد أصيلة الرأي تتزوجها قال: نعم. فذكرت له نائلة بنت الفرافصة الكلبية فتزوجها وهي نصرانية فتحنفت وحملت إليه من بلاد كلب فلما دخلت عليه قال لها: لعلك تكرهين ما ترين من شيبي قالت: والله يا أمير المؤمنين إني من نسوة أحب أزواجهن إليهن الكهل. قال: إني قد جزت الكهول وأنا شيخ قالت: أذهبت شبابك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خير ما ذهبت فيه الأعمار. قال: أتقومين إلينا أم نقوم إليك قالت: ما قطعت إليك أرض السماوة وأريد أن أنثني إلى عرض البيت وقامت إليه. فقال لها: انزعي ثيابك فنزعتها. فقال: حلي مرطك. قالت: أنت وذاك. قال أبو الحسن: فلم تزل نائلة عند عثمان حتى قتل فلما دخل إليه وقته بيدها فجذمت أناملها فأرسل إليها معاوية بعد ذلك يخطبها فأرسلت إليه: ما ترجو من امرأة جذماء. وقيل: إنها قالت لما قتل عثمان: إني رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثوب وقد خشيت أن يبلى حزن عثمان من قلبي فدعت بفهر فهتمت فاها وقالت: والله لا قعد أحدٌ مني مقعد عثمان أبداً. وكانت فاطمة بنت الحسين بن علي عند حسن بن حسن بن علي فلما احتضر قال لبعض أهله: كأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان إذا سمع بموتي قد جاء يتهادى في إزار له مورد قد أسبله فيقول: جئت أشهد ابن عمي وليس يريد إلا النظر إلا فاطمة فإذا جاء فلا يدخلن. قال: فوالله ما هو إلا أن غمضوه. فجاء عبد الله بن عمرو في تلك الصفة التي وصفها فمنع ساعة فقال بعض القوم: لا يدخل وقال بعضهم: افتحوا له فإن مثله لا يرد. ففتحوا له ودخل. فلما صرنا إلى القبر قامت عليه فاطمة تبكي ثم اطلعت إلى القبر فجعلت تصك وجهها بيديها حاسرة. قال: فدعا عبد الله بن عمرو وصيفاً له فقال: انطلق إلى هذه المرأة وقل لها: يقرئك ابن عمك السلام ويقول لك: كفي عن وجهك فإن لنا به حاجة. فلما بلغها الرسالة أرسلت يديها فأدخلتهما في كميها حتى انصرف الناس. فتزوجها عبد الله بن عمرو بعد ذلك فولدت له محمد بن عبد الله وكان يسمى المذهب لجماله. وكانت ولدت من حسن بن حسن عبد الله بن حسن الذي حارب أبو جعفر ولديه إبراهيم ومحمداً ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن حتى قتلهما. وعن مسلمة بن محارب قال: ما رأيت قرشيا قط كان أكمل ولا أجمل من محمد بن عبد الله بن عمرو الذي ولدته فاطمة بنت الحسين وكانت له ابنة ولدها محمد وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير كانت أمها خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير وأم عروة أسماء بنت أبي بكر الصديق وأم محمد فاطمة بنت الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم فاطمة بنت الحسين أم إسحاق بن طلحة بن عبد الله وأم عبد الله بن عمرو بن عثمان سودة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب. وعن الهيثم بن عدي الطائي قال: حدثنا مجالد عن الشعبي قال: لقيني شريح فقال: يا شعبي عليك بنساء بني تميم فإني رأيت لهن عقولا. قال: وما رأيت من عقولهن قال: أقبلت من جنازة ظهرا فمررت بدورهم فإذا أنا بعجوز على باب دار وإلى جنبها جارية كأحسن ما رأيت من الجواري فعدلت فاستسقيت وما بي عطش. فقالت: أي الشراب أحب إليك فقلت: ما تيسر قال: ويحك يا جارية إيتيه بلبن فإني أظن الرجل غريباً قلت: من هذه الجارية قالت: هذه زينب بنت جرير إحدى نساء بني حنظلة قلت: فارغة هي أم مشغولة قالت: بل فارغة. قلت: زوجينيها. قالت: إن كنت لها كفواً وهي لغة تميم. فمضيت إلى المنزل فذهبت لأقيل. فامتنعت مني القائلة فلما صليت الظهر أخذت بأيدي إخواني من القراء الأشراف: علقمة والأسود والمسيب وموسى بن عرفطة ومضيت أريد عمها. فاستقبل فقال: يا أبا أمية حاجتك قلت: زينب بنت أخيك قال: ما بها رغبة عنك. فأنكحنيها. فلما صارت في حبالي ندمت وقلت: أي شيء صنعت بنساء بني تميم وذكرت غلظ قلوبهن فقلت: أطلقها ثم قلت: لا ولكن أضمها إلي فإن رأيت ما أحب وإلا كان ذلك. فلو رأيتني يا شعبي وقد أقبل نساؤهم يهدينها حتى أدخلت علي فقلت: إن من السنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم فيصلي ركعتين فيسأل الله من خيرها ويعوذ به من شرها فصليت وسلمت فإذا هي من خلفي تصلي بصلاتي فلما قضيت صلاتي أتتني جواريها فأخذن ثيابي وألبسنني ملحفة قد صبغت في عكر العصفر فلما خلا البيت دنوت منها فمددت يدي إلى ناصيتها فقالت: على رسلك أبا أمية كما أنت ثم قالت: الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد وآله إني امرأةٌ غريبة لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآتيه وما تكره فأزدجر عنه. وقالت: إنه قد كان لك في قومك منكح. وفي قومي مثل ذلك ولكني إذا قضى الله أمراً كان وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله به: " إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك. قال: فأخرجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع فقلت: الحمد لله احمده وأستعينه وأصلي على النبي وآله وسلم. وبعد فإنك قد قلت كلاماً إن تثبتي عليه يكن ذلك حظك وإن تدعيه يكن حجة عليك أحب كذا وأكره كذا ونحن جميع فلا تفرقي وما رأيت من حسنة فانشريها وما رأيت من سيئة فاستريها وقالت شيئاً لم أذكره: كيف محبتك لزيارة الأهل قلت: ما أحب أن يملني أصهاري. قالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك آذن له ومن تكرهه أمنعه قلت: بنو فلان قوم صالحون وبنو فلان قوم سوء. قال: فبت يا شعبي بأنعم ليلة ومكثت معي حولاً لا أرى إلا ما أحب. فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء فإذا بعجوز تأمر وتنهى في الدار. فقلت: من هذه قالوا: فلانة ختنتك فسري عني ما كنت أجد فلما جلست أقبلت العجوز فقالت: السلام عليك أبا أمية. قلت: وعليك السلام من أنت قالت: أنا فلانة ختنتك قلت: قربك الله قالت: كيف رأيت زوجتك قلت: خير زوجة فقالت لي: أبا أمية إن المرأة لا تكون أسوأ حالاً منها في حالين إذا ولدت غلاماً أو حظيت عند زوجها فإن ربك ريبٌ فعليك بالسوط فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شرا من المرأة المدللة. قلت: أما والله لقد أدبت فأحسنت الأدب ورضت فأحسنت الرياضة. قالت: تحب أن يزورك أختامك قلت: متى شاؤوا. قال: فكانت تأتيني في رأس كل حول توصيني تلك الوصية فمكثت معي عشرين سنة لم أعتب عليها في شيء إلا مرة واحدة وكنت لها ظالماً أخذ المؤذن في الإقامة بعدما صليت ركعتي الفجر وكنت إمام الحي فإذا بعقرب تدب فأخذت الإناء فأكفأته عليها ثم قلت: يا زينب لا تحركي الإناء حتى أتي. فلو شهدتني يا شعبي وقد صليت ورجعت فإذا أنا بالعقرب قد ضربتها. فدعوت بالقسط والملح فجعلت أمغث إصبعها و أقرأ عليها بالحمد والمعوذتين. رأيت رجالاً يضربون نساءهم فشلت يميني حين أضرب زينبا أأضربها في غير ذنب أتت به فما العدل مني ضرب من ليس مذنبا فزينب شمس والنساء كواكب إذا طلعت لم تبد منهن كوكبا وقال أبو عبيدة: نكح الفرزدق أمةً له زنجية فولدت له بنتاً فسماها مكية وكان يكنى بها ويقول: أنا أبو مكية. فكتبت النوار يوماً إلى الفرزدق تشكو مكية فكتب إليها: كنتم زعمتم أنها ظلمتكم كذبتم وبيت الله بل تظلمونها فإن لا تعدوا أمها من نسائكم فإن أباها والد لن يشينها وإن لها أعمام صدق وإخوةً وشيخاً إذا شئتم تأيم دونها قالت النوار فإنا لا نشاء. وقال الفرزدق في أمته الزنجية: يا رب خود من بنات الزنج تنقل تنورا شديد الوهج أعسن مثل القدح الخلنج يزداد طيباً بعد طول الهرج وعن الهيثم بن عدي: عن ابن عياش قال: حدثنا سلمى الهذلي قال: كنت بسجستان مع طلحة الطلحات فلم أر أحدا كان أسخى منه ولا أشرف نفساً فكتب إلي عمي من البصرة: إني قد كبرت ومالي كثير وأكره أن أوكله غيرك فأقدم أزوجك ابنتي وأصنع بك ما أنت أهله. قال: فخرجت على بغلة لي تركية فأتيت البصرة في ثلاثين يوماً ووافيته في صلاة العصر فوجدته قاعداً على دكانه فسلمت عليه فقال لي: من أنت قلت له: ابن أخيك سلمى. قال: وأين ثقلك قلت: تعجلت إليك حين أتاني كتابك وطرت نحوكم. قال: يا ابن أخي أتدري ما قالت العرب قلت: لا. قال: قالت العرب: شر الفتيان المفلس الطروب. قال: فقمت إلى بغلتي فأعدت سرجي عليها فما قال لي شيئاً. ثم قال لي: إلى أين قلت: إلى سجستان. قال: في كنف الله. قال: فخرجت فبت في الجسر ثم ذكرت أم طلحة فانصرفت أسأل عنها وكان طلحة أبر الناس بها. فقلت: رسول طلحة فقالت: ويحك! كيف ابني قلت: على أحسن حال. قالت: فلله الحمد. وإذا بعجوز قد تحدرت قالت: فما جاء بك قلت: كيت وكيت. قالت: يا جارية. إيتيني بأربعة آلاف درهم ثم قالت: إيت عمك فابتن بابنته ولك عندنا ما تحب. قلت: لا أعود إليه أبداً. قالت: يا جارية إيتيني ببغلة ورحالة ثم قالت: رواح بين هذه وبغلتك حتى تأتي سجستان. قلت: اكتبي بالوصاة بي والحالة التي استقبلتها. فكتبت بوجعها التي كانت فيه وبعافية الله إياها وبالوصاة بي فلم تدع شيئاً ثم دفعت حتى أتيت سجستان فأتيت باب طلحة وقلت للحاجب: رسول صفية بنت الحارث وأنا عابس باسر. فدخل فخرج طلحة متوشحاً وخلفه وصيف يسعى بكرسي فقمت بين يديه فقال: ويلك! وكيف أمي قلت: بأحسن حال. قال: انظر كيف تقول قلت: هذا كتابها قال: فعرف الشواهد والعلامات قلت: اقرأ كتاب وصيتها. قال: ويحك ألم تأتني بسلامتها حسبك. فأمر لي بخمسين ألف درهم وقال لحاجبه: اكتبه في خاصة أهلي. قال: فوالله ما أتى علي الحول حتى أتم لي مائة ألف. قال ابن عياش: فقلت له: هل لقيت عمك بعد ذلك قال: لا والله ولا ألقاه أبداً. وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: أخبرني موسى السلاماني مولى الحضرمي وكان أيسر تاجر بالبصرة قال: بينا أنا جالس إذ دخل علي غلام لي فقال: هذا رجل من أهل أمك يستأذن عليك. وكانت أمه مولاةً لعبد الرحمن بن عوف. فقلت: إيذن له فدخل شاب حلو الوجه يعرف في هيئته أنه قرشي في طمرين فقلت: من أنت يرحمك الله قال: أنا عبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري خال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: في الرحب والقرب ثم قلت: يا غلام بره وأكرمه وألطفه وادخله الحمام واكسه قميصاً رقيقاً ومبطناً قرهيا ورداء عمريا وحذونا له نعلين حضرميين فلما نظر الشاب في عطفيه وأعجبته نفسه. قال: يا هذا ابغني أشرف أيم بالبصرة أو أشرف بكر بها. قلت: يا بن أخي معك مال قال: أنا مال كما أنا. قلت: يا بن أخي كف هن هذا. قال: انظر ما أقول لك. قلت: فإن أشرف أيم بالبصرة هند بنت أبي صفرة. وأشرف بكر بالبصرة الملاءة بنت زرارة بن أوفى الحرشي قاضي البصرة. قال: اخطبها علي. قلت: يا هذا إن أباها قاضي البصرة. قال: انطلق بنا إليه. فانطلقنا إلى المسجد فتقدم فجلس إلى القاضي فقال له: من أنت يا بن أخي قال له: عبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف خال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مرحباً ما حاجتك قال: جئت خاطباً. قال: ومن ذكرت قال: الملاءة ابنتك. قال: يا بن أخي ما بنا عنك رغبة ولكنها امرأة لا يفتات عليها أمرها فاخطبها إلى نفسها. فقام إلي. فقلت: ما صنعت قال: كذا وكذا. قلت: ارجع بنا ولا تخطبها. قال: اذهب بنا إليها فدخلنا دار زرارة فإذا دار فيها مقاصير. فأستأذنا على أمها فلقيتنا بمثل كلام الشيخ ثم قالت: ها هي تلك في تلك الحجرة. قلت له: لا تأتيها. قال: أليست بكرا قلت: بلى. قال: ادخل بنا إليها فأستأذنا فأذنت لنا فوجدناها جالسة وعليها ثوبٌ قوهي رقيق معصفر تحته سراويل يرى منه بياض جسدها ومرط قد جمعته على فخذيها ومصحف على كرسي بين يديها فأشرجت المصحف ثم نحته فسلمنا فردت ثم رحبت بنا ثم قالت: من أنت قال: أنا عبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري خال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومد بها صوته قالت: يا هذا إنما يمد هذا الصوت للساسانيين. قال موسى: فدخل بعض في بعض. قالت: ما حاجتك قال: جئت خاطبا. قالت: ومن ذكرت قال: ذكرتك. قالت: مرحباً بك يا أخا أهل الحجاز وما الذي بيدك قال: لنا سهمان بخيبر أعطاناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ومد بها صوته وعين بمصر وعين باليمامة ومال باليمن قالت: يا هذا كل هذا عنا غائب ولكن ما الذي يحصل بأيدينا منك. فإني أظنك تريد أن تجعلني كشاة عكرمة. أترري من عكرمة قال لا قالت: عكرمة بن ربعي فإنه كان نشأ بالسواد ثم انتقل إلى البصرة وقد تغدى باللبن فقال لزوجته: اشتري لنا شاة نحلبها وتصنعين لنا من لبنها شراباً وكامخاً ففعلت. وكانت عندهم الشاة إلى أن استحرمت. فقالت: يا جارية: خذي بأذن الشاة وانطلقي بها إلى التياس فأنزي عليها ففعلت فقال التياس: آخذ منك على النزوة درهما. فانصرفت إلى سيدتها فأعلمتها فقالت: إنما رأينا من يرحم ويعطي وأما من يرحم ويأخذ فلم نره ولكن يا أخا أهل المدينة. أردت أن تجعلني كشاة عكرمة. فلما خرجنا قلت له: ما كان أغناك عن هذا! قال: ما كنت أظن أن امرأة تجترئ على مثل هذا الكلام. وعن الأصمعي قال: كان عقيل بن علفة المري غيوراً فخوراً وكان يصهر إليه خلفاء بني أمية فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لبعض ولده فقال: جنبني هجناء ولدك. وكان إذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء معه فخرج مرة فنزلوا ديراً من أديرة الشام يقال له دير سعد فلما ارتحلوا قال عقيل: قضت وطراً من دير سعد وربما غلا عرض ناطحنه بالجماجم ثم قال لابنه: أجز يا عميس. فقال: فأصبحن بالموماة يحلمن فتية نشاوى من الإدلاج ميل العمائم ثم قال لابنته: يا جرباء أجيزي. فقالت: كأن الكرى أسقاهم صرخديةً عقارا تمشت في المطا والقوائم فقال لها: وما يدريك أنت ما نعت الخمر ثم سل السيف ونهض إليها فاستغاثت بأخيها عملس فانتزعه بسهم فأصاب فخذه فبرك ومضوا وتركوه حتى إذا بلغوا أدنى المياه منهم قالوا لهم: إنا أسقطنا جزوراً لنا فادركوه وخذوا معكم الماء. ففعلوا وإذا عقيل بارك وهو يقول: إن بني زملوني بالدم من يلق أبطال الرجال يكلم ومن يكن درء به يقوم شنشنة أعرفها من أخزم الشنشنة: الطبيعة وأخزم: فحل كريم وهذا مثل للعرب. الشيباني عن عوانة قال: خطب عبد الملك بن مروان بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فأبت أن تتزوجه. وقالت: والله لا تزوجني أبا الذبان. فتزوجها يحيى بن الحكم. فقال عبد الملك: والله لقد تزوجت أفوه أشوه. فقال يحيى. أما إنها أحبت مني ما كرهت منك وكان عبد الملك رديء الفم يدمى فيقع عليه الذباب فسمي أبا الذبان. وعن العتبي قال: خطب قريبة بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب أربعة عشر رجلاً من أهل بدر فأبتهم وتزوجت عقيل بن أبي طالب وقالت: إن عقيلاً كان مع الأحبة يوم قتلوا وإن هؤلاء كانوا عليهم. ولاحته يوما فقالت: يا عقيل أين أخوالي أين أعمامي كأن أعناقهم أباريق الفضة قال لها: إذا دخلت النار فخذي على يسارك. وكتب زياد إلى سعيد بن العاص يخطب إليه ابنته وبعث إليه بمال كثير وهدايا فلما قرأ الكتاب أمر حاجبه بقبض المال والهدايا وأن يقسمها بين جلسائه. فقال الحاجب: إنها أكبر من ظنك. قال سعيد: أنا اكبر منها ثم وقع إلى زياد في أسفل كتابه: " كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى. وقال رجل للحسن: إن لي بنية فمن ترى أن أزوجها قال: زوجها ممن يتقي الله فإن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها. وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز: قد زوجك أمير المؤمنين ابنته فاطمة. فقال قيل للحسن: فلان خطب إلينا فلانة قال: أهو موسر من عقل ودين قالوا: نعم قال: فزوجوه. وقال رجل لحيوة بن شريح: إني أريد أن أتزوج فماذا ترى قال: كم المهر قال مائة. قال: فلا تفعل. تزوج بعشرة وأبق تسعين. فإن وافقتك ربحت التسعين وإن لم توافقك تزوجت عشراً فلا بد في عشرة نسوة من واحدة توافقك. وقال رجل: أردت النكاح فقلت: لأستشيرن أول من يطلع علي ثم أعمل برأيه فكان أول من طلع هبنقة القيسي وتحته قصبة فقلت له: أريد النكاح فما تشير علي قال البكر لك والثيب عليك وذات الولد لا تقربها واحذر جوادي لا ينفحك. وعن الأصمعي قال: أخبرني رجل من بني العنبر عن رجل من أصحابه وكان مقلا فخطب إليه مكثر من مال مقل من عقل فشاور فيه رجلاً يقال له أبو يزيد. فقال: لا تفعل ولا تزوج إلا عاقلاً ديناً فإنه إن لم يكرمها لم يظلمها. ثم شاور رجلاً آخر يقال له أبو العلاء فقال له: زوجه فإن ماله لها وحمقه على نفسه. فزوجه فرأى منه ما يكره في نفسه وابنته فقال: ألهفي إذ عصيت أبا يزيد ولهفي إذ أطعت أبا العلاء وكانت هفوةً من غير ريح وكانت زلفة من غير ماء الفضل بن محمد الضبي قال: أخبرني مسعر بن كدم عن معبد بن خالد الجدلي قال: خطبت امرأة من بني أسد في زمن زياد وكان النساء يجلسن لخطابهن قال: فجئت لأنظر إليها وكان بيني وبينها رواق فدعت بجفنة عظيمة من الثريد مكللة باللحم فأتت على آخرها وألقت العظام نقية ثم دعت بشنٍ عظيم مملوء لبنا فشربته حتى أكفأته على وجهها وقالت: يا جارية ارفعي السجف فإذا هي جالسة على جلد أسد وإذا امرأة جميلة فقالت: يا عبد الله أنا أسدة من بني أسد وعلي جلد أسد وهذا طعامي وشرابي فعلام ترى فإن أحببت أن تتقدم فتقدم وإن أحببت أن تتأخر فتأخر. فقلت: أستخير الله في أمري وانظر. قال: فخرجت ولم أعد. قال: وحدثنا بعض أصحابنا أن جارية لأمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد ذات ظرف وجمال مرت برجل من بني سعد وكان شجاعاً فارساً فلما رآها قال: طوبى لمن كانت له امرأة مثلك! ثم إنه أتبعها رسول يسألها: ألها زوج ويذكره لها. فقالت للرسول: ما حرفته فأبلغه الرسول قولها. فقال: ارجع إليها فقل لها: وسائلة ما حرفتي قلت حرفتي مقارعة الأبطال في كل شارق إذا عرضت لي الخيل يوماً رأيتني أمام رعيل الخيل أحمي حقائقي فأنشدها الرسول ما قال. فقالت له: ارجع إليه وقل له: أنت أسد فاطلب لنفسك لبؤة فلست من نسائك وأنشدت هذه الأبيات: إلا إنما أبغي جواداً بماله كريماً محياه قليل الصدائق فتى همه مذ كان خودٌ كريمة يعانقها بالليل فوق النمارق ويشربها صرفاً كميتاً مدامة نداماه فيها كل خرق موافق يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن الحكم عن الشافعي قال: تزوج رجل امرأة حديثة على امرأة له قديمة فكانت جارية الحديثة تمر على باب القديمة فتقول: وما تستوي الرجلان رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزان فشلت ثم تعود فتقول: وما يستوي الثوبان ثوبٌ به البلى وثوب بأيدي البائعين جديدٌ فمرت جارية القديمة على الحديثة فأنشدت: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما القلب إلا للحبيب الأول كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل وعن الشعبي قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: ما غلبني أحدٌ قط إلا غلام من بني الحارث بن كعب وذلك أني خطبت امرأة من بني الحارث وعندي شاب منهم فأصغى إلي فقال: أيها الأمير لا خير لك فيها. قلت. يا بن أخي وما لها قال: إني رأيت رجلاً يقبلها. قال: فبرئت منها. فبلغني أن الفتى تزوجها فأرسلت إليه فقلت: ألم تخبرني أنك رأيت رجلاً يقبلها قال: نعم. رأيت أباها يقبلها. أبو سعيد الشحام قال: صحبت ابن سيرين عشرين سنة فقال لي يوماً: يا أبا سعيد إن تزوجت فلا تتزوج امرأة تنظر في يدها ولكن تزوج امرأة تنظر في يدك. صفات النساء وأخلاقهن قال أبو عمرو بن العلاء: أعلم الناس بالنساء عبدة بن الطبيب حيث يقول: فإن تسألوني بالنساء فإنني عليمٌ بأدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قل ماله فليس له في ودهن نصيب يردن ثراء المال حيث علمنه وشرخ الشباب عندهن عجيب وهذه الأبيات لعلقمة بن عبدة المعروف بالفحل وأول القصيدة: طحا بك قلب في الحسان طروب وعن رجاء بن حيوة عن معاذ بن جبل قال: إنكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم وإني أخاف عليكم فتنة السراء وهي النساء إذا تحلين بالذهب ولبسن ريط الشام وعصب اليمن فأتعبن الغني وكلفن الفقير ما لا يطال. وقال عبد الملك بن مروان: من أراد أن يتخذ جارية للمتعة فليتخذها بربرية ومن أرادها للولد فليتخذها فارسية ومن أرادها للخدمة فليتخذها رومية. وعن أبي الحسن المدائني قال: قال يزيد بن عمر بن هبيرة: اشتروا لي جارية شقاء مقاء رسحاء بعيدة ما بين المنكبين ممسوحة الفخذين. قوله: شقاء: يريد كأنها شقة جبل. مقاء: طويلة. رسحاء: صغيرة العجيزة وإنما أراد للولد ويقال: إن الأرسح أفرس من العظيم العجيزة. وقال عمر بن هبيرة لرجل: ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً ولا بأرسح فتكون فارساً. وقال الأصمعي وذكر النساء: بنات العم أصبر والغرائب أنجب وما ضرب رؤوس الأبطال كابن الأعجمية. أبو حاتم عن الأصمعي عن يونس بن مصعب عن عثمان بن إبراهيم بن محمد قال: أتاني رجل من قريش يستشيرني في امرأة يتزوجها فقلت: يا بن أخي أقصيرة النسب أم طويلته فلم يفهم عني. فقلت: يا بن أخي إني أعرف في العين إذا عرفت وأنكر فيها إذا أنكرت وأعرف فيها إذا لم تعرف ولم تنكر. أما إذا عرفت فتتحاوص أما إذا أنكرت فتجحظ وأما إذا تعرف ولم تنكر فتسجو وقد رأيت عينك ساجية فالقصيرة النسب التي إذا ذكرت أباها اكتفت به والطويلة النسب التي لا تعرف حتى تطيل في نسبتها فإياك أن تقع في قوم قد أصابوا كثيرا من الدنيا مع دناءة فيهم فتضع نفسك بهم. وعن العتبي قال: كان عند الوليد بن عبد الملك أربع عقائل: لبابة بنت عبد الله بن عباس وفاطمة بنت يزيد بن معاوية وزينب بنت سعيد بن العاص وأم جحش بنت عبد الرحمن بن الحارث فكن يجتمعن على مائدته ويفترقن فيفخرن. فاجتمعن يوماً فقالت لبابة: أما والله إنك لتسويني بهن وإنك تعرف فضلي عليهن. وقالت بنت سعيد: ما كنت أرى أن للفخر علي مجازا وأنا ابنة ذي العمامة إذ لا عمامة غيرها. وقالت بنت عبد الرحمن بن الحارث: ما أحب بأبي بدلاً ولو شئت لقلت فصدقت وصدقت. وكانت بنت يزيد بن معاوية جارية حديثة السن فلم تتكلم. فتكلم عنها الوليد فقال: نطق من احتاج إلى نفسه وسكت من اكتفى بغيره. أما والله لو شاءت لقالت: أنا ابنة قادتكم في الجاهلية وخلفائكم في الإسلام. فظهر الحديث حتى تحدث به في مجلس ابن عباس فقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته. الشيباني عن عوانة قال: ذكرت النساء عند الحجاج فقال: عندي أربع نسوة هند بنت المهلب وهند بنت أسماء بن خارجة وأم الجلاس بنت عبد الرحمن بن أسيد وأمة الله بنت عبد الرحمن بن جرير بن عبد الله البجلي. فأما ليلتي عند هند بنت المهلب فليلة فتى بين فتيان يلعب ويلعبون. وأما ليلتي عند هند بنت أسماء فليلة ملك بين الملوك وأما ليلتي عند أم الجلاس فليلة أعرابي مع أعراب في حديثهم وأشعارهم. وأما ليلتي عند أمة الله بنت عبد الرحمن بن جرير فليلة عالم بين العلماء والفقهاء. وعن العتبي قال: حدثني رجل من أهل المدينة قال: كان بالمدينة مخنث يدل على النساء يقال له أبو الحر وكان منقطعاً إلي فدلني على غير ما امرأة أتزوجها فلم أرض عن واحدة منهن فاستقصرته يوماً فقال: والله يا مولاي لأدلنك على امرأة لم تر مثلها قط فإن لم ترها كما وصف فاحلق لحيتي. فدلني على امرأة فتزوجها. فلما زفت إلي وجدتها أكثر مما وصف. فلما كان في السحر إذا إنسانا يدق الباب فقلت: من هذا قال: أبو الحر وهذا الحجام معه. فقلت: قد وفر الله لحيتك أبا الحر الأمر كما قلت. ابن بكير بن مالك بن هشام بن عروة عن أبيه أن مخنثا كان عند أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال لعبد الله بن أبي أمية ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع: أبا عبد الله إن فتح الله لكم الطائف غداً فأنا أدلك على بنت غيلان إنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن عليكن هذا. قوله: تقبل بأربع وتدبر بثمان يريد: عكن البطن فإنها إذا أقبلت أربع وإذا أدبرت ثمان. وضرب البعث على رجل من أهل الكوفة فخرج إلى أذربيجان فأفاد جارية وفرساً وكان مملكا بابنة عمه فكتب إليها ليغيرها: ألا أبلغوا أم البنين بأننا غنينا وأغنتنا الغطارفة المرد بعيد مناط المنكبين إذا جرى وبيضاء كالتمثال زينها العقد فهذا لأيام العدو وهذه لحاجة نفسي حين ينصرف الجند فلما ورد كتابه قرأته وقالت: يا غلام هات الدواة. فكتبت إليه تجيبه: ألا أقره منا السلام وقل له غنينا وأغنتنا غطارفة المرد بحمد أمير المؤمنين أقرهم شباباً وأغزاكم خوالف في الجند إذا شئت غناني غلامٌ مرجل ونازعته من ماء معتصر الورد وإن شاء منهم ناشئٌ مد كفه إلى الكبد ملساء أو كفل نهد فما كنتم تقضون من حاج أهلكم شهوداً قضيناها على النأي والبعد فلا قفل الجند الذي أنت فيهم وزادك رب الناس بعداً إلى بعد فلما ورد كتابها لم يزد على أن ركب فرسه وأردف الجارية ولحق بها فكان أول شيء بدأها به بعد السلام أن قال: بالله هل كنت فاعلة قالت: الله أجل في قلبي وأعظم وأنت في عيني أذل وأحقر من أن أعصى الله فيك فكيف ذقت طعم الغيرة فوهب لها الجارية وانصرف إلى بعثه. وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: أي النساء أشهى إليك قال: المواتية لك فيما تهوى. قال: فأيهن أبغض قال: أبعدهن مما ترضى قال: هذا النقد العاجل. فقال صعصعة: بالميزان العادل. وقال صعصعة لمعاوية: يا أمير المؤمنين كيف ننسبك إلى العقل وقد غلب عليك نصف إنسان. يريد غلبة امرأته فاخته بنت قرظة عليه فقال معاوية: إنهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام. وعن سفيان بن عيينة قال: شكا جرير بن عبد الله البجلي إلى عمر بن الخطاب ما يلقى من النساء فقال: لا عليك فإن التي عندي ربما خرجت من عندها فتقول: إنما تريد أن تتضع لفتيات بني عدي. فسمع كلامهما ابن مسعود فقال: لا عليكما فإن إبراهيم الخليل شكل إلى ربه رداءة في خلق سارة فأوحى الله إليه: أن ألبسها لباسها ما لم تر في دينها وصماً. فقال وكتب إلى الحجاج إلى أيوب بن القرية: أن اخطب على عبد الملك بن الحجاج امرأة جميلة من بعيد مليحة من قريب شريفة في قومها ذليلة في نفسها مواتية لبعلها. فكتب إليه: قد أصبتها لولا عظم ثدييها. فكتب إليه: لا يكمل حسن المرأة حتى يعظم ثدياها فتدفئ الضجيع وتروي الرضيع. وقال أبو العباس السفاح أمير المؤمنين لخالد بن صفوان: يا خالد إن الناس قد أكثروا في النساء فأيهن أعجب إليك قال: أعجبهن يا أمير المؤمنين التي ليست بالضرع الصغيرة ولا الفانية الكبيرة. وحسبك من جمالها أن تكون فخمةً من بعيد مليحة من قريب أعلاها قضيب وأسفلها كثيب كانت في نعمة ثم أصابتها فاقة فأترفها الغنى وأدبها الفقر. ونظر خالد بن صفوان إلى جماعة في المسجد بالبصرة فقال: ما هذه الجماعة قالوا: على امرأة تدل على النساء فأتاها فقال لها: أبغني امرأة: قالت: صفها لي. قال: أريدها بكراً كثيب أو ثيباً كبكر حلوة من قريب فخمة من بعيد. كانت في نعمة فأصابتها فاقة فمعها أدب النعمة وذل الحاجة فإذا اجتمعنا كنا أهل دنيا وإذا افترقنا كنا أهل آخرة. قال: قد أصبتها لك قال: وأين هي قال: في الرفيق الأعلى من الجنة فاعمل لها. وسئل أعرابي عن النساء وكان ذا تجربة وعلم بهن فقال: أفضل النساء أطولهن إذا قامت وأعظمهن إذا قعدت وأصدقهن إذا قالت التي إذا غضبت حلمت وإذا ضحكت تبسمت وإذا صنعت شيئاً جودت التي تطيع زوجها وتلزم بيتها العزيزة في قومها الذليلة في نفسها الودود الولود وكل أمرها محمود. وقال عبد الملك بن مروان لرجل من غطفان: صف لي أحسن النساء فقال خذها يا أمير المؤمنين ملساء القدمين درماء الكعبين مملوءة الساقين جماء الركبتين لفاء الفخذين مقرمدة الرفغين ناعمة الأليتين منيفة المأكمتين بداء الوركين مهضومة الخصرين ملساء المتنين مشرفة فعمة العضدين فخمة الذراعين رخصة الكفين ناهدة الثديين حمراء الخدين كحلاء العينين زجاء الحاجبين لمياء الشفتين بلجاء الجبين شماء العرنين شنباء الثغر حالكة الشعر غيداء العنق عيناء العينين مكسرة البطن ناتئة الركب. فقال: ويحك! وأين توجد هذه قال: تجدها في خالص العرب أو في خالص الفرس. وقال رجل لخاطب: أبغني امرأةً لا تؤنس جاراً ولا توهن داراً ولا تثقب ناراً. يريد لا تدخل على الجيران ولا يدخل عليها الجيران ولا تغري بينهم بالشر. وفي نحو هذا يقول الشاعر: من الأوانس مثل الشمس لم يرها في ساحة لا بعلٌ ولا جارٌ لم تمش ميلاً ولم تركب على جمل ولا ترى الشمس إلا دونها الكلل وقال آخر: أبغني امرأة بيضاء مديدة فرعاء جعدة تقوم فلا يصيب قميصها منها إلا مشاشة منكبيها وحلمتي ثدييها ورانفتي أليتيها. وقال الشاعر: أبت الروادف والثدي لقمصها مس البطون وإن تمس ظهورا وإذا الرياح مع العشي تناوحت نبهن حاسدةً وهجن غيورا ولآخر: إذا انبطحت فوق الأثافي رفعنها بثديين في نحر عريض وكعثب ونظر عمران بن حطان إلى امرأته. وكانت من أجمل النساء وكان من أقبح الرجال فقال: إني وإياك في الجنة إن شاء الله. قالت له: كيف ذاك قال: إني أعطيت مثلك فشكرت وأعطيت مثلي فصبرت. ونظر أبو هريرة إلى عائشة بنت طلحة فقال: سبحان الله! ما أحسن ما غذاك أهلك! والله ما رأيت وجهاً أحسن منك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معاوية من أحسن الناس. من اللاء لم يحججن يبغين حسبةً ولكن ليقتلن البريء المغفلا فقال لها: صان الله ذلك الوجه عن النار. فقيل له: أفتنتك يا عبد الله قال: لا ولكن الحسن مرحوم. وقال يونس: أخبرني محمد بن إسحاق قال: دخلت على عائشة بنت طلحة فوجدتها متكئة ولو أن بختية نوخت خلفها ما ظهرت. السري بن إسماعيل عن الشعبي قال: إني لفي المسجد نصف النهار إذ سمعت باب القصر يفتح فإذا بمصعب بن الزبير ومعه جماعة. فقال: يا شعبي اتبعني. فاتبعته. فأتى دار موسى بن طلحة فدخل مقصورةً ثم دخل أخرى ثم قال: يا شعبي اتبعني فاتبعته. فإذا امرأة جالسة عليها من الحلى والجواهر ما لم أر مثله وهي أحسن من الحلى الذي عليها. فقال: يا شعبي هذه ليلى التي يقول فيها الشاعر: وما زلت في ليلى لدن طر شاربي إلى اليوم أخفي حبها وأداجن وأحمل في ليلى لقوم ضغينةً وتحمل في ليلى علي الضغائن هذه عائشة بنت طلحة. فقالت له: أما إذا جلوتني عليه فأحسن إليه. فقال: يا شعبي. رح العشية فرحت. فقال: يا شعبي ما ينبغي لمن جليت عليه عائشة بنت طلحة أن ينقص عن عشرة آلاف. فأمر لي بكسوة وقارورة غالية. فقيل للشعبي في ذلك اليوم: كيف الحال قال: وكيف حال من صدر عن الأميرة ببدرة وكسوة وقارورة غالية ورؤية وجه عائشة بنت طلحة. وكان عمرو بن حجر ملك كندة وهو جد امرئ القيس أراد أن يتزوج ابنة عوف من محلم الشيباني الذي يقال فيه: لا حر بوادي عوف لإفراط عزه. وهي أم إياس وكانت ذات جمال وكمال. فوجه إليها امرأة يقال لها عصام - ذات عقل وبيان وأدب - لتنظر إليها وتمتحن ما بلغه عنها. فدخلت على أمها أمامة بنت الحارث فأعلمتها ما قدمت له. فأرسلت إلى ابنتها: أي بنية هذه خالتك أتت إليك لتنظر إلى بعض شأنك فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه من وجه وخلق وناطقيها فيما استنطقتك فيه. فدخلت عصام عليها فنظرت إلى ما لم تر عينها مثله قط بهجةً وحسناً وجمالاً. فإذا هي أكمل الناس عقلاً وأفصحهم لساناً. فخرجت من عندها وهي تقول: ترك الخداع من كشف القناع. فذهبت مثلا. ثم أقبلت إلى الحارث فقال لها: ما وراءك يا عصام فأرسلها مثلاً. قالت: صرح المخض عن الزبدة. فذهبت مثلاً. قال: أخبريني قالت: أخبرك صدقاً وحقاً رأيت جبهةً كالمرآة الصقيلة يزينها شعر حالك كأذناب الخيل المضفورة إن أرسلته خلته السلاسل وإن مشطته قلت عناقيد كرم جلاه الوابل ومع ذلك حاجبان كأنهما خطا بقلم أو سودا بحمم قد تقوسا على مثل عين العبهرة التي لم يرعها قانص ولم يذعرها قسورة بينهما أنف كحد السيف المصقول لم يخنس به قصر ولم يمعن به طول حفت به وجنتان كالأرجوان في بياض محض كالجمان شق فيه فم كالخاتم لذيذ المبتسم فيه ثنايا غر ذوات أشر وأسنان تعد كالدر وريق تنم إليك منه ريح الخمر أم نشر الروض بالسحر يتقلب فيه لسان ذو فصاحة وبيان يقلبه عقل وافر وجواب حاضر يلتقي دونه شفتان حمراوان كالورد يحلبان ريقاً كالشهد تحت ذاك عنق كإبريق الفضة ركب في صدر تمثال دمية يتصل به عضدان ممتلئان لحماًًمكتنزان شحماً وذراعان ليس فيهما عظم يحس ولا عرق يحبس ركبت فيهما كفان رقيق قصبهما لين عصبهما تعقد إن شئت منها الأنامل وتركب الفصوص في حفر المفاصل وقد تربع في صدرها حقان كأنهما رمانتان. من تحت ذلك بطن طوي كطي القباطي المدمجة كسي عكنا كالقراطيس المدرجة. تحيط تلك العكن بسرة كمدهن العاج المجلو خلف ظهر كالجدول ينتهي إلى خصر لولا رحمة الله لانخزل تحته كفل يقعدها إذا نهضت وينهضها إذا قعدت كأنه دعص رمل لبده سقوط الطل يحمله فخذان لفاوان كأنهما نضيد الجمار تحملهما ساقان خدلجتان كالبردى وشيا بشعر أسود كأنه حلق الزرد ويحمل ذلك قدمان كحد السنان تبارك الله في صغرهما كيف تطيقان حمل ما فوقهما فأما سوى ذلك فتركت أن أصفه غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو نثر. قال: فأرسل إلى أبيها يخطبها. فكان من أمرهما ما تقدم ذكره في صدر هذا الكتاب. http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif صفة المرأة السوء قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخضراء الدمن ". يريد الجارية الحسناء في المنبت السوء. وفي حكمة داود: المرأة السوء مثل شرك الصياد. لا ينجو منها إلا من رضي الله عنه. الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: قال عمر بن الخطاب النساء ثلاثة: هينة عفيفة مسلمة تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش على أهلها وأخرى وعاء للولد وثالثة غل قمل يلقيه الله في عنق من يشاء من عباده. وقيل لأعرابي عالم بالنساء: صف لنا شر النساء. قال: شرهن النحيفة الجسم القليلة اللحم الطويلة السقم المحياض الصفراء المشؤومة العسراء السليطة الذفراء السريعة الوثبة كأن لسانها حربة تضحك من غير عجب وتقول الكذب وتدعو على زوجها بالحرب. أنف في السماء وآست في الماء. وفي رواية محمد بن عبد السلام الخشني قال: إياك وكل امرأة مذكرة منكرة حديدة العرقوب بادية الظنبوب منتفخة الوريد كلاهما وعيد وصوتها شديد تدفن الحسنات وتفشي السيئات تعين الزمان على بعلها ولا تعين بعلها على الزمان ليس في قلبها له رأفة ولا عليها منه مخافة إن دخل خرجت وإن خرج دخلت وإن ضحك بكت وإن بكى ضحكت وإن طلقها كان حريبته وإن أمسكها كانت مصيبته سعفاء ورهاء كثيرة الدعاء قليلة الإرعاء تأكل لما وتوسع ذما صخوب غضوب بذية دنية ليس تطفأ نارها ولا يهدأ إعصارها ضيقة الباع مهتوكة القناع صبيها مهزول وبيتها مزبول إذا حدثت تشير بالأصابع وتبكي في المجامع باديةٌ من حجابها نباحة على بابها تبكي وهي ظالمة وتشهد وهي غائبة قد ذل لسانها بالزور وسال دمعها بالفجور. نافرت امرأة فضالة زوجها إلى سلم بن قتيبة وهو والي خراسان فقالت: أبضغه والله لخلال فيه. قال: وما هي قالت: هو والله قليل الغيرة سريع الطيرة شديد العتاب كثير الحساب قد أقبل بخره وأدبر ذفره وهجمت عيناه واضطربت رجلاه يفيق سريعاً وينطق رجيعاً يصبح جبسا ويمسي رجسا إن جاع جزع وإن شبع جشع. ومن صفة المرأة السوء يقال: امرأة سمعنة نظرنة. وهي التي إذا تسمعت أو تبصرت فلم تر شيئاً تظننت تظنناً. قال أعرابي: مفنة معنة كالذئب وسط العنه إلا تره تظنه وقال يزيد بنعمر بن هبيرة: لا تنكحن برشاء ولا عمشاء ولا وقصاء ولا لثغاء فتجيئك بولد ألثغ. فوالله لولد أعمى أحب إلي من ولد ألثغ. وقالوا: آخر عمر الرجل خير من أوله يثوب حلمه وتثقل حصاته وتخمد شرارته وتكمل تجارته. وآخر عمر المرأة شر من أوله يذهب جمالها ويذوب لسانها ويعقم رحمها ويسوء خلقها. وعن جعفر بن محمد عليهما السلام: إذا قال لك أحد: تزوجت نصفا فاعلم أن شر النصفين ما بقي في يده وأنشد: وإن أتوك وقالوا إنها نصف فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا وقال الحطيئة في امرأته: أطوف ما أطوف ثم آوي إلى بيت قعيدته لكاع وقال في أمه: تنحي فاجلسي مني بعيداً أراح الله منك العالمينا حياتك ما علمت حياة سوء وموتك قد يسر الصالحينا وقال زيد بن عمير في أمته: أعاتبها حتى إذا قلت أقلعت أبى الله إلا خزيها فتعود فإن طمثت قادت وإن طهرت زنت فهي أبداً يزنى بها وتقود ويقال إن المرأة إذا كانت مبغضة لزوجها فعلامة ذلك أن تكون عند قربه منها مرتدة الطرف عنه كأنها تنظر إلى إنسان غيره وإذا كانت محبة له لا تقلع عن النظر إليه. وقال آخر يصف امرأة لثغاء: أول ما أسمع منها في السحر تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر والسوأة السوآء في ذكر القمر ولآخر في زوجته: لقد كنت محتاجاً إلى موت زوجتي ولكن قرين السوء باق معمر فيا ليتها صارت إلى القبر عاجلاً وعذبها فيه نكير ومنكر وكان روح بن زنباع أثيراً عند عبد الملك فقال له يوماً: أرأيت امرأتي العبسية قال: نعم قال: فيم شبهتها قال بمشجب بال وقد أسيئت صنعته. قال: صدقت. وما وضعت يدي عليها قط إلا كأني أضعها على الشكاعي وأنا أحب أن تقول ذلك لابنيها الوليد وسليمان. فقام إليه فزعاً فقبل يده ورجله وقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تعرضني لهما. قال: ما من ذلك بد وبعث من يدعوهما. فاعتزل روح وجلس ناحيةً من البيت كأنه حلس وجاء الوليد وسليمان فقال لهما: أتدريان لم بعثت إليكما إنما بعثت لتعرفا لهذا الشيخ حقه وحرمته. ثم سكت. أبو الحسن المدائني: كان عند روح بن زنباع هند بنت النعمان بن بشير وكان شديد الغيرة فأشرفت يوماً تنظر إلى وفد من جذام كانوا عنده فزجرها. فقالت: والله لأبغض الحلال من جذام فكيف تخافني على الحرام فيهم. وقالت له يوماً: عجباً منك كيف يسودك قومك وفيك ثلاث خلال: أنت من جذام وأنت جبان وأنت غيور فقال لها: أما جذام فإني في أرومتها وحسب الرجل أن يكون في أرومة قومه. وأما الجبن فإنما لي نفس واحدة فأنا أحوطها فلو كانت لي نفس أخرى جدت بها. وأما الغيرة فأمر لا أريد أن أشارك فيه وحقيق بالغيرة من كانت عنده حمقاء مثلك مخافة أن تأتيه بولد من غيره فتقذف به في حجره. فقالت: وهل هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تجللها بعل فإن أنجبت مهرا عريقاً فبالحري وإن يك إقراف فما أنجب الفحل أقول لها لما أتتني تدلني على امرأة موصوفة بجمال أصبت لها والله زوجاً كما اشتهت إن احتملت منه ثلاث خصال فمنهن عجز لا ينادي وليده ورقة إسلام وقلة مال صفة الحسن عن أبي الحسن المدائني قال: الحسن أحمر وقد تضرب فيه الصفرة مع طول المكث في الكن والتضمخ بالطيب كما تضرب في بيضة الأدحى واللؤلؤة المكنونة. وقد شبه الله عز وجل بها في كتابه فقال: " كأنهن بيض مكنون " وقال: " كأنهم لؤلؤ مكنون ". وقال الشاعر: كأن بيض نعام في ملاحفها إذا اجتلاهن قيظ ليله ومد وقال آخر: مروزي الأديم تغمره الصف رة حيناً لا يستحق اصفرارا وجرى من دم الطبيعة فيه لون ورد كسا البياض احمرارا وقالت امرأة خالد بن صفوان له: لقد أصبحت جميلاً. فقال لها: وما رأيت من جمالي! وما في في رداء الحسن ولا عموده ولا برنسه قالت: وكيف ذلك قال: عمود الحسن الشطاط وقالوا: إن الوجه الرقيق البشرة الصافي الأديم إذا خجل يحمر. وإذا فرق يصفر. ومنه قولهم: ديباج الوجه. يريدون تلونه من رقته. وقال عدي بن زيد يصف لون الوجه: حمرة خلط صفرة في بياضٍ مثل ما حاكٌ حائك ديباجاً وقالوا: إن الجارية الحسناء تتلون بلون الشمس فهي بالضحى بيضاء وبالعشي صفراء. وقال الشاعر: بيضاء ضحوتها وصفراء العشية كالعراره وقال ذو الرمة: بيضاء صفراء قد تنازعها لونان من فضة ومن ذهب ومن قولنا في هذا المعنى: بيضاء يحمر خداها إذا خجلت كما جرى ذهب في صفحتي ورق ومن قولنا أيضاً: يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقاً ورشاً بتقطيع القلوب رفيقا ما إن رأيت ولا سمعت بمثله دراً يعود من الحياء عقيقا عطابيل كالآرام أما وجوهها فدر ولكن الخدود عقيق قولهم في الجارية جميلة من بعيد مليحة من قريب. فالجميلة التي تأخذ بصرك جملة على بعد فإذا دنت لم تكن كذلك. والمليحة التي كلما كررت فيها بصرك زادتك حسنا. وقال بعضهم: السمينة الجميلة من الجميل وهو الشحم. والمليحة أيضاً من الملحة وهو البياض. والصبيحة مثل ذلك يشبهونها بالصبح في بياضه. المنجبات من النساء قالوا: أنجب النساء الفروك. وذلك أن الرجل يغلبها على الشبق لزهذها في الرجل. أبو حاتم عن الأصمعي قال: النجيبة التي تنزع بالولد إلى أكرم العرقين. وقال عمر بن الخطاب: يا بني السائب إنكم قد أضويتم فانكحوا في النزائع. وقالت العرب: بنات العم أصبر والغرائب أنجب. والعرب تقول: اغتربوا لا تضووا. أي انكحوا في الغرائب فإن القرائب يضوين البنين. وقالوا: إذا أرادت أن يصلب ولد المرأة فأغضبها ثم قع عليها وكذلك الفزعة. وقال الشاعر: حملت به في ليلة مزؤودةٍ كرها وعقد نطاقها لم يحلل قالت أم تأبط شراً: والله ما حملته تضعا ولا وضعا ولا وضعته يتنا ولا أرضعته غيلا ولا أنمته مئقا. حملته وضعا وتضعاً وهي أن تحمله في مقبل الحيض. ووضعته يتناً وضعته منكساً تخرج رجلاه قبل رأسه وأرضعته غيلاً أرضعته لبنا فاسدا وذلك أن ترضعه وهي حامل وأنمته مئقا أي مغضبا مغتاظا. ومن أمثال العرب قولهم: أنا مئق وأنت تئق فلا نتفق. المئق: المغضب المغتاظ. والتئق: الذي ر يحتمل شيئا. من أخبار النساء لما قتل مصعب بن الزبير بنت النعمان بن بشير الأنصارية زوجة المختار ابن أبي عبيد أنكر الناس ذلك عليه وأعظموه لأنه أتى بما نهى رسول الله )عنه في نساء المشركين فقال عمر بن أبي ربيعة: إن من أعظم الكبائر عندي قتل حسناء غادة عطبول قتلت باطلاً على غير ذنب إن الله درها من قتيل كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول ولما خرجت الخوارج بالأهواز أخذوا امرأة فهموا بقتلها فقالت لهم: أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين فأمسكوا عنها. http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب الطلاق محمد بن الفار قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أخي الأصمعي قال: سمعت عمي يقول: توصلت بالملح وأدركت بالغريب. وقال عمي للرشيد في بعض حديثه: بلغني يا أمير المؤمنين أن رجلا من العرب طلق في يوم خمس نسوة. قال: إنما يجوز ملك الرجل على أربع نسوة فكيف طلق خمسا قال: كان لرجل أربع نسوة فدخل عليهن يوما فوجدهن متلاحيات متنازعات وكان شنظيرا. فقال: إلى متى هذا التنازع ما إخال هذا الأمر إلا من قبلك يقول ذلك لامرأة منهن اذهبي فأنت طالق. فقالت له صاحبتها: عجلت عليها الطلاق ولو أدبتها بغير ذلك لكنت حقيقا. فقال لها: وأنت أيضا طالق. فقالت الثالثة: قبحك الله فوالله لقد كانتا إليك محسنتين وعليك مفضلتين. فقال: وأنت أيتها المعددة أياديهما طالق أيضا. فقالت له الرابعة وكانت هلالية وفيها أناة شديدة: ضاق صدرك عن أن تؤدب نساءك إلا بالطلاق. فقال لها: وأنت طالق أيضا. وكان ذلك بمسمع جارة له فأشرفت عليه وقد سمعت كلامه فقالت: والله ما شهدت العرب عليك وعلى قومك بالضعف إلا لما بلوه منكم ووجدوه فيكم أبيت إلا طلاق نسائك في ساعة واحدة. قال: وأنت أيضا أيتها المؤنبة المتكلفة طالق إن أجاز زوجك. فأجابه من داخل بيته: هيه قد أجزت قد أجزت. ودخل المغيرة بن شعبة على زوجته فارعة الثقفية وهي تتخلل حين انفتلت من صلاة الغداة فقال لها: إن كنت تتخللين من طعام اليوم إنك لجشعة وإن كنت تتخللين من طعام البارحة إنك لبشعة كنت فبنت. فقالت: والله ما اغتبطنا إذا كنا ولا أسفنا إذ بنا وما هو لشيء مما ذكرت ولكني استكت فتخللت للسواك. فخرج المغيرة نادما على ما كان منه. فلقيه يوسف بن أبي عقيل فقال له: إني نزلت الآن عن سيدة نساء ثقيف فتزوجها فإنها ستنجب فتزوجها. فولدت له الحجاج. وقال الحسن بن علي بن الحسن لامرأته عائشة بنت طلحة: أمرك بيدك. فقالت: قد كان عشرين سنة بيدك فأحسنت حفظه فلن أضيعه إذ صار بيدي ساعة واحدة وقد صرفته إليك. فأعجبه ذلك منها وأمسكها. وقال أبو عبيدة: طلق رجل امرأته وقال في ذلك: لقد طلقت أخت بني غلاب طلاقاً ما أظن له ارتدادا ولم أك كالمعدل أو أويس إذا ما طلقا ندما فعادا قال أبو عبيدة: وطلاق المعدل وأويس يضرب به المثل. ونكح رجل امرأة من العرب فلما اهتداها رأت ريع داره أحسن ريع وشمل عياله أجمع شمل فقالت: أما والله لئن بقيت لهم لأشتتن أمرهم وقالت في ذلك: أرى ناراً سأجعلها إرينا وأترك أهلها شتى عزينا فلما انتهى ذلك إلى زوجها طلقها وقال في ذلك: فبيني قبل أن تلحي عصانا ويصبح أهلنا شتى عزينا وقيل لابن عباس: ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء فقال: يكفيه من ذلك عدد كوكب الجوزاء. وقيل لأعرابي: هل لك في النكاح قال: لو قدرت أن أطلق نفسي لطلقتها. وعن الزهري قال: قال أبو الدرداء لامرأته: إذا رأيتني غضبت ترضيني وإن رأيتك غضبت ترضيتك وإلا لم نصطحب. قال الزهري: وهكذا يكون الإخوان. قال الأصمعي: كنت أختلف إلى أعرابي أقتبس منه الغريب فكنت إذا استأذنت عليه يقول: يا أمامة ائذني له. فتقول: ادخل. فاستأذنت عليه مراراً فلم أسمعه يذكر أمامة فقلت: يرحمك الله ما أسمعك تذكر أمامة قال: فوجم وجمة. فندمت على ما كان مني ثم أنشأ يقول: ظعنت أمامة بالطلاق ونجوت من غل الوثاق بانت فلم يألم لها قلبي ولم تبك المآقي ودواء ما لا تشتهيه النفس تعجيل الفراق والعيش ليس يطيب من إلفين من غير اتفاق وعن الشيباني قال: طلق أبو موسى امرأته وقال فيها: ما أنت بالحنة الولود ولا عندك نفعٌ يرجى لملتمس لليلتي حين بنت طالقةً ألذ عندي من ليلة العرس بت لديها بشر منزلة لا أنا في لذة ولا أنس تلك على الخسف لا نظير لها وإنني ما يسوغ لي نفسي أقبل منظور بن زبان بن سيار الفزاري إلى الزبير فقال: إنما زوجناك ولم نزوج عبد الله. قال: مالك قال: إنها تشكوه. قال: يا عبد الله طلقها. قال عبد الله: هي طالق. قال منظور: أنا ابن قهدم. قال الزبير: أنا ابن صفية. أتريد أن يطلق المنذر أختها قال: لا تلك راضية بموضعها. وتزوج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان خديجة بنت عروة بن الزبير فذكر لها جماله وكان يقال له المذهب من حسنه وكان رجلاً مطلاقاً. فقالت: محمد هو الدنيا لا يدوم نعيمها. فلما طلقها خطبها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي فكتب إليها: أعيذك بالرحمن من عيش شقوةٍ وأن تطعمي يوماً إلى غير مطمع إذا ما ابن مظعون تحدر وسقه عليك فبوئي بعد ذلك أو دعي فردته ولم تتزوجه. وعن العتبي عن أبيه قال: أمهر الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر تسعين ألف دينار فبلغ ذلك خالد بن يزيد بن معاوية فأمهل عبد الملك حتى إذا أطبق الليل دق عليه الباب فأذن له عبد الملك. فدخل عليه. فقال له: ما هذا الطروق أبا يزيد قال: أمرٌ والله لم ينتظر له الصبح هل علمت أن أحدا كان بينه وبين من عادى ما كان بين آل أبي سفيان وآل الزبير بن العوام فإني تزوجت إليهم فما في الأرض قبيلة من قريش أحب إليهم منهم فكيف تركت الحجاج وهو سهم من سهامك يتزوج إلى بني هاشم وقد علمت ما يقال فيهم في آخر الزمان. قال: وصلتك رحم. وكتب إلى الحجاج يأمره بطلاقها ولا يراجعه في ذلك. فطلقها. فأتاه الناس يعزونه وفيهم عمرو بن عتبة. فجعل الحجاج يقع بخالد وينتقصه ويقول: إنه صير الأمر إلى من هو أولى به منه وإنه لم يكن لذلك أهلاً. فقال له عمرو بن عتبة: إن خالداً أدرك من قبله وأتعب من بعده وعلم علماً فسلم الأمر أهله ولو طلب بقديم لم يغلب عليه أو بحديث لم يسبق إليه. فلما سمعه الحجاج استحى فقال: يا بن عتبة إنا نسترضيكم بأن نعتب عليكم ونستعطفكم بأن ننال منكم وقد غلبتم على الحلم فوثقنا لكم به وعلمنا أنكم تحبون أن تحلموا فتعرضنا للذي تحبون. من طلق امرأته ثم تبعتها نفسه الهيثم بن عدي قال: كانت تحت العربان بن الهيثم بن الأسود بنت عم له فطلقها فتبعتها نفسه فكتب إليها يعرض لها بالرجوع فكتبت إليه: إن كنت ذا حاجة فاطلب لها بدلاً إن الغزال الذي ضيعت مشغول فكتب إليها: من كان ذا شغل فالله يكلؤه وقد لهونا به والحبل موصول وقد قضينا من استطرافه طرفا وفي الليالي وفي أيامها طول وطلق الوليد بن يزيد امرأته سعدى. فلما تزوجت اشتد ذلك عليه وندم على ما كان منه. فدخل عليه أشعب فقال له: أبلغ سعدى عني رسالةً ولك مني خمسة آلاف درهم. فقال: عجلها. فأمر له بها. فلما قبضها قال: هات رسالتك فأنشدها: أسعدى ما إليك لنا سبيلٌ ولا حتى القيامة من تلاق بلى ولعل دهراً أن يواتي بموت من خليلك أو فراق فأتاها فاستأذن فدخل عليها. فقالت له: ما بدا لك من زيارتنا يا أشعب فقال: يا سيدتي. أرسلني إليك الوليد برسالة وأنشدها الشعر. فقالت لجواريها: خذن هذا الخبيث. فقال: يا سيدتي إنه جعل لي خمسة آلاف درهم. قالت: والله لأعاقبنك أو لتبلغن إليه ما أقول لك. قال: سيدتي اجعلي لي شيئاً. قالت لك بساطي هذا. قال: قومي عنه. فقامت عنه وألقاه على ظهره. وقال: هاتي رسالتك فقالت: أنشده: أتبكي على سعدى وأنت تركتها فقد ذهبت سعدى فما أنت صانع فلما بلغه وأنشده الشعر سقط في يده وأخذته كظمة ثم سرى عنه فقال: اختر واحدة ًمن ثلاث: إما أن نقتلك وإما أن نطرحك من هذا القصر وإما أن نلقيك إلى هذه السباع. فتحير أشعب وأطرق حيناً ثم رفع رأسه فقال: يا سيدي ما كنت لتعذب عينين نظرتا إلى سعدى. فتبسم وخلى سبيله. وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أمره أبوه بطلاقها ثم دخل عليه فسمعه يتمثل: فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ولا مثلها في غير شيء تطلق وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه: الفرزدق الشاعر. طلق النوار ثم ندم في طلاقها وقال: ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقةً نوار وكانت جنتي فخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار فأصبحت الغداة ألوم نفسي بأمرٍ ليس لي فيه خيار وكانت النوار بنت عبد الله قد خطبها رجل رضيته وكان وليها غائباً وكان الفرزدق وليها إلا أنه كان أبعد من الغائب فجعلت أمرها إلى الفرزدق وأشهدت له بالتفويض إليه. فلما توثق منها بالشهود أشهدهم أنه قد زوجها من نفسه فأبت منه ونافرته إلى عبد الله بن الزبير وهي بنت منظور بن زبان. فكان كلما أصلح حمزة من شأن الفرزدق نهاراً أفسدته المرأة ليلاً حتى غلبت المرأة وقضى ابن الزبير على الفرزدق. فقال: أما البنون فلم تقبل شفاعتهم وشفعت بنت منظور بن زبانا ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا وقال الفرزدق في مجلس ابن الزبير: وما خاصم الأقوام من ذي خصومة كورهاء مشنوءٍ إليها خليلها فدونكها يا بن الزبير فإنها ملعنة يوهي الحجارة قيلها فقال ابن الزبير: إن هذا شاعر وسيهجوني فإن شئت ضربت عنقه وإن كرهت ذلك فاختاري نكاحه وقري. فقرت واختارت نكاحه ومكثت عنده زماناً ثم طلقها وندم في طلاقها. وعن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان عن أبي مخزوم عن راوية الفرزدق قال: قال لي الفرزدق يوماً: امض بنا إلى حلقة الحسن فإني أريد أن أطلق النوار. فقلت له: إني أخاف أن تتبعها نفسك ويشهد عليك الحسن وأصحابه. قال: انهض بنا. فجئنا حتى وقفنا على الحسن فقال: كيف أصبحت أبا سعيد قال: بخير كيف أصبحت يا أبا فراس فقال: تعلمن أني طلقت النوار ثلاثاً. قال الحسن وأصحابه: قد سمعنا. فانطلقنا فقال لي الفرزدق: يا هذا إن في نفسي من النوار شيئاً. فقلت قد حذرتك فقال: ندمت ندامة الكسعى لما غدت مني مطلقةً نوار و كانت جنتي فخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار ولو أني ملكت بها يميني لكان علي للقدر الخيار وممن طلق امرأته وتبعتها نفسه قيس بن ذريح. وكان أبوه أمره بطلاقها فطلقها وندم فقال في ذلك: فوا كبدي على تسريح لبنى فكان فراق لبنى كالخداع تكنفني الوشاة فأزعجوني فيا للناس للواشي المطاع فأصبحت الغداة ألوم نفسي على أمر وليس بمستطاع كمغبون يعض على يديه تبين غبنه بعد البياع العتبي قال: جاء رجل بامرأة كأنها برج فضة إلى عبد الرحمن بن أم الحكم وهو على الكوفة فقال: إن امرأتي هذه شجتني. فقال لها: أنت فعلت به قالت: نعم غير متعمدة لذلك كنت أعالج طيباً فوقع الفهر من يدي على رأسه وليس عندي عقل و لا تقوى يدي على القصاص. فقال عبد الرحمن للرجل: يا هذا علام تحبسها وقد فعلت بك ما أرى قال: أصدقتها أربعة آلاف درهم ولا تطيب نفسي بفراقها. قال: فإن أعطيتها لك أتفارقها قال: نعم. قال: فهي لك. قال: هي طالق إذا فقال عبد الرحمن: احبسي علينا نفسك ثم أنشأ يقول: يا شيخ ويحك من دلاك بالغزل قد كنت يا شيخ عن هذا بمعتزل رضت الصعاب فلم تحسن رياضتها فاعمد بنفسك نحو الجلة الذلل مكر النساء وغدرهن في حكمة داود عليه السلام. وجدت من الرجال واحداً في ألف ولم أجد واحدة في النساء جميعا. قال الهيثم بن عدي: غزا ابن هبولة الغساني الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي فلم يصبه في منزله فأخذ ما وجد له وآستاق امرأته. فلما أصابها أعجبت به فقالت له: انج فوالله لكأني وبلغ الحارث فأقبل يتبعه حتى لحقه فقتله وأخذ ما كان معه وأخذ امرأته فقال له: هل أصابك قالت: نعم والله ما اشتملت النساء على مثله قط. فأمر بها فأوثقت بين فرسين ثم استحضرهما حتى تقطعت. ثم قال: كل أنثى وأن بدا لك منها آية الود حبها خيتعور إن من غره النساء بود بعد هند لجاهلٌ مغرور وقالت الحكماء: لا تثق بامرأة ولا تغتر بمال وإن كثر. وقالوا: النساء حبائل الشيطان. وقال الشاعر: تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن جزوعاً إذا بانت فسوف تبين وخنها وإن كانت تفي لك إنها على مدد الأيام سوف تخون وإن هي أعطتك الليان فإنها لآخر من طلابها ستلين وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها فليس لمخضوب البنان يمين وإن أسلبت يوم الفراق دموعها فليس لعمر الله ذاك يقين وقالت الحكماء: لم تنه امرأة قط عن شيء إلا فعلته. وقال طفيل الغنوي: إن النساء متى ينهين عن خلق فإنه واقعٌ لا بد مفعول وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: أرسل عبد الله بن همام السلولي شاباً إلى امرأة ليخطبها عليه فقالت له: فيما يمنعك أنت فقال لها: ولي طمع فيك قالت: ما عنك رغبة. فتزوجها ثم انصرف إلى ابن همام فقال له: ما صنعت فقال: والله ما تزوجتني إلا بعد شرط. فقال أو لهذا بعثتك فقال ابن همام في ذلك: رأت غلاماً علا شرب الطلاء به يعيا بإرقاص بردي الخلاخيل مبطناً بدخيس اللحم تحسبه مما يصور في تلك التماثيل أكفى من الكفء في عقد النكاح وما يعيا به حل هميان السراويل تركتها والأيامى غير واحدة فاحبسه عن بيها يا حابس الفيل وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: كان النساء يجلسن لخطابهن فكانت امرأة من بني سلول تخطب وكان عبد بن عاصم السلولي يخطبها فإذا دخل عليها بقول له: فداك أبي وأمي وتقبل عليه تحدثه وكان شاب من بني سلول يخطبها. فإذا دخل عليها الشاب وعندها عبد الله بن هند قالت للشاب: قم إلى النار وأقبلت بوجهها وحديثها على عبد الله ثم إن الشاب تزوجها فلما بلغ ذلك عبد الله بن هند قال: أودى بحب سليمى فاتكٌ لقن كحية برزت من بين أحجار وله فيها: ما تظن سليمى إن ألم بها مرجل الرأس ذو بردين مزاح حلوٌ فكاهته خزٌ عمامته في كفه من رقى الشيطان مفتاح السراري تسرر الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هاجر فولدت له إسماعيل عليه السلام. وتسرر النبي عليه الصلاة والسلام مارية القبطية فولدت له إبراهيم. ولما صارت إليه صفية بنت حيي كان أزواجه يعيرنها باليهودية فشكت ذلك إليه. فقال لها: أما إنك لو شئت لقلت فصدقت وصدقت: أبي إسحاق وجدي إبراهيم وعمي إسماعيل وأخي يوسف. ودخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك فقال له: بلغني أنك تحدث نفسك بالخلافة ولا تصلح بها لأنك بن أمة فقال به: أما قولك إني أحدث نفسي بالخلافة فلا يعلم الغيب إلا الله وأما قولك إني ابن أمة فإسماعيل ابن أمة أخرج الله من صلبه خير البشر محمداً صلى الله عليه وسلم إسحاق ابن حرة أخرج الله من صلبه القردة والخنازير. قال الأصمعي: وكان أكثر أهل المدينة يكرهون الإماء حتى نشأ منهم علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ففاقوا أهل المدينة فقهاً وعلماً وورعاً. فرغب الناس في السراري. وتزوج علي بن الحسين جارية له وأعتقها فبلغ ذلك عبد الملك فكتب إليه يؤنبه. فكتب إليه علي: إن الله رفع بالإسلام الخسيسة وأتم به النقيصة وأكرم به من اللؤم فلا عار على مسلم. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج أمته وامرأة عبده. فقال عبد الملك: إن علي بن الحسين يشرف من حيث يتضع الناس. وقال الشاعر: لا تشتمن امرأ من أن تكون له أم من الروم أو سوداء عجماء فإنا أمهات القوم أوعيةٌ مستودعات وللأحساب آباء وقال بعضهم: عجبت لمن لبس القصير كيف يلبس الطويل ولمن أحفى شعره كيف أعفاه وعجباً لمن عرف الإماء كيف يقدم على الحرائر وقالوا: الأمة تشترى بالعين وترد بالعيب والحرة غل في عنق من صارت إليه. الهجناء العرب تسمي العجمي إذا أسلم: المفرج وهو المسلماني. ومنه يقال: مسالمة السواد. والهجين عندهم الذي أبوه عربي وأمه أعجمية. والمذرع: الذي أمه عربية وأبوه أعجمي. وقال الفرزدق: والعجمي: النصراني ونحوه وإن كان فصيحاً. والأعجمي: الأخرس اللسان وإن كان مسلماً. ومنه قيل: زياد الأعجم وكان في لسانه لكنة. والفرس تسمى الهجين: واشن والعبد: واش ونجاش. ومن تزوج أمة: نغاش وهو الذي يكون العهد دونه وسمي أيضاً: بوركان والعرب تسمي العبد الذي لا يخدم إلا ما دامت عليه عين مولاه: عبد العين. وكانت العرب في الجاهلية لا تورث الهجين. وكانت الفرس تطرح الهجين ولا تعده ولو وجدوا أمًا أمةً على رأس ثلاثين أمًّا ما أفلح عندهم ولا كان آزاد مرد ولو كان بيده مزاد. والآزاد عندهم: الحر والمرد: الريحان. وقال ابن الزبير لعبد الرحمن بن أم الحكم: تبلغت لما أن أتيت بلادهم وفي أرضنا أنت الهمام القلمس ألست ببغل أمه عربيةٌ أبوه حمار أدبر الظهر ينخس وشبه المذرع بالبغل إذا قيل له: من أبوك قال: أمي الفرس. مما احتجت به الهجناء أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب من المقداد بن الأسود وزوج خالدة بنت أبي لهب من عثمان بن أبي العاص الثقفي. وبذلك احتج عبد الله بن جعفر إذ زوج ابنته زينب من الحجاج بن يوسف. فعيره الوليد بن عبد الملك فقال عبد الله بن جعفر: سيف أبيك زوجه. والله ما فديت بها إلا خيط رقبتي. وأخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد زوج ضباعة من المقداد وخالدة من عثمان بن أبي العاص ففيه قدوة وأسوة. وزوج أبو سفيان ابنته أم الحكم بالطائف في ثقيف: وقال لهذم الكاتب في عبد الله بن الأهتم وسأله فحرمه: وما بنو الأهتم إلا كالرخم لا شيء إلا أنهم لحم ودم جاءت به حذلم ومن أرض العجم أهتم سلاح على ظهر القدم مقابل في اللؤم من خال وعم وكانت بنو أمية لا تستخلف بني الإماء. وقالوا: لا تصلح لهم العرب. زياد بن يحيى قال: حدثنا جبلة بن عبد الملك قال: سابق عبد الملك بين سليمان ومسلمة فسبق سليمان مسلمة فقال عبد الملك: ألم أنهكم أن تحملوا هجناءكم على خيلكم يوم الرهان فتدرك وتضعف عضده ويقصر سوطه وتقصر رجلاه فلا يتحرك وأدركنه خالاته فنزعنه ألا إن عرق السوء لا بد يدرك ثم أقبل عبد الملك على مصقلة بن هبيرة الشيباني فقال: أتدري من يقول هذا قال: لا أدري. قال: يقوله أخوك الشني. قال مسلمة: يا أمير المؤمنين. ما هكذا قال حاتم الطائي. قال عبد الملك: وماذا قال حاتم فقال مسلمة: قال حاتم: وما أنكحونا طائعين بناتهم ولكن خطبناهم بأسيافنا قسرا فما زادها فينا السباء مذلةً ولا كلفت خبزاً ولا طبخت قدرا ولكن خلطناها بخير نسائنا فجاءت بهم بيضاً وجوههم زهرا وكائن ترى فينا من ابن سبية إذا لقي الأبطال يطعنهم شزرا ويأخذ رايات الطعان بكفه فيوردها بيضا ويصدرها حمرا أغر إذا غبر اللئام رأيته إذا سرى ليل الدجى قمراً بدراً فقال عبد الملك كالمستحي: وما شر الثلاثة أم عمرو بصاحبك الذي لا تصبحينا بهم ولم يكن لذلك ولكن لما كانوا يرون أن زوال ملكهم على يد ابن أم ولد فلما ولى الناقص ظن الناس أنه الذي يذهب ملك بني أمية على يديه وكانت أمه بنت يزدجرد بن كسرى فلم يلبث إلا سبعة أشهر حتى مات ووثب مكانه مروان بن محمد وأمه كردية فكانت الرواية عليه. ولم يكن لعبد الملك بن مروان ابن أسد رأياً ولا أذكى عقلاً ولا أشجع قلباً ولا أسمح نفساً ولا أسخى كفاً من مسلمة وإنما تركوه لهذا المعنى. وكان يحيى بن أبي حفصة أخو مروان بن أبي حفصة يهودياً أسلم على يد عثمان بن عفان فكثر ماله فتزوج خولة بنت مقاتل بن قيس بن عاصم ونقدها خمسين ألفاً. وفيه يقول القلاخ: رأيت مقاتل الطلبات حلى نحور بناته كمر الموالي فلا تفخر بقيس إن قيساً خريتم فوق أعظمه البوالي وله فيه: نبتت خولة قالت حين أنكحها لطالما كنت منك العار أنتظر أنكحت عبدين ترجو فضل مالهما في فيك مما رجوت الترب والحجر لله در جياد أنت سائسها برذنتها وبها التحجيل والغرر فقال مقاتل يرد عليها: فإن قلتم زوجت مولىً فقد مضت به سنة قبلي وحب الدراهم ويقال إن غيره قال ذلك. |
باب في الأدعياء أول دعي كان في الإسلام واشتهر: زياد بن عبيد دعي معاوية. وكان من قصته أنه وجهه بعض عمال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على العراق إلى عمر بفتح كان. فلما قدم وأخبر عمر بالفتح في أحسن بيان وأفصح لسان قال له عمر: أتقدر على مثل هذا الكلام في جماعة الناس على المنبر قال: نعم وعلى أحسن منه وأنا لك أهيب. فأمر عمر بالصلاة جامعةٌ فاجتمع الناس. ثم قال لزياد: قم فاخطب وقص على الناس ما فتح الله على إخوانهم المسلمين. ففعل وأحسن وجود. وعند أصل المنبر علي بن طالب وأبو سفيان بن حرب. فقال أبو سفيان لعلي: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى قال: نعم. قال: أما إنه ابن عمك! قال: فكيف ذلك قال: أنا قذفته في رحم أمه سمية. قال: فما يمنعك أن تدعيه قال: أخاف هذا الجالس على المنبر يعني عمر أن يفسد علي إهابي. فلما ولي معاوية استلحقه بهذا الحديث وأقام له شهودا عليه. فلما شهد الشهود قام زياد على أعقابهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: هذا أمر لم أشهد أوله ولا علم لي بآخره وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم وشهد الشهود بما قد سمعتم والحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس وحفظ منا ما ضيعوا فأما عبيد فإنما ألا أبلغ معاوية بن حرب فقد ضاقت بما يأتي اليدان أتغضب أن يقال أبوك عفٌ وترضى أن يقال أبوك زان وأشهد أن قربك من زياد كقرب الفيل من ولد الأتان وقال زياد: ما هجيت ببيت قط أشد علي من قول يزيد بن مفرغ الحميري: فكرا ففي ذاك إن فكرت معتبر هل نلت مكرمة إلا بتأمير عاشت سمية ما عاشت وما علمت أن ابنها من قريش في الجماهير سبحان من ملك عباد بقدرته لا يدفع الناس محتوم المقادير وكان ولد سمية ثلاثا: زياداً وأبا بكرة ونافعا. فكان زياد ينسب في قريش وأبو بكرة في العرب ونافع في الموالي. فقال فيهم يزيد بن مفرغ: إن زياداً ونافعاً وأبا بكرة عندي من أعجب العجب إن رجالاً ثلاثةً خلقوا من رحم أنثى محالفي النسب ذا قرشي فيما يقول وذا مولىً وهذا ابن عمه عربي فدع عنك الكتابة لست منها ولو غرقت ثوبك بالمداد وقال آخر في دعي: لعينٌ يورث الأبناء لعناً ويلطخ كل ذي نسب صحيح ولما طالت خصومة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ونصر بن حجاج عند معاوية في عبد الله بن حجاج مولى خالد بن الوليد أمر معاوية حاجبه أن يؤخر أمرهما حتى يحتفل مجلسه. فجلس معاوية وقد تلفع بمطرف خزٍ أخضر وأمر بحجر فأدني منه وألقى عليه طرف المطرف ثم أذن لهما وقد احتفل المجلس. فقال نصر بن حجاج: أخي وابن أبي عهد إلي أنه منه. وقال عبد الرحمن: مولاي وابن عبد أبي وأمته ولد على فراشه. قال معاوية: يا حرسي خذ هذا الحجر - وكشف عنه - فادفعه إلى نصر بن حجاج. وقال: يا نصر هذا مالك في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنه قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر. فقال نصر: أفلا أجريت هذا الحكم في زياد أمير المؤمنين قال: ذاك حكم معاوية وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في الأرض أحمى من الأدعياء لتستحق بذلك العروبية. قال الشاعر: دعي واحدٌ أجدى عليهم من آلفي عالم مثل ابن داب وقال الأصمعي: استمشى رجل من الأدعياء فدخل عليه رجل من أصحابه فوجد عنده شيحاً وقيصوماً فقال له: ما هذا فقال ورفع صوته: الطبيعة تتوق إليه. يريد أن طبيعته من طباع العرب. فقال فيه الشاعر: يشم الشيح والقيصو م كي يستوجب النسبا وليس ضميره في الصد ر إلا التين والعنبا وعن إسماعيل بن أحمد قال: رأيت على أبي سعيد الشاعر المخزومي كردوانياً مصبوغاً بتوريد فقلت: أبا سعيد هذا خز قال: لا. ولكنه دعي على دعي. وكان أبو سعيد دعياً في بني مخزوم. وفيه قال الشاعر: لم يته قط على النا س شريف يا أبا سعيد فته ما شئت إذ كن ت بلا أب ولا جد وإذ حظك في النس بة بين الحر والعبد وإذ قاذفك المفح ش في أمن من الحد وعن أحمد بن عبد العزيز قال: نزلت في دار رجل من بني عبد القيس بالبحرين فقال لي: بلغني أنك خاطب قلت: نعم. قال: فأنا أزوجك. قلت له: إني مولى. قال: اسكت وأنا أفعل. أمن قلةً صرتم إلى أن قبلتم دعاوة زراع وآخر تاجر وأصهب رومي وأسود فاحم وأبيض جعد من سراة الأحامر شكولهم شتى وكل نسيبكم لقد جئتم في الناس إحدى المناكر متى قال إني منكم فمصدق وإن كان زنجياً غليظ المشافر أكلهم وافى النساء جدوده وكلهم أوفى بصدق المعاذر وكلكم قد كان في أولية له نسبة معروفة في العشائر على علمكم أن سوف ينكح فيكم فجدعاً ورغماً للأنوف الصواغر فهلا أبيتم عفةً وتكرما وهلا وجلتم من مقالة شاعر تعيبون أمراً ظاهراً في بناتكم وفخركم قد جاز كل المفاخر متى شاء منكم مفرج كان جده عمارة عبس خير تلك العمائر وحصن بن بدر أو زرارة دارم وزبان زبان الرئيس ابن جابر فقد صرت لا أدري وإن كنت ناسياً لعل نجاراً من هلال بن عامر وديلم من نسل ابن ضبة ناسل وبرجان من أولاد عمرو بن عامر بنو الأصفر الأملاك أكرم منكمٍ وأولى بقربانا ملوك الأكاسر أأطمع في صهري دعيا مجاهراً ولم نر شراً من دعي مجاهر ويشتم لؤماً عرضه وعشيره ويمدح جهلاً طاهراً وابن طاهر وقال زرارة بن ثروان أحد بني عامر بن ربيعة بن عامر: قد اختلط الأسافل بالأعالي وماج الناس واختلط النجار وصار العبد مثل أبي قبيس وسيق مع المعلهجة العشار وإنك لن يضيرك بعد حول أطرف كان أمك أم حمار وقال عقيل بن علفة: وكنا بني غليظ رجالاً فأصبحت بنو مالك غيظاً وصرنا لمالك لحا الله دهراً زعزع المال كله وسود أستاه الإماء الفوارك وذكر جعفر بن سليمان بن علي يوماً ولده وأنهم ليسوا كما يحب. فقال له ولده أحمد بن جعفر. عمدت إلى فاسقات المدينة ومكة وإماء الحجاز فأوعيت فيهم نطفك ثم تريد أن ودخل الأشعث بن قيس على علي بن أبي طالب فوجد بين يديه صبية تدرج فقال: من هذه يا أمير المؤمنين قال: هذه زينب بنت أمير المؤمنين. قال: زوجنيها يا أمير المؤمنين. قال: اغرب بفيك الكثكث ولك الأثلب أغرك ابن أبي قحافة حين زوجك أم فروة إنها لم تكن من الفواطم ولا العواتك من سليم. فقال: قد زوجتم أخمل مني حسبا وأوضع مني نسباً: المقداد بن عمرو وإن شئت فالمقداد بن الأسود. قال علي: ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله وهو أعلم بما فعل ولئن عدت إلى مثلها لأسوأنك. وفي هذا المعنى قال الكميت بن زيد: وما وجدت بنات بني نزار حلائل أسودين وأحمرينا وما حملوا الحمير على عتاق مطهمة فيلفوا مبغلينا بني الأعمام أنكحنا الأيامى وبالآباء سمينا البنينا أراد تزويج أبرهة الحبشي في كندة. عن العتبي قال: أنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن خداش لخالد النجار. اليوم من هاشم بخ وأنت غداً مولى وبعد غد حلف من العرب إن صح هذا فأنت الناس كلهم يا هاشمي ويا مولى ويا عربي قال: وكان الهيثم بن عدي فيما زعموا دعياً. فقال فيه الشاعر: إذا اجتدى معشراً من فضل نسبتهم فلم ينيلوه عداهم إلى نسب فما يزال له حلٌ ومرتحل إلى النصارى وأحياناً إلى العرب إذا نسب عدياً في بني ثعل فقدم الدال فبل العين في النسب وقال بشار العقيلي: إن عمراً فاعرفوه عربي من زجاج مظلم النسبة لا يع رف إلا بالسراج وقال فيه: ارفق بنسبة عمرو حين تنسبه فإنه عربي من قوارير ما زال في كير حداد يردده حتى بدا عربياً مظلم النور وقال أيضا في أدعياء: هم قعدوا فانتقوا لهم حسباً يدخل بعد العشاء في العرب حتى إذا ما الصباح لاح لهم بين ستوقهم من الذهب والناس قد أصبحوا صيارفةً أعلم شيءٍ بزائف الحسب وقال أبو نواس في أشجع بن عمرو: إنما أنت من سليم كواوٍ ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو إنما أنت من سليم كواوٍ ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو وقال فيه: أيا متحيراً فيه لمن يتعجب العجب لأسماء تعلمهن أشجع حين ينتسب ولأحمد بن أبي الحارث الخراز في حبيب الطائي: لو أنك إذ جعلت أباك أوساً جعلت الجد حارثة بن لام وسميت التي ولدتك سعدى فكنت مقابلاً بين الكرام وله فيه: أنت عندي عربي ليس في ذاك كلام شعر فخذيك وساقي ك خزامى وثمام وضلوع الصدر من جسمك نبع وبشام وقذى عينيك صمغ ونواصيك ثغام لو تحركت كذا لان جفلت منك نعام أنا ما ذنبي إن ك ذبني فيك الكرام القفا يشهد إذ ما عرفت فيك الأنام كذبوا ما أنت إلا عربي والسلام وقال في المعلى الطائي: معلى لست من طي فإن قبلتك فارهنها وابنك فارمٍ في أجأٍ فلا ترغب به عنها كأن دماملاً جمعت فصور وجهه منها ولآخر: تعلمها وإخوته فكلهم بها درب لقد ربوا عجوزهم ولو زينتها غضبوا فيا لك عصبة إن ح دثوا عن أصلهم كذبوا لهم في بيتهم نسب وفي وسط الملا نسب كما لم تخف سافرة وتخفى حين تنتقب أآخر مرتين سبيتمونا وفي الإسلام ما كره السباء إذا استحللتم هذا وهذا فليس لنا على ذاكم بقاء فلا تأمن على حال دعياً فليس له على حالٍ وفاء وكيف يفي لأبعد من أبيه ونسبته إذا اتصل الدعاء الباه وما قيل فيه ذكر عند مالك بن أنس الباه فقال: هو نور وجهك ومخ ساقك فأقل منه أو أكثر. وقال معاوية: ما رأيت نهما في النساء إلا عرفت ذلك في وجهه. وقال الحجاج لابن شماخ العكلي: ما عندك للنساء قال: أطيل الظماء وأرد فلا أشرب. وقيل للمدائني: ما عندك يا أبا الجحاف قال: يمتد ولا يشتد ويرد ولا يشرب. وقيل لآخر: ما عندك لهن قال: ما يقطع حجتها ويشفي غلمتها. وقال كسرى كنت أراني إذا كبرت أنهن لا يحببنني فإذا أنا لا أحبهن. وأنشد الرياشي لأعرابي من بني أسد: تمنيت لو عاد شرخ الشباب ومن ذا على الدهر يعطى المنى وكنت مكيناً لدى الغانيات فلا شيء عندي لها ممكنا فأما الحسان فيأبينني وأما القباح فآبى أنا ودخل عيسى بن موسى على جارية فلم يقدر على شيء فقال: النفس تطمع والأسباب عاجزةٌ والنفس تهلك بين اليأس والطمع أنت الفداء لمن قد كان يملؤه ويشتكي الضيق منه حين يلقاه وقال آخر لجاريته: ويعجبني منك عند الجماع حياة الكلام وموت النظر وقال آخر: شفاء الحب تقبيل ولمسٌ وسبح بالبطون على البطون ورهز تذرف العينان منه وأخذ بالذوائب والقرون وقالت امرأة كوفية: دخلت على عائشة بنت طلحة فسألت عنها فقيل هي مع زوجها في القيطون فسمعت زفيراً ونخيراً لم يسمع قط مثله ثم خرجت وجبينها يتفصد عرقاً فقلت لها: ما ظننت أن حرة تفعل مثل هذا فقالت: إن الخيل العتاق تشرب بالصفير. وقيل لأعرابي: ما عندك للنساء فأشار إلى متاعه وقال: وتراه بعد ثلاث عشرة قائماً نظر المؤذن شكَّ يوم سحاب وقال الفرزدق: أنا شيخٌ ولي امرأةٌ عجوز تراودني على ما لا يجوز وقالت رق أيرك مذ كبرنا فقلت لها بل اتسع القفيز لا يعقب التقبيل إلا زبي ولا يداوي من صميم الحب إلا احتضان الركب الأزب ينزع منه الأير نزع الضب روى زياد عن مالك عن محمد بن يحيى بن حبان أن جدته عاتبت جده في قلة إتيانه إياها فقال لها: أنا وأنت على قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قالت: وما قضاء عمر قال: قضى أن الرجل إذا أتى امرأته عند كل طهر فقد أدى حقها. قالت: أفترك الناس كلهم قضاء عمر وأقمت أنا وأنت عليه. فقال: أنا شيخ ولي امرأة عجوز تراودني على ما لا يجوز تريدني أنيكها في كل يوم وذلك عند أمثالي عزيز وقالت رق أيرك مذ كبرنا فقلت لها: بل اتسع القفيز وقال أعرابي حين كبر وعجز: عجبت من أيري وكيف يصنع أدفعه بإصبعي ويرجع يقوم بعد النشر ثم يصرع ودخلت عزة صاحبة كثير على أم البنين زوج عبد الملك بن مروان فقالت لها: أخبريني عن قول كثير: ما هذا الدين الذي طلبك به قالت: وعدته بقبلة فخرجت منها. قالت: وعدته بقبلة فخرجت منها. قالت أنجزيها وعلي إثمها. علي بن عبد العزيز قال: كان أبو البيداء رجلاً عنينا وكان يتجلد ويقول لقومه: زوجوني امرأتين. فقالوا له: إن في واحدة كفاية. قال: أما لي فلا. فقالوا: نزوجك واحدة فإن كفتك وإلا نزوجك أخرى فزوجوه أعرابية فلما دخل بها أقام معها أسبوعاً فلما كان في اليوم السابع أتوه فقالوا له: ما كان من أمرك في اليوم الأول قال: عظيم جداً. فقالوا: ففي اليوم الثالث قال: لا تسلوني. فاستجابت امرأته من وراء الستر فقالت: كان أبو البيداء ينزو في الوهق حتى إذا أدخل في بيتٍ أنق فيه غزالٌ حسن الدل خرق مارسه حتى إذا ارفض العرق انكسر المفتاح وانسد الغلق أهديت جاريةٌ إلى حماد عجرد وهو جالس مع أصحابه على لذة فتركهم وقام بها إلى مجلس له فافتضها وكتب إليهم: قد فتحت الحصن بعد امتناع بسنانٍ فاتحٍ للقلاع ظفرت كفي بتفريق جمع جاءنا تفريقه باجتماع آخر: لم يوافق طباع هذا طباعي فأنا وهي دهرنا في صراع وتحريت أن أنال رضاها فأبت غير جفوة وامتناع فتفكرت لم بليت بهذا فإذا أن ذا لضعف المتاع وقع بين رجل وامرأته شر فجعل يحيل عليها بالجماع فقالت: فعل الله بك كلما وقع بيننا شيء جئتني بشفيع لا أقدر على رده. وأقبل رجلٌ إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إن لي امرأةً كلما غشيتها تقول: قتلتني قتلتني. قال: اقتلها وعلي اثمها. وقال هشام بن عبد الملك للأبرش الكلبي: زوجني امرأةً من كلب. ففعل وصارت عنده. فقال له هشام ودخل عليه: لقد وجدنا في نساء كلب سعة. فقال له الأبرش: إن نساء كلب خلقن لرجال كلب. وقالوا: من ناك لنفسه لم يضعف أبداً ولم ينقطع ومن فعل ذلك لغيره فذاك الذي يصفي وينقطع. يعنون من فعل ذلك ليبلغ أقصى شهوة المرأة ويطلب الذكر عندها. وقال الشاعر: من ناك للذكر أصفى قبل مدته لا يقطع النيك إلا كل منهوم وقالوا: من قل جماعه فهو أصح بدناً وأطول عمراً ويعتبرون ذلك بذكور الحيوان. وذلك أنه ليس في الحيوان أطول عمراً من البغل ولا أقصر عمراً من العصافير وهي أكثر سفاداً. والله أعلم. http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif كتاب الجمانة الثانية في المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في النساء والأدعياء وما قيل في ذلك من الشعر ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في كتابنا هذا ذكر المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين فإن أخبارهم حدائق مونقة ورياض زاهرة لما فيها من كل طرفة ونادرة فكأنها أنوار مزخرفة أو حلل منشرة دانية القطوف من جاني ثمرتها قريبة المسافة لمن طلبها. فإذا تأملها الناظر وأصغى إليها السامع وجدها ملهى للسمع ومرتعاً للنظر وسكناً للروح ولقاحاً للعقل وسميراً في الوحدة وأنيساً في الوحشة وصاحباً في السفر وأنيساً في الحضر. قال أبو الطيب اليزيدي: أخذ رجل ادعى النبوة أيام المهدي فأدخل عليه فقال له: أنت نبي قال: نعم. قال: وإلى من بعثت قال: أو تركتموني أذهب إلى أحد ساعة بعثت وضعتموني في الحبس. فضحك منه المهدي وخلى سبيله. أدعى رجل النبوة بالبصرة. فأتي به سليمان بن علي مقيداً فقال له: أنت نبي مرسل قال: أما الساعة فإني نبي مقيد. قال: ويحك من بعثك قال: أبهذا يخاطب الأنبياء يا ضعيف والله لولا أني مقيد لأمرت جبريل يدمدمها عليكم. قال: فالمقيد لا تجاب له دعوة قال: نعم الأنبياء خاصة إذا قيدت لم يرتفع دعاؤها. فضحك سليمان: فقال له: أنا أطلقك وأمر جبريل فإن أطاعك آمنا بك وصدقناك. قال: صدق الله " فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ". فضحك سليمان وسأل عنه فشهد عنده أنه ممرور فخلى سبيله. قال ثمامة بن أشرس: شهدت المأمون أتي برجل أدعى النبوة وأنه إبراهيم الخليل. فقال المأمون: ما سمعت أجرأ على الله من هذا. قلت: أكلمه قال: شأنك به. فقلت له: يا هذا إن إبراهيم كانت له براهين. قال: وما براهينه قلت: أضرمت له نار وألقي فيها فصارت برداً وسلاماً فنحن نضرم لك ناراً ونطرحك فيها فإن كانت عليك برداً كما كانت على إبراهيم آمناً بك وصدقناك. قال: هات ما هو ألين علي من هذا. قال: براهين موسى. قال: وما كانت براهين موسى قال: عصاه التي ألقاها فصارت حية تسعى تلقف ما يأفكون وضرب بها البحر فانفلق وبياض يده من غير سوء. قال: هذا أصعب. هات ما هو ألين من هذا. قلت: براهين عيسى. قال: وما براهين عيسى قلت: كان يحيي الموتى ويمشي على الماء ويبرئ الأكمه والأبرص. فقال: في براهين عيسى جئت بالطامة الكبرى. قلت: لا بد من برهان. فقال ما معي شيء من هذا قد قلت لجبريل: إنكم توجهونني إلى شياطين فاعطوني حجة أذهب بها إليهم وأحتج عليهم. فغضب وقال: بدأت أنت بالشر قبل كل شيء أذهب الآن فانظر ما يقول لك القوم وقال: هذا من الأنبياء لا يصلح إلا للحمر. فقلت: يا أمير المؤمنين هذا هاج به مرار وأعلام ذلك فيه. قال: صدقت دعه. أدعى رجل النبوة في أيام المهدي فأدخل عليه فقال له: أنت نبي قال: نعم. قال: ومتى نبئت قال: وما تصنع بالتاريخ قال: ففي أي الموضع جاءتك النبوة قال: وقعنا والله في شغل ليس هذا من مسائل الأنبياء إن كان رأيك أن تصدقني في كل ما قلت لك فاعمل بقولي. وإن كنت عزمت على تكذيبي فدعني أذهب عنك. فقال المهدي: هذا ما لا يجوز. إذ كان فيه فساد الدين. قال: واعجباً لك تغضب لدينك لفساده ولا أغضب أنا لفساد نبوتي أنت والله ما قويت علي إلا بمعن بن زائدة والحسن بن قحطبة وما أشبههما من قوادك. وعلى يمين المهدي شريك القاضي قال: ما تقول في هذا النبي يا شريك قال: شاورت هذا في أمري وتركت أن تشاورني. قال: هات ما عندك قال: أحاكمك فيما جاء به من قبلي من الرسل. قال: رضيت. قال: أكافر أنا عندك أم مؤمن قال: كافر. قال: فإن الله يقول: " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم " فلا تطعني ولا تؤذني ودعني أذهب إلى الضعفاء والمساكين فإنهم أتباع الأنبياء وأدع الملوك والجبابرة فإنهم حطب جهنم. فضحك المهدي وخلى سبيله. قال خلف بن خليفة: أدعى رجل النبوة في زمن خالد بن عبد الله القسري وعارض القرآن. فأتى به خالد فقال له: ما تقول قال: عارضت في القرآن ما يقول الله تعالى: " إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر " فقلت أنا ما هو أحسن من هذا: إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر ولا تطع كل ساحر وكافر. فأمر به خالد فضربت عنقه وصلب على خشبة. فمر به خلف بن خليفة الشاعر وقال: إنا أعطيناك العمود فصل لربك على عود وأنا ضامن عنك ألا تعود. قال: وإني لقاعد في مجلس عبد الله بن خازم وهو على الجسر ببغداد فإذا جماعة قد أحاطت برجل ادعى النبوة فقدم إلى عبد الله فقال له: أنت نبي قال: نعم. قال: وإلى من بعثت قال: وما عليك بعثت إلى الشيطان فضحك عبد الله بن خازم وقال: دعوه يذهب إلى الشيطان الرجيم. وقال ثمامة بن أشرس: كنت في الحبس فأدخل علينا رجل ذو هيئة وبزة ومنظر فقلت له: من أنت جعلت فداك وما ذنبك وفي يدي كأس دعوت بها لأشربها. قال: جاء بي هؤلاء السفهاء لأني جئت بالحق من عند ربي أنا نبي مرسل. قلت: جعلت فداك معك دليل قال: نعم معي أكبر الأدلة ادفعوا إلي امرأة أحبلها لكم فتأتي بمولود يشهد بصدقي. قال ثمامة: محمد بن عتاب قال: رأيت بالرقة أيام الرشيد جماعة أحاطت برجل فأشرفت عليه فإذا رجل له جهارة وبنية قلت: ما قصة هذا قالوا: ادعى النبوة. قلت: كذبتم عليه. مثل هذا لا يدعي الباطل. فرفع رأسه إلي فقال: وما علمك أنهم قالوا علي الباطل قلت له: وأنت نبي قال: نعم. قلت له: ما دليلك قال: دليلي أنك ولد زنا. قلت: نبي يقذف المحصنات قال: بهذا بعثت. قلت: أنا كافر بما بعثت به. قال: ومن كفر فعليه كفره. فإذا حصاة عائرة جاءت حتى صكت صلعته قال: ما رماها إلا ابن الزانية ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: ما أردتم بي خيراً حيث طرحتموني في أيدي هؤلاء الجهال. ادعى رجل النبوة في أيام المأمون فقال ليحيى بن أكثم: امض بنا مستترين حتى ننظر إلى هذا المتنبئ وإلى دعواه. فركبنا متنكرين ومعنا خادم حتى صرنا إليه وكان مستتراً بمذهبه. فخرج آذنه وقال: من أنتما فقلنا: رجلان يريدان أن يسلما على يديه. فأذن لهما ودخلا. فجلس المأمون عن يمينه ويحيى عن يساره. فالتفت إليه المأمون فقال له: إلى من بعثت قال: إلى الناس كافة. قال: فيوحى إليك أم ترى في المنام أم ينفث في قلبك أم تناجى أم تكلم قال: بل أناجي وأكلمك. قال: ومن يأتيك بذلك قال: جبريل. قال: متى كان عندك قال: قبل أن تأتيني بساعة. قال: فما أوحى إليك قال: أوحى إلي أنه سيدخل علي رجلان فيجلس أحدهما على يميني والآخر عن يساري فالذي عن يساري ألوط خلق الله. قال المأمون: أشهد أن لا إله إلا الله. وأنك رسول الله وخرجا يتضاحكان. تنبأ رجل بالكوفة وأحل الخمر ولقي ابن عياش وكان مغرماً بالشراب فقال له: أشعرت أنه بعث نبي يحل الخمر قال: إذاً لا يقبل منه حتى يبرئ الأكمه والأبرص. وأتي به عامل الكوفة فاستتابه. فأبى أن يتوب ويرجع. فأتته أمه تبكي فقال لها: تنحي ربط الله على قلبك كما ربط على قلب أم موسى. وأتاه أبوه يطلب إليه أن يرجع. فقال له: تنح يا آزر فأمر به العامل فقتل وصلب. وذكر بعض الكوفيين قال: بينا أنا جالس بالكوفة في منزلي إذ جاءني صديق لي فقال لي: إنه ظهر بالكوفة رجل يدعي النبوة فقم بنا إليه نكلمه ونعرف ما عنده. فقمت معه: فصرنا إلى باب داره فقرعنا الباب وسألنا الدخول عليه. فأخذ علينا العهود والمواثيق إذا دخلنا عليه وكلمناه وسألناه إن كان على حق اتبعناه وإن كان على غير ذلك كتمنا عليه ولم نؤذه. فدخلنا فإذا شيخ خراساني أخبث من رأيت على وجه الأرض وإذا هو أصلع فقال صاحبي وكان أعور: دعني حتى أسائله. قلت: دونك. قال: جعلت فداك ما أنت قال: نبي. قلت: ما دليلك قال: أنت أعور عينك اليمنى فاقلع عينك اليسرى حتى تصير أعمى ثم أدعو الله فيرد عليك بصرك فقلت لصاحبي: أنصفك الرجل قال: فاقلع أنت عينيك جميعاً وخرجنا نضحك. وأتى المأمون بإنسان متنبئ فقال له: ألك علامة قال: نعم علامتي أني أعلم ما في نفسك. قال: قربت علي ما في نفسي قال له: في نفسك أني كذاب. قال: صدقت وأمر به إلى الحبس. فأقام به أياماً ثم أخرجه. فقال: أوحى إليك بشيء قال: لا. قال: ولم قال: لأن الملائكة لا تدخل الحبس. فضحك المأمون وأطلقه. وتنبأ إنسان وسمى نفسه نوحاً صاحب الفلك وذكر أنه سيكون طوفان على يديه إلا من اتبعه ومعه صاحب له قد آمن به وصدقه فأتى به الوالي فاستتابه فلم يتب فأمر به فصلب واستتاب صاحبه فتاب. فناداه من الخشبة: يا فلان. أتسلمني الآن في مثل هذه الحالة فقال: يا نوح قد علمت أنه لا يصحبك من السفينة إلا الصاري. قال: وحمل إلى المأمون من أذربيجان رجل قد تنبأ فقال: يا ثمامة ناظره. فقال: ما أكثر الأنبياء في دولتك يا أمير المؤمنين. ثم التفت إلى المتنبئ فقال له: ما شاهدك على النبوة قال: تحضر لي ثمامة امرأتك أنكحها بين يديك فتلد غلاماً ينطق في المهد ويخبرك أني نبي فقال ثمامة: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال المأمون: ما أسرع ما آمنت به قال: وأنت يا أخبار الممرورين والمجانين قال أبو الحسن: كان بالبصرة ممرور يقال له عليان بن أبي مالك وكانت العلماء تستنطقه لتسمع جوابه وكلامه وكان راويةً للشعر بصيراً بجيده فذكر عن عبد الله بن إدريس صاحب الحديث قال: أخرجه الصبيان مرة حتى هجم علينا في الدار فقال لي الخادم: هذا عليان قد هجم علينا والصبيان في طلبه. فقلت: ادفع الباب في وجوه الصبيان وأخرج إليه طعاماً وطبقاً عليه رطب مشان وملبقات وأرغفة. فلما وضعه بين يديه حمد الله وأثنى عليه وقال: هذا من رحمة الله وأشار إلى الطعام كما أن أولئك من عذاب الله وأشار إلى الصبيان. ثم جعل يأكل والصبيان يرجون الباب وهو يقول: " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ". قال ابن إدريس: فلما انقضى طعامه قلت له: يا عليان ما لك تروي الشعر ولا تقوله قال: إني كالمسن أشحذ ولا أقطع. وكان بصيراً بالشعر. فقلت: أي بيت تقوله العرب أشعر قال: البيت الذي لا يحجب عن القلب. قلت: مثل ماذا قال: مثل قول جميل: ألا أيها النوام ويحكم هبو أسائلكم هل يقتل الرجل الحب قال: فأنشد النصف الأول بصوت ضعيف وأنشد النصف الآخر بصوت رفيع. ثم قال: ألا ترى النصف الأول كيف استأذن على القلب فلم يأذن له والنصف الثاني استأذن على القلب فأذن له قلت: وماذا قال: مثل قول الشاعر: ندمت على ما كان مني فقدتني كما ندم المغبون حين يبيع ثم قال أتستطيب قوله " فقدتني " بالله يا بن إدريس قلت: بلى. فضرب بيده على فخذي وقال: قم شيب الله قرنك. وابن إدريس يومئذ ابن ثمانين سنة. وحكى عنه عبد الله بن إدريس قال: مررت به في مربعة كندة وهو جالس على رماد وبيده قطعة من جص وهو يخط بها في الرماد فقلت له: ما تصنع هاهنا يا بن أبي مالك قال: ما كان يصنع صاحبنا. قلت: ومن صاحبك قال: مجنون بني عامر. قلت: وما كان يصنع قال: أما سمعته يقول: عشية ما لي حيلةٌ غير أنني بلقط الحصى والخط في الدار مولع قلت: ما سمعته. فرفع رأسه إلي متضاحكاً فقال: أما يقول الله عز وجل " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً " فأنت سمعته أو رأيته هذا كلام من كلام العرب لا علم لك به. قلت: يا بن أبي مالك متى تقوم القيامة قال: ما المسؤول عنها بأعلم سائل غير أنه من مات فقد قامت قيامته. قلت له: فالمصلوب يعذب عذاب القبر قال: إن حقت عليه كلمة العذاب يعذب وما يدريك لعل جسده في عذاب من عذاب الله لا تدركه أبصارنا ولا أسماعنا فإن الله لطفاً لا يدرك. قلت: ما تقول في النبيذ حلال أم حرام قال: حلال. قلت: أتشربه قال إن شربته فقد شربه وكيع وهو قدوة قلت: أتقتري بوكيع في تحليله ولا تقتدي بي في تحريمه وأنا أسن منه قال: إن قول وكيع ما اتفاق أهل البلد عليه أحب إلي من قولك مع اختلاف أهل البلدة عليك. قلت: فما تقول في الغناء قال: قد غنى البراء بن عازب وعبد الله بن رواحة وسمع الغناء عبد الله بن عمر وكان عبد الله بن جعفر. قلت له: أيشٍ كان عبد الله بن جعفر إنما سألتني عن الغناء ولم تسألني عن ضرب العيدان. وكان بالبصرة مجنون يأوي إلى دكان خياط وفي يده قصبة قد جعل في رأسها أكرة ولف عليها خرقة لئلا يؤذي بها الناس فكان إذا أحرده الصبيان التفت إلى الخياط وقال له: قد حمي الوطيس وطاب اللقاء فما ترى فيقول: شأنك بهم فيشد عليهم ويقول: أشد على الكتيبة لا أبالي أحتفي كان فيها أم سواها فإذا أدرك منهم صبياً رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له عورته فيتركه وينصرف ويقول: عورة المؤمن حمى ولولا ذلك لتلفت نفس عمرو بن العاص يوم صفين. ثم يقول وينادي: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني خشاش كرأس الحية المتوقد فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عيناً بالإياب المسافر وكان بالبصرة رجل من التجار يكنى أبا سعيد وكانت له جارية تدعى خيزران وكان بها كلفا فمر يوماً بعليان وقد أحاط به الناس فقالوا له: هذا أبو سعيد صاحب خيزران فناداه: أبا سعيد. قال: نعم. قال: أتحب خيزران قال: نعم قال: وتحبك قال: نعم. فأنشأ يقول: نبئتها عشقت حشاً فقلت لهم ما يعشق الحش إلا كل كناس فضحك الناس من أبي سعيد ومضى. ومر ابن أبي الزرقاء صاحب شرطة ابن أبي هبيرة بصباح الموسوس فقال له: يا بن أبي الزرقاء أسمنت برذونك وأهزلت دينك أما والله إن أمامك عقبة لا يجاوزها إلا المخف. فوقف ابن أبي الزرقاء. فقيل له: هو صباح الموسوس قال: ما هذا بموسوس. وقال إبراهيم الشيباني: مررت ببهلول المجنون وهو يأكل خبيصا فقلت: أطعمني. قال: ليس هو لي إنما هو لعاتكة بنت الخليفة بعثته إلي لآكله لها. وكان بهلول هذا يتشيع. فقيل له: اشتم فاطمة وأعطيك درهما. فقال: بل أشتم عائشة وأعطني نصف درهم. وقال ابن عبد الملك: يعرف حمق الرجل في أربع: لحيته وشناعة كنيته وإفراط شهوته ونقش خاتمه. فدخل عليه شيخ طويل العثنون فقال: أما هذا فقد أتاكم بواحدة فانظروا أين هو من الثلاث. فقيل له: ما كنيتك قال: أبو الياقوت. قيل: فنقش خاتمك قال: " وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد ". قيل: أي الطعام تشتهي قال: خلنجبين. وسمع عمر بن عبد العزيز رجلاً ينادي: يا أبا العمرين فقال: لو كان عاقلاً لكفاه أحدهما. وقيل لداود المصاب في مصيبة نزلت به: لا تتهم الله في قضائه. قال: أقول لك شيئاً على الأمانة قال: قل. قال: والله ما بي غيره. ودخل أبو عتاب على عمرو بن هداب وقد كف بصره والناس يعزونه فقال له: أبا زيد لا يسوءك فقدهما فإنك لو دريت بثوابهما تمنيت أن الله قطع يديك ورجليك ودق عنقك. ودخل على قوم يعود مريضاً لهم فبدأ يعزيهم. قالوا: إنه لم يمت. فخرج وهو يقول: يموت إن شاء الله يموت إن شاء الله. ووقع بين أبي عتاب وبين ابنه كلام قال: لولا أنك أبي وأنك أسن مني لعرفت. أبو حاتم عن الأصمعي عن نافع قال: كان الغاضري من أحمق الناس فقيل له: ما رأيت من حمقه فسكت. فلما أكثر عليه قال: قال لي مرة: البحر من حفره وأين ترابه الذي خرج منه وهل يقدر الأمير أن يحفر مثله في ثلاثة أيام ودخل رجل من النوكى على الشعبي وهو جالس مع امرأته فقال: أيكما الشعبي فقال: هذه. فقال: ما تقول أصلحك الله في رجل شتمني أول يوم من رمضان هل يؤجر قال: إن كان قال لك: يا أحمق فإني أرجو له. وسأل رجل آخر الشعبي فقال: ما تقول في رجل أدخل أصبعه في الصلاة في أنفه فخرج عليها دم أترى له أن يحتجم قال الشعبي: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة. وقال له آخر: كيف كانت تسمى امرأة إبليس قال: ذاك نكاح ما شهدناه. العتبي قال: سمعت أبا عبد الرحمن بشراً يقول: كان في زمن المهدي رجل صوفي وكان عاقلاً عالماً ورعاً فتحمق ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان يركب قصبة في كل جمعة يومين: الإثنين والخميس فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة. فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان فيصعد تلاً وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون أليسوا في أعلى عليين فيقولون: نعم. قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فأخذ غلام فأجلس بين يديه فيقول: جزاك الله خيراً أبا بكر عن الرعية. فقد عدلت وقمت بالقسط وخلفت محمداً عليه الصلاة والسلام فأحسنت الخلافة ووصلت حبل الدين بعد حل وتنازع ونزعت فيه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة اذهبوا به إلى أعلى عليين. ثم ينادي: هاتوا عمر. فأجلس بين يديه غلام. فقال: جزاك الله خيراً أبا حفص عن الإسلام قد فتحت الفتوح ووسعت الفيء وسلكت سبيل الصالحين وعدلت في الرعية وقسمت بالسوية اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر. ثم يقول: هاتوا عثمان. فأتي بغلام فأجلس بين يديه. فيقول له: خلطت في تلك الست السنين ولكن الله تعالى يقول: " خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم ". وعسى من الله موجبة. ثم يقول: اذهبوا به إلى صاحبيه في أعلى عليين. ثم يقول: هاتوا علي بن أبي طالب. فأجلس غلام بين يديه. فيقول: جزاك الله عن الأمة خيراً أبا الحسن فأنت الوصي وولي النبي بسطت العدل وزهدت في الدنيا واعتزلت الفيء فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر وأنت أبو الذرية المباركة وزوج الزكية الطاهرة اذهبوا به إلى أعلى عليين من الفردوس ثم يقول: هاتوا معاوية. فأجلس بين يديه صبي. فقال له: أنت القاتل عمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين وحجر بن الأدبر الكندي الذي أخلقت وجهه العبادة وأنت الذي جعل الخلافة ملكاً واستأثر بالفيء وحكم بالهوى واستنصر بالظلمة وأنت أول من غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقض أحكامه وقام بالبغي. اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة ثم قال: هاتوا يزيد. فأجلس بين يديه غلام. فقال له: يا قواد أنت الذي قتلت أهل الحرة وأبحث المدينة ثلاثة أيام وانتهكت حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وآويت الملحدين وبؤت باللعنة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمثلت بشعر الجاهلية: وقتلت حسينا وحملت بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا على حقائب الإبل اذهبوا به إلى الدرك الأسفل من النار. ولا يزال يذكر والياً بعد وال حتى بلغ إلى عمر بن عبد العزيز فقال: هاتوا عمر. فأتى بغلام فأجلس بين يديه فقال: جزاك الله يا عمر خيراً عن الإسلام فقد أحييت العدل بعد موته وألنت القلوب القاسية وقام بك عمود الدين على ساق بعد شقاق ونفاق. اذهبوا به فألحقوه بالصديقين. ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بني العباس فسكت فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين. قال: بلغ أمرنا إلى بني هاشم ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعاً. ومن مجانين الكوفة: عيناوة وطاق البصل. قيل لعيناوة: من أحسن أنت أو طاق البصل قال: أنا شيء وطاق البصل شيء. وكان طاق البصل يغني بقيراط ويسكت بدانق. وكان عيناوة جيد القفا فربما مر به من يعبث فيصفعه فحشا قفاه خراء وقعد على قارعة. فإذا صفعه أحد قال: شم يدك يا فتى فلم يصفعه أحد بعد ذلك. ووعد رجل رجلاً من الحمقى أن يهدي له نعلاً حضرمية فطال عليه انتظارها فبال في قارورة وأتى الطبيب وقال: انظر في هذا الماء إن كان يهدي إلي بعض إخواني نعلاً حضرمية. وكان بالكوفة امرأة حمقاء يقال لها مجيبة فقفد عيناوة فتىً كانت أرضعته مجيبة فقال له لما وجده: كيف لا تكون أرعن ومجيبة أرضعتك فوالله لقد زقت لي فرخاً فما زلت أرى الرعونة في طيرانه. ومن المجانين هبنقة القيسي وجرنفش السدوسي واسم هنبقة يزيد بن ثروان وكنيته أبو نافع وكان يحسن من إبله إلى السمان ويسيء إلى المهازيل. فسئل عن ذلك فقال: أما أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله! وشرد بعير له فجعل بعيرين لمن دل عليه فقيل له: أتجعل بعيرين في بعير قال: إنكم لا تعرفون فرحة من وجد ضالته. وافترس الذئب له شاة فقال لرجل: خلصها من الذئب وخذها فإن فعلت فأنت والذئب واحد. وسام رجل هبنقة بشاة فقال: اشتريتها بستة وهي خير من سبعة وأعطيت فيها ثمانية وإن أردتها بتسعة وإلا فزن عشرة. وكان باقل الذي يضرب به المثل في العي اشترى شاة بأحد عشر درهما فسئل: بكم اشتريت الشاة ففتح يديه جميعاً وأشار بأصابعه وأخرج لسانه ليتم العدد أحد عشر. ولما قرب الفرزدق رأس بغلته من الماء قال له الجرنفش: نح رأس بغلتك حلق الله شأفتك. قال: لماذا عافاك الله قال له: لأنك كذوب الحجرة زاني الكمرة فصاح الفرزدق. يا بني سدوس فاجتمعوا إليه. فقال: سودوا الجرنفش عليكم فما رأيت فيكم أعقل منه. قال الأصمعي: سوبق بين الجرنفش وهنبقة أيهما أجن وأحمق. فجاء جرنفش بحجارة خفاف من جص وجاء هنبقة بحجارة ثقال وترس فبدأ الجرنفش فقبض على حجر ثم قال: دري عقاب بلبن وأشخاب. ثم رفع صوته وقال: الترس فرمى الترس فأصابه فانهزم هنبقة فقيل له: لم انهزمت فقال إنه قال: الترس. فرمى الترس فلم يخطئه فلو أنه قال العين ورماها أما كان يصيب عيني. وتبع داود بن المعتمرة امرأة ظنها من الفواسد فقال لها: لولا ما رأيت عليك من سيما الخير ما تبعتك فضحكت المرأة وقالت: إنما يعتصم مثلي من مثلك بسيما الخير فأما إذ صارت سيما الخير من سيما الشر فالله المستعان. ووقع داود هذا بجارية فلما أمعن في الفعل قال لها: أثيب أم بكر فقالت له: سل المجرب. قالت أم غزوان الرقاشي لابنها وهو يقرأ في المصحف: يا غزوان لعلك تجد في هذا المصحف حماراً كان أبوك في الجاهلية فقده. فقال: يا أماه. بل أجد فيه وعداً حسناً ووعيداً شديداً. ونظر رجل من النوكى إلى شيخ في الحمام وعليه سرة كأنها مدهن عاج. فقال له: يا شيخ مجانين القصاص قال أبو دحية القاص: ليس في خير ولا فيكم. فتبلغوا بي حتى تجدوا خيراً مني. وقال في قصصه يوماً: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف هملاج. قالوا: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف. وقال ثمامة بن أشرس: سمعت قاصاً ببغداد يقول: اللهم ارزقني الشهادة أنا وجميع المسلمين. ووقع الذباب على وجهه فقال: ما لكم كثر الله بكم القبور. قال: ورأيت قاصاً يحدث الناس بقتل حمزة فقال: ولما بقرت هند عن كبد حمزة استخرجتها فعضتها ولاكتها ولم تزدردها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو ازدردتها ما مسها النار. ثم رفع القاص يديه إلى السماء وقال: اللهم أطعمنا من كبد حمزة. |
الساعة الآن 11:23 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |